“قصة سجين” والنزيف السوري/ عمار ديوب
حدّد معدُّ برنامج “قصة سجين” على “يوتيوب” مروان محمد الهدف منّه بأنّه خاص بسجناء رابطة وحزب العمل الشيوعي؛ السوريين. أنجز أكثر من 15 حلقة، وجرت المقابلات مع شخصياتٍ قياديّة ومتوسطة في هذه التنظيمات. سردوا جميعهم كيف تعرّفوا على هذه التنظيمات، وحياة التخفّي، والاعتقال والسجن، وترك لهم مروان فسحة ليتحدّثوا عن قضية يودّون التركيز عليها في نهاية التسجيل.
شاهدت تلك الحلقات، أغلبية المنضوين في التنظيمات هذه كانوا في المرحلة الجامعية، واعتقلوا ومنعوا من إكمال دراستهم، ولمدّدٍ تصل إلى أكثر من 20 عاماً، وهو الحكم الذي أصدره النظام على عبد العزيز الخيّر في التسعينيات، المختطف بعد عودته من الصين في 2013، ولم يَعترف النظام به، وهو حال آلاف الشباب الذين اعتقلوا قبل 2011 وبعده.
المستمع لسرد السجناء عن أنشطتهم وحياتهم لا يمكن إلّا أن يقول إنّها كانت كارثية. فهم أولاً أصحاب رأي وموقف سياسي وإصدار صحيفة، ولكن أحلامهم كبيرة، لا تقف عند مقارعة النظام، بل وتحرير فلسطين، وقد كانت قضية فلسطين قضيتهم؛ فشاركوا في لبنان بأعمالٍ عسكريةٍ وصحافية، وفي سورية كانت نشاطاتهم سلميّةً، ومن أجل حرّية سورية وتحرير فلسطين.
الملفت للانتباه أن معظم سجناء ذلك الحزب كانوا شباباً، وخرجوا بأوائل الأربعينات أو الخمسينات، وهذه حال أغلبية القوى السياسية السورية من أحزاب يسارية أو إسلامية أو قومية وسواها؛ من دون أن نتجاهل الفارق بين معاناة الإسلاميين واليساريين، وموت أغلبية الأوائل في المعتقلات. الكارثة أن هؤلاء السجناء هم الأكثر تميّزاً في التحليل السياسي، ومنهم مثقفون وكتّاب ومترجمون وصحافيون وسواهم. لنقل إنهم مشغولون بالهم العام، وهذا ما دفع النظام إلى اعتقالهم.
المؤلم أن سورية خسرت طاقات هؤلاء، و”ذبحتهم” في المعتقلات والسجون ليس سنوات بل عقوداً، والكلام يخصّ كل الأحزاب المعارضة، بما فيها الإسلاميون. وترافقت تلك الخسارة مع تكوّر المجتمع على نفسه، وعدم قدرة الفئات المشغولة بالهم العام، والقضايا الثقافية، ممن لم يتعرّض للاعتقال على المواجهة. لقد فرض النظام إغلاقاً تاماً للحياة الصحافية أو السياسية أو الثقافية الحرّة؛ الجميع تحت مساطر الأجهزة الأمنية، وكل من يخترقها بنقدٍ أو بحراك ما، تتحرّك تلك الأجهزة لقصّ استطالته، استدعاءً فتحقيقاً فاعتقالاً فسجناً فابتزازا للأهالي وسرقة أموالهم، ومن هذا الكثير.
خسرت سورية طاقاتٍ فذّة، ومَنعَ ذلك الأخرين من التجرّؤ على المعارضة أو النقد الجاد. فئات أخرى تركت البلاد وهاجرت؛ حين نضع كل ذلك النزيف إلى جوار بعضه، يتبيّن لنا أن سورية ذبحت وليس فقط هؤلاء السجناء؛ فحينما تُجتثّ الفئات الشابة الأكثر انشغالاً بالعام والثقافة، فحينها ستتقدّم تيارات ثقافية وفكرية أخرى. عمل النظام، بكلِّ طاقاته، على إعادة المجتمع إلى مرحلته الأهلية، وتحطيم الروابط المجتمعية الوطنية والقومية وطبعاً اليسارية. مع أزمة الثمانينيات، تعمّقت المشكلة الاجتماعية هذه، ومع عدم حلّها، أصبح أغلب السوريين يفكّرون سياسيّاً بالمنطق الطائفي.
يوضح الاستماع لهؤلاء السجناء لنا المنطق المناهض لمنطق السلطة، أي منطق المجتمع الذي كان يتبنّى الانفتاح على الآخرين المختلفين طائفياً، شريطة عدم الاصطفاف مع النظام؛ لا نتكلّم عن القوى السياسية الطائفية أو ممن مصالحه مع النظام. وأزعم، أيضاً، إن تلك القوى لم تذهب نحو الخيار الطائفي إلّا بسبب شدّة القمع وإغلاق مجالات الحياة السياسية. ولولا ذلك، لرأينا قوى طائفية أقلّ تشدّداً، وهو حال الإخوان المسلمين في كل الأحوال في الخمسينيات مثلاً، وتشهد على ذلك الخلافات بين تيارات في الإخوان على العمل المسلح في الثمانينيات، وتفضيل بعضها السلميّة.
أجمعت اللقاءات مع السجناء على أن ما بعد 2011 هو الأكثر فظاعة ووحشية. لم تعد لدى النظام أيّة تحفظات على أشكال القمع والإخفاء والاعتقال والقتل. لم تعد البلاد قابلة للعيش، وهو، في كل الأحوال، ما تقوله أغلبية تقارير المنظمات الحقوقية. في أثناء الحرب التي شنّها النظام على الشعب بعد 2011، أصبح النزيف نحو الخارج القضية الأخطر في سورية. هُجِرَ الناس وهاجروا ونزحوا. أغلبية السجناء والملايين تركوا البلاد. لم يعد النزيف مقتصراً على السياسيين السابقين وثوّار التنسيقيات، بل صار وجهة الأغلبية الساحقة للشباب في سورية؛ حتّى الموالين. كانت الكلفة بسيطة في 2011، أن يُزاح النظام ويتوقّف النزيف، ولكن هيهات هيهات أن تسمح الدول المتدخّلة بالشأن السوري بذلك، وهو موقف النظام أيضاً؛ فقد أخذت العائلة المالكة السلطة بالقوة ولن تتنازل عنّها إلّا بالقوة، وهو ما فشلت فيه الفصائل المسلحة، أيّما فشل، وشكّلت سلطات استبدادية وفاسدة، تشبه النظام السوري تماماً، وشكّلت تلك السلطات سبباً طارداً للشباب وللسوريين؛ فاستمر النزيف؛ نعم تكاد سورية أن تخلوا من الشباب.
هناك مجزرة حقيقية حصلت إذاً في سورية. لا تتعلق فقط بالمجازر التي نقرأ عنها هنا وهناك؛ المجزرة هي في هجرة أكثر من ثمانية ملايين، وبصفة خاصة من الشريحة الشبابية. لا يعود الشباب وقد بدأوا حياة جديدة في المهجر، وها هي ألمانيا مقبلة على قانونٍ جديدٍ للهجرة، لاستيعاب أكثر من مليون شخص، وما أسمعه في سورية أن شبابا كثيرين، “ذكورا وإناثا” يتعلّمون اللغة الألمانية لترك البلاد.
ماذا بقي من سورية إذاً؟ الوصول إلى حلٍّ سياسيٍّ سيغيّر بعض الأفكار، وسينتشل بعض الناس من الإحباط واليأس، ولعن الوطن إلى التفكير بالعودة إليه. ولكن واقعياً، وبعد أكثر من 12 عاماً، “والتنعّم” بالحقوق، وهو هدف الثورة السورية 2011، وبالتالي، وبعد أن” تحقّق لهم”، فبكل تأكيد لن تعود إلى سورية إلّا أعداد شحيحة.
أَفرغ الاستبداد سورية من أهلها، بدءاً بكبار الرأسماليين في الستينيات والسبعينيات، ومروراً بتصفيات أجنحة “البعث” لبعضها، ولاحقاً من الإسلاميين، وبعد ذلك من اليساريين، ولاحقاً هُجِر الملايين. منذ تشكّل سلطته في السبعينيات تمّ الإجهاز على الفئات الأكثر انشغالاً بالمجال العام؛ إذاً تراكمت في سورية الواقعية، والمقسّمة إلى أربعة، الكثير من الانقسامات، والتدخّلات الدولية، وليس هناك من آمالٍ عريضة حتى في حال البدء بحلٍ سياسي.
ليست القضية عاطفية أو تيئيسية، أو مسألة إحباط، يأكل من القلب. لا. القضية واقعية بامتياز؛ ما لم نعد الحق إلى أهله، وبدءاً بالسجناء السابقين واللاحقين، وضمن إجراءات قضائية وبعيداً عن المواقف الشخصية المنحازة، لن يفكّر المهجّرون في العودة، هذا عن عادوا.
الواقعي الآن أن النزيف مستمر، وسببه استمرار النظام في الحكم؛ رحيله فقط هو ما يسمح بالتوقّف، ولكن، هذا ليس كل شيء.
العربي الجديد