سورية بين إفراط التسلط وأوهام الحسم وصراع الكرامة/ لؤي صافي
في حوار أجراه معي “تلفزيون سوريا” في خريف عام 2019 ضمن حوارات برنامج “المنعطف”، سألني محاوري أنس أزرق عن مستقبل الصراع في سورية، فأجبته أنّ النظام أمام خيارين: استيعاب مطالب الشعب السوري والقيام بإصلاحات حقيقية في البلاد أو الاستمرار في نهج القبضة الحديدية واعتماد القوة المفرطة وجعل عملية ترميم الدولة السورية وإنعاشها مستحيلة. وأوضحت في إجابتي أن استمرار النظام في النهج الذي أدّى إلى انتفاضة الشعب سيؤدّي إلى أزماتٍ اقتصاديةٍ وماليةٍ خانقة. وسيؤدّي ذلك إلى تغريب (وتهميش) قوى سياسية وشعبية كانت داعمة للنظام، وصولاً إلى انهيار المجتمع والدولة. لم يكن ذلك تنبؤاً، بل استنتاج يصل إليه كل من درس المجتمع والتاريخ، وأدرك الخطوط العامة لأنساق الحياة التي تؤدّي إلى ارتقاء المجتمعات وسقوطها، فالمجتمعات الإنسانية تنهض باقتراب أبنائها من قيم العدل والتعاون والتكافل وتنهار باستشراء الظلم والفساد والاستبداد. هذه الأنساق من الوضوح بحيث يدركها الإنسان السوي بفطرته من دون الحاجة إلى الاستغراق في الدراسات التاريخية. نجد إشارات إليها في قصائد الشعراء قديماً وحديثاً، قبل أن نجد تفاصيلها في أبحاث المفكرين والباحثين.
وكما كان متوقعا، اختار نظام الأسد الاستمرار في نهج القمع والضرب بيد من حديد، ورفض الحل السياسي، واعتقد أن الحسم العسكري الذي تحقق بتدخل خارجي مباشر من حلفائه الإقليميين والدوليين يمثل نصرا عسكريا، فكانت النتيجة المتوقّعة استمرار تدهور مستوى الحياة ودخول البلاد في مرحلة خطيرة من الصراع من أجل البقاء. فبعد مرور عقد ونيف على رفض نظام الأسد كل المحاولات التي بذلها السوريون من أجل تغيير ممارسات النظام الغارقة في العنصرية والفساد وسياساته المُجحفة تجاه الأغلبية السورية، يعيش السوريون في البلاد حياةً تشبه تماما التي تعيشها الكائنات الحية في البراري والغابات. تقوم الحياة في سورية اليوم على السعي إلى تحصيل قوت اليوم والهروب من الأخطار التي تواجه من تخضع حياتُه إلى قانون الغاب ومبدأ القوة العارية التي يتيح للقوي أكل الضعيف. يمكن أن تستمرّ مثل هذه الحياة في عالم الحيوان، لأن هذا العالم يخضع لمبدأ الضرورة لا مبدأ الحرية، فالحيوانات تتحرّك وفق منطق الضرورات أو منطق الغرائز، وهذا يعني أن الحيوان القوي لا يأكل أو يستهلك إلا وفق مبدأ الضرورة، أي أنه لا يستهلك إلا ما يحتاجه من غذاء للبقاء على قيد الحياة. أما الإنسان الذي يمتلك القدرة على التفكير والتقدير والحساب، فهو يخضع إلى مبدأ الحرية ويتحرّك وفق منطق الخيارات. هذا يعني أن الإنسان الذي يمتلك السلطة والنفوذ يمكن أن يستهلك أضعافاً مضاعفة تزيد عن حاجته آلاف المرّات، وهو قادر لذلك، عند غياب الوازع الأخلاقي، من هدر الثروات الوطنية، بحيث يجعل استمرار الحياة الاجتماعية لمن يخضع لسلطته مستحيلا، وصولا إلى دمار المجتمع وهلاك الناس.
بعد عقود من الظلم والفساد والعدوان على الحقوق والممتلكات ممن يملك السلطة والقرار في سورية، انهارت الدولة بعد ثلاث سنوات من انطلاق الثورة السورية. وبعد عقد من القتل والتشريد والتدمير بدأ المجتمع السوري بالانهيار نتيجة فشل النظام في استيعاب دورس الماضي وإصراره على البقاء على حساب الإنسان والوطن. التضخّم في أسعار المواد الأساسية بلغ خلال الأشهر الماضية مبلغا لا يمكن لأحد تحمّله، بعدما تجاوز سعر الصرف الدولار الواحد حد 13 ألف ليرة سورية. يمكن فهم حجم الكارثة عندما ندرك أن دخل الأستاذ الجامعي الذي يتقاضى مرتبا شهريا مرتفعا نسبيا بالمقارنة بدخول المهن العامة الأخرى، والذي يصل إلى 220 ألف ليرة شهريا أو 16 دولارا، وهو يزيد قليلا عن الدخل الرسمي للوزراء. هذا يعني أن أجور كبار موظّفي الدولة السورية لا تصل إلى ثلث مستوى خط الفقر العالمي والمقدّر بحدود دولارين في اليوم للأسرة المتوسطة (60 دولارا شهريا). يعود السبب الرئيسي في تراجع دخل السوريين إلى ضعف الإنتاج الصناعي والتجاري والزراعي، بسبب تهجير أكثر من نصف السكان منذ بدء الانتفاضات الشعبية في مارس/ أذار 2011، بسبب تدمير النظام المدن والقرى السورية في محاولاته إعادة الشعب السوري إلى بيت الطاعة وتجاهله كل الدعوات إلى الإصلاح والتغيير الضروري لمحاربة الفساد المالي والإداري المستشري في البلاد.
النظام السوري الذي عوّل طويلا على دعم خارجي من حليفيه، الروسي والإيراني، واعتقد أن قادة الدول العربية الذي وصف بشار الأسد بعضهم بأنصاف الرجال سيسارعون إلى تقديم المال الكافي لإخراجه من أزمته الداخلية، بدأ يدرك متأخّرا أن المخرج الوحيد للبلاد يكمن في الإصلاح الداخلي. الكلام الذي صدر أخيرا عن مدير هيئة الإذاعة والتلفزيون السوري، ثم عن وزير الإدارة المحلية، عن توسيع المشاركة في القرارات السياسية بإعطاء المزيد من المشاركة للمواطنين من خلال المجالس المحلية يأتي من هذا الباب. لكنني أعتقد أن هذا الحديث الذي يلوكه بعض وجهاء النظام هو من باب تهدئة النفوس وتخدير المشاعر وذرّ الرماد في العيون، كما جرت العادة في كل الحلول السابقة التي تقدّم بها النظام، فنظام الأسد الذي يتحدّث بعض ممثليه عن مشاركة شعبية هو الذي فوّت الفرصة الذهبية في الدخول في حل سياسي من خلال مفاوضات جنيف، واختار تحويل هذه المفاوضات إلى ملهاة ومسرح للعب على الكلمات، وهو النظام نفسه الذي حوّل المصالحات التي قادتها روسيا وإيران لإنهاء الصراع العسكري في درعا وريف دمشق وحمص إلى فرصة لإذلال منتقديه والانتقام من دعاة الإصلاح والتغيير، بل حتى من المواطن العادي الذي اضطرّ إلى الهرب من نار الحرب بالنزوح إلى دول الجوار، فنظام الاستبداد في سورية يجيد فن اللعب على الحبال والتلاعب بالكلمات لكنه يفتقد إدارة الإصلاح والتغيير وتحقيق حلول منصفة، ففاقد الشيء لا يعطيه. الأمل اليوم ليس في النظام، بل في أن تفرز الآلام السورية روحا جديدة بين المخلصين والصادقين من أبناء الشعب السوري تدفعهم إلى اختيار مسار الكرامة والتعاون والبناء. حديث بعض المتنفذين داخل النظام عن مشاركة شعبية في القرار السياسي جهدٌ يرمي إلى تفويض المسؤولية لا تفويض السلطة والمشاركة في المسؤولية. يسعى النظام فقط إلى تحميل الناس مسؤولية الانهيار الاقتصادي من دون مشاركتهم بالسلطة والقرار، وهي مشاركة ضرورية لإيقاف التدهور والانهيار.
إخراج سورية من أزماتها الخانقة التي وصلت، أخيرا، إلى عمق حاضنة النظام يتطلب تغييرا حقيقيا يبدأ بتحرير الوطنيين المعتقلين في سجون النظام، وإعادة المهجّرين، ومنهم الصناعيون وأصحاب التجارة والأعمال، للمساهمة في بناء الحياة وتعمير الأوطان. وهؤلاء لن يعودوا طالما بقيت سورية تحت وصاية طغمةٍ حاكمة لا عهد لها ولا أمان، طغمة تدير البلاد وكأنها مزرعة خاصة بها وتتعامل مع الشعب وكأنه قطيع من الخدم الذين خُلقوا لخدمة ذواتهم المتورّمة. خروج سورية من أزمتها يتطلب جهود كل السوريين داخل البلاد وخارجها، لكن المهجّرين والمغتربين منهم، وهم الأغلبية المستباحة، لن يساهموا في إعادة البناء والعودة لإخراج الدولة مما هي عليه ما لم تتغير السياسات العامة، وينفتح النظام السوري على المشاركة الوطنية الحقيقية، وما لم يخضع الحاكم والمحكوم إلى قانون عادل يحترم حقوق الجميع. نظام الأسد غير قادر على الإصلاح، ما يعني أن الألم مستمرّ سنوات عديدة، وأن المتضرّر الأكبر هذه المرّة ستكون حاضنة النظام التي لم يجبر الأسد أبناءها على الهجرة، ولم يسع إلى التضييق عليهم وتدمير إحيائهم وقراهم خلال العقود الماضية. المفارقة اليوم أن حاضنة النظام هي الشريحة الوحيدة التي ليس لديها أبناء في المهجر يمدّونها بالمعونات والتحويلات الشهرية الضرورية للاستمرار والبقاء. ولعلّ المخرج من هذه الكارثة في أن تدرك حاضنة النظام أخيرا أن الحلّ يكمن في مد الجسور وتعاون السوريين وبناء الثقة بين أبناء الوطن الواحد، وأن يدرك السوريون جميعا أن معاناتهم مستمرّة ما استمر النظام، وأن الصراع من أجل البقاء لن ينتهي إلا مع تحوّله إلى صراع لتحقيق الكرامة للجميع، والتحرّر من تسلط من قاد البلاد إلى الهاوية، فلا خلاص للسوريين إلا في تلاحمهم وتعاونهم وتراحمهم والتزامهم بالقيم العليا التي ترفع الإنسان وتمنع الظلم والفساد والعدوان.
العربي الجديد