الثورة السورية تحت عدسات “الموبايل”/ مالك داغستاني
في الثالث من شباط/فبراير عام 2012، كنت ما زلت في مدينة حمص، حين حدثت ما سوف تعرف فيما بعد بمجزرة الخالدية. كانت المرة الأولى التي استخدم فيها جيش الأسد قذائف الهاون بمواجهة السوريين. بدأ صديقي يلحّ بأنه يجب الحصول ولو على مقطع مصوّر واحد يثبت استخدام النظام للقذائف المدفعية ضد المدنيين. كان صديقي يعتقد، وقد جاريته في اعتقاده، أن مقطعاً كهذا سيُحدث تحولاً دولياً حاسماً اتجاه نظام الأسد. حكومةٌ تقصف مواطنيها بالهاون! إنها سابقة تاريخية لم تحدث من قبل في أي بلد آخر، فقذائف الهاون تستخدمها الجيوش الغازية. طبعاً كان صديقي مقتنعاً أن صمت العالم عن مجزرة حماة عام 1982 كان بسبب أنها مرت بدون أن يوثقها أحد، أما اليوم، أي مع بداية ثورة السوريين، فإن كل شيء قد تغيّر في تلك القرية الصغيرة التي تدعى كوكب الأرض. اليوم صديقي وأنا نتذكر تلك المحادثات على أنها من طرف تلك الأيام.
بعد أقل من أربعة أشهر على مجزرة الخالدية، يوم 25 أيار/مايو، حدثت مجزرة أخرى في ريف حمص الشمالي الغربي، وستعرف فوراً تحت مسمى مجزرة الحولة. حينها كانت الأمور تغيرت دولياً، وكان العالم بدأ يتلمس أكثر كذب روايات نظام الأسد عما يحدث في سوريا. تصادف خلال وقوع المجزرة وجود هيئة للمراقبين الدوليين من الأمم المتحدة في سوريا. تحركت اللجنة في اليوم التالي لوقوع المجزرة وزارت بلدة تلدو، وسمعت شهادات الأهالي وعاينت جثث الضحايا. كان بينهم عشرات الأطفال وعشرات النساء. واعتقدنا حينها أن نظام الأسد قد وقع في شرّ أعماله.
يوم المجزرة كنت قد غادرت سوريا، ومن إسطنبول كنت قريباً جداً من تحقيق أجراه مدعون عامون دوليون، ومختصون محترفون، حضروا خصوصاً، وقابلوا، عبر وسائل التواصل، شهود عيانٍ نجوا من المجزرة. كانت الشهادات المسجّلة متطابقة، ولا تترك أي لبسٍ حول الجهة التي ارتكبت الجريمة. حينها اعتقدتُ أيضاً أنه خلال أيام أو أسابيع من مغادرة المحققين، سيتغير كل شيء، وسيعرف العالم أن سوريا تحكمها عصابة من المجرمين. لم تتحول استنتاجاتي تلك إلى طرفة أتداولها مع الأصدقاء اليوم، لكنها كانت كابوساً دائماً يؤكد مع مرور الأيام، زيف الادعاءات الدولية. كان أشدّ ما فعلته بعض الدول إثر المجزرة أنها اكتفت بسحب سفرائها من سوريا.
يمكنني الاسترسال أكثر. عن عشرات، بل ومئات المواقف المشابهة، ومع ذلك سأتوقف هنا. ولكن لماذا أذكر تلك الحوادث بعد مرور أحد عشر عاماً على حصولها، رغم أن كل العالم بات يعرف عنها ربما أكثر منّا؟ أنا إنما أفعل ذلك لاستعادة السيرة الأولى التي تم تشويهها بدأب ومثابرة من نظام الأسد وحلفائه، وبصمت مريب من (أعدائه) حتى. تخطر لي اليوم مقابلة تلفزيونية لناصر قنديل، جَرو حزب الله الذي استأسد على السوريين، أجراها عام 2014 على ما أذكر. قال فيها، وكان لقوله دلالة بالغة، يجب أن تبقى اللوحة مقتصرة في المستقبل على طرفين فقط، هما الحكومة السورية من جانب وداعش من الجانب الآخر.
وهذا ما دأب على تكريسه نظام الأسد وساعده للأسف كثير من السوريين، ليتم (إقناع) الرأي العام العالمي بأن بديل الأسد إنما هي منظمة إرهابية إسلامية متطرفة، وهو ما بدأ يظهر جلياً على كل الشاشات الدولية في تلك الفترة. مقاتلون ملثمون يحاولون الإطاحة بنظام الأسد. كان هؤلاء الملثمون وهم يحملون سيوفهم، أسوأ رسائل نظام الأسد إلى الثورة، وأنجحها إلى العالم. فبدلاً مما عرف سابقاً بالجيش الحر، وهو على شرذمته، كان يبدو بمثابة وحدات حماية شعبية مبعثرة بمواجهة نظام مجرم، تحولت اللوحة لتغدو عصابات إرهابية تحاول الإطاحة بنظام ليس بأسوأ منها، حسب أعراف السياسة الدولية.
بالعودة إلى البدايات، وإلى توثيق المجازر التي ارتكبتها قوات الأسد والحلفاء. دأب الناشطون في تلك الفترة على متابعة التدريب على أصول التوثيق الاحترافي، الذي يمكن أن يستخدم كدليل قانوني بمواجهة مرتكبي الجرائم. للحقيقة لقد تفوقوا في هذا الأمر، وهناك اليوم آلاف المقاطع المصورة غير المعروضة، تقبع في أرشيفات بعض المنظمات الحقوقية، ولدى كثير من الدول أيضاً. من صوروها ربما ينتظرون بإحباطٍ نتائج جهدهم وتضحياتهم من أجل إنصاف السوريين. بعض هؤلاء الناشطين فقدوا حياتهم خلال عملهم هذا.
اليوم تتحول الصورة دولياً، إلى معارضة فشلت في كسب الحرب بمواجهة الأسد، ما يجعل الدول تتحول إلى الواقعية السياسية، وهذا دأبها. أما لوحتنا أو حكايتنا نحن فبدأت بالخفوت، وهذا ما يجب الحيلولة دونه. يجب أن تبقى الحكاية عن الضحايا من السوريين الذين واجهوا هذا النظام فانتهوا إلى السماء أو أقبية التعذيب. وعلى الدوام، بمواجهة الواقعية السياسية التي تفضي إلى إعادة تعويم الأسد، يجب أن يبقى السؤال: وماذا عن مئات آلاف الضحايا؟ ومن باب الواقعية السياسية يمكن هنا جمع الضحايا السوريين من الطرفين. ضحايا مجازر الأسد، والضحايا ممن ورطهم الأسد ليقاتلوا في جيشه ومن أجل بقائه. فهل فشل هؤلاء كالمعارضة؟ وهل من الواقعية أن يبقى قاتلهم بلا محاسبة؟
وإذا سألتْ الأمهات، خصوصاً أمهات من سقطوا شهداء في المظاهرات السلمية، وهم يهتفون من أجل بلاد حلموا أن تكون حرّة، خلال العام الأول على الأقل. فبماذا ستجيب الواقعية السياسية؟ ماذا لو اقتحم أهالي الضحايا اللوحة، وأخبروا العالم أن الثورة لم تكن ثورة المعارضة بمواجهة الأسد، وإنما هي ثورتهم هم وثورة أبنائهم. ثورة السوريين البسطاء الذين أذلّهم الأسد، وسجن وقتل أبناءهم وآباءهم لنصف قرن مضى، وإن كل أعضاء تلك المعارضة التي خسرت الحرب وفشلت بمواجهة الأسد، إنما جاءت إلى المشهد تالياً.
ما أكتبه هنا ليس بكائية تستدعي الدموع. هي ببساطةٍ الحكاية السورية الحقيقية بعيداً عن “كلبيّة السياسة”، والتزييف الإعلامي بما يتوافق مع ما يريده أصحاب المصالح. الحكاية التي نستطيع رواية يومياتها، وقد وثقها شبّان بعدسات هواتفهم يوماً بيوم بل وساعة بساعة، ولا يستطيع الدبلوماسيون والسياسيون أن يغيروا فيها، مهما علت مناصبهم وأصواتهم. يمكن للقوى الفاعلة أن تركل المعارضين المهزومين على أقفيتهم وتطردهم من المؤتمرات لو أرادت، ولكنها لن تستطيع خلال ذلك إعلان انتصار المجرم على الناس. لا يمكن تجاهل أصل الحكاية والجريمة، واعتبار أن من الواقعية السياسية أن يحكم مجرم الحرب شعباً من عائلات ضحاياه.
تلفزيون سوريا