في التناقض الذاتي وخطابات المظلومية/ حسام الدين درويش
الحقيقة من منظور الفلسفة (الأرسطية) هي اتساق الفكر مع ذاته من جهةٍ، ومع الواقع من جهةٍ أخرى. لكن يمكن النظر إلى اتفاق الفكر مع ذاته على أنه أهم معايير أو تعريفات الحقيقة على الإطلاق، أو التعريف الوحيد لها. فاتساق الفكر مع الواقع هو في التحليل الأخير اتفاقٌ للفكر مع ذاته أيضًا؛ لأن اتفاق الفكر مع الواقع، يعني عمليًّا، وفي نهاية المطاف، اتفاق الفكر مع الفكر، أي مع الواقع كما يقدمه أو يتصوره أو يفهمه ذلك الفكر.
انطلاقًا من أهمية الاتساق الذاتي من منظور المنطق والحقيقة، ثمة تشديدٌ على أن التناقض الذاتي هو أكبر ضربة يمكن أن تنال من مصداقية أي خطابٍ. ويمكن للتناقض الذاتي أن يتخذ ثلاثة أشكالٍ: التناقض العام، التناقض اللفظي، التناقض الإنجازي.
لدى كل إنسان نزعات وتوجهات وأفكار ومبادئ، يمكن أن تفضي إلى تناقضات ضمن فكره ومشاعره وأقواله وأفعاله إلخ. ومن حيث البنية النفسية، يرى التحليل النفسي على سبيل المثال، وجود نزعتين أو غريزتين لدى الإنسان، إحداهما تتجه نحو الموت او التدمير، والأخرى نحو الحياة والبقاء واللذات. وعلى العكس مما يظن كثيرون، ليس ثمة فلسفة تتأسس على حدسٍ واحدٍ أو أساسٍ فكريٍّ واحدٍ. فالفيلسوف، كما أشار بديع الكسم، ينطلق من “منطلقات متعددة، وهو يدفع كل واحدة من هذه المنطلقات إلى آخر مدى ممكن، وعند ذلك يقع التصادم بين هذه الخطوط”، ويظهر ما أسماه فاليري بالالتباس المبدع، “ويضطر الفيلسوف إلى إجراء عمليات تركيبية خفية”. ويمكن تعريف الإنسان، وليس الفيلسوف فقط، بأنه تناقضٌ ساعٍ باستمرارٍ إلى تحقيق انسجامٍ (شبه) مستحيلٍ. وهذا التناقض العام موجود في كل فكر عمومًا، ويظهر ذلك بوضوحٍ في كل تنظيرٍ فلسفيٍّ شاملٍ أو مذهبيٍّ. ووجود هذا التناقض يفسر كيف أنتجت فلسفات الفلاسفة الكبار تأويلات وفلسفات مختلفة أشد الاختلاف، كما هو حال اليمين واليسار الهيغليين، على سبيل المثال.
التناقض اللفظي، الذي يسمى أيضًا ﺑ “الإرداف الخلفي”، يقوم على الجمع بين لفظين متناقضين في عبارةٍ واحدةٍ، كعبارة “دائرة مربَّعة” مثلًا. وغالبًا ما يكون هذا الجمع مقصودًا، لأغراض جمالية أو شعرية أو لإظهار تعقيدٍ ما أو إثارة التفكير في اتجاهٍ ماه. ويظهر ذلك، على سبيل المثال، في الحديث عن “صوتٍ صامتٍ” أو “صمت مدوٍّ”، وعن “لطفٍ قاسٍ” أو “قسوةٍ لطيفةٍ”. ويزداد ظهور هذا النوع من التناقض بازدياد أدبية الكلام وابتعاده عن الحرفية والمنطقية الصارمة.
التناقض الثالث يسمى بالتناقض الإنجازي أو الأدائي ويحدث بين فعلٍ (كلاميٍّ) ما والرسالة أو المعنى الذي يود هذا الفعل تحقيقه. فثمة تناقض في عبارة “أنا ميت”، لان قول الأنا إنها ميتة يعني أنها غير ميتة. فهي تنفي موتها بقولها إنها ميتةٌ. والامر ذاته موجود في عبارة “أنا كاذب” فإذا كان كاذبًا بالفعل، فهذا يعني أنه صادقٌ، وإذا كان صادقًا وليس كاذبًا، فهذا يعني أنه كاذبٌ في قوله إنه كاذبٌ. فالقول بصدقه يتضمن القول بكذبه، والقول بكذبه يتضمن القول بصدقه. وثمة تناقض إنجازيٌّ مماثلٌ في قول شخصٍ لآخر: “أنا لا اتحدث إليك”، أو في محاولة شخصٍ ما مراقبة نفسه أثناء محاولته النوم. فنجاح أي محاولةٍ يعني بالضرورة فشل المحاولة الأخرى.
تظهر هذه التناقضات الثلاثة في خطابات المظلوميات والحساسيات والخطابات المغرقة في الذاتوية. فأصحاب خطاب المظلومية لا يرون مظلومًا غيرهم ولا ظالمًا إلا ظالمهم، ويشتكون من عدم تعاطف الآخرين معهم، على الرغم من تجاهلهم للظلم الذي يتعرض له الآخرون. ويتم تحويل المظلومية إلى علاقة بين هويات ظالمة وهويات مظلومة، فيكون الأوروبي أو العربي أو الرجل أو الأبيض، على التوالي هم الظلمة، في علاقة الأول بالعربي أو المسلم، وعلاقة الثاني بالكردي أو الأمازيغي، وعلاقة الثالث بالمرأة، وعلاقة الرابع بالأبيض. ويكونوا أشخاصٌ ما ظالمين أو مظلومين، لمجرد أنهم ينتمون بالنسب إلى هويةٍ معينةٍ. وبسبب الظلم التاريخي، الفعلي أو المتخيَّل، الذي تعرَّضت له بعض الجماعات، على أساس الانتماء الديني أو الجنسي أو الإثني، تظهر خطابات مظلومية هذه الجماعات حساسيةً عاليةً تجاه المفردات المستخدمة في خصوصها. فالحديث عن “شاوية” شخصٍ ما، على سبيل المثال، يصبح إهانةً لا تغتفر لمجرد أن المتحدث غير شاويٍّ، ويحصل ذلك خصوصًا، عندما يتضمن الحديث الإشارة إلى أمر سلبيٍّ ما، على الرغم من أنه لا يتضمن ربط ذلك الأمر بماهيةٍ مزعومةٍ ما ﻟ “الشاوي”.
وفي مثل هذه السياقات، يتم مطالبة الناس بالالتزام بمزيد من تعقيدات خطابات ما يسمى باللباقة السياسية، على الرغم من أن استخدام تلك الخطابات لا يغير من واقع الظلم الحاصل في الواقع في خصوص ما ترفضه تلك الخطابات، ويحاول فرض لغةٍ واحدةٍ تنكر الاختلافات، بغض النظر عن معقوليتها ومشروعيتها، وتفقر الخطابات، وتمنع النقاشات، بغض النظر عن غايتها وعمقها وأسسها.
وتزعم كل ذاتيةٍ أنها مختلفةٌ عن الذوات الأخرى اختلافًا جوهريًّا، يمنع تلك الذوات من فهم تلك الذاتية، فضلًا عن الحديث عن وجود قواسم أساسية مشتركة بينها او التحدث باسمها. وهكذا تصبح التجارب الذاتية الخاصة والمختلفة هي الأساس في تقسيم البشر، فلا يمكن للرجل ان يشعر أو يفهم ما تعاني منه المرأة، لأنه رجل ولأنها امرأة، وكذلك الحال في حالة العلاقة بين الفقير والغني، أو المنتمي إلى أغلبية إثنية أو دينية والمنتمي إلى أقلية إثنية أو دينية، أو بين ابن المدينة وابن الريف، أو بين الحلبي والشاوي. الطريف والمفارق في هذا الخصوص، أن بعض المنادين بخصوصية مجموعةٍ أو جماعةٍ ما لا يتوقفون غالبًا عن إطلاق الأحكام في خصوص المجموعات أو الجماعات الأخرى، في الوقت نفسه، الذي يزعمون فيه أن تلك الجماعات غير قادرةٍ على فهم أفراد مجموعتهم أو جماعتهم. وليس واضحًا ما الذي يجعلهم قادرين على فهم الجماعات الأخرى وإطلاق الاحاكم الوصفية والتقويمية عليها، في الوقت ذاته الذي ينكرون فيه قدرة أفراد الجماعات الأخرى على فعل الأمر ذاته أو مشروعية قيامهم بأمرٍ مماثلٍ تجاه جماعتهم.
في الوقت الذي تتضمن بعض خطابات مظلومية هذه الجماعات رفضًا لهيمنة الجماعات الأخرى وخطاباتها، ورغبةٍ في التساوي العادل والمنصف معها، تتضمن تلك الخطابات أيضًا، تشديدًا على الاختلاف الذي يتطلب منح تلك الجماعات حقوقًا أو امتيازاتٍ خاصةً، وبيئةً آمنةً خالية ومن كل مغايرةٍ للهوية أو مخالفةٍ للقواعد الصارمة للباقة السياسية ومن كل مسٍّ بالحساسيات المفرطة في الرهافة المرضية. وهكذا يتضمن الخطاب الساعي إلى المساواة والقواسم المشتركة (الكونية) تشديدًا على التراتبية والتمايز والخصوصية، وبدلًا من السعي إلى التخلص من الهيمنة الظالمة، تصبح تلك الهيمنة مرغوبة لكن مع عكس الأدوار السابقة أو الحالية.
يمكن للهويات الجريحة المتبنية لخطابات المظلومية، والذاتيات الحساسة ذات الخصوصيات الفريدة، أن تنزلق بسهولةٍ إلى ردود فعلٍ تتبنى، في مجال الخطاب والنظر، أسوأ ما لدى خصومها، في إطار محاربة هؤلاء الخصوم ومناهضة ذلك الأسوأ الذي لديهم. ويتضمن ذلك تناقضًا ذاتيًّا بمعانيه الثلاث المذكورة عمومًا، وبوصفه تناقضًا إنجازًا أو أدائيًّا، خصوصًا. والاحترام الذي يطالب به بعض أفراد جماعات الهويات الجريحة يتضمن ما يمكن رؤيته عدم احترامٍ، عندما يطالبون بالتعامل معهم على أنهم ذواتٌ مريضةٌ وحساسةٌ لا تتحمل أي اختلاف أو نقدٍ فكريٍّ أو دعابةٍ ممازحةٍ، في خصوص هويتها الجريحة. وإن انعدام القدرة على السخرية الذاتية أو على تقبل النقد الذاتي هو علامة خطيرة على الجمود أو الموات الفكري والاحادية الدوغمائية التي قد يكون إنتاجها للتناقض الذاتي هو أحد أقل نتاجاتها سوءًا.
تلفزيون سوريا