عن التبرّم من المقارنة المشروعة بين واقع إسرائيل وواقعنا العربي البائس/ ماجد كيالي
ما يثير الاستغراب، والتساؤل، أن البعض كان يتبرّم من أي مقارنة بين الواقع البائس الذي فرضته الأنظمة علينا، في السياسة والاقتصاد والأمن والثقافة، وضمنه مصادرة حقوق المواطنة، والواقع الإسرائيلي، وبدل إلقاء اللائمة على الأنظمة بات يتنكر لذلك الواقع، أو يبرره، بدعوى مقاومة إسرائيل، في حين أن ذلك أكثر ما يريحها.
“حاول أن تتخيّل! مئات البلطجية الحقراء عند باب منزلك، يحرقون ويدمرون كل شيء… أي خطوة للدفاع عن النفس تعتبر إرهاباً! عندما يحاول المقاتلون الشجعان في مخيم جنين الأكثر جرأة من “جنود الجيش الإسرائيلي” المحميين، وأيضاً الأكثر صلاحاً منهم، إيقاف توغلات الجيش في المخيم بأسلحتهم البسيطة، يُعتبرون بالطبع إرهابيين! الغازي شرعي ومن يحاول الدفاع عن نفسه وممتلكاته هو الإرهابي! أخلاق وقواعد قانون لا تصدق!”
الكلام أعلاه عن المستوطنين بوصفهم بلطجية وارهابيين، وعن الفلسطينيين في جنين بوصفهم مقاتلين شجعاناً وأصحاب حق، والشك بشرعية إسرائيل، ليس لي، ولا لكاتب فلسطيني، وإنما للكاتب الإسرائيلي جدعون ليفي (“هآرتس”، 25/6). وثمة إسرائيليون آخرون يكتبون مثله، أيضاً، كايلان بابيه، وشلومو ساند وعميرة هس وأفي شلايم وباروخ كيمرلينغ وسيمحا فلابان وأوري رام وجرشون شافير ونورمان فينكلشتاين، كما ثمة منظمة “بتسيليم” التي تصف بتقاريرها إسرائيل كنظام أبارتهايد ضد الفلسطينيين، من النهر إلى البحر، وليس في الضفة الغربية حصراً.
في الإطار ذاته، اعتبر روغل الفر أن “المستوطنين الذين يحرقون البيوت ويخربون السيارات والمحلات والحقول في القرى الفلسطينية، وصمة عار على جبين المجتمع الإسرائيلي… عنف متوحش بصورته الحيوانية والقبلية… إسرائيل تدهورت إلى حالة فوضى. نصف مليون من مواطنيها يعيشون في مستوطنات مسورة وغير قانونية بحسب القانون الدولي… لا يوجد في إسرائيل قانون واحد أو أخلاق واحدة. وفي ظل غيابها، سيتم حسم الصراعات الداخلية الوطنية على الأغلب بحرب أهلية”. (“هآرتس”، 26/6/2023)
أما صحيفة “هآرتس” فأكدت أن “رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، هو المسؤول عمّا يحصل في المناطق، بما في ذلك العمليات الإرهابية اليهودية. ففي ظل زعامته، هُدر دم الشعب الفلسطيني”. (27/6)، أي إنها وصفت يهوداً في إسرائيل بأنهم إرهابيون، وحملت نتنياهو، الذي حكم إسرائيل أكثر من أي رئيس حكومة قبله، المسؤولية عن ذلك.
أنشر مثل تلك الكلمات لإسرائيليين، ولو إنهم قلة، مع شعور بالحزن والقلق والألم لأحوالنا، مع تساؤل يلحّ دائماً عن عدم خروج أحد من موالي نظام الأسد، مثلاً، يعبّر عن ألمه لما فعله بمواطنيه السوريين من أهوال (قتل وسجن وتعذيب وتشريد)، طوال السنوات الماضية، وعن سبب غياب الحسّ الأخلاقي والقيم النبيلة لدى المتصارعين والمتخاصمين في البلدان العربية، لا سيما في سوريا، مع تأكيد أن ذلك لا يفسر بالخوف، فقط، وهو مفهوم، فليس من المطلوب من كل فرد إبداء معارضته للنظام، بالنظر لأثمان ذلك، لكن مطلوب على الأقل إبداء بعض مشاعر او تعبيرات عن احساس بالألم، بدل الإنكار، والتعاطف بدل الخذلان.
أكيد أن الإسرائيليين القلائل الذين ذكرناهم، ليسوا فلسطينيين، ولا يمكن أن يتبنوا كامل الرواية الفلسطينية، لكنهم تحدثوا كبشر، يرفضون الظلم، سواء وفق رؤية تُبنى على مصالح مستقبلية، لإمكان عيش مشترك على الأرض ذاتها، في نظام ديمقراطي- ليبرالي، ينصف الفلسطينيين من النهر إلى البحر، وبينهم اللاجئون، أو وفق قيم أخلاقية، وإنسانية، بمعزل عن أي عصبيات سياسية أو أيدلوجية أو دينية أو اثنية؛ وهو الأمر المفتقد، أو النادر، والذي نحتاجه في منظوماتنا السياسية والثقافية، ليس إزاء العدو، فقط، وإنما إزاء بعضنا على الأقل.
السؤال، لماذا يفعل اٌسرائيليون ذلك إزاء شعب آخر هو الشعب الفلسطيني، يفترض أنه في حالة عداء وجودي مع شعبهم، ولا يحصل مع سوريين ازاء جزء من شعبهم، أو إزاء مواطنيهم السوريين الأخرين، برغم أن الخلاف ذات طبيعة سياسية؟!
وكنت، منذ بداية الثورة السورية، دأبت على عقد مقارنات بين كيفية تعامل إسرائيل مع مواطنيها اليهود، وتعامل الأنظمة عندنا مع مواطنيها، وعن إدارة المجتمع والنظام السياسي عندهم وعندنا، وبين عدد الضحايا السوريين، الذين قضوا بيد النظام، بالرصاص والبراميل المتفجرة والمعتقلات الرهيبة، وعدد الضحايا الفلسطينيين الذين قتلتهم إسرائيل، فالهوة شاسعة ومهولة، كماً ونوعاً، علماً أن القتل جريمة، مهما كان حجمه، ولا تستطيع جريمة أن تغطي أخرى، لكن الفكرة الأساسية، والفارق الأهم، أن إسرائيل لا تقتل شعبها، بل هي تضن بكل نقطة دم فيه، في حين أن النظام يقتل ويسجن ويشرد في شعبه.
ما أريد قوله، هو أنني اتعمد عقد مقارنات كهذه، بين فترة وأخرى، بغرض توضيح مسؤولية الأنظمة السائدة عن تردي أحوالنا، وتوضيح العوامل التي تميّز إسرائيل، وتمنحها قوة مضافة، علما إنها دولة صغيرة، ونشأت قبل 75 عاما فقط، من نقطة الصفر في علاقة مواطنيها ببعضهم، وأيضا في علاقة مواطنيها بالأرض وبالدولة، وأيضا، برغم الفارق الهائل بينها وبين البلدان العربية، في المساحة وعدد السكان والثروات الطبيعية، لغير صالحها.
لكن ما يثير الاستغراب، والتساؤل، أن البعض كان يتبرّم من أي مقارنة بين الواقع البائس الذي فرضته الأنظمة علينا، في السياسة والاقتصاد والأمن والثقافة، وضمنه مصادرة حقوق المواطنة، والواقع الإسرائيلي، وبدل إلقاء اللائمة على الأنظمة بات يتنكر لذلك الواقع، أو يبرره، بدعوى مقاومة إسرائيل، في حين أن ذلك أكثر ما يريحها.
أيضاً، بدل أن تكون المقارنة دليلاً وضرورة لمعرفة العوامل التي مكّنت إسرائيل من الاستقرار والتطور، بالقياس للاضطراب والتخلف في أحوالنا، تصبح لدى هذا البعض بمثابة تورية مؤامراتية للتقليل من شأننا، مقابل الإشادة بشأن عدونا، أو كناية عن اعتراف به.
المشكلة في تلك العقلية، عدا سذاجتها، وفصامها عن الواقع، تكمن في اتسامها بعقدتي الإنكار والمكابرة، في سعيها إلى تغطية ما تعتبره عوراتنا ونواقصنا، وفي محاولتها رفض أي مقارنة مع الآخر، كأن ذلك يحطّ من شأنه، أو يلغيه، قولاً وفعلاً.
وللتذكير، فإن إسرائيل صغيرة جداً، وعدد سكانها اليهود قرابة 7 ملايين نسمة، في منطقة تفتقر للموارد، بيد أن ناتجها الإجمالي السنوي (وفق البنك الدولي) يقدر بـ 500 مليار دولار (في 2010 كان 238)، ومتوسط دخل الفرد فيها 52 ألف دولار، وقوتها التصديرية 80 مليار دولار، بينما الناتج الإجمالي لمصر 404، والجزائر 163 مليار دولار، وحجم التصدير في الجزائر 65 ملياراً، ومصر 36 مليار دولار (تخيل وضع السودان أو العراق أو سوريا)، برغم الفارق الهائل بين إسرائيل وهاتين الدولتين في المساحة والسكان والموارد.
هكذا فإن إسرائيل الاستعمارية والاستيطانية والعنصرية والمصطنعة تبدو كجزء من العالم المتقدم، والفاعل، بالاستناد إلى مكانتها العلمية والتكنولوجية، بدليل ارتباط الدول الكبرى معها بعلاقات متميزة، كالصين وروسيا والهند، وليس فقط الدول الغربية، ولطبيعة نظامها الديمقراطي (لمواطنيها اليهود)، وتطور مواردها البشرية (مستوى التعليم والجامعات والإنفاق على البحث العلمي)، وأيضاً تعدديتها الحزبية، والطريقة السلمية للتداول على السلطة، برغم كل الخلافات والتناقضات، فهذا ما يميز إسرائيل عن واقعنا العربي، وليس قوة جيشها أو علاقتها بالولايات المتحدة، وحسب، على أهمية هذا وذاك، كما يحلو لبعض الأنظمة الترويج.
المغزى أنه بدلاً من التشكيك بنص أو بمعطيات مقارنة ما، الأجدى التمعن بالمعاني والعبر، وإدانة المتسببين في هذا الواقع العربي البائس، مع تأكيد أن أي صراع سياسي يفترض أن يضبط بقيم أخلاقية، تحترم الاختلاف، كما تحترم قيم الحرية والكرامة والعدالة، هذا إذا كنا نود أن نعيش في مجتمعات سليمة حقاً.
درج