“الطريق إلى كالاماتا”: “من حاول إنقاذنا من الغرق هو من أغرقنا”
الوحدة السورية للصحافة الاستقصائية – Siraj
شهادات تؤكد أن خفر السواحل اليوناني أغرق قارب المهاجرين وتلاعب لاحقاً بشهادات الناجين
محمد بسيكي- علي الإبراهيم-إيمان الشربيني- منال الحسن (سراج)، بشار ديب – وجنى بركات من “درج” و سارا كريتا وتوما ستاتيو (لايت هاوس ريبورتس)، مهند النجار (دير شبيغل)
تكشف إشراقة الرابع عشر من حزيران/ يونيو ما كان سراً في الظلام، إذ غرق مركب يحمل نحو 750 شخصاً في المياه الدولية قبالة شبه جزيرة بيلوس اليونانية. كان المركب قادماً من شاطئ طبرق شرق ليبيا، بهدف الوصول إلى إيطاليا.
نجا 104 رجال فقط، فيما غرق جميع الباقين، بمن في ذلك جميع النساء والأطفال على متن المركب.
من بين الناجين كان يوسف (اسم مستعار لأسباب أمنية)، وهو شاب سوري (27 عاماً)، فيما إلى الآن هناك أكثر من 500 شخص لم تعثر السلطات اليونانية عليهم منذ ذلك الحين، مع انتهاء عمليات البحث والإنقاذ المكثّفة.
في مطلع 2021، قرر يوسف الهروب من سوريا والسفر إلى أوروبا عبر ليبيا.
وفي نهاية العام ذاته، وصل إلى تركيا واستقل الطائرة التي أقلته إلى مطار بنينا الدولي في مدينة بنغازي الليبية. كان هدف الشاب النهائي الوصول إلى الساحل الإيطالي، مثل الكثير من الشباب الآخرين الذين يهربون من إفريقيا والشرق الأوسط بحثاً عن حياة أفضل في أوروبا.
عند وصوله إلى المطار، تم استلام جواز السفر منه وطُلب منه الانتظار في ساحة داخل المطار. بعد فترة قصيرة، جاء شخص يُدعى أبو نبال ونادى باسمه، وكان بحوزته جواز سفره الخاص، وركب السيارة معه وسافرا لمدة ساعتين حتى وصلا إلى منطقة تُدعى طبرق.
على ساحل البحر الأبيض المتوسط، تقع مدينة طبرق (1300 كيلومتر شرقاً عن العاصمة الليبية طرابلس)، وتُعتبر إحدى الوجهات التي يستهدفها السوريون وغيرهم من الراغبين في الوصول إلى أوروبا.
للسفر عبر ليبيا إلى الدول الأوروبية الساحلية، بخاصة إيطاليا أو اليونان، يجب على الأشخاص التواصل مع الوسطاء المرتبطين بالمهربين النشطين في مدينة طبرق والمناطق المجاورة، لتسلّمهم فور وصولهم من المطار ونقلهم إلى معسكرات الانتظار.
في عام 2022، حاول 253,205 أشخاص عبور البحر المتوسط، اعتُرض طريق 42 في المئة منهم في البحر وأُعيدوا إلى ليبيا، رغم أن ليبيا لا تعدّ مكاناً آمناً بحسب منظمة أطباء بلا حدود.
وأحصت المنظمة الدولية للهجرة (IOM)، وفاة 3800 شخص على طريق الهجرة من منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، خلال عام 2022، وهي أعلى حصيلة منذ عام 2017. وذكرت المنظمة في تقريرها الصادر في 13 حزيران الماضي، أن 4255 حالة وفاة وثّقتها البيانات الصادرة حديثًا عن مشروع المهاجرين المفقودين التابع للمنظمة.
هذه المعسكرات تكون عادةً عبارة عن هنغارات أو مخازن فارغة في الصحراء أو على أطراف البلدات لتفادي لفت الانتباه، إذ يبقى المهاجرون فيها بانتظار الوقت المناسب لساعة الصفر، وهي ركوب البحر، كما يمنع على الراغبين في الهجرة إذا ما تم إيداعهم في هذه الهنغارات، التواصل مع العالم الخارجي، بعد أن تسحب منهم كل وسائل التواصل وعلى رأسها الهاتف المحمول، كما يقول 10 أشخاص قصدوا أوروبا عبر ليبيا لفريق التحقيق.
بصوت مرتعش يقول يوسف: “وضعني أبو نبال في سيارته – كانت السيارة مفيّمة – ظلال سوداء لا يمكن أن ترى ما بداخلها، مشينا نحو ساعتين ثم نزلنا أمام هنغار، صادر منا التلفون، فتّشونا، وأدخلنا الى الأقسام داخل الهنغار، حيث بقيت محتجزاً لثلاثة أشهر”.
كان من الصعب توفير دليل مرئي لتحديد سبب حادثة الغرق، إذ حدثت في وسط البحار وتم إبعاد السفن التجارية والطائرات المراقبة بأمر من السلطات اليونانية. تعذّر الوصول إلى مقاطع الفيديو التي كان قد صوّرها الناجون على هواتفهم بسبب تلفها بالماء أو فقدانها.
تشاركت الوحدة السورية للصحافة الاستقصائية – سراج، وموقع “درج” مع Lighthouse Reports، ودير شبيغل Der Spiegel، و EL PAÍS و Reporters United و Monitor في التلفزيون الألماني، وصحافيين من المناطق نفسها التي جاء منها الركاب للتحقيق في انقلاب المركب وحيثيات الحادث. أجرينا 17 مقابلة مع الناجين – وهو أكبر عدد تم جمعه في تحقيق واحد حول الحادثة حتى الآن – مقارنة شهاداتهم. كما تحدثنا مع مصادر داخل وكالة حماية الحدود الأوروبية “فرونتكس” والمفوضية الأوروبية.
كذلك حصل فريق التحقيق على وثائق قضائية حاسمة تحتوي على مجموعتي شهادات قدمها التسعة ناجين أنفسهم. تحدثوا أولاً إلى حرس السواحل اليوناني ثم إلى محكمة يونانية محلية.
ساعة الصفر
في الثامن من حزيران الماضي، جاء السمسار أبو نبال، الذي يعمل لصالح المهربين في ليبيا، وطلب من الشاب يوسف ومن جميع الأشخاص في الهنغار الاستعداد. صعدوا جميعاً في سيارة براد مغلقة تماماً، باستثناء فتحات للتهوية في السقف. بعد ساعتين، وصلوا إلى مكان غير معروف، وطُلب منهم النزول. ساروا على طريق منحدر صعب في سفح جبل لمدة ربع ساعة، ثم وصلوا إلى الشاطئ.
وجدوا أنفسهم أمام الماء وسمعوا صوت خرير الماء وهدير الأمواج، حسبما قال الشاب لفريق التحقيق.
تم تقسيمهم إلى مجموعات صغيرة، ووضعهم على عجل في قوارب مطاطية صغيرة، ثم نُقلوا إلى مركب كبير يُطلق عليه اسم “الجرافة”.
عند الشاطئ وقبل صعودهم إلى القوارب المطاطية الصغيرة، شاهدوا مئات المهاجرين من جنسيات وخلفيات مختلفة.
عند الفجر، في تمام الساعة الخامسة، وجدوا أنفسهم 750 شخصاً على مركب واحد (الجرافة)، معهم النساء والأطفال وكبار السن والشباب، ومعظمهم من مصر وسوريا وباكستان.
بعد مرور ثلاثة أيام في البحر، ظهر شخص ملثّم يخفي وجهه كلياً، وصاح “لقد تهنا في البحر”.
وفق إيهاب الراوي من مجموعة الإنقاذ الموحد، التي تضم ناشطين يعملون على مساعدة المهاجرين، كان من المتوقع أن يصل القارب إلى وجهته خلال ثلاثة أيام. ولكن تغيرت الأمور وتم تحويل القارب إلى مكان غير صحيح، ما أدى إلى تدهور الوضع بسبب نقص المياه. وقد توفي ستة أشخاص بسبب العطش، بينهم سوري من مدينة حمص وآخر باكستاني. وبعض الركاب شربوا المياه المتوافرة في محرك القارب بسبب العطش الشديد.
تايم لاين:
رُصد المركب المكتظ بواسطة طائرة مراقبة تابعة لوكالة الحدود الأوروبية وخفر السواحل “فرونتكس” في 13 حزيران وإبلاغ السلطات اليونانية بالوضع من جانب الوكالة.
* الساعة 14:17 توقيت وسط أوروبا CEST،
تلقت مبادرة Alarm Phone
المعنية بنجدة الأشخاص في البحر، أول مكالمة من القارب، وذكروا أنهم في وضع صعب وطلب منهم مشاركة إحداثيات الموقع الجغرافي GPS – Global Positioning System.
* الساعة 14:00 أرسلت السلطات اليونانية طائرة استطلاعية (هليكوبتر) لتفقد المركب.
الساعة 15:52 تلقت المبادرة اتصالين من المركب لكن “كان من المستحيل فهمها”.
صورة
image2
سفينة لاكي سيلر Lucky Sailor تقترب من المركب بعد الساعة 16:17 CEST.
الساعة 16:53، تم إبلاغ خفر السواحل اليوناني بأن هذا المركب في محنة، إذ طلب الناس المساعدة. وقد تم بالفعل تنبيه السلطات اليونانية، وكذلك فرونتكس ومفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في اليونان، وكذلك إيطاليا ومالطا.
صورة
image3
البريد الإلكتروني الذي أرسلته مبادرة Alarm Phone على شكل استغاثة للسلطات اليونانية والأوروبية قبل أكثر من 8 ساعات من غرق المركب .
صورة
image1
الوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل فرونتكس ردت على رسالة “Alarm Phone” بأنها أبلغت اليونان. مواقع التواصل الإجتماعي.
الساعة 17:14 مكالمة أخرى من المركب تفيد بأن ركابه في محنة ولكن لا يمكن سماع أي شيء.
الساعة 17:20 مكالمة أخرى يقول الركاب فيها إن القبطان غادر على متن قارب صغير وأنهم بحاجة إلى الطعام والماء.
الساعة 18:00 تم التواصل مع شركة السفينة التجارية “Lucky Sailor”، وتم الإبلاغ بأنهم بالقرب من قارب وهو في محنة، وقالوا إنهم يعملون فقط بأوامر خفر السواحل اليوناني.
سفينة أخرى اقتربت من القارب كانت ناقلة النفط after 20:00 CEST Faithful Warrior.
صورة
image4
22:00 وصول سفينة خفر السواحل اليوناني الى جانب المركب.
الساعة 00:46 يوم 14 حزيران، رُصد آخر اتصال بالمركب، لكنه لم يكن واضحاً والكلمات غير مفهومة، وسرعان ما انقطع الخط.
01:04، بدأ المركب بالغرق حسب قبطان سفينة خفر السواحل اليوناني.
01:12، أرسل خفر السواحل اليوناني أول نداء استغاثة الى السفن في المنطقة للمشاركة في عملية الإنقاذ.
01:54، وصل اليخت الفخر Mayan Queen الى منطقة غرق السفينة للبدء في عملية الإنقاذ، في الدقائق والساعات التي تلي وصوله، سفن كثيرة ستصل أيضاً.
الساعة 06:37 CEST غيّر اليخت الفاخر Mayyan Queen مساره بحسب ما تظهر سجلات الملاحة في موقع Marine Traffic عند الانتهاء من عملية الإنقاذ التي استمرت لمدة ثلاث ساعات، قبل التوجه إلى كالاماتا بعد إنقاذ 100 شخص على متنه.
صورة
image5
غيّر Mayyan Queen مساره 06:37 CEST لإنقاذ 100 شخص بعد انقلاب القارب.
في الساعات الأولى من فجر يوم 14 حزيران، غرق المركب في المياه الدولية قبالة شبه جزيرة بيلوس اليونانية، ولم ينجُ سوى 104 أشخاص، بقي المهاجرون ينتظرون الإنقاذ نحو 13 ساعة من اللحظة التي صوّرتهم فيها طائرة الاستطلاع التابعة لفرونتكس الساعة 11:49 توقيت وسط أوروبا ولغاية انقلاب المركب الساعة 1:05 توقيت وسط أوروبا.
ووفق شهادات الناجين، دفع الركاب مبالغ مالية للمهربين لنقلهم إلى إيطاليا، تتراوح بين 3,500 و 4,500 دولار أميركي للشخص الواحد. وبذلك، يكون إجمالي المبلغ الذي جُمع من هذه الرحلة نحو 3.37 مليون دولار أميركي (750 × 4,500 دولار). ناهيك بالتكاليف التي يتحملها الأشخاص للوصول إلى ليبيا من بلادهم أو من الدول المجاورة مثل لبنان والأردن وتركيا.
السلطات اليونانية علمت بالمركب
علم فريق التحقيق أنه وضمن عملية رصد مشتركة Themis “ثيميس” بين وكالة مراقبة الحدود الأوروبي “فرونتكس” والسلطات الإيطالية، نجحت طائرة استطلاع يوم 13 حزيران، بتحديد موقع المركب المكتظ ضمن منطقة البحث والإنقاذ اليونانية في المياه الدولية.
بحسب البيانات، استمر المركب بالإبحار نحو الشمال الشرقي بسرعة تبلغ ستة عِقدات في الساعة.
على الفور، تم إبلاغ السلطات اليونانية والإيطالية بذلك، وتم تقديم “تفاصيل حيوية عن حالة المركب وسرعته مع أدلة بصرية”.
وظلت طائرة الاستطلاع تراقب لمدة عشر دقائق، الى أن اضطرت للعودة إلى القاعدة بسبب نقص الوقود.
بحسب رد فرونتكس على أسئلة فريق التحقيق، أكدت الوكالة أنها قدمت عروضاً لتوفير دعم جوي إضافي للسلطات اليونانية في اليوم نفسه، لكنها لم تتلقّ رداً من السلطات اليونانية، واقتصر الرد اليوناني على طلب المساعدة في حالة بحث وإنقاذ قبالة سواحل كريت، حيث كان 80 شخصاً في خطر فوري.
بعد ذلك بنحو أربع ساعات، تحديداً الساعة 04:05 بالتوقيت العالمي (6:05 بتوقيت أوروبا)، عادت الطائرة من دون طيار سريعاً إلى موقع المركب في بيلوس Pylos، ورصدت أن السلطات اليونانية تقوم بعملية بحث وإنقاذ شاملة.
“لكن للأسف، لم يكن هناك أي أثر لسفينة الصيد المزدحمة”، ما يعني أنها غرقت.
أحمد الحق، (اسم مستعار لأسباب أمنية)، ينحدر من مدينة درعا، جنوب سوريا، (26 عاماً)، نجا من حادثة الغرق، يتحدث أكثر عن الطائرة التي شاهدها في السماء وعن الظروف التي كانوا يعيشونها في تلك اللحظات.
كان الشاب قد وصل إلى ليبيا من الأردن مع أخيه وابن خالته، وظلّوا جميعاً في المخازن محتجزين لدى المهربين، وممنوعين من التواصل مع العامل الخارجي لمدة أكثر من 3 أشهر، إلى أن طلب منهم المهرب الاستعداد لركوب القارب باتجاه إيطاليا، موضحاً لهم أن الفترة التي يمضونها في البحر لن تزيد عن الثلاثة أيام.
يروي الشاب بصوت مرتجف مبحوح: “بعد يومين من الإبحار من طبرق الليبية، ضعنا في البحر وتاه القبطان… عرفنا بعدها أنه مات… هنا طلبنا النجدة، فجاءت طائرة لكنها لم تفعل لنا شيئاً… بعدها، رأينا باخرة تبحر بجوارنا فطلبنا منها المساعدة”.
يقول أحمد في مقابلة مع فريق التحقيق: “مرت بجانبنا سفينة نقل نفط كبيرة جداً، مكتوب عليها “ممنوع التدخين” بالإنكليزي – ربطوا قاربنا بالسفينة وأصبحنا قريبين منهم. رموا لنا الماء فتجمع الناس ليشربوا، ما أحدث فوضى على القارب، هنا خشينا من انقلاب المركب فابتعدنا من السفينة”.
يشير أحمد الى أن من حاول إنقاذهم من الغرق هو من أغرقهم فعلياً! كيف ذلك؟
يرد بالقول: “بعدما ابتعدنا من سفينة النفط، وصل إلينا خفر السواحل اليوناني محاولاً الإنقاذ، ربطوا قاربنا مع زورقهم بعدما وقفوا بجانبنا بشكل زاوية… مشي زورق خفر السواحل بسرعة كبيرة وهو يجر قاربنا المترنّح… لم يثبت القارب الذي اهتز يميناً ويساراً، وسرعان ما انقلب بالكامل”.
عندما انقلب المركب بالكامل، صعد أحمد على السطح، وبحسب كلامه “كانت قوات خفر السواحل تتفرج عليه وعلى الآخرين وتقوم بعملية التفاف سريع حولهم، ما خلق موجات بحرية عالية- وبقوا على هذه الحالة لمدة 10 دقائق”.
يختم بالقول: “نحن 104 ناجين، نعرف أن من ساعدنا هو من أغرقنا”.
تشرح نورا ماركارد، خبيرة القانون الدولي وحقوق الإنسان الدولية بجامعة مونستر، أنه كان من واجب خفر السواحل اليوناني التعامل مع الحادث كـ”سفينة في محنة” من البداية واتخاذ جميع الإجراءات اللازمة لإنقاذ الأشخاص.
ترفض اليونان هذه الاتهامات، وتدّعي أن الركاب رفضوا المساعدة، ولكن ماركارد تؤكد أن رفض الركاب المساعدة لا يبرر لخفر السواحل اليوناني عدم تقديم المساعدة. فالتزام الإنقاذ ينشأ عندما تكون السفينة في حالة ضيق بحري بشكل موضوعي، بغض النظر عن اعتقادات الركاب بشأن الوضع.
وتوضح ماركارد: “يتحمل خفر السواحل اليوناني التزامات واضحة في حالات الضيق بالبحر، بما في ذلك تنسيق عمليات الإنقاذ والاستعانة بالسفن القريبة لتقديم المساعدة واتخاذ إجراءات إنقاذ مباشرة عند الضرورة. يجب على خفر السواحل أن يتصرف بسرعة وبشكل مناسب بمجرد معرفته بالضيق الذي تواجهه السفينة”.
وتضيف: “إذا تأكدت الشهادات التي قدمها الناجون بشأن تصرفات خفر السواحل، مثل محاولة جر السفينة وتسببها في الانقلاب، فقد تنتج من ذلك عواقب قانونية خطيرة. فقد يتحملون المسؤولية عن وضع حياة الأشخاص على متن السفينة في خطر بشكل نشط، ما يعتبر انتهاكاً لواجبهم في حمايتهم وفقاً لاتفاقيات حقوق الإنسان الدولية وقوانين اليونان”.
الغرق في الأكاذيب
أكد 16 من الناجين الـ17 الذين تحدثنا إليهم، أن حرس السواحل ربطوا حبلاً بالسفينة وحاولوا جره قبل أن ينقلب بقليل. كما ادعى أربعة منهم أن خفر السواحل كان يحاول جر القارب إلى المياه الإيطالية، بينما أفاد أربعة آخرون بأن خفر السواحل تسببوا في المزيد من الوفيات بسبب الدوران حول القارب بعد انقلابه، ما تسبب في موجات أدت الى غرق جثة القارب.
وبحسب المقابلات التي أجراها فريق التحقيق، أكد الناجون أنّ قوات الخفر شاهدت المركب وهو يغرق وتدخلت لاحقاً.
استدعى خفر السواحل اليوناني تسعة من الناجين في أقل من 24 ساعة من عملية الإنقاذ، يوم 14 حزيران، واستجوابهم وأخذ إفاداتهم حول حادثة الغرق.
وفقاً للوثائق التي اطلع عليها فريق التحقيق، لم يتم توجيه أي اتهام لخفر السواحل اليوناني بالتسبب في غرق المركب عن طريق جره، أو على الأقل لا يوجد أي أثر لهذه الاتهامات في الأوراق الرسمية لإفاداتهم.
لكن بعد ثلاثة أيام، قابل هؤلاء الناجون التسعة محققة الشرطة في مدينة كالاماتا للوقوف على شهاداتهم حول الحادثة، تبين أن ستة منهم غيروا أقوالهم.
حصل فريق التحقيق على محاضر الشهادات التي تم تقديمها لكل من خفر السواحل اليوناني ومحققة الشرطة، وخلال التدقيق بهذه الشهادات تبين أن 4 شهادات تم تقديمها لخفر السواحل اليوناني أظهرت درجات كبيرة من التطابق في ما بينها، و خصوصاً عند سؤال الناجين عن سبب حصول حادثة الغرق، تطابقت إجابات الأربعة الى درجة كبيرة عند سؤالهم عن سبب حدوث حادث الغرق.
وصف: شهادات الناجين الأربعة كما وردت في سجلات خفر السواحل، والمحدد باللون الأزرق هو التطابق في أقوالهم
هنالك الكثير من علامات الاستفهام حول مصداقية إجراءات الترجمة للناجين، إذ أن أحد المترجمين الثلاثة يعمل ضابطاً في خفر السواحل اليوناني، وهو يثير تساؤلات بشأن مدى موضوعية الترجمة وحياديتها.
وعلى ما أكده اثنان من الناجين الذين ظهرت في شهاداتهم علامات التلاعب، فقد تم تغيير أقوالهم.
تحدثنا إلى اثنين من الناجين التسعة الذين شهدوا، أخبرونا أن خفر السواحل قد حذف أجزاء من شهادتهم التي تشير إلى القطر (سحب المركب).
“سألوني ماذا حدث للقارب وكيف غرق. أخبرتهم أن خفر السواحل اليوناني جاء وربط الحبل بقاربنا وسحبنا وتسبب في انقلاب القارب “، قال أحد الناجين. “لم يكتبوا ذلك في شهادتي. عندما قاموا بتقديمه في النهاية لم أجد هذا الجزء”.
وأضاف أن خفر السواحل ضغط عليه لذكر بعض الأشخاص بأنهم المهربون المسؤولون عن العملية.
وصل الى فريق التحقيق، رد من وزارة الشؤون البحرية اليونانية للتعليق على الاتهامات التي وجهها الناجون الى خفر السواحل اليوناني بانقلاب المركب.
أشارت الوزارة في ردها، الى أن “المعلومات المطلوبة هي جزء من إجراءات التحقيق الرئيسية التي يتم إجراؤها في سرية تامة بناءً على التعليمات الصادرة عن المدعي العام للمحكمة العليا. في ما يتعلق بتفاصيل خطة تشغيل خفر السواحل اليوناني، لا يمكن إبداء مزيد من التعليقات من قبل خدمتنا”.
بدورها، شددت المفوضية الأوروبية في ردها على استفسارات فريق التحقيق، “على أهمية ضمان إجراء تحقيق شامل وشفاف، وأنها على اتصال وثيق مع السلطات اليونانية لمتابعة تطورات التحقيق”.
الكارثة المميتة
يكشف أحد الناجيين في مقابلة مسجلة مع فريق التحقيق، عن الأيام التي سبقت غرق القارب ولحظات الغرق، فبعد الإبحار لمدة ثلاثة أيام، في اليوم الثالث، نفدت المياه الشرب وتفاقمت الأوضاع بسبب العطش والجوع. وعند حلول الليل، أخبرونا أن خفر السواحل اليوناني سيأتي لإنقاذنا. وبالفعل، وصلت سفينة يونانية ووقفت عرضياً أمام القارب، ثم ربطته بحبل وسحبتنا.
تحركت السفينة بسرعة كبيرة، ما أدى إلى اختلال توازن المركب، وعندما مال المركب للمرة الثانية، انقلب.
يقول الشاب: “عندما وجدت نفسي على سطح البحر، رأيت الجثث من حولي وأشخاصاً يصرخون، الوضع كان لا يوصف من الخوف والرعب. سبحت حتى وصلت إلى ظهر القارب للبحث عن ابن عمي وصديقه”.
بعدها، سبح الشاب نحو قارب خفر السواحل اليوناني، وتمكن من الصعود إليه. وبعد ذلك، وصل إلى مخيم مالاكاسا مع بقية الناجين.
بدوره، أحمد، أحد الناجين الذين التقينا بهم (20 عاماً)، فر من سوريا إلى لبنان نهاية آذار/ مارس الماضي، شاهد أيضاً كيف أن خفر السواحل ربط المركب بحبل وحاول سحبهم، لكن القارب بدأ في الميول على جانب واحد بسبب سرعة السفينة. بعد ذلك، ابتعدت السفينة وتسببت في موجة أخرى أدت إلى انقلاب القارب تماماً، بحسب ما يقول.
شبكات المهربين السوريين!
خلف مشهد الغرق، يقف على البر الليبي أشخاص هم في الواقع شبكة مغلقة من السماسرة والمهربين والمستفيدين من الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا انطلاقاً من ليبيا، يبدأ دورهم لدى وصول المهاجر الى الأراضي الليبية عبر البر أو المطار وصولاً الى ركوب المراكب وسفن الصيد المتهالكة والإبحار.
ذكر 4 من الناجين أن شخصاً سورياً يدعى أبو نبال ينحدر من درعا، كان في استقبالهم في المطار الليبي الدولي لدى وصولهم الى الأراضي الليبية من تركيا والأردن.
لدى أبو نبال دور حاسم في تنظيم عمليات استقبال المهاجرين ووضعهم في مستودعات ومراكز احتجاز ريثما يحين موعد الرحلة.
يتعامل الرجل مع اللاجئين والمهاجرين فور وصولهم الى المطار، إذ يستخدم نفوذه لتسهيل خروجهم وتجنب الرقابة الأمنية وتوجيههم خلال عملية الخروج من المطار، ويستخدم سيارة شاحنة (براد) لنقل المهاجرين من مكان التجمع إلى مكان انطلاق المراكب التي تقلهم إلى وجهتهم المقصودة.
بعد ذلك، ينقل أبو نبال المهاجرين بسيارته ويجمعهم في مكان محدد (الهنغارات)، وهي أماكن عادة ما تكون على أطراف مدينة طبرق وذات حراسة أمنية، إذ يتم إعدادهم للرحلة المقبلة وترتيبات السفر اللازم.
يعمل مع مهربين ليبيين اثنين كسمسار لهما، وتصل المبالغ المالية عن كل شخص إلى 3500 دولار.
بحسب شهادات الناجين: “يشترط أبو نبال دفع مبالغ مالية له من المهاجرين لتسهيل رحلتهم وإيصالهم الى المهرب الرئيسي، وتختلف المبالغ المتحصلة وفقاً للخدمات المقدمة من 300 إلى 500 دولار”.
استمع فريق التحقيق الى مقاطع صوت مسجلة بين سمسار سوري مقيم في طبرق منذ أكثر من 10 سنوات ويعمل لصالح شبكة من المهربين المتورطين في ملء المركب مقابل مبالغ مالية (200 دولار) عن كل مهاجر، مع عائلة أحد الضحايا السوريين المفقودين على متن القارب.
حاول هذا السمسار التهرب من المسؤولية عن غرق القارب. قال للعائلة: “أخبرنا الجميع أن هذه الرحلة هي رحلة الموت أو الحياة، لقد أبلغت الجميع بهذا، وأنتم تعلمون بالفعل أن الكثير من الأشخاص يموتون في البحر. إنها ليست رحلة سياحية. لا يمكنكم إلقاء اللوم علي بسبب وفاتهم. كنت فقط وسيلة للاتصال مع المهرب الرئيسي وربطتم أنفسكم به”.
قالت العائلة لفريق التحقيق: “إن السمسار أخبرهم بأن القبطان (من يقود المركب) اتصل به وأخبره بوصولهم (إلى إيطاليا)، وأنه يستخدم هاتف الثريا الفضائي (يعمل بالإنترنت عبر الأقمار الاصطناعية) للتواصل مع السلطات لإنقاذهم. وقال له القبطان أيضاً: “سألقي بالهاتف حتى لا تتعرف علّي السلطات!”.
من على البر اليوناني وبعدما وصل على متن قارب إنقاذ يوناني مع الناجين الآخرين، يستذكر يوسف الآن هذا المشهد ولا يعتقد أنه سيفارق بقية حياته: “عندما انقلب المركب، أصبح الناس يمسكون ببعضهم البعض، سبحت بعيداً منهم… وعندما وجهوا علينا (خفر السواحل) كشافات ضوئية ونحن في الماء، كان بيدي ساعة، كانت تشير الى 2:05 دقائق فجراً، أكملت السباحة باتجاه قارب الإنقاذ اليوناني، وعندما وصلت أصبحت الساعة 4:15 فجراً… أنا سبحت ساعتين و15 دقيقة، بتاريخ 13 حزيران، وساعتي بعدها موجودة والماء بداخلها”.
تم إنجاز التحقيق بالشراكة بين الوحدة السورية للصحافة الاستقصائية – سراج، وموقع “درج” و Lighthouse Reports، ودير شبيغل، و EL PAÍS و Reporters United و Monitor في التلفزيون الالماني.
ونشر باللغات الإنكليزية الإسبانية والألمانية واليونانية والعربية.
درج