الديمقراطية والثقة: يجب الدفاع عن المجتمع/ حسام الدين درويش
منذ بضعة عقودٍ بدأت تتضح، في الدراسات الأكاديمية، أهمية مسألة “الثقة” في النظام الديمقراطي. لكن العلاقة بين الديمقراطية والثقة معقدةٌ، وليست في اتجاهٍ واحدٍ.
من ناحيةٍ أولى، يبدو أن وجود حدٍّ أدنى من الثقة ضروري للحياة الاجتماعية عمومًا، وللحياة السياسية الديمقراطية خصوصًا. فبدون وجود درجةٍ ما من الثقة في النظام السياسي الديمقراطي ومؤسساته (التنفيذية والتشريعية والقضائية) وقوانينه وممارساته، وفي الانتخابات وما ينتج عنها من تمثيل وممارسات، قد يرى كثيرون عدم جدوى المشاركة في الانتخابات والعملية السياسية برمتها، ويكون المجال حينذاك مفتوحًا للتوجهات الشعبوية التي تستثمر ضعف الثقة بالنظام السياسي، وتسهم، بدورها، في تقويض تلك الثقة. وتتعزز الثقة بالنظام السياسي الديمقراطي وفقًا لممارسات ذلك النظام وممارسات الممثلين المنتخبين وابتعادهم عن الفساد، ومدى تنفيذهم لوعودهم الانتخابية، وعملهم من أجل المصلحة العامة، وتمثيلهم لمصالح ناخبيهم، وليس لمصالح خاصةٍ أو ضيقةٍ. كما تتطلب تلك الثقة توفر الشفافية والمعلومات التي يمكن الوثوق بها والحريات عمومًا، والحريات الإعلامية خصوصًا.
ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، لا يبدو شائعًا ولا معقولًا الاعتماد على الثقة في الميدان السياسي (الديمقراطي). فثمة أسبابٌ كثيرةٌ لوجود الارتياب وعدم الثقة في مجالٍ تهيمن عليه أطراف متنافسةٌ، وصراعاتٌ أيديولوجيةٌ، ومصالح وهوياتٌ متعارضةٌ إلى درجة التناقض أحيانًا. وانطلاقًا من ذلك، (ينبغي أن) يعمل النظام السياسي الديمقراطي على مأسسة العلاقات السياسية، وقوننتها، وضبطها، وتوفير الشفافية وسبل المراقبة والمحاسبة في خصوصها، بعيدًا عن الركون إلى الثقة في الأفراد وضمائرهم والحسن المفترض في نواياهم.
ومن الملاحظ أن النصوص والأبحاث الأكاديمية وغير الأكاديمية التي تتناول العلاقة بين الديمقراطية والثقة تركِّز على ثقة المواطنين بالنظام السياسي (الديمقراطي) والأطراف السياسية وغير السياسية الفاعلة فيه، وليس العكس، مع أن ثقة النخبة، السياسية وغير السياسية، بالمواطنين ليست أقل أهمية، في هذا السياق على الإطلاق؛ بل يمكن القول إنها الأساس النظري الأكثر جذريةً وأهميةً والمقوِّم الضروري لقيام الديمقراطية ذاتها. ولعل بداهة المسألة، وتجاوزها، بوصفها أقل إشكاليةً وموضعًا للخلاف، هو ما يجعلها أقل إثارةً للاهتمام وللتناول البحثي والنظري. في المقابل، تبدو هذه المسألة حاضرةً، بقوةٍ، في السياق العربي، حيث تظهر شكوكٌ كثيرةٌ وكبيرةٌ، لدى النخب السياسية وغير السياسية، في خصوص مدى أحقية المواطنين في صياغة النظام السياسي (الديمقراطي) واختيار ممثليهم فيه، والتعبير عن آرائهم وتوجهاتهم السياسية واختيار ممثليهم، أو في مدى أهليتهم لممارسة هذا الحق، وقدرتهم الفعلية على أن يكونوا فاعلين، إيجابًا، في النظام السياسي الديمقراطي.
في السياق العربي، يمكن التمييز بين طرفين أساسيين يبديان، صراحةً أو ضمنًا، قدرًا (كبيرًا) من عدم الثقة بأفراد الشعب في الإسهام إيجابًا، والمشاركة الفاعلة المطلوبة في النظام السياسي الديمقراطي، القائم أو المنشود. ويمكن النظر إلى موقف هذين الطرفين على أنه نقدٌ ديمقراطي للديمقراطية من جهةٍ، وموقفٌ غير ديمقراطيٍّ أو مضادٌّ للديمقراطية، من جهةٍ أخرى. فمن ناحيةٍ أولى، هو موقفٌ ديمقراطي، بقدر ما يعلن الطرفان المعنيان، العلماني والإسلامي، صراحةً تأييدهما للديمقراطية وتبنيهما لها، وسعيهما إلى الإسهام في قيامها وممارستها أو المحافظة عليها. في المقابل، يمكن القول موقف كلا الطرفين غير ديمقراطي، بقدر إنكارهما أحد أهم أسس النظام الديمقراطي، وهو حق أفراد الشعب أو أهليته في أن يختار ما يراه مناسبًا له، في العملية السياسية. فعلى العكس من النظام الاستبدادي الذي يتحكم فيه من هم في الأعلى، في سدة الحكم، بمن هم في الأسفل، أفراد الشعب، يفترض النظام الديمقراطي أن السيادة فيه للشعب، وأن العملية السياسية تهدف إلى التعبير عن اختيارات هذا الشعب ومصالحه وتوجهاته المعلن عنها في انتخاباتٍ تجري لهذا الغرض تحديدًا، وليس عن رؤى نخبوية متعارضةٍ مع التوجهات الشعبية.
المنظور العلماني يرى، في هذا السياق، أن الشعب غير جاهزٍ للديمقراطية، وأنه، قبل قيام النظام الديمقراطي أو في أثناء ذلك القيام، أو بعيد حصوله، ينبغي تعليم الشعب وعلمنته وتنويره من أجل أن يكون قادرًا على فهم ماهية الديمقراطية، وعلى ممارستها ممارسةً إيجابيةً وبناءةً. أما المنظور الديني فيرى أن معظم أفراد الشعب غير ملتزمين بالدين الصحيح، ولا عارفين له أصلًا، وأنه ينبغي القيام بعملية إصلاحٍ دينيٍّ، وهداية الناس؛ ليكونوا قادرين على فهم الديمقراطية وممارستها الممارسة الصحيحة. وبهذا المعنى، يتبنى العلمانيون والإسلاميون المنطق أو الخطاب ذاته، على الرغم من اختلاف المضامين، ويتخذ ذلك المنطق صيغة التنوير والعلمنة لدى العلمانيين، وصيغة الهداية والإصلاح لدى الإسلاميين. وفي كلا الحالتين يكون التوجه في العملية السياسية مماثلًا للتوجه في النظام الاستبدادي، من حيث إن الأولوية تكون فرض أجندة أو أيديولوجيات النخبة على أفراد الشعب.
في مواجهة هذا المنطق غير الديمقراطي أو المضاد للديمقراطية الذي يتبناه (بعض) أصحاب خطاب التنوير العلماني أو الهداية الإسلامية، يرى كثيرون وجوب “الدفاع عن المجتمع، وهو عنوانٌ لكتابٌ مهمٌّ لميشيل فوكو. ويعني الدفاع عن المجتمع، في هذا السياق، الدفاع عن أولوية منطق الديمقراطية وأسسها، في مواجهة منطق التنوير والهداية المذكورين، والدفاع عن حق كل أفراد المجتمع في ممارسة حقوقهم الديمقراطية والتمتع المتساوي مبدئيًّا بالحقوق الديمقراطية، السياسية والمدنيةٍ، بدون التمييز، في خصوصها، بين فقير وغنيٍّ، او متدينٍ وغير متدينٍ، أو متعلمٍ وغير متعلمٍ … إلخ. فالدفاع عن المجتمع، وعن الديمقراطية، هو، في الوقت نفسه، دفاعٌ عن الأسس الليبرالية والاجتماعية المقوِّمة لكل ديمقراطيةٍ معاصرةٍ، تستحق ذلك الاسم، كما بينت في مقالٍ سابقٍ. فالديمقراطية تتطلب وجود أفرادٍ أحرارٍ وحريات فردية، بغض النظر عن كل الاختلافات في الجنس والدين والطائفة والإثنية والمنطقة والطبقة إلخ، كما تتطلب وجود حدٍّ أدنى من العدالة الاجتماعية، بحيث لا تكون هناك أقليةٌ تملك معظم (مصادر) الثروة والقوة والنفوذ والهيمنة على الحياة السياسية والمجال العام عمومًا، مقابل غالبيةٍ تكافح لتأمين الحد الأدنى من مقومات الحياة الكريمة، وغير قادرة، بسبب ذلك، على المشاركة الفاعلة في الحياة السياسية أو إحداث أي تأثيرٍ مهمٍّ فيها. والدفاع عن المجتمع، وعن العدالة الاجتماعية، يعني العمل الجدي والفعلي على أن يكون هناك حكمٌ رشيدٌ يوفر لأفراد المجتمع الحد الأدنى على الأقل، من القضاء المستقل المنصف والتعليم الجيد والرعاية الصحية ووسائل الإعلام الحر والشفاف. ويتضمن الدفاع عن المجتمع، أيضًا، رفض الرؤية الهوياتية التي تختزل أفراده في بعدٍ واحدٍ من أبعاد هوياتهم، وتجمد ذلك البعد وتنكر تاريخية تلك الهوية، وصيرورتها، بالإضافة إلى إنكارها لتنوعها وإمكانية تجاوز النسب اللاإرادي بانتسابٍ إراديٍّ حرٍّ أو أكثر. والدفاع عن المجتمع، في سياق الرد على العلمانيين والإسلاميين المذكورين، يعني رفض سعي الطرفين المذكورين إلى فرض الوصاية على المجتمع، تحت شعار تنوير أفراده أو هدايته، وفق رؤيةٍ نخبويةٍ، بالمعنى النخبوي الأيديولوجي السلبي للكلمة.
يبقى ضروريًّا الإشارة إلى أن الثقة التي نتحدث عن ضرورة توفرها في العلاقة بين النخبة وبقية أفراد الشعب في النظام الديمقراطي لا تعني اليقين المستند إلى العقل الحسابي، بحيث يكون هناك أسس معرفية كاملة تسوغها. الثقة، بهذا المعنى، قريبةٌ من الإيمان الأخلاقي بقدر قربها من القناعة المعرفية المسوَّغة تسويغًا كاملًا، وربما أكثر. وانطلاقًا من ذلك، تتضمن الثقة المذكورة درجةً من الشك وعدم الثقة. وتغليب الثقة على عدم الثقة، في هذا الخصوص، ليس مرتبطًا بالاعتبارات المعرفية فحسب، بل له صلة وثيقة بالمبادئ الأخلاقية أيضًا وخصوصًا. واتخاذ هذه الثقة أساسًا للتنظير للديمقراطية ولممارستها يعني الدخول في مغامرةٍ أو مخاطرةٍ ليست مأمونة النتائج. لكن، أليس هذا هو حال كل ديمقراطيةٍ؟
تلفزيون سوريا