حرب الأنثروبولوجيا وموت الإنسان الأخير/ علي حسن الفواز

قيام متطرفين في السويد بنبشِ قبورٍ لموتى من المسلمين والأرثوذكس، يكشف عن استعدادات لـ « حرب أنثروبولوجية» مقبلة، وعن صراع هوياتي يُنذر بالخطر، وكأنّ في الأمر نوايا تجعل من هذه الحرب، مدخلا لجعل المجال الروسي الأوكراني، مفتوحا على صراعات تتضخم فيها عقد التاريخ والأيديولوجيا و»الهويات القاتلة والمقتولة» وعلى نحوٍ يعيدنا إلى رهاب المركزيات القديمة، مركزية الغرب ورأس المال، والفاشيات والنازيات، وربما العودة إلى مركزية الأيديولوجيا ذاتها، تلك التي ستُهدد العالم بالجوع والعنف والكراهية، مثلما ستُهدد بتخريب كلّ ما صنعته الحداثة ومظاهرها العقلانية، وربما الإعلان عن موت أوروبا الليبرالية، والشرق السحري..
الاستيقاظ النسقي العنيف لهذه الصراعات، ينطوي على ما يشبه التبشير بموازين قوى جديدة، أشدُّ عصابا، وبانقسام مجتمعي سيجعل من الدين والهوية، هما مجال الأيديولوجيات، اللذين تتوزعهما هذه القوى الرايديكالية ذات المزاج الشعبوي، والمسكونة بعقد عنصرية، وبنوعٍ من التعالي والغطرسة الجنسوية، لكن خطورة هذه الظاهرة تكمن في توظيفها السياسي، وفي دخولها إلى سياق الصراعات العسكرية، لاسيما في أحداث الحرب المشتعلة بين روسيا والناتو، لكن بقناع أوكراني، إذ بدت الهويات الكامنة في نسق «الأوروبة» الحداثية أمام استنفارٍ لاواعٍ، جعلها مدفوعة للتورط في البحث عن هويات ضامرة، وعن ذاكرة ملتبسة، فتصريح وزير الخارجية الروسية لافروف حول الأصول اليهودية للزعيم النازي أدولف هتلر، لا تنفصل عن لعبة التوظيف الأيديولوجي والديني والسياسي في توصيف متاريس تلك الحرب، وفي الحديث عن سردياتها المفتوحة..
الدخول الديني إلى «حومة» الحرب، بدا واضحا، فالدعوة لتجميد الأصول المالية لرئيس الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، مقابل رغبة البابا الكاثوليكي في الحديث مع الرئيس الروسي بوتين، يرسم وجها آخر لمعطيات الصراع، ولهويته الدينية الآخذة في التصدّع بين الكاثوليك والأرثوذكس، بما يدعو إلى إحياء تاريخها القديم، بما فيه تاريخ الديانات الشرقية بنزعتها البيزنطينية القديمة، مقابل أدلجة الديانات الغربية، بتمذهبها الكنسي المعروف بين الكاثوليك والبروتستانت..
سردية الحرب ونقد الخطاب
تمظهرات السرد العسكري، وبيانات الناطقيات الحكومية، بدت وكأنها تضعنا أمام عتبة «حرب كونية» فحلف الناتو العسكري، والاتحاد الأوروبي المدني، والاتحادات الرياضية في العالم وأوروبا تمترست خلف أدلجة حلف الناتو، لتقف بالضد من كلّ ما له علاقة بالدولة الروسية، وعلى نحوٍ يمنح هذه الحرب طابعا عموميا، تدخل فيه الرياضة والسياسة والثقافة والموسيقى مع العسكرة، والرعب الأنثروبولوجي لثنائية «العبد والسيد» الهيغلية، وعلى نحوٍ يجعل من علاقتنا مع تشايكوفسكي وديستوفسكي وإخماتوفا محط شكٍ مريع، وكأن كلَّ ما تصنعه هذه الحرب من سرديات، سيكون مسوّغا للحديث عن نقد خطاب الآخر، وعن نقد سياساته، ونقد نظرته للحقوق، ولمفاهيم الحوار والحريات، وبما يجعل العالم أكثر اهتزازا، وأكثر خوفا من المستقبل، واكثر انتهاكا جرّاء صعود المركزيات المسلحة، وكأنه سينزع عن نفسه تاريخا طويلا من التنوير والحداثة والإصلاح، وغيرها من التوصيفات التي استعمرتنا عسكريا وسياسيا وثقافيا، حتى دخلنا معها الأنكلوفية والفرانكوفية والاستشراق والعولمة وما بعد الحداثة بوصفها حدائق ثقافية وحقوقية عامة للعقل «العالمي».
الدخول إلى مثل هذه الحرب لا يشبه الدخول إلى السيرك حتما، فكلّ ما فيها متوحش ومجنون، والروس الجدد، في المرحلة «البوتينية» استعادوا نزعتهم الامبراطورية، فعطّلوا ذاكرة الشكلانيين، ورومانسية رحمانوف، ودخلوا الحرب على طريقة الجنرال كلاشنكوف، الذي يقول بفمٍ ساخر: إنها الحرب، فلا مجال هناك لخفة قصائد مايكوفسكي، وحتى لا مجال لتكرار سيرة الحرب الباردة، لأن ما يحدث الآن سيدخل في سياق مختلف، قد يكون استعاديا للخطاب الستاليني، أو للجدانوفية الأيديولوجية، حيث يلتقي أقصى الخشونة والصلادة، مع أقسى الانحياز التمثيلي للذات الروسية، والذاكرة الامبراطورية، والهوية الصلبة، والسيطرة على المياه الدافئة، والممرات الضيقة، والأجواء المخنوقة بكثرة اللصوص الجويين الذين يراقبون الغيمة والطائرة والطائر والبالونات.
التصادم الخشن هو تصادم خطابات، والرهان على الانتصار، لا يعني الرهان على النجاح، وهذا ما يجعل الاستمرار في الحرب نوعا من الرهانات السيئة، واستمرارا في صناعة الحماقات، وفي تغويل الجماعات المتطرفة، بما فيها الجماعات الدينية، التي ستجعل من أوروبا ميدانا لمحنة الهويات، ولما يشبه «محاكم التفتيش» فضلا عن تحويل العالم إلى مستودع للأسلحة، فالقادة الديمقراطيون سيتحولون إلى تجار، وإلى فقهاء حرب، والمثقفون إلى مهرجين، إذ سيثيرون السخرية في دفاعهم عن وهم الحرية، ووهم الحق، وعن أيديولوجيا لها أقنعة مرعبة، قد تستعيد الجميع معها ذاكرة الحروب القديمة، التي قد تتمزق في أتونها الأوراق التاريخية لمعاهدة «وتسفاليا» الشهيرة، التي أنهت الحرب الدينية في أوروبا..
الحرب وموت الليبرالية
يقول الرئيس الروسي بوتين «إن الديمقراطية الليبرالية عفا عليها الزمن» ليؤشر بذلك خطابا ضديا لما تحدّث عنه فوكوياما عن «نهاية التاريخ» و«الإنسان الأخير» وباتجاه اقتراح «نهايات أخرى» قد تكون متعارضة، ومتقاطعة، لكنها تتجوهر حول العلاقة الملتبسة بين الأدلجات المتصارعة، التي ستوظف كثيرا من الوسائط المهملة، والمنسية، بما فيها العنصر الديني، عبر إحياء ما مسكوت عنه في الذوات الكاثوليكية، والبروتستانتية، والأرثوذوكسية.. الإحياء الديني يعني موت الليبرالية، والسيطرة على فكرتها القديمة «دعه يعمل – دعه يمر» مثلا يعني تحويل صراع الطاقة والغذاء إلى بحثٍ عن «الموارد الأولية» في افريقيا، وفي الشرق الأوسط، حيث حمّى البحث عن الغاز، وعن ممرات له، في نيجيريا، وفي الجزائر، وفي شمال العراق، تعويضا عن الاستحواذ الروسي على سوق الطاقة – الغاز والنفط .
التمسك الشكلي بالليبرالية من قبل الغرب بدا ساذجا، فاستعدادات الحرب، تعني الذهاب إلى خيار ـ كلّ شيء من أجل المعركة- ووضع المجتمع أمام أوهام «الحرب النووية» و«المجاعة الروسية» لمواجهة تداعيات ما يحدث، لاسيما وأن عزلة «كورونا» والكساد الذي عاشه الاقتصاد الأمريكي والغربي، قد تركت في أوروبا جرحا نرجسيا، أضعف قوتها العولمية، وجعلها أمام مخاوف كبيرة، بدءا من خواء مؤسساتها الصيانية، وخواء «النظام الديمقراطي الليبرالي» وتضعضع الوفرة المالية، وليس انتهاء بتغوّل النزعات الشعبوية، وصعود اليمين المتطرف والجماعات العنصرية المتطرفة، التي سبق أنْ وجدت في شخصية الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب أنموذجا لفكرة الهيمنة والأمركة المعادية للآخر المختلف..
موت الليبرالية، يواجه خطابا فاضحا لفكرة موت «الإنسان الأخير» أي الإنسان الهيغلي المتعالي، فكلا الموتين هما ظواهر أيديولوجية، والحديث عن نهاية الشيوعية كما قال فوكوياما، وتفكك الاتحاد السوفييتي، أيقظ الروح القيصرية عند الروس، وجعل من روحها الأرثوذوكسية عنصرا إيقاظيا لـ«بدء تاريخ جديد» له مشروعه الصياني والأيديولوجي والعصابي، الذي سيدعو الغرب وأمريكا للتفكير بصناعة حروب مضادة، لا تشبه حرب أوكرانيا» التي ستتطلب وجود وضعٍ اقتصادي إشباعي، من الصعب تأمينه وسط التضخمات الكبيرة في الأسواق، ووسط ضعف المركزيات الحاكمة، وخواء الليبرالية الجديدة، التي لم تحمِ أسواقها من التهديد التجاري للصين، ومن احتكار روسيا لاقتصاديات أسواق الطاقة والغذاء والمواد الأولية الأخرى.
العودة إلى «الليبرالية القديمة» سيكون نوعا من الكوميديا، لأنها ستكون خليطا غرائبيا، للاقتصادي والسياسي والثقافي والديني، إذ لا مجال هنا لاعتماد أطروحات «ثعالب» السياسة الأمريكية، كما عند كيسنجر، أو عند بريجنسكي، ولا حتى لإعادة صياغة أخرى لمفاهيم غامضة مثل «نهاية التاريخ» و«صراعات الحضارات» فما يحكم الصراع الجديد سيكون عنيفا، لأنه سيقوم على خيارات صعبة، إما الذهاب إلى خيار الانتصار، أو القبول بتعدد الأقطاب الحاكمة للعالم، وهذا ما يعني نهاية الوضعية الليبرالية، بنسختها الأمريكية والبريطانية، التي لا تختلف مختبراتها عن مختبرات البرامج الكيماوية، ولا تختلف أطروحاتها عن أطروحات العولمة، التي فشلت في أن تكون إنسانية وأخلاقية، وفي أن تحمي فكرة قرية «ماكلوهان» الصغيرة من الغزو العنيف والمتوحش لليبرالية الجديدة ذاتها.
القدس العربي