حوار مع بينت شيلر
لعبة الانتظار
أظهرتِ في كتابك “لعبة الانتظار” عن السياسة الخارجيَّة السوريَّة كيف أنَّ السلطة الحاكمة في سورية قد نجت من تقلبات السياسة الدوليَّة على مدى العقدين الماضيين، بالاعتماد على إستراتيجيَّة الجمود بصورة رئيسة. وقد كان التغيُّر المنتظم في قيادات تلك الدول التي تشكل ضغطًا متزايدًا على سورية، وهي الولايات المتَّحدة وأوروبا، يعني أنَّ حكوماتهم المتعاقبة تحدِّد أولويَّات مختلفة، ما أدى إلى عدم اتساق في السياسة الغربيَّة. لقد تعلَّم النظام أنَّ الفاعلين الآخرين على الساحة الدولية سيغيِّرون مواقفهم وسياساتهم تجاهه عاجلًا أم آجلًا، حتَّى في غياب أيِّ تغيير في موقفه. لقد كانت هذه هي الحال مع العزلة الدوليَّة التي انتهت عام 1990، مع حرب الخليج الأولى، وتشتمل الأمثلة الأخرى على العلاقات المتوتِّرة خلال حرب العراق 2003، أو العزلة التي شهدتها سورية عام 2005 بشأن لبنان، وفي نهاية المطاف، تغلَّبت السلطة السورية على تلك الأزمات كلِّها بانتظار الآخرين لتغيير سياساتهم. ماذا عن المرحلة ما بعد عام 2011؟ هل نجحت طريقة السلطة السورية في تجنّب الضغوط والتهديدات؟
شيلر: هناك أشياء كثيرة خاصة بالدكتاتورية السورية: مستوى الوحشية الذي استجابت به للانتفاضة الأهلية مثلًا كان فائقًا. تحدث محقِّقون دوليُّون عن القتل على “نطاق واسع” في السجون السورية، قائلين إن الكم الهائل من الأدلة الموثقة أكبر مما كان متاحًا لمحاكمات نورمبرغ. على الرغم من أن الدكتاتوريين معروفون بوحشيتهم، إلا أن استخدام النظام السوري البراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية ضد السوريين هو أيضًا فريد من نوعه. ومع ذلك، فإن الأمر الأكثر لفتًا للنظر هو كيف نجا النظام بدعم من روسيا وإيران – وهما دولتان ليستا مهتمتين حقًا بسورية، لكنهما تنظران إليها على أنها أداة لتعزيز مصالحهما الخاصة. لم ترغب إيران في خسارة سورية لأنها كانت ستجعل من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، الحفاظ على نفوذها الإقليمي. لقد كانت روسيا تدعم سورية فقط عندما تكون سورية تحت ضغط الدول الغربية، ويمكن بالتالي استخدامها كشوكة في خاصرة الولايات المتحدة أو أوروبا.
استخدمت روسيا حق النقض ضد قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة وخففتها أو حرصت على عدم تنفيذها بالكامل حتى لو تمَّ تبنيها. لقد ساعدت النظام على بناء واستمرار الوهم بأنه كان يتفاوض على أساس قرار مجلس الأمن رقم 2254 بينما لم يتحقق أي تقدم حقيقي. لذا كان الضغط على الغرب إحدى الميزات التي رأتها روسيا، حيث اختبرت المدى الذي يمكن أن تذهب إليه دولة ما في انتهاكاتها للمعايير الدولية المهمة مثل استخدام الأسلحة الكيماوية. إضافة إلى تسويق صناعة أسلحتها باستخدام سورية كأرض اختبار. لكل ذلك، كانت سورية مفيدة لروسيا. ومع ذلك، لم تهتم روسيا كثيرًا بتوغل الآخرين – أثناء سيطرتها على المجال الجوي لسورية، لم تحاول أبدًا إيقاف أيٍّ من عمليات القصف الجوي الإسرائيلي التي كانت بالمئات، ولم ترد بقسوة على الغزوات التركية في الشمال. أما إيران فلم ترغب في فقدان نفوذها في بلاد الشام، ولا سيما الوصول إلى وكيلها الأهم، حزب الله.
دكتاتوريّة من نوعٍ خاصٍّ
ذكرتِ في كتابك أنَّ قوات الأسد، منذ البدايات الأولى للثورة، قد كتبت على الجدر في جميع أنحاء سورية: “الأسد إلى الأبد أو نحرق البلد”، واستشهدت بما كتبه الصحافيُّ كريستوف رويتر Christoph Reuter: “من النادر أن يهدَّد دكتاتور ما رعاياه بتدمير كامل البلاد، بل إنَّ الدكتاتورين السابقين، العراقيَّ صدام حسين والليبيَّ معمر القذافي، لم يفعلا ذلك. إنَّ هذا التهديد لَيكشف العلاقة الغريبة لآل الأسد ببلادهم […] لقد تعاملوا مع سورية وكأنَّها غنيمة يتمسكون بها، يدمرونها ولا يتنازلون عنها”. هل يشكِّل النظام السوري حالة خاصة فعلًا بين الدكتاتوريات على مر التاريخ؟
شيلر: لقد قارن كثيرون الدمار الذي حدث في حمص وشرق حلب أو الغوطة بما حدث في غروزني. تبدو ماريوبول والعديد من المدن الأوكرانية مشابهة للأسف – ومع ذلك، في حالة سورية، لم تكن حكومة أجنبية هي التي دمرت المدن السورية بل الحكومة السورية. كشفت حرب الأسد ضد المواطنين السوريين أن العديد من خطابات النظام ليست أكثر من خرافات. فبينما كان الأسد يفتخر بالتراث الثقافي السوري، ويشيد بسورية بوصفها “مهد الحضارة”، قصف أقدم كنيس يهودي في سورية ومنحوتات الحثيين والتراث الثقافي المعترف به من قبل الأمم المتحدة، ومدينة حلب وحمص القديمة، وأعتقد أننا سنجد العديد من القطع الأثرية في السوق التي نهبها أصدقاؤه. كما كتب أحد الفنانين السوريين على الأنقاض في إدلب: “سورية مهد الحضارات ومقابر الإنسانية”.
خطر الإسلامويِّين
بعد عام 2011، عمل النظام السوري على تحذير العالم، خصوصًا الولايات المتحدة وأوروبا، بشأن احتمال سيطرة الإسلامويين وتنظيم القاعدة على سورية، وقدَّم نفسه بوصفه متراسًا ضدَّ التطرف. ونتيجةً لذلك، امتنعت الدول الغربية عن رمي كامل ثقلها لدعم الثورة السورية، حتى قبل مدة طويلة من اللحظة التي أصبح فيها السلفيُّون جزءًا مهمًا من حركة التمرد. ألم يجد الغرب وسائل وآليات فاعلة للتعاطي مع هذه الاستراتيجية المعروفة والمتكرِّرة للنظام السوري؟!
شيلر: أشك في أن القادة الغربيين قد أدركوا مدى استراتيجية النظام السوري في اللعب على مخاوف الغرب من الإسلاموية. إن فكرة أن النظام “علماني”، أو كما تقول: حصن ضد التطرف – تستمر في العودة إلى النقاشات حتى الآن، بغض النظر عن كل الأدلة التي تظهر كيف تلاعب النظام بالجماعات المتطرفة، ودعمها بشكل مباشر وغير مباشر. لم يكن ما يسمى بتنظيم “الدولة الإسلامية” مفيدًا للأسد فحسب، بل كان في الواقع بمنزلة الإله المنقذ، لأنه مقارنة به فحسب كان قادرًا على أن يبدو مثل “أهون الشرين”.
بدا تنظيم الدولة الإسلامية وكأنه صورة مبتذلة للقوة العدمية والوحشية الصريحة، وبالنسبة للأيزيديين من الواضح أنه كان يمثِّل تهديدًا أكبر كثيرًا من النظام؛ الشيء نفسه يمكن أن يُقال بالنسبة إلى العلويين الذين قُتلوا في الصحراء. كان تنظيم الدولة الإسلامية حريصًا على نشر صور احترافية لفظائعه، التقطتها وكالات الأنباء عن طيب خاطر. على الرغم من صعوبة العثور على جريمة وحشية واحدة ارتكبها تنظيم الدولة الإسلامية ولم يرتكبها النظام، وعلى الرغم من أن النظام فعل ذلك على نطاق أوسع كثيرًا، فإنَّ نغمة “أهون الشرين” لم تتغير، ولا حتى ما يسمى بصور قيصر لآلاف السوريين الذين تعرّضوا للتعذيب حتى الموت، التي التقطها مصور عسكري يعمل عند النظام.
يعرف الأسد قيمة الإسلاميين في بقائه كأداة ضد الغرب والمعارضين. لقد لعب هذه الورقة مرارًا وتكرارًا. لقد اختبر ذلك في في حرب العراق، عندما سمح نظامه بين عامي 2003 و2006 بعبور الجهاديين إلى العراق، وسهل مرورهم، بل ونظمه. على الرغم من أن تنظيم (داعش) قد قتل العشرات من العلويين، إلا أن النظام لم يقاتل أعضاءه بجدية، فهم ثمينون جدًّا بالنسبة إليه.
في معارك المتمردين العرب في الشمال ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، سيستخدم النظام بشكل موثوق قوته الجوية ليس ضد تنظيم الدولة الإسلامية بل ضد المتمردين.
كلما احتاج الأسد إلى تحسين صورته، قام تنظيم الدولة بمهاجمة تدمر – وهذا يتشابه مع قيام طالبان بتفجير تماثيل بوذا في باميان Bamyan. كانت صور التراث الثقافي العالمي الذي يتعرض لهجوم من قبل محاربي الأيقونات الإسلاميين مفيدة لنظام الأسد – تدمر مدينة في الصحراء حيث يمكنك أن ترى الذين يقتربون منها قبل ساعات من وصولهم إليها، إلى جانب أنه توجد في جوارها ثلاث قواعد جوية للنظام على الأقل للدفاع عنها، ومع ذلك استطاع تنظيم الدولة الإسلامية أن بدخلها مرارًا وتكرارًا.
انظر أيضًا، على سبيل المثال، مهمة إنقاذ المئات من الدفاع المدني السوري، ما يسمى بالخوذ البيضاء، في تموز 2018. كان هذا ضروريًا لأن النظام جرّم المساعدات الطبية وعمل المتطوعين في المناطق التي كانت خارجة على سيطرته. عند استعادة النظام لهذه المناطق، طارد المواطنين الصحافيين والمعلمين والأطباء والممرضات وكل من عمل في الإدارة المدنية. عندما أنهى ترامب الدعم الأميركي للمتمردين في جنوب سورية، كان عناصر الخوذ البيضاء في خطر، وقبلت إسرائيل نقلهم. لم يكن النظام هو الذي أوقفهم، فلديه داعش يمكنه أن يقوم بالمهمة.
السويداء، مدينة في جنوب سورية ذات الأغلبية الدرزية والتي أخذت مسافة بعيدًا عن النظام، وحتى الآن ما زلنا نشاهد وجود احتجاجات فيها، عاقبها النظام عندما غض الطرف تاركًا تنظيم “داعش” يهاجمها في تموز/ يوليو 2018، ما أسفر عن مقتل أكثر من 150 شخصًا.
أبعاد الهجوم الكيماوي
رأى كثيرون عندما حصل الهجوم الكيماويُّ في 21 آب/ أغسطس 2013 على الغوطة الشرقية أنه علامة على إدراك النظام السوري أنَّ احتمالات بقائه لم تعد جيدة. ما رأيك بالتحليل الذي يقول إن النظام كان واعيًا ومدركًا تمامًا أنه لن تكون هناك ردة فعل دولية، وأنه بعد وقت قصير من الإدانة العالمية للهجوم ستسعى الدول الكبرى لعقد اتفاقات معه بشأن الأسلحة الكيماوية، ومن ثم سيتحول النظام من طرف منبوذ ومعزول إلى طرف مرتبط باتفاقات مع الأمم المتحدة والدول الكبرى، وهذا سيعطيه الوقت اللازم لإعادة ترتيب أوضاعه وقواه؟
شيلر: حسنًا، لم تكن هجمات آب/ أغسطس 2013 هي الحالات الأولى من استخدام النظام للأسلحة الكيماوية. عندما حذر الرئيس الأميركي باراك أوباما في آب/ أغسطس 2012 النظام من استخدام الأسلحة الكيماوية، بدا الأمر كما لو أنه دفع الأسد إلى اختبار تصميم أوباما. بعد تشرين الأول/ أكتوبر 2012، كانت هناك حوادث طفيفة تتعلق بالأسلحة الكيماوية، لكنها لم تصل حتى إلى عناوين الأخبار. كان الجميع يبتعدون حتى عن أخذ العينات واختبارها، وأعتقد أنه أصبح واضحًا للأسد حينذاك أنه يمكن أن يفلت من العقاب.
عندما شعر أنه على وشك أن يفقد السيطرة وتقدم المتمردون، استخدم الأسلحة الكيماوية. أشك في أنه كان بإمكانه تخيّل الصفقة الرائعة التي كان سيحصل عليها من خلال الاتفاقية الأميركية الروسية. فقد كان خائفًا لبضعة أيام، ومع ذلك، فقد منحته الاتفاقية المزيد من الفرص للاحتفال بانتهاك المعايير الدولية مع الإفلات من العقاب. فازت منظمة حظر الأسلحة الكيماوية بجائزة نوبل لمشاركتها – ومع ذلك لم يلتزم النظام أبدًا بالصفقة، ولم يكشف عن ترسانته بالكامل، واستمرَّ في استخدام الأسلحة الكيماوية، ولم يتعاون على الإطلاق في هذا الشأن.
الخطوط الحمر والإشارات الخطرة
في آب/ أغسطس 2012، قال الرئيس الأميركيُّ باراك أوباما Barack Obama: إنَّ استخدام الأسلحة الكيماويَّة أو نقلها يشكِّل خطًا أحمر، الأمر الذي فسَّره النظام السوريُّ بوضوحٍ على أنَّه تصريحٌ مطلقٌ باستخدام أيِّ سلاحٍ أقلّ من ذلك، وهذه إشارة خطرة. لم يتجاوز النظام باستخدامه الأسلحة الكيماويَّة “الخط الأحمر” الذي وضعته الولايات المتَّحدة فحسب، بل تجاوز الخطَّ الأحمر الذي وضعه بروتوكول جنيف في العام 1925، والذي يحظر استخدام الغازات السامة أو ما شابهها. إنَّ الإخفاق في معالجة هذه المسألة آنذاك قد أرسل إشارات خطرة إلى دول أخرى، يُفهم منها أنَّه على الرغم من الحظر المفروض على الأسلحة غير التقليديَّة، فإنَّها لن تتحمل مسؤوليَّة جرَّاء استخدامها. بدلًا من فعل شيءٍ ما، اكتفى المجتمع الدوليُّ بمراقبة النظام السوريِّ، وهو يتخطَّى “خطًا أحمر” تلو الآخر. من المسؤول عن هذه الإشارات الخطرة، وأيُّ عالمٍ يمكن أن نتصوره بسببها؟
شيلر: كان عدم تنفيذ “الخطوط الحمراء” في ما يتعلق بأسلحة الدمار الشامل السورية هو نقطة التحول التي عرف النظام من خلالها أنه يستطيع فعل أي شيء من دون عقاب. كأننا تعلمنا الدروس الخاطئة من العراق. الكذبة الأميركية حول الأسلحة الكيماوية في العراق كان يجب أن تعلِّم أي شخصٍ أخذ بها ألَّا يقع في فخ المعلومات المضللة والروايات المفبركة – ومع ذلك، مع سورية رأينا العكس يحدث: على الرغم من الأدلة الدامغة على استخدام الأسد لأسلحة الدمار الشامل، فإن العديد منهم الذين انتقدوا الحرب الأميركية في العراق وقعوا الآن في أساطير المؤامرة ونفوا استخدام الأسلحة الكيماوية أو ألقوا باللوم فيها على المتمردين. أصبحت الولايات المتحدة بعد الكارثة في العراق وأفغانستان أكثر قناعة بعدم التورط في حروبٍ بعد الآن، إلى درجة أنها اختارت التقاعس عن العمل، وحذت أوروبا حذوها، ما كان له عواقب مميتة على مئات الآلاف من السوريين. كان الخط الأحمر الذي قدم الكثير من النفوذ، بعد أيام قليلة من الهجوم بالأسلحة الكيماوية في دوما، لحظة ذهبية لممارسة الضغط لإعطاء الدبلوماسية فرصة أخيرًا. صفقة كيري-لافروف كانت هدية مقابل لا شيء، وأثبطت عزيمة السوريين وشجعت النظام.
التقديرات الخاطئة
كثيرًا ما دقَّت المعارضات السوريَّة ناقوس نهاية النظام السوريِّ قبل أوانه؛ فعندما توفي حافظ الأسد في حزيران/ يونيو 2000، شكَّك المحلِّلون في ما إذا كان بمقدور بشار الأسد توطيد قواعد سلطته، وكان سقوط النظام متوقَّعًا بعد تقرير ديتليف ميليس Detlev Mehlis بشأن اغتيال رفيق الحريري في عام 2005، وما تلاه من انحدار علاقات سورية الدوليَّة إلى أدنى مستوياتها. ومع بداية الثورة السورية في آذار 2011، كانت لدى أغلبية المعارضة السورية آمال كبيرة بالنجاح في إسقاط النظام السوري. هل كانت المعارضة السورية وحدها التي أخطأت في قراءة المشهد السياسي السوري والعلاقات الإقليمية والدولية التي حمت النظام السوري أم أنَّ الحكومات الغربية نفسها، إضافة إلى عدد من حكومات الدول العربية التي دعمت الثورة، تتحمَّل هي أيضًا مسؤولية أخطاء سوء التقدير؟
شيلر: كانت الثورة السورية مذهلة من نواحٍ كثيرةٍ. مع الأخذ في الحسبان مدى وحشية النظام تحت حكم حافظ الأسد في سحق انتفاضة الإخوان المسلمين في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، لا بدّ أن النزول إلى الشوارع قد تطلب شجاعة لا تُصدق. شعرت بالقشعريرة عندما رأيت هذه الاحتجاجات لمئات الآلاف الذين وقفوا ضد مضطهدهم، مخاطرين بحياتهم من أجل مستقبل أفضل. كانوا يعرفون ما الذي كانوا مقدمين عليه – لكنهم كانوا يعرفون أيضًا أن الدكتاتوريات ليست إلى الأبد. إن الوحشية والفساد وعدم القدرة على الإصلاح عاجلًا أم آجلًا تحوِّل الدكتاتوريات إلى قوقعة فارغة ليس لديها ما تقدمه للمواطنين. كان بإمكانهم إبعاد الأسد بسهولة – لولا الدعم القوي من روسيا وإيران. لقد استثمر كلاهما الكثير في إبقاء النظام في السلطة، في حين أن المتعاطفين مع الثورة السورية كانوا متردِّدين في دعمه بالكامل – ويفعلون ذلك في الوقت الملائم.
لم يكن هناك أي ضمان على الإطلاق بأن الثورة السورية ستؤدي إلى دولة ديمقراطية تعددية – ومع ذلك، كان المواطنون مذهلين في إظهار كيف يمكنهم بالتأكيد إنجاحها. لقد أنشأوا مجالس محلية وتأكدوا من تحمل جميع المسؤوليات اللازمة لإدارة الدولة. لقد وجدوا في وقت مبكر طرقًا للتحرك لتجنب الوقوع في قبضة النظام، وأنشأوا مدارس تحت الأرض، ورياض أطفال، ومستشفيات تحت الأرض – ودفاعًا مدنيًّا رائعًا. عندما حدث الزلزال المأساوي ورأينا كيف ستحصل مناطق النظام بسرعة على جميع أنواع المساعدات الدولية بينما لم تفعل إدلب، قال أحد الأصدقاء إنه مع ذلك يفضل البقاء تحت الأنقاض في إدلب بدلًا من مناطق النظام – لأن الخوذ البيضاء كانوا أكثر احترافًا وخبرة في مهمات الأمان والإنقاذ. كان بإمكان المتظاهرين أن يفعلوها وينجحوا في مسعاهم – لكنهم لم يعرفوا إلى أيِّ مدى سيكون حلفاء النظام مصمِّمين على الحفاظ عليه والاستثمار فيه.
مسؤولية الإخفاق
يرتكز الخطاب السياسي لمعظم القوى والأحزاب والشخصيات المحسوبة على المعارضة اليوم على “الدفاع الذاتي” لا على “النقد الذاتي”، إذ يسعى خطابها لإلقاء المسؤولية عمّا آلت إليه الثورة السورية من هزيمة وإخفاق وإجهاض على الأطراف الأخرى، أي على الأطراف الخارجية. ألا تتحمل هذه القوى المعارضة شيئًا من المسؤولية عن الإخفاق الحاصل؟ من جانب آخر، وبطريقة مناقضة، ترفض هذه القوى المعارضة نفسها الإقرار بهزيمة الثورة، وتكابر في الإصرار على رفع شعار “الثورة باقية ومستمرة”، وترى أن سقوط النظام السوري هو أمر حتمي في نهاية المطاف. كيف يمكن فهم خطاب المكابرة هذا؟ وهل هو مفيد حقًا، كما تدعي هذه القوى، من حيث الإبقاء على جذوة الثورة مشتعلة؟
شيلر: من يقاوم المستبدين له الحق في القيام بذلك، بغض النظر عن الأهداف السياسية التي قد تكون لديهم، وما إذا كان لديهم بديل أم لا. حقوق الإنسان عالمية وتنادي بالكرامة والحرية، وبإلغاء الخوف الذي لا ينبغي لأحد أن يتعرض له، ويحق للجميع أن يطالبوا بذلك. تمنيت ألّا يدفع الشعب السوري مثل هذا الثمن الباهظ مقابل مطالبهم المشروعة وأعتقد أنهم على حق – فالأوتوقراطيون يساعدون بعضهم بعضًا، وهذا هو السبب الرئيسي لعدم حصولهم على فرصة الاهتمام بمستقبل سورية.
أعرف الكثير ممن ينتقدون أنفسهم ويحاولون العودة عن أخطائهم، ومراجعة خطواتهم لمعرفة أين كان بإمكانهم فعل شيء مختلف، شيء أفضل. ومع ذلك، أعتقد أنهم جربوا أي شيء إلى حدٍّ كبيرٍ. لقد رأينا احتجاجات إبداعية في بلدان أخرى، لكنني أقول إن سورية كانت فريدة من نوعها. الدعابة والفنون كانت وسائل لم أرَ شيئًا مشابهًا لها في الجودة والكم. ولكن أيضًا من الجانب الأكثر براغماتية: يُنظر إلى الثوار عادةً على أنهم يتمتعون بشخصية جذابة وجريئة ولكنهم أقل اهتمامًا بالشؤون والإدارة اليومية. في سورية، كانت المناقشات حول “كيف يمكننا العيش معًا”، وكيفية التنظيم، حاضرة قبل الثورة بالفعل، والسرعة التي تم بها تشكيل المجالس المحلية والمجالس الإدارية، كانت رائعة. وفي مواجهة كلِّ مشكلة خلقتها الاستجابة العنيفة ضد الثورة، كانت هناك إجابة فورية؛ عندما بدأ النظام بقصف المستشفيات والمدارس ورياض الأطفال، أُنشئت على الفور مستشفيات ومدارس ورياض أطفال تحت الأرض؛ وعندما قُطعت الكهرباء اللازمة لضخ المياه، أنشأ الثوار أراجيح seesaw (أرجوحة لها طرفان، مثبتة من المنتصف، ومع تغير الوزن في الطرفين، يرتفع أحدهما وينخفض الآخر) في الملاعب لضخ المياه. كان ذلك شيئًا بارعًا.
أعتقد أنه لو كانت الكيانات السياسية المبكرة قد تمكنت من الإشارة بشكل أوضح إلى ضمانات التعددية والشمول، فربما كان لنضالهم أن يحصل على المزيد من الزخم، وكان بإمكانه إقناع الآخرين بالانضمام. ومع ذلك، هذه ليست النهاية. بغض النظر عن مدى قسوة رد النظام وحلفائه: بعد اثني عشر عامًا، لا يزال السوريون يخرجون إلى الشوارع كلما أمكنهم ذلك. وبينما نشاهد على المستويين الإقليمي والدولي المزيد من الدعوات لطي الصفحة وتطبيع العلاقات، فإننا نرى أن نصف سكان سورية على الأقل يدركون أن هذا لن ينجح. كان النظام يخشى في عام 2011 أنَّ أي إصلاح طفيف قد يكون نهاية لوجوده؛ بعد أن رأى تصميم السوريين على المقاومة حتى عند استخدام الأسلحة الكيماوية، فإنه سيكافح دائمًا من أجل السيطرة وخلق استقرار كافٍ للاستثمارات. وستكون هناك حاجة إلى ذلك إذا أراد الحفاظ على هدوء الموالين له، ولكنهم يتضورون جوعًا الآن – أكثر من 90٪ من سكان سورية يتضورون جوعًا، والفساد هو السبب الرئيس إلى حدٍّ كبيرٍ.
التضامن بين الحركات الاحتجاجية
في أكتوبر 2022، اندلعت ثورة نسوية في إيران. هل يشكل ذلك أي فرق في ما يتعلق بما يحدث في سورية؟ ما هو حجم التضامن بين الحركة في كلٍ من إيران وسورية؟
شيلر: لقد سمعت تصريحات تضامنية من قبل شخصيات معارضة سورية بارزة، ولكن ليس العكس. وقد فوجئوا بتصريحات بعض الناشطين الإيرانيين أو مؤيديهم، التي تزعم أن الثورة الإيرانية كانت مختلفة عن الثورات العربية بسبب اخت لاف مستوى التعليم أو وجود طبقة وسطى. تُظهر هذه التعليقات ضآلة الدور الإيراني في سورية والمنطقة، وتتجاهل الدور المركزي الذي لعبته إيران بشكل خاص في قمع الاحتجاجات في سورية التي كانت، من حيث الأعداد والنسبة المئوية المطلقة للسكان، أكبر كثيرًا، على الرغم من أن النظام السوري وحلفاءه كانوا أسرع في التصعيد الوحشي.
الإفلات من العقاب
تعلَّم السوريُّون أنَّ معرفة العالم بالأعمال الوحشيَّة المطبَّقة ضدهم لا تؤدي بالضرورة إلى ردَّة فعلٍ دولية متناسبة معها، ولا تكفي لاتخاذ المجتمع الدولي الإجراءات الكفيلة بحمايتهم. فقد كان النظام السوريُّ قادرًا، مرارًا وتكرارًا، على تخطّي جميع المحرّمات التي فرضها المجتمع الدوليُّ، وكان واضحًا أنَّه يشعر بقدرته على تنفيذ أعماله الوحشية من دون عقاب. هل بات النقاش حول الأسباب الإنسانيَّة التي قد تسوِّغ التدخل الأممي الإنساني وتستوجب حماية المدنيين من الأعمال الوحشية شيئًا يشبه الحديث عن الأساطير؟
شيلر: لم يكن السوريون محظوظين حقًا. “لن تتكرر مرة أخرى” هو شعار يتكرّر بعد كل مجزرة جماعية أو إبادة جماعية، إلّا أنه نادرًا ما يتم تنفيذه. في التسعينيات، بدا مفهوم “المسؤولية عن الحماية” بمنزلة بصيص أمل. على أي حال، إن دعم مجلس الأمن لحماية الليبيين قد أعطى روسيا ذريعة لمنع أي محاولة أخرى مماثلة، وبدأ العديد من المراقبين يتوقعون أن ينتهي الأمر بسورية لتصبح مثل ليبيا – وهي إشارة مضللة من عدة نواحٍ. بادئ ذي بدء، لأنه على الرغم من أن الاضطرابات التي مرت بها ليبيا كانت وما زالت مأساوية، لكن على الأقل لم تكن هناك حكومة مركزية تقصف البلاد وتحوِّلها إلى أنقاض، وثانيًا: لا يمكننا معرفة ما كان سيفعله القذافي لو بقي في السلطة. قد يكون هذا في الواقع قد انتهى بالعنف على نحو مشابه كما هو الحال في سورية. ومع ذلك، بعد ليبيا، بدأت جملتان تتكرران كتعويذة: “لا يوجد حل عسكري” – التركيز كليًا على الدبلوماسية مع نظام ميت عازم على تجنب المفاوضات الجادة، وعلى السعي، إلى جانب حلفائه، لحل عسكري بالضبط. والثانية هي “إن التدخلات لا تنجح أبدًا”. من منظور ألماني على وجه الخصوص، يبدو هذا غريبًا، مع العلم جيدًا أنه من دون تدخل الحلفاء، لن نكون حيث نحن اليوم.
ولكن اليوم، يبدو الأمر كله متعلِّقًا بـ “السيادة”. لقد استُخدم احترام “سيادة” النظام حتى على الأراضي والحدود التي لا يسيطر عليها لتبرير التقاعس عن العمل عندما يحتاج السوريون إلى الحماية. حتى بعد الزلزال الرهيب الذي وقع في شباط/ فبراير 2023، لم تصل أي مهمات أمن وإنقاذ دولية إلى الفئات الأكثر ضعفًا التي تضررت بشكل خاص في إدلب السورية لأن الأمم المتحدة ومانحيها كانوا ينتظرون الإذن من النظام – الذي جاء، بسخرية، فقط بعد مرور أكثر فترة حرجة كان من الممكن إنقاذ آلاف الأرواح فيها.
بينت شيلر Bente Scheller
باحثة ألمانية، مديرة مكتب الشرق الأوسط لمؤسسة هاينريش بول في بيروت عام 2012، وهو منصب وصلت إليه بعد أن أدارت مكتب المؤسَّسة في أفغانستان في كابول بين عامي 2008 و2012. تحمل شهادة دكتوراه في العلوم السياسيّة من جامعة Freie Universität Berlin ومتخصِّصة بالسياسة الخارجيّة والأمن. عملت خلال الفترة من 2002 إلى 2004 في السفارة الألمانيّة بدمشق–سورية، وتسلمت في وقتٍ لاحقٍ، برنامج معهد أسبن في برلين. تُعلِّق بصورة متكررة على الشؤون الجارية في المنطقة في الصحف والإذاعات المختلفة، وتدوِّن في هاينريش فون أربيان.
رواق ميسلون