ميشال فوكو يُواصل إصدار الكتب/ أحمد بيضون
ميشال فوكو يُواصل إصدار الكتب (1)/ أحمد بيضون
قَبْلَ ما يقاربُ العقدَ، لاحظتُ، في عُجالةٍ نشرْتُها، أنّ ميشال فوكو، وكانت قد حلّت الذكرى الثلاثون لرحيلِه، ما زالَ يواصِلُ إصدار الكتُب. اليومَ، ونحنُ على مقربةٍ من الذكرى الأربعين للحَدَثِ نفسِه، لا يبدو أنّ ذخيرةَ الرجلِ من الكتبِ غيرِ المنشورةِ قد نفِدَت. وإذا كان الوقوعُ على نصوصٍ مجهولةٍ بين أوراقِ المؤلّفينَ المتوفّينَ أمراً مألوفاً فإنّ حالةَ فوكو تبقى استثنائيّةً لهذه الجهة. فالرَجُلُ الذي غابَ، في حزيران 1984، عن سَبْعٍ وخمسينَ سنةً، لا غيرَ، لم يكن مقلّاً في التأليفِ والنشرِ، في حياتِه، ولم يكن مكثاراً أيضاً: وإنّما يصحُّ اعتبارُه معتدِلاً عندَ الاعتدادِ، على الخصوصِ، بالسعةِ غيرِ المعتادةِ لقاعدةِ الوثائقِ والمعارفِ التي يُرسي عليها كُلّاً من مؤلّفاتِهِ الكبرى وبالنسيجِ البالغِ الإحكامِ لنثرِهِ ذي الأسلوبِ الشديدِ التَمَيُّز.
مع ذلكَ باتَ عدَدُ الكتُب التي صدَرَت لفوكو بعدَ وفاتِهِ، حتّى اليومِ، يفوقُ كثيراً ما كانَ أصدرَهُ في حياتِه. وهو ما يُحِلُّنا منه – على التقريبِ – محلَّ أبي العَتاهيةِ من فقيدِهِ إذ يُخاطبُهُ قائلاً:
وكانت في حياتِكَ لي عِظاتٌ / وأنتَ اليومَ أَوْعَظُ منكَ حَيّا!
على أنّ ما قد يثيرُه هذا التفاوتُ من استغرابٍ يضؤلُ كثيراً حين ننظرُ إلى الفئاتِ التي تتوزّعُ بينها هذه المؤلّفاتُ، مع العِلمِ أنّ ظهورَها ما يزالُ يتوالى. تتَمَثَّلُ الفئةُ الأولى في المقالاتِ والأحاديثِ والتعليقاتِ وما جرى هذا المجرى وقد جُمِعَت، بلا تبويبٍ سوى نرقيمِها المُسايِرِ لتتابُعِها الزَمَنيّ، وصدَرَت، سنةَ 1994، في أربعةِ مجلّداتٍ ضخمة تحتوي على 364 نصّاً موسوعيّةِ التفرُّعِ والتنوّع…
الفئةُ الثانيةُ هي دروسُ فوكو في الكولّيج دو فرانس، وقد اكتمَلَ صدورُها في ثلاثةَ عشرَ مجلّداً وهو عدَدُ السنواتِ التي قضاها الرجلُ أستاذاً في المؤسّسة، ابتداءً من سنةِ 1971. الفئةُ الثالثةُ تضمُّ دروساً أقلَّ شهرةً كانت نصوصُها محفوظةً في أوراقِ فوكو، وهي ما كان قد احتفَظَ بِهِ من تلكَ التي ألقاها في مؤسّساتٍ دَرَّسَ فيها قبلَ دخولِه الكولّيج دو فرانس. صدَرَ من هذه الفئةِ الأخيرةِ إلى الآنِ أربعةُ مجلّداتٍ وما نزالُ موعودينَ – على الظاهرِ! – بِما لا يقِلُّ عن ثلاثة. والثلاثةُ الموعودةُ هذه مثيرةٌ لفضولٍ استثنائيٍّ إذ هي تضمُّ أوّلاً الدروسَ التي كرّسها فوكو، في جامعةِ تونس، بين عامَي 1966 و1968، لموقعِ “الإنسان” في الفكرِ الغربيِّ الحديثِ وتَضُمُّ ثانياً الدروسَ التي كرّسَها لنيتشه، بعدَ ذلك، في جامعةِ نانتير. ومعلومٌ أنّ “الإنسانَ” و”موتَهُ” أصبحا، مع صدورِ “الكلماتِ والأشياءِ”، سنةَ 1966، أشدَّ المسائلِ جداليّةً في فكرِ هذا المؤلّفِ. ومعلومٌ أيضاً أنّ نيتشه يحتلُّ مكانَ صَدارةٍ غيرَ منازَعٍ في الخريطةِ الفوكلدِيّةِ للفكرِ الفلسفيِّ الغربيّ، من جهةٍ، وفي التكوينِ أو “النَسَبِ” الفلسَفِيِّ لفوكو نفسِهِ، من الجهةِ الأخرى…
وأمّا “دروسُ” الكولّيج دو فرانس فيُسايِرُ معظمُ موضوعاتِها ما أصدَرَهُ الأستاذُ من كتُبٍ، في المرحلةِ نفسِها أو في عشاياها أيضاً: السجنُ وأنظمةُ المراقبةِ والمعاقبةِ، تاريخ الجنس، اللاسَواءُ والطبُّ النفسيّ، إلخ. وهذه مسايَرةٌ معهودةٌ عندَ الأساتذةِ في الكولّيجِ الذينِ تتَمَثَّلُ مهمّتُهُم أصلاً في نوعٍ من “البَحثِ بصوتٍ عالٍ” يؤولُ إلى تأليفٍ ونشر. ولكنّ “دروسَ” فوكو تتجاوزُ هذا النطاقَ أيضاً إلى مسألةِ “الذاتِ” و”تأويلِها” ومسألةِ المعرفةِ والسلطةِ، وهذه أصبحَ ذِكْرُها، مذ ذاكَ، مُلازِماً لذِكْرِ فوكو، ثمّ إلى مسائلِ “الحُكْمِ” أو “الحكمانيّة” وسياسةِ الذاتِ والغيرِ، إلخ.
عن هذه الفئاتِ ينفرِدُ كتابان: صدَرَ أوّلُهما سنةَ 2018 وعنوانُهُ “بَوْحُ الجَسَد”، وهو الجزءُ الرابعُ من “تاريخِ الجنس” الذي تغيّرَ تصميمُه كثيراً في الأعوام التي انقضت بينَ صدورِ الأوّلِ من أجزائهِ والفراغِ من تأليف الأخير. وكانَ وجودُ هذا الجزءِ الرابعِ معلوماً وكانَ معلوماً أنّ فوكو اشتغَلَ بتصحيحِ مخطوطِهِ في الأسابيعِ التي سبقت دخولَه المستشفى آخرَ مرّةٍ ووفاتَه. هذه حالٌ مختلفةٌ عن حالِ الكتابِ الآخر، وعنوانُه “الخطابُ الفلسفيُّ” وقد صدَرَ في شهرِ أيّار من السنةِ الجاريةِ، أي قبلَ أسابيعَ لا أكثرُ. فقد كانَ يُظَنُّ أنّ مخطوطَهُ ليسَ سوى مادّةٍ تحضيريّةٍ للدروسِ التي كان فوكو يعِدُّ نفسَهُ، سنةَ 1966، لإلقائها في جامعةِ تونس، عشيّةَ سفَرِهِ أليها. ولكن تبيّنَ من فحصِ المخطوطِ عن كثبٍ أنّهُ كتابٌ مستتِمُّ الأوصافِ ألّفهُ فوكو في منزلِ العائلةِ الريفيّ، في فاندوفر دو بواتو، في غربِ فرنسا، منتَهِياً بالمخطوطِ إلى الحالةِ التي بَقِيَ عليها في مدّةِ شهرٍ ونصفِ شهرٍ تقريباً، ومُرْجِئاً نشرهُ أو عازِفاً عن نشرهِ لسببٍ أو أسبابٍ لم تصلْ إلى عِلْمِ أحد.
عليهِ صدَرَ الكتابُ المشارُ إليه مؤخّراً في السلسلةِ نفسِها التي تضمُّ الدروسَ السابقةَ لدخول مؤلّفِهِ الكولّيج دو فرانس. وعلى غرار معْظَمِ ما صدَرَ من أعمالٍ لفوكو بعدَ وفاتِه، تتصدَّرُ الكتابَ إشارةٌ إلى مسؤوؤليّة فرانسوا إيفالد عن نشره، ويُذْكَرُ معهُ، شريكاً في هذه “المسؤوليّةِ”، في حالةٍ واحدةٍ على الأقَلِّ، دانييل دوفير. وكان إيفالد مساعداً لفوكو في الأعوامِ الأخيرةِ من حياتِهِ وكان دوفير رفيقَ حياةِ فوكو ابتداءً من سنةِ 1963، وقد آلت إليهِ تركتُهُ بما فيها أوراقُهُ التي اشتَرَتْها منهُ المكتبةُ الوطنيّةُ الفرنسيّة لاحقاً.
ويُذْكَرُ، في هذا المَساقِ، أنّ فوكو تركَ وصيّةً لا تَتجاوزُ السطْرَ الواحدَ طلَبَ فيها ألّا تُنْشَرَ لَهُ، بَعْدَ وفاتِهِ، أعمالٌ لم يَكُنْ نشَرَها في حياتِه. هذا، على الأرجَحِ، ما يُفَسِّرُ الإشارةَ، في حالةٍ أولى، إلى “مسؤوليّةِ” دوفير (الذي تُوَفّيَ في شباط الماضي أي عَشيّةَ صُدورِ الكتابِ الأخيرِ الذي يستوقِفُنا هنا)، وهو صاحبُ قرارِ النشرِ، و”مسؤوليّةِ” إيفالد، في الحالاتِ كلِّها، عن إصدارِ ما صَدَرَ من أعْمالٍ لفوكو بَعْدَ رحيلِه. فالواقِعُ أنّهُما توَلّيا معاً جمعَ موادِّ المُجَلَّداتِ الأربعةِ التي صدَرَت، قَبْلَ الكتُبِ الأخرى، تحتَ عنوانِ منطوقاتٌ ومكتوباتٌ، ولا يُعَدُّ إصدارُها مخالفةً للوصيّةِ إذ كانت موادُّها (أو الكثرةُ الكاثرةُ منها، في الأقَلِّ!) قد نُشِرَت، مِن قَبْلُ، متفرّقةً بينَ مواضِعَ كثيرةٍ. فاقْتُصِرَت مبادرةُ الرجُلَينِ على إصدارِها مجتمعةً مع التوابِعِ المفروضةِ وبينها سيرةٌ ثمينةٌ (وضَعَها دوفير) لنشاطِ فوكو وتَقَلُّبِ أحوالهِ، منَجَّمةٌ سنةً فسنةً وشهراً فشَهْراً. وأمّا الكُتُبُ اللاحقةُ فعُهِدَ بتقديمِها وتحريرِها، أي بإعدادِها الحِسِّيِّ للنشرِ، إلى آخَرينَ عديدينَ تكوّنت منهم “هيئةٌ ناشرة”. بينَ أعضاءِ هذه الهيئةِ، يستوقِفُ اسمُ فريديريك غْرو الذي أشرفَ، بَعْدَ تولّيهِ تحريرَ بعضٍ من الكُتُبِ المُشارِ إليها، مشرفاً على إصدارِ مجلّدينِ ضَخْمينِ من مُجَلَّداتِ “مكتبةِ لا بلياد” ضَمَّنَهُما ما اعتُبِرَ الأهَمَّ من أعْمالِ فوكو. ولكن بقيَ دوفير وإيفالد متابعَيْنِ لمهمّةِ النشرِ الجاري برمَّتِها مُتَحَمِّلَينِ وحدَهما “المسؤوليّةَ” عن خَرْقِ وصيّةِ المؤلّف.
على هذا تولّى كلٌّ من أورازيو إيرّيرا ودانييل لورنزيني مهامّ التحريرِ والتقديمِ في الحالةِ الأخيرة، وهي حالةُ كتابِ الخِطابِ الفلسفيِّ الذي نُكَرِّسُ له عُجالَتَنا المقبِلة…
———————————-
ميشال فوكو و”الخطابُ الفلسفيّ” (2/2)/ أحمد بيضون
هذا الكتابُ الذي سمّاهُ ميشال فوكو “الخطابَ الفلسفيَّ”، وكان قد بقيَ مجهولاً إلى أمسِ، يُقرأُ من عنوانِهِ: لا بمعنى أنّ القارئَ يقعُ فيه على المألوفِ المنتظَرِ من الأفكارِ، في موضوعِه، بل بمعنى أنّ عنوانهُ لا يُجاوزُ تسميةَ موضوعهِ باسمِهِ الصَريح. لا لُغزَ في العنوانِ هنا على غرارِ “الكلماتِ والأشياءِ”، مثلاً، أو على غرارِ “إرادةِ المعرفةِ” إذ تُسَمّي المدخلَ إلى تاريخ الجنس… “الخطابُ الفلسفيُّ” هُنا هو الخطابُ الفلسفيُّ، لا أكثرَ ولا أقلّ… على أن يكونَ القارئُ متوفّراً على حدسٍ ما لما هو الخطابُ ولِما هي الفلسفة…
في ما يتعَدّى صراحةَ العنوانِ هذهِ، يتعيّنُ على القارئِ أن يُهَيِّءَ نفسَهُ لمفاجآتٍ، بل لصدَماتٍ، يُضمِرُها الكتاب: هذا على الأقلِّ إن لم يكُنْ أَلَمَّ، من قَبْلُ، بأعمالٍ نشرَها فوكو في المدّةِ التي يتوسّطُها تأليفُ هذا الكتابِ: أي في النصفِ الثاني من ستّيناتِ القرنِ الماضي… ب”الكلِماتِ والأشياء” وب”حَفْرِيّات المعرفةِ” على الخُصوص. فنحن مع “الخطابِ الفلسَفيِّ” في المَدارِ نفْسِهِ الذي استكشفهُ هذان الكتابان أو على مقربةٍ منهُ ونحنُ نُلِمُّ فيهِ بتصوّراتٍ ركنيّةٍ فَصّلَها الكتابُ الثاني.
يبقى أنّ استفزازَ السائدِ يبدأُ في “الخطابِ الفلسفيِّ” من تعيينِهِ مهمّةَ الفلسفة. فخلافاً لتصُوُّرٍ شائعٍ يرى هذه الأخيرةَ محلِّقةً فوقَ عالَمِ الجزئيّاتِ، ضاربةً صَفْحاً عن العابرِ، معاينةً سائرَ المعارفِ من أعلى لترسمَ لها حدودَها التاريخيّةَ فيما هي، أي الفلسفةُ، تزعُمُ لنفْسِها طاقةَ البقاءِ بمعزِلٍ من تَصَرُّفِ التاريخ، يجعَلُ فوكو مهمّةَ الفلسفةِ ما يُسِمّيهِ “تشخيصَ الحاضر”. هذا الحاضرُ مثلَّثُ الأبعادِ عندَهُ يتشكّلُ من “الذاتِ” وال”هُنا” و”الآنِ” أو يشكّلُهُ، بالعبارةِ الأدَقِّ، موقعُ الذاتِ من ال”هُنا” و”الآن”. بهذا الموقعِ، يفترقُ الخطابُ الفلسفيُّ عن ضُروبِ الخطابِ الأخرى، أي عن كلٍّ من الخطابِ العِلْميِّ والخطابِ الأدَبيِّ والخطابِ الدينيِّ والخطابِ اليوميّ.
هذا التشكيلُ العامُّ لعالَمِ الخطابِ لم يكن، على الدوامِ، على الحالِ التي هو عليها اليوم. بل هو قد وُجِدَ، في أوروبّا، في مطلعِ العصرِ الأوروبيّ الموسومِ بالكلاسيكيّ: أي في مطلعِ القرنِ السابعَ عشرَ، مع ديكارت في ما يتّصِلُ بالفلسفةِ وفي المُدّةِ نفسِها مع ثرفانتس في ما يتَّصِلُ بالأدبِ ومع غاليليلو في ما يتّصِلُ بالعُلوم. وذاكَ أنَّ كُلّاً من قطاعاتِ “الخطابِ” تلكَ قد استقلّ، في ذلك العهدِ، بتشكيلٍ لحاضرهِ تميّزَ بصيغةٍ بعينِها للعلاقةِ بين أركانِ ذلكَ الحاضرِ الثلاثة وميّزَهُ عن سواهُ من القطاعات. هكذا وُلِدَ في ذلكَ العهْدِ لا قَبْلَهُ، وفي نطاقِ الثقافةِ الأوروبيّةِ لا خارجَها، ما نسمّيهِ، في أيّامِنا، الفلسفةَ أو ما يسمّيهِ فوكو الخِطابَ الفلسفيّ. وُلِدَ من انفصالِ الفلسفةِ عن الدينِ، وهو انفصالٌ قلَبَها رأساً على عَقِبٍ إذ غَيَّرَ حدودَها وأدواتِها، بِما هي معرفةٌ، وبدّلَ موضوعاتِها مُسْتَبْعِداً إلى هوامِشِها موضوعاتٍ كانت هي مداراتِ الكلامِ فيها، شادّاً وثاقَها إلى حاضرٍ جديدٍ لم يبقَ لها فكاكٌ من هَمِّهِ ولا رجوعٌ منهُ إلى ما سبَقه.
هذا كلّهُ مع العِلْمِ أنّ ما يطلقُ عليه فوكو اسمَ “الحاضرِ” ويجعَلُ تشخيصَهُ هَمّاً للفلسفة لا يستبعِدُ الكلامَ في الماضي بل يعيّنُ لهُ وظيفةً في الخطابِ يحكُمُها ضابطُ “التواؤُمِ” الذي يشيرُ إلى شركةٍ في البنيةِ والغايةِ وهو، في عُرْفِ فوكو، غيرُ “التواقُتِ” الذي يملي لزوماً لا محلَّ لهُ للّحظةِ الواحدة. إشارةٌ أخرى لا بدَّ منها وهي إلى كونِ “الحاضرِ” في الهَمِّ الفلسفيِّ والمحايثةِ في تشكُّلِ الخطابِ وفي العلاقات بين قطاعاتِهِ لا يمنعُ فوكو من الإشارةِ أحياناً إلى الخطابِ الفلسفيِّ على أنّهُ “خطابُ الخُطبِ”، وهو ما يُوافِقُ التصوُّرَ الرائجَ للفلسفة، ولكنَّ المؤلّفَ يلزَمُ حدَّ الإشارةِ النادرةِ بصدَدِه فلا يتبسّطُ في موقعِ هذا الوصفِ من المهمّةِ التي تختصُّ بها الفلسفةُ الحديثةُ في عُرْفِه.
بعدَ هذه المرحلةِ من الكتابِ، وهي تنطوي على تعريفِ الخِطابِ الفلسفيِّ بالتقابلِ مع قطاعاتِ الخطابِ الأخرى، يعمِدُ فوكو إلى قراءةٍ لهذا الخطابِ يسعُنا التمييزُ في سياقَتِها بين عملِيَّتينِ تبدُوانِ مستقلّتينِ إحداهُما عن الأخرى وإن لم تَخْلُوَا من تداخُل. الأولى عَمَلُ ترسيمٍ لبُنى الخطابِ الفلسفيِّ العامّةِ تُظْهِرُ ما فيه من توجّهاتٍ متخالفةٍ ومن تكاوينَ متراتبة. يُباشِرُ فوكو هذا العَملَ برصدِ وظائفَ أربعةٍ تتَرَتَّبُ عَنْها المهمّاتُ الأساسيّةُ للفلسفةِ بعدَ ديكارت. ويطولُ بنا الكلام إن نحنُ حاولنا أن نتجاوزَ تسميةَ هذه المعالِمِ المميّزةِ للخطابِ الفلسفيِّ إلى التعريفِ بها، فنكتفي بالأسماءِ وما توحي به. فأمّا الوظائفُ فهي “التسويغُ” و”التأويلُ” و”النقدُ” و”الشرح”. ويأتي بعدَها – أو فوقَها، بالأحرى – ما يسَمّيهِ فوكو “الشبَكاتِ النظَريّةَ” وهي “تصاميمُ كبرى” تنتظِمُ فيها الفلسفات.
وفي نطاقِ هذه الشبكاتِ تغدو التوجّهاتُ المتخالفةُ ممكنةً، بحيثُ تتشكّلُ أبنيةٌ خطابيّةٌ أربعةٌ متنابذةٌ في ما بينَها. فتظهرُ المواجهةُ بينَ “نظريّةِ الكَشْفِ” و”نظريّةِ الظهورِ” والمواجهةُ الأخرى بين تحليلِ الظاهرِ واستكشافِ المُضْمَرِ أو اللاشُعورِ، إلى آخرِ القائمةِ ممّا لا غَرَضَ لعجالتِنا هذه في استيفاء ذكره… تكفي الإشارةُ إلى تفتُّقِ هذه المواجَهاتِ عَمّا هو “الحقولُ الأوّليّةُ” أو العناصِرُ الظاهرةُ للفلسفاتِ من نظريّةِ الذاتِ إلى تحوّلاتِ المحيطِ العَمَليِّ إلى البحثِ في معنىً للعالمِ، إلخ. وهذا إلى أن نفضي، مع فوكو، إلى طبقةٍ أخيرةٍ من تشكّلاتِ الخطابِ الفلسفيِّ المتراتبةِ، يلحَظُها ويسَمّيها “الوحَداتِ النِظاميّةَ”، وهي تتولّدُ من تشابُكِ الوظائف متفرّعةً بدورِها تَبَعاً للاختلاف في إملاءاتِ هذه الأخيرة.
إلى عملِ الترسيمِ هذا – وقد اضطُرِرْنا إلى الابتِسارِ كثيراً في عَرْضِهِ – يقرِنُ المؤلّفُ عَمَلَ تتبُّعٍ للمراحلِ أو الأطوارِ التي شهدَتْها الفلسفةُ الغربيّةُ بعدَ ديكارت. وتستوقفُهُ في هذا التتبُّعِ محطّتانِ كُبْرَيانِ هما كانط ونيتشه. وخُلاًصةُ دورَيْهِما أيسرُ مأخَذاً، إلى حدِّ ما، من خلاصةِ الترسيمِ الهيكليِّ التي حاولنا الإلمامَ بها لتَوِّنا. فزبدةُ القولِ في كانط الذي يعِدُّه فوكو بيضةَ ميزانِ الفلسفةِ الحديثةِ أنّه رسَمَ حدوداً قاطعةً لما تُسْتَطاعُ معرفتُهُ اسْتَنَمّت القَطْعَ مع الفكرِ الماورائيّ، بخلفيّتِهِ الدينيّةِ، معيدةً تعريفَ موقِعِ الإنسانِ في الوجود. هَكَذا كَرَّسَت الفلسفةُ النقديّةُ خُروجَ ثالوثِ اللهِ والنَفْسِ والعالَمِ من دائرةِ ما تُسْتَطاعُ معرِفتُهُ بذاتِه، مغَيِّرةً موقعَ هذا الثالوثِ من الفكرِ الفلسفيِّ ومَرْمى هذا الأخيرِ من تناوُلِهِ حينَ يحْصُل.
وأمّا نيتشه الذي لا تزالُ الفلسفةُ المعاصرةُ تستهدي سُبُلَها في أَثَرِ ثورتِهِ فقد لا نَكونُ قادرينَ على تبيُّنِ ملامِحِ التغييرِ الذي أحدثَهُ في فِكْرِنا بأَسْرِها لأنّنا مقيمونَ في الصورةِ التي رَسَمَها لعالَمِنا فلا يَسَعُنا الإحاطةُ بِها كلَّها. وإنّما نُدْرِكُ تحطيمَهُ الفلسفةَ أو بَعْثَرَتَهُ إيّاها بِما هي نِظامٌ مسْتَقِلٌّ للتفكيرِ، أي ما سَمّاهُ “التفَلْسُفَ ضَرْباً بالمِطْرقةِ”، وتَجْريدَهُ إيّاها من أغراضٍ عُرِفَت بِها وعودَتَهُ بالخطابِ الفلسفيّ إلى محايثةِ الحاضرِ وإلى الكثرةِ – وهذا هو المعنى الأهَمُّ ل”موتِ اللهِ” – وإلى مخالطةِ قطاعاتٍ خطابيّةٍ أخرى أَظْهَرُها الأدبُ ومعهُ العُلومُ والسياسةُ، وقد يحسُنُ أن نُدْرِجَ، في هذا المسْلَكِ، الموسيقى أيضاً…
هذا ويَسْتَوْقِفُ امْتِناعُ المؤلِّفِ عن إدراجِ هيغل وماركس – مُتَواصِلَيْنِ أو مُتَواجِهَيْنِ – بينَ المَحَطّاتِ التي يُعِيِّنُها لإعادةِ التشكيلِ القَطْعِيّةِ هذه لمَدارِ الفلسفة. وقد تَحْسُنُ الإشارةُ هنا إلى كَوْنِ فوكو الذي انتسبَ انتساباً عابراً إلى الحزبِ الشُيوعيِّ الفرنسيِّ، في مَطْلَعِ الخمسيناتِ، حَظِيَ بالتَتَلْمُذِ تِباعاً على كلٍّ من جان هيبّوليت، أبْرَزِ مُتَرْجِمي هيغل وشُرّاحِهِ الفرنسيّينَ في أيّامِهِ، ولويس ألتوسّير، الماركسيِّ الجِداليِّ المُتَصَدِّرِ في السِتّيناتِ والسَبْعيناتِ، وأنّهُ بَقِيَ مُحاوِراً لَهُما إلى النِهاية. وإذا كانَ الكتابُ الذي نحْنُ بصَدَدِهِ يكادُ يخلو من ذِكْرِ الماركسيّةِ أصلاً فإنّ مُحَرِّرَيهِ يشيرانِ، مَثَلاً، إلى معارضةِ المؤلّفِ لنسبةِ ألتوسّير “قَطيعةً مَعْرِفيّةً” في الاقتصادِ السياسيِّ إلى ماركس ويُنَوِّهانِ أيضاً بإقرارِ المؤلِّفِ، في مَواضِعَ أخرى، بِكَوْنِ هيغل هو الذي حَمَلَ العلاقةَ بينَ الفلسفةِ واللافلسفةِ على مَحْمَلِ الجِدِّ الكُلِيِّ فاستَوَت معهُ هذه العَلاقةُ محوراً للفلسفة…
تلكَ إذَن حالُنا و”الخطابَ الفلسفيَّ” في كتابِ فوكو النَفيسِ والصعْبِ القراءةِ لتَقَشُّفِه. ولكن ما “الخطابُ”، في مُبْتَدَإ أَمْرِهِ، أي قَبْلَ تَوَزُّعِهِ بينَ الأنواعِ أو القِطاعات؟ هذا التَصَوُّرُ الرُكنيُّ في فِكْرِ صاحِبِنا يبدو في الكتابِ الذي نعرضُ له وقد توسّعَ كثيراً عَمّا نعرفُه له من حدودٍ في مُقارَباتٍ سابقةٍ للمؤلّف. فهو يشتَمِلُ هنا – على ما يُنَبِّهُ إليهِ مُحَرِّرَا الكتاب – على كلِّ ما تمّ التلفُّظُ بهِ في عصرٍ بعينِه وعلى جملةِ القواعِدِ التي تضبطُ انتخابَ ما قيلَ ويُقالُ وتداولَهُ وحفظهُ، وهذا ما تُعْنى بوصْفِهِ “الحَفْرِيّاتُ” أو “الآثاريّاتُ” التي وضَعَ فوكو قواعدَها في الكتبِ الثلاثةِ التي يتوسَّطُها “الخطابُ الفلسفيُّ” مسبوقاً ب”الكلِماتِ والأشياءِ” ومَتْبوعاً ب”حَفْرِيّاتِ المعرفة”. وهذا أيضاً ما يعنيهِ جَعْلُ الخطابِ، في الفصولِ الثلاثةِ الأخيرةِ من الكتابِ، وجهاً آخرَ لل”محفوظاتِ”، وهذهِ سيتَواصَلُ بُروزُ موقِعِها في “الحَفْريّاتِ” أيضاً…
والخطابُ، في عُرْفِ فوكو، طبَقةٌ كلاميّةٌ مستقلّةٌ بقواعِدِها. فهو شيءٌ غيرُ اللغةِ ووحدَتُهُ هي “النُصَيْصُ” (énoncé ونعتَمِدُ صيغةَ التصغيرِ لتسميةِ هذه الوَحْدةِ الصُغْرى تمييزاً لها عن “النَصِّ” texte الذي قد يكونُ مقالةً أو كتاباً) وهي تختَلِفُ عن القولةِ المفردةِ أو الحُرّةِ بانتِظامِها في شبكةٍ معلومةٍ من الحدودِ والضوابِطِ وقابليَّتِها للتكرار. هذا النسيجُ المتَرامي الأطراف، يَدْخُلُهُ فوكو ويَجْهَدُ لحصْرِ إقامتهِ وتجوالهِ في حدودِه. فيندُرُ كثيراً أن نَقَعَ عندَهُ على إشارةٍ إلى شيءٍ يغيِّرُ شيئاً في أحوالِ الخطابِ من خارجه: إلى اختراعِ المطبعةِ مثَلاً! وهذا ناهيكَ بأن نقَعَ على ضوءٍ مسلَّطٍ على تَحَوُّلٍ في المجتمعِ يثمِرُ تَحَوُّلاً في الخطاب. بل إنّ المجتمعَ وتاريخَهُ هما ما يُقْرَأُ في أطوارِ الخطابِ وتَحَوُّلاتِه وتغيُّرِ تشكيلاتِه.
في صيغةٍ من صيغَتَينِ ينطوي عليهما المخطوطُ للفقرةِ التي تخْتِمُ الكتاب، يذهَبُ فوكو إلى تشخيصٍ مذهِلٍ لماهيّةِ “الوجودِ” في الثقافةِ الغربيّةِ وللأطوارِ التي عَبَرَتْها هذه الماهيّةُ في ثلاثةِ قرونٍ مضَت. فيكتُبُ أنّ الحدَثَ الحاضرَ إنّما هو تحوّلُ الخطابِ إلى “مرجعيّةٍ عامّةٍ” وأنّ قابليّةَ التحوُّلِ إلى خطابٍ باتَت “هي نفْسَها الوجودَ، لا أكثرَ ولا أقلّ”! حصَلَ هذا بعد أن كانَ الوجودُ، في طورٍ أوّلَ، هو التوفُّرَ على حقيقةٍ ثمَّ أصبَحَ يَتَمَثَّلُ، في طورٍ ثانٍ، في القابليّةِ للاختِبار… وأمّا الآنَ فالوجودُ هو قابليّةُ التحوّلِ إلى خطاب!
في الحقِّ أنّ ما يُعْرَفُ إنّما يُعْرَفُ عادةً بتَحَوُّلِهِ إلى خطابٍ وأنّ امتناعَ المعرفةِ من غيرِ هذا السبيلِ رأيٌ له مناعتُه، وإن يَكُنْ يَحْتَمِلُ الجِدال. ولكنّ الوجودَ لا يُرَدُّ إلى المعرفةِ ومِن ثَمَّ إلى الخطاب! لا الألَمُ ولا الحَجَرُ يُرَدُّ إلى ما يُقالُ إشهاراً لوجوده! خلافُ هذا يشبِهُ، ولو من بَعيدٍ، سؤالَ المِثاليِّ، في الخُرافةِ المعروفةِ، عَمّا إذا كانَ العالَمُ يبقى موجوداً حين يكونُ السائلُ مُغْمِضاً عينيه…
المدن