إميل لحود يساوي بشار:هكذا قال فارس بويز/ عمر قدور
يجهر وزير الخارجية اللبناني الأسبق فارس بويز بخصومته مع الرئيس الأسبق إميل لحود، فيقول في تعبير يكثّف رأيه بالخصم: اختلفتُ مع (رفيق) الحريري ثم جمعتنا مصيبة اسمها إميل لحّود. لكن وصف الأخير بأنه مصيبة ليس نهاية المطاف أو بدايته، فالوزير بويز يُسهب فيما جعل لحود رجل الأسد المفضَّل في لبنان، ورغم أن قسماً من ذلك يأتي في سياق المقارنة بينه وبين لحود، عندما كان الاثنان مرشّحَيْن لخلافة الرئيس إلياس الهراوي، فإن هذا لا ينتقص من قيمته ودلالاته سواءً المتعلقة ببشار الأسد، أو المتعلقة بالشق اللبناني حيث يتعثّر اليوم انتخاب رئيس جديد.
في حديث بين بويز ونائب حافظ الأسد آنذاك عبدالحليم خدّام، خريف 1998، يرى بويز أن قرار تعيين إميل لحود قد صدر، فيخاطب مضيفه قائلاً: “يا أبا جمال، أنا أعتقد أن هناك معادلة رُكّبت على قياس من سيأتي بعد الرئيس (حافظ) الأسد، وهذه معادلة استراتيجية تقضي بمجيء إميل لحود، ليس ربما للصفات التي يتمتع بها، بقدر ما للعلل التي يشكو منها. أنا أعتقد أنهم يريدون شخصاً ليس ضليعاً بالسياسة كي يقولوا له ماذا يجب أن يفعل. أنا أعتقد أنهم يريدون شخصاً لا خبرة سياسية له كي يتمكنوا من برمجته… إلخ. وأنا أعتقد أنهم يريدون شخصاً يستطيع أن يتفاهم مع من سيخلف الرئيس الأسد. وأنا أعتقد أنهم يريدون شخصاً عسكرياً، فباعتقادهم أن العسكر معتادون على تلقّي تعليمات وأوامر واضحة ولا يناقشون، في حين يناقش السياسيون أحياناً؛ لذلك أنا أعتقد أن الأمر مبتوت”.
جدير بالذكر أن إميل لحود، وفق وصف لفارس بويز يعود إلى أيام تعيينه قائداً للجيش، هو جنرال بحري في جيش لا قوة بَحرية لديه، وعلى ذلك كان لديه فائض من الوقت للترفيه وللاهتمام بممارسة الرياضة، بما أنه كان بعيداً كلياً عن الاهتمام بالسياسة والشأن العام. هذا بالضبط ما يناسب وريث حافظ الأسد الذي كان المرض قد نال منه في أواخر تسعينات القرن الماضي، ومن دون أن يتعمّد ذلك وضع بويز يده بالضبط على وجه شديد التأثير من وجوه توريث السلطة في سوريا، وهو ما غاب “بل ما زال غائباً” عن كثر من السوريين الذين تحدّثوا مراراً وتكراراً عن بنية هذه السلطة.
أيضاً من دون تعمّد، يشير بويز إلى ما يمكن اعتبارها قاعدة عامة في الجمهوريات الوراثية، وما تستجرّه آلية التوريث فيها بحيث تظهر النتائج متشابهة جداً. وهي آلية مغايرة للأنظمة الوراثية بطبعها، لأن مبدأ التوريث في الملكيات والإمارات محسوم سلفاً، ولا يحتاج العمل به “ثم تكراره” إلى عمليات تهيئة وتمهيد واسعة وشاملة أمام الوريث، عمليات تشبه سياسة “الأرض المحروقة” المعروفة عسكرياً.
هناك نسبة كبيرة من موالي الأسد يرى أفرادها أن الوريث ليس بكفاءة الأب، من دون أن يدركوا أن هذا بالضبط هو الدافع إلى إحاطته بأشخاص ينفّذون الأوامر فحسب، ببطانة أهم ميزاتها الرضوخ للأوامر. أي أن المطلوب هو استبعاد الكفاءات التي ربما يشكّل أصحابها خطراً على الوريث الضعيف، وذلك في مجافاة للمنطق الذي يفترض شكلياً أن الوريث الضعيف هو أحوج من سلفه إلى مستشارين ومسؤولين يعوّضون قلة خبرته أو حنكته.
على سبيل المثال فقط، إن الانحدار في مقر مخابرات الأسد في لبنان من غازي كنعان إلى رستم غزالي هو تماماً على قياس التغيير برمته، والذي اقتضى لاحقاً “في لحظة مجهولة التفاصيل” التخلصَ من الأول برواية انتحاره الركيكة المعروفة. وتجدر بناءً على القاعدة نفسها إعادةُ النظر في الكثير مما تداوله سوريون، مع الشروع في التوريث وفي بداية عهد الوريث، حول التخلص ممّا سُمّي وقتها “الحرس القديم”. فالروايات المتفائلة كانت تنص على عرقلة الحرس القديم مشروعَ التحديث والتطوير الذي يحمله الوريث، وتالياً ضرورة التخلص من القديم الذي ارتفعت أصوات لتحمّله مسؤولية سلبيات عهد الأب. الروايات الأبعد عن السلطة كان أصحابها يرون في إزاحة رجال الحرس القديم ضرورة لإبعاد الطامحين منهم إلى منافسة الوريث، لكن إزاحتهم غير مأسوف عليها بالتأكيد.
في الحالتين المذكورتين أُهملت أسباب ونتائج تصحير بنية السلطة، إلى أن ظهرت المحصّلة فاقعة جداً منذ عام 2011، ما سهّل على بعض الموالين رمي أسباب انحطاط السلطة على الثورة. بينما في جهة المعارضة بقيت المقارنة عموماً شخصية، لا تختلف عن المقارنة لدى الموالين لجهة ترجيح كفاءة الأب بالمقارنة مع وريثه. وربما أضاف الهلع المستجد من فقدان السلطة، بعد اندلاع الثورة، المزيدَ أو استعجل به، وقد لا يتعلق ذلك كما هو شائع بخلاف في الرأي، وهكذا مثلاً كان “ضرورياً” التخلّص من بعضهم في عملية تفجير مبنى الأمن القومي في دمشق تموز 2012. وللسبب ذاته ظهر بشار الأسد ليعلن سروره بعمليات الانشقاق عنه، فالانشقاق لا يُبقي إلى جواره سوى أولئك المطواعين الراضخين لمشيئته.
مسار الانحدار هذا، الذي نراه كيفما التفتنا في “الجمهوريات الوراثية”، يفنّد مقولة راجت قبل أكثر من عقدين وقد تعود مستفيدة من فشل الثورات، ومفادها أن هذا النوع من السلطة يصعب تغييره من خارجه، لذا ينبغي على الخارج تطمينه وتشجيعه على التغيير من تلقاء ذاته. والخارج هنا يتضمن كل الذين هم خارج السلطة، بدءاً من الشعب بمعارضيه قبل مواليه وصولاً إلى القوى الدولية الكبرى التي ينبغي أن تراعي هذه الحساسية الاستثنائية! هو مسار يتجاوز أيضاً تلك الفكرة الدارجة عن أن الجيل الأول الذي انتزع السلطة أنضج من الجيل الثاني الذي تنعّم بمفاسدها “كسلطة مطلقة” منذ الصغر، فالمتوالية الهندسية التي لا مهرب منها في هذه الحالة هي أن الحفاظ على تغوّل السلطة يكون بمزيد من التغوّل، وأن الحفاظ على المستوى المتدني الذي وصلتْ إليه لا يكون سوى بالمزيد من التدني. الوريث الوحيد الذي سيقصم القاعدة هو الذي سيسقط لأنه لن يتمكن من الدفاع عنها.
عندما كان فارس بويز يعبّر عن رؤيته لمضمون عملية التوريث في عام 1998، كان السوريون بعيدين جداً عن الانتباه إلى ذلك، وكان قسم واسع منهم تحت مخدِّر الحلم بالخلاص من ديكتاتورية الأب. ذلك لم يصبح من الماضي، بما أن الوريث موجود في السلطة ويعمل على استئناف توريثها. بعبارة أوضح، ما زال الكلام راهناً في شقه اللبناني الواقع اليوم تحت وصاية أخرى، وفي شقّه السوري حيث قد لا تبقي سياسة الأرض المحروقة في القريب العاجل سوى على ثلة من الشبيحة وصانعي ومهرِّبي الكبتاغون.
ولكي لا يكون الحديث مدعاة لأوهام كبرى حول السلف “الأسد الأب”، نقتبس من حوار بويز حادثة في عام 1993 حيث دُعي بويز مع الهراوي ورفيق الحريري ونبيه بري إلى لقاء معه، تبيّن مع بدئه أنه استدعاء لما يشبه التحقيق، غايته أن يعرف ما إذا كان خدام متورطاً حينها في بيان لمجلس الدفاع الأعلى اللبناني. وهكذا أعطى الكلام لضيوفه الأربعة لمدة ساعتين من دون طائل، ليعيد إعطاء كلّ منهم جولة أخرى لساعتين أخريين يقول في نهايتهما الحريري: هل تعلم سيادة الرئيس منذ متى علاقتي بنائب الرئيس عبد الحليم خدام؟ قال له: منذ متى؟ فأجابه: منذ 20 سنة، ونتكلم بعضنا مع بعض نحو 15 مرة في النهار، ولو كنت في الصين أو في اليابان… أبقى على اتصال يومي معه. فقال حافظ الأسد: والله يا فخامة الرئيس لو قلت لنا ذلك منذ بداية الجلسة كنا أبقيناكم على الغداء، لكن الآن أصبحت الساعة 4.
المدن