حازم صاغية يقرأ فكريا الأحوال المضطربة عربيا وغربيا/ مارلين كنعان
يوظف الكاتب ثقافته المتعددة ليطرح أسئلة إشكالية تشغل الفرد والجماعة ويحاول إيجاد أجوبة أشد إشكالاً
من الكتب الجديدة الجدير بالقارئ المهتم بأحوال العالم وتغيراته وتأثيراتها في العالم العربي التوقف عندها، الكتاب الجديد للمفكر والكاتب السياسي حازم صاغية المسمى “في أحوالنا وأحوال سوانا” الصادر عن دار الساقي – 2023. والكتاب عبارة عن مقدمة ومقالات خمسة أشبه ما تكون بالدراسات التحليلية المقارنة ولدت بحسب واضعها من مجموعة ملاحظات دونها مما قرأ على مدى سنوات وكتبت في ظروف ومناسبات شتى.
تتمازج في هذه المقالات السياسة والفكر والتاريخ والأدب والفلسفة، وتتناول تحديداً موقع المشرق العربي مما يحصل في بلاد العالم وموقفه من التقدم والنقلة النوعية التي عرفها الغرب منذ عصر النهضة وقيام الحداثة والإصلاح الديني ونشأة المدينة والليبرالية وكيفية الاستفادة العملية منها في هذه البقعة من العالم، ولو كان هذا النموذج باعتراف الدارس مأزوماً، علماً أنه النموذج الوحيد الذي يعترف بأزمته ويناقشها، في حين تكتفي النماذج الاجتماعية الأخرى التي ظهرت في مقابله بتجاهل أزماتها وبالاستغراق في “ألفاظية” فارغة تمجد الذات وتسترسل في التغني بالماضي وبالانتصارات الوهمية التي تزكيها بلادة فكرية وجبرية عمياء.
يتناول الكتاب أيضاً بالدرس والتحليل “حركة التحرر الوطني العربية” التي يربط بعضهم بينها وبين المآسي الراهنة، والتي بحسب الكاتب “لا يزال يرجم بقاموسها وبخرافاتها كل جهد في طلب الحرية والخبز والكرامة الإنسانية”.
تقاطع الثقافات
كل مقالة في الكتاب تعميق لسؤال، تبدأ من مكان لتنفتح انطلاقاً منه على أسئلة لا حصر لها، تنصهر في معالجتها معارف الكاتب ومواقفه وآراؤه المقيمة على تقاطع الحضارات والثقافات. ولن أناقش أطروحات الكاتب لكن اهتمامي بما ورد في متن مقالاته يحملني على مقاربة بعض ما جاء فيها، ففي الفصل الأول المعنون “مداخلة في ثقافتنا السياسية وأزمتها” يدرس صاغيه أزمة الثقافة السياسية في العالم العربي الحديث بالرجوع لحقبة تاريخية تضيء بحسبه على علاقة يفترض أنها مؤسسة لتلك الأزمة، عانياً بذلك علاقة المثقف العربي بالغرب وتأثره به في مرحلة النهضة أو اليقظة العربية التي بدأت ملامحها تظهر منذ أواخر القرن الـ 19 وبدايات القرن الـ 20، عندما تنبه بعض المثقفين العرب إلى أفكار أوروبا الحديثة وتساءلوا عما يجب عليهم أن يأخذوا من الغرب لإحياء مجتمعاتهم، وهذا ما أثار في الوقت عينه مواقف مؤيدة أو معادية من التفاعل مع أوروبا على الصعد الثقافية والسياسية والاقتصادية نظراً لوجه أوروبا الاحتلالي.
ومع أن “الحقبة الاستعمارية” لم تمنع مثقفي هذه البلاد من التمتع بهامش من الحرية وإعمال الفكر النقدي، وهما بامتياز شرط العمل الثقافي الذي شهد في هذه المرحلة من التاريخ العربي ظهور بدايات تدخل الثقافة في الفضاء العام، فإن حازم صاغية لا ينسى الإشارة إلى أبوة الغرب الكاملة لهذه الثقافة العربية الحديثة على رغم وجود تناقضات بينهما من خلال الاشتغال على مواضيع أوروبية الأصل مثل العدالة والمساواة والدولة والمواطنة ورفض الاستبداد وحقوق المرأة والاهتمام بالقوانين الوضعية والقبول بالتنوع الديني ونبذ التعصب وفصل الدين عن الدولة وتحديث اللغة واتباع الاكتشافات العلمية في النظرة إلى العالم وغيرها من المفاهيم والإشكالات. وقد عالج هذه المسائل مفكرون عرب تأثروا بآداب أوروبا وعلومها بعد أن أقاموا فيها لفترة، مثل رفاعة رافع الطهطاوي وعبدالرحمن الكواكبي وقاسم أمين وبطرس البستاني وفرح أنطون وأحمد فارس الشدياق وشبلي الشميل وغيرهم من الذين حاولوا نشر الأفكار والنظريات العلمية والفلسفية والاجتماعية التي أطلقت الغرب في رحاب الحداثة، فبثوا بعضها في المجتمعات العربية لعلها تخطو خطوات جريئة في طريق التحرر الفكري والرقي الاجتماعي والعلمي.
سجالات شائكة
ويتناول صاغية بإيجاز السجالات التي دارت آنذاك حول هذه المواضيع ويخوض قدر الإمكان في تضاعيفها، ومنها المناظرة التي دارت بين الشيخ محمد عبده وتلميذه رشيد رضا وبين فرح أنطون حول ابن رشد، وتأكيد هذا الأخير أن النبوة نوع من الإدراك وبأن الأنبياء فلاسفة وأن الحقيقة واحدة يسربلها الأنبياء بالرموز الدينية من أجل العامة، بينما تفهمها النخبة مباشرة.
وثمة مطارحات أحمد لطفي السيد المتعلقة بقصور اللغة العربية عن مواكبة التطورات العلمية، ونفي وجود مفهوم الخلافة في الإسلام مع علي عبدالرازق، ورؤية طه حسين للشعر العربي الجاهلي بوصفه شعراً منحولاً وغيرها من المطارحات الجدالية، ولا ينسى الكاتب أن يقول إن ردود الفعل على هذه المطارحات كانت خالية من العنف، واصفاً إياها بأنها “وظيفية وعابرة”، مبيناً كيف أن الحراك الثقافي آنذاك قاد الحركات السياسية وأدى إلى ظهور الأحزاب في مصر والعراق، وبأن المثقفين كانوا أشد فاعلية بما لا يقاس بالمثقفين اللاحقين.
ولئن تحدث صاغية عن دور المثقف العربي المتجذر في بيئته والمناهض للاستعمار فإنه يؤكد أن هذه المناهضة لم تمنعه من الإعجاب بفكر أوروبا التي كانت ولا تزال مركز العالم، ومحاكاة إنجازاتها في مجالات الصحافة وتطور الأدب والكتابة والفنون الجميلة، والاهتمام بالآثار والتراث العربي، موضحاً كيف أن نشأة الجامعات والمكتبات الحديثة على الطريقة الأوروبية كانت في أصل التفاعل بين الثقافتين العربية والأوروبية منذ حملة نابوليون بونابرت على مصر، مما أدى إلى “تحديث” خفر لهذه البقعة من العالم.
ويحلل في الفصل الأول الانعطافة التي مست دور المثقف العربي حين التحق بالسرديات السياسية بعد النكبة الفلسطينية وذاب في خطاباتها الشعبوية الرافضة للغربنة، بعدما كانت الثقافة قاطرة السياسة، وبعدما أعلن بعض فلاسفة أوروبا ومفكروها أفول نجم حضارة الغرب وموت قيمها، وكان من نتيجة هذه الانعطافة، بحسب الكاتب انتقال المثقفين العرب إلى حضن الشيوعية اللينينية أو الحركة الناصرية وغيرها من الحركات والتنظيمات، أو إلى حضن الدين بوصفه السند الأساس في قيام الدساتير والأنظمة السياسية، فانقلب حال الثقافة بحيث أصبحت مذاك تابعة للسياسة.
لينين وفانون وغرامشي
وإذ يعرض صاغية لأدبيات هذه المرحلة التي انتقدت مفهوم المثقف البورجوازي الأوروبي ودوره في المجتمع والتي أثرت في المثقف العربي ككتاب لينين “ما العمل؟” وكتاب فرانتز فانون “معذبو الأرض” ومفهوم “المثقف العضوي” كما قال به غرامشي، وغيرها من المفاهيم والكتب التي أدلجت الثقافة في محاصرة للحرية، فإنه في قراءته الرصينة لهذه المرحلة من التاريخ العربي الحديث ودرسه الصائب لتجارب مثقفين عرب ومواقفهم مما يجري سلباً أو إيجاباً، لاحظ تراجع دور المثقف وتراجع إبداعه الفكري لمصلحة التكرار والرجعية، داعياً إلى إعادة التفكير بدوره في علاقته مع الغرب ومع ذاته ومع الدفاع عن الحرية.
أما في الفصل الثاني فيتناول صاغية بالتفصيل مفهوم “العصبية” وروابط القرابة أكانت دينية أو عرقية، والتي تحدث عنها ابن خلدون في مقدمته الشهيرة ودورها في تركيبة المجتمعات، والعصبية برأيه معطى لا يزال راهناً في البلاد العربية، إذ يكفي بحسبه النظر إلى ثورات “الربيع العربي” وانطلاق المقاومة الفلسطينية وحرب لبنان التي اتخذت طابع الاحتراب الطائفي كما حرب العراق واليمن وسوريا والسودان، لنفهم كيفية تولي نظام القرابة وثقافته احتلال الحيز السياسي بطرقه المنظورة وغير المنظورة، وها هو ذا يشرح نظرة ابن خلدون للتاريخ ومفهوم العصبية ودورها كأول محرك للتاريخ، داعماً شروحاته بآراء مؤرخين وعلماء اجتماع وأنثروبولوجيا من أمثال توينبي ودوركهايم ومالينوفسكي وليفي ستروس وغيرهم من الذي تفكروا في مواقع الأنساق القرابية في المجتمعات الإنسانية كافة، وارتباطها بصعود الأنظمة السياسية وانحطاطها.
ويخلص حازم صاغية إلى أن هذه الأنساق لم تعرف الانكسار إلا في أوروبا الغربية، فيتوقف عند أسباب هذا الانكسار وانعكاساته الإيجابية على المجتمعات الأوروبية في حين بقي العالم العربي خاضعاً للموروثات العصبية القاتلة.
وفي الفصل الثالث يعالج حركة الإصلاح الديني في التجربة الأوروبية في القرن الـ 16 وما نتج منها من أهمية الإنسان الفرد وحرية فكره، متسائلاً عما يجعل مثل هذا الإصلاح “صعباً” لا بل مستحيلاً في العالم الإسلامي الراهن، وبغية الإجابة عن هذا السؤال يستعرض الكاتب العناصر التاريخية والعلمية التي كانت في أصل حركة الإصلاح الأوروبي أو واكبته، كمثل تغير طرق التجارة العالمية ووهن السلطات الإقطاعية ونشأة الدول القومية وظهور نقابات المهن والجامعات المتحررة نسبياً من سلطة الإكليروس، وانتعاش الأدب الكلاسيكي اليوناني واللاتيني القديم، واكتشاف العالم الجديد واختراع المطبعة والإنسانوية، وتقدم علم الفلك الذي غير مفهوم موقع الأرض في الكون، إلى غير ذلك من الأسباب والعناصر، فضلاً عن العودة لنصوص الكتاب المقدس الأصلية في ثورة على التأويلات الموروثة، موضحاً العوائق التي تقف في وجه الإسلام الراهن للقيام بمثل هذه الحركة.
النهضة والإصلاح
ويصف صاغية النهضة الأوروبية والإصلاح الإنجيلي بـ “التحول التاريخي الكبير” الذي نتجت منه “تغيرات طالت العلم والفن والاجتماع والثقافة والسياسة” والاقتصاد، فيعرض بنظرته ثاقبة إنجازات أسماء مبدعة في هذه الحقول المعرفية من أمثال مكيافيللي وغيوتو وبرونو ودافنشي ولوثر، ويتحدث عن “الإصلاح المضاد” الذي قامت به الكنيسة الكاثوليكية في مواجهة هذا الانشقاق، مستعيداً شروحات عالم الاجتماع ماكس فيبر ونظرياته المتعلقة بتأثير هذا الإصلاح على تطور الرأسمالية وأحوال المجتمعات الأوروبية بعامة منذ القرن الـ 16، وما يعنينا في هذا كله هو المقابلة التي يجريها صاغية في نهاية هذا الفصل بين “ضخامة المسائل والتحولات” التي عرفتها أوروبا جراء هذا الإصلاح والتي لا يملك العالم العربي “أنداداً لها”، فلا مآثر بحجم تلك التي نجمت عن حركة لوثر وكالفان على صعد الحرية والفردية والتقدم والسلطة السياسية وبناء المدينة، بل تراجع في أحوال هذه البقعة من العالم ونمو الحبكات العصبية والاستلابية والتدين والانغلاق الطائفي، وتدخل السلطة في كل تفاصيل الحياة، على حساب ضمور مساحة الحرية والفردية، مما يحمل الكاتب على “الترحم”، بمعنى ما، على أيام جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وعلى التشديد على سوء أحوالنا والتحديات التي تواجه مجتمعاتنا كافة.
ويستوقف القارئ الفصل المخصص لأحوال المدن العربية وتدمير بعضها مثل بيروت وحلب والموصل، وفيه يدرس صاغية الأسباب التي أدت إلى إضعاف هذه المدن مما أدى إلى تدميرها، أكانت هذه الأسباب عائدة إلى تعددية تركيبتها و”كزموبوليتها” وانفتاحها على ثقافات أخرى، أو إلى نزوح أهل الريف إليها وتدخلات السياسات الدولية والإقليمية وفساد بناءات الدول السياسية التي تحتضنها وهشاشتها، وغيرها من الأسباب التي درسها الروائيون والمؤرخون وعلماء الاجتماع.
وقد وظف صاغية في عرضه لما آلت إليه أحوال هذه المدن ثقافته الموسوعية المطلة على ميادين الأدب والسياسة والفلسفة والاقتصاد والتاريخ وعلم الاجتماع، في تداخل يجعل القارئ يمتلئ من غنى الكتاب ومقارباته للإشكالات التي يطرحها.
وينتهي الكتاب بفصل يتساءل فيه المؤلف عن إمكان اختراق الليبرالية والاشتراكية الديمقراطية الحياة السياسية العربية ولا سيما في لبنان، أو بقائهما خياراً فردياً، مستنداً في تحليلاته إلى الفلسفة السياسية، كما في نصوص هوبس ولوك وجون ستيوارت ميل وغيرهم من المفكرين والفلاسفة.
هذا ما يتكشف للقارئ على تتالي صفحات كتاب حازم صاغية الذي يأسرنا بعمق تحليلاته وكثافة معلوماته وجمال أسلوب لغته وطريقة مقاربته للمواضيع التي يطرحها، ويجب الإقرار أنه في تجاوزه للخطابات السائدة ودعوته إلى الانقطاع عن سيئات الماضي لاحتضان الزمن الآتي برؤية جديدة تكون على مستوى تطلعات أناس المشرق، يشكل هذا الكتاب علامة ضوء في الظلمات الشرسة لعل مضمونه النقدي المتين ينير سبيل تقويم اعوجاج أحوالنا التي لا تسر أحداً.