تاريخ أسريّ ضاع مرة أخرى/ موريس عايق
عثرتُ أخيراً على صورة لجدي أوهانيس وجدتي بهية الهاربين من حملات الإبادة قبل مائة عام.. بقي أن أعثر على صورة لي
“عندما ينظر المرء إلى المشرق العربي في تحديده الأضيق، الهلال الخصيب، تنتابه رائحة مزعجة ﻻ يلبث أن يكتشف أنها رائحة الموت.” (غسان سلامة، المجتمع والدولة في المشرق العربي، ص 9). هذا التقديم كُتب عام 1987، لكنه يصلح ليومنا هذا، كما كان يصلح لعام 1915، أو أعوام أخرى عديدة خلال القرن والنيف الماضيين.
***
من المرجح أن غالبية من هم في عمري، في بداية الأربعينات، لديهم عدد كبير من الصور التي تسجل طفولتهم ومراهقتهم ومجمل فترات حياتهم. غالباً لا يقتصر هذا على صورهم الشخصية إنما أيضاً صور لمراحل مختلفة من أعمار والديهم وربما حتى أجدادهم المباشرين إن لم يكن أقدم، والاحتمال الأخير يعتمد على مكانة الأجداد الاجتماعية أو الطبقية وقدرتهم آنذاك على الوصول إلى جهاز الكاميرا.
كان هذا هو الحال لسنوات قليلة خلت؛ عددٌ كبير من الصور لمراحل مختلفة من حياتي وحياة أمي وأبي وحتى أجدادي المباشرين وصورة أو اثنتان من الصور النادرة للجيل الأسبق. لكن بعد ذلك تسود فترة انقطاع وصمت تتجاوز كونها مجرد غياب للصور، فأنا لا أعرف –وكذلك من هم أكبر مني- شيئاً حقيقياً عن أجدادي يتجاوز الجيل الرابع.. لا أعرف حتى أسماءهم.
حصلت فترة الانقطاع الأولى خلال الحرب العالمية الأولى في 1914 وما تبعها من إعادة تشكيل للمشرق بطريقة جديدة. كان لا بد لتلك الولادة القسرية من مذابحٍ حاقت بالأرمن والسريان تزامنت بدايتها مع فرمانٍ أصدره السلطان العثماني محمد رشاد، يأمر بسَوق كلّ من عمره آنذاك بين 15 و45 سنة إلى الخدمة الإجبارية.
كان آباء وأمهات أجدادي -أو الجيل الرابع من الأسلاف- هم البقية الناجية من الموت بعد أن خسروا ذويهم وأراضيهم وتاريخهم الشخصي بادئين حياة جديدة تماماً في مكان آخر تماماً، دون أن يتركوا أثراً يدلّ على وجودهم السابق.
اليوم لم يعد هذا الانقطاع في الصور أو الفقد الخاص بالذاكرة وتمثيلاتها المادية مقتصراً على أجدادي، بل صرت أعيشه أنا وكثيرون حولي بفعل الحرب الأهلية السورية، فحتى ما كنتُ أحظى به لسنوات قريبة خلت من ألبومات شخصية لم يعد متاحاً اليوم، باستثناء عدد قليل منها لا يتعدى أصابع اليدين، صور لي في مرحلة الطفولة أو المراهقة، أو لوالديّ في شبابهما.. لقد ضاع كل شيء مرة أخرى.
يقع بيتنا، الذي يضم كل تاريخ الأسرة الصغيرة، في أحد أحياء حمص القديمة، الحيّ الذي صار لبعض الوقت تحت سيطرة الفصائل الثائرة ثم تحول لاحقاً إلى ساحة مواجهة. لم يدمر البيت، وإن كان تعرض إلى إصابات عديدة، لكن ما يحتويه اندثر تماماً واندثر معه أرشيف كامل من الصور التي سجلت مختلف لحظات حياة أفراد هذه الأسرة.
نجحت والدتي في الاحتفاظ ببعض الصور أخذتها معها، وهناك صور قليلة كان يحتفظ بها أحد الأقرباء،كانت تظهر هنا أو هناك ويعاد تصويرها بالموبايل وتُرسل إلى بقية أفراد العائلة.
يمكن للمرء أن يتابع سيرة حياة كل صورة قديمة أو حديثة وكيف وصلت إلينا، كيف نجت من الضياع لتبقى أثراً نادراً، لكن غياب أرشيف أسريّ في هذه الحالة ليس مجرد حدث عاديّ، بل إنه يشير إلى سياق يحدده انقطاعان أو حربان داميتان وما رافقهما من اقتلاع وتهجير وإبادة.
إن هذا الغياب يشير بدوره إلى تاريخ الشرق الأوسط الحديث، فنحن لانملك أرشيف لأننا –وبكل بساطة- ولدنا هنا.
نظرة على الخريطة
كان الإيقاع الثابت والمتكرر في المشرق منذ أكثر من مائة عام هو إيقاع الإبادة، إيقاع الاقتلاع والتهجير والموت. يكفي إلقاء نظرة على خريطة سكانية لسكان المشرق تعود إلى بداية القرن العشرين وما قبله ومقارنتها بالواقع الحالي لتدلّ على التغير الهائل الذي طرأ على التركيبة السكانية للمنطقة والذي حصل بالدم والبارود.
تلك البقع اللونية المفروشة على الخريطة تشير إلى أن ما نشهده اليوم ليس حدثاً غريباً أو طارئاً بل إنه جزء من تاريخ منطقتنا المعاصر، جزء لا يمكن فهمه من خارج سياق الإبادة، ومن دون التفكير بالتاريخ الدموي.
لكن لحظات التاريخ الدموي تلك لا تتمتع بالمكانة ذاتها، فبعض تلك اللحظات يدركها الجميع باعتبارها جزءاً أساسياً من تصورنا عن المشرق مثل التغريبة الفلسطينية، وهناك لحظات أخرى مجهولة لا يعرفها سوى أهلها أو بشكل أدق الباقون منهم، مثل مذابح السريان والكلدان التي عُرفت بمذابح سيفو (1914-1920).
تباين المكانة في الذاكرة الجمعية ليس أمراً محايداً ولا أظنه يتعلق بحجم الكارثة التي حصلت أو عدد الضحايا، بل هو معطى يتعلق بالقوة والسيطرة التي حازتها جماعات بعينها دون غيرها، جماعات استطاعت أن تقدم “ذاكرتها” بوصفها ذاكرة عامة والأحداث التي تخصها بوصفها المتن التاريخي للمنطقة، بينما انحسرت تواريخ الجماعات الأخرى الأضعف إلى مكانة هامشية.
في حالات كثيرة تزداد وطأة الأمر عندما تكون الجماعة الأكبر والأقوى هي الجماعة التي التصقت الجريمة باسمها. عندها ستكون الإبادة مرفقة بالتجاهل، وهو ما يقاسيه الإيزيديون الآن مثلاً في العراق وما قاساه الأرمن والسريان سابقاً، فالمذابح التي جرت بحقّهم فاقت ما حصل في فلسطين بجميع المقاييس لكنها تبقى على هامش التاريخ.
ولكي يكون الأمر أكثر وضوحاً دعونا نقول إنه مع نهاية حملات الإبادة خلال الحرب العالمية الأولى لم يعد هناك وجود حقيقي للسريان أو الأرمن في الأناضول والرافدين، وإنهم اندثروا بعد أكثر من ألفي عام على وجودهم هنا، لكن الموتى لا يروون ما حصل والمهزومون لا يستطيعون فرض روايتهم. إنه نموذج شديد القسوة عن حقيقة أن القوة –وحدها- هي صاحبة الكلمة الأخيرة، وليس أي شيء آخر.
يحبّ أحفاد البقية القليلة الناجية -وأنا واحد منهم- أن يرووا شتاتاً من الحكاية فهي حكايتهم أيضاً ولا بد أن تروى كي لا تذهب ذكرى الأجداد والجدّات في صمتٍ أبدي. لكن أيضاً هناك سبب آخر للرواية، هو محاولة فهم ما يجري حالياً في هذا الشرق.
لماذا نتذكر؟
لو رسمنا خريطة حديثة للمشرق ووضعنا نقطة زمنية افتراضية هي العام 2003 في العراق أو 2011 في سوريا لأمكننا القول إن العرب السنة يتعرضون منذ ذلك الوقت لاقتلاع وتحطيم مهولين، وهو حدث يجد مكانه في ذات السياق الذي تشهده المنطقة منذ منتصف القرن التاسع عشر.
ولو طرح فردٌ من العرب السنة -جادّاً- سؤال “لماذا يكرهوننا”، سوف نسمع الإجابة من مكان آخر على الخارطة بصوت أحدهم يقف على نقطة افتراضية أخرى في زمنٍ آخر ويقول: “أجل لكنكم أيها العرب السنة صنعتم مذابح أقدم وأبشع بحق الجماعات الأخرى”، طبعاً هذا بغضّ النظر عن كون روايات الطرفين عن المذابح حقيقية أم متخيلة.
يعتاش التذابح الأهلي على ذاكرة متواصلة ومديدة من الحروب والقتل المتبادل، وهو ما يضعنا في دائرة جهنمية لا مخرج منها، دائرة تحيل إلى طبقات أبعد وأبعد في التاريخ. دوماً هناك مذبحة سابقة، ومذبحة تؤسّس أو تبرر لمذبحة، وكل جماعة بالطبع لديها تاريخها الخاص من المذابح تحتفظ به، توثّق ما حاق بها وتحدّد من خلاله عداواتها وخصوماتها.
الغاية إذن هنا ليست رواية حكاية شخصية لتكون جزءاً من تاريخ خاص يغذي النزاعات ويوسّع من قطر الدائرة الجهنمية، إنما روايتها علناً كجزء من عملية الفهم، إذ لا يمكن للفهم أن يتحقق دون التحرر من التفسيرات البسيطة والسطحية وشديدة التسييس لحال المشرق،كالادعاءات المتكررة عن غياب الطائفية في سوريا واعتبارها بدعة يتحملها الاستعمار الفرنسي أو نظام الأسد، أو الزعم أن الطائفية في العراق منتج أمريكي أتى مع الاحتلال، وبالتالي تحميل أمريكا كامل المسؤولية عما جرى ويجري.
إن إنكار الطائفية ادّعاء يتجاهل الصراعات الطائفية في المشرق السابقة على الاستعمار الفرنسي أو نظام الأسد بعقود، من حرب لبنان 1840، إلى قومة حلب 1851، وحرب لبنان 1860، وحوادث دمشق 1861، وقمع انتفاضة جبل الدروز 1905، وطقّة عامودا 1937، والتمرد الاسلامي في سوريا في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، وصولاً إلى ذروته في مجزرة حماة، وغيرها عدد من الصراعات وصولاً للصراع الحالي.
كما أن إنكارها يتجاهل ثورة الآشوريين في العراق، ونكبة فلسطين، والحرب الأهلية اللبنانية، وحروب الخليج، وعشرات الصراعات الأخرى منذ الحرب العالمية الأولى في كل بقعة على هذه الخريطة.
وإذا ما أجَلنا النظر فيما هو أبعد من المشرق العربي فسوف نجد قمع ثورة الشيخ سعيد بيران الكردية في جنوب شرق تركيا، وتبادل السكان بين تركيا واليونان بعد الحرب التي أسست للجمهورية التركية، والتطهير اللاحق لاسطنبول من سكانها الأرمن واليونانيين في الخمسينيات (إذ لم ترع اتفاقية التبادل التي أنهت حرب التأسيس التركية هؤلاء)، وقمع تمرد درسيم 1937 – 1938 الحاصل رداً على قانون يسعى إلى تحقيق التجانس عبر نقل السكان صدر عام 1935، وما رافقه من مجازر وتطهير بحق الأكراد العلويين منهياً الوجود الكردي في تلك المنطقة. إنه تاريخ مليء برائحة الموت والدم، والتجانس.. لكن هل سيحمينا التذكر من تكرار ما حصل؟
لندع المتفائلين يتفائلون لكنه لن يحمينا، فأن نتذكر ما حصل لا يعني إننا لن نكرره، والإيمان المفرط بخيرية الإنسان عادة سيئة وشديدة الخطر. إننا لا نتذكر لمنع تكرار ما حصل، إنما فقط لنحاول أن نفهم، وأيضاً، وهو في النهاية الأهم: لنقول إننا هنا، ولنذكر من قضوا، فتلك هي الطريقة الوحيدة الممكنة لسداد جزء من دَينهم في ذمتنا.
جدّي أوهانيس وجدّتي بهيّة.. بدايات الاقتلاع
كانت مذابح 1915-1917 هي الموجة الثانية والقاصمة من موجات الإبادة التي تعرض لها الأرمن في شرق الأناضول بعد الموجة الأولى عام 1895، ومعها انتهى الوجود الأرمني الممتد هناك لأكثر من ألفي عام في مناطق مثل خربوط، أرضروم، دياربكر، وغيرها.
كان اوهانيس كريكور امانتيان واحداً من الناجين الذين تمكنوا من الهرب من خربوط (مدينة المعز حالياً وسط الأناضول) والوصول إلى الدرباسية التي تقع اليوم في شمالي سوريا. نجا أوهانيس، بعد أن فقد كل شيء، أرضه وشعبه وعائلته، وكان لا يعرف شيئاً عن مصير والده وأمه وأخته.
بعض الرهبان اليسوعيين قاموا بمساعدته مؤمّنين له طريقاً للهرب واللجوء، ومن باب الامتنان لفضلهم تحول اوهانيس من الأرثوذوكسية إلى الكاثوليكية. لكن تحول اوهانيس لم يقتصر على الطائفة فقط بل طاول اسم العائلة أيضاً، فاعتمد اوهانيس اسم والده “كريكور” اسماً بديلاً عن اسم العائلة الأصلي “أمانتيان” لأسباب لم يعد أحد -من أفراد عائلته الحاليين- يعرفها، وهكذا صار أوهانيس كريكور، الأرمني الكاثوليكي.
لم تقتصر المذبحة التي بدأت بالأرمن على الأرمن وحدهم بل لاحقاً امتدت إلى السريان بمختلف كنائسهم، تلك المذبحة التي عرفها السريان باسم “مذابح سيفو”. في البداية حاول السريان تمييز أنفسهم عن الأرمن والنأي عما يحصل باعتبارهم رعايا مخلصين للدولة العثمانية، وليسوا منخرطين كالأرمن في الصراع الروسي-العثماني، لكن هذا مع الأسف لم ينفعهم.
فلما حضر فرسان الحميدية الكرد – كما تروي جدتي عن روايات سمعتها من أهلها- لسوق الرجال، وهو ما يعني الحكم بالموت، حاول السريان التأكيد على اختلافهم عن الأرمن، فأمسك جنديّ (أو ضابط) بكمشة من روث الحيوانات، وأبلغهم أن لا فرق بين زبل البقر وزبل الخنازير (أو الزبل اليابس والزبل الطري)، وأنهم جميعاً نصارى وكفار لا فرق بينهم.
كان هذا نصيب سريان ديار بكر. حينها كان محمد رشيد باشا حاكم ديار بكر، وهو طبيب وعضو في جمعية الاتحاد والترقي، لكن كونه طبيباً لم يمنعه من تنفيذ مذابح بحق الأرمن والسريان في ديار بكر، وقبلها إشرافه على الترحيل القسري لليونانيين في بحر إيجه عندما كان حاكماً لمنطقة كاريسي.
لقد رأى محمد رشيد في الأرمن والسريان والآشوريين والإيزيديين، كما اليونان، خطراً على الدولة وحلفاء محتملين للروس في الحرب الدائرة. وكونه طبيباً لم ينسِه أنه أولاً تركي، كما أجاب عند سؤاله عن دوره في الإبادة.
كان من النساء السريان الناجيات من مذبحة دياربكر فتاة تدعى بهية كوبل، عرفتها صغيراً باسم “ستو بهو” والتقيتها مرتين أو ثلاث في طفولتي. وصلت بهية الهاربة مع عائلتها إلى الدرباسية، وهناك تعرفت على اوهانيس فتزوجا وأنجبا خمسة أولاد وبنت. بعضهم انتهى به الرحال القادم في الولايات المتحدة الأمريكية، أما أكبرهم، كريكور الذي سُمي على اسم والد اوهانيس، فانتقل إلى حلب وتزوج فتاة منها، فيوليت.
في روايتها “وداعاً يا ماردين” تناولت هنرييت هبود تاريخ الإبادة والاقتلاع والتهجير الذي طال سريان مدينة ماردين، موفية بهذا نذراً لوالدتها المردليّة التي حملت مدينتها معها مثل كل أهالي ماردين الذين ما انفكوا يقارنون بينها وبين غيرها من المدن حتى آخر يوم في حياتهم، مقارنةً تنتهي دوماً بانتصار ماردين على غيرها، ماردين المدينة الجبلية الساحرة معتدلة المناخ، مقر تجمع كنائس المشرق، باريس الشرق، إلخ..(وهي نفس الأشياء أسمعها من جدتي فيوليت التي ظلت إلى اليوم تفتخر بنسبها المردلّي ويرافقه بالطبع الفخر بانتمائها الحلبي).
ستكون ماردين وعائلاتها بالنسبة لي مثاراً دائماً للدهشة خلال سنوات مراهقتي التي قضيت معظمها في مدينة الحسكة بحكم عمل والدي، فهناك في شرق سوريا وبوجود مجتمع مردليّ قائم بذاته، انفتحت أمامي فسحة مدهشة من الحكايات عندما رأيت والدتي -الحلبية كما كنت أتخيل دوماً- تدخل إلى مجتمع يظهر وكأنه مجتمعها اللصيق.
فجأة تنبثق شبكة قرابات تربطها -لجهة والدتها من عائلة ساروخان- مع عائلات مردلية مختلفة، مرشو ولحدو وطوشان وغيرها؛ فجدّ هذا الرجل متزوج من خالة تلك السيدة، والعمة الكبرى تزوجت ابن عم والدها، وهلمّ جرّا.. يومها، كمراهق، لم أعبأ كثيراً بملاحقة شبكة القرابة النابتة فجأة (وهو أمر يشعرني بالأسف اليوم)، لكن تلك الشبكة على الأقل كشفت لي عالماً خفيّاً وراء والدتي التي حرصت وقتها على التأكيد على أصولها المردلية.
لطالما أخبرتني جدتي أن عائلة ساروخان المردلية تعود بأصولها الأبعد إلى إيران. وأنها قدمت مع أحد الشاهات في رحلته إلى ماردين لتستقر هناك وتبني خاناً للمسافرين. ربما لا تعدو هذه الحكاية، التي يتناقلها أفراد هذه الأسرة السريانية الكبيرة والمنحدرة من ماردين، عن أن تكون أسطورة للتأكيد على المكانة والأصول العريقة للأسرة المقربة من الشاه الفارسي.
مما ترويه أيضاً عن ذكريات المجزرة التي وصلتها من أهلها، أنه تم جمع العديد من الشبان والكهول السريان من ماردين –ومن بينهم خالها اليافع- أخذوهم إلى أحد الكهوف خارج ماردين وخيروهم بين الإسلام أو الموت. فأصر الجميع على البقاء على مسيحيتهم، فقتلوا ورميت جثثهم في الكهف. من هناك صار يُسمع كل ليل صوت ترنيم يصعد من الكهف. بالتأكيد تحظى الحكاية بنسب مباشر لأساطير شهداء المسيحية، فهم لم يتركوا ضحاياهم للموت العاري، بل عمدوهم قديسين وشهداء.
توزع الناجون من عائلة ساروخان على مناطق شتى، الدرباسية والحسكة وحلب، ومن الأخيرة تابع قسم منهم هجرته باتجاه لبنان وبعضهم لم يتوقف هناك بل تابعها إلى الولايات المتحدة أو فنزويلا، هناك بعيداً في العالم الجديد بدأ أفراد من ساروخان حياتهم من جديد.
شقيقتان، فريدة ومارين، من عائلة ساروخان عرفتا مصيراً أقسى من الموت أو الهرب وهو السبي (مرة أخرى وبعد ما يقارب القرن، ستعرف الكثير من النساء الإيزيديات مصيراً مشابهاً على يد أناس يرفعون نفس الأسماء). سبيت كل منهما من قبل ضابط عثماني، وفُرض الإسلام عليهما. لكن الشقيقتان نجحتا في تدبير أمورهما لاحقاً والهرب معاً والوصول إلى حلب. لكن مارين تركت ورائها شيئاً آخراً، ابنها الذي أنجبته قسراً من الضابط العثماني، ولم تعد تعرف عنه شيئاً. لقد كان هذا الثمن الذي توجب عليها دفعه من أجل حريتها.
في حلب التقيتا بأبناء أعمام لهما من عائلة ساروخان. تزوجت فريدة من منصور ساروخان، الناجي الوحيد من عشرة أخوة قتلوا جميعهم، أما مارين فتزوجت من قريب آخر، عبود ساروخان. لم تحظ الكبرى بأبناء، فيما كان للصغرى أبناء عدة وبنتان، الكبرى بيرتا والصغرى فيوليت. وبسبب سوء أحوال الأسرة الكبيرة، تولت الأخت الكبرى رعاية فيوليت كما لو أنها ابنتها.
لاحقاً، تزوجت بيرتا من شاب حمصي يعمل في الدرك، موريس رزق الله عايق. فيما تزوجت فيوليت من شاب أرمني قادم من الدرباسية إلى حلب من أجل الحصول على عمل أفضل، كريكور أوهانيس كريكور.
عن الأصول والفروع
في الوقت الذي لم تعرف فيه سوريا الداخلية مذابح مماثلة لما عرفته مناطق الأناضول وشمال الرافدين، فإنها عرفت اقتلاعاتها الخاصة؛ المجاعة التي حلّت في بلاد الشام نتيجة للحصار البحري الذي فرضته قوات الحلفاء خلال الحرب العالمية الأولى، والسفربرلك أو سوق الشباب إلى الجندية.
في ظروف المجاعة والتجنيد استقبلت سوريا -وبشكل خاص الجزيرة وحلب وتالياً لبنان ودمشق- الناجين من الإبادة من الأرمن والسريان، وبعد عقدين لحقهم العديد من الأكراد الهاربين إثر قمع ثورة الشيخ سعيد بيران الكردية سنة 1925، وبعدهم الآشوريون الهاربون من المجزرة والتطهير الذي قام به الجيش العراقي ضدهم إثر قمع تمردهم سنة 1933.
ورغم مسؤولية الحلفاء عن الحصار وما رافقه من مجاعات، فإن سكان بلاد الشام المنتفضين على العثمانيين في نهاية الحرب العالمية الأولى فضلوا تحميل الأتراك مسؤولية هذه التجربة الأليمة باعتبارهم المسؤولين عما حاق بهم من مصائب.
بغية التهرب من الجندية، قام العديد من الشبان بافتعال عاهات دائمة بأنفسهم، خصوصاً المعيلين لأسرهم، كذلك حاول العديد منهم الهرب من مناطقهم كي لا يلقى القبض عليهم ويساقوا إلى الجبهات.
في تلك الأيام وصل إلى حمص الفتى رزق الله مع والدته وشقيقته بعد وفاة والده “موسى عايق” واختفاء شقيقه الأصغر “ناصر” الذي كان عمره بحدود السبع سنوات. رزق الله لم يتحدث عن أصول عائلته، مكتفياً بالإشارة لكونها تنحدر من من حماة، وحكاية عن جده الأسطوري مؤسس للعائلة الذي كان يُعرف بـ “الجمل” بسبب قوته الاستثنائية. هو لم يذكر بلدة كفربو الواقعة في ريف حماة التي تقطنها عائلة عايق الممتدة، والتي تحيل أيضاً إلى ذاك الجد الأسطوري. لكن بسبب الجد المشترك، اعتبر المنحدرون من رزق الله بلدة كفربو بلدتهم الأصلية التي جاء منها رزق الله.
يثير السؤال حول أصل عائلة عايق في منزلنا طرائف عديدة، والإجابة عنه تشبه تاريخ سوريا لحد ما. يبدو أن هناك اتفاق ضمني ما على أن عائلة عايق، في أي مكان من سوريا، تعود إلى أصل واحد. وهذا يطرح مفارقة طريفة، وهي أن اسم عايق يتوزع على عدة عوائل تنتمي إلى طوائف مختلفة، مسيحيون أرثوذكس ومسلمون سنة ومسلمون اسماعيليون، ومسألة أن كل هؤلاء ينحدرون من أصل واحد يطرح مشكلة حول تحديد هذا الأصل. الرواية التي اعتدت سماعها، تجعل من كفربو أصلاً للعائلة، وبالتالي فالفرع المسيحي هو الأصل ومنه يتفرع الإسماعيليون والسنة، ويبدو أن الفرع الإسماعيلي يوافق (يروي والدي أن أشخاصا من هذا الفرع قد زاروهم وأكدوا لهم هذا وإن انقطعت العلاقات لاحقاً)، لكننا لا ندري رواية بقية الأفرع عن أصولهم.
لاحقاً وبفضل السوشيال ميديا، تعرفت على فلسطيني من رفح يحمل بدوره اسم عائلة عايق وهذه العائلة حاضرة في سيناء، وكان لديه بدوره رواية مختلفة تقول إن عايق هي فرع من تجمع قبلي غادر شبه الجزيرة العربية باتجاه سيناء وفي الطريق خسروا بعض أفرادهم في مناطق مختلفة في الشام، وبالتالي فإن المسلمين هم الأصل الذي تفرع عنه المسيحيون (التحول إلى المسيحية في أرياف الشام لم يكن أمراً مستحيلاً) ومنه الفرع الإسماعيلي. لا أعرف ما هي الرواية الأصح عن أصل هذه العائلة (في حال كانت إحداهما صحيحة) ولكني عادةً ما انتقي الرواية الأفضل بحسب السياق، في سلوك كلبي تماماً.
هل ينحدر رزق الله فعلاً من كفربو؟ لا يمكن الإجابة، إنه سؤال من أسئلة البدايات التي لم يعد بوسع أحد الإجابة عنها. ما قبل رزق الله عايق مساحة للتخمين ولكن لا أحد يعرف شيئاً حقيقياً بصددها، مساحة للأساطير والتكهنات وربما لتأليف الروايات. إنها بداية فُرضت عنوة على كل من يعيش اليوم من أفراد الأسرة.
في حمص اشتغل رزق الله عايق “صبي منجّد” لإعالة والدته وشقيقته، ثم تزوج من فتاة من قرية ربلة تدعى “رفيقة السوقي” وأنجب منها صبيين وأربع بنات، وقد اشتهر بكونه عداءً سريعاً وبهذا حظي بلقب “الرهوان” أي الحصان السريع، الذي عرف به زمناً (رزق الله الرهوان) حتى كاد يغلب على اسم العائلة الأصلي (عايق).
سمى رزق الله بكره موريس وهنا تكمن معضلة أخرى، فمن المفترض أنه سماه على اسم والده “موسى” واختار المقابل الفرنسي لهذا الاسم، لكن موريس ليس المقابل الفرنسي لاسم موسى. ترى هل أخطأ رزق الله في اختيار الاسم وظن أن موريس هو المقابل الفرنسي لموسى؟ ربما، فالجميع يؤكد أنه سمّى بكره على اسم والده، أم هل خدع رزق الله الجميع، واختار اسماً آخراً؟ ربما أيضاً.. الشيء الوحيد الذي يتناقله الجميع، أنه سمى بكره موريس على اسم والده.. بناء على هذه القصة، أفكر أنني وفي كون موازٍ، ربما كنت وقعت هذه المقالة باسم “موسى الوهران”.
أوهانيس (كريكور) أمانتيان وبهية كوبل ومارين وعبود ساروخان ورزق الله عايق يظهرون هكذا، فلا نعثر على أسماء تسبقهم. يظهرون في بلاد غير بلادهم، ناجون، لكنها نجاة معمدة برائحة الموت والدم. أما ما قبلهم فهو فجوة متروكة للتخمين وذكريات الألم والموت. وحدها رفيقة السوقي من ربلة امتلكت، بشكل نسبي، سيرة حياة إنسان طبيعي.
سؤال المسؤولية
لم يكن رحيلي عن سوريا سببه الحرب الأهلية، فقد غادرت قبل اندلاع الحرب بسنوات ولم أعد لزيارتها قط، لكن البيت في حمص القديمة حيث خطط والداي قضاء حياتهما بعد التقاعد، البيت الذي نشأنا فيه وجمع كل ذكرياتنا والصور القديمة للطفولة والشباب، لم يعد موجوداً.
قبل الحرب، في الفترة الزمنية الفاصلة بين الاقتلاعين لم تكن أوضاع سوريا ممتازة، فخلال العقود التسعة تلك كان هناك محاولات لبناء أمة ذات هوية وطنية تتجاوز الانقسامات الطائفية والإثنية، ومحاولات أخرى لتأسيس نظام حكم برلماني، وثالثة لخلق نظام حكم بإيديولوجيا ثورية، ورغم كل هذا، بقي النزيف (المسيحي) مستمراً ولكن بطيئاً على شكل هجرات متتابعة كانت محصلتها قبيل الحرب أن عدد أعضاء العائلة الموجودين في الخارج يفوق عددهم في سوريا ولبنان. لكن ما حصل بعد ذلك كان شيئاً آخر، إذ لم نتمكن من خلق هوية وطنية بل اتسعت خطوط الانقسام على نحو غير مسبوق وغير متخيل، وتحول نزيف الهجرة إلى سيل من التهجير طال تجمعات سكانية ومدناً بأسرها.
هذه هي الخلاصة هنا، لكن أيضاً هناك مسؤولية عما حصل، وهي مسؤولية إن لم نقم بتحديدها فسوف يكون ما حصل أمراً ممكن الحدوث مرة أخرى وسوف يغدو حسم المسألة الوطنية أمراً ممتنعاً.
عندما غادرت سوريا للدراسة في ألمانيا كان أمامي فرصة لمعايشة تجربة فريدة تتعلق بتعامل الألمان -وبشكل خاص الدولة الألمانية والنخب- مع حدث مماثل في التاريخ الألماني هو الهولوكست، وكان الدرس بالغ البساطة: جميع الألمان مذنبون وعليهم أن يدفعوا الثمن وأن يتحملوا المسؤولية دوماً.
تبدو هذه الفكرة غريبة للوهلة الأولى خاصة بعد مضي ما يقارب 70 عاماً على ما حصل وبعد رحيل جميع القتلة الذين شاركوا بالإبادة، لكن ليس هذا مهماً، فالمهم هو المسؤولية الجماعية عما حصل.
لقد قام الألمان بالإبادة وهذا فعل مرتبط بالأمة جميعها.. قام النازيون بهذه الإبادة، لكنهم كانوا تمثيلاً عن جميع الألمان من نواحٍ عدة، ليس فقط “التمثيلية” و”الشرعية” التي تمتع بها القتلة في فترة تاريخية ما، إنما بوصفهم تعبيراً عن توجّه ممكن الحدوث داخل الهوية الألمانية.
لقد كان العداء لليهود سمة عامة وراسخة في مجمل التعبيرات القومية الأوروبية ومنها الألمانية، كما كان موقفاً “شائعاً” بين أفراد الشعب والنخبة على حد سواء، وكان الإقصاء التاريخي لليهود في المجتمعات الأوربية والعلاقة التمييزية ضدهم يعبّران عن قاعدة تاريخية راسخة لم تتحطم إلا بشكل متأخر مع الثورات الأوروبية والتنوير الأوروبي، ولهذا تحديداً فإنها كانت تُستعاد دوماً مع التيارات القومية والمسيحية المحافظة المعادية للتنوير.
حملت الهوية الألمانية وما رافقها من ثقافة قومية وجمعية إمكانية دائمة للسير في هذا الاتجاه، لذا فإن مواجهة هذه الإمكانية لا تقتصر على الاعتراف بما حصل -وهو ضروري لكنه غير كاف- إنما تتطلب الاعتراف بمسؤولية مستمرة عمّا حدث ومجابهة مستدامة للإمكانية الثقافية لفعل الأمر مجدداً، إمكانية لا تحتاج أن تبدأ بدعوات صريحة للقتل، بل تبدأ بأشكال بسيطة -يمكن التساهل والتسامح معها- من التمييز والترفع تجاه الآخرين، لهذا فإن المواجهة المستمرة لهذه الإمكانية وترداد مقولة “لن يحدث هذا مرة أخرى” تتطلب اعترافاً مستمراً بالمسؤولية الجماعية عما حصل.
إننا بعيدون جداً عن الواقع الألماني ونحن المنغمسون حالياً في الإبادات الراهنة والاستباحات اليومية، غير أن التجربة الألمانية تعطينا نقطة بداية مفيدة للتأمل قليلاً في “خلاص مؤجل وبعيد” من دوامة الدم.
نحن نعتاش على ذاكرة من الابادة، يرافقنا طيفها الذي صار بدوره سبباً، من جملة أسباب أخرى، لفشلنا في التحول إلى جماعة وطنية، وترسم هذه الذاكرة حدوداً من الدم بين الجماعات، فالإيزيديون مثلاً يؤرخون لأنفسهم بتعداد المجازر التي لحقت بهم، في حالة قصوى من التماهي بين التأريخ والإبادة.
تقدم هذه الذاكرة إجابات مباشرة وفورية عن سؤال المسؤولية التاريخية، “هم المسؤولون”، وبهذا فهي أيضاً تمثل تهديداً للحاضر والمستقبل. “لا يتحمل السنة مسؤولية ما حصل وحسب، بل هم تهديد حقيقي للحاضر وللمستقبل” ادعاء ترسّخه نظرة بسيطة إلى الشمال السوري، وبالتالي تبرر ما يحصل لهم. السنة بدورهم يقدّمون إدعاءات شبيهة حول ما يتهددهم من أخطار.
يقدم المثال الألماني وصفة من ثلاثة مكونات للتعامل مع ما حصل، ويكفي النظر لهذه الوصفة لندرك سوء حالنا:
– الاعتراف بما حصل، بالإبادة التي ارتكبناها
– الاعتراف بمسؤوليتنا المستمرة عما حصل، اعتراف مؤسس على اعتراف بإمكانية حاضرة دوماً في ثقافتنا لتكرار الأمر نفسه مرة أخرى
– وبالتالي مواجهة مستمرة مع هذه الإمكانية، حتى لا تتحول إلى واقع.
بالتأكيد، نحن لا نلبي شيئاً من هذه الوصفة، فلا اعتراف، والابادة منكرة أو يتم تبريرها بوصفها حدثاً عادياً أو مجرد نزاعٍ بين اثنين حصل أن تغلب أحدهما على الآخر.. ولا مسؤولية علينا أن نتحملها، بل إننا أبرياء تماماً والآخرون هم المذنبون والقتلة. أما الإمكانية، باعتبارها حاضرة في التكوين التاريخي لثقافتنا، فهي أمر خارج التفكير أساساً، فهل الإسلام السني التاريخي يحمل مثل هذه الإمكانية* ؟ هذا يبدو أمراً لا يمكن تخيله، رغم الحجم المهول للإقصاء والتمييز الذي يفقأ العين.. إننا نتحدث عن “خير أمة أخرجت للناس”.
إن مقولة “كل سنّي يحمل وزر الدم المستباح” هي المقابل للمسؤولية الألمانية تجاه ما حصل، لكنها تبدو مستحيلة حالياً، كما أن هذه المقولة لا تنطبق على السنة فقط وإن بدأنا بهم لجهة السياق الشخصي بالنسبة لي من ناحية، ومن ناحية أهمّ، كونهم “كتلة الأمة” على حد تعبير المفكر السوري ياسين الحافظ.
لكن بشكل مماثل، كل شيعي (أو علوي أو حتى مسيحي**) حتى ولو على سبيل الانتساب، مسؤول عن الدم المراق اليوم في سوريا والعراق. إننا مسؤولون مسؤولية جماعية، وما حصل ليس شذوذاً تاريخياً، إنما هي إمكانية حاضرة في شكل حياتنا.
ندرة.. ووفرة
على زمن آلات التصوير التشابهية كان فيلم الكاميرا محدود الحجم وهناك تكلفة لشرائه وتظهير الصور. هذا ما جعل صورنا قليلة وفرض علينا انتقاء اللحظة المناسبة التي نسجلها للتاريخ ونحفظها في الألبومات، لحظة اجتماع أفراد العائلة أو حفلة الخطوبة أو عودة الغائبين من السفر، الخ..
اليوم تغيرت علاقتنا مع الصورة بفضل الأجهزة الرقمية وبفضل الآلة الطابعة والذواكر المحمولة وأجهزة الحاسوب التي أمنت فائضاً من الصور وجعلت من الممكن أن نصوّر أي لحظة، بالمعنى الحرفي لـ”أي لحظة”.
الوفرة المهولة هي ما يميز الصور اليوم، فعندما نغادر لإجازة لبضعة أيام نعود بمئات من اللقطات، وإن كان لأحدنا طفل لم يتجاوز العامين فقد التقط له مئات أو آلاف الصور حتى الآن، وتلك الملتقطة له خلال يوم واحد ربما يفوق عددها ما حظي بها آباؤنا طوال حياتهم.
لكن للوفرة بدورها كلفتها. علاقتنا بالصور وعلاقة الأخيرة بالتاريخ اختلفت بشكل مريع، واللحظة المميزة التي سجلتها الكاميرا القديمة لتصير ذاكرة حية أصبحت صوراً هائلة للحظات عادية أو أقل من عادية.. لم نعد نستطيع التمييز بين اللحظات نفسها، ومراجعة الصور صارت تتطلب وقتاً أطول، ليس فقط للنظر إليها، إنما للحاجة إلى تنظيمها وأرشفتها وحذف ما لا نرغب به، وقتاً صار تأمينه بشكل مواز أكثر صعوبة.
يمكن اليوم العثور على عدد محدود جداً من الصور للإبادة السريانية والأرمنية على شبكة الأنترنيت، أما الفاجعة الحاصلة في سوريا فلديها عدد مهول من الصور لا تقتصر على توثيق اللحظة، إنما على إعادة إنتاجها وتأويلها بحيث يكون للجميع صورهم وسردياتهم.
فهناك صور مسربة عن عوالم سريّة وخفيّة (مثل صور مجزرة قيصر ومجزرة القابون) وهناك صور توثق المعارك والاقتحامات والسيطرة على مناطق، وأخرى تسجّل كيف تمر الأيام العادية، وهناك أيضاً صور مضادة وصور مفبركة.
غير أن وفرة الصورة لم ترافقها وفرة بالفهم، بل بدا أن البشر سلموا أنفسهم للصورة بذات الطريقة التي سلموا فيها أنفسهم سابقاً للشائعات والقصص المتناقلة، فملأتنا الصور حدّ التخمة.
لذا يبدو لي أن عالمنا اليوم هو مقلوب العالم القديم: هناك لم يكن من الممكن توثيق الحدث إلا ببالغ الصعوبة، واليوم هناك فرط من المعلومات حول ما حصل حقاً لدرجة أنه من الصعوبة البالغة معرفة ما حصل حقاً، وعلى الأرجح أن كل جماعة منا سوف تنتج ذاكرتها المصورة الخاصة لتحفظها للقادمين.
لكن التقنية الرقمية قدمت خدمةً جليلة لجدّي وانيس وجدتي بهية وآخرين من الأجيال السابقة، فصورهما التي نجت من الغياب وصلت إليّ بفضل أشخاص من أسرتي يعيشون في بلاد بعيدة قاموا بإعادة تصويرها بهواتفهم وإرسالها بـالـ واتساب. إنها نجاةٌ أدين بها للتقنية، ولو أن التقنية وحدها لن تكفي لتؤمن لنا ولأولادنا النجاة.
(*) إن تحقق هذه الإمكانية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ترافق مع نشوء القوميات في بلدان المشرق ومع تراكب حصل بين السرديات القومية والسردية الإسلامية، أي أن الإسلام تحول إلى هوية قومية تتطلب تجانساً جماعياً. هذه السردية القومية دفعت الأنماط التمييزية “العادية” التي عرفها الإسلام إلى حالة قصوى، مثلما حصل في أوروبا مع السردية القومية وتطلبها للتجانس، من خلال تحويل العداء التقليدي لليهود إلى مشروع إبادة.
(**) على سبيل المثال في مجزرة صبرا وشاتيلا، كان هناك عدد من المسيحيين حاربوا على الجهة الأخرى انطلاقاً من ايديولوجيات يسارية أو قومية تتجاوز مسيحيتهم، لكن الذين ارتكبوا مجزرة صبرا وشاتيلا فعلوا ذلك لأنهم مسيحيون ينتمون إلى الجماعة المسيحية، وقد تحركوا وفعلوا ذلك باسم الهوية المسيحية. وبهذا، حتى الآخرون، المسيحيون على المقلب الثاني، مذنبون، وذلك انطلاقاً من انتمائهم لجماعة حصلت باسمها المجزرة و لهوية تحمل في داخلها إمكانية حصول مجازر جديدة.
خط 30