ماذا فعل بليغ حمدي بأم كلثوم؟/ صقر أبو فخر
[إلى معن البياري وحسين عبد العزيز]
لا أُنكر ميلي إلى المدرسة الغنائية المصرية التي ظهرت منذ نحو مئة عام، والتي تخلّصت من رتابة الميراث التركي وسقم المواويل العتيقة. كما لا يمكن إخفاء شغفي بالمدرسة الغنائية السورية، وبالتحديد مدرسة حلب والقدود والموشحات، وكذلك الفولكلور السوري الفلاحي – البدوي. أما الاتجاهات الجديدة في بلاد الشام والتي ظهر في سياقها مطربون كبار أمثال وديع الصافي وصباح ونور الهدى ونصري شمس الدين وفيروز ونجاح سلام وسميرة توفيق ونجيب السراج وياسين محمود ورفيق شكري وزكية حمدان وفهد بلان ومعن الدندشي وفؤاد غازي ونور مهنا وميادة الحناوي وأصالة نصري وغيرهم، فلها سياق مختلف يتخطى نطاق هذه المقالة، وينصرف إلى أغاني الأرياف التي عمل على تمدينها مصطفى هلال في سورية، والأخوان الرحباني وزكي ناصيف في لبنان، وصبري الشريف في فلسطين، وتوفيق النمري وجميل العاص في الأردن. وسأزعم أن الخط الغنائي التجديدي في مصر الذي بدأ بسيد درويش وزكريا أحمد ومحمد القصبجي ورياض السنباطي صعودًا إلى محمد عبد الوهاب هو الذي أنجز أعظم الألحان وأجملها. وهذا الخط الغنائي الذي ازدهر بعد ثورة 1919 مع صعود الطبقة الوسطى وانحلال الطبقات العليا المرتبطة بالاحتلال الإنكليزي وبالمجموعات الحاكمة التركية والشركسية والألبانية، (كان محمد عبد الوهاب أحد أبرز ممثلي هذا الخط)، هو الذي دشن عملية التجديد والتخلص من الميراث الثقيل الذي صنعه ملحنون سابقون أمثال محمد عثمان ومحمد المسلوب وأحمد صبري النجريري وأبو العلا محمد وصَفَر علي، وانصرف عن موشحات كامل الخلعي التي تعلمها من مدرسة حلب، وعن رتابة المواويل والليالي والسماعي والبشرف واللونغا. وبرز من بين أجمل أَعلام حقبة التجديد أسمهان وفريد الأطرش وفايزة أحمد ونجاة الصغيرة وليلى مراد (من سورية)، وشادية ومحمد عبد المطلب وكارم محمود وعبد العزيز محمود ومحمد قنديل ومحمد رشدي ومحرم فؤاد (من مصر)، وناظم الغزالي (من العراق)، ووردة (من الجزائر)، وغيرهم كُثُر.
*****
قامت المدرسة الغنائية المصرية الحديثة، بعد سيد درويش، على ألحان زكريا أحمد ومحمد القصبجي ورياض السنباطي ومحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش ومحمود الشريف، فوصلت إلى ذرى من الجمال لم يستطع من جاء بعدهم، أو سار في ركابهم، الوصول إليها قط. أما جيل الاستمرار والتحديث التي كان من أعلامه بليغ حمدي وكمال الطويل ومحمد الموجي وسيد مكاوي ومحمد فوزي ومحمد سلطان فلم يتمكن من تطوير خط إبداعي يتخطى الرباعي الذهبي (زكريا أحمد ومحمد القصبجي ورياض السنباطي ومحمد عبد الوهاب). والثابت أن مَن صَنع عظمة أم كلثوم وشاد للغناء العربي معبدًا، هم ثلاثة في الأساس: زكريا أحمد ومحمد القصبجي ورياض السنباطي. أما محمد عبد الوهاب وبليغ حمدي فكانا شوطًا جديدًا في مسيرة أم كلثوم الفنية، وتنويعًا على تاريخها المعلوم، لكنهما لم يضيفا إلى مكانتها أي مدماك. وهنا لا أتحدث عن ألحانهما الجميلة التي قدماها إلى المطربين والمغنين الآخرين، بل أحصر الكلام في الألحان التي قدماها إلى الصوت النادر والفريد، أي صوت أم كلثوم. وأعتقد أنني لم أتجاوز الحد في النقد والتقويم في ما لو تجرأتُ على القول إن جميع الألحان التي غنتها أم كلثوم بعد رياض السنباطي مثل ألحان محمد عبد الوهاب وبليغ حمدي ومحمد الموجي (للصبر حدود، إسأل روحك) وسيد مكاوي (يا مسهرني) كانت أقل جمالًا بأشواط من ألحان الثلاثي العظيم. فبليغ حمدي على سبيل المثال ملحن مهم بلا ريب، لكنه أدنى بكثير من قامة رياض السنباطي أو محمد القصبجي أو زكريا أحمد مع الأخذ في الحسبان فارق الزمن وفوارق الذائقة بين مرحلتين.
الجمال ومعاييره
كثير من الناس لا يطيق الاستماع إلى أم كلثوم أو محمد عبد الوهاب ومحمد عبد المطلب وصباح فخري، ويفضل الاصغاء إلى عبد الحليم حافظ ووردة وشادية مثلًا. وهذه الذائقة من شأن أي إنسان، لكنها ليست معيارًا للحكم على الجمال الغنائي. وكثير من الناس الآخرين لا يطيق فريد الأطرش وفايزة أحمد ونجاة الصغيرة وميادة الحناوي (ربما لأنهم سوريون)، ويعتقد أن راغب علامة ونانسي عجرم وأليسا وكاظم الساهر وعمرو دياب هم ذرى الغناء العربي؛ وهذا شأنهم أيضًا. غير أن المسألة لا تتعلق بحق الإنسان في الميل إلى هذا اللون الغنائي أو ذلك، فهذا الميل أمر بدهي. لكن، ثمة معايير مبنية على المعرفة والثقافة، وعلى تدريب الأذن على الاستماع وتذوق الجمال (السمّيعة)، فضلًا عن معايير الموسيقى والصوت واللحن. وبهذه المعايير مجتمعة يمكن امتلاك الغربال الذي من شأنه أن يَنْخُل الألحان والأصوات. وهذا الأمر يحتاج إلى خبرة معمّقة مثل متذوق النبيذ أو متذوق العسل أو كاشف الغش في الزيت، فهو يبنى معياره في تفريق السليم من المغشوش لا على التحليل الكيميائي بل على القواعد الجمالية والثقافة والمقارنة والمعايرة ثم على الذوق. وبهذه الرؤية أعتقد أن ألحان زكريا أحمد الخالدة (حُلم، حبيبي يسعد أوقاتو، الورد جميل، الأمل، الأولة في الغرام، هوَّ صحيح الهوى غلّاب، غنيلي شوي شوي، أنا في انتظارك)، وألحان محمد القصبجي (مادام بتحب بتنكر ليه، رق الحبيب – وهي أعظم لحن لأعظم صوت، الشك يحيي الغرام، ليه تلاوعيني)، وألحان رياض السنباطي (دليلي احتار، أغار من نسمة الجنوب، عوّدت عيني، يا ظالمني، قصة الأمس، افرح يا قلبي، على بلد المحبوب وديني، القلب يعشق كل جميل، ذكريات، الأطلال، رباعيات الخيام، سهران لوحدي، هجرتك) هي التي صنعت مجد أم كلثوم. ثم جاء بعد هؤلاء الثلاثة محمد عبد الوهاب وبليغ حمدي ومحمد الموجي الذين كانوا تنويعًا جميلًا في مسيرة أم كلثوم الغنائية، مع أنهم لم يضيفوا إلى عمارتها أي مدماك؛ فالثراء في المادة اللحنية عند السنباطي والقصبجي لم تتوافر لأحد من الملحنين الكبار. والكلاسيكية التي تمثلت بألحان زكريا أحمد ومحمد القصبجي ورياض السنباطي تعني، في جوهرها ومظهرها، الأصول والفخامة والعمل المتقن والجمال. فرياض السنباطي على سبيل المثال كان يحتاج إلى سنة أحيانًا لإنهاء لحن لأم كلثوم. أما بليغ حمدي فكان يكمل اللحن في جلسة واحدة أو في فترة قصيرة. ولهذا كانت ألحانه تتضمن كوبليه أو اثنين رائعين، ثم كوبليهات عادية. والكوبليه، أي المقطع الذي يأتي بعد المذهب أو المطلع، إذا امتلك روعة لحنية، وهو ما أتقنه بليغ حمدي، يرفع مكانة الأغنية فتنتشر بين الناس بقوة. أما السنباطي، وقبله القصبجي، فكان كل مقطع لديه ذروة إبداعية تعلو المقطع الذي سبقه. وهكذا تُبنى الأغنية مقطعًا فوق مقطع، أي بالهندسة الجمالية المتآلفة والمتماسكة، وهي ما افتقدها بليغ حمدي في كثير من أغنياته.
عبقرية إخفاء الوهن
في عام 1961، وبينما كانت أم كلثوم تشدو برائعة زكريا أحمد “هوَّ صحيح الهوى غلاّب” (وهي آخر ما لحّن الشيخ زكريا لها)، وعندما وصلت إلى مقطع “جاني الهوى من غير مواعيد”، لاحظت خللًا في صوتها، وصار الخلل أكثر وضوحًا في جملة “يا خدني بعيد بعيد، يِمنّي قلبي بالأفراح”. وذهبت أم كلثوم في الغد إلى طبيب متخصص بالأوتار الصوتية، فأخبرها أن بعض الأوتار لديها بدأت تختفي جراء تقدم العمر (راجع: محمود عوض، أم كلثوم، القاهرة: 1968). وهذا أمر طبيعي، فقد لحقت التغيرات بصوتها، وتمثل ذلك في انخفاض مساحة الطبقات العالية بعد أن تجاوزت الستين (أنظر: الياس سحاب، دفاعًا عن الأغنية العربية، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1980، ص 16). واعترف محمد الموجي أن صوت أم كلثوم دخل مرحلة الشيخوخة حيم كان يلحّن لها “إسأل روحك” (الياس سحاب، مع محمد عبد الوهاب، بيروت: دار نلسن، 2014، ص 133).
إذًا، بدأ صوت أم كلثوم ينتابه الوهن، ويميل إلى الضعف، وصار غير قادر على الوصول إلى مساحاته الواسعة وإلى طبقاته العليا الأخاذة، وباتت أم كلثوم غير قادرة تمامًا على السمو في إنشادها كما كانت من قبل، وافتقدت بالتدريج الرشاقة في التنقل بين المقامات وبين القرارات والجوابات. وكانت في خضم هذه المعاناة مصرة على الاستمرار في الغناء، وفكرة التوقف عن الغناء تكاد تقتلها، فهي لا تريد أن تفعل ما فعله محمد عبد الوهاب حين توقف عن الغناء في سنة 1960 بعدما أصاب الوهن أوتار صوته. وهنا بالتحديد جاء دور عبد الوهاب ثم بليغ حمدي اللذين منحاها أغنيات جميلة ورشيقة ورومانسية خاطبت بها الجمهور الواسع مثل “إنت عمري” و “إنت الحب” و “الحب كلو” و”أمل حياتي” و “حب إيه” و “سيرة الحب” و”بعيد عنك”… إلخ. لكن تلك الأغنيات ظلت، بمعيار الإبداع، أدنى بكثير من أغنياتها الخالدة التي أبدعها الثلاثي زكريا أحمد ومحمد القصبجي ورياض السنباطي. وتكمن عبقرية محمد عبد الوهاب وبليغ حمدي، في هذا الميدان بالتحديد، في أنهما تمكنا من تغطية العيوب التي بدأت تزحف على أوتار أم كلثوم، وقدما في هذا الحقل الفني، أغاني جميلة بالتأكيد، لكنها لم تسمُ في روعتها إلى ما وصلت أم كلثوم إليه في ألحان الثلاثي العظيم.
“ألحان بليغ حمدي أخرجت أم كلثوم من نطاق النخبة و”السميعة” إلى مجال شعبوي أوسع”
كان لقاء محمد عبد الوهاب وأم كلثوم في أغنية “إنتَ عمري” (6/2/1964) لقاءَ قمتين، ونال اللقاء والأغنية نصيبهما من الشهرة والانتشار والدعاية، خصوصًا أن ذلك اللقاء عُقد استجابة لإلحاح الرئيس جمال عبد الناصر وللسمّيعة العرب الذين كثيرًا ما استغربوا “استنكاف” عبد الوهاب وفريد الأطرش عن التلحين لأم كلثوم. وفي أي حال فإن ألحان عبد الوهاب لأم كلثوم راوحت بين الأغاني العادية مثل “أَغدًا ألقاك”، والضعيفة مثل “أمل حياتي” و “ليلة حب”، والجميلة من حيث امتلاكها الأصالة والتجديد معًا مثل “فكروني” و “دارت الأيام” و “هذه ليلتي”، والأخيرة كانت قريبة جدًا من أجواء السنباطي. أما “إنتَ عمري” فقد اقتبس عبد الوهاب مقدمتها من كونشيرتو “أميروف” (أنظر: صميم الشريف، السنباطي وجيل العمالقة، دمشق: وزارة الثقافة، 1988، ص 260). ومهما يكن الأمر فإن ألحان عبد الوهاب لأم كلثوم لم تكن أجمل أغانيها إطلاقًا، ولا أعظم ألحان عبد الوهاب، وإنما اغتنى رصيد أم كلثوم الغنائي بهذه الألحان التي حظيت بشعبية كبيرة في العالم العربي، ما أتاح لأم كلثوم الاستمرار في التربع على عرش الغناء العربي الراقي.
في مضمار موازٍ، يمكنني القول إن ألحان بليغ حمدي أخرجت أم كلثوم من نطاق النخبة و”السميعة” إلى مجال شعبوي أوسع. وهؤلاء “المستمعون” الجدد من أبناء الطبقات الوسطى الجديدة التي صعدت بعد ثورة 23 يوليو 1952، راحوا يستمعون إلى أم كلثوم وأغانيها الحديثة بشغف بعدما كانت بعض أغنياتها السابقة ثقيلة على أسماعهم وعلى ذائقتهم المعتادة. وهذا يعني، بحسب ما أرى، هبوطًا من العلياء نحو الفئات الشعبية المتعلمة. وكانت أم كلثوم قد علمت، بذكائها المشهود، أن عليها أن تواكب المزاج الجديد للناس، وتخرج من عباءة رياض السنباطي، فانتقلت إلى بليغ حمدي بصوتٍ واهن نسبيًا، وهو ما ظهر في أغنية “حكم علينا الهوى” مثلًا. وحتى أغنية “أنساك” (1962) التي أطلقت بليغ حمدي نحو القمة اقتربت في أجوائها الدافئة من أغنية “ما تقولش كنا وكان” لفريد الأطرش التي غنتها المطربة الكبيرة نازك في سنة 1953. ولا إخال أن أحدًا يتجرأ على الزعم أن بليغ حمدي تجاوز رياض السنباطي أو زكريا أحمد أو محمد القصبجي. ومن نافل القول في هذا السياق أن بليغ حمدي هو شوط مميز وممتاز في سلسلة طويلة من صُنّاع النغم. أما الركائز المتينة التي ارتفعت فوقها عمارة التجديد في الغناء العربي فقد تمثلت في سيد درويش وزكريا أحمد ومحمد القصبجي ورياض السنباطي ومحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش. ومعهم أو خلفهم سار ملحنون كبار من عيار داود حسني ومحمود الشريف وسيد مكاوي ومحمد الموجي ومحمد فوزي وكمال الطويل. غير أن بليغ حمدي، في السياق الكلثومي، وعلى الرغم من ألحانه الجميلة، هو الأقل روعة وتألقًا إذا قارناه بالسنباطي والقصبجي وزكريا أحمد.
يستطيع تلحين الجريدة!
صعد بليغ حمدي نحو القمة في عالم التلحين في الفترة التي مال محمد عبد الوهاب فيها إلى الإقلال من التلحين، وبعد استنكاف رياض السنباطي عن السباق مع الموسيقيين المنافسين له، لأنه نافس بجدارة وإبداع زكريا أحمد ومحمد القصبجي ومحمد عبد الوهاب، فكيف ينافس الملحنين الجدد وهم أقل منه مكانة بأشواط؟ وفي ذلك الصعود المدوي قدّم بليغ حمدي ألحانًا جميلة، لكنها لم تمتلك عظمة الألحان التي صنعها مَن سبقه خصوصًا في الإحكام والإتقان، وافتقرت ألحانه إلى جماليات الغناء العربي التي وصلت إلى ذروتها مع رياض السنباطي. والسبب، على الأرجح، هو غزارة إنتاج بليغ حمدي؛ فقد كان “فبركة ” ألحان، ويمكنه، بلا مبالغة، أن يلحن جريدة يومية. وغزارة إنتاجه جعلت المستوى النهائي لألحانه أدنى بكثير من مستوى ألحان الرباعي الذهبي. وللمقارنة، كان بليغ حمدي قادرًا على تلحين قصيدة في يوم واحد، فيما صرف القصبجي ثلاث سنوات في تلحين رائعته “رق الحبيب”. أما رياض السنباطي فمعظم ألحانه لأم كلثوم استغرق تلحين الأغنية الواحدة ما لا يقل عن ستة أشهر. وكثيرًا ما وصف محمد عبد الوهاب بليغ حمدي بأنه ملحن صالون وشارع، وملحن شارع أكثر من كونه ملحن صالون، وألحانه تجارية مع ما يستلزم ذلك من السرعة وعدم التأمل في تركيب العمل الفني. لهذا كانت أعماله عبارة عن توليف (مونتاج) يتضمن ومضات من الألماس، لكنها مركّبة على صفائح من تنك (أنظر: جهاد فاضل، محمد عبد الوهاب بين التقليد والتجديد، بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، 2011، ص 138 و 139). أما السنباطي فكان يقول عن بليغ حمدي ومحمد الموجي وكمال الطويل: “دول بتوع سندويتشات.” ووصف محمد الموجي بليغ حمدي بأن “رأسه مليء بالموسيقى لكنه متسرع” (الياس سحاب، دفاعًا عن الأغنية العربية، مصدر سبق ذكره، ص 58).
تجلت الرومانسية الشعبية لدى بليغ حمدي في ألحانه التي قدمها إلى عبد الحليم حافظ وشادية ونجاة الصغيرة ووردة ومحمد رشدي وصباح ومحمد قنديل ومحمد فؤاد ومحمد العزبي وميادة الحناوي. وألحانه تلك كانت في معظمها ناجحة وسريعة الانتشار وسهلة التلقي لدى الجمهور العريض. لكن الجمل الموسيقية لديه تبدو مكرورة، ولم تقدم أي إضافة إلى الغناء العربي كما ارتقى على أيدي زكريا أحمد ومحمد القصبجي ورياض السنباطي ومحمد عبد الوهاب، واختار بليغ حمدي أن يملأ ألحانه بأنغام الآلات الجديدة والايقاعات الصاخبة والجمل اللحنية السريعة التي استهوت الجيل الجديد آنذاك، لكنها كانت تحيد عن مسار التجديد في الغناء العربي المتعانق مع الأصالة، وتفرّط، في الوقت نفسه، بعناصر الأصالة المتجددة.
قصارى الكلام في هذا المقام أن الغناء العربي في مصر شهد مستويين: المستوى الأول جسّده زكريا أحمد ورياض السنباطي ومحمد القصبجي ومحمد عبد الوهاب ومن سار في ركائبهم أمثال سيد مكاوي مثلًا، والمستوى الثاني هو المستوى الذي سرح في ربوعه محمد فوزي وكمال الطويل ومحمد الموجي ومحمد سلطان وآخرون. أما بليغ حمدي فكان أدنى من المستوى الأول بكثير، وأعلى من المستوى الثاني بقليل.
ضفة ثالثة