ماذا حدث ل”انتفاضة العشائر في شرق سورية” -مقالات مختارة-
تحديث 08 تشرين الأول 2023
——————–
ماذا يحدث في دير الزور؟/ بشير أمين
لم يكن الصراع بين عشائر عربية وقوات سوريا الديمقراطية ليُفاجئنا لو جاء في ظروف غير التي تمر بها سوريا اليوم: أي بعد سنوات من الصراع المُسلَّح في سوريا. ذلك أن الحساسيات الإثنية والقومية الموجودة في الجزيرة السورية وبين مختلف الإثنيات تعود لعقود من الزمن، وبالأخص بين كُرد الجزيرة وعرَبها. حساسيات سياسية، وديموغرافية وعرقية سابقة للانتفاضة السورية (2011) والانتفاضة الكردية (2004). فمنذ مشروع ما سُمي بـ«الحزام العربي» في أوائل الستينيات، وصولاً لانعكاسات الصراع خلف الحدود بين كُرد العراق والنظام العراقي والتمرد المسلح على الحدود الشرقية، تأسَّسَ الشِقاق في علاقة كرد وعرب الجزيرة السورية. كما عَمد النظام السوري إلى تعميق هذا الشقاق على مدى عقود، من خلال تعيين عناصر أمن وشرطة من عرب المنطقة في مناطق الكثافة الكردية، وتوطين سكان عرب في بيوت سكّانها كرد بعد استخلاصها منهم بحجج مختلفة.
كان هناك إذاً أرضية خصبة لتفاقم صراع أهلي دموي (كردي عربي) في الشمال الشرقي بُعيد بداية المعارك والتسليح في سوريا. لكن تأخُّر هذا الصراع، إن صح القول، يدعونا إلى التمهّل والتساؤل عن الخارطة الإقليمية للصراع قبل الخوض في استنتاجات من نوع «أن ثورة عربية اندلعت ضد حزب العمال». لماذا تنتفض العشائر الآن ضد قسد بوصفها سلطة كردية تحكم غالبية عربية في دير الزور؟ من الضروري القول هنا إن صعود حركة اجتماعية معارضة للإدارة الذاتية بصفتها سلطة مستبدة هو أمر ضروري ومحق، وهي بالفعل موجودة منذ سنوات وبعيدة عن الإستقطاب الإثني. السطور التالية لا تُشكِّك في وجود مطالب شعبية، إنما تحاول القول إن تصوير الصراع على أنه كردي عربي هو قراءة متسرّعة للمشهد من جهة، كما أنه يساهم في إشعال نار صراع دموي قد يتجاوز في بدائيته الصراعات التي عايشها السوريون خلال السنوات الماضية. هذه محاولة في تعقيد النقاش والأسئلة المطروحة حول ما يجري في دير الزور.
يحتوي القول إن ما يحدث الآن في دير الزور عبارةٌ عن انتفاضة عربية ضد قمع كردي على إشكالَين أساسيَين؛ الأول أنه لا يلتفت إلى الحراك الاحتجاجي على قسد العابر للإثنيات والسابق على ما يحدث الآن، والثاني أنه يُهمل السياق الإقليمي وحروب الوكالة التي تجري في منطقة شرق الفرات. بهذا المعنى، يستسهل هذا الطرح تبني الزاوية القومية على حساب الصورة الكاملة والأكثر تعقيداً لما يجري.
في الواقع، هذه ليست المرّة الأولى التي تشهد فيها مناطق خاضعة لسيطرة الإدارة الذاتية (قوات سوريا الديمقراطية) تظاهرات واحتجاجات للمطالبة بتحسين ظروف العيش، ضد الفساد، والتجنيد الإجباري وغيرها. ربما كانت المرة الآخيرة قبل أقل من عام، حيث خرجت مظاهرات في قرى عديدة من دير الزور بسبب تردي الوضع المعيشي وسياسات تغيير المناهج الدراسية والتجنيد الإجباري وغيرها، وقد قابلتها قسد بالعنف والتفريق أو بتهميش هذه المطالب في أقلّ تقدير. لم تلقَ أنباء هذه التظاهرات رواجاً واسعاً، وظلَّت حبيسة بعض المنصات الإخبارية السورية، كما كان الحال لسنوات طويلة. بالمقابل، تخرج أيضاً تظاهرات في مناطق الغالبية السكانية الكردية، تغلب عليها المطالب السياسية المتعلقة بالمشاركة في الحكم على المطالب الاقتصادية والمعيشية، بالإضافة إلى المطالبة بإلغاء التجنيد الإجباري وتجنيد القاصرات والقاصرين، وبمحاكمات عادلة لمرتكبي الجرائم من عناصر قسد مثل قتلة شُبان وشابات عامودا 2013.
إذن، الاحتجاج ضد قسد لا يقتصر على مكون بعينه في الجزيرة السورية، بل هناك موجات من الاحتجاجات المتكررة من أهالي المنطقة، كرداً وعرب، لم تتوقف منذ عشر سنوات، وتعود إلى الشارع بشكل متقطع ومتفرق. بل على العكس ربما، قد يكون الحراك السياسي في المناطق الكردية أعلى وتيرة بسبب الاستقطاب السياسي الكردي وحشد المجلس الوطني الكردي في مواجهة قسد ومطالب المشاركة بالحكم في المنطقة. هذا الاستقطاب يمكن تصنيفه بين يمين ويسار إلى حد كبير، وجَعَلَ الحراك خلال السنوات الماضية أكثر زخماً.
حقيقة الأمر أن قسد ليست ديمقراطية، وهذا الأمر ليس بمفاجأة: ليس فقط للعرب المتواجدين في المنطقة وإنما بالنسبة للكرد أيضاً. بخاصة أن مفاضلة المظلومية التي يتعرض لها كل من الكرد أو العرب قد تصب لصالح الكرد بعد إقصاء قوات سوريا الديمقراطية لكافة الحركات السياسية الكردية غير المتجانسة مع فكرها، واعتقال قادة سياسيين وخطف أبنائهم، والاستيلاء على ممتلكات سياسيين كرد، وقمع المظاهرات، علاوة على إنهائها للحراك الشبابي المرتبط بالانتفاضة السورية منذ 2013. بل يذهب رأي كردي سائد إلى أبعد من ذلك باتهام قوات سوريا الديمقراطية بتفضيلها للعرب على الكرد، وابتعادها عن «كرديتها». فبعد التفاؤل الذي ساد بتشكُّل كيان سياسي كردي في شمال شرق سوريا، على شاكلة العراق، توجَّهت سوريا الديمقراطية نحو خطاب أممي «أخوة الشعوب» ساعية لدمج مكونات عربية وآشورية وسريانية معها، الأمر الذي دفع بالرأي السائد إلى اتهام قسد بتزييف هذا التناغم وبالخروج عن «الأجندة الوطنية الكردستانية». عدم النظر إلى هذا كله، والتركيز فقط على الجانب القومي الكردي-العربي فيما يحدث الآن يبدو شبيهاً بوصف انتفاضة عام 2011 بكونها انتفاضة سنّية على النظام العلوي.
الشطر الآخر من هذا الرأي، يُغفل التطورات الإقليمية الحاصلة التي توحي بحرب وكالة في شرق الفرات. لا يخفى على أحد أن قسد قد حصرت حربها في المنطقة بتركيا وفصائل المعارضة المدعومة منها، ونأت بنفسها عن محاربة كل من النظام أو توابع إيران. كما أبقت قسد على حليفتها الرئيسية، الولايات المتحدة الأميركية، من خلال الحرب ضد داعش. ويبقى هنا السؤال ذو الإجابة الصعبة: هل استفادت قسد من الحرب ضد داعش أم تورطت بها؟ ربما أنَّ الإجابتين صحيحتان؟
لم يكن وجود قسد شرقي الفرات مرتبطاً بالتوسع الكردي على حساب المكون العربي، أو أن هذا ليس هو الدافع، وإنما الحرب ضد داعش برعاية التحالف، الذي لا يزال داعماً لقسد، وتراجُع قسد في ظل دفع تركيا لها بعيداً عن الحدود. بمعنى آخر، قسد تتواجد في المناطق التي تطلب منها الولايات المتحدة أن تكون متواجدة فيها، والتضارب الحقيقي اليوم هو بين حليفي أميركا؛ قسد وتركيا. جليٌّ استفادةُ تركيا من صراع بين عشائر عربية وقوات قسد، مع تمدد إيران في المنطقة، وعشائر نواف البشير التي لم تُخفِ تقاربها مع نظام الأسد. بالتالي، المعارك في شرق الفرات لها طابع جيوسياسي مهم ومعقد، وإن حَوت مطالب من أهل المنطقة، فهي مطالب يتشارك بها مواطنو عامودا والقامشلي أيضاً. لا يقتصر الموضوع على انتفاضة عربية ضد قسد الكردية. وإنما يتوجّبُ الوقوف للسؤال، من هو المستفيد الأول من تصاعد الصراع على الحدود الشرقية؟ ومن هي الأطراف الفاعلة في تلك المنطقة؟
المفارقة أن قسد نجحت في خفض أو تجنب صراع أهلي قَبَلي، رغم ادعائها عدم وجوده من الأساس. أتّفقُ هنا مع ما ورد في مقال قاسم البصري في الجمهورية عن محاولات قسد لكنس مشاكلها تحت الطاولة. بيد أن المقال نسب الأحداث الأخيرة إلى الاستيلاء الكردي على قسد مُحذّراً من تنامي خطاب شوفيني ضد الكرد سببه عنف قسد، ولكن علينا أن نتذكر أنه قبل قسد كان هناك خطابات شوفينية عديدة ضد الكرد منذ عقود، ووصلت أشدها خلال سنوات الحرب. حقيقة الأمر أن الشوفينية والعنصرية المتبادلة بين الكرد والعرب تكاد تكون مثل الدجاجة والبيضة مؤخراً، ونَسبُ ذلك إلى قسد أو البحث عن مصدر واحد له لا يمكن أن يكون أمراً دقيقاً. هذا لا يعني إخراج قسد من النقاش، وإنما تَذكُّر أن هناك معادلتين: الأولى مطالب سياسية ضد الإدارة الذاتية يشترك فيها جميع سكان المنطقة بمنأى عن أي صراع إثني؛ والثانية هو البعد الجيوسياسي للنفوذ في شرق الفرات. وفي هذه الحالة يكون أطراف الصراع خارج أسوار جغرافية الجزيرة السورية ومشكلاتها المحلية. ذلك يدحض أن يكون الصراع الحالي أساسه صراعاً عربياً-كردياً بدأ على الأرض وتنامى، إنما هو حراك نفوذ سياسي مرتبط بمصالح إقليمية في شرق الفرات قد ينعكس وينفجر على شكل صراع محلي مرتبط بتكوين الجزيرة السورية والتطورات في السنوات الأخيرة.
أخيراً، فإن قراءة تجربة الإدارة الذاتية سيكون ضرورياً أيضاً في قراءة المشهد اليوم. لا يَخفى الإعجاب لدى كثير من التيارات السياسية إقليمياً وعالمياً بتجربة الإدارة الذاتية، سواء كان عن طريق قدرتها على تأمين ظروف عيش أفضل من مناطق النظام والمعارضة، أو من خلال جذب تيارات يسارية عالمية، أو حماية النساء إلى حد معقول، أو حتى تقسيم هرمية السلطة وكسب الناس أهلية أكبر. (مع الأخذ بعين الاعتبار أن التطبيق غير النظرية على كل حال). لكن الإعجاب بهذه التجربة، والتفكير في تطبيقها على مناطق أخرى في سوريا، يدفعنا إلى التفكير في مدى القدرة على تطبيق ذلك في مناطق دير الزور، منفصلة عن الحسكة. وبالتالي تمكين العشائر من إدارة نفسها بنفسها. وهنا نعود للسؤال: هل المشكلة في كردية قسد، أم في إيديولوجية قسد وشموليتها؟ وهل فعلاً من المفيد بمكان العودة إلى حكم العشيرة؟
تأويل ما يحصل في مدينة دير الزور، شرق سوريا، بأنها انتفاضة عشائر عربية ضد الحكم الكردي، قد يكون تبسيطاً لما يجري. وذلك ليس بسبب عدم أحقية انتفاضة من هذا النوع بالضرورة، وإنما بسبب تعقيدات ومستويات أكبر للصراع المحلي وصراع النفوذ الإقليمي في المنطقة. مع الاعتراف بأحقية أبناء المنطقة ككل، كرداً وعرباً في الاحتجاج والانتفاض ضد سياسات قسد الشمولية والأحادية. من المُنتِج التفكير في طبقات الصراع المتعددة في المنطقة، والتفكير في مفاصل تجربة الإدارة الذاتية، التي تحتاج ربما إلى ملف منفصل للدراسة والتقييم كمشروع وليس فقط ممارسات وكوارث كوادر قسد.
موقع الجمهورية
———————-
سلطة (قسد).. نقطة تقاطع القوى الكبرى/ أحمد عيشة
انكفأت سياسة الولايات المتحدة في سوريا إلى مكافحة الإرهاب المتمثل بتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، ومراقبة باقي المناطق مع ممارسة الضغوط على بعض الأطراف فيها، داعية إلى تطبيق القرار الدولي (2254)، من دون إكسابه أي قوة، شأنها في ذلك شأن كثير من الدول الصغيرة والكبيرة، وكذلك حال معظم السوريين، هذا الأمر الذي جعل كثيرين ينظرون إلى سياستها تجاه سوريا على أنها تراجع عن المنطقة، وتفويض لروسيا بلعب دور أكبر في سوريا، خاصة بعد صفقة الكيمياوي، واللجوء لخلق مناطق نفوذ حيث كانت منطقة الجزيرة السورية أو شرق وشمال الفرات من حصتها، معتمدة على القوة المسيطرة، قوات سوريا الديمقراطية، التي يتحكم فيها فعلياً كوادر حزب العمال الكردستاني.
قامت علاقة الولايات المتحدة مع قوات الاتحاد الديمقراطي (PYD) على أساس سياسي أولاً، وهو العنصر المهم المتمثل في مكافحة الإرهاب المتمثل بداعش أو التنظيمات الجهادية الإسلامية الأخرى، والاكتفاء بالمناورات مع نظام الأسد، وهو الموقف الذي مارسته منذ بداية الثورة قوات ذلك الحزب. ومعروف عملية تسليم المناطق بين النظام وقوات الاتحاد الديمقراطي، التي جرت في بداية الثورة سواء في عفرين أم القامشلي، وكأنها “عهدة” منقولة لأجل مسمى. هذا التسليم استفاد الحزب منه، وأسس هياكل لإدارة يطلق عليها مدنية، لكن جوهرها “أمنية”، تقوم على قمع الصوت المخالف، وخاصة إن كان ضد النظام الأسدي، من دون تفريق بين كردي وعربي، مقتدية بذلك بأسوأ نماذج الحكم الشمولي في العالم.
ولا شك أن التنظيم العسكري الحديدي، الذي يعود في أصوله إلى بنية التنظيمات اللينينية، خاصة أن الحزب يدعي انتماءه إلى الماركسية وتعديلاتها الأوجلانية، كان مزية مفضلة لدى الولايات المتحدة، باعتماده كقوات برية مرتزقة يمكن من خلالها أن تمارس أبشع الانتهاكات، مع إمكانية التهرب من مسؤوليتها القانونية فيما لو رفعت قضايا ضد هذه الممارسات يوماً ما، وهي ليست المرة الأولى التي تعتمد فيها الولايات المتحدة على قوات من “المتعاقدين” أو المرتزقة، فقد كانت كبيرة جداً في العراق وأفغانستان. وبالمقابل، وجدت تلك القوات مصلحة لها في أن تكون تحت حماية القوة الكبرى في العالم توفر لها حماية لـ “حدودها”، ناهيك عن الغطاء السياسي الذي توفره لها، والترويج الإعلامي في الغرب كقوة ديمقراطية تحررية تناصر قضايا تحرر المرأة.
لم تكتف قوات سوريا الديمقراطية بعلاقتها مع الولايات المتحدة، وإنما نسجت، وإن بدرجة أقل، علاقة مع روسيا، داعمة النظام الأسدي الأساسية، حيث تشاركت معها الوجود في بعض المناطق، مثل تل رفعت وأطراف منبج والقامشلي، حيث الجذر السياسي في هذه العلاقة هو الموقف من النظام الأسدي والتنسيق معه عند الضرورة. والموقف المهم لدى موسكو، الذي صرح عنه لافروف، وزير الخارجية الروسي، منذ بداية الثورة السورية، بأن بلاده لن تسمح أن يحكم المسلمون السنّة سوريا، وهو موقف ينسجم تماماً مع تطلعات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، تجاه مستقبل سوريا لأكثر من سبب، منها العرقي والطائفي، لكون صاحب القرار لدى الحزب المذكور، جهات فاعلة إيرانية متمركزة في قنديل.
وكذلك إيران، بتوجهها المعروف الإمبراطوري والطائفي، فهي ليست بعيدة عن العلاقة مع هذا الحزب، لأسباب عديدة، أولها أن الحزب أوقف عمليات فرعه في إيران، وثانيها عداؤه للحزب الديمقراطي (برزاني) في إقليم كردستان، وثالثها حربه مع تركيا، ورابعها الموقف من النظام، وأخيراً، الانتماء المذهبي المشترك لكثير من قيادات العمال الكردستاني. وقد ظهرت هذه العلاقة من خلال العلاقات العسكرية والسياسية مع قوات الحشد الشعبي في العراق -وهي منتج إيراني بحت- في منطقة سنجار، والدعم اللوجستي والمالي الذي يتلقونه، وهو ما ظهر مؤخراً في الأحداث الأخيرة بين (قسد) وأهالي المنطقة في دير الزور.
كان اعتقال أحمد الخبيل، قائد المجلس العسكري لدير الزور، وهو أحد الصيغ التي تعتمدها قسد في السيطرة، الشرارة التي أطلقت تحرك أبناء المنطقة ضد سيطرة قسد واحتكارها السلطة والموارد في المنطقة، إضافة للعنصر المهم، وهو التمييز الحاد ضدهم كعرب، ناهيك عن اعتبارهم “متخلفين”، لكونهم أبناء قبائل وعشائر بعيدون عن التنظيمات “المتحضرة” التي تشارك بقياداتها النساء، وغير ذلك من التهم الجائرة التي انعكست بمجملها بتهميش أبناء المنطقة، بل “تطفيشهم” خارجها، نتيجة الممارسات “الديمقراطية” جداً بحقهم. بالطبع كان لوجود القوى العديدة في المنطقة تداخلاتها واستثماراتها في ذلك التحرك النابع أساساً من القهر والتهميش تجاه المنطقة وأبنائها.
يمكن اعتبار منطقة الجزيرة السورية، تبعاً للقوى الموجودة فيها وتشابك وتعارض مصالحها فيها، منطقة صراع دولي بوسائل غير مباشرة، فهي تشكل ربع مساحة سوريا، وتحتوي على معظم ثرواتها من المياه والزراعة والنفط والغاز، ما يجعل منها منطقة صراع على الموارد، خاصة بالنسبة للنظام وروسيا، إضافة لذلك، فهي تشكل منطقة استراتيجية للولايات المتحدة ضمن تصوراتها للعلاقة مع تركيا وإيران، أما إيران فهي ترى فيها ضماناً لممرها الاستراتيجي نحو دمشق وبيروت. لا تلغي كل هذه التناقضات بين تلك القوى، وجود توافقات وقنوات تواصل، فالعلاقات الدولية تقوم على جناحين: التصارع والتوافق.
تتوافق تلك القوى المتصارعة، وخاصة الولايات المتحدة، الراعي الأساسي لقوات (PYD) وروسيا في تلك المنطقة، والذي تجلى مؤخراً في سكوت الولايات المتحدة وتغطيتها لما جرى مؤخراً في ريف دير الزور الشرقي، وقصف روسيا لأطراف منبج، على دعم نموذج سلطات الأقليات كنظام حكم في سوريا، ومنع قيام نظام ديمقراطي يعبّر عن هوية سكانها، وهو جوهر موقف القوى الكبرى بوصفها قوى امبراطورية لا تريد من المنطقة سوى تحويلها إلى جزر يحكمها قطع من “الفسيفساء” التي يدعون أنها تكّون سوريا، وهو ما يذكر ويؤكد تصور تلك القوى المنطقة منذ تأسيس تلك الكيانات قبل قرن من اليوم.
قد يفسّر ما جرى في ريف دير الزور الشرقي، من تقاطع القوى الكبرى في المواقف أكثر من تناقضها، الموقف الإمبراطوري للقوى الكبرى الذي قد يحوّل العلاقة بين الولايات المتحدة وقوات سوريا الديمقراطية من علاقة مع عشيقة إلى علاقة زواج متعة تباركه قوى أخرى، وتبقى نضالات السوريين عموماً وأبناء المنطقة خصوصاً -وسط كل هذه الصراعات- هي الأساس، وهي الكفيلة بتحقيق حلم السوريين، الحرية والكرامة.
————————
======================
تحديث 04 تشرين الأول 2023
——————————
سوريا: عن «انتفاضة العشائر» العاثرة/ ياسين الحاج صالح
يثير تمرد عشائر عربية على سلطة قسد في دير الزور ثلاث مسائل مختلفة، من شأن أخذها معاً بعين الاعتبار أن يساعد في بناء صورة أوضح لما جرى وتوجه أصوب بشأنه. تتصل أولى المسائل بشكاوى وجيهة لسكان المنطقة من متولي السلطة الفعلية فيها؛ والثانية بما تواتر من معلومات عن ضلوع أسدي إيراني في الدفع نحو المواجهة؛ والثالثة بالعنوان الذي اختير لهذا التمرد من المنخرطين فيه: انتفاضة العشائر.
قسد هي اختصار لعبارة «قوات سورية الديمقراطية» التي ظهرت بعد تحطيم سلطة داعش في مناطق من حلب والرقة ودير الزور والحسكة بقيادة أمريكية وقوات برية عمادها «وحدات حماية الشعب» الكردية، الذراع العسكري لتنظيم «الاتحاد الديمقراطي الكردستاني» الفرع السوري لـ«حزب العمال الكردستاني» في تركيا. تستجيب التسمية للتحول المتمثل في وقوع مناطق واسعة سكانها من العرب تحت سيطرة هذه القوات، ويحتمل كذلك أن التسمية تريد إعطاء بعدٍ سوري، يحجب المتن الأساسي لهذه القوات، ومركز ارتباطها بالحامي الأمريكي. لكن هناك بالفعل مقاتلين عربا ضمن قسد، وإن في مواقع غير مؤثرة. نظام الحكم في مناطق سيطرة قسد يسمى الإدارة الذاتية، ويفترض وفقا لما تقول التسمية إن السكان المحليين يديرون شؤونهم بأنفسهم. لكن الذات الفعلية في نظام الإدارة الذاتية هي تنظيم «الاتحاد الديمقراطي الكردستاني». قياديو التنظيم السوري والإرادة الذاتية، مثل مظلوم عبدي وإلهام أحمد وألدار خليل كانوا قياديين في الحزب الأم في تركيا، وكان من أول ما فعلوه بعد طرد داعش من الرقة رفع صور زعيم التنظيم المعتقل في تركيا، عبدالله أوجلان. هذا المنشأ الأوثق صلة بصراع كرد تركيا وتاريخهم وذاكرتهم طوال عقود، وليس إلا ثانوياً بتاريخ سوريا وصراعاتها، بما في ذلك تطلعات الكرد السوريين، هو نفسه ما زود هذا التنظيم ببنية حديثة متماسكة، وقيادات متمرسة، منهم المذكورون. وهو ما سيظهر كنقطة قوة بالمقارنة مع أي تشكيلات سورية أخرى ظهرت بعد الثورة.
شكاوى السكان المحليين تتصل بالضبط في أنهم غير ممثلين في السلطة التي تحكمهم ويفترض أنها سلطتهم، فليس هناك ما هو ذاتي في نظام الإدارة الذاتية. صحيح أن هناك عربا في أجهزة الإدارة الذاتية، لكن هنا أيضاً في مواقع واجهية وغير فاعلة. وقد يكون النموذج الأقرب لهذه السلطة هو في الواقع النظام الأسدي من حيث البنية المزدوجة للحكم: ظاهرة عامة وباطنة خاصة، ومن حيث النرجسية والثناء المستمر على النفس، من حيث المزايدة على الجميع، ومن حيث اللعب على حبال كثيرة في الوقت نفسه، ثم من حيث أن التذرع بداعش يحاكي تماماً تذرع النظام الأسدي بإسرائيل طوال عقود.
شكاوى السكان المحليين تتصل بالضبط في أنهم غير ممثلين في السلطة التي تحكمهم ويفترض أنها سلطتهم، فليس هناك ما هو ذاتي في نظام الإدارة الذاتية. صحيح أن هناك عربا في أجهزة الإدارة الذاتية، لكن هنا أيضاً في مواقع غير فاعلة
وفيما يتصل بالمسألة الثانية، الدعم المحتمل للنظام وإيران للتحركات العشائرية المضادة، لا يبدو أن ذلك رواية مختلقة، جزئياً على الأقل، حسب متابعين جادين مثل علي العبدالله في «العربي الجديد» (6 أيلول) وكل من حسن حسن وعمر أبو ليلى في «نيولاينز ماغازين» (اليوم نفسه). فرغم الأقنية المفتوحة لعلاقة الحليفين بتنظيم حزب الاتحاد الديمقراطي، إلا أنه يرجح أن يفضلا مشاغلة الأمريكيين وإرباك ميلهم المحتمل لضبط الحدود السورية العراقية، وهي ما يتعارض مع مصلحة النظام الإيراني وأتباعه أولاً وأساساً. وفي إعلامه دعم الحكم الأسدي تحركات العشائر بسخاء، وإن يكن فعل مثله معارضون كذلك، دفعوا الأمور في اتجاه صراع عربي كردي، لا تساهم بنية سلطة الإدارة الذاتية في تقوية قلب من يتحفظ عليه أو يرفضه. يلتبس الأمر على صنف من المعارضين بين التمثيل الفعلي للسكان وإسماع صوتهم، وهو مطلب مستمر وتحرري، وبين منازعة إثنية يتعذر أن يكون لها محتوى تحرري.
على أن الوضع في مناطق سلطة الإدارة الذاتية أكثر تعقيداً من أن يختزل التفجر العنيف إلى مخطط خفي من إيران وتابعها الأسدي. فروسيا، الحامي الآخر للنظام، هي التي قصفت قوات عشائرية في مناطق منبج. ولما تتقادم عروض سلطة الإدارة الذاتية لأن تكون جزءاً من جيش النظام، يحوز قدراً من استقلال ذاتي ضمنه. هذا على الأقل مصدر تشويش للواقعين تحت سلطة الاتحاد الديمقراطي من العرب، وهو يثير التساؤل عما نسبه مسؤولو الإدارة الذاتية إلى تمرد العشائر من استجابة لتحريض من طرف النظام. من لا يزال يرعى مربعات أمنية للنظام في الحسكة والقامشلي إلى اليوم؟ ومن يغدر بقضيته المفترضة حين يتهم من يرفعون صوتهم في وجهه بأنهم مدفوعون من قبل النظام (هذا حين لا يتهمون بأنهم دواعش) وهو بين حين وآخر ينسق بعض أموره مع النظام؟ من وجهة نظر كاتب هذه السطور، وهو من مدينة يحكمها التنظيم الكردي، لا يجوز التساهل مع عودة النظام إلى المنطقة بأي حال، ولكن هل يضمن المرء ألا تفعل سلطة الإدارة الذاتية ذلك بالذات؟ الأكيد أن قواسمها المشتركة مع النظام أكبر منها مع أي معارضين له، وليس مع التابعين لتركيا وحدهم.
في المسألة الثالثة، يستغرب المرء هذا الإلحاح على العشائر وانتفاضة العشائر، من قبل متكلمين باسمها. ما هو الجيد في ذلك؟ لماذا ليس السكان المحليين؟ لماذا ليس أهل الأرض؟ لماذا ليس مهضومي الحقوق؟ لم تكن العشيرة يوماً سندا لعدالة أو تحرر: كانت مع النظام، ثم مع داعش، ثم مع قسد ذاتها، ويعمل زعيم عشائري في المنطقة ذاتها، نواف البشير، لحساب إيران. العشائر توالي أي سلطة ما دامت تعزز السلطة الداخلية فيها. ومثل الطوائف، العشائر لا تدوم من تلقاء ذاتها، ولا تستمر بفضل غريزة استمرار ذاتية فيضطر الفاعلون السياسيون لأخذها بالاعتبار، بل هي تستمر عبر تمفصلها مع السلطة القائمة، وعبر إرادة هذه السلطة الاستتباع الجماعي للمنسوبين إلى العشيرة. العشائر كيانات واهنة، تنسب لها قوة ودوام ممن لا يعرفون أنها تتبع كل صاحب سلطة ممكن، أو من يفضلون ذلك. ومما لا يغتفر لتنظيم الاتحاد الديمقراطي أنه من أجل إعطاء انطباع بعدم استبعاد العرب، حرص على تمثيل عشائري حصري للعرب في مناطق سيطرتها، وهو ما يذكر في واقع الأمر بمسلك السلطات الاستعمارية التقليدية، كما بالحكم الأسدي ذاته.
تسييس العشائر خطر لأنها تقوم على نزع الصفة السياسية للمنسوبين لها، ولأن بنيتها تعتمد على علاقة التبعية الشخصية وروابط الدم الحقيقية أو المتخيلة، لكن دون السياسية في كل حال. والتسمية فوق ذلك تفصل هذا التمرد عن أي سياق عام أو وجهة عامة، بما في ذلك سياق الثورة السورية، ولا تستحضر شيئا من ذاكرة السوريين القريبة أو البعيدة، ولا تخاطب أي سوريين ليسوا عشائريين (وهذا خلافاً لانتفاضة السويداء المزامنة).
ولا يتحتم أن يجري الاعتراض على العشيرة انطلاقاً من منطق تحديثي فوقي، أو بالاستناد إلى فردانية ليبرالية. يحفزه بالأحرى منطق الحقوق وتمثيل الناس لأنفسهم، واستقرارهم في أرضهم. ليس أن الدولة وفاعليتها التحديثية (التعليمية والقانونية والمؤسسية وغيرها) غير لازمة، لكن هذه الفاعلية تبقى سطحية إن لم ترتكز على أسس يجدها عموم المحكومين عادلة وموافقة لـ«حقهم في الحقوق».
منطقة الجزيرة السورية التي يسميها «تنابل» من كل نوع «شرق الفرات» كأن سكانها وتسمياتهم طارئون على جغرافيا منطقتهم وتاريخها، قد تكون من أهم بؤر الصراع إقليمياً وليس في سوريا وحدها، بالنظر إلى وجود الأمريكيين والنظام والإيرانيين والروس، واحتلال الأتراك مناطق في شمالها، ثم جوارها للعراق، وكونها الممر بين إيران والعراق والأسدية ولبنان. ما يحول دون تلاعب هذه القوى الغريبة بأي قطاعات من السكان هو أن يكونوا ممثلين في هياكل السلطة التي تقوم باسمهم وفي أرضهم، لا شيء غير ذلك ولا شيء أقل منه.
كاتب سوري
القدس العربي
—————————-
القوى والصراعات في شرق سوريا!/ فايز سارة
عندما يكون الكلام عن شرق سوريا، فإنه يركز على منطقة، تمتد على طول يزيد على 600 كيلومتر، وإذا كان العراق جار سوريا على طول المسافة، فإن شمالها موصول مع تركيا جارة سوريا الشمالية، وجنوب المسافة موصول مع الأردن جار سوريا الأكثر امتداداً في الجنوب.
ورغم أهمية الثلاثة في جيرة سوريا الراهنة على خرابها وضعفها، فإن في شرق سوريا أطرافا أخرى، بعضها له وجود كثيف مثل الولايات المتحدة، التي يتوزع حضورها في حالتين، أولاهما وجود مباشر من خلال قواعدها وقواتها، وزعامتها «التحالف الدولي لمحاربة داعش» وفيه عشرات الدول، وللولايات المتحدة حضور غير مباشر في نموذج الأدوات أو الشركاء على نحو ما تبدو صورة «قوات سوريا الديمقراطية» و«جيش سوريا الحرة» في أبرز تعبيراتها.
والطرف الثاني المهم في شرق سوريا تمثله إيران، التي تماثل الولايات المتحدة في أشكال وجودها هناك، وأولها قوات وقواعد إيرانية تتبع الحرس الثوري موجودة في المنطقة، والثاني ميليشيات شيعية أبرزها العراقية المرتبطة بإيران، وثالث الأشكال قوة شيعية من سوريي المنطقة حديثة التكوين، نظمتها إيران على شاكلة ومحتوى نموذج «حزب الله» اللبناني، وهي تعمل على تسريع نموها وتقوية دورها في مواجهة احتمالات المنطقة.
ولا يقتصر الشرق السوري على القوى المشار إليها. بل فيه ثلاث قوى لها أهمية في صراع سوريا والصراع عليها المستمرين منذ اثني عشر عاماً، القوة الأولى هي قوات الحكومة التي ما زالت رغم كل ما حدث «صاحبة الشرعية الدولية» الذي تراعي وجودها القوى المختلفة من حلفاء وخصوم، وإلى جانبها طرف خفي تمثله إسرائيل، التي تفرض وجودها العسكري وامتدادها السياسي في الملف السوري، وتفرض ظلاله على المنخرطين فيه، والقوة الثالثة تمثلها روسيا صاحبة التأثير الوازن الذي لا يمكن تجاوزه في الملف السوري.
ويزيد إلى ما سبق وجود قوى محلية لم نشر إليها مثل قوات الصناديد، وقوات العشائر، التي تتنوع ارتباطاتها مع القوى الرئيسية، وهذا يضيف إلى واقع تنوع وتعدد القوى في شرق سوريا، ويبين مقدار تحشدها وكثافتها وتداخلها في منطقة محدودة المساحة، وهي صفات تجعل المنطقة فوق برميل بارود قابل للانفجار في أي لحظة، لكن ما يمنع الانفجار، حسابات وظروف الأطراف المختلفة، ومنها شعور الكثير من القوى بعدم الرغبة أو القدرة على الدخول في صراعات حاسمة، ويندرج الموقف الأميركي في إطار هذا البند، فيما تتبنى قوى أخرى موقفاً مختلفاً في سلوكها، جوهره حرص ظاهر على تمرير الوقت من أجل مراكمة تغييرات، تصب في مصلحتها، بدل أن تخوض معركة أو حربا عندها شك في احتمالات ربحها، كما هو حال إيران خاصة في تعاملها الظاهر مع العمليات العسكرية الإسرائيلية، التي جعلت الشرق السوري ميداناً لها.
التمرير الإيراني للوقت في سوريا وشرقها خاصة هدفه تحسين موقع إيران، وبناء أرضية صلبة على قاطع الحدود العراقية السورية، ويمثل بعضاً من استراتيجية إيران في استكمال خط مرورها إلى بيروت عبر دمشق، وعبر حمص باتجاه ساحل سوريا على المتوسط، وهو ما تعترض عليه الولايات المتحدة، لكنها تتجنب دفع تكلفة منعه، ما يعزز مساعي إيران نحو أهدافها، ويدفعها نحو متابعة مسيرة تمرير الوقت في الشرق السوري.
إن موازي الحشد الكمي والنوعي للقوى في المنطقة، كم هائل من صراعات قائمة وأخرى نائمة أو محتملة، صراعات مباشرة أو بالوكالة طبقاً لمحتويات هدف أو أهداف الحاضرين على ساحة الصراع في مستوياته وتداخلاته وروابطه المحلية والإقليمية والدولية.
وإن كان لنا أن نتوقف عند فكرة تجسيدات الصراع في شرق سوريا، فإن ثمة مثالين يستحقان مقاربتهما على نحو سريع وعام، أولهما الصراع مع «داعش» الذي شهدته المنطقة قبل سنوات، وانتهى إلى هزيمة «داعش» في معركة الباغوز في مارس (آذار) 2019 على يد «قوات سوريا الديمقراطية» بدعم ومساندة واشنطن والتحالف الدولي، ما يعني أن طيفاً من القوى الحاضرة في المنطقة، لم تشترك في الحرب على «داعش» رغم إعلانها العداء معه والحرب عليه، بل إنه وفي نتائج الحرب على «داعش»، فإنَّ أطرافاً أساسية من الذين شاركوا في الحرب على ما فعلت الدول الغربية، رفضوا المشاركة في معالجة نتائجها خاصة في موضوع تقرير مصير أسرى «داعش» ونساء «داعش» وأطفالهم، فتم ترك القضية بتصرف «قوات سوريا الديمقراطية» بقدراتها المتواضعة من جهة وعقلها الحزبي الضيق وصراعاتها المحلية، التي تجعلها تتهم كل من يخالفها أو يختلف معها بـ«الداعشية» وقد تكرر ذلك مرات في السنوات الماضية في مناطق شرق الفرات.
والمثال الثاني في صراع الشرق السوري، صدام «قوات سوريا الديمقراطية» مع عشائر دير الزور العربية الأخير، والذي ما زالت تداعياته تتواصل، رغم أنه صراع مختلق في كل حيثياته، إذ لم يكن النظام وأجهزته وحلفاؤه بعيدين عنه، وكان بين الأهم في أهدافه التغطية على هبة السويداء، وعجزه عن القيام بأي رد معلن على ما تمثله من تحديات سياسية وأمنية له، وتسعير حمى صراع عربي كردي في الشرق، فقام بتدخلات أدت إلى صدام بين «قسد» والعشائر رغم ما بين الطرفين من توافقات متعددة، ما أدى إلى خلط الأوراق، كان بينها قيام النظام بإعلان دعم العشائر وتسليحها، ودخول تركيا على خط الصدام بدفع الموالين لها في الشمال للاشتباك مع «قسد»، وتسهيل مرور مقاتلين من العشائر إلى منطقة الاشتباك الرئيسي في الشرق، واندفعت واشنطن، التي لاحظت الآثار السلبية لما يحدث عليها وعلى حلفائها للتدخل لوقف الصدام بين الطرفين، ومطالبة «قسد» بتصحيح سياساتها وعلاقاتها مع العشائر العربية في مناطق سيطرتها لنزع فتيل غضب العرب في شرق الفرات.
إن صراعات الشرق السوري وسط تنوعها وتعددها وتداخلاتها، وفي ظل واقع كثافة القوى الحاضرة هناك، كما تبدو في المثالين السابقين، إنما تشير إلى تحول شرق سوريا إلى ساحة للفوضى، وخلق تناقضات لا حدود لها، وأن قوى النظام وحلفائه من الإيرانيين وميليشياتهم والروس يستفيدون من حالة الفوضى هناك إلى أقصى الحدود بما فيها من تداخلات، وعبر ما لهم من صلات وعلاقات، تجعل من السوريين ضحايا ووقوداً للصراعات وفق ذات السياق الذي تم اتباعه منذ أول مظاهرة خرج فيها السوريون عام 2011.
الشرق الأوسط
—————————
تقييم حالة الحكم المحلّي في دير الزور : المشاكل والحلول/ أنس شواخ
مرّت 4 أعوام على سيطرة قسد على مناطق واسعة من أرياف محافظة دير الزور، إلّا أنّ هذه المناطق ما تزال تعيش ضِمن الحدّ الأدنى للاستقرار والإدارة والحَوْكَمة، وتعاني من مشاكل كبيرة أسفرت عن موجات احتجاج شعبية متتالية للمطالبة بمعالجة المشاكل التي تعاني منها وإعادة تشكيل وبناء آلية الحكم فيها وشكله.
تحاول هذه الورقة تفكيك حالة الحكم في مناطق سيطرة قسد في دير الزور عَبْر الإحاطة بشكل الحكم وآليته التي تعتمدها قسد والإدارة الذاتية في حكم هذه المناطق، وتستعرض المشاكل الإدارية والأمنية الناتجة عن اعتماد هذه الآليات، وعلى ضوء ذلك تقدّم الورقة بعض الحلول والخُطوات التي من شأنها تحسين واقع المنطقة ومعالجة مشاكلها بما يضمن عودة الاستقرار إليها واستمراره لاحقاً.
يساعد هذا التقرير المهتمين والخبراء وصُنّاع القرار في تقييم حالة الحكم المحلي في مناطق سيطرة قسد في دير الزور وأهمّ مشاكلها والسُّبُل الممكنة لمعالجتها.
لقراءة التقرير كاملاً يمكنكم تحميل النسخة الإلكترونية: (اضغط هنا)
——————————
«قسد» على ضفاف الفرات: هيمنة وتحكّم/ عبد الباسط سيدا
صرح صالح مسلم في أكثر من مناسبة، أيام كان حزبه عضواً فاعلاً في هيئة التنسيق وكان هو نائب حسن عبد العظيم في رئاسة الهيئة، وذلك في العام الأول من الثورة السورية 2011، بأنهم سيحافظون على الخصوصية الكردية، ولن يرسلوا أبناءهم للقتال خارج المناطق الكردية، وإنما سيحتفظون بهم ليدافعوا عن المنطقة وأهلها، في حال تعرضها لهجمات «النظام» أو الإرهابيين. هذا مع معرفة الجميع بأن حزبه «الاتحاد الديمقراطي- ب. ي. د» الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني طب. ك. ك» دخل إلى المناطق ذات الغالبية الكردية بهدف قمع الناشطين فيها، وإبعادها عن الثورة السورية؛ وذلك بعد أن شهدت المناطق المعنية مظاهرات واعتصامات كبيرة كرنفالية لافتة، تأييداً للثورة السورية وتفاعلاً معها، خاصة في مدينة عامودا.
وكثيراً ما سمعت من قياديي الأحزاب الكردية السورية؛ ومن ثم من قياديي المجلس الوطني الكردي بعد تأسيسه بتاريخ 26 تشرين الأول/أكتوبر 2011، بأنهم لا يوافقون على وجود الجيش الحر في مناطقهم، وذلك خشية تعرضها للقصف من جانب السلطة. هذا في حين أن الجيش الحر لم يكن يمتلك امكانية تشكيل القوات، وإرسالها إلى مختلف المناطق السورية، وإنما كل ما هناك هو أن يشكل أبناء كل منطقة بأنفسهم وحدات مهمتها حمايتهم، مستخدمين اسم الجيش الحر للشرعنة، الأمر الذي كان سيؤدي إلى أفشال مشروع السلطة مع «ب. ك. ك» منذ البدايات، ولم يكن سيؤدي إلى الاقتتال بين الكرد، لأن الأخير في ذلك الحين لم يكن يمتلك أي شعبية بين الناس في أجواء الثورة.
وشيئاً فشيئاً تمكن «ب. ي. د» بتوجيهات وتعليمات من «ب. ك. ك» من إقناع الأحزاب الكردية السورية، وأوساطها الشعبية، بعدم الالتزم بشعارات وأسماء أيام الجمعة التي كانت تتوافق عليها تنسيقيات الثورة على مستوى سوريا بكاملها، وهنا علينا ألا نتجاهل علاقة بعض الأحزاب الكردية السورية مع الأجهزة الأمنية السلطوية.
واستمر الوضع هكذا إلى أن تمكن الحزب المعني من تثبيت قواته ومراكزه في مختلف المناطق، وأعاد ترميم جسور التواصل مع مؤيديه من الكرد، ومع السلطة، وذلك بناء على اتفاقيات ملزمة مع هذا الأخيرة على توزيع الحصص والمهام بغية تحقيق الهدف المتفق عليه مع سلطة آل الأسد.
ولفرض سلطته في الشارع، دخل هذا الحزب في صدام مع التنسيقيات الكردية والناشطين الكرد الذين كانوا قد تفاعلوا مع الثورة، وباتوا جزءاً منها. فكان التغييب والاعتقال والاغتيال، ومن ثم ارتكاب المجازر، ومجرزة عامودا، بتاريخ 27 حزيران/يونيو 2013، مثال دامغ في هذا المجال.
وبعد هذه الخطوات، التف حزب العمال بواجهاته المختلفة على الأحزاب الكردية السورية، وأخرجها من «المولد بلا حمص» كما يُقال، وذلك بعد أن اكتسب الشرعية السياسية بطريقة ما عبر اتفاقيتي هولير 1 بتاريخ 11 حزيران/يونيو 2012، وهولير2 بتاريخ 1 تموز/يوليو 2012، ومن ثم اتفاقية دهوك بتاريخ 22 تشرين الأول/أكتوبر 2014.
فهذا الحزب، مثله في ذلك مثل حزب الله في لبنان، لم، ولن، يقبل بأي شريك جاد، يُلزمه من موقع القادر بضرورة احترام القواعد المتوافق عليها، وإنما هو حزب يريد أن يكون هو صاحب قرار السلم والحرب، والمحتكر للعمل العسكري والأمني والإداري عبر كوادر قنديل، إلى جانب التحكم بالموارد الاقتصادية والمعابر وغير ذلك. وبالتناغم مع هذا التوجه، قام بتهديد قيادات الأحزاب المذكورة، ومارس ضدها التغييب والاعتقال والطرد.
هذا في حين أنه، وفي إطار، الاتفاق الذي تم بينه وبين السلطة، تمكّن من السيطرة على المؤسسات والمرافق وآبار النفط في المناطق ذات الغالبية الكردية من دون قتال، إذ انسحبت منها السلطة ظاهرياً، بينما على أرض الواقع ظلت السلطة المعنية في مواقع مفصلية، وليس في المربع أو المربعات الأمنية وحدها. ففي القامشلي على سبيل المثال ظلت السلطة محتفظة بالمطار، وبمعسكرات ومواقع أخرى، تُستخدم اليوم للتدريب وتخزين الأسلحة، والتنسيق مع الإيرانيين وقيادات حزب الله، وحتى مع الروس. أما الخطاب الثوروي الذي تستخدمه «قوات سوريا الديمقراطية – قسد» وواجهات «حزب العمال الكردستاني» الأخرى في مواجهة السلطة، فهو مجرد خطاب للاستهلاك المحلي.
ومع توافق الأمريكان والروس في عهد الرئيس الأسبق أوباما عام 2015 على حصر القضية السورية في مسألة محاربة الإرهاب، قرر الجانب الأمريكي الاعتماد على قوات الحزب المذكور على الأرض، ودعمها بالإسناد الجوي، إلى جانب تزويدها بالعتاد والأسلحة والذخيرة والأموال، وذلك لتحاشي إنزال القوات البرية الأمريكية على الأرض قدر الإمكان لأسباب عدة تمّ تناولها مسبقاً في أكثر من مناسبة؛ وكان ذلك بعد رفض فصائل المعارضة الطلب الأمريكي الخاص بأولوية محاربة مقاتلة داعش من دون السلطة.
ومع هذا الاعتماد الأمريكي على الحزب المعني حصل تحول لافت في مهمة «ب. ك. ك» الذي لم يقطع ولم يعلق علاقاته مع سلطة آل الأسد، وكذلك مع النظام الإيراني، وإنما اكتفى بتمويهها، واطلاق التصريحات المنتقدة لسلطة آل الأسد من دون النظام الإيراني، ودفع بقواته لمحاربة داعش الكوكتيل المخابراتي وفق التعليمات الأمريكية، وكان ذلك متكاملاً مع التزاماته مع النظام الإيراني، وسلطة آل الأسد.
ومع الوقت لم يكتف الحزب المعني بالخزان الشبابي الكردي السوري، الذي استغل حاجاته الاقتصادية وعواطفة القومية، وجنده في مشاريعه؛ بل فتح المجال أمام العرب والسريان وغيرهم الذين انضموا بأعداد كبيرة إلى القوات العسكرية الخاضعة لحزب العمال، وأجهزته الأمنية والإدارية المدنية التي شكلها تحت مسمّى «الإدارة الذاتية».
ورغم كل الواجهات «الديمقراطية» التي تشدقت، وتتشدق بها، «قسد»، إلا أن القرار الفعلي يبقى بيد كوادر «ب. ك. ك» المهيمن على قرار سائر المؤسسات بما فيها الوزارات والمؤسسات الإنتاجية المحلية، ومصادر الموارد؛ ويُشار هنا على وجه التحديد إلى شركة النفط ومؤسسة الحبوب، والمعابر بين المناطق الخاضعة للإدارة وإقليم كردستان العراق، والمعابر التي تفصل بين مناطق «الإدارة الذاتية» ومناطق النفوذ الأخرى، بما في ذلك المعابر الخاضعة للسلطة والروس والإيرانيين، والمناطق الخاضعة للنفوذ التركي، وحتى تلك الخاضعة للفصائل المتشددة. كما تقوم الإدارة المعنية بجمع الضرائب من الناس، وتفرض الآتاوات على التجار وأصحاب المحلات الصغيرة وعلى الحرفيين. وهذا كله يؤكد أحد الأمرين، إما أن صالح مسلم والكرد السوريين بصورة عامة ضمن إدارة «ب. ك. ك» هم مجرد واجهات تزيينية تضليلية، وهذا هو الأرجح، أو أن «ب. ك. ك» يمارس تقية تضليلية تتناسب مع مهمته الوظيفية.
وما حصل مؤخراً من اقتتال بين «قسد» وما سُمي بقوات عشائر منطقة دير الزور لا يخرج هو الآخر عن نطاق اللعبة التضليلية التي تعرّض، ويتعرّض لأحابيلها السوريون. فـ «قسد» تلعب على جميع الحبال؛ والعشائر المعنية هي الأخرى ليست متجانسة، ولا توجد مرجعية واضحة، وليس هناك توافق بين أبناء العشيرة الواحدة على المتحدث باسمها أو الشيخ الذي يقودها. بل أن الكثير من هؤلاء الشيوخ قد أتقنوا لعبة توزيع المهام، إذ يكون قسم منهم مع السلطة، وقسم آخر مع «قسد» وثالث مع المعارضة. حتى أن بعضهم ركبوا موجة الامتعاض والرفض الشعبيين المشروعين لتصرفات وهيمنة كوادر قنديل على مفاصل القرار والاقتصاد؛ وتحدثوا باسم الثورة، رغم انهم لم يقطعوا الصلات مع النظام الأسدي، وكانوا في المجلس الصوري المسمى «مجلس الشعب» إلى وقت قريب؛ كما أن بعضهم الآخر، كان وما زال، يتنقل بين الضفتين، ويضع قدماً هنا وقدماً هناك، واستخدم، ويستخدم، لغة عنصرية مقيتة تجاه الكرد، متناسياً أو متجاهلاً بقصد أن «قسد» تمثل فصيلاً سياسياً، ولا تعد ممثلاً قومياً للكرد بأجمعهم. وكل ذلك يؤكد أن الإيرانيين (لهم تواجد كثيف في دير الزور والميادين والبوكمال) وسلطة آل الأسد لهم دور كبير في تأجيج الصراع هنا وهناك، أملاً في إضعاف الجانبين العربي والكردي في المنطقة، ليتمكنا من السيطرة على الجميع ووضع اليد على المنطقة ومواردها.
ويبقى موقف الجانب الأمريكي هو المنتظر، لأنه يظل الطرف الأقوى والأكثر تأثيراً. فهل سيأخذ شكاوى أهالي المنطقة من مختلف المكونات، خاصة شكاوى الكرد والعرب التي تشمل التحكّم، والتجنيد الإجباري وإنهاك التعليم، وخطف الأطفال، والفساد وانتشار المخدرات…الخ، ويضع حداً لسطوة وفرعنة «ب. ك. ك» عبر «قسد» الأمر الذي قد يساهم في إقناع الأتراك بالابتعاد عن الروس والإيرانيين؛ لا سيما أن تركيا نفسها تدرك أن وجود الإيرانيين على حدودها، سواء في منطقة الجزيرة وبعمق يصل إلى دير الزور والبوكمال يمثل خطراً جيوسياسياً تعرف أبعاده ومآلاته جيداً، وذلك استناداً إلى الأرشيف الضخم الذي يوثق طبيعة العلاقات بينها وبين السلالات أو السلطات التي حكمت إيران.
لقد أعلنت «قسد» رسمياً عن انتهاء المعارك في منطقة دير الزور، ووعدت بالإصلاحات، واحترام تطلعات السكان؛ ولكن المشكلة لم ولن تعالج إذا ما استمرت الأوامر القنديلية هي المتحكمة بقرارات «قسد» و«حزب الاتحاد الديمقراطي» كما أن السؤال المحوري ما زال قائماً: لماذا تواجدت قوات «ب. ك. ك» ضمن «قسد» في دير الزور أصلاً؟ وما هي الشرعية التي تستند إليها؟
هل سنشهد تحولاً في هذا المجال؟
ولكن بغض النظر عما سيكون، علينا جميعاً أن نعتبر دائماُ السلم الأهلي المجتمعي السوري، خاصة على صعيد العلاقات الوطنية الودية بين العرب والكرد، خطاً أحمر لا يجوز التساهل بشأنه قولاً وموقفاً مع أي عابث.
*كاتب وأكاديمي سوري
القدس العربي
————————————–
ما الفرق بين عميل للإيراني وعميل للكردي؟!/ عبدالناصر العايد
تتصاعد الأعمال القتالية في الضفة الشرقية لنهر الفرات، منذ تفجرها قبل نحو شهر، بين قوات سوريا الديموقراطية والمقاتلين الذين يطلق عليهم اسم قوات العشائر العربية. وتتخذ التطورات شكل عمليات يومية ضد المقار العسكرية والمصالح المدنية التابعة لقسد وضد منتسبيها العسكريين والمدنيين. كما تتطور في اتجاه اتخاذ قواعد دائمة للعمل على شكل مقرات سريّة ومخازن أسلحة وغرف عمليات وغيرها من البنية التحتية اللازمة لشن عمليات روتينية منتظمة تجعل الحياة أكثر صعوبة وفوضوية في تلك المنطقة ومناسبة للحركة العسكرية والأمنية، وبالتالي تنفيذ المزيد من العمليات حتى الوصول إلى القاعدتين الأميركيتين الوحيدتين هناك في حقل العمر ومعمل كونيكو، واللتين يُعدّ إجبار القوات الأميركية على إخلائهما الهدف الاستراتيجي لمجمل التحرك، لأن ذلك يفتح الطريق أمام المهاجمين نحو حقول النفط والغاز وصولاً إلى تخوم الحسكة وما بعدها.
كان هناك نقد شديد وسخط من أبناء القبائل عندما جرى الحديث عن دعم من إيراني ومن جانب قوات النظام، لما سمّي بثورة العشائر. لكن، بعد مرور شهر، والتأكد من تدفق المقاتلين والأسلحة من ضفة الفرات الغربية وعدم ظهور قادة ومقاتلين معروفين من أبناء المنطقة في الساحة، لم يعد إنكار صِلة غرب الفرات بما يحدث شرقها ممكناً، بل بات من البديهيات بالنسبة للسكان المحليين الذين ينتظرون نتائج هذا الصراع بقلق.
كما ذكرنا في مقالات سابقة هنا، فإن لإيران مصلحة استراتيجية في هذه المعركة، تتمثل في هزيمة واشنطن من خلال مليشياتها وبكلفة منخفضة مادياً وبشرياً. فالأسلحة المستخدمة تكاد تكون بلا قيمة، والأموال التي يتم إنفاقهان يُحصّل الجزء الأكبر منها من صناعة وتجارة المخدرات المزدهرة. أما المقاتلون والضحايا، فهم إما سكان محليون أو مليشيات مجلوبة من العراق ولبنان وأفغانستان وباكستان. وما على الإيرانيين من ضباط الحرس الثوري، سوى قيادة وإدارة الصراع من غرف عملياتهم وتنفيذ قرار قيادتهم بالقتال بهذا الإيقاع اليومي الذي لا يهدأ حتى يصل الطرف الآخر إلى نقطة الانهيار والانسحاب من المواجهة.
تتسبب لهفة الإيرانيين للاستئثار بالنصر في شرق الفرات، بمشاكل مع قوات النظام والحليف الروسي. وانعدام التنسيق أعاق أحياناً تقدم العمليات، لكنها لا تتوقف أبداً وما زالت قوات النظام تشارك في هذه الجهود بقوة. ودخلت روسيا على خط المنافسة، فأوفدت رجلها الأول في سوريا، العميد سهيل الحسن، ليشارك في الإدارة الميدانية للهجمات ومحاولة وضع حد للاستئثار الإيراني بالعملية ونتائجها السياسية ومكاسبها الاقتصادية وعلى رأسها حقول النفط.
ويبدو الأمر اليوم في غرب الفرات كما لو أن مضخة عملاقة بتغذية قوية، تضخ المقاتلين والأسلحة إلى شرقه، وحساباتها تتجاوز الأيام والأسابيع، والإمكانات المتوافرة تكفي لأشهر وسنوات، وإرادة القتال لفترة طويلة جداً متوافرة ايضاً لدى الأطراف كافة: روسيا وإيران والنظام السوري، وحتى تركيا التي تدخلت أيضاً وسمحت لمقاتلين من أبناء المنطقة على أراضيها بالعودة والاشتراك في تلك المعركة ضد قوات سوريا الديموقراطية التابعة لخصمها اللدود حزب العمال الكردستاني.
في ظل هذه المعطيات الجيوسياسية الدولية للصراع، يغدو موقف واشنطن حاسماً، وهذه تبدو حتى اليوم عازفة عن الانخراط الجدي في القتال الذي يريد الآخرون جرها إليه وإشغالها به. ووفق معلومات عالية المصداقية، فإن القوات الأميركية أبلغت قوات سوريا الديموقراطية بأن عليها أن تتدبر أمرها في مواجهة الهجمات الآتية من شرق الفرات، وأنها لن تضرب لا من الجو ولا من الأرض أهدافاً يختلط فيها السكان المحليون مع المقاتلين منعاً لأن تتسبب في خسائر مدنية تزيد سمعة قواتها سوءاً، كما أنها لن تنشر جنوداً خارج قواعدها المحصنة وتعرضهم للقتل. كما لن يقصف الأميركيون المليشيات الإيرانية في شرق الفرات، فيهيجون عش الدبابير المتمثل بالمليشيات الإيرانية المنتشرة في كامل الشرق الأوسط، ضد قواتها ومصالحها، بما قد يقود إلى مواجهة كبيرة تعتبر إدارة بايدن أن لا مبرر للتورط فيها قبيل الانتخابات الرئاسية المقبلة.
ويفضل الأميركيون، وفق المعلومات لدينا، تسليم قاعدَتي العمر وكونيكو للقوات الكردية ما إن تظهر بوادر خطر جدّي على حياة الجنود الأميركيين المتمركزين فيهما والانسحاب شمالاً. أما تقدير ذلك الخطر، فرهن بقدرة قوات سوريا الديموقراطية على إبقاء الاشتباكات مع المليشيات الإيرانية وغيرها بعيدة عن قاعدتيها من أجل بقائها في مأمن من هجوم أو اقتحام مفاجئ.
وخلافاً لرغبة واشنطن، قالت القيادات الكردية المتحالفة معها في شرق سوريا، على نحو متكرر وعلني، إنها لن تقاتل إيران، لكنها اليوم مضطرة لدفع ثمن ذلك القرار، ليس فقط بمحاربة إيران بشكل مباشر ولوحدها، بل وأيضاً حراسة القوات الأميركية من أي هجوم إيراني!
إلى ذلك، تخلت “قسد” عن حلفائها المحليين الذين يجيدون العمل في الشبكات العشائرية المعقدة من داخلها، والتي ما كان بإمكان القيادة الكردية أن تبسط سيطرتها على منطقة القبائل من دونها. وهي، بعد حلّ مجلس دير الزور العسكري المكون من أبناء المنطقة واعتقال قادته، لم تسعَ إلى تكوين بديل جدّي له، بل أبرزت وجهها الكردي المتعسف والمستفز، مؤكدة سردية الطرف الآخر القائمة على كونها قوات احتلال، وأن قادتها غزاة جاءوا من جبال قنديل، وهو سبب كاف لتأجيج المقاومة وتصعيدها، فيما ستعاني قسد بشدة في المرحلة المقبلة لأن خصومها تمكنوا من انتزاع الأوراق المؤثرة من يدها واستخدامها ضدها.
لكن ثمّة بقايا ضوء في آخر هذا النفق، وهو أن السكان المحليين ما زالوا يعتبرون “قسد” أفضل السيئين، وهم يفضلونها بالتأكيد على إيران وقوات النظام، لكنهم لن يقدموا على أي تعاون إذا أمعنت قيادتها في التعامل معهم بأسلوبها الحالي الذي لا يختلف عما يمارسه النظام وإيران. وتحديداً، تلك الطريقة التي يجري بها تجاهل السكان وإنكار وجودهم وإرادتهم، وعدم الاعتراف بحقهم في إدارة شؤونهم واختيار قياداتهم. فإن لم يتغير ذلك كله ويُترجم بأفعال ملموسة وواقعية، لن تشهد الأيام المقبلة سوى انصراف المزيد من السكان المحليين عن “قسد” لصالح خصومها، بل وتخلي منتسبيها العسكريين والمدنيين عن العمل معها والذهاب في الاتجاه الآخر… إذ ما الذي سيجعل شخصاً محلياً يفضل مقاتلي حزب العمال الكردستاني على المليشيات الإيرانية؟ وما الفرق بين عميل للإيراني وعميل للكردي؟!
المدن
——————-
حرمون يناقش أسباب ودلالات انتفاضة عشائر دير الزور بوجه (قسد) في ندوة حوارية
عقد مركز حرمون للدراسات المعاصرة، يوم الجمعة 22 أيلول/ سبتمبر 2023، عبر تطبيق (ZOOM)، ندوة بعنوان (انتفاضة العشائر ضد قسد: أسبابها الموضوعية ودوافعها الذاتية)، شارك فيها كلّ من مناف الحمد، باحث في مركز حرمون؛ وأحمد الشمام، باحث في العلوم الاجتماعية؛ وأدارتها أسماء صائب أفندي، مديرة منتدى حرمون الثقافي في إسطنبول.
ناقش الضيفان عدة محاور، من بينها الوضع الحالي في المنطقة منذ استقدام النظام لحزب الاتحاد الديمقراطي من قنديل، والتنظيم الإداري الحالي للمنطقة، وتحكّم PYD في السلطة والسلاح والمال، والأسباب المباشرة والعميقة للانتفاضة، وأدوار كلٍّ من النظام وروسيا وإيران وتركيا وأميركا، في المنطقة.
في بداية الندوة، تحدث مناف الحمد عن الأسباب البعيدة والقريبة لانتفاضة العشائر، وقال إن (قسد) مارست العنصرية ضد أبناء المنطقة من العرب، وأهملت القطاعات الحيوية فيها، وأساءت معاملة رمزيات ووجهاء (بيوت المشيخة) والأعراف السائدة، واستفردت بالنفوذ واحتكرت السلطة. وأضاف أن الصراع ليس صراعًا بين العرب والكرد، بل هو صراع بين عشائر عربية تسكن هذه المنطقة منذ مئات السنين، وبين حزب مؤدلج يحاول أن يفرض أجنداته وأفكاره الغريبة، ويستغل ثرواتها من دون أن يقدّم لها أي شيء.
واستعرض أحمد الشمام بدايات تشكيل حزب العمال الكردستاني (PKK)، عندما جاء عبد الله أوجلان، مؤسس وأول قائد للحزب، إلى منطقة عفرين في سورية عام 1979، وحصل على حماية ودعم من حافظ الأسد. وبدأ الحزب منذ عام 1982 في تنفيذ عمليات عسكرية ضد تركيا، واستمر في ذلك حتى عام 1998، حين وقعت سورية وتركيا اتفاقية أضنة.
لفت الشمام النظر إلى أن (قسد) جسم غريب ليس على المكون العربي في المنطقة فقط، بل حتى على أكراد سورية الذين فرض عليهم الحزب إتاوات مالية من أجل تمويل العمليات العسكرية في تركيا، وألزم العائلات بتجنيد بناتهم من أجل القتال في جبال قنديل. وأضاف أن حزب العمال الكردستاني فشل في استقطاب الأكراد في تركيا، فجاء إلى سورية بعد انطلاق الثورة محاولًا إقناع العرب والأكراد بضرورة اتخاذ موقف معادٍ لتركيا، وهذا ما جعل خطاب (PKK) مماثلًا لخطاب النظام السوري في الادعاء بأن الثورة مؤامرة صنعتها دول الخليج وتركيا، وخاض معارك ضد الجيش الحر، بذريعة أنه يقاتل فصائل إرهابية، بالتزامن مع توقيع اتفاقية هدنة مع “جبهة النصرة”.
تطرقت الندوة إلى أسباب امتناع بعض العشائر عن المشاركة في الانتفاضة. وحول ذلك أوضح الحمد أن أكثر من تعرضوا لعسف (قسد) هم العشائر المتفرعة من قبيلة العقيدات، المعروفون برفضهم سياسات (قسد)، وبالتظاهر للتنديد بممارساتها، وكان لهم دور كبير في منع (قسد) من فرض مناهجها التعليمية في المدارس. وتابع الحمد القول: وهناك جملة من العوامل الأخرى، منها الحساسيات العشائرية القديمة، ووجود عشائر تربطها مصالح مع (قسد)، وأخرى اتخذت موقف الحياد وامتنعت عن المشاركة، بسبب نقص التسليح والتمويل، وعدم قدرتها على الصمود أمام جيش منظّم مدعوم من التحالف الدولي.
اهتمت الندوة في الجزء الثاني بمناقشة سياسة (قسد) في التسويق لإقامة نظام حكم فيدرالي في شمال شرق سورية، على غرار كردستان العراق. وحول ذلك، قال الشمام إن رؤية (قسد) تتمثل في قضم أكبر قدر ممكن من الأراضي العربية، والمفاوضة عليها فيما بعد، كي تسحبها إلى منطقة صغيرة في ريف الحسكة، لتكون جزءًا من مخططاتها تجاه تركيا. من جانبه، استبعد الحمد إمكانية نجاح أي مشروع انفصالي بدون حوامل عربية، لأن هذه المنطقة تتغلغل فيها معاني العروبة كمفهوم قد يغلب الانتماء إلى الدين في بعض الأحيان، لافتًا النظر إلى أن العروبة ليست بمعناها العرقي، وإنما بمعنى الانتماء إلى اللغة والدين الإسلامي الذي ينظر كثير من أبناء المنطقة إليه على أنه دين عربي.
ناقش الضيفان في محور آخر الواقع التنظيمي للعشائر في المنطقة، وكيفية تعامل القوى الفاعلة مع هذا الواقع. وقال الحمد إن هذه هي الثغرة التي حاول أن يتسلل منها مَن يريدون أن يستخفوا بما جرى في منطقة القبائل، تحت شعار أنها قبائل متخلفة ومبعثرة لا يربط بينها شيء وليست منظمة وذات رؤية. وأضاف أن هذه الأسباب لا يجوز استغلالها في نسف الحراك وتجريده من قيمته وأسبابه الجوهرية، بل يجب العمل على سد هذه الثغرة، وصياغة خطاب سياسي وطني يساهم في تنظيم الصفوف وتوحيدها.
تطرقت الندوة في الجزء الأخير إلى موضوع مستقبل التعاون بين (قسد) والولايات المتحدة، واحتمالية أن تتطور العلاقات بين الطرفين أو تتقلّص، أو تنسحب أميركا من المنطقة، وموضوع أسباب اتهام العشائر المشاركة في الانتفاضة بالعمالة للنظام السوري وإيران.
يمكن متابعة التسجيل الكامل للندوة على منصات مركز حرمون للدراسات في فيسبوك ويوتيوب:
مركز حرمون
————————-
ﺍﻧﺘﻔﺎﺿﺔ ﺍﻟﻌﺸﺎﺋﺮ ﻭﻗﻮﻯ ﺍﻷﻣﺮ ﺍﻟﻮﺍﻗﻊ : ﻧﻤﻮﺫﺝ ﻣﺼﻐﺮ ﻟﻠﺨﻴﺒﺎﺕ ﺍﻟﺴﻮﺭﻳﺔ/ ﻣﺤﻤﻮﺩ ﺍﻟﺸﻴﺦ
ﻟﻴﺲ ﻣﻦ ﺧﻼﻑ ﻓﻲ ﺃﺣﻘﻴﺔ ﺣﺮﺍﻙ ﺍﻟﻌﺸﺎﺋﺮ ﻓﻲ ﺭﻳﻒ ﺩﻳﺮ ﺍﻟﺰﻭﺭ، ﺍﻟﻤﺴﺘﻤﺮ ﻣﻨﺬ ﺃﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﺷﻬﺮ، ﺿﺪ ” ﻗﻮﺍﺕ ﺳﻮﺭﻳﺎ ﺍﻟﺪﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻴﺔ ” ( ﻗﺴﺪ ) ، ﺑﺎﻟﻨﻈﺮ ﺇﻟﻰ ﻣﺴﺘﻮﻯ ﺍﻟﺤﻴﻒ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﻭﺍﻻﻗﺘﺼﺎﺩﻱ، ﺍﻟﺬﻱ ﻭﻗﻊ ﻋﻠﻰ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﻨﻄﻘﺔ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ﺳﻠﻄﺎﺕ ﺍﻷﻣﺮ ﺍﻟﻮﺍﻗﻊ ﺍﻟﻤﺘﻌﺎﻗﺒﺔ ( ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﺴﻮﺭﻱ – ﺟﺒﻬﺔ ﺍﻟﻨﺼﺮﺓ – ﺗﻨﻈﻴﻢ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ – ﻗﺴﺪ) ، ﺇﻻ ﺃﻥ ﺍﻟﺴﺆﺍﻝ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻄﺮﺡ ﻧﻔﺴﻪ ﺑﺈﻟﺤﺎﺡ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺴﺎﺣﺔ ﺭﺍﻫﻨﺎً : ﺃﻳﻦ ﻫﻮ ﺇﺑﺮﺍﻫﻴﻢ ﺍﻟﻬﻔﻞ، ﺷﻴﺦ ﻗﺒﻴﻠﺔ ﺍﻟﻌﻜﻴﺪﺍﺕ ﻓﻲ ﺳﻮﺭﻳﺎ، ﻭﻗﺎﺋﺪ ﺍﻻﻧﺘﻔﺎﺿﺔ ﺍﻟﻌﺸﺎﺋﺮﻳﺔ؟، ﺧﺎﺻﺔ ﺑﻌﺪ ﺳﻴﻄﺮﺓ ” ﻗﺴﺪ ” ﻋﻠﻰ ﻣﻌﻘﻠﻪ ﺑﻠﺪﺓ ﺫﻳﺒﺎﻥ، ﻭﻭﺭﻭﺩ ﻣﻌﻠﻮﻣﺎﺕ ﻋﻦ ﺍﻧﺘﻘﺎﻟﻪ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﻨﺎﻃﻖ ﺍﻟﺨﺎﺿﻌﺔ ﻟﺴﻴﻄﺮﺓ ﻗﻮﺍﺕ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ، ﻭﺗﻤﻮﻳﻠﻪ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ﺍﻷﺧﻴﺮ، ﻣﻦ ﺃﺟﻞ ﺍﻻﺳﺘﻤﺮﺍﺭ ﻓﻲ ﻗﺘﺎﻝ ” ﻗﺴﺪ ” ؟ ﺳﻨﺤﺎﻭﻝ ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺘﻘﺮﻳﺮ ﺍﻹﺟﺎﺑﺔ ﻋﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺘﺴﺎﺅﻻﺕ، ﻭﻗﺮﺍﺀﺓ ﺍﻷﺣﺪﺍﺙ ﺍﻟﺠﺎﺭﻳﺔ ﻭﺗﺤﻠﻴﻠﻬﺎ .
ﺗﻌﻮﺩ ﺃﺳﺒﺎﺏ ﺍﻟﺨﻼﻑ ﺇﻟﻰ ﺟﺬﻭﺭ ﻋﻤﻴﻘﺔ ﺗﺠﻠﺖ، ﻓﻲ 27 ﺁﺏ ﺍﻟﻤﺎﺿﻲ، ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺍﻋﺘﻘﻠﺖ ” ﻗﺴﺪ ” ﻓﻲ ﺣﻤﻠﺔ ﺃﻣﻨﻴّﺔ ﻗﺎﺋﺪ ” ﻣﺠﻠﺲ ﺩﻳﺮ ﺍﻟﺰﻭﺭ ﺍﻟﻌﺴﻜﺮﻱ ” ﺍﻟﺘﺎﺑﻊ ﻟﻬﺎ، ﺃﺣﻤﺪ ﺍﻟﺨﺒﻴﻞ ( ﺃﺑﻮ ﺧﻮﻟﺔ ) ، ﻛﻤﺎ ﺣﺎﺻﺮﺕ ﻣﻘﺎﺭ ﺍﻟﻤﺠﻠﺲ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﺴﻜﺔ ﻭﺩﻳﺮ ﺍﻟﺰﻭﺭ، ﻟﺘﻨﺪﻟﻊ ﺍﻻﺷﺘﺒﺎﻛﺎﺕ ﺑﻌﺪﻫﺎ ﺑﻴﻦ ” ﻗﺴﺪ ” ﻭﺍﻟﻌﺸﺎﺋﺮ، ﺍﻟﺘﻲ ﺃﻛﺪﺕ ﺃﻥ ﺣﺮﺍﻛﻬﺎ ﻻ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﺎﻋﺘﻘﺎﻝ ” ﺍﻟﺨﺒﻴﻞ ” ، ﺇﻧﻤﺎ ﺑﻤﻤﺎﺭﺳﺎﺕ ” ﻗﺴﺪ ” ﻭﺗﻌﺮﺽ ﺃﺑﻨﺎﺀ ﺍﻟﻤﻨﻄﻘﺔ ﻟﻠﻈﻠﻢ ﺗﺤﺖ ﺇﺩﺍﺭﺓ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻘﻮﺍﺕ .
ﻭﺗﻤﻜﻨﺖ ﻗﻮﺍﺕ ﺍﻟﻌﺸﺎﺋﺮ ﺍﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻷﻳﺎﻡ ﺍﻷﻭﻟﻰ ﻟﺤﺮﺍﻛﻬﺎ ﻣﻦ ﻃﺮﺩ ” ﻗﺴﺪ ” ﻣﻦ ﻣﻌﻈﻢ ﻣﺪﻥ ﻭﻗﺮﻯ ﺭﻳﻒ ﺩﻳﺮ ﺍﻟﺰﻭﺭ ﺍﻟﺸﺮﻗﻲ ﺍﻟﻮﺍﻗﻌﺔ ﺷﻤﺎﻟﻲ ﻧﻬﺮ ﺍﻟﻔﺮﺍﺕ، ﻟﺘﻤﺘﺪ ﺑﻌﺪﻫﺎ ﺍﻻﺷﺘﺒﺎﻛﺎﺕ ﺃﻳﻀﺎً ﺇﻟﻰ ﺃﺭﻳﺎﻑ ﺍﻟﺤﺴﻜﺔ ﻭﺍﻟﺮﻗﺔ ﻭﺣﻠﺐ، ﻟﻜﻨﻬﺎ ﺗﻮﻗﻔﺖ ﺑﻌﺪ ﻧﺤﻮ 10 ﺃﻳﺎﻡ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﺗﺒﺎﻳﻦ ﺍﻟﻘﻮﻯ ﺍﻟﻌﺴﻜﺮﻳﺔ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻄﺮﻓﻴﻦ، ﺣﻴﺚ ﺃﺭﺳﻠﺖ ” ﻗﺴﺪ ” ﺗﻌﺰﻳﺰﺍﺕ ﺿﺨﻤﺔ ﻣﻦ ﻗﻮﺍﺕ ﺍﻟﻨﺨﺒﺔ .
ﺇﻻ ﺃﻥ ﺍﻟﻌﺸﺎﺋﺮ ﺍﺳﺘﻄﺎﻋﺖ ﺍﻣﺘﺼﺎﺹ ﺍﻟﺼﺪﻣﺔ، ﻭﻋﻤﻠﺖ ﺑﻌﺪﻫﺎ ﻋﻠﻰ ﺗﺮﺗﻴﺐ ﺻﻔﻮﻓﻬﺎ، ﺣﻴﺚ ﺃﻋﻠﻦ ﺍﻟﻬﻔﻞ ﻋﻦ ﺗﺸﻜﻴﻞ ﻗﻴﺎﺩﺓ ﻋﺴﻜﺮﻳﺔ ﻟﻠﻌﺸﺎﺋﺮ، ﻟﻴﺒﺪﺃ ﺑﻌﺪﻫﺎ ﻣﻘﺎﺗﻠﻮ ﺍﻟﻌﺸﺎﺋﺮ ﺑﺸﻦ ﻫﺠﻤﺎﺕ ﻣﻜﺜﻔﺔ ﺿﺪ ﻣﻮﺍﻗﻊ ﻭﻣﻘﺎﺭّ ” ﻗﺴﺪ ” ﻓﻲ ﺭﻳﻒ ﺩﻳﺮ ﺍﻟﺰﻭﺭ ﺍﻟﺸﺮﻗﻲ ﺍﻟﻤﻤﺘﺪ ﻣﻦ ﺑﻠﺪﺓ ﺧﺸﺎﻡ ﻭﺣﺘﻰ ﺍﻟﺤﺪﻭﺩ ﺍﻟﻌﺮﺍﻗﻴﺔ، ﻣﻌﺘﻤﺪﻳﻦ ﻋﻠﻰ ﺍﺳﺘﺮﺍﺗﻴﺠﻴﺔ ﺣﺮﺏ ﺍﻟﻌﺼﺎﺑﺎﺕ ﻻﺳﺘﻨﺰﺍﻓﻬﺎ ﺑﺴﺒﺐ ﻓﺎﺭﻕ ﺍﻟﻘﻮﺓ، ﻭﺍﻧﺤﻴﺎﺯ ﻗﻮﺍﺕ ﺍﻟﺘﺤﺎﻟﻒ ﺇﻟﻰ ” ﻗﺴﺪ .”
ﺃﻳﻦ ﻫﻮ ﺍﻟﺸﻴﺦ ﺇﺑﺮﺍﻫﻴﻢ ﺍﻟﻬﻔﻞ؟
ﻣﻨﺬ ﺇﻋﻼﻥ ” ﻗﺴﺪ ” ، ﻓﻲ 6 ﻣﻦ ﺃﻳﻠﻮﻝ ﺍﻟﻤﺎﺿﻲ، ﺳﻴﻄﺮﺗﻬﺎ ﻋﻠﻰ ﺑﻠﺪﺓ ﺫﻳﺒﺎﻥ ﻣﻌﻘﻞ ﺍﻟﺸﻴﺦ ﺍﻟﻬﻔﻞ، ﺑﺮﺯ ﺇﻟﻰ ﻭﺍﺟﻬﺔ ﺍﻷﺣﺪﺍﺙ ﺍﻟﻤﺘﺴﺎﺭﻋﺔ، ﺳﺆﺍﻝ ﻋﻦ ﻣﺼﻴﺮ ﻗﺎﺋﺪ ﻗﻮﺍﺕ ﺍﻟﻌﺸﺎﺋﺮ، ﻓﻲ ﻇﻞ ﺗﻀﺎﺭﺏ ﺍﻷﻧﺒﺎﺀ ﺣﻮﻝ ﻣﻜﺎﻥ ﻭﺟﻮﺩﻩ .
ﺧﻼﻝ ﺍﻷﻳﺎﻡ ﺍﻟﺜﻼﺛﺔ ﺍﻟﻤﺎﺿﻴﺔ، ﺣﺎﻭﻝ ﻣﻮﻗﻊ ” ﺗﻠﻔﺰﻳﻮﻥ ﺳﻮﺭﻳﺎ ” ﻋﺒﺮ ﻭﺳﻄﺎﺀ ﺍﻟﺘﻮﺍﺻﻞ ﻣﻊ ﺍﻟﺸﻴﺦ ﺇﺑﺮﺍﻫﻴﻢ ﺍﻟﻬﻔﻞ، ﺃﻭ ﺷﻘﻴﻘﻪ ﺍﻷﻛﺒﺮ ﻣﺼﻌﺐ، ﺷﻴﺦ ﻣﺸﺎﻳﺦ ﻗﺒﻴﻠﺔ ﺍﻟﻌﻜﻴﺪﺍﺕ ﻓﻲ ﻋﻤﻮﻡ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﺍﻟﻌﺮﺑﻲ، ﻭﺍﻟﺬﻱ ﻳﻘﻴﻢ ﺣﺎﻟﻴﺎً ﻓﻲ ﺩﻭﻟﺔ ﻗﻄﺮ، ﺇﻻ ﺃﻧﻬﻤﺎ ﺭﻓﻀﺎ ﺍﻟﺘﺼﺮﻳﺢ ﻟـ ” ﺃﺳﺒﺎﺏ ﺃﻣﻨﻴﺔ ﻗﺪ ﺗﻬﺪﺩ ﺣﻴﺎﺓ ﺍﻟﺸﻴﺦ ﺇﺑﺮﺍﻫﻴﻢ .”
ﻟﻜﻦ ﻣﺼﺪﺭﻳﻦ ﻣﻘﺮﺑﻴﻦ ﻣﻦ ﺍﻟﺸﻴﺦ ﺇﺑﺮﺍﻫﻴﻢ ﺍﻟﻬﻔﻞ ﻗﺎﻻ ﺇﻥ ﺍﻟﺸﻴﺦ ﺇﺑﺮﺍﻫﻴﻢ ﺍﻧﺘﻘﻞ ﺑﻌﺪ ﺳﻴﻄﺮﺓ ” ﻗﺴﺪ ” ﻋﻠﻰ ﺑﻠﺪﺓ ﺫﻳﺒﺎﻥ ﺇﻟﻰ ” ﻣﻨﻄﻘﺔ ﺁﻣﻨﺔ ” ﻓﻲ ﺍﻟﻀﻔﺔ ﺍﻷﺧﺮﻯ ﻟﻨﻬﺮ ﺍﻟﻔﺮﺍﺕ ” ﻣﻨﻄﻘﺔ ﺍﻟﺸﺎﻣﻴﺔ ” ، ﺍﻟﺨﺎﺿﻌﺔ ﻟﺴﻴﻄﺮﺓ ﻣﺠﻤﻮﻋﺎﺕ ﻣﺴﻠﺤﺔ ( ﻣﻦ ﺃﺑﻨﺎﺀ ﺍﻟﻌﺸﺎﺋﺮ ) ، ﻭﺍﻟﺘﻲ ﻳﻘﺘﺼﺮ ﻭﺟﻮﺩ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﺴﻮﺭﻱ ﻓﻴﻬﺎ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﺆﺳﺴﺎﺕ ﺍﻟﻤﺪﻧﻴﺔ .
ﺇﺑﺮﺍﻫﻴﻢ ﺍﻟﺤﺴﻴﻦ، ﻭﻫﻮ ﺇﻋﻼﻣﻲ ﻣﻦ ﺭﻳﻒ ﺩﻳﺮ ﺍﻟﺰﻭﺭ ﺍﻟﺸﺮﻗﻲ، ﻗﺎﻝ ﻟﻤﻮﻗﻊ ” ﺗﻠﻔﺰﻳﻮﻥ ﺳﻮﺭﻳﺎ ” ﺇﻥ ﺍﻟﻬﻔﻞ ﺍﻧﺘﻘﻞ ﺇﻟﻰ ” ﻣﻨﻄﻘﺔ ﺁﻣﻨﺔ ” ﺗﺤﺖ ﺣﻤﺎﻳﺔ ﻣﺠﻤﻮﻋﺎﺕ ﻣﺴﻠﺤﺔ ﻣﻦ ﺃﺑﻨﺎﺀ ﻋﻤﻮﻣﺘﻪ، ﺇﺫ ﺗﻘﺘﺼﺮ ﺳﻴﻄﺮﺓ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﻓﻲ ﺍﻟﻀﻔﺔ ﺍﻟﺠﻨﻮﺑﻴﺔ ﻟﻨﻬﺮ ﺍﻟﻔﺮﺍﺕ ﻋﻠﻰ ﻣﺮﺍﻛﺰ ﺍﻟﻤﺪﻥ، ﻣﺜﻞ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﺩﻳﺮ ﺍﻟﺰﻭﺭ ﻭﺍﻟﻤﻴﺎﺩﻳﻦ ﻭﺍﻟﺒﻮﻛﻤﺎﻝ، ﻓﻲ ﺣﻴﻦ ﺃﻥ ﻣﻌﻈﻢ ﺍﻟﺒﻠﺪﺍﺕ ﻭﺍﻟﻘﺮﻯ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻨﻄﻘﺔ ﺗﻘﻊ ﺗﺤﺖ ﺳﻴﻄﺮﺓ ﻣﺠﻤﻮﻋﺎﺕ ﻣﺴﻠﺤﺔ .
ﻭﺃﻛﺪ ﺍﻟﺤﺴﻴﻦ ﺃﻥ ” ﻗﺴﺪ ” ﺗﻘﺼﺪﺕ ﻣﻨﺬ ﺍﻟﺒﺪﺍﻳﺔ ﺇﻃﺒﺎﻕ ﺍﻟﺤﺼﺎﺭ ﻋﻠﻰ ﺑﻠﺪﺓ ﺫﻳﺒﺎﻥ ﻹﺟﺒﺎﺭ ﺍﻟﻬﻔﻞ ﻋﻠﻰ ﺍﻻﻧﺘﻘﺎﻝ ﺇﻟﻰ ” ﻣﻨﻄﻘﺔ ﺍﻟﺸﺎﻣﻴﺔ ” ، ﻟﺘﺸﻮﻳﻪ ﺻﻮﺭﺓ ﺍﻟﺤﺮﺍﻙ ﻭﺍﺗﻬﺎﻡ ﺍﻟﻌﺸﺎﺋﺮ ﺑﺘﻠﻘﻲ ﺗﻤﻮﻳﻞ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﻭﺇﻳﺮﺍﻥ، ﻭﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﺪﻟﻞ ﻋﻠﻴﻪ ﺑﻴﺎﻥ ” ﻗﺴﺪ ” ، ﺍﻟﺬﻱ ﺃﻋﻠﻨﺖ ﻓﻴﻪ ﺃﻥ ﺍﻟﻬﻔﻞ ” ﺑﺎﺕ ﻣﻄﻠﻮﺑﺎً ﻟﻬﺎ ﻭﻟﻦ ﻳﺘﻢ ﺍﻟﻌﻔﻮ ﻋﻨﻪ .”
ﻭﺃﺷﺎﺭ ﺇﻟﻰ ﺃﻥ ﺍﻟﺤﺮﺍﻙ ﺿﺪ ” ﻗﺴﺪ ” ﺟﺎﺀ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﺍﻟﻈﻠﻢ ﻭﺍﻟﺘﻬﻤﻴﺶ ﻟﻠﻤﻜﻮﻥ ﺍﻟﻌﺮﺑﻲ، ﻭﻟﻴﺲ ﻟﻪ ﻋﻼﻗﺔ ﺑﺎﻟﻨﻈﺎﻡ ﻭﺇﻳﺮﺍﻥ ﺃﺑﺪﺍً ﻭﻟﻢ ﻳﺘﻠﻖَّ ﺃﻱ ﺩﻋﻢ ﻣﻨﻬﻤﺎ، ﻣﻀﻴﻔﺎً : ” ﻧﺤﻦ ﻛﻌﺸﺎﺋﺮ ﺩﻳﺮ ﺍﻟﺰﻭﺭ ﺃﻭﻝ ﻣﻦ ﻗﺎﺗﻞ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﻭﺍﻟﻤﺸﺮﻭﻉ ﺍﻹﻳﺮﺍﻧﻲ، ﻭﻣﻦ ﺑﻌﺪ ﺫﻟﻚ ﺗﻨﻈﻴﻢ ﺩﺍﻋﺶ ﺍﻟﺬﻱ ﺭﻋﺘﻪ ﻣﺨﺎﺑﺮﺍﺕ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ .”
ﻫﻞ ﺍﻟﺘﻘﻰ ﺍﻟﻬﻔﻞ ﻣﻊ ﻣﺴﺆﻭﻟﻲ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﺴﻮﺭﻱ؟
ﻣﺼﺪﺭ ﻣﻄﻠﻊ ﻋﻠﻰ ﺍﻷﺣﺪﺍﺙ، ﺭﻓﺾ ﺍﻟﻜﺸﻒ ﻋﻦ ﻫﻮﻳﺘﻪ ﺑﺴﺒﺐ ﺣﺴﺎﺳﻴﺔ ﺍﻷﻣﺮ، ﻗﺎﻝ ﻟﻤﻮﻗﻊ ” ﺗﻠﻔﺰﻳﻮﻥ ﺳﻮﺭﻳﺎ ” ، ﺇﻥ ﺍﻟﺸﻴﺦ ﺇﺑﺮﺍﻫﻴﻢ ﺍﻟﻬﻔﻞ ﻟﻢ ﻳﺠﺘﻤﻊ ﻣﻊ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺑﺸﻜﻞ ﻣﺒﺎﺷﺮ، ﺇﻻ ﺃﻥ ﻣﺴﺆﻭﻟﻴﻦ ﻟﺪﻯ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﻣﻦ ﺃﺑﻨﺎﺀ ﺍﻟﻌﺸﺎﺋﺮ ﺗﻮﺍﺻﻠﻮﺍ ﻣﻌﻪ .
ﻭﻛﺎﻧﺖ ﻭﺳﺎﺋﻞ ﺇﻋﻼﻡ ﻣﻘﺮﺑﺔ ﻣﻦ ” ﻗﺴﺪ ” ﻧﺸﺮﺕ ﺻﻮﺭﺓ ﺗﺰﻋﻢ ﺃﻧﻬﺎ ﻻﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍﻟﺸﻴﺦ ﺇﺑﺮﺍﻫﻴﻢ ﺍﻟﻬﻔﻞ ﻣﻊ ﻣﺴﺆﻭﻟﻴﻦ ﻟﺪﻯ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﺴﻮﺭﻱ .
ﺇﻻ ﺃﻥ ﻣﺎ ﺛﺒﺖ ﺃﻥ ﺍﻻﺩﻋﺎﺀ ﻏﻴﺮ ﺻﺤﻴﺢ، ﻭﺍﻟﺼﻮﺭﺓ ﻻ ﻋﻼﻗﺔ ﻟﻬﺎ ﺑﺎﻷﺣﺪﺍﺙ ﺍﻷﺧﻴﺮﺓ، ﺑﻞ ﻫﻲ ﻟﻠﻘﺎﺀ ﻗﺪﻳﻢ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻬﻔﻞ ﻭﻋﺒﺪ ﺍﻟﻤﺠﻴﺪ ﺍﻟﻜﻮﺍﻛﺒﻲ ” ﻣﺤﺎﻓﻆ ﺩﻳﺮ ﺍﻟﺰﻭﺭ ” ﺍﻟﻤﻘﺎﻝ ﻋﺎﻡ .2020
ﻭﻣﺴﺎﺀ ﺍﻷﺣﺪ ﺍﻟﻤﺎﺿﻲ، ﻗﺎﻝ ﺍﻟﺸﻴﺦ ﺇﺑﺮﺍﻫﻴﻢ ﺍﻟﻬﻔﻞ، ﻓﻲ ﺑﻴﺎﻥ ﻟﻠﺮﺃﻱ ﺍﻟﻌﺎﻡ ﻋﺒﺮ ﺗﺴﺠﻴﻞ ﺻﻮﺗﻲ، ﺇﻥ ” ﺍﻟﻘﻮﺍﺕ ﺍﻟﻌﺸﺎﺋﺮﻳﺔ ﻏﻴﺮ ﻣﺮﺗﺒﻄﺔ ﺑﺄﻱ ﺟﻬﺔ ﻋﺴﻜﺮﻳﺔ ﺃﻭ ﻓﺼﻴﻞ ﻋﺴﻜﺮﻱ، ﻭﺍﺭﺗﺒﺎﻃﻬﺎ ﺍﻟﻮﺣﻴﺪ ﺑﺎﻷﺭﺽ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻌﻤﻞ ﻋﻠﻰ ﺗﺤﺮﻳﺮﻫﺎ ﻣﻦ ﻣﻴﻠﻴﺸﻴﺎﺕ ﻗﻨﺪﻳﻞ ﻭﻣﺮﺗﺰﻗﺔ ﻗﺴﺪ، ﺍﻟﺘﻲ ﺳﺮﻗﺖ ﺧﻴﺮﺍﺕ ﺍﻟﺒﻼﺩ ﻭﺍﺭﺗﻜﺒﺖ ﺍﻟﺠﺮﺍﺋﻢ ﺑﺤﻖ ﺍﻷﻫﺎﻟﻲ ﺑﺪﻳﺮ ﺍﻟﺰﻭﺭ ” ، ﺑﺤﺴﺐ ﻭﺻﻔﻪ .
ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﻳﺤﺎﻭﻝ ﺗﺴﻠﻖ ﺍﻻﻧﺘﻔﺎﺿﺔ ﻟﻤﻨﺎﻭﺭﺓ ﺍﻷﻣﻴﺮﻛﺎﻥ
ﻭﺫﻛﺮ ﺍﻟﻤﺼﺪﺭ ﺫﺍﺗﻪ ﺃﻥ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺳﻌﻰ ﻣﻨﺬ ﺍﻟﺒﺪﺍﻳﺔ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻀﻐﻂ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻬﻔﻞ ﻹﻋﻼﻥ ﻭﻻﺀ ﻗﻮﺍﺕ ﺍﻟﻌﺸﺎﺋﺮ ﻟﻠﻨﻈﺎﻡ، ﻋﺒﺮ ﺗﺮﻏﻴﺒﻪ ﺑﺘﻘﺪﻳﻢ ﺍﻟﺴﻼﺡ ﻭﻻﺣﻘﺎً ﺑﺘﻬﺪﻳﺪﻩ ﺑﺈﻏﻼﻕ ﺍﻟﺴﺮﻳﺮ ﺍﻟﻨﻬﺮﻱ ﺃﻣﺎﻣﻪ ﺑﻌﺪ ﺳﻴﻄﺮﺓ ” ﻗﺴﺪ ” ﻋﻠﻰ ﺫﻳﺒﺎﻥ، ﻟﻜﻦ ﺍﻟﻬﻔﻞ ﺭﻓﺾ ﺫﻟﻚ ﺑﺸﺪﺓ .
ﻭﺃﺷﺎﺭ ﺇﻟﻰ ﺃﻥ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﻳﻬﺪﻑ ﻋﺒﺮ ﺫﻟﻚ ﻟﻠﺤﺼﻮﻝ ﻋﻠﻰ ﻭﺭﻗﺔ ﺿﻐﻂ ﺿﺪ ” ﻗﺴﺪ ” ﻭﻗﻮﺍﺕ ﺍﻟﺘﺤﺎﻟﻒ ﻓﻲ ﻣﻨﻄﻘﺔ ﺍﻟﺠﺰﻳﺮﺓ ( ﺷﻤﺎﻟﻲ ﻧﻬﺮ ﺍﻟﻔﺮﺍﺕ ) ، ﺇﻻ ﺃﻧﻪ ﺗﺮﺍﺟﻊ ﻋﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﻄﻠﺐ ﺣﺎﻟﻴﺎً ﻷﻧﻪ ﻻ ﻳﺮﻳﺪ ﺃﻥ ﺗﺤﺴﺐ ﻗﻮﺍﺕ ﺍﻟﻌﺸﺎﺋﺮ ﻋﻠﻴﻪ، ﺗﺠﻨﺒﺎً ﻷﻱ ﺗﺒﻌﺎﺕ ﺗﺤﺪﺙ ﻻﺣﻘﺎً ﻓﻲ ﺣﺎﻝ ﺗﻮﺻﻞ ﻣﻊ ” ﻗﺴﺪ ” ﺇﻟﻰ ﺍﺗﻔﺎﻕ .
ﻭﻟﻔﺖ ﺇﻟﻰ ﺃﻥ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﻳﺴﻌﻰ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺪﺧﻮﻝ ﻓﻲ ﻣﺒﺎﺣﺜﺎﺕ ﻣﻊ ” ﻗﺴﺪ ” ﺑﺸﺄﻥ ﻣﺼﻴﺮ ﻗﻮﺍﺕ ﺍﻟﻌﺸﺎﺋﺮ، ﻣﻘﺎﺑﻞ ﺣﺼﻮﻟﻪ ﻋﻠﻰ ﻣﻜﺎﺳﺐ ﺍﻗﺘﺼﺎﺩﻳﺔ، ﻣﻦ ﺧﻼﻝ ﺯﻳﺎﺩﺓ ﻛﻤﻴﺔ ﺗﻮﺭﻳﺪﺍﺕ ﺍﻟﻨﻔﻂ ﻭﺍﻟﻜﻬﺮﺑﺎﺀ ﻣﻦ ﺣﻘﻮﻝ ﺷﻤﺎﻝ ﺷﺮﻗﻲ ﺳﻮﺭﻳﺎ .
ﺇﻟﻰ ﺃﻳﻦ ﻭﺻﻠﺖ ﺍﻟﻤﺒﺎﺣﺜﺎﺕ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻌﺸﺎﺋﺮ ﻭﺍﻟﺘﺤﺎﻟﻒ؟
ﻓﻲ 5 ﻣﻦ ﺃﻳﻠﻮﻝ ﺍﻟﻤﺎﺿﻲ، ﺃﻋﻠﻦ ﻣﺼﻌﺐ ﺍﻟﻬﻔﻞ، ﺷﻴﺦ ﻣﺸﺎﻳﺦ ﻗﺒﻴﻠﺔ ﺍﻟﻌﻜﻴﺪﺍﺕ، ﺃﻧﻪ ﺍﺟﺘﻤﻊ ﺑﺎﻟﺴﻔﺎﺭﺓ ﺍﻷﻣﻴﺮﻛﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺪﻭﺣﺔ ﻣﻊ ﻣﻤﺜﻞ ﻭﺯﺍﺭﺓ ﺍﻟﺪﻓﺎﻉ ﺍﻷﻣﻴﺮﻛﻴﺔ ( ﺍﻟﺒﻨﺘﺎﻏﻮﻥ ) ﻭﺭﺋﻴﺲ ﺍﻟﻘﺴﻢ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲ ﺑﺎﻟﺴﻔﺎﺭﺓ ﻣﻊ ﺑﺪﺍﻳﺔ ﺍﻻﺷﺘﺒﺎﻛﺎﺕ ﻓﻲ ﺩﻳﺮ ﺍﻟﺰﻭﺭ .
ﻭﺃﺿﺎﻑ ﺃﻥ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻉ ﻫﺪﻑ ﺇﻟﻰ ﺇﻳﺼﺎﻝ ﻣﻄﺎﻟﺐ ﺍﻟﻌﺸﺎﺋﺮ ﻓﻲ ﺷﺮﻗﻲ ﺳﻮﺭﻳﺎ، ﻭﺍﻟﻌﻤﻞ ﻋﻠﻰ ﺗﻬﺪﺋﺔ ﺍﻟﻮﺿﻊ ﻫﻨﺎﻙ ﻋﺒﺮ ﺍﻟﺘﺤﺎﻟﻒ ﺍﻟﺪﻭﻟﻲ ﺍﻟﻤﺘﻤﺮﻛﺰ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻨﻄﻘﺔ .
ﻟﻴﻌﻮﺩ ﺑﻌﺪﻫﺎ ﺍﻟﺸﻴﺦ ﺇﺑﺮﺍﻫﻴﻢ ﺍﻟﻬﻔﻞ، ﻓﻲ ﺍﻟﺒﻴﺎﻥ ﺍﻟﺬﻱ ﺃﺻﺪﺭﻩ ﻣﺴﺎﺀ ﺍﻷﺣﺪ ﺍﻟﻔﺎﺋﺖ، ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ﺃﻥ ” ﻫﻨﺎﻙ ﺟﻬﻮﺩﺍ ﺳﻴﺎﺳﻴﺔ ﻣﺜﻤﺮﺓ، ﻭﺗﺘﺠﻪ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺘﻔﺎﻋﻞ ” ، ﻣﻦ ﺩﻭﻥ ﺃﻥ ﻳﺴﻤﻲ ﺍﻟﺠﻬﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﺘﻔﺎﻭﺽ ﻣﻌﻬﺎ .
ﻋﻬﺪ ﺍﻟﺼﻠﻴﺒﻲ، ﺻﺤﻔﻲ ﻣﻦ ﺷﺒﻜﺔ ﻧﻬﺮ ﻣﻴﺪﻳﺎ ﺍﻟﻤﺨﺘﺼﺔ ﺑﺄﺧﺒﺎﺭ ﺩﻳﺮ ﺍﻟﺰﻭﺭ، ﻗﻠﻞ ﻣﻦ ﺃﻫﻤﻴﺔ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻠﻘﺎﺀﺍﺕ، ﻗﺎﺋﻼً : ” ﻧﺴﺒﺔ ﻧﺠﺎﺡ ﺍﻟﻤﺒﺎﺣﺜﺎﺕ ﺣﺘﻰ ﺍﻵﻥ ﺿﻌﻴﻔﺔ، ﺇﻻ ﻓﻲ ﺣﺎﻝ ﻣﺎﺭﺳﺖ ﺍﻟﻮﻻﻳﺎﺕ ﺍﻟﻤﺘﺤﺪﺓ ﺿﻐﻮﻃﺎً ﻗﻮﻳﺔ ﻋﻠﻰ ” ﻗﺴﺪ ” ﻟﻘﺒﻮﻝ ﺍﻟﺪﺧﻮﻝ ﻓﻲ ﻣﻔﺎﻭﺿﺎﺕ ﺟﺎﺩﺓ .”
ﻭﺃﺿﺎﻑ ﻟﻤﻮﻗﻊ ” ﺗﻠﻔﺰﻳﻮﻥ ﺳﻮﺭﻳﺎ ” ، ﺃﻧﻪ ” ﻣﻨﺬ ﺑﺪﺍﻳﺔ ﺍﻟﺤﺮﺍﻙ ﻋﻘﺪ ﺍﺟﺘﻤﺎﻋﺎﻥ ﻟﻠﺘﻔﺎﻭﺽ، ﺍﻷﻭﻝ ﻛﺎﻥ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﺘﺤﺎﻟﻒ ﻭﺍﻟﻌﺸﺎﺋﺮ ﺍﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﻣﻄﻠﻊ ﺃﻳﻠﻮﻝ ﺍﻟﻤﺎﺿﻲ ﺇﻻ ﺃﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﺜﻤﺮ ﺃﻱ ﻧﺘﺎﺋﺞ، ﻭﺍﻟﺜﺎﻧﻲ ﺣﺼﻞ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﺸﻴﺦ ﻣﺼﻌﺐ ﺍﻟﻬﻔﻞ ﻭﺍﻟﻤﻌﻬﺪ ﺍﻷﻣﻴﺮﻛﻲ ﻟﻠﺪﺭﺍﺳﺎﺕ ﻓﻲ ﺳﻔﺎﺭﺓ ﺍﻟﻮﻻﻳﺎﺕ ﺍﻟﻤﺘﺤﺪﺓ ﺑﺎﻟﺪﻭﺣﺔ .”
ﻭﺃﺷﺎﺭ ﺇﻟﻰ ﺃﻥ ﺟﻬﻮﺩ ﻗﻮﺍﺕ ﺍﻟﻌﺸﺎﺋﺮ ﻣﺴﺘﻤﺮﺓ ﻣﻊ ﺍﻷﻃﺮﺍﻑ ﺍﻟﻔﺎﻋﻠﺔ ﻟﻠﺘﻮﺻﻞ ﺇﻟﻰ ﺣﻞ ﻳﻀﻤﻦ ﺣﻘﻮﻕ ﺍﻟﻤﻜﻮﻥ ﺍﻟﻌﺮﺑﻲ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻨﻄﻘﺔ .
ﻭﻃﻮﻝ ﺍﻟﻔﺘﺮﺓ ﺍﻟﻤﺎﺿﻴﺔ، ﺣﺮﺻﺖ ﻗﻮﺍﺕ ﺍﻟﻌﺸﺎﺋﺮ ﻭ ” ﻗﺴﺪ ” ﻋﻠﻰ ﻛﺴﺐ ﺍﻟﺪﻋﻢ ﺍﻷﻣﻴﺮﻛﻲ، ﺇﺫ ﺳﻌﻰ ﻗﺎﺩﺓ ” ﻗﺴﺪ ” ﻟﻀﻤﺎﻥ ﺣﺼﺮﻳﺔ ﺍﻟﺘﻮﺍﺻﻞ ﻣﻊ ﺍﻟﺘﺤﺎﻟﻒ، ﻓﻲ ﺣﻴﻦ ﻛﺎﻥ ﺷﻴﻮﺥ ﺍﻟﻌﺸﺎﺋﺮ ﻳﻄﻤﺤﻮﻥ ﺇﻟﻰ ﻋﺮﻗﻠﺔ ﺫﻟﻚ، ﻭﺍﻟﺘﻮﺍﺻﻞ ﻣﺒﺎﺷﺮﺓ ﻣﻊ ﺍﻟﻮﻻﻳﺎﺕ ﺍﻟﻤﺘﺤﺪﺓ ﻣﻦ ﺩﻭﻥ ﻭﺳﻴﻂ، ﺣﻴﺚ ﺣﺪﺩﺕ ﺍﻟﻌﺸﺎﺋﺮ ﻣﻄﺎﻟﺒﻬﺎ، ﻭﻫﻲ ﺗﺘﻠﺨﺺ ﻓﻲ ﺍﻧﺴﺤﺎﺏ ﻋﻨﺎﺻﺮ ” ﻗﺴﺪ ” ﻣﻦ ﻣﻨﻄﻘﺔ ﺍﻟﺠﺰﻳﺮﺓ ﻭﺍﻟﻔﺮﺍﺕ ﺣﺘﻰ ﺗﺪﺍﺭ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﻨﻄﻘﺔ ﻣﻦ ﺟﺎﻧﺐ ﺃﺑﻨﺎﺀ ﺍﻟﻌﺸﺎﺋﺮ، ﻓﻀﻼً ﻋﻦ ﺭﻓﺾ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻉ ﺑﻘﻴﺎﺩﺍﺕ ” ﻗﺴﺪ ” ﺣﺘﻰ ﺗﺤﻘﻴﻖ ﻣﻄﺎﻟﺒﻬﻢ، ﺃﺑﺮﺯﻫﺎ ﻭﻗﻒ ﺇﻃﻼﻕ ﺍﻟﻨﺎﺭ، ﻭﺍﻟﻜﻒ ﻋﻦ ﺩﻫﻢ ﺍﻟﻤﺪﻥ ﻭﺍﻟﺒﻠﺪﺍﺕ ﺑﺤﺠﺔ ﺍﻋﺘﻘﺎﻝ ﺍﻟﻤﻄﻠﻮﺑﻴﻦ، ﺇﺿﺎﻓﺔ ﺇﻟﻰ ﺇﻃﻼﻕ ﺳﺮﺍﺡ ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻷﺳﺮﻯ ﻭﺍﻟﻤﻌﺘﻘﻠﻴﻦ ﻓﻲ ﺍﻻﺣﺪﺍﺙ ﺍﻷﺧﻴﺮﺓ .
—————————-
لماذا يرفض مثقفون سوريون “العشائرية” في سوريا ويمجّدونها في الخليج العربي؟/ إبراهيم الجبين
الحقيقة القائلة إن نسبة من ينتمون إلى عشيرة أو قبيلة من السوريين تتراوح ما بين 60 و70 في المئة من مجموع السكان، جعلت من معضلة الحامل الاجتماعي، أكبر ما يواجه السوريين في نظرتهم وتحليلهم لما دار ويدور في بلادهم، ليس فقط منذ انطلاق انتفاضتهم في عام 2011، بل منذ تشكّل الدولة السورية المستقلة الأولى وحتى اليوم.
ولأن كثيرين قفزوا فوق فكرة الحامل الاجتماعي، بسبب تعقيداته والاستحقاقات المترتبة عليهم، إن هم أرادوا بالفعل التصدي للتعامل معه في سياق انخراطهم في الشأن العام ومن بينه العمل السياسي والاجتماعي وما يشبهه، فقد بقي الحامل الاجتماعي يشكل الثغرة الكبرى التي منها يتسلّل كل فشل واجهته السياسة في سوريا. وظلّ الحامل الاجتماعي هذا بمثابة الخاصرة الضعيفة التي بواسطة الضغط عليها تمكّن الاستبداد من ليّ ذراع أي مشروع سياسي ظهر في سوريا.
الفرار من مسؤولية إدراك العلاقة مع الحامل الاجتماعي، هو الذي خلق فكرة “الانقلابية” لدى حركات سياسية عديدة لم يكن حزب البعث العربي الاشتراكي وحيداً في تبنيها، بل تبعه اليسار السوري وكذلك الحركة السياسية الكردية بأحزابها المحلية والمستوردة؛ فما لا يمكن إقناع الشعب به، رأى هؤلاء أنه يمكن أن يطبّق هبوطاً من الأعلى بالفرض والقهر. ومن سوء الحظ أن هذا الخلل الفكري كان محللاً شرعياً للجيش كي ينقضّ على السلطة، فما دام السياسيون المدنيون يشرّعون لأنفسهم الاستيلاء على السلطة من الأعلى من دون انبثاق فكرتها من القواعد الشعبية، وهذا يتطلّب توافر القوّة لفرضه، فلماذا لا يقوم الأقوياء بذلك، ومن الأقوى من الجيوش؟
وفي تلك الدوامة وعبر ثناياها التي جرفت سوريا معها عقوداً طويلة، استمرت النخب تهرب وتتباعد عن القواعد الشعبية، وتصطدم مع من في السلطة، وبين عينها مشروع وحيد هو تطبيق قسري لمشاريعها السياسية بغض النظر عن قناعات الشعب.
لكن جذر هذه المشكلة، يظهر وبوضوح الآن، وأكثر من أي وقت مضى، قادماً من علاقة النخب مع الشعب ـ المجتمع، الذي رأت هذه النخب أنه غير مؤهّل لتبني فكرٍ متقدّم، أياً كان شكل هذا الفكر واتجاهه، فالمجتمع السوري غير قابل لاستيعاب الديموقراطية وحقوق الإنسان، في تصورهم، وذلك، بحسب توهّم النخب، بسبب تأثير الإرث الديني الإسلامي الرافض لكل ما يأتي من الغرب على مبدأ أنه “لن يسرّ القلب”، كما تسرد المقولة الشائعة، وهذا المجتمع أيضاً من الصعب عليه أن يتفّهم اختلاف الآخر، كما تعتقد النخب، والآخر كثيرٌ في سوريا، طوائف وأعراق وأقليات، بينما تعيش في هذا البلد غالبية عربية تعتدّ بهويتها، فكيف يمكن إقناعها بآخر كردي وتركماني وأرمني وشركسي وغيره؟، ولأن غالبية هذه الكتلة السكانية الضخمة من المسلمين السنة، فقد رأت النخب أنه من الصعب وربما من المستحيل تليين أفكار هؤلاء وجعلهم يتفهمون العيش مع عقائد مغايرة لهم.
ما الحل إذاً؟ توصّلت تلك النخب إلى أن الحل هو شيء يشبه الإنزال العسكري، لكن بالسياسة هذه المرة، بأن يجري رسم مجتمع مسبق، وتركيبه على المجتمع السوري، هيكل جاهز، قوالبه تتطابق مع معايير اللاعبين الأقوياء المؤثرين بسوريا ومستقبلها في كل طور.
تتقبّل تلك النخب الدوائر المغلقة للطوائف والأقليات السورية، وتتفهّم أهمية حمايتها من الذوبان، وفي الوقت ذاته لا تمانع من سحق الأغلبية العربية وتذويبها وتغيير هويتها. كما ترفض تلك النخب خطاب الهوية العربية للعشائر السورية، وتتقبله كما هو لدى المكونات القومية السورية الأخرى، بل تدعمه وترعاه وتتفاعل معه.
تتقبّل تلك النخب بحبور واسترخاء كل إشكالات الهويات الضيقة المغلقة، بما فيها مظاهر التشدّد والتحريم العنيف، وتدبك في احتفالاتها، بينما ترفض وتكفّر سلسلة القيم التي تتبناها الغالبية العربية المسلمة السنية.
هذا الخلل الفادح، شمل عمل المعارضة السورية، الرسمية منها وغير الرسمية، ومن بين مظاهره الشكل الذي اتخذته المؤسسات السياسية السورية المعارضة، والتي قامت على المحاصصة الخادعة والتلفيقية المدبّرة، فتم منح الأكراد السوريين من سكان الجزيرة على سبيل المثال 16 مقعداً في مؤسسة الائتلاف، وهم لا يشكلون سوى نسبة 20٪ من سكان الجزيرة، بينما عرب الجزيرة السورية والذين يشكلون أكثر من 80 ٪ من تعداد السكان في الجزيرة ذاتها، جرى منحهم 6 مقاعد فقط. وهذا مثال فقط ويوجد مثله الكثير من الأمثلة. فإن كان المنطق هو المحاصصة القومية، فإن ذلك يوجب أن يكون الحال داخل هذه المؤسسة منعكساً عن الواقع لا منافياً له بهذه الصورة الهزلية.
وقد كشفت انتفاضة العشائر العربية في ريف دير الزور ضد ما تعرف باسم “قسد” التي يهيمن عليها حزب العمال الكردستاني PKK ويقودها من جبل قنديل، تلك المشكلة مجدداً، حين رأى كثير من السياسيين السوريين أنفسهم في مواجهة جديدة مع المجتمع، وفي إحراج “حداثي” لم يحسبوا له حساباً، أربك خطابهم وذكّرهم بما هربوا منه سابقاً.
كيف سيتعاملون مع انتفاضة عشائرية وهم يرفعون لافتات مدنية حداثوية تطالب بسوريا بعيدة كل البعد عن الأنساق القديمة في المجتمع، وتريد دولة مدنية متقدّمة تشبه النموذج الغربي بمساطر جاهزة؟
ولأن الوظيفة المنزلية الأولية لهؤلاء كانوا قد تهرّبوا منها مبكراً؛ وهي تحليل وفهم المجتمع السوري، وتالياً بنوا كل إرثهم السياسي على أساسٍ يفتقد إلى أهم ما يلزم الناطقين باسم المجتمع – الشعب، إذ كيف يمكنك تمثيل شعبٍ لا تفهمه، ولا تعرف ما فيه، ولستَ على انسجام مع عاداته وتقاليده؟ بل إنك تعيش اغترابك التام عنه وقطيعتك معه دون أن يرفّ لك جفن، لهذا واصلوا تهرّبهم من تلك المسؤولية، وقرّروا أن الحل هو بالترفّع على تلك الانتفاضة واعتبارها مظهراً من مظاهر التخلف “العربي السوري”.
في الوقت ذاته عاش بعض المنتمين إلى هذه النخب الفكرية والسياسية ويعيشون في كنف تحالفات وعلاقات وثيقة تربطهم بدول الخليج العربي، وهي دولٌ قامت أساساً على البنى العشائرية العربية، ونجحت في قيادتها نحو نهضة اقتصادية وتنموية هائلة. فحلّلت تلك النخب لأنفسها قبول دعم دول الخليج العشائري السياسي والمالي، ورفضت في الوقت ذاته تقديم أدنى الدعم لعشائرها العربية في سوريا.
إن هذا الاستحقاق الذي يجسّده التفاعل الواقعي مع المجتمع السوري، غير قابل للتهرّب منه إلى الأبد، وهو قادم لا محالة، وحين سيأتي سيجد هؤلاء أنفسهم في أمس الحاجة إلى المزيد من الهرب، وهو هذه المرة هربٌ للخروج من المشهد والقدرة على التأثير.
———————–
شرق سوريا… المظالم والهجمات تُولّد شرارة انتفاضة “عشائرية”/ شيلي كيتلسون*
منذ مساء يوم 27 أغسطس/آب الماضي، بدأت التقارير تتوالى عن “استدراج” قادة عرب كبار في فصيل عسكري رئيس شرق سوريا إلى الحسكة، واعتقالهم هناك.
على أثر ذلك، بدأت “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) المدعومة من الولايات المتحدة، ويقودها الأكراد، بشن هجمات، وسط عمليات اعتقال في منطقة ذات غالبية عربية تسيطر عليها تلك القوات.
وقد انطلقت الشرارة في الجزء الشرقي من محافظة دير الزور، حيث تجاهلت السلطات المعنية شكاوى الناس من الاعتقالات التعسفية، وغيرها من الممارسات التمييزية التي كانت تقوم بها تلك القوات على مدى سنوات.
وتلت ذلك دعوات لتعبئة المقاتلين، والشباب عموما في واحدة من أكثر المناطق هشاشة في الشرق الأوسط، حيث لا يزال الآلاف من معتقلي “داعش” يقبعون في السجون طي النسيان.
فأُغلقت الطرق، ووقعت اشتباكات، واستُحضرت الولاءات القبلية، على الرغم من ادعاء شباب المنطقة أن هذه الانتفاضة قام بها المجتمع المحلي، وبالتالي لا ينبغي اعتبارها “قبلية” الطابع.
واستمرت العملية التي أطلقت عليها “قوات سوريا الديمقراطية”: “عملية التعزيز الأمني، ضد خلايا تنظيم الدولة الإسلامية وتجار المخدرات في دير الزور”، حتى 8 سبتمبر/أيلول الجاري، عندما أعلنت “قسد” انتهاء العملية العسكرية الأساسية في دير الزور، والانتقال إلى العمليات الأمنية المحددة. لكنّ “انتهاء العمليات العسكرية” لم ينه التوتّر في المنطقة؛ ففجر الجمعة 15 سبتمبر/ أيلول، شنّ مقاتلون من العشائر العربية، هجوما على نقاط عسكرية تابعة لـ”قسد” في الريف الشرقي لمحافظة دير الزور، في ظل اتهامها بمواصلة حملات الاعتقالات التعسفية في المنطقة. وكان عدد من شيوخ العشائر طالبوا، خلال اجتماع مع ممثلين عن التحالف الدولي وقيادات من “قسد”، في قاعدة حقل العمر النفطي شرق دير الزور، الأربعاء 13 سبتمبر/ أيلول، بوقف الاعتقالات التعسفية من قبل “قسد” وإخراج المعتقلين في سجونها، فضلا عن مطالبات معيشية.
وكانت “قوات سوريا الديمقراطية” اعتقلت العشرات من العرب، فيما قُتل آخرون، من ضمنهم مدنيون وأطفال.
وعلى الرغم من أن “قوات سوريا الديمقراطية” خسرت في الأيام القليلة الأولى من القتال، مساحة شاسعة من الأراضي الواقعة إلى الشرق من دير الزور، إلا أنها استعادت السيطرة على الكثير منها بعد فترة وجيزة.
ومرد ذلك جزئيا، هو حصولها على كميات ضخمة من الأسلحة التي قدمها في المقام الأول التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة من أجل محاربة “داعش”.
وحتى لحظة نشر هذا التقرير، لم يستجب التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة للطلبات التي تقدمت بها “المجلة” للتعليق على هذه الأحداث.
يُمثل الصراع واحدا من أخطر الصراعات الداخلية التي حدثت داخل القوات المدعومة من الولايات المتحدة، والتي تسيطر على مساحة شاسعة من شمال وشرق سوريا ذات الغالبية العربية منذ إنشاء القوات أواخر عام 2015.
ويأتي ذلك بعد أسابيع من التوتر الذي ساد بين القوات العربية والقوات الشريكة التي يقودها الأكراد، وتلازم ذلك مع وقوع اشتباكات أصغر حجما كانت قد جرت في يوليو/تموز الماضي، ومع ذلك، فإن الأزمة الحالية كانت في طور التشكل منذ سنوات.
رئيس “مجلس دير الزور العسكري الفاسد” :
كان أحمد الخبيل، المعروف باسم “أبو خولة”، على الدوام شخصية مثيرة للجدل في شرق سوريا الغني بالنفط، وقد اتُهم مرارا وتكرارا بإساءة استخدام سلطته بطرق شتى. وكان قد عُيّن قائدا لـ”مجلس دير الزور” العسكري عام 2016. ويعمل ذلك المجلس في الجزء الشرقي من محافظة دير الزور، ويرتبط بـ “قوات سوريا الديمقراطية”، لكنه حاول منذ فترة طويلة الاحتفاظ ببعض الاستقلالية عن تلك القوات.
وكانت المحافظة نفسها، من الناحية العملية، مأهولة بالعرب فقط قبل الحرب الجارية في سوريا، والتي بدأت عام 2011.
بشكل عام، تنقسم محافظة دير الزور إلى جانب شرقي يقع تحت سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية”، وجانب غربي عبر نهر الفرات يقع تحت سيطرة الحكومة السورية والقوات التابعة لها، حيث تقع العاصمة الإقليمية التي تحمل الاسم ذاته.
وكان، أبو خولة، وأقرب معاونيه، هم الأشخاص الذين استُدرجوا إلى الفخ يوم 27 أغسطس/آب الماضي في الحسكة، وهي محافظة تقع إلى الشمال من دير الزور، ويقطنها مزيج من العرب والأكراد.
عند الاستفسار عنه خلال إحدى الرحلات الصحافية التي قمتُ بها إلى المنطقة عام 2020، أخبرني سكان المنطقة أن أبو خولة كان مكروها تمام الكره، وأن “مثله مثل جميع ممثلي العرب المزعومين الذين اختارتهم قوات سوريا الديمقراطية”، معين في هذا المنصب لأن “قوات سوريا الديمقراطية” كانت ترى أن بإمكانها فرض سيطرتها عليه على نحو أفضل مما يمكنها فعله مع غيره، وفق ما ادعى بعض سكان المنطقة.
وأضافوا قائلين: “إن بعض الأشخاص الذين عينتهم قوات سوريا الديمقراطية في المناصب كانوا في السابق منتمين إلى تنظيم داعش”. ورأى السكان المحليون أن هؤلاء الرجال قد عُينوا في مواقع السلطة كوسيلة لضمان ولاء الأفراد التابعين لهم؛ إذ إن المجتمع المحلي لن يقبل هؤلاء “الخونة”، وبالتالي سيعتبر هؤلاء الرجال “قوات سوريا الديمقراطية” ضامنة لسلامتهم، وبالتالي فهم سيقدمون لها التقارير بأمانة.
وفي حالة أبو خولة، كان تعيينه أيضا سبيلا للارتقاء من كونه شخصا معروفا ببيعه للدراجات النارية والمركبات المسروقة؛ وعلى حد زعم كثير من الناس كان متورطا في هذه التجارة قبل الحرب، وحتى إعلان نفسه “أميرا” لعشيرة البكير. وهي جزء من قبيلة العكيدات الأوسع، وهي القبيلة المهيمنة في هذا الجزء من منطقة دير الزور.
كما وفرت وسائل الإعلام المرتبطة بـ”قوات سوريا الديمقراطية” الدعم للخبيل لتعزيز “مكانته القبلية” في السنوات السابقة. فعلى سبيل المثال، زعم مقال نشره موقع وكالة “نورث برس” في يوليو/تموز 2019 أن “13 عشيرة عربية، معظمها سورية، اختارت أبو خولة، أميرا عليها كما هو متعارف عليه في العرف العشائري في الآونة الأخيرة، وهو الأمر الذي اعتبره أبو خولة “قوة دافعة له”. وأشار التقرير إلى أن هذا الاختيار سيكون له تأثير كبير على العمليات الأمنية لتلك العشائر ضد خلايا “داعش” النائمة.
وكنت التقيت في رحلة تحقيق صحافية سابقة بأقارب أحد الضباط العسكريين السابقين الذين انشقوا عن قوات النظام للانضمام إلى قوات المعارضة، والذي سافر بعد ذلك إلى إدلب قبل أن يعود إلى منطقته الأصلية بهدف محاربة “داعش”، وقد أخبرني هؤلاء بأنهم يعتقدون أن كلا من “قوات سوريا الديمقراطية” وأبو خولة كانا متورطين في اغتيال ذلك الضابط مطلع عام 2019، بعد أن لعب دورا مهما في القتال ضد “داعش” في هجين الواقعة إلى الجنوب من منطقته الأصلية.
وكان الضابط السابق قد أرسل لي فيما مضى صورا له بالقرب من الجبهة أثناء عملية هجين التي جرت أواخر عام 2018 بعد أن التقيته للمرة الأولى عام 2015، عندما كان يقاتل في صفوف قوات المعارضة في إدلب.
كما أنني أجريت مقابلة مع أبو خولة في ديسمبر/كانون الأول 2020، في منزل أحد أعضاء “مجلس دير الزور” المدني وهو منزل يقع إلى الشرق من دير الزور.
وقد وُجهت اتهامات إلى أبو خولة وأفراد عائلته والمقربين منه بارتكاب انتهاكات جسيمة بالإضافة إلى الفساد، ولكن قال رجل من دير الزور كان قد طَلب التعليق إثر اعتقال أبو خولة في أواخر أغسطس/آب الماضي: “لقد فعلت قوات سوريا الديمقراطية الأمر ذاته أيضا”.
ومن بين الآخرين الذين اعتقلتهم قوات سوريا الديمقراطية في 27 أغسطس/آب الماضي، كان هناك قادة رفيعو المستوى يعملون تحت قيادة أبو خولة، من ضمنهم أفراد من قبيلة الشعيطات. وقد تعرضت القبيلة لمجزرة عام 2014 على يد تنظيم “داعش”. وبحسب التقارير التي وردت فقد تم ذبح ما لا يقل عن 700 شخص، معظمهم من الرجال والصبية، بطريقة وحشية حيث دفنوا في مقابر جماعية في المحافظة، ولم تُستخرج جثثهم بعد، على الرغم من أن الكثيرين يزعمون أن العدد يزيد على 1000 شخص.
القبائل العربية حاربت “داعش”، “وحدها طوال أشهر”:
وأعرب سكان منطقة الشعيطات القبلية، التي تقع بالقرب من حقل نفط كبير، عن معارضتهم لـ”قوات سوريا الديمقراطية” منذ سنوات عدة. ولا تزال احتجاجاتهم مستمرة، بخاصة للرد على “العملية الأمنية” التي تنفذها “قوات سوريا الديمقراطية”.
ومن الجدير بالذكر، أن مذبحة الشعيطات في أغسطس/آب 2014، حظيت باهتمام إعلامي أقل نسبيا مقارنة بالمذبحة الإيزيدية، التي وقعت خلال الشهر نفسه ولكن على الجانب العراقي من الحدود، علما بأن الحدثين المأساويين وقعا على يد “داعش” ضد السكان المحليين. وفي حالة مذبحة الشعيطات، استهدف “داعش” قبيلة عربية تمردت ضد الجماعة الإرهابية الدولية.
وأشارت مقالة كتبها حيان دخان، نُشرت في أكتوبر/تشرين الأول 2021، في مجلة “أبحاث الإبادة الجماعية” إلى أن التنظيم “ارتكب مذبحة واسعة النطاق ضد أفراد قبيلة الشعيطات، وهو الأمر الذي أسفر عن مقتل ما يزيد على ألف مقاتل منزوع السلاح، أو مدنيين عزّل”.
وأضافت المقالة أن “داعش” ارتكب المجزرة “بالرغم من إحرازه انتصارا ساحقا عليهم في معركة استمرت ستة عشر يوما”. وفي السابق، صمد المقاتلون المحليون في منطقة دير الزور الشرقية ضد حصار “داعش” لأشهر عدّة. ولم تشهد الجماعة الإرهابية الدولية زيادة هائلة في الأسلحة والمركبات والتمويل إلا بعد أن استولت على مدينة الموصل العراقية في يونيو/حزيران 2014، الأمر الذي دفع بالجماعات المسلحة المحلية المنهكة والمحاصرة إلى الموافقة على المغادرة إلى المناطق الأخرى التي تسيطر عليها المعارضة في البلاد مقابل موافقة “داعش” على ترك المدنيين وشأنهم، وعدم دخول المناطق المأهولة بالسكان، كما أخبرني لاحقا القادة والمقاتلون الذين اشتركوا في المفاوضات.
ويقول السكان المحليون، إن تنظيم “داعش” لم يحترم هذا الاتفاق، وبالتالي انتفض أفراد القبيلة ضدهم وقُتلوا بشكل جماعي. وخلال رحلات متعددة قمت بها إلى منطقة الشعيطات القبلية بين عامي 2019 و2020، كان أفراد القبيلة غالبا ما يشيرون لي على الأماكن التي وُضعت فيها رؤوس أقاربهم المقطوعة كتحذير لهم بعدم عصيان حكام التنظيم الإرهابي. وقد غادر كثيرون إلى تركيا، أو مناطق أخرى من البلاد، في حين لا يزال أولئك الذين بقوا يعايشون ذكرى المجزرة.
مقابلة مع أبو ليث خشام القائد الجديد لـ”مجلس دير الزور” :
تحدث أبو ليث خشام، الذي عُين قائدا لـ”مجلس دير الزور” العسكري بعد اعتقال أبو خولة، إلى “المجلة” في مكالمة فيديو أجريتها معه يوم 5 سبتمبر/أيلول الجاري، وطرحتُ عليه أسئلة متابعة لاحقة في اليوم التالي.
وقال أبو ليث إنه كان في “منطقة آمنة” في دير الزور، لكنه كان يشعر بالقلق على سلامته. وأضاف قائلا: “داهمت قوات سوريا الديمقراطية منزلي، وكانت زوجتي وطفلتي البالغة من العمر ثمانية أشهر في المنزل”. وأشار إلى أن تلك القوات كسرت باب منزله بهدف الدخول إليه.
وبينما كنت أتحدث معه، تلقى أخبارا مفادها أن “قناصا من قوات سوريا الديمقراطية” استهدف ابن أخيه المراهق على ما يبدو. وأرسل صورة إلى “المجلة”؛ لساق الصبي الصغير وهي تنزف بغزارة.
وذكر أبو ليث أنه انشق عن القوات الجوية السورية عام 2012، وخدم بعد ذلك في “الجيش السوري الحر الذي يقاتل النظام والميليشيات الإيرانية”، وأنه أصيب مرات عدة أثناء قتال “داعش”.
وأضاف أن “التمرد ضد قوات سوريا الديمقراطية لم يكن سببه أبو خولة”؛ بل لأن “قادة الجبل”- في إشارة إلى جبال قنديل في العراق، والتي كانت بمنزلة ساحة تدريب ومخبأ لحزب العمال الكردستاني طوال عقود من الزمن– “لم يسمحوا لأبناء دير الزور الأصليين بلعب أي دور في القيادة، أو الإدارة، أو اتخاذ القرارات التي هي من اختصاصهم”.
وأكد أبو ليث لـ”المجلة” أنه تلقى أنباء عن “اعتقال أطباء وممرضين في البصيرة”، وهي بلدة في دير الزور كانت من بين المدن التي انتفضت ضد “قوات سوريا الديمقراطية” لكنها استعادتها لاحقا، وأن هؤلاء نُقلوا إلى “مكان مجهول”.
وأشار بيان ظهر على الإنترنت منسوب إلى شيخ العكيدات، إبراهيم الهفل- الذي كان حتى 6 سبتمبر/أيلول الجاري لا يزال صامدا في ديوانه العشائري في بلدة ذيبان، وتحيط به “قوات سوريا الديمقراطية” التي يزعم بعض السكان المحليين أنها تحاول دفعه لعبور الفرات إلى الأراضي التي تسيطر عليها الحكومة السورية– إلى أن أحد مطالب أولئك الذين ينتفضون ضد “قوات سوريا الديمقراطية” هو أن يكون لديهم اتصال مباشر مع التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة.
أخبرني السكان المحليون في دير الزور على مر السنين، أن هذا كان أحد مطالبهم الرئيسة منذ فترة طويلة، كما ذكرت ابتداء من عام 2019 من أرض الواقع في دير الزور. وغالبا، ما يطلق السكان المحليون في هذه المنطقة على “قوات سوريا الديمقراطية”– أو على الأقل الكوادر والقادة فيها– اسم “بي كي كي” (حزب العمال الكردستاني)، ويعتقدون أنه يتم نقل معلومات كاذبة عنهم إلى التحالف الدولي من خلال هؤلاء القادة والمدنيين.
ويشير سكان هذه المنطقة في كثير من الأحيان إلى “قوات سوريا الديمقراطية”، ولا سيما قيادتها، أو كوادرها، ويعتبرونها مرادفا لـ”حزب العمال الكردستاني”. ويرون أن هؤلاء القادة ومن يتبعونهم مسؤولون عن نقل معلومات كاذبة عنهم إلى التحالف الدولي.
ومن الضروري أن نلاحظ، أن “حزب العمال الكردستاني” (PKK) مصنف رسميا كمنظمة إرهابية من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وتركيا، حيث انخرطت تركيا في صراع طويل مع هذه المجموعة امتد لعقود. والحقيقة، أن كثيرا من الشخصيات الرئيسة في الإدارة التي يقودها الأكراد أمضوا سنوات، أو حتى عقودا، في الصراع قبل الانتقال إلى شمال شرقي سوريا، بما في ذلك الرئيس الحالي لـ”قوات سوريا الديمقراطية”، مظلوم عبدي.
ويُزعم أن كثيرا من الهجمات الإرهابية التي وقعت في تركيا في السنوات الأخيرة خُططت ونُظمت في شمال العراق وسوريا، حيث تحتفظ المجموعة بمعسكرات تدريب ومستودعات أسلحة ومخابئ، وفق ما أفادني به المسؤولون في السنوات السابقة.
وتنفي “قوات سوريا الديمقراطية” حقيقة كونها جزءا من “حزب العمال الكردستاني”، لكنها تعترف بحقيقة أنها تشاطره الآيديولوجيا نفسها. وتضمن بيان 5 سبتمبر/أيلول الجاري الذي يحدد المطالب، والذي وقعه الشيخ إبراهيم الهفل، دعوات إلى “وقف فوري لإطلاق النار”، وكذلك “التفاوض المباشر بين زعماء القبائل، والممثلين الأميركيين، وقيام ضباط محليين من المنطقة بإعادة هيكلة مجلس دير الزور العسكري”.
ويبدو أن، الطلب الأخير يشير ضمنا إلى أن الزعيم القبلي يرغب في تولي الرجال ذوي الخبرة العسكرية المسؤولية عن الأمن في المنطقة بدلا من أولئك الذين لا يتمتعون بدعم محلي وليس لديهم خلفية عسكرية، على شاكلة أبو خولة.
نظرة عن أهالي دير الزور :
في اليوم التالي لاعتقال أبو خولة، قال لي رجل من دير الزور يعيش الآن في الخارج إنه كان “سعيدا” بشأن ذلك؛ لأنهم “ربما سيجلبون الآن أشخاصا طيبين” لتولي منصب “رئيس مجلس دير الزور” العسكري. ولكنه سرعان ما غير رأيه في أقل من 48 ساعة، وقال إنه “سيقف إلى جانب” عائلته وقبيلته، وأنه يشعر بقلق بالغ إزاء ما سيحدث الآن للعرب المحليين في المنطقة، مشددا على أن “قوات سوريا الديمقراطية تخدع المجتمع الدولي”.
وقد أصبح قادة “قوات سوريا الديمقراطية”، ووسائل الإعلام المقربة منهم، معروفين على مر السنين بممارسة الدعاية والحد من وصول وسائل الإعلام إلى المناطق الخاضعة لسيطرتهم، وهو الأمر الذي يجعل من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، في كثير من الأحيان، تقديم تقارير مستقلة من تلك المناطق.
تجدر الإشارة إلى أن هناك امرأة معينة تم تقديمها باستمرار من قبل “قوات سوريا الديمقراطية” على أنها “قائدة في مجلس دير الزور العسكري”، بل إنها ادعت أنها “الرئيسة المشاركة” لها، في مقابلة نُشرت على الموقع الإلكتروني لمركز أبحاث، مقره واشنطن العاصمة، بينما هي في الحقيقة ليست من القادة ولا من المجلس. وقد أكد هذه المعلومة أبو خولة، وأبو الليث، وغيرهما، ممن سئلوا عن هذا الأمر على مر السنين.
وأكد أبو ليث لـ”المجلة” يوم 6 سبتمبر/أيلول الجاري، أن تلك المرأة “جزء من وحدات حماية الشعب”، في إشارة إلى أحد مكونات “قوات سوريا الديمقراطية” التي يقودها الأكراد، والتي ترتبط على نحو وثيق بـ”حزب العمال الكردستاني”.
التحدث مع إيران؟
وقبل أيام فقط من حملة الاعتقالات و”العملية الأمنية”، نقلت وكالة الأنباء الإيرانية شبه الرسمية “مهر” في 17 أغسطس/آب الماضي، عن مدير الإعلام في “قوات سوريا الديمقراطية”، فرهاد الشامي، قوله إن “قوات سوريا الديمقراطية” لن تشارك في أي “عملية عسكرية ضد إيران في سوريا”.
ويحتفظ “حزب العمال الكردستاني” بعلاقات مع إيران- كما أخبرتني مصادر عسكرية وأمنية ومصادر أخرى متعددة في جميع أنحاء الشرق الأوسط طوال عقد من التقارير التي أرسلتها من المنطقة– في الوقت الذي تتعقب فيه الحكومة السورية مقاتلي المعارضة السورية؛ إذ اعتُقل أو قُتل كثير من مقاتلي المعارضة السابقين الذين خضعوا لمخططات مصالحة في أجزاء أخرى من البلاد في السنوات الأخيرة في ظروف غامضة. كما اعتُقل بعض أقاربهم على مر السنين في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة بمجرد تواصلهم معهم.
وخلافا لذلك، كان كل من “قوات سوريا الديمقراطية”، و”حزب العمال الكردستاني” يتمتع بعلاقات وثيقة نسبيا مع الحكومة السورية في دمشق، وقد تمتعا بدعم ضمني وصريح منها في بعض الأحيان منذ بداية انتفاضة عام 2011، والحرب المستمرة التي تلتها.
وبالتالي، فإن الكلام الذي يتبناه بعض ممثلي “قوات سوريا الديمقراطية”، ومفاده أن المشاركين في الانتفاضة يتعاونون مع إيران و/أو مع قوات الحكومة السورية- أو أن هذا هو السبب الكامن وراء اعتقال أبو خولة- يبدو أمرا غير مرجح.
لكن أبو ليث زعم، أنه إذا ثبت أن أبو خولة يتواصل مع “النظام والإيرانيين”، فإن “مجلس دير الزور” العسكري، وأهالي المحافظة سيكونون أول من يقف ضده “لأنهم أعداؤنا الحقيقيون”.
مخاوف بشأن المستقبل :
يخشى كثيرون الآن من أن الثقة الهشّة التي بنيت بين الجماعات في هذا الجزء من البلاد قد تحطمت، الأمر الذي سيؤدي إلى تداعيات سلبية. لقد وثّق المجتمع الدولي كثيرا من الانتهاكات التي ارتكبتها “قوات سوريا الديمقراطية”، لكن لا يبدو أن التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة قادر على تصور، أو في وضع يسمح له بتنفيذ، أو ممارسة الضغط اللازم من أجل القيام بأي تغييرات جوهرية فيها.
ووفقا للموقع الإلكتروني لـ”وكالة اللجوء” التابعة للاتحاد الأوروبي، في آخر تحديث له، جرى في فبراير/شباط 2023، “خلال الفترة التي جمعت فيها التقارير، فقد شاركت “قوات سوريا الديمقراطية في عمليات قتل تجاوزت القضاء، كما شاركت في اعتقالات تعسفية، واحتجازات غير قانونية للمدنيين”. وتفيد التقارير باستمرار التعذيب الذي أدى إلى الوفاة في أماكن الاحتجاز التابعة لهذه القوات.
وأضافت “وكالة اللجوء” التابعة للاتحاد الأوروبي أن “التجنيد القسري للأطفال قد استمر حتى أواخر عام 2021، وأوائل عام 2022، ومن ضمنها التجنيد من خلال عمليات الاختطاف”.
وفي أثناء ذلك، أشار “مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية” في تقرير عن الوضع صدر في 4 سبتمبر/أيلول الجاري، إلى مقتل العشرات في القتال الذي اندلع أواخر أغسطس/آب الماضي، وإلى نزوح المدنيين في المناطق المتضررة. ومع ذلك، لم يتمكن المكتب المذكور من ذكر أي أرقام لأنه “يجري التثبت من الأرقام”.
———————–
“فورن بوليسي”: قمع قسد لانتفاضة دير الزور لا يعني النهاية
رغم انتهاء المواجهات المسلحة في دير الزور بين “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) ومقاتلي العشائر العربية تهدد الهزّة التي حصلت بمزيد من “الانتقام”، وهو ما سينعكس على استراتيجية أمريكا في المنطقة، حسب مجلة “فورن بوليسي”.
وسلطت المجلة الأمريكية الضوء على المواجهات الأخيرة، وجاء في تقرير لها، اليوم السبت، أنه “يجب على واشنطن أن تكرس تركيزاً كافياً لسورية والمنطقة الأوسع لضمان عدم ظهور انقسامات مماثلة بين قسد والفصائل العربية الأخرى المتحالفة معها”.
وترى المجلة الأمريكية أن “الفشل في القيام بذلك سيخلق مساحة للخصوم، لتقويض مكاسب واشنطن، التي حققتها بشق الأنفس”.
ويهدد “اندلاع العنف العربي الكردي بإخلال التوازن الدقيق الذي أبقى تنظيم الدولة الإسلامية وخصوم الولايات المتحدة الآخرين في وضع حرج”.
ومنذ عام 2017، تمكنت واشنطن من منع عودة تنظيم “الدولة” وكبح التوسع الإيراني والروسي، مع الحفاظ على بصمة عسكرية محدودة.
وقد فعلت ذلك من خلال العمل مع “قوات سوريا الديمقراطية”، وهو تحالف غير مستقر من الشركاء المحفوف بالخصومات الداخلية، والآن بدأت الشقوق الأولى فيه بالظهور، وفق “فورن بوليسي”.
ماذا حصل؟
في وقت سابق من هذا الشهر، نجت “قسد” التي يهيمن عليها الأكراد بصعوبة من أكبر ضربة لحكمها منذ تشكيلها في عام 2015.
وفي الفترة من 27 أغسطس إلى 6 سبتمبر، طرد الآلاف من رجال القبائل العربية “قسد” من عشرات المدن، وبلدات في محافظة دير الزور شرقي سورية، في اشتباكات خلفت ما بين 150 إلى أكثر من 350 قتيلاً.
ويقسم نهر الفرات دير الزور إلى نصفين شمالي وجنوبي، حيث “قسد” ونظام بشار الأسد على المناطق الأولى والأخيرة، على التوالي.
النصف الشمالي هو الجزء الوحيد من سورية الذي تسيطر عليه “قسد”، والذي لا يوجد به سكان أكراد أصليون، مما يجعل حكم المجموعة أكثر صعوبة من أي منطقة أخرى في البلاد.
ويعد شمال دير الزور أيضاً موطناً لأكبر عدد من حقول النفط والغاز السورية، مما يضعه في مرمى نظام الأسد وداعميه الإيرانيين والروس، الذين سعوا منذ فترة طويلة إلى استعادة المنطقة واحتياطياتها القيمة من الطاقة.
كما أن تنظيم “الدولة” أكثر نشاطاً في دير الزور من أي منطقة أخرى في البلاد، حيث يبتز مبالغ كبيرة من تجار النفط، ويستخدمها التنظيم لتمويل نفسه وينفذ هجمات شبه أسبوعية على جانبي نهر الفرات.
كما أن موقعها على طول الحدود السورية مع العراق يجعل من دير الزور مهمة لكل من إيران وتنظيم “الدولة”، اللذين يستخدمان المنطقة لتهريب الأسلحة والأفراد عبر المنطقة.
وفي خضم هذه المنافسة الشديدة بين القوى الخارجية، شعرت القبائل المحلية في شمال دير الزور منذ فترة طويلة بالتجاهل، واتهمت “قسد” بتحويل الإيرادات من حقول النفط والغاز في المنطقة إلى المناطق التي يقطنها عدد أكبر من السكان الأكراد.
وكان التمرد القبلي في وقت سابق من هذا الشهر محاولة من قبل الزعيم المحلي إبراهيم الهفل وآخرين للسيطرة على المنطقة وإجبار الولايات المتحدة، على الاعتراف بإنشاء دويلة عربية تتمتع بالحكم الذاتي ومستقلة في شمال دير الزور.
ومع ذلك، وبصرف النظر عن الدعوات العامة لضبط النفس، ظل المسؤولون العسكريون والدبلوماسيون الأمريكيون صامتين إلى حد كبير خلال القتال، خوفاً من الانحياز علناً إلى أي طرف في صراع بين مجموعتين تحتاجهما واشنطن بشدة للعمل معاً لمنع عودة تنظيم “الدولة”.
وكان العديد ممن شاركوا في الأيام الأولى للانتفاضة أعضاء في “مجلس دير الزور العسكريط، وهو الذراع المحلي لـ”قسد”، الذي يدير المنطقة نيابة عنها ويخضع لقيادة المجموعة التي يهيمن عليها الأكراد.
ومنذ عام 2017، قاتلت “قسد” إلى جانب “المجلس” تنظيم “الدولة”، ومع ذلك، فإن الأحداث العنيفة التي وقعت في وقت سابق من هذا الشهر تهدد بإفساد هذه الشراكة وتخريب علاقات “قوات سوريا الديمقراطية” مع المجتمعات المحلية.
“ليست النهاية”
وعلى الرغم من أن “قسد” يبدو أنها قمعت التمرد، إلا أنها بفعلتها هذه قتلت أو سجنت أو أبعدت شريحة كبيرة من القيادة العسكرية والقبلية في المنطقة، وفي ما توضح المجلة الأمريكية.
وأعلن القائد العام لـ”قسد”، مظلوم عبدي منذ ذلك الحين عن عفو عام عن أولئك الذين شاركوا في الانتفاضة، باستثناء أولئك الذين تتهمهم المجموعة بأن لهم علاقات مع “قوى خارجية”.
ومنذ بدء القتال، زعمت “قسد” أن قادة التمرد العشائري يتعاونون مع نظام الأسد استعداداً لتسهيل سيطرة الأخير على شمال دير الزور.
وتشير مصادر موثوقة إلى أن رئيس مجلس دير الزور، أحمد الخبيل ربما كان في الواقع يحمل مثل هذه النوايا.
ومع ذلك، استخدمت “قسد” منذ ذلك الحين هذه التهمة للإشارة إلى معظم أولئك الذين شاركوا في القتال، وكذريعة لمزيد من حملات القمع.
ومنذ دعوة عبدي، اعتقلت “قوات سوريا الديمقراطية” المزيد من زعماء القبائل الذين يُعتقد أنهم شاركوا في القتال، بدلاً من إطلاق سراحهم.
وبحسب ما ورد التقى مسؤولون أمريكيون في الأيام الأخيرة مع أقارب الهفل الذين يعيشون في قطر في محاولة للمصالحة بين الجانبين.
لكن حملة الاعتقالات الكبيرة التي تشنها “قسد”، إلى جانب الدماء الهائلة التي أراقت خلال الانتفاضة التي استمرت 11 يوماً، تعني أن المنطقة لن تعود على الأرجح أبداً إلى الوضع الراهن الذي تحقق بعد هزيمة تنظيم “الدولة”، في أواخر عام 2017.
ونتيجة لذلك، ستكون “قسد” مقيدة بشكل كبير في قدرتها على منع عودة خلايا التنظيم، ومنع نظام الأسد وروسيا وإيران من المطالبة بالاحتياطيات النفطية القيمة في دير الزور.
“موقف صعب”
وتضع هذه الأحداث الولايات المتحدة في موقف صعب، حسب ما تشير “فورن بولسي”.
ومنذ تدخلها في سورية في أواخر عام 2014، بذلت الولايات المتحدة جهداً أكبر لحماية شمال سورية من هجمات القوى الخارجية أكثر من أي منطقة أخرى تحت سيطرة “قسد”.
في 7 فبراير 2018، قتلت الغارات الجوية الأمريكية المئات من مرتزقة فاغنر الروس الذين عبروا إلى المنطقة للسيطرة على حقل غاز كونيكو، الذي يستضيف الآن واحدة من أكبر القواعد الأمريكية في البلاد.
وفي أكتوبر/تشرين الأول 2019، أطلقت تركيا حملة كبيرة لطرد “قسد” من منطقة تبلغ مساحتها 1200 كيلومتر مربع (463 ميلاً مربعاً) على طول حدودها مع سورية.
وكشرط لتحقيق وقف إطلاق النار بين الجانبين، وافقت الولايات المتحدة على إجلاء قواتها من مواقع الخطوط الأمامية في محافظات حلب والرقة وشمال غرب الحسكة، والسماح للجنود الروس باستبدال القوات الأمريكية المنتهية ولايتها.
ومع ذلك، رفضت واشنطن التخلي عن سيطرتها على احتياطيات النفط والغاز في دير الزور وجنوب شرق الحسكة، لأن القيام بذلك من شأنه أن يخاطر بتشجيع أطراف أخرى في الصراع السوري على السيطرة على المنطقة.
وبالنسبة لتنظيم “الدولة” ونظام الأسد على وجه الخصوص، فإن السيطرة على هذه الحقول من شأنها أن تزيد بشكل كبير من وصول الطرفين إلى العملات الأجنبية، مما يمكنهم من التوسع وتهديد توازن القوى الإقليمي، وفق المجلة الأمريكية.
وتشير “فورن بوليسي” إلى أن الانتفاضة العشائرية ورغم أنها قد هُزمت على ما يبدو، إلا أن تأثيرها سيكون كبيراً.
ومن المرجح أن تدفع التجربة المشتركة في القتال ضد عدو مشترك العائلات والعشائر والقبائل في دير الزور التي لديها تاريخ سابق من النزاعات إلى وضع خلافاتها جانباً للتركيز على الهدف المشترك المتمثل في “الانتقام”.
وما سبق يوفر وقوداً كافياً لتمرد طويل الأمد.
ومن المرجح أن يتم التودد إلى الخبيل والهفل وأقاربهما وأتباعهما الذين لا يمكن إعادة دمجهم في النظام القائم من قبل عدد لا يحصى من الجهات الفاعلة الأخرى التي سعت بالفعل منذ فترة طويلة إلى زعزعة استقرار هذه المنطقة الحيوية.
—————————–
“قسد” تدعو مقاتلي العشائر في دير الزور لـ”تسوية”
دعت “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) مقاتلي العشائر في أرياف دير الزور ممن فروا إلى مناطق سيطرة النظام السوري لـ”تسوية” خلال مدة أقصاها 15 يومًا تبدأ من اليوم.
وقالت “قسد“، عبر صفحتها الرسمية في “فيس بوك” اليوم، الخميس 28 من أيلول، إنها خصصت بالتعاون مع قوى “الأمن الداخلي” (أسايش) أرقامًا للتواصل عبر تطبيق “واتس آب” للبدء بخطوات “التسوية”.
وأضافت أنه على حاملي السلاح في المنطقة تسليم أسلحتهم، والبدء بـ”الإجراءات القانونية” اللازمة خلال مدة أقصاها 15 يومًا.
وتزامنًا مع الدعوات لـ”التسوية” شنت “قسد” حملة اعتقالات ومداهمة لبعض المنازل في قرى وبدات من أرياف دير الزور، واستولت خلال الحملة نفسها على منازل شرقي المحافظة، وحولتها إلى نقاط عسكرية.
وأفاد مراسل عنب بلدي في دير الزور أن “قسد” استولت، أمس الأربعاء، على عدة منازل في أحياء بلدة ذيبان بعد حملة أمنية نفذتها في المنطقة على خلفية الانتفاضة القبلية التي شهدتها قرى وبلدات من دير الزور ضدها.
ومن المنازل التي استولت عليها “قسد” كان منزل مدير مكتب “الدفاع الذاتي” التابع لـ”الإدارة الذاتية” (المظلة السياسية لـ”قسد”) في بلدة جديد بكارة، الواقع على مقربة من حاجز “الجسر” المؤدي إلى بلدة الصبحة.
وتمركزت قوات من “قسد” أيضًا في معمل “لبانو” لصناعة الأجبان، إذ حولت الطابق الثاني فيه لمقر عسكري، ونشرت قناصين فوق سطح المعمل المكون من ثلاثة طوابق، بحسب مراسل عنب بلدي في المنطقة.
محطة وقود “السيد” كان لها نصيب من الحملة الأمنية، إذ حولتها “قسد” إلى مقر عسكري تنطلق منه الطائرات المسيّرة التي نشطت مؤخرًا خلال المواجهات المسلحة في بلدة ذيبان شرقي دير الزور، بحسب المراسل.
ومنذ يومين عادت المعارك بين “قسد” ومقاتلين من أبناء العشائر، بعد أسابيع من إعلان “قسد” سيطرتها على المنطقة وانتهاء عملياتها الأمنية فيها.
وقالت “قسد” في بيان، الثلاثاء 26 من أيلول، إن مجموعة مسلحة تابعة للنظام السوري تمكنت من التسلل إلى بلدة ذيبان، “مستغلة حالة الهدوء والأمن السائدة في البلدة لتستهدف قواتنا”.
التطورات جاءت بعد بيان نشره الشيخ إبراهيم الهفل الذي يمثل قوات العشائر شرقي دير الزور، وتداولته حسابات إخبارية محلية، طالب عبره بالنفير العام
—————————–
النظام السوري و”الدفاع الوطني”… من الاستخدام إلى التخلي/ عدنان أحمد
يلقي الصدام بين قوات النظام السوري ومليشيا “الدفاع الوطني” في الحسكة، شمال شرقي البلاد، الضوء على العلاقة بين الطرفين، والتي تطورت خلال السنوات الماضية من الاستخدام الوظيفي من قِبل النظام لهذه المجموعات في مواجهة فصائل المعارضة، إلى التصادم مع بعض قادتها، ممن باتوا يعملون لحسابهم الخاص، بعد أن هدأت حدة المعارك في البلاد، وتراجعت الحاجة إليهم، وتقلصت سلطات هذه المليشيات، لتتقلص معها الموارد التي كانت متاحة أمامها لجني الأموال عبر الطرق غير المشروعة.
وبدأت المواجهات في القامشلي بمدينة الحسكة بين قوات النظام وقائد مليشيا “الدفاع الوطني” عبد القادر حمو والمجموعات التابعة له قبل أيام إثر قرار عزله من منصبه، نتيجة ضغوط من زعماء العشائر، بعد الإهانة التي وجهها حمو لشيخ عشيرة الجبور الشيخ عبد العزيز المسلط الشهر الماضي.
وتلا ذلك وقوع صدامات بين الطرفين، وتوجيه إنذارات من زعماء العشائر بعزل حمو أو مهاجمة مواقع مليشياته في المربع الأمني. هذا الأمر استدعى تدخّل السلطات التابعة للنظام في الحسكة وفي دمشق، وقررت لجنة حضرت من دمشق، بضغط روسي، عزل حمو. لكن الأخير رفض القرار، واعتصم مع مجموعته في الفيلا الخاصة به في المربع الأمني، مهدداً بتفجيرها في حال محاولة اقتحامها.
وسبق ذلك استيلاء قوات النظام على العديد من المواقع والنقاط التابعة لحمو في المدينة، لينتهي الأمر إلى محاصرة منزل حمو من جانب “الهجانة” التابعة للنظام بدعم من قوات النظام و”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، بتنسيق كما يبدو مع القوات الروسية، ومعارضة الإيرانيين.
وانتهى هذا التصعيد بمقتل عبد القادر حمو يوم الجمعة الماضي. وقالت “الدفاع الوطني” في الحسكة، عبر معرفاتها الرسمية، إن “الجيش السوري والقوى الأمنية بمؤازرة عناصر الدفاع الوطني في مركز الحسكة سيطروا على المبنى الذي كانت تحتمي فيه مجموعة مسلحة خارجة عن القانون بعد مقتل متزعمها عبد القادر حمو”.
وعلمت “العربي الجديد” من مصادر مطلعة أن قوات النظام قامت بتصفية حمو بعد خروج النساء والأطفال وبعض عناصر مجموعته من المبنى وتسليم أنفسهم لقوات “الهجانة”، مشيرة إلى أنه “جرت تصفية حمو كونه يحمل الكثير من الوثائق والأسرار عن ضباط ومسؤولين لدى النظام”.
وعُرف عن حمو انخراطه في تجارة المخدرات والسلاح والممارسات المسيئة بحق أهالي الحسكة، إضافة إلى صلته الوثيقة مع “حزب اللّه” اللبناني والمليشيات الإيرانية.
وكانت اللجنة التي حضرت من دمشق، قد قررت أيضاً إعادة هيكلة “الدفاع الوطني” وجعلها تابعة بشكل مباشر لقوات النظام في محافظة الحسكة، وتحت إشراف قائدها العسكري اللواء منذر سعد إبراهيم، وتعيين العقيد سمير إسماعيل مسؤولاً عن كل فروع المليشيا بعد أن كان مسؤولها في مدينة القامشلي فقط.
والواقع أن هذه الأجواء السلبية بين قوات النظام و”الدفاع الوطني” بدأت مع المصادمات التي جرت في إبريل/نيسان 2021 بين “الدفاع الوطني” و”قسد”، حيث وقفت قوات النظام موقف المتفرج، وكذلك القوات الروسية الموجودة في مطار القامشلي، وهو ما دفع المليشيا للبحث عن حليف جديد بسبب شعور حمو بالخذلان تجاه النظام وروسيا.
ويقول الناشط محمد الحسكاوي في حديثٍ لـ”العربي الجديد” إن الحليف الجديد كانت إيران ومليشياتها، وتحديداً “سرايا الخرساني”، مع انشغال روسيا في الحرب ضد أوكرانيا، إذ سعت ايران إلى تعزيز حضورها العسكري والاجتماعي في محافظة الحسكة سواء عبر دعم “الدفاع الوطني”، أو استقطاب عدد من شيوخ العشائر العربية في المحافظة.
ويضيف أن تخلي النظام عن “الدفاع الوطني” في الحسكة، ليس مرده علاقاته مع إيران، بل لأسباب سابقة لذلك، إذ لم يدعمها في المواجهات مع “قسد” قبل عامين، إضافة لتردي علاقات المليشيا مع المجتمع المحلي، وتورطها في تجارة الكبتاغون، وهو ما جعلها تشكل عبئاً على النظام الساعي لتمكين نفسه في المحافظة.
“الدفاع الوطني” في دير الزور
أيضاً في دير الزور اعتمد النظام على قائد “الدفاع الوطني” هناك، فراس الجهام، المعروف باسم “فراس العراقية”، اعتباراً من العام 2012 لقمع المحتجين، ويُتهم بالمسؤولية عن مقتل عشرات المدنيين أو تسليمهم للنظام.
ويتولى الجهام تجنيد الشباب من أبناء العشائر العربية في دير الزور لصالح “الدفاع الوطني” بهدف زجهم في معارك البادية السورية ضد تنظيم “داعش”، إضافة إلى حماية طريق دير الزور- دمشق الدولي، مقابل راتب شهري يبلغ مائة دولار، وفق موقع “مع العدالة” السوري.
وبحسب الموقع، فإن عدد عناصر “الدفاع الوطني”، الذين يتبعون للجهام في دير الزور، يبلغ نحو 1500 عنصر بين مدنيين ومتخلفين عن الخدمة الإلزامية أو ممن أنهوا خدمتهم العسكرية، وكشف الموقع أن الجهام جنّد عدداً من عناصره في ترويج المواد المخدرة في المحافظة مستهدفاً خصوصاً المراهقين والأطفال.
ولا يحمل الجهام أي مؤهل دراسي، وجرى اكتشاف أكثر من مرة عملية تزوير متمثلة بحضور عناصر من “الدفاع الوطني”، إلى امتحان الثانوية العامة للتقدم باسمه، مما دفع مديرية التربية لإصدار قرار بحرمانه من ذلك الاختبار.
وكان الجهام قبل اندلاع الثورة السورية أحد أكبر مروجي تجارة المخدرات في محافظة دير الزور، وجرى توقيفه من قبل فرع الأمن الجنائي لتنفيذه عمليات سرقة ونصب واحتيال ضد مدنيين، إضافة لسجنه أكثر من مرة بتهمة ترويج الدعارة.
وبعد الثورة، أوقفته القوات الروسية أكثر من مرة للتحقيق معه بقضايا فساد وإهدار ذخيرة، لكن قاعدة حميميم الروسية في سورية منحته في يونيو/حزيران 2021 “وسام البطولة”، الممهور بختم الدفاع الروسية “تقديراً لجهود الدفاع الوطني في دحر الإرهاب”، بسبب اعتماد روسيا على عناصره في عملياتها ضد “داعش” في البادية السورية.
وعلى الرغم من هذه العلاقة الاستخدامية من جانب النظام السوري للجهام ومجموعته، فإن سلطات النظام، وتحت تراكم الشكاوى عليه وعلى عناصره من جانب الأهالي وعشائر المنطقة، تضطر أحياناً لاتخاذ إجراءات ضد هؤلاء، إذ اعتقلت الجهام لبعض الوقت في سبتمبر/أيلول 2020 بعد استدعائه إلى دمشق رفقة المدعو حسن الغضبان.
وقبل ذلك بأيام، اعتقلت المخابرات الجوية التابعة للنظام ابن عم قائد “الدفاع الوطني” بعد مشادة كلامية تطورت إلى إشهار السلاح على أحد حواجز المخابرات الجوية في المحافظة. كما أصدر النظام مذكرة توقيف بحق الجهام في نوفمبر/تشرين الثاني 2021 إضافة إلى أشخاص آخرين متهمين بنقل ملكيات إلى أسمائهم عبر تزوير وثائق ملكية، وفق موقع “عين الفرات” المحلي.
وفي شهر فبراير/شباط الماضي، دهمت دوريات مشتركة تابعة لفرع الأمن الجنائي والشرطة المدنية والأمن العسكري منزل القيادي في “الدفاع الوطني” أسعد الساجي في حي الجورة بدير الزور، وصادرت بعض قطع السلاح والذخيرة وكمية من المخدرات قبل أن تعتقل الساجي وتقتاده إلى فرع الأمن الجنائي.
ووجه الادعاء العام في مدينة دير الزور تهماً عديدة للساجي منها القتل والابتزاز وتجارة المخدرات والسرقة والتهديد، وأمرت بنقله إلى المحكمة العسكرية في محافظة حلب تمهيداً لمحاكمته هناك بهذه التهم، لتكون هي المرة الأولى التي يتم فيها اعتقال قيادي في “الدفاع الوطني” بدير الزور وتوجيه تهم إليه من دون أن يتدخل فراس الجهام لإخراجه.
وهو ما أثار وفق ناشطين، استياء قادة وعناصر المليشيا خشية تكرار هذه العملية واعتقال عناصر وقياديي المليشيا المتورطين في جرائم مماثلة والمطلوبين لدى محاكم النظام، الأمر الذي دفع بعضهم للتفكير بالرحيل عنها والتوجه إلى المليشيات المسلحة المدعومة من روسيا.
وفي إطار سعيها للتخلص من هذه المليشيات التي أدت دوراً معيناً في خدمة النظام في وقت من الأوقات، وتحولت بعد ذلك إلى عبء على قوات النظام بسبب محاولتها العمل لحسابها الخاص في فرض سطوتها وجمع الثروات بطرق غير مشروعة، مما يثير الأهالي على النظام بوصفه بنظرهم المسؤول عن تسليحها وحمايتها، أقدمت “الفرقة الرابعة” التابعة للنظام في يوليو/تموز 2022 على إنهاء وجود “الدفاع الوطني” في مدينة الميادين وريفها في شرق دير الزور، بعد أن ضمت ما تبقى من عناصر إلى صفوفها، وأبقت معظمهم في النقاط والقطاعات التي كانوا يعملون فيها.
صدامات أخرى مع “الدفاع الوطني”
ولا تقتصر الصدامات بين قوات النظام ومليشيات “الدفاع الوطني” على مناطق الشرق السوري، بل تشمل كل المناطق تقريباً. وفي سبتمبر 2018، اعتقلت الأجهزة الأمنية التابعة للنظام قائد “الدفاع الوطني” في منطقة ضاحية الأسد في دمشق، علاء حيدر، وذلك بعد أن امتنع آنذاك عن إرسال عناصره باتجاه مدينة إدلب، بحجة أن مهامهم العسكرية تنحصر في مناطقهم وريف دمشق.
كما اعتقلت أجهزة أمن النظام في نوفمبر 2019 القائد السابق في “الدفاع الوطني” حسن حريبل المتحدر من عشيرة “العساسنة” الموالية للنظام في حي الحمدانية، غربي مدينة حلب. وعمل حريبل منذ عام 2011 وهو شخص سيئ السمعة، على مساندة الأجهزة الأمنية وذلك عبر قمع التظاهرات السلمية، وملاحقة المطلوبين للنظام من أبناء المدينة.
وجاء اعتقاله نتيجة كثرة التهم والشكاوى المقدمة ضده على خلفية التجاوزات التي ارتكبها وعناصره ضد الأهالي في حلب، من تجارة مخدرات وخطف وطلب فدية، فضلاً عن عمليات السرقة التي كانت تجري على الحواجز التي كان يديرها في المنطقة.
واعتباراً من عام 2018، توقفت أغلب قطاعات “الدفاع الوطني” في العاصمة دمشق عن صرف رواتب العناصر، فضلاً عن إجراء مناقلات بين قادتها، وزج بعضهم في السجن.
وذكرت شبكة “صوت العاصمة” آنذاك أن انقطاع الرواتب يعود بالدرجة الأولى إلى العجز المادي للمليشيا وتفضيل قطاعات على أخرى من جهة الدعم المادي، بسبب امتناع بعضها عن مؤازرة قوات النظام على جبهات ريف دمشق وشمال سورية.
وجاء انقطاع الرواتب بعد توقف عمليات السرقة (التعفيش) إثر سيطرة النظام على بساتين حرستا وحي تشرين والقابون، مما جعل عدداً كبيراً من المقاتلين يتحولون للعمل في أشغال أخرى، أو ترك المليشيا والذهاب إلى قوات “الفرقة الرابعة” أو مليشيا “درع القلمون”، وبعضهم فضّل الخروج من سورية خوفاً من تجنيدهم في جيش النظام، خصوصاً أولئك الذين استعاضوا عن الخدمة الإلزامية بالتطوع في مليشيا “الدفاع الوطني”.
النشأة في حمص
وتعود نشأة مليشيات “الدفاع الوطني” إلى فترة ما بعد الثورة في عام 2011 بأشهر، وخصوصاً مع تحولها لنزاع مسلح عام 2012، إذ وجد نظام بشار الأسد نفسه في حاجة إلى مزيد من القوى البشرية للسيطرة على المجتمعات المحلية وقمع التظاهرات. ولتنفيذ ذلك، قام النظام بعسكرة السكان من خلال تشكيل مليشيات محلية، استخدمها لاحقاً في معاركه مع قوات المعارضة.
ومن هنا نشأت “قوات الدفاع الوطني”، في منتصف عام 2011، عندما اجتمعت الجماعات المسلحة المحلية، تحت مسمى “اللجان الشعبية” لقمع التظاهرات الشعبية في حمص، مدعومة من أجهزة الأمن، حيث تمكنت من السيطرة على العديد من الأحياء. وشجّع نظام الأسد هذه الاستراتيجية وعمل على استنساخها في مناطق أخرى مثل اللاذقية وحلب وريف دمشق.
ومع بدء الأعمال القتالية عام 2012، وجد نظام الأسد نفسه في حاجة إلى “قوى رديفة” تقاتل معه أو نيابة عنه على الأرض، لذلك بادر إلى إعادة ترتيب “الدفاع الوطني” للمشاركة في العمليات العسكرية.
وتحولت تلك القوات أحياناً إلى رأس الحربة في المعارك الرئيسية ضد المعارضة في ريف دمشق، وحمص، وحلب، بين عامي 2012 و2014. وتورط الكثير من عناصرها في انتهاكات وجرائم الحرب، وهو ما هدف إليه النظام من جهة أخرى، كي تكون أعمال الانتقام والسرقة والإعدامات من دون محاكمة منسوبة إلى “الدفاع الوطني” وليس إلى قواته الرسمية.
ومع زيادة تدخل القوى الأجنبية في الشأن السوري، وجدت كل من إيران وروسيا في “الدفاع الوطني” مليشيا جاهزة للاستقطاب مقابل الحصول على الدعم، واستخدمت كل منهما المليشيا لخدمة مصالحها والتغلغل من خلالها داخل المجتمعات المحلية، كون المنتسبون لهذه القوات يكونون عادة من أبناء المنطقة المحليين، والأقدر بالتالي على التعامل مع سكانها، ودفعهم للقتال إلى جانب النظام، بوسائل الترغيب والترهيب.
من جهتها، منحت قوات النظام هذه القوات، عدا الدعم المادي والعسكري، الاعتراف الرسمي لتتحول بحلول ربيع 2013 إلى مؤسسة نظامية، وبات لـ”الدفاع الوطني” مبانٍ إدارية تشغلها قياداتها، ومراكز تدريب، وختم رسمي، وزيّ موحد وشعار وعلم، ورواتب شهرية. كما تحصل على الأسلحة والرواتب والتوجيهات من الأجهزة الأمنية في دمشق.
ومع الأدوار الناجحة التي أدتها في خدمة النظام، ارتفع عدد المنتسبين إليها في أغسطس/آب 2013 إلى نحو مائة ألف مقاتل، بما يزيد بأضعاف عن القوات الرسمية الموجودة تحت تصرف النظام آنذاك.
وأفادت بعض التقديرات مثل “مركز مالكوم كير” في معهد “كارنيغي” بأن القيادة المركزية السورية كانت تضمّ في عام 2018 بين 20 و25 ألف من الجنود والضباط، في حين أن عدد رجال المليشيات المختلفة الموالين للنظام كان يتراوح بين 150 ألفا و200 ألف، وأبرزهم قوات “الدفاع الوطني”.
التخلص من العبء
ومن أبرز قادة “الدفاع الوطني” المتورطين في جرائم حرب، القائد العام لـ”الدفاع الوطني” في سورية فادي صقر، وقائد “الدفاع الوطني” في حمص صقر رستم، وفي القنيطرة وليد أباظة (توفي في عام 2017)، وفي حلب فارس جنيدان، وقائد “الدفاع الوطني” في السقيلبية بمحافظة حماة نابل العبد الله، الذي يرتبط بعلاقات قوية مع روسيا، إضافة إلى فراس الجهام في دير الزور، وعبد القادر حمو في الحسكة.
ومعظم هؤلاء ممن كانوا قبل عام 2011 من أصحاب السوابق ومنخرطين في أعمال غير مشروعة مثل تجارة المخدرات وبعضهم عليه أحكام قضائية. واستغل النظام ماضيهم الأسود لتبييض صفحتهم، مقابل وضع أنفسهم تحت تصرفه، وأمدهم بالدعم للتغلغل في مجتمعاتهم المحلية وتجنيدها لصالح النظام، لذلك انخرط هؤلاء بسهولة في ارتكاب الجرائم وكل أشكال الانتهاكات.
غير أنه ومع توقف الأعمال العسكرية الرئيسية، ونضوب مصادر النهب و”التعفيش” من مناطق المعارضة، بدأت هذه المليشيات تشكل عبئاً على موارد النظام المحدودة، إضافة إلى العبء “الأخلاقي” والسياسي، كون معظم المنخرطين في هذه المليشيات متورطين في انتهاكات جسيمة تشتمل على ارتكاب المجازر وجرائم القتل والخطف والمخدرات.
وهو ما يفسر اغتنام النظام أية فرصة للتضييق على هذه المليشيات بهدف حلها، خصوصاً أن بعض قادتها باتوا يعملون لحسابهم الخاص، عبر الطرق غير المشروعة، وهم يشعرون بأن النظام يجب أن يسمح لهم بذلك ويكون ممتناً لهم مقابل الخدمات التي أدوها له في السابق.
———————————–
دير الزور: هجوم جديد للعشائر العربية ضد “قسد“
شنّت مجموعات من العشائر العربية هجوماً عنيفاً وواسعاً على مواقع “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) في ريف دير الزور الشرقي، وذلك بالتزامن مع إعلان شيخ قبيلة “العكيدات” إبراهيم الهفل عن استمرار معارك الكرّ والفرّ وتشكيل كتائب محترفة لذلك.
وقالت مصادر ميدانية لـ”المدن”، إن قوات العشائر العربية شنّت هجوماً ليل السبت- الأحد، على مواقع تابعة لـ”قسد” في بلدة أبو حمام في ريف دير الزور الشرقي، مضيفةً أن اشتباكات عنيفة اندلعت بين الجانبين استخدم فيها أبناء العشائر قذائف صاروخية “آر بي جي”، والرشاشات المتوسطة.
وأوضحت أن العشائر استطاعت، عبر الهجوم الخاطف والواسع، السيطرة على عدد من نقاط “قسد” العسكرية وإحراقها وقتل وجرح من كان فيها، قبل أن تعود وتنسحب منها في وقت لاحق إلى مواقع مجهولة.
وبثّ شبكات إخبارية محلية مقطعاً مصوراً يظهر طلب العشائر المهاجمة من عناصر “قسد” تسليم أنفسهم عبر مكبرات الصوت في إحدى النقاط العسكرية التي تعرّضت للهجوم، كما توضح مقاطع أخرى الاشتباكات العنيفة بين الجانبين واشتعال النيران.
وفي بلدة غرانيج، هاجم عناصر من العشائر حاجزاً للشرطة العسكرية التابعة لـ”قسد”، كما شنّوا هجوماً مماثلاً على حاجز في بلدة درنج في ريف دير الزور الشرقي.
وإضافة إلى ذلك، هاجمت مجموعات العشائر سيارة عسكرية تابعة لـ”قسد” في قرية معيزيلة في ريف دير الزور الشمالي، ردّت عليه الأخيرة بفرض حصار على القرية وحظر للتجوال.
وفي المقابل، قالت المصادر إن “قسد” فرضت حظر التجوال على معظم القرى والبلدات في دير الزور الشرقي، كما استقدمت تعزيزات إلى عدد من المناطق التي تعرّضت للهجوم في أبو حمام والطيانة.
ويبدو أن قوات العشائر العربية بعد خساراتها لآخر معاقلها في ذيبان في ريف دير الزور الشرقي، انتقلت لاستخدام حرب العصابات واستهداف مواقع “قسد” عبر عمليات كر وفر تستطيع من خلالها استنزاف قوات الأخيرة، دون اللجوء إلى السيطرة على الأرض، نظراً لفارق القوة في العتاد لصالحها.
صقور العشائر
وجاءت الهجمات بالتزامن مع إعلان شيخ قبيلة “العكيدات” إبراهيم الهفل عن تشكيل كتائب “صقور العشائر” الخاصة لشنّ هجمات على مواقع “قسد” على جميع الجبهات، موضحاً أن المعارك الأخيرة تحولت إلى “كر وفر”.
وأكد الهفل في تسجيل صوتي منسوب له على استمرار القتال ضد “قسد” التابعة كما قال إلى “عصابات قنديل” حتى استرداد حقوق العشائر والقبائل العربية في دير الزور منها، مشدداً على عدم ارتباط قوات العشائر بالنظام السوري او أي جهة كانت.
وتشنّ قوات العشائر بشكل شبه يومي هجمات على قوات “قسد” في مناطق متفرقة من قرى دير الزور الشرقي، تستهدف فيها نقاطاً صغيرة ومتفرقة، ثم تنسحب منها.
وقبل أسبوع، شنّت قوات العشائر العربية هجوماً عنيفاً ضد “قسد” في بلدة ذيبان في ريف دير الزور الشرقي، ترّكزت في محطة مياه الهفل وقرب جسر الميادين.
وقاد الهفل الحراك العشائري من أبناء قبيلته والقبائل الأخرى في دير الزور وشرق الفرات ضد “قسد” على مدى أسبوعين بدءاً من آواخر أب/أغسطس، من معقله في بلدة ذيبان، واستطاعت العشائر السيطرة على الريف الشرقي للمحافظة بشكل شبه كامل، قبل أن تستعيد “قسد” السيطرة عليها إضافة إلى معقل الهفل، في وقت لاحق.
——————————
==================
تحديث 17 أيلول 2023
——————————
«قسد» على ضفاف الفرات: هيمنة وتحكّم/ عبد الباسط سيدا
صرح صالح مسلم في أكثر من مناسبة، أيام كان حزبه عضواً فاعلاً في هيئة التنسيق وكان هو نائب حسن عبد العظيم في رئاسة الهيئة، وذلك في العام الأول من الثورة السورية 2011، بأنهم سيحافظون على الخصوصية الكردية، ولن يرسلوا أبناءهم للقتال خارج المناطق الكردية، وإنما سيحتفظون بهم ليدافعوا عن المنطقة وأهلها، في حال تعرضها لهجمات «النظام» أو الإرهابيين. هذا مع معرفة الجميع بأن حزبه «الاتحاد الديمقراطي- ب. ي. د» الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني طب. ك. ك» دخل إلى المناطق ذات الغالبية الكردية بهدف قمع الناشطين فيها، وإبعادها عن الثورة السورية؛ وذلك بعد أن شهدت المناطق المعنية مظاهرات واعتصامات كبيرة كرنفالية لافتة، تأييداً للثورة السورية وتفاعلاً معها، خاصة في مدينة عامودا.
وكثيراً ما سمعت من قياديي الأحزاب الكردية السورية؛ ومن ثم من قياديي المجلس الوطني الكردي بعد تأسيسه بتاريخ 26 تشرين الأول/أكتوبر 2011، بأنهم لا يوافقون على وجود الجيش الحر في مناطقهم، وذلك خشية تعرضها للقصف من جانب السلطة. هذا في حين أن الجيش الحر لم يكن يمتلك امكانية تشكيل القوات، وإرسالها إلى مختلف المناطق السورية، وإنما كل ما هناك هو أن يشكل أبناء كل منطقة بأنفسهم وحدات مهمتها حمايتهم، مستخدمين اسم الجيش الحر للشرعنة، الأمر الذي كان سيؤدي إلى أفشال مشروع السلطة مع «ب. ك. ك» منذ البدايات، ولم يكن سيؤدي إلى الاقتتال بين الكرد، لأن الأخير في ذلك الحين لم يكن يمتلك أي شعبية بين الناس في أجواء الثورة.
وشيئاً فشيئاً تمكن «ب. ي. د» بتوجيهات وتعليمات من «ب. ك. ك» من إقناع الأحزاب الكردية السورية، وأوساطها الشعبية، بعدم الالتزم بشعارات وأسماء أيام الجمعة التي كانت تتوافق عليها تنسيقيات الثورة على مستوى سوريا بكاملها، وهنا علينا ألا نتجاهل علاقة بعض الأحزاب الكردية السورية مع الأجهزة الأمنية السلطوية.
واستمر الوضع هكذا إلى أن تمكن الحزب المعني من تثبيت قواته ومراكزه في مختلف المناطق، وأعاد ترميم جسور التواصل مع مؤيديه من الكرد، ومع السلطة، وذلك بناء على اتفاقيات ملزمة مع هذا الأخيرة على توزيع الحصص والمهام بغية تحقيق الهدف المتفق عليه مع سلطة آل الأسد.
ولفرض سلطته في الشارع، دخل هذا الحزب في صدام مع التنسيقيات الكردية والناشطين الكرد الذين كانوا قد تفاعلوا مع الثورة، وباتوا جزءاً منها. فكان التغييب والاعتقال والاغتيال، ومن ثم ارتكاب المجازر، ومجرزة عامودا، بتاريخ 27 حزيران/يونيو 2013، مثال دامغ في هذا المجال.
وبعد هذه الخطوات، التف حزب العمال بواجهاته المختلفة على الأحزاب الكردية السورية، وأخرجها من «المولد بلا حمص» كما يُقال، وذلك بعد أن اكتسب الشرعية السياسية بطريقة ما عبر اتفاقيتي هولير 1 بتاريخ 11 حزيران/يونيو 2012، وهولير2 بتاريخ 1 تموز/يوليو 2012، ومن ثم اتفاقية دهوك بتاريخ 22 تشرين الأول/أكتوبر 2014.
فهذا الحزب، مثله في ذلك مثل حزب الله في لبنان، لم، ولن، يقبل بأي شريك جاد، يُلزمه من موقع القادر بضرورة احترام القواعد المتوافق عليها، وإنما هو حزب يريد أن يكون هو صاحب قرار السلم والحرب، والمحتكر للعمل العسكري والأمني والإداري عبر كوادر قنديل، إلى جانب التحكم بالموارد الاقتصادية والمعابر وغير ذلك. وبالتناغم مع هذا التوجه، قام بتهديد قيادات الأحزاب المذكورة، ومارس ضدها التغييب والاعتقال والطرد.
هذا في حين أنه، وفي إطار، الاتفاق الذي تم بينه وبين السلطة، تمكّن من السيطرة على المؤسسات والمرافق وآبار النفط في المناطق ذات الغالبية الكردية من دون قتال، إذ انسحبت منها السلطة ظاهرياً، بينما على أرض الواقع ظلت السلطة المعنية في مواقع مفصلية، وليس في المربع أو المربعات الأمنية وحدها. ففي القامشلي على سبيل المثال ظلت السلطة محتفظة بالمطار، وبمعسكرات ومواقع أخرى، تُستخدم اليوم للتدريب وتخزين الأسلحة، والتنسيق مع الإيرانيين وقيادات حزب الله، وحتى مع الروس. أما الخطاب الثوروي الذي تستخدمه «قوات سوريا الديمقراطية – قسد» وواجهات «حزب العمال الكردستاني» الأخرى في مواجهة السلطة، فهو مجرد خطاب للاستهلاك المحلي.
ومع توافق الأمريكان والروس في عهد الرئيس الأسبق أوباما عام 2015 على حصر القضية السورية في مسألة محاربة الإرهاب، قرر الجانب الأمريكي الاعتماد على قوات الحزب المذكور على الأرض، ودعمها بالإسناد الجوي، إلى جانب تزويدها بالعتاد والأسلحة والذخيرة والأموال، وذلك لتحاشي إنزال القوات البرية الأمريكية على الأرض قدر الإمكان لأسباب عدة تمّ تناولها مسبقاً في أكثر من مناسبة؛ وكان ذلك بعد رفض فصائل المعارضة الطلب الأمريكي الخاص بأولوية محاربة مقاتلة داعش من دون السلطة.
ومع هذا الاعتماد الأمريكي على الحزب المعني حصل تحول لافت في مهمة «ب. ك. ك» الذي لم يقطع ولم يعلق علاقاته مع سلطة آل الأسد، وكذلك مع النظام الإيراني، وإنما اكتفى بتمويهها، واطلاق التصريحات المنتقدة لسلطة آل الأسد من دون النظام الإيراني، ودفع بقواته لمحاربة داعش الكوكتيل المخابراتي وفق التعليمات الأمريكية، وكان ذلك متكاملاً مع التزاماته مع النظام الإيراني، وسلطة آل الأسد.
ومع الوقت لم يكتف الحزب المعني بالخزان الشبابي الكردي السوري، الذي استغل حاجاته الاقتصادية وعواطفة القومية، وجنده في مشاريعه؛ بل فتح المجال أمام العرب والسريان وغيرهم الذين انضموا بأعداد كبيرة إلى القوات العسكرية الخاضعة لحزب العمال، وأجهزته الأمنية والإدارية المدنية التي شكلها تحت مسمّى «الإدارة الذاتية».
ورغم كل الواجهات «الديمقراطية» التي تشدقت، وتتشدق بها، «قسد»، إلا أن القرار الفعلي يبقى بيد كوادر «ب. ك. ك» المهيمن على قرار سائر المؤسسات بما فيها الوزارات والمؤسسات الإنتاجية المحلية، ومصادر الموارد؛ ويُشار هنا على وجه التحديد إلى شركة النفط ومؤسسة الحبوب، والمعابر بين المناطق الخاضعة للإدارة وإقليم كردستان العراق، والمعابر التي تفصل بين مناطق «الإدارة الذاتية» ومناطق النفوذ الأخرى، بما في ذلك المعابر الخاضعة للسلطة والروس والإيرانيين، والمناطق الخاضعة للنفوذ التركي، وحتى تلك الخاضعة للفصائل المتشددة. كما تقوم الإدارة المعنية بجمع الضرائب من الناس، وتفرض الآتاوات على التجار وأصحاب المحلات الصغيرة وعلى الحرفيين. وهذا كله يؤكد أحد الأمرين، إما أن صالح مسلم والكرد السوريين بصورة عامة ضمن إدارة «ب. ك. ك» هم مجرد واجهات تزيينية تضليلية، وهذا هو الأرجح، أو أن «ب. ك. ك» يمارس تقية تضليلية تتناسب مع مهمته الوظيفية.
وما حصل مؤخراً من اقتتال بين «قسد» وما سُمي بقوات عشائر منطقة دير الزور لا يخرج هو الآخر عن نطاق اللعبة التضليلية التي تعرّض، ويتعرّض لأحابيلها السوريون. فـ «قسد» تلعب على جميع الحبال؛ والعشائر المعنية هي الأخرى ليست متجانسة، ولا توجد مرجعية واضحة، وليس هناك توافق بين أبناء العشيرة الواحدة على المتحدث باسمها أو الشيخ الذي يقودها. بل أن الكثير من هؤلاء الشيوخ قد أتقنوا لعبة توزيع المهام، إذ يكون قسم منهم مع السلطة، وقسم آخر مع «قسد» وثالث مع المعارضة. حتى أن بعضهم ركبوا موجة الامتعاض والرفض الشعبيين المشروعين لتصرفات وهيمنة كوادر قنديل على مفاصل القرار والاقتصاد؛ وتحدثوا باسم الثورة، رغم انهم لم يقطعوا الصلات مع النظام الأسدي، وكانوا في المجلس الصوري المسمى «مجلس الشعب» إلى وقت قريب؛ كما أن بعضهم الآخر، كان وما زال، يتنقل بين الضفتين، ويضع قدماً هنا وقدماً هناك، واستخدم، ويستخدم، لغة عنصرية مقيتة تجاه الكرد، متناسياً أو متجاهلاً بقصد أن «قسد» تمثل فصيلاً سياسياً، ولا تعد ممثلاً قومياً للكرد بأجمعهم. وكل ذلك يؤكد أن الإيرانيين (لهم تواجد كثيف في دير الزور والميادين والبوكمال) وسلطة آل الأسد لهم دور كبير في تأجيج الصراع هنا وهناك، أملاً في إضعاف الجانبين العربي والكردي في المنطقة، ليتمكنا من السيطرة على الجميع ووضع اليد على المنطقة ومواردها.
ويبقى موقف الجانب الأمريكي هو المنتظر، لأنه يظل الطرف الأقوى والأكثر تأثيراً. فهل سيأخذ شكاوى أهالي المنطقة من مختلف المكونات، خاصة شكاوى الكرد والعرب التي تشمل التحكّم، والتجنيد الإجباري وإنهاك التعليم، وخطف الأطفال، والفساد وانتشار المخدرات…الخ، ويضع حداً لسطوة وفرعنة «ب. ك. ك» عبر «قسد» الأمر الذي قد يساهم في إقناع الأتراك بالابتعاد عن الروس والإيرانيين؛ لا سيما أن تركيا نفسها تدرك أن وجود الإيرانيين على حدودها، سواء في منطقة الجزيرة وبعمق يصل إلى دير الزور والبوكمال يمثل خطراً جيوسياسياً تعرف أبعاده ومآلاته جيداً، وذلك استناداً إلى الأرشيف الضخم الذي يوثق طبيعة العلاقات بينها وبين السلالات أو السلطات التي حكمت إيران.
لقد أعلنت «قسد» رسمياً عن انتهاء المعارك في منطقة دير الزور، ووعدت بالإصلاحات، واحترام تطلعات السكان؛ ولكن المشكلة لم ولن تعالج إذا ما استمرت الأوامر القنديلية هي المتحكمة بقرارات «قسد» و«حزب الاتحاد الديمقراطي» كما أن السؤال المحوري ما زال قائماً: لماذا تواجدت قوات «ب. ك. ك» ضمن «قسد» في دير الزور أصلاً؟ وما هي الشرعية التي تستند إليها؟
هل سنشهد تحولاً في هذا المجال؟
ولكن بغض النظر عما سيكون، علينا جميعاً أن نعتبر دائماُ السلم الأهلي المجتمعي السوري، خاصة على صعيد العلاقات الوطنية الودية بين العرب والكرد، خطاً أحمر لا يجوز التساهل بشأنه قولاً وموقفاً مع أي عابث.
*كاتب وأكاديمي سوري
القدس العربي
———————
شرق سوريا… المظالم والهجمات تُولّد شرارة انتفاضة “عشائرية”/ شيلي كيتلسون*
منذ مساء يوم 27 أغسطس/آب الماضي، بدأت التقارير تتوالى عن “استدراج” قادة عرب كبار في فصيل عسكري رئيس شرق سوريا إلى الحسكة، واعتقالهم هناك.
على أثر ذلك، بدأت “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) المدعومة من الولايات المتحدة، ويقودها الأكراد، بشن هجمات، وسط عمليات اعتقال في منطقة ذات غالبية عربية تسيطر عليها تلك القوات.
وقد انطلقت الشرارة في الجزء الشرقي من محافظة دير الزور، حيث تجاهلت السلطات المعنية شكاوى الناس من الاعتقالات التعسفية، وغيرها من الممارسات التمييزية التي كانت تقوم بها تلك القوات على مدى سنوات.
وتلت ذلك دعوات لتعبئة المقاتلين، والشباب عموما في واحدة من أكثر المناطق هشاشة في الشرق الأوسط، حيث لا يزال الآلاف من معتقلي “داعش” يقبعون في السجون طي النسيان.
فأُغلقت الطرق، ووقعت اشتباكات، واستُحضرت الولاءات القبلية، على الرغم من ادعاء شباب المنطقة أن هذه الانتفاضة قام بها المجتمع المحلي، وبالتالي لا ينبغي اعتبارها “قبلية” الطابع.
واستمرت العملية التي أطلقت عليها “قوات سوريا الديمقراطية”: “عملية التعزيز الأمني، ضد خلايا تنظيم الدولة الإسلامية وتجار المخدرات في دير الزور”، حتى 8 سبتمبر/أيلول الجاري، عندما أعلنت “قسد” انتهاء العملية العسكرية الأساسية في دير الزور، والانتقال إلى العمليات الأمنية المحددة. لكنّ “انتهاء العمليات العسكرية” لم ينه التوتّر في المنطقة؛ ففجر الجمعة 15 سبتمبر/ أيلول، شنّ مقاتلون من العشائر العربية، هجوما على نقاط عسكرية تابعة لـ”قسد” في الريف الشرقي لمحافظة دير الزور، في ظل اتهامها بمواصلة حملات الاعتقالات التعسفية في المنطقة. وكان عدد من شيوخ العشائر طالبوا، خلال اجتماع مع ممثلين عن التحالف الدولي وقيادات من “قسد”، في قاعدة حقل العمر النفطي شرق دير الزور، الأربعاء 13 سبتمبر/ أيلول، بوقف الاعتقالات التعسفية من قبل “قسد” وإخراج المعتقلين في سجونها، فضلا عن مطالبات معيشية.
وكانت “قوات سوريا الديمقراطية” اعتقلت العشرات من العرب، فيما قُتل آخرون، من ضمنهم مدنيون وأطفال.
وعلى الرغم من أن “قوات سوريا الديمقراطية” خسرت في الأيام القليلة الأولى من القتال، مساحة شاسعة من الأراضي الواقعة إلى الشرق من دير الزور، إلا أنها استعادت السيطرة على الكثير منها بعد فترة وجيزة.
ومرد ذلك جزئيا، هو حصولها على كميات ضخمة من الأسلحة التي قدمها في المقام الأول التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة من أجل محاربة “داعش”.
وحتى لحظة نشر هذا التقرير، لم يستجب التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة للطلبات التي تقدمت بها “المجلة” للتعليق على هذه الأحداث.
يُمثل الصراع واحدا من أخطر الصراعات الداخلية التي حدثت داخل القوات المدعومة من الولايات المتحدة، والتي تسيطر على مساحة شاسعة من شمال وشرق سوريا ذات الغالبية العربية منذ إنشاء القوات أواخر عام 2015.
ويأتي ذلك بعد أسابيع من التوتر الذي ساد بين القوات العربية والقوات الشريكة التي يقودها الأكراد، وتلازم ذلك مع وقوع اشتباكات أصغر حجما كانت قد جرت في يوليو/تموز الماضي، ومع ذلك، فإن الأزمة الحالية كانت في طور التشكل منذ سنوات.
رئيس “مجلس دير الزور العسكري الفاسد” :
كان أحمد الخبيل، المعروف باسم “أبو خولة”، على الدوام شخصية مثيرة للجدل في شرق سوريا الغني بالنفط، وقد اتُهم مرارا وتكرارا بإساءة استخدام سلطته بطرق شتى. وكان قد عُيّن قائدا لـ”مجلس دير الزور” العسكري عام 2016. ويعمل ذلك المجلس في الجزء الشرقي من محافظة دير الزور، ويرتبط بـ “قوات سوريا الديمقراطية”، لكنه حاول منذ فترة طويلة الاحتفاظ ببعض الاستقلالية عن تلك القوات.
وكانت المحافظة نفسها، من الناحية العملية، مأهولة بالعرب فقط قبل الحرب الجارية في سوريا، والتي بدأت عام 2011.
بشكل عام، تنقسم محافظة دير الزور إلى جانب شرقي يقع تحت سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية”، وجانب غربي عبر نهر الفرات يقع تحت سيطرة الحكومة السورية والقوات التابعة لها، حيث تقع العاصمة الإقليمية التي تحمل الاسم ذاته.
وكان، أبو خولة، وأقرب معاونيه، هم الأشخاص الذين استُدرجوا إلى الفخ يوم 27 أغسطس/آب الماضي في الحسكة، وهي محافظة تقع إلى الشمال من دير الزور، ويقطنها مزيج من العرب والأكراد.
عند الاستفسار عنه خلال إحدى الرحلات الصحافية التي قمتُ بها إلى المنطقة عام 2020، أخبرني سكان المنطقة أن أبو خولة كان مكروها تمام الكره، وأن “مثله مثل جميع ممثلي العرب المزعومين الذين اختارتهم قوات سوريا الديمقراطية”، معين في هذا المنصب لأن “قوات سوريا الديمقراطية” كانت ترى أن بإمكانها فرض سيطرتها عليه على نحو أفضل مما يمكنها فعله مع غيره، وفق ما ادعى بعض سكان المنطقة.
وأضافوا قائلين: “إن بعض الأشخاص الذين عينتهم قوات سوريا الديمقراطية في المناصب كانوا في السابق منتمين إلى تنظيم داعش”. ورأى السكان المحليون أن هؤلاء الرجال قد عُينوا في مواقع السلطة كوسيلة لضمان ولاء الأفراد التابعين لهم؛ إذ إن المجتمع المحلي لن يقبل هؤلاء “الخونة”، وبالتالي سيعتبر هؤلاء الرجال “قوات سوريا الديمقراطية” ضامنة لسلامتهم، وبالتالي فهم سيقدمون لها التقارير بأمانة.
وفي حالة أبو خولة، كان تعيينه أيضا سبيلا للارتقاء من كونه شخصا معروفا ببيعه للدراجات النارية والمركبات المسروقة؛ وعلى حد زعم كثير من الناس كان متورطا في هذه التجارة قبل الحرب، وحتى إعلان نفسه “أميرا” لعشيرة البكير. وهي جزء من قبيلة العكيدات الأوسع، وهي القبيلة المهيمنة في هذا الجزء من منطقة دير الزور.
كما وفرت وسائل الإعلام المرتبطة بـ”قوات سوريا الديمقراطية” الدعم للخبيل لتعزيز “مكانته القبلية” في السنوات السابقة. فعلى سبيل المثال، زعم مقال نشره موقع وكالة “نورث برس” في يوليو/تموز 2019 أن “13 عشيرة عربية، معظمها سورية، اختارت أبو خولة، أميرا عليها كما هو متعارف عليه في العرف العشائري في الآونة الأخيرة، وهو الأمر الذي اعتبره أبو خولة “قوة دافعة له”. وأشار التقرير إلى أن هذا الاختيار سيكون له تأثير كبير على العمليات الأمنية لتلك العشائر ضد خلايا “داعش” النائمة.
وكنت التقيت في رحلة تحقيق صحافية سابقة بأقارب أحد الضباط العسكريين السابقين الذين انشقوا عن قوات النظام للانضمام إلى قوات المعارضة، والذي سافر بعد ذلك إلى إدلب قبل أن يعود إلى منطقته الأصلية بهدف محاربة “داعش”، وقد أخبرني هؤلاء بأنهم يعتقدون أن كلا من “قوات سوريا الديمقراطية” وأبو خولة كانا متورطين في اغتيال ذلك الضابط مطلع عام 2019، بعد أن لعب دورا مهما في القتال ضد “داعش” في هجين الواقعة إلى الجنوب من منطقته الأصلية.
وكان الضابط السابق قد أرسل لي فيما مضى صورا له بالقرب من الجبهة أثناء عملية هجين التي جرت أواخر عام 2018 بعد أن التقيته للمرة الأولى عام 2015، عندما كان يقاتل في صفوف قوات المعارضة في إدلب.
كما أنني أجريت مقابلة مع أبو خولة في ديسمبر/كانون الأول 2020، في منزل أحد أعضاء “مجلس دير الزور” المدني وهو منزل يقع إلى الشرق من دير الزور.
وقد وُجهت اتهامات إلى أبو خولة وأفراد عائلته والمقربين منه بارتكاب انتهاكات جسيمة بالإضافة إلى الفساد، ولكن قال رجل من دير الزور كان قد طَلب التعليق إثر اعتقال أبو خولة في أواخر أغسطس/آب الماضي: “لقد فعلت قوات سوريا الديمقراطية الأمر ذاته أيضا”.
ومن بين الآخرين الذين اعتقلتهم قوات سوريا الديمقراطية في 27 أغسطس/آب الماضي، كان هناك قادة رفيعو المستوى يعملون تحت قيادة أبو خولة، من ضمنهم أفراد من قبيلة الشعيطات. وقد تعرضت القبيلة لمجزرة عام 2014 على يد تنظيم “داعش”. وبحسب التقارير التي وردت فقد تم ذبح ما لا يقل عن 700 شخص، معظمهم من الرجال والصبية، بطريقة وحشية حيث دفنوا في مقابر جماعية في المحافظة، ولم تُستخرج جثثهم بعد، على الرغم من أن الكثيرين يزعمون أن العدد يزيد على 1000 شخص.
القبائل العربية حاربت “داعش”، “وحدها طوال أشهر”:
وأعرب سكان منطقة الشعيطات القبلية، التي تقع بالقرب من حقل نفط كبير، عن معارضتهم لـ”قوات سوريا الديمقراطية” منذ سنوات عدة. ولا تزال احتجاجاتهم مستمرة، بخاصة للرد على “العملية الأمنية” التي تنفذها “قوات سوريا الديمقراطية”.
ومن الجدير بالذكر، أن مذبحة الشعيطات في أغسطس/آب 2014، حظيت باهتمام إعلامي أقل نسبيا مقارنة بالمذبحة الإيزيدية، التي وقعت خلال الشهر نفسه ولكن على الجانب العراقي من الحدود، علما بأن الحدثين المأساويين وقعا على يد “داعش” ضد السكان المحليين. وفي حالة مذبحة الشعيطات، استهدف “داعش” قبيلة عربية تمردت ضد الجماعة الإرهابية الدولية.
وأشارت مقالة كتبها حيان دخان، نُشرت في أكتوبر/تشرين الأول 2021، في مجلة “أبحاث الإبادة الجماعية” إلى أن التنظيم “ارتكب مذبحة واسعة النطاق ضد أفراد قبيلة الشعيطات، وهو الأمر الذي أسفر عن مقتل ما يزيد على ألف مقاتل منزوع السلاح، أو مدنيين عزّل”.
وأضافت المقالة أن “داعش” ارتكب المجزرة “بالرغم من إحرازه انتصارا ساحقا عليهم في معركة استمرت ستة عشر يوما”. وفي السابق، صمد المقاتلون المحليون في منطقة دير الزور الشرقية ضد حصار “داعش” لأشهر عدّة. ولم تشهد الجماعة الإرهابية الدولية زيادة هائلة في الأسلحة والمركبات والتمويل إلا بعد أن استولت على مدينة الموصل العراقية في يونيو/حزيران 2014، الأمر الذي دفع بالجماعات المسلحة المحلية المنهكة والمحاصرة إلى الموافقة على المغادرة إلى المناطق الأخرى التي تسيطر عليها المعارضة في البلاد مقابل موافقة “داعش” على ترك المدنيين وشأنهم، وعدم دخول المناطق المأهولة بالسكان، كما أخبرني لاحقا القادة والمقاتلون الذين اشتركوا في المفاوضات.
ويقول السكان المحليون، إن تنظيم “داعش” لم يحترم هذا الاتفاق، وبالتالي انتفض أفراد القبيلة ضدهم وقُتلوا بشكل جماعي. وخلال رحلات متعددة قمت بها إلى منطقة الشعيطات القبلية بين عامي 2019 و2020، كان أفراد القبيلة غالبا ما يشيرون لي على الأماكن التي وُضعت فيها رؤوس أقاربهم المقطوعة كتحذير لهم بعدم عصيان حكام التنظيم الإرهابي. وقد غادر كثيرون إلى تركيا، أو مناطق أخرى من البلاد، في حين لا يزال أولئك الذين بقوا يعايشون ذكرى المجزرة.
مقابلة مع أبو ليث خشام القائد الجديد لـ”مجلس دير الزور” :
تحدث أبو ليث خشام، الذي عُين قائدا لـ”مجلس دير الزور” العسكري بعد اعتقال أبو خولة، إلى “المجلة” في مكالمة فيديو أجريتها معه يوم 5 سبتمبر/أيلول الجاري، وطرحتُ عليه أسئلة متابعة لاحقة في اليوم التالي.
وقال أبو ليث إنه كان في “منطقة آمنة” في دير الزور، لكنه كان يشعر بالقلق على سلامته. وأضاف قائلا: “داهمت قوات سوريا الديمقراطية منزلي، وكانت زوجتي وطفلتي البالغة من العمر ثمانية أشهر في المنزل”. وأشار إلى أن تلك القوات كسرت باب منزله بهدف الدخول إليه.
وبينما كنت أتحدث معه، تلقى أخبارا مفادها أن “قناصا من قوات سوريا الديمقراطية” استهدف ابن أخيه المراهق على ما يبدو. وأرسل صورة إلى “المجلة”؛ لساق الصبي الصغير وهي تنزف بغزارة.
وذكر أبو ليث أنه انشق عن القوات الجوية السورية عام 2012، وخدم بعد ذلك في “الجيش السوري الحر الذي يقاتل النظام والميليشيات الإيرانية”، وأنه أصيب مرات عدة أثناء قتال “داعش”.
وأضاف أن “التمرد ضد قوات سوريا الديمقراطية لم يكن سببه أبو خولة”؛ بل لأن “قادة الجبل”- في إشارة إلى جبال قنديل في العراق، والتي كانت بمنزلة ساحة تدريب ومخبأ لحزب العمال الكردستاني طوال عقود من الزمن– “لم يسمحوا لأبناء دير الزور الأصليين بلعب أي دور في القيادة، أو الإدارة، أو اتخاذ القرارات التي هي من اختصاصهم”.
وأكد أبو ليث لـ”المجلة” أنه تلقى أنباء عن “اعتقال أطباء وممرضين في البصيرة”، وهي بلدة في دير الزور كانت من بين المدن التي انتفضت ضد “قوات سوريا الديمقراطية” لكنها استعادتها لاحقا، وأن هؤلاء نُقلوا إلى “مكان مجهول”.
وأشار بيان ظهر على الإنترنت منسوب إلى شيخ العكيدات، إبراهيم الهفل- الذي كان حتى 6 سبتمبر/أيلول الجاري لا يزال صامدا في ديوانه العشائري في بلدة ذيبان، وتحيط به “قوات سوريا الديمقراطية” التي يزعم بعض السكان المحليين أنها تحاول دفعه لعبور الفرات إلى الأراضي التي تسيطر عليها الحكومة السورية– إلى أن أحد مطالب أولئك الذين ينتفضون ضد “قوات سوريا الديمقراطية” هو أن يكون لديهم اتصال مباشر مع التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة.
أخبرني السكان المحليون في دير الزور على مر السنين، أن هذا كان أحد مطالبهم الرئيسة منذ فترة طويلة، كما ذكرت ابتداء من عام 2019 من أرض الواقع في دير الزور. وغالبا، ما يطلق السكان المحليون في هذه المنطقة على “قوات سوريا الديمقراطية”– أو على الأقل الكوادر والقادة فيها– اسم “بي كي كي” (حزب العمال الكردستاني)، ويعتقدون أنه يتم نقل معلومات كاذبة عنهم إلى التحالف الدولي من خلال هؤلاء القادة والمدنيين.
ويشير سكان هذه المنطقة في كثير من الأحيان إلى “قوات سوريا الديمقراطية”، ولا سيما قيادتها، أو كوادرها، ويعتبرونها مرادفا لـ”حزب العمال الكردستاني”. ويرون أن هؤلاء القادة ومن يتبعونهم مسؤولون عن نقل معلومات كاذبة عنهم إلى التحالف الدولي.
ومن الضروري أن نلاحظ، أن “حزب العمال الكردستاني” (PKK) مصنف رسميا كمنظمة إرهابية من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وتركيا، حيث انخرطت تركيا في صراع طويل مع هذه المجموعة امتد لعقود. والحقيقة، أن كثيرا من الشخصيات الرئيسة في الإدارة التي يقودها الأكراد أمضوا سنوات، أو حتى عقودا، في الصراع قبل الانتقال إلى شمال شرقي سوريا، بما في ذلك الرئيس الحالي لـ”قوات سوريا الديمقراطية”، مظلوم عبدي.
ويُزعم أن كثيرا من الهجمات الإرهابية التي وقعت في تركيا في السنوات الأخيرة خُططت ونُظمت في شمال العراق وسوريا، حيث تحتفظ المجموعة بمعسكرات تدريب ومستودعات أسلحة ومخابئ، وفق ما أفادني به المسؤولون في السنوات السابقة.
وتنفي “قوات سوريا الديمقراطية” حقيقة كونها جزءا من “حزب العمال الكردستاني”، لكنها تعترف بحقيقة أنها تشاطره الآيديولوجيا نفسها. وتضمن بيان 5 سبتمبر/أيلول الجاري الذي يحدد المطالب، والذي وقعه الشيخ إبراهيم الهفل، دعوات إلى “وقف فوري لإطلاق النار”، وكذلك “التفاوض المباشر بين زعماء القبائل، والممثلين الأميركيين، وقيام ضباط محليين من المنطقة بإعادة هيكلة مجلس دير الزور العسكري”.
ويبدو أن، الطلب الأخير يشير ضمنا إلى أن الزعيم القبلي يرغب في تولي الرجال ذوي الخبرة العسكرية المسؤولية عن الأمن في المنطقة بدلا من أولئك الذين لا يتمتعون بدعم محلي وليس لديهم خلفية عسكرية، على شاكلة أبو خولة.
نظرة عن أهالي دير الزور :
في اليوم التالي لاعتقال أبو خولة، قال لي رجل من دير الزور يعيش الآن في الخارج إنه كان “سعيدا” بشأن ذلك؛ لأنهم “ربما سيجلبون الآن أشخاصا طيبين” لتولي منصب “رئيس مجلس دير الزور” العسكري. ولكنه سرعان ما غير رأيه في أقل من 48 ساعة، وقال إنه “سيقف إلى جانب” عائلته وقبيلته، وأنه يشعر بقلق بالغ إزاء ما سيحدث الآن للعرب المحليين في المنطقة، مشددا على أن “قوات سوريا الديمقراطية تخدع المجتمع الدولي”.
وقد أصبح قادة “قوات سوريا الديمقراطية”، ووسائل الإعلام المقربة منهم، معروفين على مر السنين بممارسة الدعاية والحد من وصول وسائل الإعلام إلى المناطق الخاضعة لسيطرتهم، وهو الأمر الذي يجعل من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، في كثير من الأحيان، تقديم تقارير مستقلة من تلك المناطق.
تجدر الإشارة إلى أن هناك امرأة معينة تم تقديمها باستمرار من قبل “قوات سوريا الديمقراطية” على أنها “قائدة في مجلس دير الزور العسكري”، بل إنها ادعت أنها “الرئيسة المشاركة” لها، في مقابلة نُشرت على الموقع الإلكتروني لمركز أبحاث، مقره واشنطن العاصمة، بينما هي في الحقيقة ليست من القادة ولا من المجلس. وقد أكد هذه المعلومة أبو خولة، وأبو الليث، وغيرهما، ممن سئلوا عن هذا الأمر على مر السنين.
وأكد أبو ليث لـ”المجلة” يوم 6 سبتمبر/أيلول الجاري، أن تلك المرأة “جزء من وحدات حماية الشعب”، في إشارة إلى أحد مكونات “قوات سوريا الديمقراطية” التي يقودها الأكراد، والتي ترتبط على نحو وثيق بـ”حزب العمال الكردستاني”.
التحدث مع إيران؟
وقبل أيام فقط من حملة الاعتقالات و”العملية الأمنية”، نقلت وكالة الأنباء الإيرانية شبه الرسمية “مهر” في 17 أغسطس/آب الماضي، عن مدير الإعلام في “قوات سوريا الديمقراطية”، فرهاد الشامي، قوله إن “قوات سوريا الديمقراطية” لن تشارك في أي “عملية عسكرية ضد إيران في سوريا”.
ويحتفظ “حزب العمال الكردستاني” بعلاقات مع إيران- كما أخبرتني مصادر عسكرية وأمنية ومصادر أخرى متعددة في جميع أنحاء الشرق الأوسط طوال عقد من التقارير التي أرسلتها من المنطقة– في الوقت الذي تتعقب فيه الحكومة السورية مقاتلي المعارضة السورية؛ إذ اعتُقل أو قُتل كثير من مقاتلي المعارضة السابقين الذين خضعوا لمخططات مصالحة في أجزاء أخرى من البلاد في السنوات الأخيرة في ظروف غامضة. كما اعتُقل بعض أقاربهم على مر السنين في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة بمجرد تواصلهم معهم.
وخلافا لذلك، كان كل من “قوات سوريا الديمقراطية”، و”حزب العمال الكردستاني” يتمتع بعلاقات وثيقة نسبيا مع الحكومة السورية في دمشق، وقد تمتعا بدعم ضمني وصريح منها في بعض الأحيان منذ بداية انتفاضة عام 2011، والحرب المستمرة التي تلتها.
وبالتالي، فإن الكلام الذي يتبناه بعض ممثلي “قوات سوريا الديمقراطية”، ومفاده أن المشاركين في الانتفاضة يتعاونون مع إيران و/أو مع قوات الحكومة السورية- أو أن هذا هو السبب الكامن وراء اعتقال أبو خولة- يبدو أمرا غير مرجح.
لكن أبو ليث زعم، أنه إذا ثبت أن أبو خولة يتواصل مع “النظام والإيرانيين”، فإن “مجلس دير الزور” العسكري، وأهالي المحافظة سيكونون أول من يقف ضده “لأنهم أعداؤنا الحقيقيون”.
مخاوف بشأن المستقبل :
يخشى كثيرون الآن من أن الثقة الهشّة التي بنيت بين الجماعات في هذا الجزء من البلاد قد تحطمت، الأمر الذي سيؤدي إلى تداعيات سلبية. لقد وثّق المجتمع الدولي كثيرا من الانتهاكات التي ارتكبتها “قوات سوريا الديمقراطية”، لكن لا يبدو أن التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة قادر على تصور، أو في وضع يسمح له بتنفيذ، أو ممارسة الضغط اللازم من أجل القيام بأي تغييرات جوهرية فيها.
ووفقا للموقع الإلكتروني لـ”وكالة اللجوء” التابعة للاتحاد الأوروبي، في آخر تحديث له، جرى في فبراير/شباط 2023، “خلال الفترة التي جمعت فيها التقارير، فقد شاركت “قوات سوريا الديمقراطية في عمليات قتل تجاوزت القضاء، كما شاركت في اعتقالات تعسفية، واحتجازات غير قانونية للمدنيين”. وتفيد التقارير باستمرار التعذيب الذي أدى إلى الوفاة في أماكن الاحتجاز التابعة لهذه القوات.
وأضافت “وكالة اللجوء” التابعة للاتحاد الأوروبي أن “التجنيد القسري للأطفال قد استمر حتى أواخر عام 2021، وأوائل عام 2022، ومن ضمنها التجنيد من خلال عمليات الاختطاف”.
وفي أثناء ذلك، أشار “مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية” في تقرير عن الوضع صدر في 4 سبتمبر/أيلول الجاري، إلى مقتل العشرات في القتال الذي اندلع أواخر أغسطس/آب الماضي، وإلى نزوح المدنيين في المناطق المتضررة. ومع ذلك، لم يتمكن المكتب المذكور من ذكر أي أرقام لأنه “يجري التثبت من الأرقام”.
———————–
“فورن بوليسي”: قمع قسد لانتفاضة دير الزور لا يعني النهاية
رغم انتهاء المواجهات المسلحة في دير الزور بين “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) ومقاتلي العشائر العربية تهدد الهزّة التي حصلت بمزيد من “الانتقام”، وهو ما سينعكس على استراتيجية أمريكا في المنطقة، حسب مجلة “فورن بوليسي”.
وسلطت المجلة الأمريكية الضوء على المواجهات الأخيرة، وجاء في تقرير لها، اليوم السبت، أنه “يجب على واشنطن أن تكرس تركيزاً كافياً لسورية والمنطقة الأوسع لضمان عدم ظهور انقسامات مماثلة بين قسد والفصائل العربية الأخرى المتحالفة معها”.
وترى المجلة الأمريكية أن “الفشل في القيام بذلك سيخلق مساحة للخصوم، لتقويض مكاسب واشنطن، التي حققتها بشق الأنفس”.
ويهدد “اندلاع العنف العربي الكردي بإخلال التوازن الدقيق الذي أبقى تنظيم الدولة الإسلامية وخصوم الولايات المتحدة الآخرين في وضع حرج”.
ومنذ عام 2017، تمكنت واشنطن من منع عودة تنظيم “الدولة” وكبح التوسع الإيراني والروسي، مع الحفاظ على بصمة عسكرية محدودة.
وقد فعلت ذلك من خلال العمل مع “قوات سوريا الديمقراطية”، وهو تحالف غير مستقر من الشركاء المحفوف بالخصومات الداخلية، والآن بدأت الشقوق الأولى فيه بالظهور، وفق “فورن بوليسي”.
ماذا حصل؟
في وقت سابق من هذا الشهر، نجت “قسد” التي يهيمن عليها الأكراد بصعوبة من أكبر ضربة لحكمها منذ تشكيلها في عام 2015.
وفي الفترة من 27 أغسطس إلى 6 سبتمبر، طرد الآلاف من رجال القبائل العربية “قسد” من عشرات المدن، وبلدات في محافظة دير الزور شرقي سورية، في اشتباكات خلفت ما بين 150 إلى أكثر من 350 قتيلاً.
ويقسم نهر الفرات دير الزور إلى نصفين شمالي وجنوبي، حيث “قسد” ونظام بشار الأسد على المناطق الأولى والأخيرة، على التوالي.
النصف الشمالي هو الجزء الوحيد من سورية الذي تسيطر عليه “قسد”، والذي لا يوجد به سكان أكراد أصليون، مما يجعل حكم المجموعة أكثر صعوبة من أي منطقة أخرى في البلاد.
ويعد شمال دير الزور أيضاً موطناً لأكبر عدد من حقول النفط والغاز السورية، مما يضعه في مرمى نظام الأسد وداعميه الإيرانيين والروس، الذين سعوا منذ فترة طويلة إلى استعادة المنطقة واحتياطياتها القيمة من الطاقة.
كما أن تنظيم “الدولة” أكثر نشاطاً في دير الزور من أي منطقة أخرى في البلاد، حيث يبتز مبالغ كبيرة من تجار النفط، ويستخدمها التنظيم لتمويل نفسه وينفذ هجمات شبه أسبوعية على جانبي نهر الفرات.
كما أن موقعها على طول الحدود السورية مع العراق يجعل من دير الزور مهمة لكل من إيران وتنظيم “الدولة”، اللذين يستخدمان المنطقة لتهريب الأسلحة والأفراد عبر المنطقة.
وفي خضم هذه المنافسة الشديدة بين القوى الخارجية، شعرت القبائل المحلية في شمال دير الزور منذ فترة طويلة بالتجاهل، واتهمت “قسد” بتحويل الإيرادات من حقول النفط والغاز في المنطقة إلى المناطق التي يقطنها عدد أكبر من السكان الأكراد.
وكان التمرد القبلي في وقت سابق من هذا الشهر محاولة من قبل الزعيم المحلي إبراهيم الهفل وآخرين للسيطرة على المنطقة وإجبار الولايات المتحدة، على الاعتراف بإنشاء دويلة عربية تتمتع بالحكم الذاتي ومستقلة في شمال دير الزور.
ومع ذلك، وبصرف النظر عن الدعوات العامة لضبط النفس، ظل المسؤولون العسكريون والدبلوماسيون الأمريكيون صامتين إلى حد كبير خلال القتال، خوفاً من الانحياز علناً إلى أي طرف في صراع بين مجموعتين تحتاجهما واشنطن بشدة للعمل معاً لمنع عودة تنظيم “الدولة”.
وكان العديد ممن شاركوا في الأيام الأولى للانتفاضة أعضاء في “مجلس دير الزور العسكريط، وهو الذراع المحلي لـ”قسد”، الذي يدير المنطقة نيابة عنها ويخضع لقيادة المجموعة التي يهيمن عليها الأكراد.
ومنذ عام 2017، قاتلت “قسد” إلى جانب “المجلس” تنظيم “الدولة”، ومع ذلك، فإن الأحداث العنيفة التي وقعت في وقت سابق من هذا الشهر تهدد بإفساد هذه الشراكة وتخريب علاقات “قوات سوريا الديمقراطية” مع المجتمعات المحلية.
“ليست النهاية”
وعلى الرغم من أن “قسد” يبدو أنها قمعت التمرد، إلا أنها بفعلتها هذه قتلت أو سجنت أو أبعدت شريحة كبيرة من القيادة العسكرية والقبلية في المنطقة، وفي ما توضح المجلة الأمريكية.
وأعلن القائد العام لـ”قسد”، مظلوم عبدي منذ ذلك الحين عن عفو عام عن أولئك الذين شاركوا في الانتفاضة، باستثناء أولئك الذين تتهمهم المجموعة بأن لهم علاقات مع “قوى خارجية”.
ومنذ بدء القتال، زعمت “قسد” أن قادة التمرد العشائري يتعاونون مع نظام الأسد استعداداً لتسهيل سيطرة الأخير على شمال دير الزور.
وتشير مصادر موثوقة إلى أن رئيس مجلس دير الزور، أحمد الخبيل ربما كان في الواقع يحمل مثل هذه النوايا.
ومع ذلك، استخدمت “قسد” منذ ذلك الحين هذه التهمة للإشارة إلى معظم أولئك الذين شاركوا في القتال، وكذريعة لمزيد من حملات القمع.
ومنذ دعوة عبدي، اعتقلت “قوات سوريا الديمقراطية” المزيد من زعماء القبائل الذين يُعتقد أنهم شاركوا في القتال، بدلاً من إطلاق سراحهم.
وبحسب ما ورد التقى مسؤولون أمريكيون في الأيام الأخيرة مع أقارب الهفل الذين يعيشون في قطر في محاولة للمصالحة بين الجانبين.
لكن حملة الاعتقالات الكبيرة التي تشنها “قسد”، إلى جانب الدماء الهائلة التي أراقت خلال الانتفاضة التي استمرت 11 يوماً، تعني أن المنطقة لن تعود على الأرجح أبداً إلى الوضع الراهن الذي تحقق بعد هزيمة تنظيم “الدولة”، في أواخر عام 2017.
ونتيجة لذلك، ستكون “قسد” مقيدة بشكل كبير في قدرتها على منع عودة خلايا التنظيم، ومنع نظام الأسد وروسيا وإيران من المطالبة بالاحتياطيات النفطية القيمة في دير الزور.
“موقف صعب”
وتضع هذه الأحداث الولايات المتحدة في موقف صعب، حسب ما تشير “فورن بولسي”.
ومنذ تدخلها في سورية في أواخر عام 2014، بذلت الولايات المتحدة جهداً أكبر لحماية شمال سورية من هجمات القوى الخارجية أكثر من أي منطقة أخرى تحت سيطرة “قسد”.
في 7 فبراير 2018، قتلت الغارات الجوية الأمريكية المئات من مرتزقة فاغنر الروس الذين عبروا إلى المنطقة للسيطرة على حقل غاز كونيكو، الذي يستضيف الآن واحدة من أكبر القواعد الأمريكية في البلاد.
وفي أكتوبر/تشرين الأول 2019، أطلقت تركيا حملة كبيرة لطرد “قسد” من منطقة تبلغ مساحتها 1200 كيلومتر مربع (463 ميلاً مربعاً) على طول حدودها مع سورية.
وكشرط لتحقيق وقف إطلاق النار بين الجانبين، وافقت الولايات المتحدة على إجلاء قواتها من مواقع الخطوط الأمامية في محافظات حلب والرقة وشمال غرب الحسكة، والسماح للجنود الروس باستبدال القوات الأمريكية المنتهية ولايتها.
ومع ذلك، رفضت واشنطن التخلي عن سيطرتها على احتياطيات النفط والغاز في دير الزور وجنوب شرق الحسكة، لأن القيام بذلك من شأنه أن يخاطر بتشجيع أطراف أخرى في الصراع السوري على السيطرة على المنطقة.
وبالنسبة لتنظيم “الدولة” ونظام الأسد على وجه الخصوص، فإن السيطرة على هذه الحقول من شأنها أن تزيد بشكل كبير من وصول الطرفين إلى العملات الأجنبية، مما يمكنهم من التوسع وتهديد توازن القوى الإقليمي، وفق المجلة الأمريكية.
وتشير “فورن بوليسي” إلى أن الانتفاضة العشائرية ورغم أنها قد هُزمت على ما يبدو، إلا أن تأثيرها سيكون كبيراً.
ومن المرجح أن تدفع التجربة المشتركة في القتال ضد عدو مشترك العائلات والعشائر والقبائل في دير الزور التي لديها تاريخ سابق من النزاعات إلى وضع خلافاتها جانباً للتركيز على الهدف المشترك المتمثل في “الانتقام”.
وما سبق يوفر وقوداً كافياً لتمرد طويل الأمد.
ومن المرجح أن يتم التودد إلى الخبيل والهفل وأقاربهما وأتباعهما الذين لا يمكن إعادة دمجهم في النظام القائم من قبل عدد لا يحصى من الجهات الفاعلة الأخرى التي سعت بالفعل منذ فترة طويلة إلى زعزعة استقرار هذه المنطقة الحيوية.
—————————–
==================
تحديث 14 أيلول 2023
——————————
قسد الخاسرة بسبب انتصار حلّها العسكري/ قاسم البصري
ليس قائد مجلس دير الزور العسكري أحمد الخبيل، المعروف باسم أبو خولة، شخصيةً ذات سمعةٍ طيبة في أرياف دير الزور التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية بدعمٍ من التحالف الدولي. فقد دأب الرجل طوال سنوات نفوذه على التجبّر وإهانة الوجاهات الاجتماعية والعشائرية في المنطقة والتهجّم عليها، وعلى النشاط في عمليات التهريب والتسلّط على أرزاق الناس، وصولاً إلى خطف عناصره لتجار من المنطقة وسلبهم أموالهم، علاوةً على اتهاماتٍ بالتحرش والاغتصاب طالته شخصياً. وبالفعل، طالب سكان المناطق التي ينشط فيها الخبيل بعزله مراراً، ولكن من دون استجابةٍ من جانب قوات سوريا الديمقراطية التي يتبع لها رسمياً. وعلى العكس من ذلك، كانت قيادات قسد تصمّ أذنيها عن الشكاوى من سلوكه وتصرفاته، كما لو كانت راضيةً بها طالما أنها تؤمّن من خلاله السيطرة على ريف دير الزور. أما قرار عزله مؤخراً، فدافعُه هو كشفُ تواصلاتٍ له، قالت قسد تارةً إنها مع الجانب الإيراني ونظام الأسد ونواف البشير الذي يتزعم ميليشيا الباقر على الضفة المقابلة من نهر الفرات، وتارةً مع الجيش الوطني وتركيا، وقد لا يكون كلا الأمرين مستبعداً. والحال أن قرار العزل جاء على خلفية سعي الخبيل إلى قرارٍ مستقلٍّ عن قسد، بحيث تكون له اليد الطولى في مناطق دير الزور شرقيّ نهر الفرات. لذا لم تعزل قسد الخبيل استجابةً لمطالب الناس أو نتيجة سلوكه القمعي تجاه أهالي المنطقة، كما ادّعت جزئياً، وإنما فقط لأنه صار يُشكّل خطراً على نفوذها ومصالحها.
ينتمي أحمد الخبيل إلى عشيرة البكيّر، وهي إحدى أكبر عشائر قبيلة العگيدات الأكثر عدداً في أرياف دير الزور التي تحكمها قسد، وينتمي الشطر الأكبر من مقاتلي مجلس دير الزور العسكري الذي كان يتزعمه الخبيل إلى هذه العشيرة، التي بالفعل يقاتل أفرادٌ منها ضد قسد حالياً انتصاراً للخبيل. إلا أن جميع البيانات والتصريحات والمقاطع المصورة القادمة من عشائر المناطق المتمردة حالياً على قسد تنفي كونها معنيةً بأحمد الخبيل ومصيره، وترى قرار عزله شأناً قسدياً داخلياً لا تقف عنده كثيراً، بل هو أقرب إلى مصلحتها باعتبار أن تركة الرجل جزءٌ من مطالبات هذه العشائر لقسد، بالإضافة إلى جملة مظالم تتعلق بالعدالة والأمن وتوزيع الثروة والتمثيل المتكافئ ومطالب الحكم المحلي وتأمين البنى التحتية.
لقد استغلت العشائر قضية الخبيل لتعلن عن تمردها على قسد ولم تكن تنتصر له على الإطلاق، إلا أن قسد في مواجهة هذا التمرد، وعوضاً عن البحث في الأسباب الكامنة وراء التوتر الحقيقي وتمرّد العشائر، راحت تتهمهم بالانتماء لداعش أو التبعية للنظام أو العمل بموجب أجنداتٍ إيرانية تريد العبث بالمنطقة. وهذا المنطق القسدي لن يحل المشكلة أو يخفّف من حدّة الغضب العربي تجاه القيادات الكردية الُممسكة بالسلطة في الجزيرة السورية، بل سيؤججهما. لا تستوي هذه التهم لأنّ المتمردين العشائريين ليسوا هم الذين يروحون ويغدون إلى قاعدة حميميم الروسية، وليسوا هم الذين يستضيفون مربعاتٍ أمنية للنظام السوري في مناطق سيطرتهم، ولا هم الذين سمحوا لحزب الله اللبناني وللحرس الثوري الإيراني بافتتاح مقراتٍ في عقر دارهم، ولا هم شركاء ميليشيا القاطرجي في تجارة النفط. بل على العكس، هم أكثر حماساً من القيادات الكردية لقتال النظام والميليشيات الإيرانية وطردها -على الأقل من القرى السبع التي تسيطر عليها شرقي النهر-. ولا تغيب شكاوى الأهالي من عدم اهتمام قسد الكافي بحمايتهم من غزوات تنظيم الدولة على بلداتهم وقراهم، وفرض عناصره ضريبة «الزكاة» على ملّاك الأراضي وأصحاب الأموال ضمن منطقةٍ يُفترض أنها تحت حماية ونفوذ قسد المباشر.
لقد انتصر حل قسد العسكري في دير الزور، وكان واضحاً منذ بداية التمرد أنه لا يمكن للقوات العشائرية التي تقاتل بمبدأ الفزعات ودون تنظيم عسكري وبأسلحة خفيفة ومتوسطة أن تنتصر، ولكن قسد خرجت منهزمةً على أية حال طالما أنها لجأت فوراً إلى تخوين مَن يفترض أنهم شركاؤها في «إخوّة الشعوب» واستعملت العنف ضدهم، لأن هذه العشائر لن تفوّت أي فرصة مستقبلية للثأر من قسد، وهي تعيش في جغرافيا مترامية الأطراف تتيح إقلاق الوجود القسدي واستهدافه في كل وقت. كذلك فإن هذه التصرفات تتيح مساحةً لتنامي شوفينية قومية ضد الكرد وبيئةً مؤاتية لعودة التنظيمات الجهادية للمنطقة، خصوصاً أن قسد كانت بهذا القدر من العنف والصلف في أول تحدٍّ داخلي جدي يواجه مشروعها «الديمقراطي».
طوال الأعوام الماضية، كانت قوات سوريا الديمقراطية وذراعها السياسي المتمثل بمجلس سوريا الديمقراطية يجهدان في عقد ندوات ومؤتمرات حوارية في دول أوروبية عديدة، ويسعيان للتلاقي مع أحزاب وتيارات يسارية سورية وأجنبية، وهذا أمرٌ جيد، على أنهم أبقوا باب الحوار شبه موصد أمام سكان المناطق التي تسيطر عليها قواتهم، سواءً كانوا كرداً أم عرباً. الأَوْلى بالحوار هم الناس الذين تحكمهم قسد فعلياً، إذ من غير المفيد تجاهل وجودهم عبر إجراءات شكلية مثل وضع شخصيات غير ذات وزن على رأس ذراعها السياسية بوصفها ممثلةً للعرب، سيما أنها لا تتيح لهذه الشخصيات على أرض الواقع هامشاً للتحرك يتجاوز أن يكون الواحد منهم ناشطاً فيسبوكياً، هو نفسه يحتاج إلى «بطاقة وافد» حتى يعيش في الدوائر التي تدير منها قسد مناطق شرق وشمال شرقي سوريا التي تسيطر عليها.
خلال المعارك الجارية حالياً، وفي الظهور الإعلامي الأول لمظلوم عبدي، قائد قوات سوريا الديمقراطية، لم يستخدم أي خطابٍ يطمئن سكان المناطق المتمردة بأن هناك مطالب محقّة ستسعى قواته إلى تلبيها، بل استغل هذا الظهور لكيل الاتهامات وتخوين المتمردين من سكان المنطقة، وتوعد شيخ قبيلة العگيدات بالمحاسبة. هذا منطقٌ ضد الحقيقة وضد إرادة الاستقرار، فهؤلاء المتمردون ليسوا دواعش ولا خونة كما تريد قيادة قوات سوريا الديمقراطية تصويرهم، ولكنهم أناس لهم مطالب محقّة لا بد من سماعها والعمل على تنفيذها. إن الحرص الواضح لقسد على إظهار أن لا مشاكل عربية كردية في الاقتتال الحاصل حالياً هي محاولة للتعمية على الحقيقة وكنس الغبار تحت الطاولة، إذ تسيطر قوات سوريا الديمقراطية منذ سنوات على مدن وقرى وبلداتٍ واسعة الامتداد في الرقة وريف حلب ودير الزور لا وجود كردياً فيها، ومن غير الممكن أن تضمن استقرار هذه المناطق دون القبول بتمثيل مُختلَف سكان هذه المناطق في صفوفها وبشكلٍ حقيقي يتجاوز ادعاءات التمثيل الحالية ويحد من نفوذ «الكوادر» المتسلطة والأجنبية عن المنطقة، وبما يتيح لهم المساهمة في إدارة مناطقهم بموجب «الإدارة الذاتية» التي تتبنّاها قسد في حديثها عن نفسها. فالواقع حالياً هو أن هذه القوات مُسيطرٌ عليها ويتسلط على قرارها أكراد معظمهم من خارج حدود سوريا، ومن شأن أية إدارة ذاتية تحترم نفسها أن تُتيح أكبر قدرٍ من الحكم المحلي اللا-مركزي وبمشاركة شخصياتٍ وقوى سياسية ومدنية من سكان المنطقة المحليين.
تفيد قراءة الأحداث الأخيرة أن لقوات سوريا الديمقراطية منهجاً في التعامل مع سكان هذه المناطق يبدو أنها لا تريد تغييره، وهو دعشنة أي معترض على سياستها. هذا يضيف إلى ماضي العلاقة بين الأهالي وقسد طبقةً أخرى من المظلومية، فلا يغيب عن ذاكرة سكان هذه المناطق الطريقة عديمة الإنسانية التي تعاملت بها قسد في مخيماتٍ أشرفت عليها لاستقبال العوائل الفارّة إبان المعارك مع تنظيم الدولة. كما يشعر الأهالي العرب اليوم بغياب العدالة عند مقارنة حجم الأموال التي تنفقها الإدارة الذاتية في الحسكة والقامشلي مع أحوال مناطقهم التي تغيب عنها أبرز مقومات الحياة وحيث يسري الفساد في جسد مؤسسات قسد الرسمية ومجالسها، رغم أن الثروة تتركّز فعلياً في هذه المناطق من دير الزور أكثر من غيرها بكثير.
قبل الأزمة الأخيرة وعلى مدى سنوات، ومن خلال قراءة عناوين المُعرّفات الرسمية لقوات سوريا الديمقراطية والإدارات الذاتية، نرى كيف أن الأخيرة كانت حريصةً على التعامل مع سكان هذه المنطقة على أنهم مجرد عشائر، دون أن تفسح المجال لأي نفوذٍ مدني وأهلي وحزبي يتجاوز السلطة العشائرية التي حاولت قسد العبث بها من خلال تقديم أشخاص وتأخير آخرين بمعزل عن إرادة عشائرهم. لا تريد قسد في هذه المناطق مجتمعاً مدنياً ومؤسساتٍ لا يمكن السيطرة عليها من خلال بضع شخصياتٍ عشائرية تدين لها بالولاء، كما لو أن المنطقة بالفعل مجرد عشائر، ولا يمكن لها أن تكون سوى ذلك ولا أن تنتج أجساماً سياسية ومدنية تتجاوز القبيلة وتراتبية العلاقة فيها.
تحكم قوات سوريا الديمقراطية في دير الزور أغنى مناطق سوريا بالثروات وأكثرها افتقاراً للبنى التحتية ومقومات الحياة، ومن دون العدالة والأمن وعدالة التمثيل وتقديم الخدمات ومراعاة أولويات التنمية الحقيقية، لا يمكن لهذه المنطقة أن تعرف الاستقرار. إن أفضل ما يمكن أن يحدث لهذه المنطقة في المدى المنظور هو الحفاظ على حضور قوات سوريا الديمقراطية وعلى حماية التحالف الدولي، ولكن مع عدالة في التمثيل وتوزيع الثروة بشكلٍ يسمح للمنطقة بالاستقرار. وبدون ذلك، فإن السيناريو الممكن هو مزيد من التدخلات الإيرانية والأسدية وتغلغل المليشيات التابعة لهم عبر استغلال مظلومياتٍ مُحقة لسكان المنطقة وتغذيتها، أو ربما أن يعود تنظيم الدولة الذي ليس بعيداً عن هذه المنطقة على أية حال.
موقع الجمهورية
——————————
انتفاضة العشائر في شرق سورية
مركز حرمون للدراسات المعاصرة
مقدمة
شهدت الأيام الأخيرة توترًا في شرق سورية، أعقبه حدوث مواجهات مسلّحة بين قوات (قسد)[1]، وهي سلطة الأمر الواقع في المنطقة، وبين بعض عشائر دير الزور، وقد بدأت المواجهات بتصعيد من جانب (قسد) باعتقالها قائد المجلس العسكري التابع لها، أحمد الخبيل[2]، في كمين نصبته له في الحسكة ولبعض قيادات مجلس دير الزور العسكري. ويؤكد بعض الناشطين من أبناء المنطقة أن بعض قيادات المجلس العسكري الذين اعتقلتهم (قسد) مع الخبيل كانوا متعاونين معها في نصب الكمين للخبيل، ويؤكد هذا أن اثنين من هؤلاء قد أطلقت (قسد) سراحهم، كما يؤكده ظهور فيديو لأحدهم بثّته (قسد)، وهو يقاتل في صفوفها[3].
كان اعتقال الخبيل الشرارة التي فجّرت غضب العشائر المتراكم في شرق الفرات، وأدّت إلى بعض خروج عشائر دير الزور عن صمتها الطويل، وبدء تمردها على سلطة (قسد)، وقد أكّد شيوخ القبائل الكبرى في المنطقة أن انتفاضتهم لا صلة لها باعتقال أحمد الخبيل، وأنها تهدف إلى الوصول إلى الحقوق التي سلبتها (قسد)، وأهمها حقهم في حكم مناطقهم، واستثمار ثرواتها بما يعود على النفع على مناطقهم.
تعقيدات المشهد شرق الفرات
تمثل منطقة شرق الفرات جزءًا من تعقيدات المشهد السوري، وهي تضمّ مساحات واسعة من أراضي الدولة السورية، وتعدّ المنطقة الزراعية الأولى في سورية، والمنطقة الرئيسة لإنتاج النفط في محافظتي الحسكة ودير الزور.
سيطر حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، من خلال واجهته “قوات سوريا الديمقراطية – (قسد)”، على كامل منطقة شرق الفرات، إضافة إلى منطقة منبج غرب الفرات، بعد ما سُمّي بـ “هزيمة داعش”، بدعم قوات التحالف بقيادة أميركية، وتضمّ منطقة سيطرة (قسد) كامل محافظة الحسكة، وكامل الجزء الواقع شرق الفرات من محافظتي دير الزور والرقة، (عدا منطقة “نبع السلام” التي تسيطر عليها القوات التركية)، كما تسيطر على منطقة منبج غرب الفرات في محافظة حلب، وهي مناطق يشكّل العرب فيها معظم السكان، والكُرد فيها أقليّة.
تحظى (قسد) بدعم وحماية القوات الأميركية الموجودة في شرق الفرات، على الرغم من أنها مظلة عسكرية لحزب الاتحاد الديمقراطي، وهو الفرع السوري لحزب PKK الكردي التركي المصنف إرهابيًا من طرف الولايات المتحدة الأميركية، ولهذا الحزب علاقات وطيدة مع إيران، وهو العدو الرئيس لتركيا. وله علاقات قديمة مستمرة مع النظام، وكان الأسد قد أعاد حزب الاتحاد الديمقراطي إلى سورية سنة 2012، لضبط الشارع الكردي في شمال سورية، ومنع مشاركته في الانتفاضة السورية التي انطلقت في آذار 2011 مطالبة بالتغيير السياسي. ولكن مع تعقيدات الصراع وضعف النظام، رفع الحزب مطالبه إلى إقامة حكم ذاتي شمال سورية، شبيه بإقليم كردستان العراق، وهو الأمر الذي يرفضه النظام.
خلقت سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي على منطقة واسعة شمال شرق سورية، من خلال مظلته التي يتحكم فيها “قوات سوريا الديمقراطية – (قسد)”، وضعًا شاذًا، يولّد كثيرًا من التناقضات، فهي قوات كردية تتبع حزبًا أيديولوجيًا تركيًا، سيطرت على منطقة واسعة شمال شرق سورية، يشكّل العرب معظم سكانها، وقد استأثرت منفردة بالسلطة والثروة والسلاح.
جذور غضب أهالي دير الزور
تضمّ المنطقة التي تسيطر عليها (قسد) في محافظة دير الزور عشرات القرى والنواحي والمدن، وتمثل القبيلتان الكبريتان في محافظة دير الزور، وهما قبيلة العقيدات وقبيلة البكارة، معظم سكانها. غير أن هناك بضع قرى في خط الجزيرة، هي حطلة ومراط والحسينية وخشام، تمكّنَ النظام من السيطرة عليها، قبل أن تسيطر عليها (قسد)[4]. وليس في محافظة دير الزور وجود كردي ما خلا بضع عائلات.
شكلت (قسد)، بعد سيطرتها على شرق الفرات، هياكلها الإدارية والعسكرية، وسيطر حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي على القرار في كافة المجالات العسكرية، والأمنية، والإدارية، والاقتصادية، والتجارية في كامل المنطقة.
ومن ضمن المجالس التي شكلتها (قسد) المجلس العسكري في دير الزور، وهو المجلس الذي سيطر على الساحات، بحسب التصنيف الإداري لـ (قسد): (الساحة الشمالية، ومركزها الصور، والساحة الوسطى، ومركزها البصيرة والشحيل، والساحة الغربية، ومركزها الكسرة، والساحة الشرقية، ومركزها هجين)[5]. واختارت أحمد الخبيل، من عشيرة البكير، من قبيلة العقيدات، رئيسًا للمجلس العسكري في دير الزور. وقد بدا واضحًا إقصاء العرب عن مراكز صنع القرار، ووضعهم في مواقع هامشية في الإدارات المدنية التي تسيطر عليها كوادر كردية تأتمر بأمر قيادات قنديل (معقل حزب العمال الكردستاني)[6].
سيطرت (قسد) على كافة موارد شرق الفرات، وخاصة النفط الذي ينتج منه ما يقدر بـ 150 ألف برميل نفط يوميًا[7]. وهي تستغل حقول نفط دير الزور استغلالًا لا يصبّ في تلبية حاجات المنطقة، وقد استخدمت حرّاقات بدائية تلحق ضررًا كبيرًا بالبيئة، والأمر الأكثر استفزازًا لنقمة الناس أن موالين لـ (قسد) هم من يستأثرون بالحراقات، وهم من يشاركونها في الاستفادة منه، بل إن عددًا كبيرًا من الناس لا يحصلون على مخصصاتهم من الوقود؛ بسبب استيلاء عناصر من (قسد) ومن مواليها، عليها[8].
تدخلت (قسد) أيضًا في أنماط عيش السكان، عبر سعيها لفرض أيديولوجيتها “الأبوجية”، كما فرضت التجنيد الإجباري على شباب المنطقة، إضافة إلى عوامل أخرى سنذكرها أدناه، مما أدى إلى غضب الأهالي، وتراكم ذلك الغضب على مدار السنوات السابقة، وقد أظهر بحث ميداني صادر عن مركز حرمون للدراسات، بوضوح، أن إدارة (قسد) للمنطقة ليست إدارة كفيلة بتنميتها، ولا بتلبية حاجياتها الأساسية؛ ففي قطاع التعليم، لم تولِ (قسد) الاهتمام الكافي بهذا القطاع، حيث كان جلّ تركيزها على نشر مناهجها التي لاقت معارضة شديدة من الأهالي، لما تنطوي عليه من مخالفات لمعتقدات وقيم راسخة في المجتمع، ولما نشأ عليه الناس من مفاهيم أخرى ذات صلة بوطنهم وعروبتهم[9]. وقد تجلّى الإهمال في عدم وجود مدارس إعدادية وثانوية في أغلب القرى، وافتقار كثير من المدارس الابتدائية إلى منهاج تعليمي محدد، كما تجلى في الافتقار إلى الكادر التدريسي المختص، بسبب ضعف رواتب المعلمين، وكلفة النقل الباهظة التي تجعل كثيرًا منهم يستنكفون عن مزاولة المهنة[10].
وفي قطاع الصحة، اعتمدت (قسد) على المنظمات الدولية لدعم هذا القطاع، وعلى جهود التحالف الدولي، وعلى الرغم من إنشاء لجنة للصحة ضمن الهيكلية الإدارية لـ (قسد)، فإن ما يُقدّم لهذا القطاع، عبر الإجراءات المعقدة التي تفرضها (قسد) لوصول الطلبات الخاصة بالمشافي والمستوصفات، يجعل ما يتحقق وصوله من احتياجات المشافي أقلّ بكثير من المطلوب. هذا فضلًا عن الفساد المستشري في هذا القطاع، وهو فساد يتجلى في انتشار الرشوة فيه، وفي منح (قسد) المناقصات لموالين لها[11].
والأمر نفسه ينسحب على قطاع الزراعة الذي يشكل شريان الحياة في ريف دير الزور، فصحيح أن تدهوره ليس نتيجة لسياسات (قسد) فقط، وإنما ساهمت فيه ظروف الحرب، وانخفاض منسوب نهر الفرات، والقصف الذي تعرضت له الأراضي الزراعية، لكن (قسد) مسؤولة عن عدم اتخاذ الإجراءات الكفيلة بإنقاذ هذا القطاع وإعادة حيويته. وعلى الرغم من أن ما تقدمه (قسد) للفلاحين من مخصصات بذار ووقود أرخص مما يُباع في السوق السوداء، فإن الأهالي يؤكدون أنه ذو نوعية رديئة، وأنهم يضطرون -بسبب رداءتها- إلى التوجه إلى أسواق سوداء، مما يجعل زراعتهم لا تقيم أودهم، ولا يساوي المتحصل منها تكلفتها. وتقصير (قسد) الآخر في هذا القطاع يمكن رؤيته في إهمالها تحليل التربة، وهو ما ينذر بأخطار كبيرة تهدد الزراعة على المدى الطويل[12].
تفرض (قسد) ما يسمى بـ “بطاقة الوافد”، التي تعيق انتقال أهالي المنطقة، وتغلق منطقة سيطرتها في وجه غير المقيمين فيها، وتطلب كفالة من أي زائر سوري جاء من منطقة أخرى للدخول إلى شرق الفرات، وهو ما يكون أحيانًا أمرًا شبه مستحيل[13].
لا تظهر (قسد) اكتراثًا يذكر بظاهرة انتشار المخدرات بين شباب المنطقة، وقد أصبحت نسبتهم لا يستهان بها. فـ (قسد) لا تقيم أي مركز معالجة من الإدمان، ويرى الناس هناك مروجي المخدرات يروجونها في وضح النهار، من دون تدخل من السلطات[14].
يضاف إلى كل ما سبق تعامُلُ (قسد) تعاملًا ينطوي على عدم إدراك لرمزية بيوت المشيخة، ومحاولتها تصدير شخصيات لا وزن قبليًا لها، من أجل إحداث صدوع في الكيان القبلي، ومحاولة تهميش شيوخ القبائل؛ الأمر الذي أفقدهم قدرًا كبيرًا من هيبتهم المستمدة من رمزيتهم[15].
مطالب أهل دير الزور
أمام هذا الواقع، كانت ردة فعل العشائر قويّة عبر احتجاجات لم تقتصر على التظاهرات والاحتجاجات الخطابية، وإنما تعدّتها إلى المواجهة المسلحة لقوات (قسد)، وكان تصرف الأخيرة باعتقال الخبيل تعبيرًا صريحًا -في نظر أبناء العشائر- على تصميم (قسد) على عدم مشاركة أهالي دير الزور في صنع القرار في المنطقة.
وأكدت البيانات التي أصدرتها شخصيات قبلية معروفة، كالشيخ مصعب الهفل، شيخ العكيدات، المقيم في الدوحة[16]، وبيان شقيقه إبراهيم، شيخ العكيدات في المنطقة بالوكالة عنه[17]، والشيخ عبد العزيز الحمادة، شيخ البكير، على مطالب العشائر الحقّة، وعلى ضرورة حكم أبناء العشائر لمناطقهم[18]. كما أكدت كل تصريحات مقاتلي العشائر أن الانتفاضة العشائرية لا صلة لها باعتقال أحمد الخبيل، ومن معه. وهو ما كان صريحًا في البيان الأخير الذي صدر عن أبناء العشائر في دير الزور، بعنوان: (مطالب الحراك الثوري في دير الزور)، وكان من أهم بنوده المطالبة بإنشاء إدارة مدنية مستقلة عن (قسد)، وتشكيل مجلس عسكري مستقل تحت إشراف التحالف الدولي يمثل المنطقة، بدلًا من تسييرها من طرف (قسد).
انفجار الصراع (تحول ممكن التمرّد إلى فعل)
كان خلف اعتقال الخبيل أسبابٌ عدة، أهمّها ازدياد عدد قواته، وتعاظم نفوذه مع الوقت، وخاصة بسبب منحه حصة من المنتج النفطي في دير الزور، وهو ما جعل (قسد) تستشعر بأنه بات يشكل خطرًا كبيرًا على احتكارها للسيطرة، وخاصة بعد مبايعته من طرف شيوخ ووجهاء في المنطقة كأمير لقبيلة البكير. وقد زاد شعور الخطر لدى (قسد) عندما صار الخبيل، في الفترة الأخيرة، يطالب الشيوخ والوجهاء بمبايعته أميرًا لقبيلة الزبيد، التي تمثل القبيلة الأم لمعظم القبائل العربية في المنطقة وفي العراق، وهو ما استجاب له عددٌ من الوجهاء الذين نظروا إليه كرمز للمكوّن العربي شرق الفرات الذي لا بدّ من وجوده؛ لمواجهة نفوذ حزب الاتحاد الديمقراطي الذي همّش المكون العربي، وتعامل معه بتمييز، وحرمه من حقوقه ومقومات حياته الأساسية، وهي استجابة ساهمت أكثر في جعل أحمد الخبيل يتعامل مع (قسد) كندّ لها[19].
عندما شعرت (قسد) بأنّ نموّ دور أحمد الخبيل قد بدأ يهدّد سيطرتها المطلقة المنفردة على شؤون شرق الفرات، وهو في الأصل صنيعتها بعدما سمّته هي رئيسًا للمجلس العسكري؛ أخذت تخطط لتحرك يضع حدًا له، ولإعادة سيطرتها على المنطقة من دون منافس.
انفجر الصراع في 25 تموز/ يوليو 2023، عندما حدثت اشتباكات، بين المجلس العسكري وقوات لـ (قسد)، عقب محاولة (قسد) إزالة الحواجز العسكرية التابعة لقوات المجلس العسكري، وإعطاء (قسد) أوامر لعناصرها بإطلاق النار على كل من يقاوم ذلك، وقد تزامن ذلك مع رفض (قسد) طلبات الخبيل بزيادة حصة دير الزور من النفط، التي -بحسب ناشطين في المنطقة- تحصل على حصة أقل بكثير مما تصدّره (قسد) إلى مناطق الحسكة، والقامشلي، وكردستان العراق[20].
تعاملت (قسد) مع الخبيل كموظف تابع لها في رئاسة مجلس دير الزور العسكري، فعمدت، بدلًا من التواصل والتفاوض معه، إلى حياكة خدعة لاعتقاله، حيث دعاه مظلوم عبدي، المسؤول في قوات سوريا الديمقراطية/ قسد، إلى اجتماع في الحسكة، هو وبعض أعضاء المجلس العسكري، بحجة مناقشة الأوضاع، ثم عمدت إلى اعتقاله مع عدد من قيادات مجلس دير الزور العسكري، منهم محمد جبر الشعيطي، وأبو حارث الشعيطي، وفي دير الزور اعتقلت قوات (قسد) قياديًا آخر من قيادات المجلس العسكري، هو خليل الوحش الذي جرى نقله إلى حقل العمر النفطي الذي يسيطر عليه كادر كردي بقيادة المسؤول الكردي لقمان. وقد تمكّنت “وحدات حماية الشعب” المسيطرة في الحسكة من ذلك، بالتعاون مع عناصر قادمة من جبل قنديل، كانت قد تسربت خلال الأسبوع الماضي عبر المعابر الحدودية إلى الحسكة، ثم أرسلت (قسد) تعزيزات عسكرية إلى المنطقة، ضمن عملية أطلقت عليها اسم عملية “تعزيز الأمن”.
أدى ذلك إلى حدوث اشتباكات في مناطق البصيرة، والعزبة، والصور، وهي مناطق تقطنها أغلبية من قبيلة البكير التي ينتمي إليها الخبيل، وتطورت المعارك، بين مد وجزر، بين قوات بعض العشائر وقوات سوريا الديمقراطية[21].
تطور الاشتباكات العسكرية
تطورت الاشتباكات العسكرية واتسعت رقعتها، وتعددت الأطراف المشاركة فيها، وبدت المعارك معتمدة على المصابرة، حيث إنه لا مجال لمقارنة تسليح (قسد)، الذي يشمل أسلحة ثقيلة حديثة زوّدتها بها الولايات المتحدة الأميركية، وطائرات مسيرة بدعم من التحالف، وما تتميز به من تنظيم، وبين تسليح وتنظيم مقاتلي العشائر الذين لا يملكون سوى الأسلحة الخفيفة، ويفتقرون إلى التنظيم القتالي، وقد جمعتهم “الفزعة العشائرية”. وهو ما يجعل طرف العشائر الطرف الأضعف بموازين القوة المادية. وقد وقع معظم الثقل في المواجهة مع (قسد) على عاتق عشيرة البكير من قبيلة العكيدات، ثم إلى حد ما عشيرة البوكامل من القبيلة ذاتها، وكان الدعم الميداني من طرف باقي فروع العكيدات، والعشائر الأخرى الموجودة في خط الجزيرة شكليًّا[22]، فثمة عشائر أخرى من العكيدات -مثل الدميم والحسون- لم يشاركوا، بل إن أغلب عناصر الشعيطات المتطوعين في (قسد) قاتلوا معها، وقد بقيت مناطق عديدة بعيدة عن أي اشتباكات، مثل هجين والباغوز. وكانت مجموعات من قبيلة البكارة قد شاركت في مواجهة (قسد) بطرد حواجز لها من قرى مختلفة من قرى البكارة. كما كان للبكارة دعم معنوي لمقاتلي العشائر من العكيدات، حيث أصدر حاجم البشير، الشخصية القبلية الأبرز في القبيلة اليوم، بيانًا أيّد فيه انتفاضة العكيدات، وأعلن أن قبيلته تقف مع العكيدات يدًا بيد[23].
وليس من العسير تفسير هذا، فمجتمع العشائر مجتمع متنوع جدًا في مواقفه، فثمة من يجد مصلحة في استمرار (قسد)، إما اقتناعًا بأنها أفضل الحلول، وإما بسبب استفادته من وجودها، وهو ليس مجتمعًا مثاليًا يتحرك كل أفراده بوحي قِيم عليا، وليس جديدًا القول إن بعض أبناء العشائر قد استفادوا من قنوات الفساد التي أتاحتها إدارة (قسد) للمنطقة. وفي قرى معينة، لم يكن موقف الرضوخ للأمر الواقع مقترنًا بعهد (قسد)، وإنما كان موقفًا قديمًا ظهر مع انطلاقة الثورة السورية، فبعض هذه القرى لم تنخرط في الثورة عن قناعة لدى أهلها بأفضلية النظام. ومن صور عدم وحدة الصف القبلي كذلك اشتراك قسم من أبناء قبيلة الشعيطات التي تتحدر من قبيلة العكيدات في القتال في صفوف قوات (قسد)، والتزام آخرين منهم الحياد[24]. ولا يقتصر الانقسام على فروع العكيدات، وعلى الانقسام في المواقف بين القبائل الأخرى، بل إنه يتعداه إلى انقسام داخل العائلة الواحدة أحيانًا، فجميل الهفل، عمّ الشيخ مصعب الهفل، معروفٌ بعلاقاته الجيدة مع (قسد)[25].
ومن المهمّ الإشارة إلى أن المواجهة مع (قسد) لم تقتصر على منطقة دير الزور، بل تعدّتها إلى مواجهات معها بادر إليها أبناء عشائر دير الزور الموجودون في تركيا، ومقاتلون في الجيش الوطني من أبناء عشائر دير الزور، الذين هاجموا مواقع لـ (قسد) في محيط منبج، ورأس العين، وتل تمر؛ من أجل تخفيف العبء عن مقاتلي العشائر في المنطقة، ولكنها لم تكن هجمات مؤثرة، فقد كان ضجيجها الإعلامي أقوى من حقيقتها.
عيون شاخصة ترقب الصراع
لقيت هبّة العشائر ضد سيطرة (قسد) اهتمامًا سوريًا ودوليًا واضحًا، ولا سيما أنها تترافق مع انتفاضة السويداء المطالبة بالتغيير السياسي، كما تترافق مع تدهور الأوضاع المعيشية في مناطق سيطرة النظام إلى حدود يستحيل تحمّلها، مما أحدث تغيرًا كبيرًا في موقف السوريين في مناطق سيطرة النظام، بما في ذلك مناطق الساحل، وهو تغيير تمثل في رفض النظام رفضًا صامتًا بسبب القمع، وهو ما يساهم في إفقاد النظام شرعيته كليًا، ويهدد بانفجاره كل لحظة.
أول المهتمين بالصراع في شرق الفرات هي القوات الأميركية الموجودة في شرق الفرات، وعلى الرغم من دعم الأميركان لـ (قسد)، فقد دعوا للتهدئة، وحرصوا على عدم اتخاذ موقف معلن مع أي من طرفي الصراع، فالعشائر هم معظم سكان شرق الفرات، وهم قوة رئيسة في مواجهة الميليشيات الإيرانية في المنطقة، ويرى بعض المتابعين أن انتفاضة العشائر هي أداة ضغط على (قسد)، للتخفيف من بعض ممارساتها غير المقبولة في إدارة المنطقة، ولتحقيق هدف أهم، وهو إبعاد “القنديليين” من قياداتها.
لا يختلف كلٌّ من النظام وإيران وروسيا في موقفهم من هبّة العشائر في مواجهة (قسد)؛ فـ (قسد)، حليفتهم، ورغم أنها حليف غير مطيع أحيانًا، ومستقوٍ بالأمريكان، فإنهم يقفون إلى جانبها في صراعها مع أي قوى أخرى، وقد ظهر ذلك في قصف الطيران الروسي قوات العشائر التي تقدّمت في مواقع سيطرة (قسد) في غرب منبج، كما ظهر في سعي النظام إلى التدخّل في الصراع، خاصة أن بعض شيوخ العشائر متحالفون معه، من أجل استغلال هذا الصراع للضغط على (قسد).
رحّبت تركيا بهبّة عشائر دير الزور ضدّ سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي على شرق الفرات، وهو الحزب الذي تعدّه تركيا تهديدًا للأمن القومي التركي، لأنه فرع لحزب PKK التركي، وقد قال الرئيس أردوغان في إحدى كلماته: “القبائل العربية تعمل من أجل استعادة أراضيها”. وقد باركت تركيا عمليات أبناء العشائر الموجودين في تركيا، أو المنخرطين في الجيش الوطني ضدّ مواقع قوات (قسد) في محيط منبج، ورأس العين، وتل تمر، وقطع طريق الـ M4، وقد مكّنت تركيا هؤلاء المناصرين من عبور الخط الفاصل بين مناطق سيطرة قوات سورية حليفة لتركيا، وبين أماكن سيطرة (قسد)، وكان لا بدّ للمساعدة التركية أن تكون مشروطة بتقدّم المقاتلين تحت راية العشائر، وليس تحت راية أي فصيل عسكري سوري معارض. ولا تستطيع تركيا الإقدام على ما هو أكثر؛ بسبب اتفاقيات بينها، وبين الأميركان، والروس، على الالتزام بالإبقاء على القوات السورية الحليفة ضمن حدود مرسومة[26].
استنتاجات:
– بالرغم من أن هبّة أبناء العشائر جاءت مفاجئة وغير منظمة ولا منسّقة، فهي ردة فعل متوقعة ناتجة عن تسلّط (قسد) على المنطقة ومقدراتها، وهي بذلك فجّرت وضعًا بقي مسكوتًا عنه سنوات عدة، بما يعني أنه سيكون من الصعب إسكات اعتراضات الناس على ممارسات (قسد)، وهي في الحقيقة ممارسات حزب الاتحاد الديمقراطي، وممارسات القنديليين.
– حسمَت قوة (قسد) المنظّمة والمسلّحة جيدًا المعاركَ لصالحها، وأعادت سيطرتها على كافة المناطق التي انتفضت، وباشرت إجراء بعض الاعتقالات، ولم يكن متوقعًا أن تستطيع هبّة أبناء العشائر، التي جاءت دون تحضير ودون تنسيق ودون مشاركة واسعة من أبناء العشائر الأخرى، أن تنتصر على جيش منظّم ومدرّب ويمتلك أسلحة ثقيلة.
– يُتوقع أن تحافظ (قسد) على المجلس العسكري ككيان، وأن تعمد إلى تعيين بدلاء لأحمد الخبيل، وبعض قيادات المجلس العسكري البارزين من أبناء المنطقة العرب، وأن تستجيب لبعض مطالب الحراك العشائري، من دون أن تغادر المنطقة. وما يُرجّح هذا السيناريو أن (قسد) تدرك أن شرائح كبيرة من أبناء القبائل في المنطقة ناقمة على سياساتها، وأنها تحتاج إلى محليين يساعدونها في ضبطها، خصوصًا في ظلّ الاستقطاب الكردي العربي الذي فاقمته الأحداث الأخيرة. ويبدو أن (قسد) مصرّة على البقاء في المنطقة إلى أجل غير معلوم، في ظلّ دعم قوات التحالف لها، وعدم تأكد نيّة أميركا محاربة إيران في المنطقة، وما قد يتطلبه ذلك من إقصاء (قسد) عن المشهد في المنطقة، والاعتماد الكلي على المكوّن العربي.
– يُتوقّع أن تؤدي انتفاضة العشائر إلى إدراك قوات التحالف أن تحقيق الاستقرار في المنطقة لا يمكن أن يكون من دون تلبية مطالب القبائل، وتشكيل مكوّن عربي تربطه علاقة مباشرة مع قوات التحالف من دون وسيط. وما يُرجّح هذا الاحتمال ما ظهر من مؤشرات عن نيّة التحالف مواجهة إيران في المنطقة عسكريًا[27]، ولم تُبدِ (قسد) رغبتها في التعاون مع قوات التحالف في هذا الخصوص. وثمّة تسريبات تتحدث عن نيّة قوات التحالف تشكيل كيان عربي، بقيادة هفل الهفل (عمّ الشيخ مصعب الهفل)، وهو شخص مهاجر إلى أميركا منذ ثمانينيات القرن الماضي، وله صلات مع مسؤولين أميركيين، على أن تكون مهمته إدارة الملفّ مؤقتًا إلى حين تشكيل إدارة جديدة للمنطقة تدير بها العشائر مناطقها[28].
– عدم تلبية المطالب المحقّة لأبناء العشائر شرق الفرات، وإصرار قوات التحالف على الإبقاء على (قسد) كحليف وحيد لها، سيدفع بالعشائر إلى استمرار مواجهة (قسد)، ولو بشكل “حرب عصابات”، بمجموعات صغيرة تختفي تحت الأرض، وتقوم بعمليات ليلية بين حين وآخر. كما قد يدفع بعضهم للانخراط مع (داعش) أو التحالف معها، خاصة أن (داعش) تسعى لاستغلال غضب أبناء العشائر من ممارسات (قسد)، وقد أعلن تنظيم (داعش)، عن طريق بعض معرّفاته خلال المواجهات، استعداده لمعاودة عملياته ضدّ (قسد)[29]. وهو الأمر الذي يتعارض مع المشروع الرئيس لوجود (قسد) شرق الفرات، بأنه منع ظهور (داعش) ثانية.
[1] قوات سوريا الديمقراطية – قسد، هي القوات التي شكلتها “وحدات حماية الشعب” سنة 2015، وهي الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي، ويتشكل جسمها الرئيس من قوات عربية وكردية، ولكن بقيادة فعلية كردية.
[2] ) أحمد الخبيل من عشيرة البكيّر، أحد فروع قبيلة العكيدات في دير الزور، وهو شخص لا وزن عشائريًا له، وغير ممدوح السيرة في المنطقة، وكان قد فرّ من المنطقة إلى تركيا عند قدوم (داعش)، ثم عاد مع (قسد) لتولّيه الأخيرة منصب قائد المجلس العسكري في دير الزور التابع لها.
[3] مقابلة مع أحد وجهاء قبيلة البكير، بتاريخ 6/09/ 2023. وفيديو يظهر فيه أبو الحارث قائد مجلس هدين العسكري الذي كان معتقلًا مع أحمد الخبيل، وهو يعلن اشتراكه في القتال مع قوات (قسد)، بعد إطلاق سراحه. https://web.whatsapp.com/
[4] مناف الحمد، القبيلة والسياسة في سورية، تحولات البنية وتنوع الدور، قبائل دير الزور أنموذجًا، تركيا، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، 1/11/2021، ص. 44، https://2u.pw/hFnHMP
[5] المرجع نفسه.
[6] مقابلة مع مدرّس من مدينة دير الزور نازح في مناطق سيطرة (قسد) بتاريخ: 9/ 06/ 2022.
[7] ) جريدة الشرق الأوسط https://2u.pw/cFdDxvg
[8] مناف الحمد، تأثيرات سلطة الإدارة الذاتية في المجتمع القبلي. ريف دير الزور أنموذجًا، مركز حرمون، 5/12/2022. https://2u.pw/oLxDzF
[9] مقابلة تلفزيون سوريا مع الأستاذ محمود ماضي، بتاريخ: 18/09/2022، https://www.youtube.com/watch?v=VKoqHScF7Qw&t=147s، تاريخ الدخول: 10/10/2022.
[10] مقابلة مع الصحفي الاستقصائي عمر خطاب من أبناء المنطقة بتاريخ: 11-10-2022.
[11] مناف الحمد، تأثيرات سلطة الإدارة الذاتية في المجتمع القبلي. ريف دير الزور أنموذجًا، مرجع سابق.
[12] المرجع السابق.
[13] مقابلة مع أحد أبناء العشائر المقيم في مناطق سيطرة (قسد) بتاريخ: 7/10/2022.
[14] مناف الحمد، تأثيرات سلطة الإدارة الذاتية في المجتمع القبلي، مرجع سابق.
[15] مقابلة مع الدكتور (ر.ح) من قبيلة البكارة، بتاريخ: 1-9-2022. ومقابلة مع المدرس: (د. ع) من أبناء المنطقة، بتاريخ: 26/05/2022.
[16] بيان الشيخ مصعب الهفل على الرابط: https://www.youtube.com/shorts/pJrQZEe60O4
[17] بيان الشيخ إبراهيم الهفل على الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=jaRqB88fwmM
[18] بيان الشيخ عبد العزيز الحمادة على الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=cP-GNhjBrII
[19] مقابلات متعددة مع خطاب العواد، وأحد وجهاء قبيلة البكير، وشيخ قبيلة البكير، والصحفي عمر خطاب، في الفترة بين 3-4/ 9/ 2023.
[20] المقابلة السابقة مع عمر خطاب.
[21] انظر صفحة دير الزور الحدث، على فيسبوك، https://www.facebook.com/DeirEzzorevent
[22] المقابلة السابقة مع شيخ البكير، والمقابلة السابقة مع الباحث خطاب العواد.
[23] بيان الشيخ حاجم البشير على الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=MSx0vUdP6wk
[24] مقابلات متعددة مع ناشطين من أبناء القبائل، بتاريخ: 5-6/ 09/ 2023..
[25] مقابلة سابقة مع أحد وجهاء قبيلة البكير.
[26] مقابلة سابقة مع أحد شيوخ قبيلة البكارة، والمسؤول في مجلس القبائل والعشائر السورية، بتاريخ: 3/09/ 2023.
[27] انظر محمد كركص، تدريبات للتحالف في دير الزور: هل تقترب عملية عسكرية ضد المليشيات الإيرانية؟ العربي الجديد، 4/08/2023، https://2u.pw/m0Ot1wv
[28] مقابلة سابقة مع أحد المسؤولين في مجلس القبائل والعشائر من وجوه قبيلة البكارة.
[29] مركز نور ايست للأبحاث، تقدير موقف، تحولات قسد في دير الزور وأفق المرحلة القادمة، https://2u.pw/NDc8Q99
مركز حرمون
—————————–
اهتبال فرصة في سورية/ علي العبدالله
كشفت المواجهة المسلحة بين “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) ومجلس ديرالزور العسكري ومشاركة عشائر عربية في القتال إلى جانب المجلس، ما سمي بـ “الفزعة” العشائرية، عن معطيين بارزين: الأول، أن سبب الصراع المباشر خلاف على حصص التهريب واستياء قيادة “قسد” من الدور الذي يلعبه رئيس مجلس دير الزور العسكري، أحمد الخبيل، حيث باتت للأخير شبكته الخاصة وعلاقاته الزبائنية مع القوى النافذة والمليشيات الإيرانية والروسية ومع المهرّبين والتجار على الضفة الأخرى للنهر، وثانيها عدم ارتباط “الفزعة” العشائرية باعتقال الخبيل وإقالته، حيث بين مشيخة العشائر والأخير ما صنع الحدّاد. هاجم الخبيل مشيخة العقيدات من بيت الهفل، سمّاهم بأسمائهم ووصفهم بأقذع الأوصاف، على خلفية معارضتهم هيمنته وتسلطه على رقاب المواطنين؛ وقد تحدّث المشايخ، خلال انفجار الأزمة، عن علاقات الخبيل بالنظام السوري وعقده اجتماعاتٍ مع أجهزة مخابرات النظام في مدينة دير الزور. فـ”الفزعة” العشائرية اهتبال فرصة للتعبير عن احتقان عميق من سياسات “قسد” في المنطقة، وتعاملها غير اللائق مع مواطنيها، حيث لم تكتف بتجاهل مصالح العشائر العربية في شرق الفرات، بل وزادت بوضع كردٍ أتراك وإيرانيين لا يجيدون العربية في مواقع إدارة المنطقة والإشراف على شؤونها، لعبت تصرّفاتهم الصلفة والفجّة دورا منفّرا، واستحواذها على خيراتها من النفط والغاز في حين لا تنال المنطقة إلا الفتات.
انفجر الصراع في لحظة دقيقة وحسّاسة، حيث التوترات السياسية والعسكرية تغطّي المنطقة، إن بين القوات الأميركية والروسية، كما جسّدتها التحرّشات المتبادلة في سماء سورية وقصف طائرات روسية محيط قاعدة التنف أكثر من مرّة، أو التحرّكات العسكرية الأميركية بين العراق وسورية وربطها بخطّة أميركية للسيطرة على الحدود بين البلدين لقطع الطريق على القوات والمليشيات الإيرانية لنقل الأسلحة والمقاتلين إلى سورية وحزب الله، أو التنسيق والتحضير الإيراني الروسي للضغط على القوات الأميركية في منطقة شرق الفرات، عبر تشكيل مجموعات من أبناء المنطقة وتدريبهم وتسليحهم واستخدامهم في مهاجمة دوريّاتها وقواعدها ودفعها إلى الانسحاب، اتخذ التنسيق العسكري بين روسيا وإيران منحىً تصاعدياً، حيث قدّمت إيران طائراتٍ مسيّرة لروسيا في سورية من نوع قاصف1 وأبابيل، وباعت روسيا لإيران طائرات ياك 130 تمهيدا لبيعها طائرات سوخوي 35، أو الحشد البحري الأميركي لحاملة طائرات ومدمّرات وسفن مسيرة وثلاثة آلاف جندي من المارينز في الخليج العربي وإرسال أسراب طائرات أف 22 رابتور وأف 35 الشبحية إلى الشرق الأوسط.
تحرّك النظام السوري وإيران وروسيا وتركيا للتأثير على مجريات الصراع وعمل كل منها على دفعه نحو تحقيق أهدافها الخاصة، إنْ عبر الضخّ الإعلامي وتأليب العرب على الكرد، إعلام النظام وإيران وروسيا يتحدّث عن السيطرة الكردية على العرب، والإعلام التركي والمؤيد لتركيا يتحدّث عن انتفاضة وثورة ضد “قسد” التي تضطهد العرب وتفتئت على حقوقهم، أو تحريك قواتٍ من الجيش الوطني السوري المعارض، تحت غطاء “الفزعة” العشائرية، باعتبار أفراد هذه القوات من أبناء العشائر العربية، لمهاجمة مواقع “قسد” في أرياف الحسكة والرقّة وحلب لتخفيف الضغط على قوات المجلس والعشائر العربية.
تشير المعطيات الميدانية والسياسية إلى استمرار القتال بين “قسد” والمجلس والعشائر العربية فترة قد تطول وتتوسّع، في ضوء استثمار القوى المذكورة في الصراع، ودفعه إلى التصعيد والتمدّد واستخدام تحوّلاته في المساومة في ملفات سياسية عالقة بين هذه القوى، فالنظام السوري يعمل على استثمار المعارك والحملات الإعلامية الصاخبة للتغطية على التظاهرات والاعتصامات في محافظتي السويداء ودرعا، احتجاجا على تردّي أوضاع المواطنين المعيشية والخدمية، والمطالبة بتغيير سياسي شامل عبر تطبيق قرار مجلس الأمن رقم 2254، واحتواء تململ حاضنته الشعبية في الساحل وتبرير تأجيل الاستجابة لمطالبها في تحسين ظروف المعيشة بحل مشكلات زيادة الدخل وتوفير فرص عمل ولجم الغلاء وتوفير الكهرباء والماء والمواصلات بأولوية مواجهة “الإرهاب”، “فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة”.
تسعى إيران إلى رفع العقوبات الاقتصادية الأميركية والأوروبية عنها وتحرير أموالها المجمّدة في بنوك الدول المستوردة لنفطها وغازها، وإخراج القوات الأميركية من المنطقة، والدفع نحو عرقلة السعي الأميركي إلى تطبيع العلاقات السعودية الإسرائيلية. وتسعى روسيا إلى الضغط على القوات الأميركية على الأرض السورية، عبر مناوشتها وتأليب أبناء المنطقة عليها، للبرهنة على أن انخراطها في القتال في أوكرانيا لم يُضعف قواها، لدفع الولايات المتحدة إلى تخفيف دعمها أوكرانيا ودفعها إلى القبول بتسوية سياسية بشروط مواتية ومقبولة روسيا، والتنسيق مع الصين على محاصرة النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط عبر الانخراط في قضاياه السياسية والاقتصادية. في حين تحاول تركيا، عبر قوات الجيش الوطني السوري، التمدّد على حساب “قسد” وإخراجها من غرب الفرات، ريف حلب، وتوسيع مساحة سيطرتها شرقه في ريفي الرّقة والحسكة. وقد زاد هذا تعقيد الموقف وخطورته في ضوء تداخل مواقع النفوذ والسيطرة العسكرية، فمنبج، التي نجح الجيش الوطني السوري في السيطرة على بعض قراها وعلى مساحات في محيطها، جزء من النفوذ الروسي، وتنتشر فيها قوات للنظام السوري جنبا إلى جنب مع قوات “قسد”، ما دفع القوات الروسية إلى قصف المواقع التي دخلها الجيش الوطني في عرب حسن كبير ومزرعة عرب حسن والمحمودية في منطقة منبج والبوهيج والمحسنلي قرب جرابلس جوّا وبرّا. كما تنتشر قوات النظام جنبا إلى جنب مع قوات “قسد” في ريف الحسكة، خصوصا وخطوط التماسّ بين قوات النظام السوري والقوات الروسية من جهة وقوات المعارضة الموالية لتركيا وهيئة تحرير الشام من جهة ثانية في إدلب، مشتعلة منذ بعض الوقت على خلفية التحضير لاجتماع الرئيسين الروسي، فلاديمير بوتين، والتركي، رجب طيب أردوغان، في سوتشي (يوم الاثنين الماضي) لمناقشة العودة إلى اتفاقية تصدير الحبوب من أوكرانيا وروسيا، ووجود نوعٍ من التجاذب بين الطرفين بسبب المواقف والقرارات التركية أخيرا بخصوص انضمام السويد لحلف شمال الأطلسي (ناتو)، والسماح لخمسة ضباط أوكرانيين من قادة كتيبة آزوف بالعودة إلى أوكرانيا برفقة الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، وتراجع حماسة أنقرة نحو عملية التطبيع مع النظام السوري.
تكمن العلة خلف انفجار القتال بين “قسد” ومجلس دير الزور العسكري في موقف الولايات المتحدة، حيث لم تحدّد استراتيجيتها إزاء المنطقة، أو أبقتها في طي الكتمان، ما وضع قيادة “قسد” في موقفٍ غير مريح، ودفعها إلى مدّ خيوط مع النظام السوري وإيران وروسيا، من جهة، ومن جهة ثانية التشدّد في مراقبة علاقات القوى المحلية والاجتماعية بالقوات الأميركية، ومنع أي تنامٍ لها فورا، ومواجهة أيٍّ من مظاهر القوة خارج دائرتها الضيقة في منطقة شرق الفرات، خصوصا بعد تداول رواياتٍ عن سعي أميركي إلى تشكيل قوة عربية لمحاربة المليشيات الإيرانية، ما يعني تراجع أهميتها لدى الأميركيين. كما لم تسع، الإدارة، إلى ترشيد ممارسات “قسد” وضبط تصرّفاتها مع أبناء شرق الفرات عبر موازنة الأمور وتوزيع الأدوار بما يتناسب مع التركيبة القومية والاثنية، وغضّت الطرف عن التمييز الحاصل في الخدمات بين أبناء المنطقة، وعن تجاوزات قسد ضد المواطنين عربا وكردا وآشوريين سريان، أرجع معلقون هذا الموقف لخلاف بين وزارة الخارجية وقادة القوات الأميركية شرق الفرات ووزارة الدفاع الذين يتبنون موقف قسد كاملا، كما لم تلتفت إلى تجاوزات الخبيل ضد أبناء العشائر العربية ورعايته لعمليات التهريب والاتجار مع الضفة الأخرى، حيث قوات النظام والمليشيات الإيرانية والروسية، ما دفعه إلى الاعتقاد أنه بات ركنا راسخا ورقما صعبا في المنطقة فزاد شراهة وتغوّلا فاستفز “قسد” واستدرج هجومها. وكان رد فعلها على “فزعة” العشائر غريبا ومستهجنا، حيث ألمحت إلى ارتباط هذه العشائر بجهاتٍ خبيثةٍ من دون تحديد، وجدّدت، عندما تحرّكت لوقف القتال، دعمها “قسد”، ما جعل الطرف الآخر يشكّ في طبيعة التسوية ومآلها، وهذا ما عكسه بيان شيخ العقيدات، إبراهيم الهفل، الذي وصف بيان التحالف بعد اجتماع التهدئة الذي حضرته وجوه عربية موالية لـ”قسد” بالكلام الجميل، و”لكن ننتظر التنفيذ”.
دفعت الإدارة الأميركية الموقف نحو حافّة الهاوية، عندما لم تطلب من “قوات سوريا الديمقراطية” وقف هجومها والتوقف عن قصف القرى والبلدات بالمدفعية والمسيرات ورفع حظر التجوّل، وكأنها تريد لـ”قسد” سحق مقاومة العشائر، ما سيرتّب، في حال انتصار “قسد”، تصاعد العداء والكراهية وفتح الباب واسعا للنظام وإيران وروسيا للاستثمار في المظلومية، ودفع العشائر إلى التعامل معهم ضدا من “قسد” والتحالف. وفي حال انتصار العشائر إيجاد كيان سياسي جديد على رقعة من أرض شرق الفرات، ستتحوّل، مع الوقت، إلى بؤرة تجذب المغامرين والمتنافسين وساحة صراع وقتال.
العربي الجديد
———————————
مواجهات الثروة في شرق الفرات/ بشير البكر
أدّت المواجهات التي حصلت بين “قوات سوريا الديمقراطية” ( قسد)، وبعض العشائر العربية في ريف محافظة دير الزور الشرقي، في بدايات شهر سبتمبر/ أيلول الحالي، إلى وقوع أعداد كبيرة من القتلى والجرحى بين الطرفين، وخلط أوراق سياسية. وعكست شراسة المواجهات مدى الاحتقان الذي لم يخرُج إلى العلن بهذه القوة قبل هذه الجولة التي تعدّ الأولى منذ بدأت “قسد” تتقدّم من هذه المنطقة، وتنتشر بصورة واسعة، لتضع اليد على آبار النفط والغاز. وبغض النظر عن الكمية المستخرجة من هذه الحقول في الفترة الماضية، فإن عوائدها تصبّ عند “قسد” التي تموّل منها نشاطها العسكري في المقام الأول، الأمر الذي أعفى واشنطن من أي أعباءٍ مادية، وقد كانت إدارة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، صريحة، في ما يخصّ تنصّل واشنطن من أي التزام مالي تجاه “قسد”.
تتعاطى بعض المنابر الإعلامية مع المواجهات على أنها حرب عربية كردية. وفي حقيقة الأمر، ليست “قسد” جيشا كرديا، بل هي خليط من أكراد وعرب وغيرهما، يقودها حزب العمّال الكردستاني، غير أن القرارات الاستراتيجية من اختصاص الطرف المشغّل لها، وهو الأميركي، الذي قام بتأسيسها خلال الحملة الدولية للحرب على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وما يتفرّع عنها، وليس في سياق مشروع سياسي لحلّ المشكلة الكردية في سورية، أو مواجهة النظام السوري الذي تراجع وجوده في المنطقة إلى مربّعات رمزية صغيرة، محاصرة في وسط دير الزور والحسكة والقامشلي.
ويجدر التوضيح أن شرارة المواجهات تعود إلى صراع مصالح في منطقةٍ تحتوي على نفط سورية وغازها، وتشكّل عقدة استراتيجية بين سورية والعراق وتركيا ومحطّ صراع أميركي إيراني. وبالتالي، ليس سبب المعارك خلافا كرديا عربيا، ولكنه تطوّر إلى معارك بين عشيرة العكيدات “وقسد”، وتبيّن أن لأكثر من جهة مصلحة في تأجيجه، وتوظيفه ضمن أهدافها وتوجّهاتها. وهذا يعود إلى فشل الصيغة الأميركية لإدارة شمال شرق سورية، على أساس توكيل “قسد” بالجزء الأساسي من المهمة، التي بنت نجاحَها على خدمة المشروع الأميركي، وليس على أساس الأخذ في الاعتبار تطلعّات عرب المنطقة وأكرادها، ومكوّناتها الأخرى.
وفي هذا المقام، تجب الإشارة إلى أن واشنطن لم تقم بخطوات من أجل بناء تفاهماتٍ تأخذ طابع الديمومة بين العرب والأكراد من أهل المنطقة التي باتت تحت مظلّتها، بل لم تتدخّل لمنع تفاقم الخلافات بين “قسد” وأحد مكوناتها، مجلس دير الزور المحلّي، بسبب التنازع على الصلاحيات والمصالح، أي السلطة والثروة النفطية والغازية، ويبدو أنها كانت تريد من عدم الحسم في أي قضيةٍ من هذا القبيل، التحكّم بالطرفين، وتعزيز تبعيّة كل منهما لها، حتى لو وصل النزاع إلى الانفجار والمواجهة بالسلاح، مثلما حصل في الأيام الأخيرة. وبغضّ النظر عن الربح والخسارة في هذه الجولة، فإنها تنهي أي إمكانيةٍ لصيغة تفاهمٍ بين “قسد” وعشائر دير الزور في المستقبل، ومن المرجّح أن تتدخّل واشنطن لرسم الحدود، حسب قوة كل طرف، للحيلولة دون استفادة إيران، التي تتقدّم بقوة في شرق الفرات، وتعمل منذ عدة أعوام على بناء قواعد عسكرية كبيرة.
الوضع في شمال شرق سورية هشٌّ سياسيا، وغير منفصل عما تعيشه بقية مناطق الجغرافيا السورية من خراب وفوضى، نتيجة غياب الدولة السورية، وتنازع النفوذ والمصالح بين الأطراف المحلية والدولية، ما يرجّح استمرار الحروب البينية، وبالوكالة، والتلاعب بمصير سورية والسوريين، من التدخّلات الأجنبية. وطالما أنه ليس هناك حلّ يقرّره السوريون، سوف يتواصل استنزاف سورية، من خلال تدمير اقتصادها، وإشعال الحروب بين مكوّناتها، حتى يصل هذا البلد إلى حالٍ من الوهن، يفقد فيه صفة الكيان والدولة.
العربي الجديد
————————-
دير الزور… إكراهات الجغرافيا والانتماء/ عمر الشيخ إبراهيم
بينما كان النظام في سورية يفكر في مخرج للتعامل مع المأزق الذي وضعته فيه مظاهرات السويداء، انفجر صراع عسكري في ريف دير الزور شرق سورية. وقبل تفكيك دوافعه وسياقاته، يحسن المرور على خصوصية حراك جبل العرب وعلاقته بالمعارك في شرق سورية.
تتأتّى خصوصية حراك السويداء من حيث إسقاطه سردية النظام حيال الثورة السورية والقائمة على مقاومة ثلاثية العوامل: مقاومة أعداء محور الممانعة. الإرهاب الطائفي. الانفصال القومي. وفي المحصلة، يطرح نفسه حامي الأقليات والعروبة ووحدة سورية، لكنه لا يستطيع وصم حراك السويداء بأنه طائفي، على اعتبار أن المظاهرات رفعت شعار “الشعب السوري واحد”، ولا يستطيع قصفها (أقله حتى اللحظة) كونه حاميا للأقليات. ولا اتهامها بالعمالة والانفصال لتاريخها ضد الاحتلالات ودورها في وحدة سورية التي نعرفها اليوم. أضف إلى ذلك مساهمة هذا الحراك في انتشار عدوى التظاهرات إلى مناطق عدة في سورية. في هذه اللحظة، انفجر الصراع في ريف دير الزور ليحول عن السويداء الاهتمام الشعبي ويشتّت التركيز الإعلامي، ويفرّق الخطاب الوطني، ويعيده إلى بنى ما قبل الدولة على أساس عشائري وقومي، وهذه استراتيجية يُتقن النظام تنفيذها واستثمار نتائجها.
بالعودة إلى ما يحصل في دير الزور، لا بد لنا من فهم سياقات الصراع هناك وتفكيكه، إذ تشكّل المنطقة أهمية استراتيجية كبيرة. أولاً: كونها حدودية، ويمرّ منها طريق الدعم البرّي للمليشيات الطائفية المدعومة إيرانيًا في المنطقة من طهران إلى الضاحية الجنوبية ببيروت، وهو ما جعل منها منطقة صراع نفوذ بين روسيا وإيران وأذرعهما من جهة وأميركا وأذرعها المحلية من جهة أخرى، مع عدم تغييب العامل الإسرائيلي عاملا مستترا، وبالإشارة إلى أنه لم يحصل أي صراع مباشر بين الأذرع المحلية المدعومة أميركيا وإيرانياً.
ثانياً: ثروات وموارد متنوّعة، أهمها النفط والغاز والقمح، إضافة إلى نهر الفرات، وما يمكن أن يمثله كشريان حياة زراعي وخدمي للسكان، يمكن استغلاله في مشاريع تنموية وإيجاد فرص عمل تساعد على مستوى من الاكتفاء الذاتي ودعم المجالس الخدمية.
كما لدير الزور خصوصية تتمثل بوجود عامل عروبي عالٍ جدا، يرتفع كلما يزداد حدّة العامل القومي المقابل (الكردي)، وعامل سنّي يطغى كلما يزداد طغيان العامل الطائفي الشيعي الدخيل على المنطقة. نتيجة لذلك كله، شهدت المنطقة صراعا شديدا، كان يدفع أهلها إلى محرقة بمواجهة قوى دخيلة لا قدرة لهم على مواجهتها، بدءا من النظام مرورا بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) والمليشيات الطائفية، وصولا إلى تحكّم عناصر حزب العمال الكردستاني بقرارها ونهب ثرواتها تحت راية “قسد” التي شكلت مظلة للتحالف بينهم وبين العنصر العربي المعارض للنظام وإيران، فما الذي دفع العرب هناك إلى الدخول في هذا التحالف؟
كانت دير الزور، بغالبيتها مدينة وريفا، ثائرة ضد النظام، ومن ثم نتيجة للتغيّرات التي طرأت على الساحة، استطاعت إيران استقطاب فئة لتكون ضمن مليشياتها، مع فشل المجالس العسكرية التي شكلتها المعارضة وتقهقرها لصالح التنظيمات الراديكالية، بدءًا من جبهة النصرة وصولاً الى تنظيم الدولة الذي تمكّن من استقطاب فئة كذلك لصفّه في سياق المد الطائفي الشيعي، وتراجع الدعم لقوى الثورة. أصبحت السيطرة متوزّعة بين مليشيات ايران والنظام وبين تنظيم داعش، فأصبح الأهالي رهينة هذه القوى، بعد انهيار فصائل الثورة وانتهائها. حينها أعلنت الولايات المتحدة عن تشكيل تحالف لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية، وقرّرت دعم شركاء محليين تحت مظلةٍ سميت “قوات سوريا الديمقراطية” عام 2015 ، تتكوّن من التحالف العربي السوري وجيش الثوار وغرفة عمليات بركان الفرات وقوات الصناديد وتجمّع ألوية الجزيرة والمجلس العسكري السرياني ووحدات حماية الشعب و حماية المرأة، وهما العمود الفقري لهذه القوات، وجل قياداتها وكوادرها أعضاء في حزب العمال الكردستاني، اضطرّ العنصر العربي (المستقل) في دير الزور للقبول بهذا التحالف، نتيجة لتلك العوامل، ولعدم وجود حديقة خلفية سياسية وعسكرية ومادّية دولية داعمة له، على غرار دعم تركيا فصائل المعارضة السورية وحماية ظهرها، بينما كانت المنطقة مكشوفة الظهر، تحيط بها قوى كلها تعد شرّا مطلقا، فكان الاضطرار العاقل هو الدخول بهذا التحالف تحت الرعاية الأميركية، لأن باقي الخيارات كانت انتحارية في تلك اللحظة، فتَشكّل ذراع عسكري عربي، سمّي مجلس دير الزور العسكري، وتم استدعاء أحمد الخبيل الملقب أبو خولة من تركيا، وعين قائدا له في عام 2016، ولم يعرف عنه وعن قياداته أي تكوين عسكري أو قتالي، ولا حيثية اجتماعية سابقة.
بعد معركة الباغوز 2 في مارس/ آذار 2021، والإعلان عن القضاء على آخر معاقل “داعش” في المنطقة، استثمرت قيادات جبل قنديل (الكردية) ضمن قوات “قسد” نتائج المعركة، فأخذت تتحكّم بقرار المنطقة (العربية بالخالص)، وتستثمر مواردها، حاولت المجالس المحلية التي أنشأها الأهالي إدارة مناطقهم والاستفادة من ثرواتها، فقامت قيادات قنديل بتعيين مستشار (كادر) إلى جانب كل رئيس مجلس محلي ليتحكّم فعليا بالقرار، ومع تكرار الانتهاكات والاستفراد بالقرار ونهب ثروات المنطقة وإطلاق يد المجلس العسكري (الخبيل) نفسه ضد محاولات الأهالي إدارة مناطقهم. زاد احتقان المجتمع المحلي ضد قيادات “قسد” والمجلس العسكري الذي عمل رئيسه على أن يكون عصبه القوي من أبناء عشيرته وأقاربه، وأصبح ذا نفوذ، وجمع ثروة كبيرة من تجارةٍ يتردّد أنها غير شرعية، وتشوب أعمالها اتهاماتٌ كثيرة. ثم أعلن عن تأسيس إمارة زبيد، وهي تحالف قبلي قديم، ونصّب نفسه أميرا عليها، أتبع ذلك بتصريحاتٍ عن موافقته الدخول بمواجهة ضد المليشيات الإيرانية، إثر إعلان قيادة “قسد” رفضها محاربة تلك المليشيات، في محاولة منه كسب ودّ الأهالي وحشد الشارع المحتقن أصلا ضد إيران إلى صفّه، تراكمت المؤشّرات على الاحتقان بين قيادة “قسد” والمجلس العسكري التابع لها، فاستدعت رئيسه إلى مقرّ قيادتها في الحسكة، ووضعته قيد الإقامة الجبرية، وأعلنت عن تعيين بديل له. هنا رفض موالو الخبيل القرار، وطالبوا بإطلاق سراحه، فحاولت قيادة “قسد” فرض قرارها بالقوة، مرسلة قواتٍ إلى المنطقة، اشتبكت مع عناصر المجلس بداية، والمنتشرين في عدة بلدات وقرى. وأدّى هذا الهجوم وما خلّفه من ضحايا إلى دفع فئات أخرى محلية بمواجهتها، إلى جانب عناصر الخبيل، مع التأكيد أنها لا تناصره ومجلسه، بل كانوا متضرّرين من سلطته. ولكن مرّة أخرى، لا خيارات أمامهم سوى ذلك، أملاً في إدارة مناطقهم، وتحت ضغط العوامل سالفة الذكر، وتماشياً مع منظومة القيم والسلوكيات القليلة التي تحكم أهل المنطقة.
توصيف قاصر
اعتبر التعاطي الشعبي والإعلامي مع معارك دير الزور المعركة بأنها بين العشائر العربية و”قسد”، والواقع أن هذا التصنيف قاصر وغير دقيق، فالمكوّن القبلي في سورية متباين المواقف والولاءات، كما بقية مكوّنات سورية، إذ تجد داخل العشيرة الواحدة، لا بل العائلة الواحدة ولاءات متعدّدة، تجد أحدهم قياديا في المعارضة وشقيقه مواليا للنظام وصديقا شخصيا لرئيسه، وتجد أخا مع “قسد” وآخر ضمن مليشيات إيران، والشواهد الحية على ذلك كثيرة.
ولطالما كانت غالبية عوائل المشيخة انتهازية تتوزّع الأدوار والولاءات، بغرض الحفاظ على مصالحها، وبحثا عن حيثية ومكانة اجتماعية، ولم يعد حقيقيا الحكم أن القبيلة تتّبع أوامر شيخها، لا بل ليس هناك شيخ مجمع عليه ضمن القبيلة، وما شوهد من فورة البيانات المشيخية القبلية التي صدرت في أثناء هذه المعركة تأتي في سياق البحث عن حظوة وحيثية واستثمار دماء الأبرياء وركوب “الترند”. وقد أصبح هذا سلوكا متّبعا، ليس فقط قبلياً، بل أيضا مناطقيا وقوميا وطائفيا في عموم سورية، يحاول أصحابه إيهام الرأي العام بتأثير متخيّل غير حقيقي، أو يكون مدفوعا لخدمة أجندات، وسحب البساط من منافسٍ يختلف بالولاء، وغالباً يكون من ذوي القربى والقبيلة الواحدة.
على عكس العربية، لم تنخرط العشائر الكردية، بالتبعية أو الولاء لأطراف الصراع وسلطات الأمر الواقع على أساس قبلي، ولا ترفع راية قبلية كما نراها حاليا عند العربية، بل كانت عوامل انخراط أفرادها نابعه عن قرار فردي وشعور قومي أو مصلحي في مجمله، فلا نرى ظاهرة بياناتٍ لزعماء وآغاوات يعلنون ولاءهم على أساس قبلي لأحد الأطراف، وهي ظاهرة مثيرة للانتباه. بينما يبني المجلس الوطني الكردي، وهو المظلة السياسية الأكبر للشارع الكردي في سورية خطابه على توصيف الصراع بأنه غير قومي عربي كردي، ولا ينبغي أن يكون، ويحسب له هذا الموقف، ويراه صراعا داخل تحالف “قسد”، مع اتهامه حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) بالاستئثار بالسلطة في المنطقة واحتكار ثرواتها. ولكن ليس هناك موقف واضح من المجلس إزاء حدود الجغرافيا التي تسيطر عليها “الإدارة الذاتية”، ولا إزاء الانتهاكات بحق العرب. ويبدو أن الخلاف بين المجلس الكردي والإدارة الذاتية يتمركز حول توزّع السلطة والثروة وآلية اتخاذ القرار في شمال شرق سورية.
الموقف الأميركي
دعت واشنطن الراعية والداعمة لقوات قسد إلى ضبط النفس، من دون دعم واضح لأحد أطراف الصراع. وما هو مؤكّد، بحسب مصادر عربية محلية، أن قيادة “قسد” طلبت من الأميركيين قصف بعض المواقع في ريف دير الزور، ورُفض هذا الطلب، وكان الجواب “هذا شأن داخلي وعليكم ايجاد حل سريع لهذه الأزمة”. وعليه، يبدو أن واشنطن تريد إفهام هذه القيادة في “قسد” أن قوتهم العسكرية غير فعّالة بدون تغطية جوية أميركية، وربما هذا التحفظ هو بمثابة قرصة أذن عسكرية لرفض هؤلاء الانخراط في مواجهة المليشيات الإيرانية. ومن جهة أخرى، تريد واشنطن إضعاف طرفي الصراع وجعلهما يلتجئان لها لإعادة ترتيب القوى داخل “قسد”، فقد حاولت الإدارة الأميركية السابقة دعم العنصر العربي في “قسد”، ليكون متكافئ القوّة والموارد مع العنصر القنديلي (الكردي من جبل قنديل)، ودفع مبعوثيها إلى المنطقة بقوّتهم من أجل ذلك، فاستطاعوا تحقيق بعض المكتسبات وفكّ القبضة القنديلية إلى حد ما.
وكان قادة “قسد” القنديليون قد نسجوا علاقات وثيقة مع مراكز القوى في البنتاغون والـ”سي آي إيه” وكسبوا ثقتهم عبر قدرتهم على الانضباط والتنظيم والقرار المركزي الذي يحكُم قواتهم، بينما فشل العنصر العربي في ذلك. كيف لا في خضم الفوضى وعدم الانضباط والتنظيم وغياب التخطيط والقرار المركزي في المجلس العسكري الذي عيّنته قيادة “قسد”، القنديلية أصلاً، إمعاناً منها في ترسيخ هذا الحكم لدى القيادة العسكرية الأميركية في المنطقة، مع التنويه أن غالبية المقاتلين وضحايا المعركة ضد “داعش” كانوا عربا من أبناء المنطقة.
والبادي، من خلال الوقائع في شرق سورية، أن هناك توافقا على أن اعتماد “قسد” حليفا أميركيا محليا يكون في وجه تنظيم الدولة الإسلامية فقط. لذلك لم نشهد أي قتال حقيقي مباشر بينها وبين مليشيات إيران، لا يخفى على القارئ نفوذ النظام الايراني على قيادة حزب العمال الكردستاني في قنديل المحاذية للحدود الإيرانية مع السليمانية، ولديها قادة من كرد إيران في المنطقة. بالتالي، من الصعوبة بمكان أن نشهد قتالا بين الطرفين في سورية، إلا اذا حاول قادة “قسد” من الكرد السوريين في لحظة ما الاستقلال عن نفوذ “قنديل”، وتقديم أوراق اعتمادهم لواشنطن للفوز بحمايتها ودعمها من خلال انخراطهم بصراعٍ كهذا، وهو احتمالٌ ضعيف.
تنظيم الدولة الإسلامية
كانت البادية العراقية السورية من الأنبار والرمادي والموصل، وصولا إلى الشامية وريف الحسكة والرقّة وأطراف ريف حلب، منطقة جغرافية ينشط فيها تنظيم الدولة الإسلامية بنسخته الأم الذي أعلنه أبو مصعب الزرقاوي، وصولاً إلى ولاية أبو بكر البغدادي والقرشي وبقايا التنظيم في سورية. ويتبع غالبية أهل هذه المنطقة المذهب السنّي، وتنشط بها طرق صوفية بعيدة عن التطرّف يكسوه شعورعروبي مرتفع، سُلط عليهم هذا التنظيم، وحاصرتهم قوى طائفية وقومية وسط تخلي الدولة في العراق، ولاحقا سورية، عنهم، ما شكّل بيئة مناسبة لنمو تنظيم داعش، والتي وجد فئة من الأهالي أنفسهم مضطرّين للذهاب إلى هذا المسار الانتحاري، بينما حاولت فئات واسعة مجابهته فتمت تصفية مجموعات كبيرة، وصلت إلى ذروتها في مجزرة الشعيطات، حيث قتل “داعش” 367 شخصا من الأهالي، حسب تقديرات الشبكة السورية لحقوق الإنسان. وكان هذا العامل المباشر للدخول ضمن تحالف “قسد” برعاية واشنطن لمحاربة التنظيم لاحقاً. بقيت لهذا التنظيم خلايا نائمة وأخرى ناشطة بين حين وآخر، مع مؤشّرات على وجود نزعة مستترة حياله، عند فئة من السكان هناك تحت تأثير عدّة عوامل، ذكرت سابقا، إضافة إلى الانتهاكات التي تعرّضوا لها هم أو أقاربهم على يد عناصر قنديل وفي سجون “قسد”، أو على يد النظام ومليشيات إيران. والخشية حاليا من استثمار بقايا التنظيم المعركة الجارية في ريف دير الزور، والدخول على خط المواجهة مع قدرته على جلب الدعمين، العسكري والمادي، من جهات مستترة في نعت الأهالي هناك بالتطرّف، وهو ما تروّجه قيادة “قسد” القنديلية، ومعرفتها بأنهم يحاربون فلول التنظيم. وبالتالي، سيكون الأهالي مجدّدا أمام خيارات كارثية بعضها انتحاري، قد يتغير معها المشهد بشكل درامي، لنجد أنفسنا أمام محرقة جديدة يدفع إليها الأهالي.
استثمار المعركة
على الفاعلين المحليين استثمار المواجهة الشديدة من أهالي دير الزور عناصر “قسد” القنديلية، لتحقيق أكبر مكاسب ممكنة لصالح المنطقة، وعدم الانجرار لصراع مفتوح وصفري، في ظل عدم تكافؤ موازين القوى وغياب داعم عربي أو إقليمي، وتربّص قوىً لديها مشروع غير وطني وعابر للحدود، والقبول، في لحظة ما، بالجلوس إلى طاولة المفاوضات، من دون غالب أو مغلوب، يتمثل استثمار المواجهة في: إدارة المنطقة خدميا وإداريًا بشكل كامل من مجالس مدنية منتخبة من أبناء المنطقة؛ تشكيل مجلس عسكري من الفاعلين المحليين، يتم اختيار قيادته على أسس عقائدية مهنية وكفاءة عسكرية، وضمن معايير أخلاقية وسلوكية محدّدة؛ استثمار حصة مناسبة من موارد المنطقة، خصوصا البترول والغاز لتنمية المجتمع المحلي، ودعم المؤسّسات الخدمية. ولاحقا، يمكن الحوار من أجل إزالة أسباب الصراع وعلاج نتائجه وإيجاد آلية متوازنة على صعيد اتخاذ القرارات عسكريا أو سياسيا، ويجب أن تكون واشنطن راعية رئيسية لهذا الاتفاق.
ما دون ذلك سيكون جرعة تخديريه للأهالي، وستنفجر مجدّدا صراعات، وربما تتطوّر لتعيد إنتاج حالة من الفوضى والتطرّف والتخندق القومي سيكون الخاسر الأكبر والوحيد فيه الأهالي.
العربي الجديد
—————————
تركيا والتطورات في دير الزور/ محمود سمير الرنتيسي
تتابع تركيا التطورات في دير الزور، وتحول معارضة القبائل العربية لصراع مسلح الأسبوع الماضي ضد قسد والتي لا ترى فيها تركيا سوى فرع حزب العمال الكردستاني في سوريا والذي تنظر له تركيا كعدو، وتعتبر تركيا أن تنظيم حزب العمال الكردستاني وحزب الاتحاد الديمقراطي تعامل بإهانة واحتقار لسكان المنطقة بنفس الطريقة التي تعامل بها النظام.
وترى تركيا أن الأمور وصلت إلى مرحلة من عدم التحمل، وبالتالي تعتقد تركيا أن فكرة قسد وهي انضواء مكونات عربية تحت اسم قوات سوريا الديمقراطية بقيادة فعلية لحزب العمال قد وصلت إلى نهايتها. وتعتقد أيضا أن هذا يدعم روايتها الأولى أن قسد هي مجرد غطاء لوحدات حماية الشعب وأنه كان يتم استخدام المكون العربي لإظهاره بصورة إيجابية فقط.
وفقا للباحث التركي مراد أصلان فإن الأميركان أيضا مشاركون في وصول الأمر إلى هذه النقطة فهم قد سلموا لحزب الاتحاد الديمقراطي ثلث سوريا بما فيها المناطق النفطية، وقد تعامل الأميركان مع سكان المنطقة من العرب أنهم دواعش محتملون ولهذا تم تقديم معلومات مضللة عن المنطقة، وبقوا مهوسين بإبقاء سكان دير الزور تحت السيطرة. لقد كان الأميركيون من وجهة نظر تركيا راضين أيضا عن إنشاء مصدر دخل لقسد عبر تشغيل موارد النفط التي تعتبر مملوكة لكل الشعب السوري وبيعها بشكل سري للنظام وكان ينظر إلى المكون العربي على أنه عائق أمام استمرار هذا المسار.
كما حاول حزب الاتحاد الديمقراطي الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني فرض تفكيرهم الإيديولوجي على العرب في المنطقة فضلا عن عمليات التغيير الديموغرافي. يضاف لما سبق التجنيد القسري لأبناء المنطقة وتوجيههم لتنفيذ أعمال ضد تركيا ويشار هنا إلى التفجير الأخير الذي تم تنفيذه في شارع الاستقلال في تركيا حيث أثبتت التحقيقات التركية أن الشباب العرب تم توريطهم وتجنيدهم من حزب العمال.
يستطلع هذا المقال عددا من التوجهات التركية تجاه ما يجري في دير الزور من خلال التصريحات والكتابات والمقالات والتحليلات التي تناولها كتاب ومحللون أتراك. وفي هذا السياق ذكر بعض الكتاب الأتراك أن تنظيم قسد يحاول تقسيم سوريا برعاية الولايات المتحدة وجعل العرب أقلية وأن ما يجري هي ثورة جديدة ضد حزب العمال الكردستاني وحزب الاتحاد الديمقراطي تحمل أفكارا أيضا لتحدي النظام الأميركي في المنطقة.
لقد جاء التصريح التركي الأبرز على المستوى السياسي من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عندما قال في تعليقه على الاشتباكات إن العشائر العربية هي صاحبة المكان وإن حزب العمال هم إرهابيون. كما أشار أردوغان إلى أن كل سلاح يقدم لقسد يخدم سفك الدماء وتعطيل وحدة أراضي سوريا والعراق، وتشي هذه التصريحات بانحياز تركي إلى طرف من حيث الموقف المبدئي النظري وهذا أمر متفهم ولكن لم يبرز حتى الآن سوى مؤشرات قليلة على دعم ملموس للعشائر في ساحات القتال.
من جهة أخرى جاء تصريح قوي آخر من وزير الخارجية التركي هاكان فيدان قال فيه يجب أن تنتهي مرحلة إظهار تنظيم بي كي كي وبي واي دي الإرهابي (في سوريا) أنه قوة شرعية وإلا فإن ما نراه حاليا (في دير الزور من انتفاضة العشائر العربية ضد التنظيم الإرهابي) سيكون مجرد البداية. ولعل هذا التصريح يحمل ملامح لإمكانية الدعم التركي للعشائر العربية بشكل أكثر وضوحا.
من زاوية أخرى تابع الأتراك باحتفاء مشاهد سيطرة العشائر العربية على قرى في دير الزور ومشاهد هروب قوات حماية الشعب أمام العشائر العربية.
يركز موقف تركيا على اعتبار قسد عنصرا أجنبيا في منطقة دير الزور، وكما يرى الكاتب في صحيفة يني شفق ندرت أرسانيل فإن موقف تركيا بأن العشائر العربية هي صاحبة المكان هو إعلان عن دعم للعشائر العربية ضد حزب العمال الكردستاني ومن ورائهم سياسة الولايات المتحدة الداعمة لهم شرقي سوريا.
وبالطبع فقد أشار مظلوم عبدي قائد قسد إلى أن الهجوم على دير الزور منسق بين تركيا والنظام ضمن مخطط مشترك، ولا يمكن تأكيد هذا الأمر لكن إنهاء هيمنة قسد في دير الزور مصلحة تركية لا شك فيها.
كما ذكرنا يبدو الموقف التركي مساندا بشكل نظري وهو في طور التطور ومن المرجح أن تسفر الأيام المقبلة عن موقف ودور تركيا العملي في هذه الأحداث بشكل أكثر وضوحا.
تلفزيون سوريا
——————————
قسد إذ تفشل في السويداء وفي دير الزور/ عمر قدور
اتهم ناشطون من السويداء قسد بأنها وراء دعوة إلى الفيدرالية، أُطلقتْ من تنظيم لا يملك حيثية شعبية في المحافظة، وأتت دعوته خلافاً لما يردده المتظاهرون يومياً في الساحات. الزعيم الروحي حكمت الهجري، عشية المظاهرة الكبرى التي تداعى إليها المنتفضون يوم الجمعة، أبدى أيضاً في حديث أمام وفد زائر استهجانه طرح الفيدرالية مؤكّداً على “الطابع الوطني” لمطالب المتظاهرين.
هناك اتفاق بين غالبية نشطاء الحراك في السويداء على أن إطلاق دعوة إلى الفيدرالية يخدم الأسد في هذه الظروف، إذ يُظهر انتفاضة السويداء كمشروع انفصالي، ويجرّدها من أحقية النطق باسم معاناة السوريين عموماً. خاصة أن أبواق الأسد لم تقصّر منذ الساعات الأولى لانطلاق المظاهرات في ترويج تهمة النزعة الانفصالية، وصولاً إلى ربطها بإسرائيل عبر الطائفة الدرزية هناك، وإعادة سيناريو 2011 باتهام المتظاهرين بقبض 20 دولاراً والمتظاهرات 35 دولاراً!
توجيه الاتهام إلى قسد يكتسب مصداقية من تفاصيل الطرح نفسه، إذ حملَ الدعوة إلى إدارة ذاتية شبيهة جداً بالإدارة الذاتية الكردية، ومن المعلوم أن الأخيرة نشطت في أوروبا خلال السنوات الأخيرة لاستقطاب ناشطين سوريين عرب، وعُقد العديد من اللقاءات في مدن أوروبية، والبعض منها برعاية وتمويل من مراكز غربية. هذا الانفتاح على المعارضين العرب يُسجَّل للإدارة الذاتية، لكن بقدر ما يبتعد عن ظاهرة الاستزلام التي لا تخدم على المدى البعيد لا المعارضين الأكراد ولا العرب. وهي ظاهرة لصيقة بما نصفه بالتبشير السياسي الذي تمارسه الإدارة في موضوع الفيدرالية، بوصفها الحل السحري لمشاكل جميع “المكونات” السورية.
من وجهة نظر الداعين إلى الفيدرالية، السويداء جاهزة لهذا الحل مع وجود غالبية درزية أثبتت تماسكها خلال ظروف الثورة الاستثنائية أكثر مما فعلت الجماعات السورية الأخرى، ويسهّل تواجدها في حيز جغرافي واضح إنشاءَ كانتون خاص بالدروز. وهو كله، إذا صحّ على هذا النحو، يبقى عديم الانتباه إلى العوامل الأخرى، لأن همّ واهتمام أصحابه منصبّان على الجانب الهوياتي بلا التفات يميناً أو يساراً.
هذا النزوع الهوياتي صار بمثابة أيديولوجيا قد لا تبقى بعيدةً بأدواتها عن الشموليات التوتاليتارية، وبموجبه يجري تهميش عناصر أخرى لا تقل أهمية، بل قد تزيد لناحية الاستمرار والديمومة. من ذلك ما يقدّمه لنا مثال السويداء نفسه بالمقارنة مع مثال الإدارة الذاتية الكردية، فالسويداء لا تمسك بعصب سوريا المائي، وليس فيها آبار للنفط، كما هو حال مناطق الإدارة الذاتية. باختصار، العوامل الاقتصادية الخاصة بالسويداء تجعل من مطلب الفيدرالية غير موجود في قائمة أولويات المنتفضين، والتمسك بالوطن السوري له نصيب من الواقعية، ولو أن فكرة الوطن تهتكت وانتُهكت على معظم مساحة سوريا.
وألا تكون الفيدرالية في أولويات السويداء فهذا لا يجعلها متشبثة بنظام استبدادي مركزي كالذي تنتفض عليه، وإنما يجعلها تولي لقضية التغيير الديموقراطي تركيزاً أشدّ من التفكير في النظام السياسي التالي على التغيير. وفق هذه الأولويات، لا يقدّم نموذج الإدارة الذاتية إجابات على متطلبات السويداء، ورفضه من قبل أهاليها لا ينطوي على عصبية عروبية مقابلة للعصبية الكردية، ولا ينطوي أيضاً على مطامع هيمنة عروبية على شاكلة البعث الذي تواصل السويداء اجتثاثه بطريقتها الهادئة غير الانتقامية.
وتشاء المصادفات (؟) أن تندلع المعركة بين قسد والعشائر العربية في دير الزور، بالتزامن مع انتفاضة السويداء. ومما كشفته المعركة أن أهالي دير الزور يشعرون بالغبن من قسد والإدارة الذاتية، ويعانون من عدم تمثيلهم التمثيل المستحق في إدارة شؤونهم، وقد اعترف مظلوم عبدي نفسه في لقاء مع وكالة رويترز بأخطاء وتقصير الإدارة وأقرّ بوجود خلل تمثيلي. لكن من المعلوم أن الأمر يتعدى التقصير والأخطاء إلى ما هو ممنهج، فالإدارة الذاتية التي يهيمن عليها الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني تقدّم نموذجاً تشاركياً على الصعيد الشكلي فقط، وثمة كثر يشبّهونه بنموذج الجبهة الوطنية التقدمية التي يقودها حزب البعث، وهناك إحساس حاد بالتهميش لدى المكونات الأخرى غير الكردية، فوق الشكوى الكردية من استئثار الحزب المذكور بمفاصل السلطة وتهميش خصومه الأكراد.
أي أن الإدارة الذاتية، المتهمة بمحاولة استغلال انتفاضة السويداء لترويج نموذجها، تقدّم في الوقت نفسه مثالاً ساخناً على فشلها في دير الزور، فوق الأمثلة المستدامة على ضعف المحتوى الديموقراطي لتجربتها. واتهام الإدارة سلطة الأسد بتحريك عشائر دير الزور ضدها لا يغيّر من واقع التهميش الذي قد تستغله أية جهة، سواء كان الأسد أو إيران أو روسيا أو تركيا. نعني أن المشكلة هي في نموذج الإدارة الذاتية، ونلخّصها في جانبين؛ الأول منهما هو ضعف المضمون الديموقراطي للتجربة عموماً، ووجود سياسات تمييزية تشكو منها المكونات غير الكردية، أما الجانب الثاني فهو عدم تقديم تصوّر واقعي لفيدرالية المستقبل بما أن الإدارة لا تطرح الانفصال عن سوريا أو تقسيمها.
في الواقع، تبدو أشبه بالنكتة أقوال أنصار الإدارة الذاتية إذ تنص على أن مستقبل سوريا هو في تعميم تجربة الإدارة، ومن المستحسن “بدلاً من ذلك” تقديم مشروع إلى السوريين يحدد الجغرافيا التي تطالب بها الإدارة الذاتية في سوريا المستقبل، ويلحظ بشكل عميق موضوع توزيع “الثروة”، لأن ما لا يُعلن في هذا الجانب شديد الأهمية، وهناك الكثير من الاقتتال مدفوع أصلاً بالسيطرة على الأراضي الزراعية والمياه وأخيراً النفط. نشير مثلاً إلى أن أولى محاولات الفتنة بين الأكراد والعرب كانت وزارة النفط سبّاقة فيها، عندما ألغت في مستهل عام 2012 عقد “حراسة” آبار نفط مع وجيه عشائري ومنحته لكردي من منظومة حزب العمال، والمسألة ليست في أحقية أي طرف منهما بل في الصراع على المكاسب.
ومن المستحسن أيضاً أن تكفّ منظومة الإدارة الذاتية عن طرح نموذجها للتعميم، لا لعثراته فقط، وإنما لاختلاف مطالب ومتطلبات باقي السوريين، وليس صحيحاً على الإطلاق أن اللامركزية إما أن تكون متساوية أو لا تكون. اللامركزية المتساوية “المتناظرة” هي جزء فحسب من تنويعات فيها تجارب دولية عديدة من اللامركزية المتفاوتة، وبموجب الأخيرة قد يحصل إقليم أو كانتون على ميزات مختلفة عما يريده الآخرون.
رُفعت في الأسبوع الأخير لافتات عديدة موجَّهة من متظاهري السويداء إلى الإدارة الذاتية، في المنحى الذي يرفض استثمار الأخيرة في انتفاضتهم. وإذا افترضنا حسن النية فإن الإدارة تطمح إلى إثبات صواب نموذجها، لكن إثباته “إذا كان صالحاً حقاً” لا يمرّ من السويداء؛ إنه يمرّ أولاً من دير الزور والرقة والقامشلي، سواء بالترتيب المذكور أو بدءاً من القامشلي.
المدن
——————————
الجزيرة السورية وغياب القيادة/ عدنان علي
المواجهات الأخيرة بين أبناء العشائر العربية في شرقي سوريا و”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، القوة المسيطرة على المنطقة بدعم من التحالف الدولي، تشير مجددا إلى واقع التشتت، وغياب القيادة والمرجعية لدى عرب الجزيرة السورية، وهو ما يشكل نقطة ضعف أساسية في سعيهم لتثقيل وزنهم، وتحصيل حقوقهم إزاء الأطراف المختلفة الساعية للسيطرة على مناطقهم.
إن منطقة الجزيرة السورية التي تشكل خزان النفط والغاز والقمح والقطن لمجمل سوريا، كانت حتى قبل عام 2011 مهملة إلى حد بعيد لدى نظام الأسدين، الأب والابن، ولا ينظر إليها إلا كمصدر للطاقة والغذاء، مع أدنى اهتمام بتوفير بنى تحتية وخدمية لأهلها، الذين اكتفى النظام باصطفاء بعض وجهائها الحقيقيين أو المصنعين أمنيا، بوصفهم ممثلين عن محافظاتها الثلاث، دير الزور والرقة والحسكة، فضلا عن ريف حلب الشرقي الذي يشكل امتدادا لهذه المناطق من ناحية البنية السكانية، وتمثيلهم في بعض هياكله غير الفاعلة مثل حزب البعث و”مجلس الشعب”.
وبعد الثورة السورية عام 2011، وخلافا للمكونات الأخرى في شرقي سوريا، لم يتمكن عرب الجزيرة من تنظيم أنفسهم في إطارات عسكرية وسياسية وازنة، وتوزع أغلبهم على الهياكل التي شكلها الآخرون، فقسم منهم حافظ على ولائه للنظام في دمشق، وقسم انخرط مع المعارضة السورية المدعومة من تركيا وآخرون انضموا لتنظيمات متشددة سائدة بما فيها “داعش”، بينما حظيت فئة قليلة بدعم أميركي مباشر في قاعدة التنف الحدودية. ومع ظهور ما يسمى بـ “قسد” استقطبت جزءا هاما منهم في هياكلها العسكرية والأمنية والإدارية المختلفة.
وبرز هذا الخلل، أي غياب القيادة الموحدة للعشائر العربية في الجزيرة السورية، بشكل جلي خلال المواجهات الأخيرة مع “قسد” بعد اعتقال قائد مجلس دير الزور العسكري أحمد الخبيل، والذي جاء اعتقاله في الحقيقة من جانب “قسد” لهذا السبب بالذات، أي محاولته أن يكون ومجلسه العسكري مركزا لثقل العشائر العربية في مواجهة قسد، برغم أنهم نظريا، جزء من “قسد” عسكريا وإداريا. والحجج التي ساقتها “قسد” بشأن أسباب الاعتقال، بأنه شخص فاسد وله ارتباطات مع النظام السوري والإيرانيين، قد يكون لها قدر من الصحة، لكنها ليس هي سبب قرار قسد بإزاحته عبر كمين غادر، بل لأنه من وجهة نظرها كبر أكثر من المسموح به، وبات يسعى للعمل لحسابه الخاص، وليس لحساب قسد، مستغلا بعض الموارد من أموال التهريب مع النظام، والأهم مستفيدا من حالة الاحتقان الشعبي ضد قيادة قسد، وخاصة ما يتعلق بسياسة التجنيد الإلزامي التي تتبعها، مع إهمال المحافظة من ناحية الخدمات والمشاريع التنموية، ومحاولة فرض مناهج تعليمية لا تنسجم مع عادات وقيم أهالي المنطقة.
وقد هب أبناء العشائر ضد قسد، ليس نصرة للخبيل الذي يعلمون من يكون، بل تعبيرا عن ضيقهم المتراكم من سياسات قسد خلال السنوات الماضية، وتطلعهم لحكم مناطقهم بأنفسهم، حيث لا مبرر لأي مكون آخر ليس له وجود أصلا في مناطقهم، ليستأثر بدعم التحالف الدولي، ويحكمهم مستفيدا من علاقته مع التحالف، والأجدر أن تكون علاقتهم مع هذا التحالف، الذي يسيطر عسكريا على المنطقة، بشكل مباشر، وليس عبر الوكيل الكردي، وهذا ما تضمنته في الواقع أغلب المطالب الصادرة عن وجهاء العشائر، بمن فيهم الشيخ الشاب إبراهيم الهفل شيخ عشيرة العكيدات الذي برز في الأحداث الأخيرة كرأس حربة في المواجهة مع قسد.
من المفهوم أن تتمكن “قسد” من احتواء هذه الانتفاضة العشائرية، بحكم أنها أقوى عسكريا، تسليحا وإدارة، وما زالت تحظى بثقة التحالف الدولي، بينما أبناء العشائر الذي اعتمدوا أسلوب الفزعات العاطفية، ليس لديهم تسليح كاف، ولا إدارة موحدة، وكان من الطبيعي أن ينكفئوا إزاء أية قوة عسكرية مسلحة جيدا ومنظمة، وتحظى بشرعية من جانب الدولة الأكبر المسيطرة على المنطقة، أي الولايات المتحدة.
غير أن قسد تدرك ولا شك أن هذا الانتصار العسكري لا يشكل أية ضمانة لها لدوام حكم المنطقة، لأنها إذا لم تحظ بثقة المجتمع المحلي، فلن تتمكن من مواصلة السيطرة عليها، ويمكن لأبناء العشائر إذا لم يتم استرضاؤهم أن يثيروا لها المتاعب، ويجبروها على البقاء في حالة استنفار وتحفز، وبالتالي تسخير جزء كبير من مواردها لإحكام السيطرة على تلك المناطق، بينما هي مهددة وجوديا من قوى أخرى في الشمال السوري، على رأسها الدولة التركية، فضلا عن النظام السوري والإيرانيين الذين يتربصون الفرصة للانقضاض عليها، مع محاولة استمالة جزء من العشائر لصالحهم.
والحقيقة أنه رغم انعقاد بعض المؤتمرات باسم عشائر شرقي سوريا اعتبارا من العام 2012، لكن حتى الآن لم تبرز قيادة عشائرية حقيقية للجزيرة السورية، لا عبر هيئة تمثيلية ولا حزب سياسي، يمثل مصالح أهالي المنطقة، وأسهم في ذلك ولا شك هجرة كثير من الكفاءات خارج سوريا، إضافة إلى الخلافات والتنافس بين زعماء العشائر الذين تتقاذفهم الولاءات المختلفة.
وبطبيعة الحال، ليس المقصود من كلامنا هنا، إقامة أحزاب على أساس عشائري أو قومي أو ديني، بل أن يكون للمنطقة بكل مكوناتها، تمثيل حقيقي يعكس الوزن الديمغرافي لكل مكون، بعيدا عن الاختلال الحاصل اليوم، حيث تدعي قسد تمثيل كل مكونات المنطقة، بينما يهيمن عليها في الحقيقة مكون واحد، يخضع بدوره لسطوة قوة أخرى من خارج الحدود في جبال قنديل بين تركيا وسوريا والعراق.
تلفزيون سوريا
———————————-
حراك عشائر العقيدات ضد قسد بين الوعي العشائري والوطني ودور حقول النفط/ أحمد جاسم الحسين
أخذ الصراع الدائر بين قسد وأحد مجالسها العسكرية بداية، بعداً عشائرياً واضح المعالم، بين قبيلة العقيدات وقوات قسد، بعد دخول الشيخ (إبراهيم خليل عبود الجدعان الهفل العبدالله العلي الظاهر) عبر رسالة صوتية واضحة الدلالة والرسائل، وهو ينوب عن أخيه الأكبر الشيخ مصعب، المقيم في دولة قطر. وما اجتماع مئات من المتحمسين من أبناء القبيلة أمام مضافته في بلدة ذيبان إلا نوع من النخوة العشائرية. حيث شكلت مواجهة قسد فرصة لشد عضد القبيلة والمشيخة في مرحلة تفتت كبير للوجهاء الاجتماعيين والشبكات الاجتماعية التقليدية في سوريا عامة، بعد أن سحبت الميليشيات وقوى الأمر الواقع والنظام معظم رأسمالها الرمزي وأدوارها.
وبحسب ما ورد من معلومات فإن نداء مشيخة العقيدات جاء بعد تمنع قادة قسد والتحالف من الرد على وساطاته بشأن المجلس العسكري وتراكم المطالبات بقضايا خدمية وحدوث اعتقالات تعسفية لأبناء ريف دير الزور بحجة داعش، إضافة إلى الامتناع عن السماح لعدد من المقيمين بمخيم الهول من أبناء قبيلة العقيدات بالخروج منه لتبقيهم قسد أداة ضغط دولية ومتاجرة بين يديها.
ومن المهم توضيح أن هناك الكثير من الخلافات داخل قبيلة العقيدات بين عشائر البوكامل (ممن تنتمي إليهم المشيخة) وعشائر البكيّر ممن ينتمي إليهم (أحمد الخبيل) وهو خلاف له جذوره القريبة، خاصة في مرحلتي داعش والنصرة، حيث كان للنصرة حضور كبير في البوكامل (الشحيل خاصة) فيما ناصر الكثير من أبناء البكيّر داعش. لكن اقتضت المصلحة العامة للقبيلة الآن، الوقوف مع أبناء العمومة ضد قسد واعتداءاتها، ولعل هذا كان واضحاً في عدد من تسجيلات شاهدناها، تؤكد أن الحراك ضد قسد لا يأتي مناصرة لأحمد الخبيل أو المجلس العسكري، (هناك خلاف معهم وعتب شديد عليهم) بل رداً على اعتداءات قسد عامة وتهميشها المنطقة وأبنائها وعشائرها ونهب ثرواتها، ربما يكون سببه الرئيس الاعتداء على عشيرة (أبو خولة).
يشار إلى أن قبيلة العقيدات والعشائر المتحالفة معها في دير الزور، هي القبيلة الأكبر، (نحو نصف مليون)، تعيش على امتداد جزء من نهر الخابور، ونهر الفرات بضفتيه في كامل ريف دير الزور الشرقي (250 كم طولاً تقريباً) مروراً بمنطقتي الميادين والبوكمال. ومشيخة الهفل هي المشيخة المركزية للقبيلة (عيال الأبرز) عبر أكثر من مئتي عام، في عموم سوريا والوطن العربي. وللقبيلة تحالفاتها مع القبائل الأخرى. ولها خلافاتها القديمة مع بعض القبائل، من مثل قبيلة شمر، وما محاولة إدخال فرقة الصناديد من قبل قسد على الخط (وهي من قبيلة شمر)، إلا إذكاء لروح لخلافات عشائرية بين العقيدات وشمر ووقعات عسكرية كان آخرها مطلع ثمانينات القرن العشرين.
يذكر أن التحالف الدولي لديه مجلس عشائر واجتماعات دورية معهم وعلى اطلاع ومعرفة بما يحدث، والحديث عن قسد فحسب، نوع من التغاضي عن تحميل المسؤولية للتحالف الدولي، الذي لولاه لكان إخراج قسد سيتم خلال فترة قصيرة من كل منطقة ريف دير الزور، لأن حجة داعش انتهت، ولا أرضية شعبية لها هناك، ولا مصلحة لها بالبقاء في منطقة تحتاج إلى دولة كي تخدّمها، نظراً لسعة المساحة الجغرافية والطابع العشائري التعاضدي، لكن الأميركيين والغربيين عامة بطيئو التحرك فيما لا يتعلق بهم مباشرة، وينتظرون في مرات كثيرة ما يجري على الأرض ليتحركوا!
هل يمكن الحديث عن انتصار عسكري لعشائر العقيدات أو قسد فيما لو تطور النزاع بينهما؟
من الصعب الحديث عن تكافؤ عسكري بين الطرفين، لأن العشائر المكونة لقبيلة العقيدات لديها أسلحة فردية غالباً، إذ سبق أن جمعت قسد الأسلحة الثقيلة في ما بعد مرحلة داعش، ربما ستنتصر قسد مرحلياً، كونها مدعومة من التحالف الدولي، لكن القبيلة ستكون مصدر إزعاج لقسد والقوات الدولية والإنتاج النفطي، بل إنني أرجح أن عدداً من أبنائها سيمد يديه لقوات النظام بهدف إزعاج قسد والتحالف.
وقتها، ستلجأ عشائر العقيدات، إلى أسلوب المناوشات والاغتيال، خاصة أن الكتلة الصلبة للعقيدات المتمثلة بـ (البوكامل) ممن يقطنون في ذيبان والشحيل وما يحيط بهما مشهورة بشراستها وشجاعتها، ولها سردياتها تجاه الاحتلال الفرنسي والقبائل الأخرى، أما من جهة قسد فسيتمّ إحياء فكرة داعش ثانية لكي تسوغ عنفها ضد السكان المدنيين هناك، لا مصلحة للطرفين بإطالة أمد النزاع هناك وأحيب أن التحالف الدولي سيعلن كلمته ويهدئ الأمور، إذ لا مصلحة له بفقدان القاعدة الشعبية خاصة أن الميليشيات الإيرانية تبعد كيلومترات قليلة.
يُشار إلى أن هناك الكثير من العشائر ممن تنتمي للعقيدات لن تشارك في الصراع مع قسد، نتيجة آثار الخلافات في مرحلتي النصرة وداعش فيما بينها وكذلك وجود تقاطع مصالح مع قسد. أو على الأقل ستتريث كثيراً في المشاركة بخاصة الشعيطات، لو افترضنا أن مرحلة النزاع ستطول، مع ترجيح فكرة أن الأمور ستهدأ، لأن العرف العشائري الراجح عند المشيخة، منذ عشرات السنين يتمثل في التفاوض مع السلطات الحاكمة ومحاولة تحصيل مزيد من الحقوق للمشيخة والعشائر، وتلك السياسة القبائلية في التعامل مع سلطات الأمر الواقع والدولة السورية رسخها الشيخ الأبرز، (جد الشيخ إبراهيم)، الشيخ عبود الجدعان الهفل الذي كان عضواً في مجلس الشعب فترة طويلة، وقد كان حافظ الأسد يستقبله دورياً، وكان مشهوراً بحكمته وحنكته السياسية والقبائلية. ولا بدّ من الإشارة إلى أن الموقف داخل القبيلة وعشائرها في مراحل الثورة السورية، قد مر بتحولات في مراحل الجيش الحر والحضور الموارب للنصرة (2012-2014) وداعش (2014-2019) وقسد (2019-2023) وقد تضمن الكثير من الاصطفافات وتغير الولاءات بين أبناء الفخذ الواحد. ولا ينسى الأهالي أنه في مرحلة الجيش الحر (2012-2014) قد سيطروا على معظم الآبار النفطية، حيث طردت سلطات النظام السوري من هناك، أو تعمدت الرحيل أحياناً، لعدم قدرتها على إخماد الثورة من جهة، وكذلك لتعزيز الخلافات بين الكتلة الصلبة لعشائر العقيدات نتيجة الخلافات حول الأحقية بآبار النفط وبيعه من جهة أخرى، بهدف إضعافها، وتفتتيتها، وهو ما ترك آثاراً سلبية لاحقاً على العشائر في مرحلة داعش وما بعدها.
يُذكر أن علاقة قسد بالمنطقة وسوء الخدمات واستغلال نفطها عوامل ذات أثر كبير في الحراك العشائري ونداء المشيخة، ولا بد من توضيح أن حقل العمر النفطي الذي كان ينتج أكثر من 150 ألف برميل نفط يومياً، يقع في أراضي فخذ البوكامل (المشيخة جزء منه)، وصكوك الملكية العثمانية فضلاً عن الأعراف العشائرية، تؤكد ذلك، حيث إنه يقع في واجهة أراضيهم من جهة البادية، بل إن اكتشافه منتصف ثمانينات القرن الماضي كان ضمن المناطق السكنية، لكن شركات الإنتاج والحكومة السورية آنئذ فضلت أن يكون الحفر على مسافة كيلومترات قليلة باتجاه البادية. ويتحدث الأهالي هناك عن تصدعات في الأبنية نتيجة انخفاض ضغط الأرض بعد استخراج النفط والغاز منها، وقد سمعتُ إبان زيارتي لأهلي العام الماضي هناك أحاديث كثيرة حول أن نفطنا يأخذه “الكرد” والقنديليون لتنمية مناطقهم، فيما تعاني مناطقنا من انعدام الخدمات والتعليم وانتشار الأمراض الناجمة عن استعمال الأسلحة!
السؤال: هل هذا التحرك يدخل في الوعي العشائري فحسب أم أنه عشائري على طريق الوعي الوطني وما بوصلته؟
من الصعب التنبؤ بمآلات ذلك الحراك ونتائجه، لكن لا يمكننا بناء الكثير من التفاؤل عليه إلا من جهة كونه حراكاً مقاوماتياً فاعلاً في الشخصية السورية التي باتت متمسكة بقيم الحرية والثورة على سلطات الأمر الواقع وغير مستعدة لتحمل الظلم والتجويع. وهذا الوعي العشائري بحاجة إلى متابعة وتوظيف ضمن الأهداف الوطنية السورية لمطلب الحرية، ليأخذ مكانه في سياق الحراك الوطني السوري الثائر ضد النظام ومحاولات إذلال السوريين، كي لا يبقى بصفته نخوة وفزعة عشائرية، مع الإقرار بجمالية تلك الفزعة والنخوة!
ويلاحظ من يزور المنطقة أنه ثمة شوق لدى الأهالي لسلطة الدولة (وليس لسلطة نظام الأسد) لجوانب خدمية واعتبارات اجتماعية والتخلص من وجهاء السلاح والشبيحة، إضافة إلى الرغبة باستعادة التعليم نظراً لوجود جيل كامل من الأطفال والشباب الأميين، وبالتالي صار لدينا “قطيعة أمية” بين جيلين، سأذكر مثالاً عليها، هناك عائلة كبيرة واحدة مكونة من 30 فرداً تنقسم إلى:
من هم فوق الخامسة والثلاثين عاماً، خريجي جامعات.
من هم بين الخامسة والعشرين والخامسة والثلاثين، متعلمين، متوقفين عن إتمامه.
من هم بين العاشرة إلى الخامسة والعشرين، يغلب عليهم عدم التعلم وبالتالي العودة إلى منظومات بائدة في التفكير ومقاربة الحياة، ووضع هؤلاء مأساوي ويقع في سياق مشكلة الانقطاع عن التعليم سورياً وهي مشكلة اجتماعية مرعبة ستظهر نتائجها السلبية أكثر بمرور الأيام.
أخيراً: هل يمكن أن يصب تحرك المشيخة القبلية والعشائرية (في ريف دير الزور) ضد سلطات الأمر الواقع (قسد) في نفس خانة أهداف تحرك المشيخة الدينية والشعبية في (السويداء) ضد النظام مثلاً؟ وما ممكنات الوعي السياسي وتقاطعاته في المنطقتين؟ وما تحولات موقف كل منهما منذ بداية أحداث الثورة؟
وما حجم ما أصاب كل منطقة منهما من دمار وتهجير؟ وهل ستفجر المطالب الخدمية السورية مرحلة جديدة في عمر الثورة السورية؟
الأكيد أن كل هذا الحراك السوري الثوري، مهما كانت دوافعه ومآلاته، يقدم ألواناً متميزة من الشخصية السورية والمجتمع السوري في مرحلة ثورة عام 2011 وموجاتها.
تلفزيون سوريا
———————————–
ما يجري في دير الزور نقيض لحراك الجنوب أم رديف له؟/ حسن النيفي
منذ انطلاقة الموجة الجديدة للحراك السلمي الوطني في مدينة السويداء (في العشرين من شهر آب الفائت) بدأ الوعي الثوري السوري في طور جديد من التفكير لتطوير حركة الاحتجاجات الشعبية من حيث تنظيمها وإدارتها بما يخدم تلافي ما هو متوقع من أخطاء من جهة، وكذلك من جانب ديمومة هذا الحراك واتساعه وشموليته من جهة أخرى، وبالفعل وجدنا إرهاصات واضحة تحيل إلى قدرة جيدة لدى القائمين على الحراك في السويداء على التنظيم والعمل على ضبط المواقف وتشكيل اللجان التي تقوم على إدارة النشاط الشعبي فضلاً عن اللجان التي تتولى الاهتمام بالشأن الأمني والمدني العام. ولعل ما عزز تمحور الآمال على حراك السويداء هو الاستجابة السريعة والتفاعل الحي للعديد من المدن والمناطق السورية للتضامن مع حراك جبل العرب.
ولعل أبرز تلك الاستجابات من حيث الشمولية هي مدينة درعا التي لم يحل تواجد قوات النظام فيها دون انتفاضة أهلها ليشكلوا مع السويداء امتداداً جغرافياً واسعاً في الجنوب وصوتاً واحداً يعيد إلى الأذهان والنفوس معاً وهج الثورة السورية إبان طورها الذهبي في آذار 2011. أضف إلى ذلك استجابات الشمال السوري الخارج عن سلطة نظام الأسد وتحوّله في يوم الجمعة في الخامس والعشرين من الشهر الماضي إلى كتلة ملتهبة من المظاهرات التي بدأت تمتد إلى مدن الشمال الشرقي كالرقة ودير الزور، الأمر الذي أبقى الأنظار والأذهان مركزةً ومترقبةً أن تصل شرارة الحراك السلمي إلى دمشق وحلب والساحل السوري الذي بدأ يشهد تحوّلاً تدريجياً نحو انحيازه لحركة الاحتجاجات الشعبية.
إلّا أن هذه اليقظة الجماهيرية التي بدأت ترسم منعطفاً جديداً في سيرورة الثورة سرعان ما انشطر الاهتمام بها حين باغتتها الأحداث الدامية من جرّاء القتال القائم في محافظة دير الزور، هذا القتال الذي بدأ على نطاق محدود بين مجلس دير الزور العسكري وقوات قسد، لكن سرعان ما أخذ يتسع وينحو باتجاه حرب حقيقية بين مجموعة من العشائر العربية وقوات قسد. ربما كان من الصحيح أن هذه الحرب تقوّمت على تراكمات عديدة سابقة ووجدت في عملية اعتقال أحمد الخبيل (قائد مجلس دير الزور العسكري ومجموعة تابعة له) الشرارة المناسبة، إذ لا يمكن لأحد نكران الاحتقان الشعبي لدى سكان المنطقة عموماً من ممارسات سلطة قسد واستمرارها في نهجها الإقصائي وتفرّدها في حيازة القرار، فضلاً عن تدهور الأحوال المعيشية وندرة الخدمات العامة لدى أهالي المنطقة، الأمر الذي يمكن أن يضفي كامل الشرعية على أي حركة احتجاجية للمواطنين، ولكن من جهة أخرى ثمة حقائق لا يمكن نكرانها، توجب النظر بمزيد من الدقة، لعل أبرزها:
أولاً – الخلاف بين المدعو أحمد الخبيل وبين قوات قسد لم يكن خلافاً سياسياً أو فكرياً، بينما هو خلاف على حجم النفوذ من جهة، وكذلك على سلوك الخبيل الذي لم يكن سلوكه مزعجاً لقسد فحسب بل للكثيرين من العشائر التي انخرطت في القتال نصرة له، فضلاً عن أن الخبيل ومناصريه من القبائل كانوا من ضمن قوات قسد ومن المنضوين تحت لوائها حتى تاريخ انطلاقة القتال بينهما.
ثانياً – لا يمكن الزعم أن موقف العشائر العربية موحدٌ، إذ ثمة من العشائر من لا تزال تقف مع قسد، ومنها من هو في الأصل يقف مع نظام الأسد، ومنها من أعلن القتال على قسد وهو الآن ينادي بطردها من المنطقة.
ثالثاً – لندع جانباً فكرة أن نظام الأسد له دور مباشر في تأجيج هذا الاقتتال أم لا، إلّا أنه لا يمكن نفي الفائدة التي يجنيها الأسد من هكذا اقتتال، بل ربما بدا يراقب ما يجري في الميدان وهو ينتظر اللحظة المناسبة ليكون البديل عن قسد في تلك المنطقة، أضف إلى ذلك أن ما يجري في دير الزور من شأنه أن يشتت الاهتمام بما يجري في السويداء ودرعا وبقية المدن والبلدات من مظاهرات، بل ربما أعتقد أن اشتعال شرقي سوريا بحرب مباغتة كهذه من شأنه أن يقطع الطريق على استمرارية الحراك الشعبي أو تهميشه على الأقل.
رابعاً – ولعل الأهم من ذلك كله هو أن مجمل القبائل العربية التي تقاتل قسد وتسعى لطردها من المنطقة، إنما تقوم بذلك بدافع الفزعة والحمية القبلية ولا ينفي ذلك الدوافع الأخرى كالمطالب المعيشية أو المطالبة بمشاركة أوسع للعرب في إدارة مناطقهم والاستفادة من خيراتها، ولكن ما يغيب عن هذا المسعى العشائري هو المشروع السياسي، إذ لا وجود لقيادة سياسية للعشائر وإن كان ذلك لا يلغي التنسيق والاتفاق على المطالب، ومن هنا يمكن التساؤل: لو استطاع رجال العشائر إخراج قسد من جميع مناطقهم، فهل لدى تلك العشائر القدرة على إجراء حوكمة سريعة بغية إيجاد البديل الفاعل والنظيف الذي يمكن أن يقوم بإدارة تلك المناطق دون أن يكون بحاجة للدخول في ولاءات خارجية من شأنها أن تكرر النسخ الحكومية السابقة؟
وهل يمكن الركون إلى أن تلك المناطق التي انتزعها رجال القبائل من قسد سوف تبقى تحت نفوذ وإدارة أبناء المنطقة ذاتهم، وأن نظام الأسد لن يتمدد لأن يكون هو البديل؟
لعل هذه الأسئلة وسواها تقود إلى الاعتقاد بأنه لا يمكن التكهّن بما ستؤول إليه الأمور حتى لو سيطر رجال العشائر على الموقف العسكري والميداني على العموم.
ما هو لافتٌ للانتباه هو غياب موقف أميركي واضح مما يجري من قتال في منطقة واقعة تحت نفوذه، بل هو صاحب الكلمة الأخيرة والحاسمة في تقرير مصيرها، ولعل تفسير البعض بأن واشنطن أرادت الانكفاء عن التدخل المباشر فيما يجري وآثرت انتظار الوقت المناسب لكي تتدخل، بغية الضغط على قسد وإجبارها على أن يكون حضور المكون العربي في الإدارة الذاتية أكثر ثقلاً، وأنها بالنتيجة سوف تجمع رموز بعض العشائر المؤثرة من جهة والمسؤولين المتنفذين لدى قسد من جهة أخرى، لتعيد تشكيل مجلس عسكري بدون أبو خولة وجماعته؟ ربما يبدو هذا الإخراج متوقعاً لدى كثيرين، ولكن هذا الإخراج أيضاً لن يكون ضامناً من عودة القتال طالما أن العديد من قبائل المنطقة بدأت تعتقد بالفعل أن وجود كيان قسد لم يعد مُحتكراً للسلطة فحسب، بل هو مصدر تهديد لهوية المواطنين والمضي في إذلالهم وعدم إيلائهم أي دور حيوي في إدارة مناطقهم.
ربما تكون الأيام القليلة المقبل حاملة للكثير من المستجدات بخصوص دير الزور، ولكن ما هو ثابت هو أنه مهما ارتفعت وتيرة الأحداث في دير الزور، فإن شطراً كبيراً من السوريين سوف تظل قلوبهم وأذهانهم متجهة نحو السويداء وبقية المدن الثائرة، ليس إهمالاً أو عدم اكتراث لما يجري في شرقي سوريا، بل لأن الطور الجديد من الحراك السلمي في سوريا هو الحدث الأشمل والقضية الكلية التي يمكن أن يكون ما يجري في دير الزور أحد تفصيلاتها.
——————————————
هل انتهى الصراع في دير الزور؟/ عمر كوش
توقّفت الاشتباكات التي اندلعت، أخيرا، بين مليشيات قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) وأبناء بعض العشائر في مناطق من محافظتي دير الزور والحسكة، وامتدّت إلى قرى وبلدات في محافظة الرقّة ومحيط مدينة منبج، وانتهت معها الجعجعات والتحذيرات من إمكانية نشوب صراع عربي كردي في منطقة الجزيرة السورية، إذ لا تمثل “قسد” الأكراد السوريين، كونها ليست أكثر من سلطة أمر واقع، تفرض نفسها بالقوة، وبإسناد من قوات التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، على مناطق تسيطر عليها شرقي نهر الفرات، وذلك على الرغم من ادّعاءات قادة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، التي تعدّ “قسد” إحدى مخرجاته، فيما يعدّ هو أحد مخرجات حزب العمال الكردستاني التركي.
في المقابل، جاءت دعوات بعض شيوخ العشائر إلى مقاتلة مليشيات “قسد” وطردها من المنطقة، وفق منطق الفزعة ودافع العصبية العشائرية، القائمين على التضامن بين أقرباء الدم، وليس لها أي حامل سياسي، بالرغم من وجود دوافع وعوامل أخرى عديدة لسكان تلك المناطق، كالمطالب المعيشية والحياتية أو المطالبة بمشاركة أوسع لهم في إدارة شؤون مناطقهم والاستفادة من خيراتها وعوائد مواردها، كما أنه لم يجر العمل على بلورة قيادة محلية جامعة، بل تمّ الرجوع إلى الماضي القبلي، وإحياء ما يسمّى “ديوان الحرب”، الذي بدا كأنه أقرب إلى مضافة لاستعراض المظاهر، وليس لقيادة العمليات العسكرية وإدارة المعارك.
لا يمثل زعماء (بالأحرى شيوخ) العشائر الذين دعوا إلى “فزعة عشائرية” عابرة لحدود مناطق السيطرة المختلفة، جميع عشائر منطقة الجزيرة السورية ومحيطها، وأغلبهم مختلف على مشيخته من أبناء العشيرة نفسها، فضلاً عن أن معظم مشيخات العشائر متعدّدة الولاءات، ولا تبحث سوى عن الوجاهة والمكانة، حتى إن اقتضى ذلك تبديل الرايات والأعلام، كما أنها لا تتوانى عن انتهاز الفرص والمناسبات، بهدف الحفاظ على مصالحها الضيقة.
لا يعني انتهاء الاشتباكات نهاية الصراع بين مكوّنات “قسد” وأطرافها، سواء في دير الزور، أم في سواها من مناطق الجزيرة السورية، بالنظر إلى عدم معالجة مسبّبات نشوب الصراع وممكناته، خصوصا في ظل استمرار اختلاف العلاقات، واختلال التوازنات، بين مكوّنات “قسد” التي تسيطر عليها مليشيات “وحدات حماية الشعب”، الذراع العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) في سورية، فيما لا تحوز باقي المكونات العسكرية سوى على نفوذ محدود، وعلى نصيبٍ صغير من اقتصاد الحرب، القائم على تهريب النفط والمواد الغذائية والمخدّرات، فيما تستحوذ مخرجات حزب الاتحاد الديمقراطي على عوائد البترول والغاز وسائر ثروات المنطقة، التي تدرّ عليها مليارات الدولارات سنوياً، وتعمَد إلى حرمان أبناء المنطقة من ثروات مناطقهم، واتّباع سياسات الإقصاء والتضييق الاقتصادي بغية تطويع أهالي المنطقة وممثليهم.
يضاف إلى ما سبق أن مناطق الجزيرة السورية، ومعها البادية، تمتاز بكثرة القوى واللاعبين المحليين والدوليين، فهناك مليشيات “قسد”، والفرقة الرابعة ومليشيات “الدفاع الوطني” التابعة لنظام الأسد، ومليشيات إيرانية متعدّدة القوميات، وقوات التحالف الدولي ضد “داعش” بقيادة الولايات المتحدة، فضلاً عن خلايا “داعش” التي يتم استدعاؤها تحت الطلب، ووجود عسكري روسي وإيراني، ودخول مقاتلين من هيئة تحرير الشام، وعناصر من “الجيش الوطني” المدعوم من تركيا، وسواهم. كما أن حزب الاتحاد الديمقراطي في سورية، وبدفع أميركي، عمل على تشكيل مليشيات محلية وضمّها إلى جانب وحدات حماية الشعب عند تشكيل “قسد”، فانضم إليها ما يقارب 16 مجلساً عسكرياً في مختلف مناطق سيطرتها، ومنها مجلس دير الزور العسكري ومجلس منبج العسكري اللذان تشكّلا عام 2016، وكان لهما دور هام في المعارك ضد تنظيم داعش، لكن عدد هذه المجالس انخفض بعد فقدان “قسد” ومعها “الإدارة الذاتية” مناطق في عفرين وتل أبيض ورأس العين، لصالح تركيا وفصائل الجيش الوطني. غير أن تحول الخلافات بين مكوّنات “قسد” إلى صراع مسلح يشي أيضاً بانكشاف (وتعرية) مشروع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سورية، الذي تشكّل في الأصل على يد مجموعة من مقاتلي حزب العمّال الكردستاني (التركي)، وقام على جملة من الشعارات الستالينية والأوجلانية (نسبة إلى عبدالله أوجلان)، ذات البعد القومي الشوفيني المتطرّف، البعيد كل البعد عن الديمقراطية وتمثيلاتها وقيمها. والمضحك أن هذا الحزب الستاليني حتى النخاع يُدخل كلمة ديمقراطية عنوة في كل مخرجاته، العسكرية والمدنية والسياسية، في محاولة لتصوير مشروعه القومي ديمقراطيا، ويسعى إلى ضمان حقوق المكوّنات كافة، وذلك من أجل تسويقه لقادة الغرب، الذين يعون جيداً طبيعته، لكنهم لم يجدوا سوى مليشياته، كي يعتمدوا عليها في حربهم على “داعش”.
عملياً، تظهر سلوكيات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، بشكلٍ جلي، أنه لا يحترم أي ممارسة ديمقراطية حتى ضمن صفوفه، لأن نهجه قائم على الاستئثار والاستبعاد والتفرّد والتسلط في كل شيء. وهناك مكوّنات عديدة في مناطق سيطرته لا تعترف به ممثلا للأكراد، مثل تنسيقيات شباب الكرد، وحزب المستقبل، والمجلس الوطني الكردي، الذي يضم أحزاباً كردية عديدة وعريقة، ولها تمثيل بين أكراد سورية، فضلاً عن عدم وجود شعبية له في أغلب المناطق التي يديرها، تحت مسمّى “الإدارة الذاتية”. وقد عانى الأمرّين جميع سكان المناطق التي يسيطر عليها في سورية، أكراداً وعرباً، جرّاء تصرّفاته وممارساته، وتصرّفات سائر مخرجاته، بالنظر إلى أنها تتبع الأسلوب نفسه الذي يتّبعه نظام الأسد، سواء من جهة التعاطي الأمني والعسكري مع سكان المناطق التي تخضع لسيطرتها، أو من جهة التعامل مع مكوّناتها الأهلية والعرقية، حيث إن “قسد” تعاملت مع أبناء العشائر على أنهم إرهابيون، وحاولت تصوير مناطقهم أنها إمارات لـ”داعش”، واخترعت في بداية الصراع مع مجلس دير الزور العسكري مسرحية، مفبركة وهزيلة، حول هروب بعض عناصر “داعش من سجونها”، وأنها تلاحقهم.
أخيراً، يمكن القول إن انتهاء المعارك لا يغيّر شيئاً من وجود “قسد” ضمن نطاق محكوم عليه بالزوال والاختفاء، إذ إن جغرافية منطقة وجودها مُحاصرة من قوى هدفها القضاء على مشروع الإدارة الذاتية، وكل مخرجات حزب الاتحاد الديمقراطي، وهي قوى لا تخفي ذلك، وتشير، بشكل واضح، إلى تضارب مشروع هذا الحزب في سورية مع مشاريعها الجيوسياسية.
العربي الجديد
————————————–
دير الزور… إكراهات الجغرافيا والانتماء/ عمر الشيخ إبراهيم
بينما كان النظام في سورية يفكر في مخرج للتعامل مع المأزق الذي وضعته فيه مظاهرات السويداء، انفجر صراع عسكري في ريف دير الزور شرق سورية. وقبل تفكيك دوافعه وسياقاته، يحسن المرور على خصوصية حراك جبل العرب وعلاقته بالمعارك في شرق سورية.
تتأتّى خصوصية حراك السويداء من حيث إسقاطه سردية النظام حيال الثورة السورية والقائمة على مقاومة ثلاثية العوامل: مقاومة أعداء محور الممانعة. الإرهاب الطائفي. الانفصال القومي. وفي المحصلة، يطرح نفسه حامي الأقليات والعروبة ووحدة سورية، لكنه لا يستطيع وصم حراك السويداء بأنه طائفي، على اعتبار أن المظاهرات رفعت شعار “الشعب السوري واحد”، ولا يستطيع قصفها (أقله حتى اللحظة) كونه حاميا للأقليات. ولا اتهامها بالعمالة والانفصال لتاريخها ضد الاحتلالات ودورها في وحدة سورية التي نعرفها اليوم. أضف إلى ذلك مساهمة هذا الحراك في انتشار عدوى التظاهرات إلى مناطق عدة في سورية. في هذه اللحظة، انفجر الصراع في ريف دير الزور ليحول عن السويداء الاهتمام الشعبي ويشتّت التركيز الإعلامي، ويفرّق الخطاب الوطني، ويعيده إلى بنى ما قبل الدولة على أساس عشائري وقومي، وهذه استراتيجية يُتقن النظام تنفيذها واستثمار نتائجها.
بالعودة إلى ما يحصل في دير الزور، لا بد لنا من فهم سياقات الصراع هناك وتفكيكه، إذ تشكّل المنطقة أهمية استراتيجية كبيرة. أولاً: كونها حدودية، ويمرّ منها طريق الدعم البرّي للمليشيات الطائفية المدعومة إيرانيًا في المنطقة من طهران إلى الضاحية الجنوبية ببيروت، وهو ما جعل منها منطقة صراع نفوذ بين روسيا وإيران وأذرعهما من جهة وأميركا وأذرعها المحلية من جهة أخرى، مع عدم تغييب العامل الإسرائيلي عاملا مستترا، وبالإشارة إلى أنه لم يحصل أي صراع مباشر بين الأذرع المحلية المدعومة أميركيا وإيرانياً.
ثانياً: ثروات وموارد متنوّعة، أهمها النفط والغاز والقمح، إضافة إلى نهر الفرات، وما يمكن أن يمثله كشريان حياة زراعي وخدمي للسكان، يمكن استغلاله في مشاريع تنموية وإيجاد فرص عمل تساعد على مستوى من الاكتفاء الذاتي ودعم المجالس الخدمية.
كما لدير الزور خصوصية تتمثل بوجود عامل عروبي عالٍ جدا، يرتفع كلما يزداد حدّة العامل القومي المقابل (الكردي)، وعامل سنّي يطغى كلما يزداد طغيان العامل الطائفي الشيعي الدخيل على المنطقة. نتيجة لذلك كله، شهدت المنطقة صراعا شديدا، كان يدفع أهلها إلى محرقة بمواجهة قوى دخيلة لا قدرة لهم على مواجهتها، بدءا من النظام مرورا بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) والمليشيات الطائفية، وصولا إلى تحكّم عناصر حزب العمال الكردستاني بقرارها ونهب ثرواتها تحت راية “قسد” التي شكلت مظلة للتحالف بينهم وبين العنصر العربي المعارض للنظام وإيران، فما الذي دفع العرب هناك إلى الدخول في هذا التحالف؟
كانت دير الزور، بغالبيتها مدينة وريفا، ثائرة ضد النظام، ومن ثم نتيجة للتغيّرات التي طرأت على الساحة، استطاعت إيران استقطاب فئة لتكون ضمن مليشياتها، مع فشل المجالس العسكرية التي شكلتها المعارضة وتقهقرها لصالح التنظيمات الراديكالية، بدءًا من جبهة النصرة وصولاً الى تنظيم الدولة الذي تمكّن من استقطاب فئة كذلك لصفّه في سياق المد الطائفي الشيعي، وتراجع الدعم لقوى الثورة. أصبحت السيطرة متوزّعة بين مليشيات ايران والنظام وبين تنظيم داعش، فأصبح الأهالي رهينة هذه القوى، بعد انهيار فصائل الثورة وانتهائها. حينها أعلنت الولايات المتحدة عن تشكيل تحالف لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية، وقرّرت دعم شركاء محليين تحت مظلةٍ سميت “قوات سوريا الديمقراطية” عام 2015 ، تتكوّن من التحالف العربي السوري وجيش الثوار وغرفة عمليات بركان الفرات وقوات الصناديد وتجمّع ألوية الجزيرة والمجلس العسكري السرياني ووحدات حماية الشعب و حماية المرأة، وهما العمود الفقري لهذه القوات، وجل قياداتها وكوادرها أعضاء في حزب العمال الكردستاني، اضطرّ العنصر العربي (المستقل) في دير الزور للقبول بهذا التحالف، نتيجة لتلك العوامل، ولعدم وجود حديقة خلفية سياسية وعسكرية ومادّية دولية داعمة له، على غرار دعم تركيا فصائل المعارضة السورية وحماية ظهرها، بينما كانت المنطقة مكشوفة الظهر، تحيط بها قوى كلها تعد شرّا مطلقا، فكان الاضطرار العاقل هو الدخول بهذا التحالف تحت الرعاية الأميركية، لأن باقي الخيارات كانت انتحارية في تلك اللحظة، فتَشكّل ذراع عسكري عربي، سمّي مجلس دير الزور العسكري، وتم استدعاء أحمد الخبيل الملقب أبو خولة من تركيا، وعين قائدا له في عام 2016، ولم يعرف عنه وعن قياداته أي تكوين عسكري أو قتالي، ولا حيثية اجتماعية سابقة.
بعد معركة الباغوز 2 في مارس/ آذار 2021، والإعلان عن القضاء على آخر معاقل “داعش” في المنطقة، استثمرت قيادات جبل قنديل (الكردية) ضمن قوات “قسد” نتائج المعركة، فأخذت تتحكّم بقرار المنطقة (العربية بالخالص)، وتستثمر مواردها، حاولت المجالس المحلية التي أنشأها الأهالي إدارة مناطقهم والاستفادة من ثرواتها، فقامت قيادات قنديل بتعيين مستشار (كادر) إلى جانب كل رئيس مجلس محلي ليتحكّم فعليا بالقرار، ومع تكرار الانتهاكات والاستفراد بالقرار ونهب ثروات المنطقة وإطلاق يد المجلس العسكري (الخبيل) نفسه ضد محاولات الأهالي إدارة مناطقهم. زاد احتقان المجتمع المحلي ضد قيادات “قسد” والمجلس العسكري الذي عمل رئيسه على أن يكون عصبه القوي من أبناء عشيرته وأقاربه، وأصبح ذا نفوذ، وجمع ثروة كبيرة من تجارةٍ يتردّد أنها غير شرعية، وتشوب أعمالها اتهاماتٌ كثيرة. ثم أعلن عن تأسيس إمارة زبيد، وهي تحالف قبلي قديم، ونصّب نفسه أميرا عليها، أتبع ذلك بتصريحاتٍ عن موافقته الدخول بمواجهة ضد المليشيات الإيرانية، إثر إعلان قيادة “قسد” رفضها محاربة تلك المليشيات، في محاولة منه كسب ودّ الأهالي وحشد الشارع المحتقن أصلا ضد إيران إلى صفّه، تراكمت المؤشّرات على الاحتقان بين قيادة “قسد” والمجلس العسكري التابع لها، فاستدعت رئيسه إلى مقرّ قيادتها في الحسكة، ووضعته قيد الإقامة الجبرية، وأعلنت عن تعيين بديل له. هنا رفض موالو الخبيل القرار، وطالبوا بإطلاق سراحه، فحاولت قيادة “قسد” فرض قرارها بالقوة، مرسلة قواتٍ إلى المنطقة، اشتبكت مع عناصر المجلس بداية، والمنتشرين في عدة بلدات وقرى. وأدّى هذا الهجوم وما خلّفه من ضحايا إلى دفع فئات أخرى محلية بمواجهتها، إلى جانب عناصر الخبيل، مع التأكيد أنها لا تناصره ومجلسه، بل كانوا متضرّرين من سلطته. ولكن مرّة أخرى، لا خيارات أمامهم سوى ذلك، أملاً في إدارة مناطقهم، وتحت ضغط العوامل سالفة الذكر، وتماشياً مع منظومة القيم والسلوكيات القليلة التي تحكم أهل المنطقة.
توصيف قاصر
اعتبر التعاطي الشعبي والإعلامي مع معارك دير الزور المعركة بأنها بين العشائر العربية و”قسد”، والواقع أن هذا التصنيف قاصر وغير دقيق، فالمكوّن القبلي في سورية متباين المواقف والولاءات، كما بقية مكوّنات سورية، إذ تجد داخل العشيرة الواحدة، لا بل العائلة الواحدة ولاءات متعدّدة، تجد أحدهم قياديا في المعارضة وشقيقه مواليا للنظام وصديقا شخصيا لرئيسه، وتجد أخا مع “قسد” وآخر ضمن مليشيات إيران، والشواهد الحية على ذلك كثيرة.
ولطالما كانت غالبية عوائل المشيخة انتهازية تتوزّع الأدوار والولاءات، بغرض الحفاظ على مصالحها، وبحثا عن حيثية ومكانة اجتماعية، ولم يعد حقيقيا الحكم أن القبيلة تتّبع أوامر شيخها، لا بل ليس هناك شيخ مجمع عليه ضمن القبيلة، وما شوهد من فورة البيانات المشيخية القبلية التي صدرت في أثناء هذه المعركة تأتي في سياق البحث عن حظوة وحيثية واستثمار دماء الأبرياء وركوب “الترند”. وقد أصبح هذا سلوكا متّبعا، ليس فقط قبلياً، بل أيضا مناطقيا وقوميا وطائفيا في عموم سورية، يحاول أصحابه إيهام الرأي العام بتأثير متخيّل غير حقيقي، أو يكون مدفوعا لخدمة أجندات، وسحب البساط من منافسٍ يختلف بالولاء، وغالباً يكون من ذوي القربى والقبيلة الواحدة.
على عكس العربية، لم تنخرط العشائر الكردية، بالتبعية أو الولاء لأطراف الصراع وسلطات الأمر الواقع على أساس قبلي، ولا ترفع راية قبلية كما نراها حاليا عند العربية، بل كانت عوامل انخراط أفرادها نابعه عن قرار فردي وشعور قومي أو مصلحي في مجمله، فلا نرى ظاهرة بياناتٍ لزعماء وآغاوات يعلنون ولاءهم على أساس قبلي لأحد الأطراف، وهي ظاهرة مثيرة للانتباه. بينما يبني المجلس الوطني الكردي، وهو المظلة السياسية الأكبر للشارع الكردي في سورية خطابه على توصيف الصراع بأنه غير قومي عربي كردي، ولا ينبغي أن يكون، ويحسب له هذا الموقف، ويراه صراعا داخل تحالف “قسد”، مع اتهامه حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) بالاستئثار بالسلطة في المنطقة واحتكار ثرواتها. ولكن ليس هناك موقف واضح من المجلس إزاء حدود الجغرافيا التي تسيطر عليها “الإدارة الذاتية”، ولا إزاء الانتهاكات بحق العرب. ويبدو أن الخلاف بين المجلس الكردي والإدارة الذاتية يتمركز حول توزّع السلطة والثروة وآلية اتخاذ القرار في شمال شرق سورية.
الموقف الأميركي
دعت واشنطن الراعية والداعمة لقوات قسد إلى ضبط النفس، من دون دعم واضح لأحد أطراف الصراع. وما هو مؤكّد، بحسب مصادر عربية محلية، أن قيادة “قسد” طلبت من الأميركيين قصف بعض المواقع في ريف دير الزور، ورُفض هذا الطلب، وكان الجواب “هذا شأن داخلي وعليكم ايجاد حل سريع لهذه الأزمة”. وعليه، يبدو أن واشنطن تريد إفهام هذه القيادة في “قسد” أن قوتهم العسكرية غير فعّالة بدون تغطية جوية أميركية، وربما هذا التحفظ هو بمثابة قرصة أذن عسكرية لرفض هؤلاء الانخراط في مواجهة المليشيات الإيرانية. ومن جهة أخرى، تريد واشنطن إضعاف طرفي الصراع وجعلهما يلتجئان لها لإعادة ترتيب القوى داخل “قسد”، فقد حاولت الإدارة الأميركية السابقة دعم العنصر العربي في “قسد”، ليكون متكافئ القوّة والموارد مع العنصر القنديلي (الكردي من جبل قنديل)، ودفع مبعوثيها إلى المنطقة بقوّتهم من أجل ذلك، فاستطاعوا تحقيق بعض المكتسبات وفكّ القبضة القنديلية إلى حد ما.
وكان قادة “قسد” القنديليون قد نسجوا علاقات وثيقة مع مراكز القوى في البنتاغون والـ”سي آي إيه” وكسبوا ثقتهم عبر قدرتهم على الانضباط والتنظيم والقرار المركزي الذي يحكُم قواتهم، بينما فشل العنصر العربي في ذلك. كيف لا في خضم الفوضى وعدم الانضباط والتنظيم وغياب التخطيط والقرار المركزي في المجلس العسكري الذي عيّنته قيادة “قسد”، القنديلية أصلاً، إمعاناً منها في ترسيخ هذا الحكم لدى القيادة العسكرية الأميركية في المنطقة، مع التنويه أن غالبية المقاتلين وضحايا المعركة ضد “داعش” كانوا عربا من أبناء المنطقة.
والبادي، من خلال الوقائع في شرق سورية، أن هناك توافقا على أن اعتماد “قسد” حليفا أميركيا محليا يكون في وجه تنظيم الدولة الإسلامية فقط. لذلك لم نشهد أي قتال حقيقي مباشر بينها وبين مليشيات إيران، لا يخفى على القارئ نفوذ النظام الايراني على قيادة حزب العمال الكردستاني في قنديل المحاذية للحدود الإيرانية مع السليمانية، ولديها قادة من كرد إيران في المنطقة. بالتالي، من الصعوبة بمكان أن نشهد قتالا بين الطرفين في سورية، إلا اذا حاول قادة “قسد” من الكرد السوريين في لحظة ما الاستقلال عن نفوذ “قنديل”، وتقديم أوراق اعتمادهم لواشنطن للفوز بحمايتها ودعمها من خلال انخراطهم بصراعٍ كهذا، وهو احتمالٌ ضعيف.
تنظيم الدولة الإسلامية
كانت البادية العراقية السورية من الأنبار والرمادي والموصل، وصولا إلى الشامية وريف الحسكة والرقّة وأطراف ريف حلب، منطقة جغرافية ينشط فيها تنظيم الدولة الإسلامية بنسخته الأم الذي أعلنه أبو مصعب الزرقاوي، وصولاً إلى ولاية أبو بكر البغدادي والقرشي وبقايا التنظيم في سورية. ويتبع غالبية أهل هذه المنطقة المذهب السنّي، وتنشط بها طرق صوفية بعيدة عن التطرّف يكسوه شعورعروبي مرتفع، سُلط عليهم هذا التنظيم، وحاصرتهم قوى طائفية وقومية وسط تخلي الدولة في العراق، ولاحقا سورية، عنهم، ما شكّل بيئة مناسبة لنمو تنظيم داعش، والتي وجد فئة من الأهالي أنفسهم مضطرّين للذهاب إلى هذا المسار الانتحاري، بينما حاولت فئات واسعة مجابهته فتمت تصفية مجموعات كبيرة، وصلت إلى ذروتها في مجزرة الشعيطات، حيث قتل “داعش” 367 شخصا من الأهالي، حسب تقديرات الشبكة السورية لحقوق الإنسان. وكان هذا العامل المباشر للدخول ضمن تحالف “قسد” برعاية واشنطن لمحاربة التنظيم لاحقاً. بقيت لهذا التنظيم خلايا نائمة وأخرى ناشطة بين حين وآخر، مع مؤشّرات على وجود نزعة مستترة حياله، عند فئة من السكان هناك تحت تأثير عدّة عوامل، ذكرت سابقا، إضافة إلى الانتهاكات التي تعرّضوا لها هم أو أقاربهم على يد عناصر قنديل وفي سجون “قسد”، أو على يد النظام ومليشيات إيران. والخشية حاليا من استثمار بقايا التنظيم المعركة الجارية في ريف دير الزور، والدخول على خط المواجهة مع قدرته على جلب الدعمين، العسكري والمادي، من جهات مستترة في نعت الأهالي هناك بالتطرّف، وهو ما تروّجه قيادة “قسد” القنديلية، ومعرفتها بأنهم يحاربون فلول التنظيم. وبالتالي، سيكون الأهالي مجدّدا أمام خيارات كارثية بعضها انتحاري، قد يتغير معها المشهد بشكل درامي، لنجد أنفسنا أمام محرقة جديدة يدفع إليها الأهالي.
استثمار المعركة
على الفاعلين المحليين استثمار المواجهة الشديدة من أهالي دير الزور عناصر “قسد” القنديلية، لتحقيق أكبر مكاسب ممكنة لصالح المنطقة، وعدم الانجرار لصراع مفتوح وصفري، في ظل عدم تكافؤ موازين القوى وغياب داعم عربي أو إقليمي، وتربّص قوىً لديها مشروع غير وطني وعابر للحدود، والقبول، في لحظة ما، بالجلوس إلى طاولة المفاوضات، من دون غالب أو مغلوب، يتمثل استثمار المواجهة في: إدارة المنطقة خدميا وإداريًا بشكل كامل من مجالس مدنية منتخبة من أبناء المنطقة؛ تشكيل مجلس عسكري من الفاعلين المحليين، يتم اختيار قيادته على أسس عقائدية مهنية وكفاءة عسكرية، وضمن معايير أخلاقية وسلوكية محدّدة؛ استثمار حصة مناسبة من موارد المنطقة، خصوصا البترول والغاز لتنمية المجتمع المحلي، ودعم المؤسّسات الخدمية. ولاحقا، يمكن الحوار من أجل إزالة أسباب الصراع وعلاج نتائجه وإيجاد آلية متوازنة على صعيد اتخاذ القرارات عسكريا أو سياسيا، ويجب أن تكون واشنطن راعية رئيسية لهذا الاتفاق.
ما دون ذلك سيكون جرعة تخديريه للأهالي، وستنفجر مجدّدا صراعات، وربما تتطوّر لتعيد إنتاج حالة من الفوضى والتطرّف والتخندق القومي سيكون الخاسر الأكبر والوحيد فيه الأهالي.
العربي الجديد
—————————–
انتفاضة ضد الأسد وقسد/ عبدالرحمن مطر
عاش السوريون لسنوات، ما يمكن أن نسميه جائحة الخيبة والإحباط، لما آلت إليه تطورات الوضع في سوريا، إثر اندلاع الانتفاضة الثورية الشاملة (مارس/ آذار 2011) ضد الاستبداد الذي مثله النظام الأسدي الفاشي الذي يحكم سوريا، بالقوة منذ عام 1970 وحتى اليوم.
لكن الأمل استفاق مجدداً إثر انتفاضة السويداء، ومُضيّ الاحتجاجات هناك نحو غاية لم تكن في حسبان أحد من القوى الوطنية، وكذلك الأمر بالنسبة للنظام الأسدي، والقوى الإقليمية والدولية المساندة له، لتصل إلى نقطة الذروة في المطالبة برحيل الأسد بعد أيام فقط، من المقابلة التلفزيونية التي سخّف فيها الحراك الوطني، وكذلك سعي العرب للتطبيع معه، على حدّ سواء، مؤكداً نهجه الدموي في التصدي لكل ما من شأنه أن يقود إلى التغيير في سوريا، حتى بعد اثني عشر عاماً من الثورة، ومن التدمير وتهجير الملايين، والإخفاء القسري للآلاف الشباب السوري.
من دون أدنى شك، لا يمكن النظر إلى انتفاضة جبل العرب، على أنها ردة فعل مباشرة على إجراءات رفع الدعم، بما يعني رفع سوية الفقر والجوع. كما أنها ليست رداً على ما ورد في حديث الأسد التلفزيوني. وإن كانت تلك، قد تبدو أسباباً مباشرة يؤخذ بها. لكن الانتفاضة، جاءت بناء على تراكم من المواقف والاحتجاجات العديدة طوال عقد مضى، لم تكن فيه السويداء بعيدة فيه عن الثورة السورية، بل هي جزء من الحراك الوطني المطالب بالتغيير، وبالحرية والديمقراطية. كما أنها لم تكن – وهذا مهم جداً – جزءاً من المنظومة الأسدية، أو قريبة منها، بأي شكل من الأشكال. وكان لهم أن يتخذوا قرارهم بعدم الانخراط في تشكيل مسلح، تأسيساً على الرفض المطلق لاستخدام السلاح، في أي نزاع، أو قضية، خاصة إذا كانت تتصل بالمسألة الوطنية، وتلك كانت خصوصية ثقافية، تتصل برؤية المجتمع تجاه الأحداث، وتاريخ المنطقة الاجتماعي والسياسي، وعلاقتها بأحداث البلاد طوال ثلاثة عقود مريرة ودامية من حكم الأسد الأب.
مثلت انتفاضة جبل العرب وسهل حوران، إشراقة جديدة في التاريخ السوري المعاصر، بكل تجلياتها، تفاصيلها ومعطياتها، وفي مفاجأتها التي أربكت النظام الأسدي، وألجمته عن اتخاذ رد فعل عسكري وأمني مباشر، اعتاد – بوصفه نظاماً مجرماً –القيامَ به من دون رقيب دولي أو حسيب. وهي، لن تلبث أن تسهم في خلخلة ما تبقى من مفاصل النظام المتضعضع! ويُحسب لهذه الانتفاضة وضوح مطالبها وقوتها، وتحريضها على إحياء انتفاضة السوريين، كشعب واحد، في مناطق مختلفة من الجغرافيا السورية كما في جمعتي انتفاضة السويداء.
وإن جاءت الاستجابة خجولة في بعض الأماكن، فإن ذلك يعود إلى الظروف الأمنية التي تحكم كل منطقة، ولن تلبث أن تتوسع، مع استمرار انتفاضة جبل العرب وسهل حوران، والثبات على المطالب السياسية، برحيل الأسد، وإسقاط النظام.
غير أن مستجدات الوضع في منطقة الفرات، حيث اندلعت انتفاضة أهالي ريف دير الزور على سلطة قسد، فإن ذلك من شأنه أن يعزز الانتفاضة السورية، ويسهم في توسعها إلى مناطق أخرى، مثل ريف دمشق، والقنيطرة، ومنطقة الجزيرة السورية بكاملها، والتي ترزح تحت حكم سلطات الأمر الواقع: قوات سوريا الديمقراطية، والتي جمعت بكفاءة منقطعة النظير بين سياسات النظام الأسدي القمعية والقهرية، وأسلوب داعش الإرهابي، لتمثل بذلك نموذجاً فريداً في ممارسة القمع والقهر والاستبداد، والعنصرية والتغيير الديمغرافي، في منطقة الجزيرة الفراتية، خاصة أن قيادات قسد أعلنت بكل وضوح عدة مرات، عن علاقتها التي لم تنقطع مع النظام الأسدي، خلال السنوات الماضية.
وفي الحقيقة، فإن تصريح مظلوم عبدي الأخير، بأن قسد هي جزء من منظومة جيش النظام السوري، ينطوي على إشارة واضحة ليس إلى المأزق الذي تقع فيه اليوم في منطقة سيطرتها واحتلالها، فحسب، وإنما تحمل دعوة مباشرة للتعاون مع النظام، لمواجهة التحرك الشعبي في كلا المنطقتين: جنوبيّ سوريا وشماليّها، وإلى استعدادها للتنسيق العسكري والأمني الواسع مع دمشق لتطويق الانتفاضات الشعبية.
ليس لدى النظام الأسدي – المنشغل مع حلفائه، بالبحث عن حلّ لتطويق الانتفاضة في الجنوب، ومنع تمددها نحو دمشق في الحدّ الأدنى – ما يقدمه لقسد. وأي تعاون محتمل سيجعل الأخيرة في موضع اختبار قاسٍ، نتيجة خضوعها للتعليمات الأميركية، خاصة أنها تفتقد إلى أي حاضنة شعبية حقيقية في الجزيرة السورية، في ظل الولاءات المؤقتة المتبدلة تاريخياً لعشائر المنطقة، كما أنها غير مهيأة للانخراط في أي مواجهات مسلحة، إذ إن قسد لم تخض، ولو معركة واحدة مباشرة مع داعش، في أثناء الحملة العسكرية للتحالف الدولي ضد تنظيم داعش، الذي تمّ التفاوض معه على الانسحاب من المنطقة الفراتية بأسرها.
سلمية الانتفاضة في جبل العرب وسهل حوران اليوم، تمثل دافعاً جوهرياً لاستمرارها، ولحمايتها من أي تدخل عسكري أمني مباشر. وهي معضلة كبيرة لنظام الأسد. أما مشكلة قسد فإنها تنبع من إشكالية ممارساتها العنصرية، وإقصاء العرب، أصحاب المنطقة وسكانها الأصليين، عن المشاركة الحقيقية في صنع القرار، واستخدام المقاتلين العرب المنضوين في إطارها، بما يخدم سياسات قنديل. واليوم تكشف انتفاضة العشائر عن هشاشة تنظيم قسد العسكري، الذي لم يستطع الصمود أمام بضعة مقاتلين. كما تعزز الحاجة إلى دور سياسي فاعل للقوى العربية، في المنطقة، طالما عطلت واشنطن طريق الوصول إليه.
استمرار انتفاضة السوريين، في الجنوب والشمال، مصدر أمل، لتجديد روح المطالبة بالتغيير الجذري لنظام الاستبداد الأسدي، وكل الميليشيات التي تدور في فلكه، أو القوى الداعمة له. وهذا الحراك يتطلب التفافاً ودعماً وطنياً شاملاً، من مجتمع الثورة، بصورة أساسية، كي تتحقق أهدافه.
—————————–
“المحور الإيراني” والحرب “المطلوبة” في شرق سوريا/ إياد الجعفري
يختلف رد الفعل الإيراني حيال احتجاجات السويداء المرشحة للتفاقم في عموم الخريطة السورية، بين اليوم، وبين ما حدث في بدايات ثورة العام 2011، من ناحية علنيّة التدخل وسرعته هذه المرة، ومحاولة استباق التطورات على الأرض عبر الترويج لجبهة حرب جديدة في شرق البلاد. مما يؤشر إلى استشعار “المحور الإيراني” لخطورة المشهد في سوريا، وخشيته من الاضطرار إلى خوض حرب طويلة مع السوريين، مكلفة مادياً وبشرياً وسياسياً، لمحاولة إنقاذ نظام الأسد، مجدداً.
لم يختلف التوصيف الإيراني للمظاهرات في سوريا، في العام 2011، عن تلك الجارية في السويداء اليوم. إذ وصفتها طهران، قبل 12 عاماً، بأنها “مؤامرة خارجية افتعلها الأعداء لتهديد النظام السوري وضرب الأمن والاستقرار في سوريا”. لكن الإيرانيين كانوا يومئذ أكثر تحفظاً، على صعيد الخطاب العلني، وقالوا إن تعامل النظام مع هذه المظاهرات “شأن داخلي”. وتطلب الأمر حتى مطلع الشهر الثاني من الثورة، حتى تبدت مؤشرات دعم إيراني جليّة للنظام، متمثلةً بتزويد أجهزة أمنه بمعدات وخبرات تقنية لمراقبة المحتجين وملاحقتهم. وتطلب الأمر حتى أيار/مايو 2013، كي يعترف الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، بالقتال في سوريا إلى جانب النظام. مبرراً ذلك بالخشية من “التيار التكفيري” الذي سيطر على المعارضة السورية، والخطر الذي يمثّله على “العيش الواحد في لبنان”، بحسب وصفه حينذاك.
أما اليوم، فتطلب الأمر فقط، دخول الحراك الاحتجاجي في السويداء، أسبوعه الثاني، كي تخرج شخصيات محورية في “المحور الإيراني” لتقدم خطاباً عاليَ النبرة، يؤكد توصيف “المؤامرة” حيال ما يحدث، ويضيف إشارات إلى استنفار ذاك “المحور” لدعم نظام الأسد، والتلويح بالقتال مجدداً، دفاعاً عنه.
وكان النظام هو من هندسَ رد الفعل الاستباقي حيال احتمال اندلاع احتجاجات في الشارع السوري، من جراء التدهور المعيشي، قبل حتى أن تندلع تلك الاحتجاجات بالفعل. إذ، وبعيد حملة من ناشطين ينتمون للحاضنة المقرّبة منه، تضمنت سقف نقدٍ غير مسبوق لرأس النظام شخصياً، حصلت تغيرات في مواقف بعض هؤلاء الناطين، في حين اعتُقل آخرون، مما يؤكد الضغط الأمني على بعضهم، وتطويع بعضهم الآخر. وفي رصد السردية التي اعتمدها ناشطان على الأقل، في تبرير تغيير مواقفهما من النظام، يمكن لحظ التبرير ذاته، وهو التحذير من حرب مقبلة في الجبهة الشرقية، وفق ما قال بشار برهوم، بشكل صريح، معلناً أن “لا صوت يعلو على صوت الحرب”، لتبرير الوقوف إلى جانب رأس النظام، الذي كان موضع انتقاده المباشر، قبل ذلك بفترة وجيزة، وبشكل أقل مباشرة، في تسجيل لـ لمى عباس، حذرت من الحرب والفوضى، بحسب وصفها. تزامن ذلك مع ترويح الإعلام شبه الرسمي، خاصة صحيفة “الوطن”، لأنباء قالت إن مصدرها عراقي، تفيد بتحركات عسكرية أميركية، مثيرة للريبة، توحي بنية القيام بعمل عسكري، بغية قطع طريق طهران – دمشق، عند الحدود السورية – العراقية.
ورغم النفي الأميركي، الذي رافقه نفي من “قوات سوريا الديمقراطية – قسد”، لأية نية بالقيام بعملية عسكرية، صعّد “المحور الإيراني” من سرديته التي انتقلت من إعلام النظام غير الرسمي، لتصبح سردية مُتبناة من شخصيات بارزة داخل هذا “المحور”، (رئيس الوزراء العراقي الأسبق، نوري المالكي، والأمين العام لحزب الله)، قبل أن يتبناه وزير خارجية النظام، فيصل المقداد، بشكل مباشر، في مؤتمره الصحفي مع نظيره الإيراني الذي تبنى بدوره هذه السردية، بشكل غير مباشر، في أثناء زيارته ذات التوقيت اللافت إلى دمشق.
أما أبرز ما ميّز هذه السردية في خطاب “المالكي ونصر الله”، والمنظّرين المحسوبين على “المحور الإيراني”، فهو ربط تلك العملية العسكرية الأميركية المزعومة باحتجاجات السويداء بوصف الأخيرة جزءاً من “المشروع الأميركي”، بحسب تعبير الأمين العام لحزب الله. واللافت أكثر، أن الصدام بين “قسد” و”مجلس دير الزور العسكري الذي فجّره اعتقال قائد المجلس أحمد الخبيل، جاء في التوقيت ذاته الذي يدعي فيه أبواق “المحور الإيراني” أن واشنطن بصدد التحضير لعمل عسكري في شرق سوريا، وهو ما يؤكد ما سبق أن ذهب إليه أكثر من محلل بأن الفصائل السورية المسلحة التي تستند إليها الولايات المتحدة الأميركية غير منسجمة وغير قادرة على القيام بعمل عسكري نوعي ضد الميليشيات الإيرانية الضخمة العدد والعُدة المتمركزة في الشطر الغربي من نهر الفرات، جنوب دير الزور. أو إن أردنا اعتماد تفسير آخر، فإن توقيت تفجر هذه الاشتباكات داخل أبرز المكونات المحلية المسلحة المتحالفة مع الأميركيين، يؤشر إلى اختراق إيران لتلك المكونات، ووجود أطراف داخلها -سواء داخل “قسد” أو حتى قريبة من “مجلس دير الزور العسكري”- على تنسيق مع الإيرانيين.
وهكذا يتضح أن الواقع يعاكس السردية التي يعلنها “المحور الإيراني”. فالأخير هو من يريد توتير الأوضاع في مناطق سيطرة الأميركيين. فيما لا تبدو واشنطن راغبة، أو تملك الأدوات الكفيلة بإغلاق الحدود السورية – العراقية أمام حركة الإيرانيين. وهكذا فإن “المحور الإيراني” يستخدم “الحرب المزعومة” في شرق سوريا، بوصفها أداةً لشيطنة الحراك الاحتجاجي المرشح للتفاقم في سوريا، كخطوة استباقية لتبرير الانخراط في قمعه إلى جانب النظام، في حال خرج عن السيطرة، كما حدث في الـ 2011. ولأن لا تكفيريين يمكن ربطهم باحتجاجات السويداء الآن، فكانت الذريعة هذه المرة، الارتباط بمشروع أميركي، تتبدى مؤشرات تنفيذه في شرق سوريا، بحسب سردية النظام وحلفائه. بل أبعد من ذلك، يبدو أن مشروع هؤلاء، قد يذهب باتجاه فتح جبهة صراع مسلحة بالفعل، في شرق سوريا، رهاناً على عدم رغبة الإدارة الأميركية في التورط بنزاع مسلح، في توقيت قريب من السنة الانتخابية، الأمر الذي يجعل صنّاع القرار الإيراني يراهنون على دفع واشنطن للانسحاب من شرق سوريا، وفي الوقت نفسه، يمكن استخدام هذه الحرب كوسيلة ضغط لإسكات أية أصوات محتجة على التدهور المعيشي في الداخل السوري. فالنظام محكوم بالحرب، كوسيلة للديمومة. إذ بغيابها يصبح من المنتظر في عُرف السوريين أن تعود حياتهم إلى طبيعتها، وهو ما يُلقي على كاهل النظام مسؤوليات لا يملك القدرة على الوفاء بها، في ظل استشراء الفساد وتحكم عقلية “اقتصاد المافيا” في منظومته برمتها.
——————————
كي لا يكون”خبيل جديد”في”شرق الفرات”/ إياد الجعفري
من المثير للدهشة، كيف أن صراعاً من أجل السيطرة والنفوذ، عموده الفقري “اقتصاد التهريب”، يتحول بصورة مفاجئة إلى “فزعة عشائرية” عابرة لحدود مناطق السيطرة المختلفة، ويكاد يتحول إلى صراع “كردي – عربي”، دخلت على خطه كل القوى، بدءاً بالنظام والإيرانيين، مروراً بالروس والأتراك، وليس انتهاءً بـ “هيئة تحرير الشام”، وذلك في بقعة هي الأغنى والأكثر ازدحاماً بالمتصارعين الخارجيين على التراب السوري.
بدايةً، نقرّ بعدم جواز تقزيم ما يحدث ليكون بحجم أحمد الخبيل، ومجلسه العسكري، المتهم بارتكاب جملة طويلة من الموبقات، بإقرار أبناء العشائر ذاتها، التي تقاتل اليوم غضبةً لطريقة استدراجه واعتقاله. إلا أن التركيز فقط على الأسباب العميقة التي فجرت هذه الغضبة، والمتعلقة باحتقان المكوّن العربي في دير الزور، جراء التهميش والتضييق المتعمّد عليه من جانب الممسكين الفعليين بقيادة “قسد”، قد يجعلنا ننحرف في التحليل بعيداً عن محركات الصراع الأساسية، ومآلاته المحتملة.
في تشرين الأول/أكتوبر عام 2017، نشر “معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى”، نبوءة لمحلل أمريكي، يُدعى باراك بارفي، حذّر فيها واشنطن من أنها إن لم تراقب “أبو خولة – الخبيل” جيداً، فإنه سيتسبب باستبدال الصراع مع “داعش”، بصراع جديد. يومها كان الخبيل حليف “قسد” المُختار بعناية، للقضاء على “داعش” في محافظة دير الزور. لكن بارفي وجد فيه شخصاً سيء السمعة، مُجرّداً من أية مبادئ، يحارب من أجل “المواد الهيدروكربونية” وغيرها من المكاسب المادية، في المحافظة.
بعد ست سنوات، تحققت نبوءة بارفي. فواشنطن قررت عزل الخبيل، بعد أن تضخم نفوذه، وتمكن عبر شبكته من التحالفات المحلية من أن يصبح منيعاً حتى على تكتيكات “قسد” التي تتلاعب عادةً بالتناقضات العشائرية، بالمنطقة. واستطاع سارق الدراجات النارية قبل العام 2011، وقاطع الطرق بعيدها، من أن يصبح أميرَ جانبٍ مهم من المعابر النهرية على الضفة الشرقية للفرات، حيث يمر النفط وسلع أخرى، بالاتفاق مع نظرائه من الأمراء على الضفة الأخرى، الإيرانية – الأسدية.
وفيما تنتفض عشائر يمتد تواجدها الديمغرافي من الحدود العراقية – السورية شرقاً، حتى شمالي حلب غرباً، غضباً لاعتقال الخبيل، كان عزل هذا الرجل، ومحاسبته، مطلباً لأبناء العشائر ذاتها، على مدار السنوات الأخيرة، وصولاً إلى اندلاع احتجاجات بهذا الغرض، كانت قيادة “قسد” تحتويها بالوعود للوجهاء، دون أن تنفذ أياً منها، ليبقى الخبيل، ومجلسه العسكري، الممثل المُفترض للمكوّن العربي بدير الزور، داخل “قسد”. فلماذا أبقت هذه الأخيرة عليه، رغم الامتعاض الشعبي من تجاوزاته التي تطول قائمتها، من الاعتقال والسلب والنهب، والتضييق الاقتصادي، والتهريب، وليس انتهاءً باتهامات الاغتصاب والقتل؟! يبدو السؤال ساذجاً. فأفضل طريقة لـ “تمثيل” مكوّنٍ تريد تهميشه، هو باختيار شخصٍ لا قيمة لأي شيء لديه، إلا مصلحته الشخصية ومصلحة المقربين منه. لكن ذلك لا ينفي محورية “اقتصاد التهريب” وشبكاته الزبائنية التي تمكّن الخبيل من نسجها ضمن المكوّن المحلي للمحافظة، وتورط فيها قادةٌ من “قسد”، وجدوا فيه خير شريك، لأكثر من ست سنوات. حتى تضخم، فأصبح أكبر من مجرد أداة محلية، كما كانوا يريدون له أن يبقى، مراهنين على مقتِ جانبٍ كبيرٍ من أهالي المحافظة، له، ولتجاوزاته. فكانت المفاجأة لقادة “قسد”، أن اعتقال الخبيل اليوم، والذي كان مطلب شريحة كبيرة من العشائر، بالأمس، قُرِىء بالتوقيت والطريقة، على أنه خطوة جديدة لتهميش المكوّن العربي، والتضييق عليه.
وفيما تتهم “قسد” النظام، بالوقوف وراء “الفزعة” العشائرية التي فاجأتهم، كان الخبيل في نهاية العام المنصرم فقط، وبدعم من “قسد” ذاتها، يخوض اشتباكات بالرشاشات الثقيلة مع ميليشيا “الدفاع الوطني” و”الفرقة الرابعة”، على الضفة الأخرى من الفرات، جراء الخلاف بينهم على تقاسم عائدات التهريب على أحد المعابر النهرية. وبالعودة إلى اليوم، نجد مليشيات “الدفاع الوطني” ذاتها، التي كان يحاربها الخبيل قبل تسعة أشهر فقط، تركب موجة “الفزعة” العشائرية، وتعلن مساندتها للمنتفضين على الجانب الآخر.
ستجد كُثراً ممن يقدمون الأدلة على ارتباط الخبيل بالإيرانيين والنظام. وهي تهمة لا يمكن نفيها عن الرجل، الذي سبق أن بايع “داعش”، قبل أن يفر من مناطق سيطرتها، ليعود إليها، محارباً لها. وقد تكون تلك كلمة سرّ تضخمه، فانتهازيته الجليّة أتاحت له أن يضارب على قادة في “قسد”، ينسقون مع طهران، بصورة شبه علنية.
لا نقصد مما سبق، أن نسِمَ “الفزعة” العشائرية المنتفضة الآن، بدعم أمير حرب سيء السمعة. فكما أشرنا، هناك أسباب عميقة أدت إلى تفجر هذا الحراك، فيما كان اعتقال الخبيل مجرد الشرارة فقط. لكن المشكلة في أن “الشرارة” ذاتها، قد تفضي إلى حلولٍ، تعيد الخبيل إلى موضعه، كممثلٍ للمكوّن العربي في دير الزور، داخل تركيبة “قسد”. مما يعني أن سياسات الإقصاء والتضييق الاقتصادي التي اعتمدتها “قسد”، لتطويع المحافظة، ستستمر، وربما، بوتائر أكثر حدة، إن لم تتخذ تلك “الفزعة” مساراً يستهدف تصويب التمثيل العربي، وتجريد أمثال الخبيل وأعوانه، من نفوذهم.
أما أكبر عائق أمام تحقيق هذا المسار، فهو “اقتصاد التهريب” -وشبكاته الزبائنية، التي نسجها الرجل- والذي يمثل المورد الرئيس الذي ترتزق منه المليشيات، على الضفتين، بضوء أخضر من مُشغليها. فإن كانت الكلمة النهائية لهذا “الاقتصاد”، فهذا يعني أن أفضل ما قد يحدث كنتيجة للـ “الفزعة” العشائرية الراهنة، هو استبدال الخبيل، بخبيل آخر. لا أكثر. وقد يكون “الخبيل الجديد”، من الضفة الثانية، هذه المرة.
المدن
——————————
ما تبقى من سخونة معارك دير الزور/ حسن النيفي
منذ أن اندلعت المواجهات العسكرية بين القبائل العربية وقوات قسد في أواخر شهر آب الماضي في دير الزور وأريافها، كان ثمة سؤال يحضر بقوّة في أذهان معظم المتابعين والمهتمين بالشأن السوري، ولكن في الوقت ذاته كان ثمة إصرار لدى قوات العشائر وحاضنتها بتجاهل هذا السؤال أو الإجابة عنه بطريقة ملتوية وغير مقنعة، والآن بعد أن هدأت وتيرة المعارك وباتت الأمور تتجه نحو مضي قوات قسد نحو الحسم العسكري عاد السؤال ذاته ليُطرح من جديد: ما هو المشروع السياسي الذي تتبنّاه القبائل العربية التي انتفضت في مواجهة قسد، وما هي الأهداف المحددة لهذا المشروع؟ وهل تتبنى القبائل العربية في دير الزور فكرة الاستيلاء على السلطة من أيدي قسد وتحييد أو إبعاد أي دور لحزب العمال الكردستاني ومشتقاته في سوريا، مع الإبقاء على الشراكة مع قوات سوريا الديمقراطية كشريك ندّي وليس كصاحب قرار بالمطلق؟ أم أنها تريد انتزاع جميع مقاليد الأمور من قسد وطردها من المنطقة باعتبارها تحمل مشروعاً دخيلاً لا صلة له بثورة السوريين مثلاً؟ أم أن انتفاضة العشائر لا تعدو كونها ردّة فعل مباشرة على جميع ممارسات قسد وفسادها الإداري ونزعتها الإقصائية في الحكم، أضف إلى ذلك سوء الواقع المعاشي الذي يعاني منه سكان المنطقة الذين يدركون بعمق أن مناطقهم هي من أغنى المناطق السورية اقتصادياً ولكنهم محرومون من خيراتها بسبب تحكّم سلطة قسد الدخيلة وهيمنتها المطلقة على مفاصل المال والاقتصاد؟ وبالتالي فإن ما تهدف إليه انتفاضة العشائر هو مطالبة التحالف الدولي بإعادة النظر في الشراكة القائمة بين الطرفين والضغط على قسد لتقبل بصياغة جديدة لمفهوم الشراكة يأخذ بعين الاعتبار أحقية المكون العربي بصناعة القرار وحقه في الإدارة وممارسة السلطة على قدم المساواة مع الحاكم الكردي.
أسئلة كثيرة كانت تُطرح لكن دون إجابات واضحة، ليس لعسر في القدرة على الجواب، بل لما يوجبه الجواب من توارد أسئلة أخرى كانت ربما محرجةً للعديد من المتحدثين باسم حراك القبائل، بل ربما نظروا إلى تلك الأسئلة أثناء احتدام المعارك بعين الريبة والشك، ولا يمكن تجاهل السؤال الأكثر إلحاحاً على الدوام، هل ثمة موقف موحد لدى عشائر دير الزور سواء من سلطة قسد أم من نظام الأسد أم من الثورة؟
ربما كان بمقدور القائمين على حراك القبائل أن يعلنوا بوضوح عن رغبتهم في استعادة زمام السلطة من أيدي قسد وممارسة أحقيتهم في إدارة مناطقهم باعتبارهم أهل الأرض والديار، وليس من المنطقي بكل المقاييس أن تُدار أمورهم من جانب قوى من خارج المنطقة، فضلاً عن عدم تماهي سكان المنطقة مع المشروع الذي تحمله السلطة الوافدة من الخارج، وهذا حق مشروع لأهالي دير الزور وسواهم من تلك المناطق، ولكن في الوقت ذاته فإن السعي لتجسيد هذا الحق المشروع يوجب على الساعين حيازة المشروع البديل والناضج ليكون البديل الأمثل عن السلطة الراهنة، ولا أعني بالمشروع الجانب السياسي فقط، بل ربما الأهم أيضاً جانب التنظيم والإدارة (القدرة على حوكمة المنطقة)، وهذا ما لم يكن موجوداً في واقع الحال لدى حراك القبائل.
بالطبع غياب المشروع (البديل) لا يعود إلى نقص في الكفاءات البشرية العلمية ولا إلى ندرة الخبرات المهنية لدى سكان دير الزور أو سواها من المدن، بل ربما السبب هو غياب الأطر التنظيمية الفاعلة، سواء أكانت تلك الأطر سياسية أو مهنية أو منظمات مجتمع مدني، ولعل غياب تلك الأطر لا ينحصر في دير الزور وحدها فحسب، بل في سائر المدن السورية، سواء الواقعة منها تحت سلطة نظام الأسد، أو الواقعة تحت نفوذ سلطات الأمر الواقع الأخرى.
ولعل غياب الإطار أو المظلة السياسية لحراك القبائل العسكري كان له الدور الأكبر الذي أتاح لأطراف عديدة أن تستثمر فيما يجري، وكلٌّ يحاول الاصطياد في الماء العكر، ولعل في طليعة تلك الأطراف نظام الأسد الذي بدأت أبواقه الإعلامية شديدة المزايدة مدّعيةً أن نظام الأسد هو من يدعم القبائل لطرد قسد من المنطقة، وبالطبع لن تعدم سلطة دمشق القدرة على تحريك أكثر من طرف عشائري ممّن يوالي النظام لتسويق موقف الأسد وتمرير ادعائه بدعم العشائر وحيازة ولائها له.
أمّا أن يكون سقف الحراك هو انتزاع حقوق وإحقاق مطالب سواء من جهة المشاركة في الإدارة أو ذات صلة بجانب معيشي أو اقتصادي أو ما إلى ذلك، فهذا مما هو جدّ مشروع ولا يمكن تجاهل أهميته، ولكن أيضاً في هذه الحالة تكون استراتيجية المواجهة مغايرة لما حدث، وأعني وجوب أن تكون الكلفة البشرية أقل من جهة أن الدم السوري لا ينبغي استسهال جريانه على الرغم من أنه ما يزال يجري من اثنتي عشرة سنة.
في ضوء موازين القوى العسكرية الراهنة فإن المآلات التي أفضت إليها حرب العشائر في دير الزور لم تكن مستغربة، ففي استمرار التحالف الدولي على موقفه المنكفئ، فإن سلطات قسد تدرك محدودية السلاح والذخيرة التي تمتلكها العشائر، في حين أن قوات قسد تضع يدها على مخزون من العتاد المتطور كمّاً ونوعاً، وبهذا استطاعت احتواء (هبّة العشائر) في الأيام الثلاثة الأولى، ومن ثم استطاعت استعادة السيطرة على معظم المناطق التي انتزعها مقاتلو العشائر في البداية، إلى أنْ أجهزت على بلدة (ذيبان) معقل الشيخ إبراهيم الهفل الذي غاب عن الأنظار واكتفى بتسجيل صوتي يحض فيه أبناء العشائر على الاستمرار في القتال، لكن يبدو أن مثل هذا التسجيل بدا في لحظة ما كصيحة في العراء. وفي الوقت ذاته لا يجد قائد قوات سوريا الديمقراطية (مظلوم عبدي) أي حرج في الدعوة إلى الحوار والاستعداد التام للاستجابة لمطالب القبائل العربية، في حين أن تصريحاته في الأيام الأولى للمعارك كانت أشدّ ضراوة، فهل اطمأن مظلوم عبدي بزوال الخطر العسكري عن أمن كيانه وهو الأهم، ومن ثم لا بأس في الاستمرار باتباع سياسة الاحتواء والالتفاف والمداورة كما كانت الأمور سابقاً؟
———————————
تاريخ دير الزور المعقد.. من الثورة السورية إلى الوجود الأميركي/ نبراس إبراهيم
تعتبر مدينة دير الزور في شرقي سوريا، منطقة شهدت تاريخًا مضطربًا منذ بداية الثورة السورية في عام 2011، حيث إنها تعد نقطة تقاطع حاسمة في النزاع السوري تتلاقى فيها مصالح متعددة، بما في ذلك تلك التي تتعلق بقوات سوريا الديمقراطية والعشائر المحلية.
بدأت الثورة السورية كاحتجاجات سلمية ضد النظام، وانتشرت هذه الاحتجاجات في جميع أنحاء البلاد، بما في ذلك دير الزور، في البداية شهدت المدينة مظاهرات سلمية تطالب بالديمقراطية وحقوق الإنسان.
مع تصاعد الاحتجاجات وتصاعد العنف من قبل النظام، بدأت الأوضاع تتدهور في دير الزور. في عام 2012 سيطرت قوات المعارضة على بعض المناطق في المدينة، مما أدى إلى اشتباكات مع قوات النظام وكان في ذلك الوقت قد بدأ تنظيم الدولة (داعش) في التسلل إلى المنطقة وتأسيس وجوده هناك.
لعبت الديناميات العشائرية أيضًا دورًا كبيرًا في تاريخ دير الزور إذ تمتلك العشائر جذورًا عميقة في المنطقة وشغلت تقليديًا مناصب السلطة وسعت إلى الحفاظ على تأثيرها. في كثير من الأحيان كانت تتعارض مصالحهم مع تلك التي تسعى إليها قوات سوريا الديمقراطية والجهات الأخرى في المنطقة، مما يسهم في تصاعد التوترات والنزاعات المحلية.
في الأسابيع الأخيرة، شهدت دير الزور اتساعًا في الحوادث والاشتباكات بين قوات سوريا الديمقراطية وبين بعض العشائر المحلية. يعود هذا الصدام إلى عوامل متعددة، بما في ذلك التنافس على الموارد المحلية والسيطرة على مناطق استراتيجية، وأيضًا التدخل الخارجي والصراعات الجغرافية التي تشهدها المنطقة.
هناك عدد من العوامل الاستراتيجية التي تجعل دير الزور سببًا للصراع بين قوات سوريا الديمقراطية والعشائر المحلية تتلخص في عدة عوامل رئيسة:
الثروات والموارد الطبيعية: تضم دير الزور احتياطيات كبيرة من النفط والغاز الطبيعي والسيطرة على هذه الموارد ينعكس في القوة الاقتصادية والإيرادات، وسعت مجموعات مختلفة، بما في ذلك قوات سوريا الديمقراطية وكذلك العشائر المحلية، للسيطرة على هذه الأصول، مما أدى إلى صراعات حول إدارة الموارد وتوزيع الإيرادات.
أهمية جيوسياسية: إن موقع دير الزور على ضفاف نهر الفرات وقربها من الحدود العراقية يجعلها موقع تقاطع استراتيجي، والسيطرة على المنطقة له دور في التأثير على التجارة والحركة عبر الحدود مما يجعل من مدينة دير الزور مركزاً ذا قيمة لأي جهة تسعى للسيطرة على شرقي سوريا.
ديناميات القبيلة التاريخية: تمتلك دير الزور تاريخًا طويلًا من القبلية، وكانت العشائر المحلية تمتلك تأثيرًا وسلطة كبيرة تقليديًا في المنطقة، في حين ينظر إلى قوات سوريا الديمقراطية غالبًا على أنها قوة خارجية مما أدى إلى التوترات، حيث يقاوم قادة العشائر ومجتمعاتهم ما يرونه تدخلًا خارجيًا في شؤونهم.
إدارة الموارد وتوزيع الإيرادات: السيطرة على موارد المنطقة، بما في ذلك حقول النفط، أدت إلى نزاعات حول كيفية توزيع الإيرادات، حيث غالباً ما تطالب العشائر بحصة من إيرادات هذه الموارد بوصفها سلطة حاكمة، بينما تسعى قوات سوريا الديمقراطية للسيطرة على هذه الموارد المالية.
نزاعات على ملكية الأرض: كانت مسألة الملكية والسيطرة على أراض محددة داخل دير الزور مثار نزاع قد تمتلك العشائر مطالب تاريخية بمناطق معينة، في حين يمكن أن تتنازع عليها قوات سوريا الديمقراطية ومجموعات مسلحة أخرى، مما يؤدي إلى صراعات محلية.
التدخل الخارجي: مشاركة جهات خارجية، مثل الولايات المتحدة وروسيا، في الصراع السوري أضافت تعقيدًا إضافيًا للوضع في دير الزور. كما أن الدعم الخارجي لمجموعات مختلفة، بما في ذلك قوات سوريا الديمقراطية زاد من تعقيدات الديناميات في المنطقة.
مخاوف أمنية: ضمان الأمان والاستقرار في دير الزور أمر مهم لجميع الأطراف الموجودة على الأرض، وإن وجود مجموعات مسلحة، بما في ذلك بقايا داعش، مستمر في تشكيل تهديدات أمنية. وهناك مصلحة كبيرة في الحفاظ على الأمان لكل من العشائر، وقوات سوريا الديمقراطية، لكن الأساليب والأولويات المختلفة تؤدي إلى توترات بين الطرفين.
اختلافات عرقية وفكرية: تتكون قوات سوريا الديمقراطية بشكل رئيسي من قوات كردية ويُنظر إليها من قبل بعض العشائر العربية المحلية على أنها مجموعة مميزة عرقيًا وفكريًا.
أما بالنسبة لوجود تنظيم داعش في دير الزور ومناطق أخرى في سوريا فقد ظهر خلال الأعوام الأوائل للثورة السورية، ثم انتشر التنظيم بسرعة في المناطق التي كانت تشهد صراعات وفراغاً في السلطة، واستغل التنظيم الفوضى والتوترات في دير الزور لتأسيس وجوده وسيطرته على أجزاء كبيرة من المدينة فرض التنظيم وجوده بقوة في المنطقة واتبع نظامًا صارمًا يعتمد على تفسيره الخاص للإسلام وقام بفرض قوانين صارمة وأذل واضطهد سكان المنطقة الذين لم يلتزموا بتعاليمه، كما قام بتدمير الممتلكات الثقافية والتاريخية في المدينة.
وفي سياق الحرب ضد داعش، بدأت الولايات المتحدة بالتدخل العسكري في سوريا حيث توجهت القوات الأميركية وحلفاؤها إلى شمال شرقي سوريا وساعدوا في تشكيل قوات سوريا الديمقراطية (قسد) لمحاربة داعش.
قدمت الولايات المتحدة دعمًا عسكريًا ولوجستيًا لقسد في جهودهم لطرد داعش من المناطق التي سيطر عليها التنظيم. وعلى الرغم من الهزائم التي مني بها تنظيم داعش عسكريًا، إلا أن آثار وجودهم ما زالت تؤثر على دير الزور والمناطق المجاورة.
وقد تكون النزاعات الأخيرة بين العشائر المحلية وقسد سبباً في إضعاف الأخيرة لتزداد سلطة العشائر في المنطقة بدعم أكبر من الجهات الإقليمية الداعمة للعشائر المحلية واضمحلال سلطة قسد تدريجياً، مما قد يصعد من التوترات المحلية أكثر خلال الفترات المقبلة، ويؤدي إلى زيادة في عدم الاستقرار والأمن.
تتطلب استعادة الأمن والاستقرار في المنطقة تعاوناً دولياً مستداماً وجهوداً مشتركة لمكافحة التطرف وإعادة بناء المجتمعات المتضررة، وتهدئة النزاعات سعياً لتخفيف آثارها على المدنيين، كما تظل مسألة الوجود الأميركي في سوريا موضوع نقاش دولي، حيث تتغير الأوضاع باستمرار وتتطور السياسات الأميركية معتمدة على تحالفات محلية وأهداف سياسية واستراتيجية متعددة، وتبقى موضوعاً للمراقبة والتحليل المستمر.
—————————–
إبراهيم الهفل شيخ عشيرة أم شاب من زمن الثورة السورية؟/ أحمد جاسم الحسين
لم يخطر ببال ابن الثانية والعشرين حين بدأت الثورة السورية أنه سيحمل يوماً السلاح في وجه أحد، أو يقود معركة، ذلك أن سمعة عائلته ومشيخة “عيال الأبرز/ أخوة هدلة” لم ترتبط بحمل السلاح في القرن الأخير، بقدر ما ارتبطت بحل المشاكل بين من يقصد مضافتهم، وكذلك قضاء مصالح محددة لأبناء القبيلة. تكاد أجندة الشيخ أن تكون ممتلئة، وهي أجندة غير تقليدية لأنها تعتمد على ما يأتي الناس من أجله ووفقاً لحاجاتهم، وليس وفقاً لوقته هو، منها ما يُقضى باتصال ومنها ما يتم توضيح تفاصيله لمن يطلب وتعذر القيام به، نظراً لعدم قانونيته أو منطقيته، والكثير مما يطلب يبدو على شكل وساطة اجتماعية أو مع سلطات الأمر الواقع. مستفيداً من الاحترام الذي فرضته سمعة العائلة وتاريخها في المشيخة الذي يمتد أكثر من سبعة أجيال على شاطئ الفرات، للاستجابة الاجتماعية أو السلطوية لوساطاته!
وكان يتساءل: أمِنَ الحكمة أن يكون خيارُ المشيخة مسايرة سلطة الأمر الواقع، بدلاً من حمل السلاح في وجهها، خاصة أن قضاء مصالح قاصدي مضافة الهفل، يقتضي مد الأيادي مع السلطة في مجتمع عشائري لا يعرف حدوداً للواسطة، ولا يقرأ تحولات الدولة ومفاهيمها، وهذه الوساطات تبدأ بالتوظيف وتنتهي بإخراج سجين سياسي أو جنائي. حين يقيم الشيخ والده أو جده في العاصمة إبان جلسات المجلس النيابي فإن معظم وقته يصرفه لقضاء حاجات أبناء القبيلة.
لا يعرف عن الشيخ الحالي أو الشيوخ السابقين للقبيلة أنهم يأخذون مقابلاً مادياً مباشراً من قاصديهم أو زوارهم أو متوسطيهم، غير أن أبناء القبيلة لا يتخلون عن المضافة واحتياجاتها، أو ما يتطلبه اسم القبيلة أو سمعتها، أما إدارة الحاجات اليومية للعائلة فإنها تعتمد، وفق ما يقال، على مساعدات مادية تأتي بين الفينة والأخرى من مشايخ عديدين من الخليج العربي، احتراماً لمكانة القبيلة وتاريخها ووفاء لمرحلة ما قبل الدولة، إذ لا يعرف أبناء الشيخ وعائلته العمل اليدوي بالشكل المباشر للعمل، لكن يمكنك أن تقول كما هو شأن الوجهاء الاجتماعيين: عملهم هو قضاء حوائج الناس!
كان إبراهيم يراقب والده (عضو البرلمان السوري حتى وفاته منتصف عام 2016) المعروف بهدوئه ورزانته وقلة كلامه، متحسراً على حنكة جده عبود الجدعان الهفل الذي توفي قبل عامين من ولادة إبراهيم عام 1989، الذي كان يوصف بأنه داهية ورجل محنك وسياسي ماهر، شارك في الحياة السياسية السورية منذ الاستقلال، وتمكن من إضافة لقب شيخ رسمياً لوالده جدعان (في سجلات النفوس السورية) وعرف بمناصرته لحروب القبيلة لتؤكد شوكتها وسلطتها أمام القبائل الأخرى وإبان ترسيم الحدود الصحراوية السورية مع العراق، وقد حدثه والده عن أن المشيخة لا تكون إلا بالقوة متمثلة بالدفاع عن حياض القبيلة وكذلك النخوة والشهامة ومثاله ما فعلته القبيلة مع النازحين الأرمن، والبعد التاريخي حيث كان جده حاكماً لدير الزور في نهايات العهد العثماني الأول حوالي 1862 خاصة أن جد أعمامه هو روبن هود الفرات رمضان شلاش.
راقب ابن الثانية والعشرين بَطَرَ بعض أبناء عشيرته إبان السيطرة على آبار النفط مطلع الثورة السورية، بعد انسحاب النظام منها، بحيث إن أحدهم غلى إبريق الشاي على الدولارات بدلاً من أن يغليه على الجمر، وشاهد بعينيه انحرافات الثورة من بعض المحسوبين على الجيش الحر الذي تشكل على شكل جماعات أهلية ثم دخول جبهة النصرة وبعد ذلك داعش الذي غيب والده أياماً.
شاهد بعينيه لأول مرة كيف أن هناك قوى جديدة في سوريا لا تكترث بالتاريخ أو النسب أو الشجاعة، لغتها الوحيدة هي السلاح والتبعية لمشغل دولي ما، وكان لا يزال يتلمس خطاه الأولى في قراءة الحياة وقد كان يؤلمه أن أحد أقاربه الذين عملوا في المخابرات العسكرية من بلدة ذيبان يجند شبيحة لقمع مظاهرات منطقة الميادين مطلع الثورة!
الشيخ إبراهيم ممتنٌ للظرف الطارئ الذي جعله شيخاً أول للقبيلة في منطقة الفرات، حين فوّضه أخوه الشيخ مصعب المقيم بدولة قطر، هروباً من جو المعارك والمشاحنات وداعش وسواها، وكلاهما يدرك أن الهدف من هذا التفويض القضاء على فكرة أن تذهب المشيخة لأحد الأعمام المباشرين، أو سواهم، ولا ينظر التكليف بالمشيخة للكفاءة أو الدراسة أو سواها، بل تنظر إلى العمر فحسب حيث تكون للابن الأكبر أو الأخ إن كان الابن قاصراً.
ليس بين قسد والشيخ إبراهيم تاريخ عداوة طويل بحيث انقطعت سبل التفاهم بينهما، بل نفور وتعارض سلطة، فقسد ليست نداً له بمفهوم الرأسمال الاجتماعي، ولم تقطع الخيوط معه من قبل واتصالاته مباشرة مع قادتها المحليين الذين يلبون الكثير من وساطاته العشائرية، بل سمحت له أن يكون له معبره الخاص على نهر الفرات باتجاه الضفة الأخرى، حيث لا يضطر أولاد عمه لدفع إتاوات للمعابر الأخرى، أما أن تقول اليوم قسد: إنه المطلوب الأول لديها فأمر مضحك له ولأقاربه، وهو يعلم أن القرارات الاستراتيجية حول المنطقة ليست بيد قسد بل بيد مشغلها الأميركي!
ريف دير الزور الشرقي من الضفة اليسرى، أو لنقل جغرافية قبيلة العقيدات، تعني بالنسبة لـ قسد ثلاثة أمور رئيسية:
المشاركة في سردية الأميركيين كمسوغ مباشر للبقاء في سوريا في أن هناك خلايا نائمة لداعش وتجب محاربتها!
إبقاء المنطقة ورقة ضغط مهمة بيد قسد بانتظار الحل النهائي في سوريا.
المحافظة على استثمار آبار النفط والغاز بصفتها الأكثر إنتاجاً في سوريا.
يسمع يومياً في مجلسه السردية التالية؛ فيتعاطف معها: هذا نفطنا أمام عيوننا، يأخذه الـ بي كي كي ليموّل عملياته في تركيا أو لينمّوا المناطق ذات الأغلبية الكردية، فيما نحن محرمون من خيراته وخدماته كـ “العيس يقتلها الظمأ والنفط من أرضنا محمول”!
لا يخطر ببال الرجل أن ما قام به سيفسر بأنه لأجل أحمد الخبيل رئيس مجلس دير الزور العسكري المعتقل لدى قسد، وهو آخر من يمكن أن يقوم لأجله الشيخ إبراهيم، نظراً لسمعته السلبية والخلاف المسكوت عنه بين عشيرة البوكامل (عشيرة الشيخ إبراهيم) وعشيرة البكير (أحمد الخبيل)، بل إن فزعته الحالية تعني العض على جرح الخلاف العشائري داخل القبيلة. وأن ذلك الحدث سبب مباشر لتتم مطالبة قسد بعدم الإساءة لأبناء القبيلة، وضرورة تقديم المزيد من الخدمات البلدية خاصة أن هناك تذمراً شعبياً من طول الرحلة مع قسد أو التعايش مع وجودها، فالناس تريد أن تستأنف حياتها من جديد وأن لا تبقى حياتها معطلة أو مؤجلة!
أما القول إنه ثار بتحريض من النظام، أو أن مقاتلين معه جاؤوا من جهة النظام فدليل أن من يقول ذلك لا يعرف ديموغرافية المنطقة، أو أنه يتقصد خلط الأوراق، لأن أبناء عمومة إبراهيم من (العلي والمحمد الظاهر) يعيشون في الميادين وقريتي الطيبة ومحكان أي الضفة اليمنى، وبالتالي فإنه من الطبيعي أن يعبروا لمساندة ابن عمهم بصفتهم أقارب دم!
بل إنه رفض دفع ثمن إعلان الولاء للنظام السوري من قبل، لذلك غاب اسم مشيخة العقيدات عن المجلس النيابي لأول مرة منذ تأسيس الدولة السورية (غير مأسوف على ذلك المقعد طبعاً)، وتمّ اختيار شبيح من شبيحة النظام بعد وفاة والده عام 2016، إضافة إلى أن إقامة شقيقه الشيخ مصعب في دولة قطر لا ترضي النظام، ولا مواقف الشيخ إبراهيم الثورية تريحهم!
وهنا لا بد من توضيح أن الآلاف من السوريين الذين يعيشون في جهة قسد يقبضون رواتبهم من جهة النظام، وهناك يومياً أطباء ومحامون وموظفون يتنقلون بين الضفتين، ويذهب الناس يومياً بالمئات لتسجيل زواجهم ومواليدهم وقضاء كل حاجاتهم الحكومية. وحين سقطت داعش قبل سنوات هاجر معظم أبناء الشامية (الضفة اليمنى) إلى أبناء عمهم في الضفة المقابلة خوفاً من بطش النظام وميليشياته، واليوم كذلك تهاجر النساء والأطفال مع أموالهم وذهبهم إلى الضفة المعاكسة، خوفاً من سرقات جنود قسد!
يدرك شيخ العشيرة الشاب الذي ترعرع في عهد كلمة (لا)، عهد الثورة السورية أن حياة الناس في تلك المنطقة لا تتحمل الكثير من التهجير، وأنهم اقتصادياً ونفسياً تحملوا الكثير، فقد مرت على هذه المنطقة قوى الجيش الحر والنصرة وداعش ولاحقاً قسد وهناك قوى دولية وإقليمية كثيرة متحفزة ومتصارعة!
يعلم أن الفزعة العشائرية هي حركة كرامة واحترام ونخوة، وأن ميزان القوة العسكرية ليس في كفته، لكنه قال وقال أقاربه معه: لا، حتى لا تبقى غصة في حلوقهم! وهو ما فعلته قبيلة العقيدات والبوكامل في وجه الفرنسيين والإنكليز ذات يوم، مثلما قالها سوريون كثيرون تجاه قوى الأمر الواقع كما يفعل أبناء السويداء اليوم بكل شجاعة ورجولة ومسؤولية وطنية.
يدرك الشيخ إبراهيم أنه يعيش في الزمن الضائع، وأن الموت كان بانتظاره في أكثر من موقف، ذلك أن سلطات الأمر الواقع لا تريد صوتاً عالياً فوق سقف ما تقرره أو توجه به، فقد نجا ابن الرابعة والثلاثين عاماً قبل ثلاثة أعوام من اغتيال مؤكد، واغتيل يومها ابن عمه (مطشر الهفل)، ويعلم الرجل من هو القاتل، ومن هو المشجع ومن هو المستفيد، كما صرح في مجلسه غير مرة، وأن قسد غضت النظر عمن اغتال ابن عمه وحاول اغتياله هو شخصياً!
—————————-
ما بعد دير الزور/ صبا مدور
كل شيء في معارك دير الزور، يجعل منها مقدمة لما بعدها من تطورات مهمة وربما خطيرة في المشهد السوري، فهي أكبر من مجرد مواجهات محلية محدودة، سواء بالنسبة لأطرافها التي تتجاوز المتحاربين إلى النظام وميليشياته وقوى إقليمية ودولية مستفيدة أو متضررة، أو ما يرتبط بالمنطقة التي تجري فيها المعارك، وقد كانت هي ذاتها خلال الأسابيع الماضية مثار تكهنات وتحليلات ومعلومات عن مشروع للسيطرة عليها من خلال قوى مسلحة من أبناء العشائر المحلية ومن عناصر قسد يغلقون طريق الامدادات الإيراني على الحدود مع العراق، فإذا بالطرفين المفترضين لتنفيذ المشروع الامريكي يتقاتلان في هذا الوقت بالذات، فيما تكتفي واشنطن بدعوة متأخرة للحوار والتوقف عن حل الخلاف من خلال السلاح.
كشفت المعارك عن احتقان كبير بين سكان المنطقة من قسد ومن يمثلها بينهم ، وكشفت أيضا أن جزءا غير يسير من مقاتلي قسد هم من أبناء نفس العشائر التي تحاربها اليوم، انضموا لها في أوقات مختلفة بدافع الرغبة في العائد المالي، بعدما انعدمت خيارات الرزق والعمل في هذه المناطق، وكشفت ثالثا أن الوضع في سوريا ليس هادئا كما ظل البعض يردد ويأمل ليبرر التطبيع مع نظام بشار، وأن عامين من الجمود ظلت تخبئ وضعا ملتهبا وملتبسا وأزمة كبرى لم يبذل أحد أي جهد لحلها، فكانت معارك دير الزور إحدى تجليات خطورتها ونيرانها دائمة الاشتعال وإن خف لهيبها قليلا.
ولا شك أن وجود قسد وسيطرتها على نحو ثلث مساحة سوريا يمثل نمطاً شاذاً ونتيجة مباشرة للفشل في حل الأزمة السورية بطريقة عادلة وجدية، وعن تداخل إقليمي ودولي زاد في حدة الأزمة، وتراوح بين دعم النظام، أو معاداته دون اسقاطه، على أن يجري خلق أمر واقع جيوسياسي في سوريا، كانت قسد من بين آثاره وأدواته تماما كحال الوجود الإيراني، سواء بصوره الميليشياوية أو الطائفية أو الاقتصادية.
نتج عن المعارك في دير الزور هزيمة لقسد في مناطق مختلفة أمام العشائر المحلية، وفي بعض الحالات سيطر مقاتلو العشائر على مواقع عسكرية مشتركة بين النظام وقسد، لكن تلك المناطق في شرق الفرات متداخلة بشكل يدعو أحيانا للاستغراب، حيث تشهد تحالفات موضعية، وصفقات بين من يفترض أنهما عَدوان، وخصومات بين من ينبغي أن يكونا حليفين، ووسط ذلك، عاش سكان تلك المناطق الموبوءة بالمعاناة والإهمال طيلة عقود من حكم الأسد، حتى علم أهلها أنهم يقيمون وسط مناطق تنافس إقليمي ودولي على الموارد النفطية والغازية والموقع الاستراتيجي.
وفضلا عن السياق الميداني المعقد، فإن السياق السياسي بدوره يبدو أكثر تعقيدا، فقسد حظيت بدعم أمريكي سمح لها بالتوسع على حساب مناطق أغلبية عربية، مما مثل سوء تقدير فادحا من الولايات المتحدة التي ربما لم تجد بين القبائل العربية في البادية السورية من تعتبره مواليا لها يسير بأمرها، فاعتبرت قسد ممثلها الوحيد، وفات عليها أن سوء التدبير والجهل بالطباع والناس والجغرافيا سيجر عليها فشلا وكرها وضياعا للأموال والفرص وربما الأرواح أيضا.
فات على الأميركيين أن سوء تدبيرهم في العراق وتحالفهم مع شخصيات وقوى كريهة ومرفوضة اجتماعيا قد ارتد عليها عدة مرات، ومع ذلك، فإن بيرت ماكغورك الممثل الشخصي للرئيس الأميركي، ما زال يمارس نفس الأخطاء التي ارتكبها من قبل دونالد رامسفيلد وجوقته، وإن كانت خسارة أمريكا لا تعنينا، فالمشكلة أنها لن تكون وحدها من يدفع الثمن بل سوريا وشعبها أيضا.
اليوم، بدأت الولايات المتحدة وساطة لوقف القتال قبل ان يخرج الأمر عن سيطرتها، لكن طرفاً آخر يراقب عن كثب ليتحين فرصة الانقضاض على المصالح الأمريكية هناك، والدخول كقوة مؤثرة على الحدود مع العراق، وأقصد بذلك إيران، فهي قد تكون مستعدة لعرض مساندتها العسكرية الفورية للعشائر العربية شرقي الفرات، في مواجهة قسد التي عادت لتجميع صفوفها واستعادة المبادرة العسكرية، مقابل وجود إيراني في هذه المناطق.
سيكون معقدا على أهلنا شرق سوريا أن يختاروا بين قسد التي قتلت من أبنائهم، ومستعدة لقتل المزيد، وبين الميليشيات الإيرانية التي يمكن ان تفعل الأمر ذاته. ويزيد في تعقيد الأمر أن تركيا التي يهمها كثيرا هزيمة قسد، لن يمكنها تقديم دعم فوري لمقاتلي العشائر، بسبب غياب مناطق التماس الجغرافية، والحاجة لوقت غير متوافر أصلا، من اجل انتظار الدعم واستيعابه، وهو ما يمنح الإيرانيين فرصة ثمينة، لن يحرم طهران منها، سوى مبادرة سريعة من الأمريكيين تحترم الوقائع على الأرض وعشائر المنطقة، أو دعم يصل الى مقاتلي العشائر من أهلنا في مناطق سوريا الأخرى، لاسيما من الشمال، ومن إدلب، حتى يفرضوا شروطهم على الجميع، دون حاجة، لا للأمريكيين ولا للإيرانيين، وهو ما سيكون المنجز الوطني الأهم للثوار في سوريا منذ عدة سنوات.
المدن
—————————
بين طهرانية الثورات وواقعيتها -ثورة قبائل الجزيرة نموذجاً/ أحمد الشمام
لا بد لكل حركة أو ثورة أن تلتزم بهدف وسياسة واضحة تضبطها، وأفقٍ تسعى إليه في مستواها النظري أو في مستوى القدرة على استيعاب التطورات الجديدة في المسعى؛ للحفاظ على مبادئ نظرية وأفق لتحقيق الحلم بحرية وكرامة، وبالرغم من الرغبة العارمة والعفوية لدى الكثير من شعوبنا ممن انتمى للثورات وأخلص لها أو أيدها أن ينظر لها بعين المحب والحريص على نقائها، قبالة ذلك إن الإفراط في اعتبارها ملائكية وطهرانية هو ضرب من اليوتوبيا والحلم، فالثورة الفرنسية التي غيرت وجه أوروبا انطلقت ومن ضمن ما تناقلته من شعارات “اخنقوا آخر كاهن بأمعاء آخر فيلسوف”، كما ارتكبت في مسيرة أعمالها إعدامات ميدانية بلا محاكمات ولا مرافعات، وجرفت فيما جرفت في فورتها وذروة فعالياتها أخطاء جسيمة، قد تكون الطهرانية مرتفعة في إطار الحديث عن الشهداء والجرحى ومعاقي الحرب، وقد ترتفع موجة الأدرينالين لدى قسم لا بأس به ممن تأثر بصراخ الأسرى وجراحهم وصراخ المغتصبات، وقد تصبح تلك مبدأ يشكل رؤية ومنهجا وهدفا ساميا لإنصافهن، ومن الطبيعي أن تُوَلِّد المظالم رغبات رد فعل منفعلة محكومة بقانون رد الفعل، ولكنها سرعان ما تنحسر إلى رؤية القصاص العادل متفقة مع مبادئ الثورة إبان اندلاعها في الحرية والعدل وتداول السلطة السلمي.
يحمل الكثير صورة نمطية عن المكون القبلي باعتباره بيئة خارج التاريخ، وباعتبار القبلية ذهنية مفوّتة وماضوية، فانطلقوا من خلال ذلك إلى اعتبار أي حراك بحامل قبلي لا يعول عليه، ولا يمكن أن ينجز أثرا في التأسيس لوطن متحضر؛ تتراكب فيه الثقافات وتتواشج مشكّلةً ثقافة وطن يسمو على الجميع ويتشكل منهم.
قد يصلح جزء من هذا التصور المسبق فيما لو كانت الدولة السورية محررة من براثن الأسد؛ وشهدت حراكا قبليا يدعو لاستقلال القبائل ومناطقها، أو إلى تشكيل وضع قانوني خاص بها على شاكلة قانون القبائل في عهد الاحتلال الفرنسي، غير أنه الآن وأمام تغول قوى كثيرة واستباحتها للأرض السورية والدم السوري ومشاريع دولية لا تحصى؛ بات من المحتم الانتصاف لأي جماعة ترنو لحقها في الحياة؛ تمتلك قوة اعتبارية ولو عفوية تستطيع أن تفرض نفسها كثقل موجود يمكن العمل عليه؛ دون وضعه فوق اعتبارات الوطنية والعدل والشراكة؛ ما دامت تنطلق في رؤيتها من مسلمات تتفق ومبادئ الثورة، ولا تخرج عن أطر الإجماع الوطني المأمول نظريا، خصوصا أنها تقف – القبائل- موقف الند من مشروع ميليشياوي عصاباتي عمل على اعتساف الحقوق وإهلاك الحجر والبشر، وارتكب مجازر بحق الجميع، وهي نفسها – القبائل- التي دفعت ثمن تغول داعش والحرب عليها أيضا، وتدفع الآن ثمن الحرب تحت سطوة الهيمنة العسكرية لقسد التي كرستها أميركا وقوات التحالف في منطقة النفط والغاز منذ اعتبر العربي بيئة حاضنة لداعش.
في الحرب تستحضر الشعوب غيبياتها وسردياتها التاريخية ومخيالها الجمعي، ويمكن لقصيدة أو نخوة ينخي بها رجل أو امرأة قبيلته؛ أن تترك أثرا أكثر مما يترك خطاب ثقافي نخبوي في غير مكانه ولا زمانه، ولسنا بوارد تعويم القبيلة على الدولة؛ بل الإشارة إلى ضرورة احترام شتى الثقافات والدوافع التي يمكن أن تثير تآزرا ضد مشروع يفتت البلاد ويستبيحها.
تشكل الحرية أساسا لتحقيق كرامة الإنسان باعتبارها هدفا أسمى لا يختلف عليه اثنان بعيدا عن تأويلاتهما التي تتسع وقد تشط وتخرج عن نصوصها الأولى وضوابطها، وهي الشعلة التي تستنفر في الفرد قدرة مواجهته لواقعه المر المذل؛ وتستفز طاقته وقدراته ليثور؛ فرجل الدين يحاجج بنص ديني أو بحدث مؤثر، وكذا يحاجج المثقف بحق الشعوب في تأسيس دولة تعبر عنها، وكذا يحاجج القبلي بتاريخه وأنفته التي وقرت في مخياله وتاريخه اتفقنا معها أم اختلفنا، وليس هذا التحديد حصرا لكل جماعة بخلق معين؛ بل بتأويلات ثقافية وآفاق قيمية تشكل قيمة عليا في أذهان الناس كل بحسب قراءته وخصوصيات ثقافته.
كنت قد أوردت في بحث سابق عن القبائل في شرق الفرات؛ أن القبيلة تمتلك أفق تواصل أكثر اتساعا من المدينة، لكونها تنتشر في وسط ريفي، ومفتوحة في مستوى علاقاتها على كل إمكانات معرفة وانكشاف التوجهات والاهتمامات؛ نظرا لأن بنياتها وأفرادها يعيشون بيئة واحدة في قرى وبلدات متقاربة؛ وتشترك بالعادات والقيم نفسها عموما، ما يعني إمكانية المعرفة الجماعية العامة عن أي نشاط؛ سواء في مستوى عمل الأفراد أو الجماعات وارتباطاتها الحزبية أو الأمنية أو السياسية، كما تمتلك تلك القبائل أيضا شبكات تواصل قادرة على معرفة من يمكن الاعتماد عليه في حدث ما ومن لا يؤمل منه خير، وهو ما يجعل أي عمل تمرد، معارضة، ثورة، ينبني على معرفة واضحة بالمحيط، ومنه فإن مجرد حدوث ثورة في مكان كضفاف شرق الفرات يعني انتفاضة الجميع؛ وإشهار ثورتهم في وضح النهار دون خوف أو وجل، باعتبارها تشكل حالة عامة وليست حدثا مختلفا عليه؛ كما في بدء الثورة مثلا واختلاف الناس بين مؤيد ومعارض؛ رغم النسبة الغالبة من متبني الثورة في تلك الآونة.
تمتلك القبائل في دير الزور إمكانية مختلفة، هي جزء من قيمة أخلاقية رسخت في ذهنية أبناء دير الزور وهي مفهوم الفزعة؛ حتى تكاد تجمع أبناء الدير وتطبعهم بطابع محدد سواء كانوا أبناء ريف أو مدينة، وقد وجدت لها تأثيثا في الذاكرة الشعبية فيما بين أبنائها؛ حتى أصبح من المعيب على أحدهم أن يشهد حدثا ولا يشارك فيه، وولدت حالة أكثر رسوخا مما نجده لدى أبناء القبائل في محافظات أخرى؛ ولسنا بوارد تعظيم جماعة على أخرى بقدر ما نبحث في سمة محددة تحضر في بيئة اجتماعية قبالة غياب سمات أخرى، ومنها جذور التماسك والتعاون بناء على ثقافة عامة شائعة في بيئة اجتماعية محددة، وهو ما جعل ذاك الترابط العضوي معتمدا على العصبة لدى أبناء دير الزور حالة يحتذى بها من قبل قبائل أخرى تحاول أن تتمثلها، أو يتمثلها أفراد حلموا بانتفاضة شيوخ قبائلهم الذين أذعنوا لقسد في مناطق أخرى، وتعاضد أبناء القبائل الذين تناخوا لنصرة من ثار حتى في بيئات قبلية بعيدة جغرافيا – حلب، والشمال المحرر- لتشكل حالة ثورية قبلية يتشارك بها الغالبية ممن امتلكوا قرارهم وقرروا أن يذهبوا في الأمر إلى آخر مداه، إضافة إلى وجود توجه ثوري لدى شباب كثير في المناطق المحررة، لم يجدوا وعاء يؤطر جهودهم في غمرة التمزق والتشتت السياسي الحالي.
تبدو ثورة جبل حوران في السويداء قد ذهبت إلى الحد الذي لا رجعة فيه، وما عاد يمثل هيجانا مطلبيا كما تقَوَّلَ البعض بعد أن أزالت أصنام الأسد وضربتها بالأحذية، وفي الحين نفسه رأينا كيف استولدت قبائل السويداء تصوراتها الأولى عن الدولة في رفع صور المؤسسين الأُوَل على مبنى المحافظة، كما رفعوا علم الحدود الخمسة في رمزية لتآزر الجميع وتوحدهم واستحضارا لتاريخ معين، ثورة العشائر هي الأخرى غابت عنها الرايات سوى علم الثورة الذي رفع في بلدات الدحلة، والصبحة، وجديد بكارة، وجديد عكيدات، كما أن القبائل بدت عارفة لمبدأ قوى التحالف في وقوفه مع الأقوى، واعتراف الأخير بوجود نزاع بين القبائل البعيدة عن المشروع الإيراني وقسد كما ظهر في تصريحات وزارة الخارجية منذ يومين، ورفضها التفاوض مع قسد بل مع التحالف حصرا.
تبدو المعركة معركة كسر عظم وحسم؛ حيث شاركت قبائل كثيرة في دير الزور كما دخلت قوى قبلية ثورية من ريف حلب وبنت خيمة الحرب، وتدخلت جيوش القبائل من المناطق المحررة تحت القصف الروسي الذي يؤازر الأسد ويضرب تلك القوات ما يسقط مقولة الاشتباه بحراكها عبر ربطه بالنظام، وبقي على القبائل وأبنائها أن يصمدوا في لعبة عض الأصابع رغم عدم توازن في القوى والمعدات في حين أن صمودها سيعني اندلاعها في أماكن أخرى وانهيار مشروع قسد وتهديدا لسلطة الأسد.
———————————-
الكُرد والعرب لن يتقاتلوا في سورية/ شفان إبراهيم
يبدو أن صراعا ما طفح على السطح بين مراكز القوى في الفترة الماضية في دير الزور في سورية، وأهمها قضية الخلاف بين أحمد حميد الخبيل، الملقب أبو خولة، وقوات سوريا الديمقراطية (قسد). ذلك أمر يخصّ الشأن العسكري، وطريقة تفاهم الجانبين واتفاقهما، وطبيعة التعامل والقصاص العسكري، ما دامت الجهة التي يتم الحديث عنها شريحة عسكرية ضمن جسم عسكري أوسع، لا يجوز جرّ القواعد الاجتماعية إليه. سبق ذلك رفض المجتمع المحلي في دير الزور سلوكيات المجلس العسكري، ورفض طريقة الإدارة الذاتية أيضاً في إدارة البلاد، والتي يقول أهالي دير الزور إنهم غير ممثلين بالشكل الذي هم يطلبونه. رافقت ذلك تشنّجات وتظاهرات رافضة سياسات “مجلس دير الزور المدني”، الجسم العربي ضمن “الإدارة الذاتية” والمحسوب عليها أصلاً، والحديث عن “هضم” حقوق المكوّن العربي ضمن “قسد” والإدارة. ليتطوّر الأمر مع نداءات مجموعات عسكرية تابعة لمجلس دير الزور العسكري، أو “غروبات” عسكرية تقول إن ما جرى صراع كُردي عربي! وتحميل الكُرد وزر مشكلتهم. لكن كيف وغالبية شباب دير الزور جزء من “قسد”؟
تتحوّل القضية إلى شأن ورأي عام، خصوصا مع التداخل الجغرافي والتاريخي لمكوّنات المنطقة، وتجاور الكُرد والعرب في عموم شمال سورية وشرقها، وتلك النداءات للصراع العرقي ستجرّ كامل المنطقة إلى أصعب وأسوأ مرحلة في تاريخ سورية منذ بدايات الاستقلال؛ فالعشائر العربية والكردية منتشرة على طول البلاد ومتجاورة في الريف والمدينة. ومع الانحياز التام للحق والمطالب الشعبية المُحقة دوماً وأبداً، إلا أن ما يحصل حالياً من التأجيج والسعي الحثيث لجرّ المنطقة صوب القتال العربي – الكردي، شكّل قناعة وفهما جديدين لدى القواعد الاجتماعية، عن طبيعة العلاقة بين التشكيلات العسكرية المكونة “قسد”، وحجم الغبن الحاصل والكارثة التي يتم العمل للانجرار إليها. وترويج ذلك الصراع يُزيد من دائرة إدانة قسم من مجلس دير الزور العسكري، خصوصا أن من المتوقع إماطة اللثام عن الفساد الاقتصادي والممارسات غير القانونية، للمعتقلين؛ للاستثمار فيها والحصول على مزيد من تأليب الناس ضدهم، وستستفيد “قسد” منها، خصوصا في ظل تعدّد مراكز القوى وتعدّد الفصائل والجهات المسلحة ونزاعاتها المتواصلة.
ما يهم والخطر المُحدق بشكل مُلح هو ما تطبخه أطرافٌ عديدة تجد في أيّ نزاعٍ محلي داخلي فرصة سانحة لها؛ لفرض سياساتها أو انتشارها. لكن ما سيساهم في عدّم تطور الأوضاع أكثر أربعة عوامل مُركبة. أولها: الاتفاق على أن مطالب المجتمع المحلي في دير الزور مُحقة، بعيداً عن لغة السلاح والتهديد، ما دامت تتعلق بسبل العيش والشراكة في إدارة البلاد ومواردها والاستقرار، ووجب الوقوف على “تنفيذها”. ثانيها: تتقاطع رغبة العُقلاء والوعيٌ الشعبي بعدم الانجرار صوب هذه الفتن والصراعات، خصوصا في ظل الفقر والعوز والجوع الذي يجتاح المنطقة برمتها، إضافة إلى هجرة مئات الآلاف من الشباب من مختلف الانتماءات، والتي تلعب دورا مهما في إشاعة سلوكيات رافضة لمزيد من الأحزان والأوجاع، إضافة إلى الرهان على دور شيوخ دير الزور ووجهائها وتكنوقراطييها في وأد هذه الفتنة في مهدها. ثالثها: لن يكون في مصلحة قوات التحالف الدولي أيُّ نزاعٍ عرقي يقوّض مشاريعها في منع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) من العودة والاستفادة من التوترات، أو المزيد من تمدّد مختلف الجهات العسكرية المناهضة لها، وهو ما بدا واضحاً عبر بيانها عن الأحداث وتركيزها حول العمل مع “قوات الدفاع السورية” لضمان هزيمة “داعش”، وأن الانحرافات عن هذا العمل يؤدّي إلى عدم الاستقرار وخطورة عودة ظهور “داعش”. داعياً إلى توقّف العنف. والمعروف أن “قسد – مجلس دير الزور العسكري” جزء مما سماه بيان التحالف “قوات الدفاع السورية”، ورُبما تكون رسالة ترضية إلى تركيا، أنها لن تقف مع طرفٍ ضد الآخر، وأن ما يهمها دحر “داعش”، ومنع عودة القوات الحكومية السورية إلى تلك المناطق. رابعها: سلوك قيادة مجلس دير الزور العسكري قبل حادثة اعتقاله وبعدها ساهم في فضح المستور. حيث يؤكّد عديدون من نشطاء الرأي والأهالي على رفض السلوكيات والممارسات من قادة المجلس، وتحمل ذاكرتهم انطباعات سيئة عن فترة حكمهم.
حالياً، دخلت فئات مسلحة من بعض العشائر على خط الأزمة، ومعروفٌ أن الغالبية العظمى من العشائر العربية في شرق الفرات مُنقسمة الانتماء ومتعدّدة الولاءات. ومن السهل جداً رؤية أكثر من توجه ضمن العشيرة نفسها، ما بين المؤيدة والرافضة “قسد”، المعارضة السورية وتركيا، الحكومة السورية… إلخ. لذلك من المنطقي أن تشهد دير الزور انقساما ما بين قبول أو رفض قسم من شيوخ العشائر وأنصارها طريقة إدارة البلاد وتهميشهم، ورفضهم طبيعة حياتهم وعيشهم؛ نتيجة طبيعية لتشعب توجّهات الشخصيات المفتاحية والشيوخ ضمن العشيرة نفسها. وبين موقف النُخب الثقافية العربية التي انقسمت أيضاً، منها ما يرى أن ظلما وحيفا وقعا على الأهالي، وآن أوان التغيير، من دون الحديث عن نوع الصراع القومي وطبيعته، ومنهم من رفض هذا الشكل من استرداد الحقوق أو المطالبة به أو آلية التواصل. مع ملاحظة عمق إشكالية الموقف من “الإدارة الذاتية”، فهي إما يتم شمول كُل الكُرد بأيّ فعل للإدارة الذاتية، أو يتم تبرئة المكوّن العربي ضمنها من تلك الممارسات، وهذه أُحجيةٌ لم تتفكّك بعد، فليس كُل الكُرد جزءا من الإدارة الذاتية أو يقبلون ممارساتها، وليس كُل العرب خارج تلك الممارسات والتصرّفات والسُلطة. من حق أهالي دير الزور المطالبة بما يرونه مُناسباً لإدارة مناطقهم، لكن موقف نُخبها يُفضي إلى واحدة من حالتين: عجزهم عن تأديتهم دورهم وسط كتلة من المشكلات والتهميش والملاحقات التي عانوا منها، وأساساً المثقف الذي لا يقوم بواجبه في أزماتٍ كهذه، خصوصا من هم خارج دائرة الخطر، هي أزمة فكرية وثقافية أعمق من المشكلة نفسها. أو عدم اهتمامهم بما يجري، رُبما خوفاً من القادم، أو رفضاً لطرفي الصراع.
رُبما يكون الحلّ في فعلٍ مُركّب، إحداث التغييرات على مستوى المطالب الشعبية، والقصاص من كُل من يُثبت تورّطه وتعامله مع “داعش”، ورفض صارم وواضح لأي دعواتٍ من شأنها تأجيج النزاعات المحلية. وأخطر ما يُهدّد الأمن والسلم المجتمعي أن شرائح وفئات عمرية كالشباب والمراهقين من السهل الاستثمار فيهم. وهذا بدا واضحاً عبر مقاطع الفيديو المنتشرة، والتي تُهدّد وتتوعد الكُرد بالقصاص، حيث غالبيتهم من الفئات العمرية الفتية. والمطلوب اليوم منا جميعاً، هيئاتٍ وأحزابا، مُنظمات ومنصات إعلامية وشخصيات اجتماعية فاعلة، كُتّاباً ومشتغلين في الشأن العام، ترسيخ الحوار الكردي العربي، وإبعاد الأفكار والقوالب الجاهزة، ومزيد من تمتين التواصل وحماية الجدار الفاصل الحامي من أيَّ اشتباكٍ عِرقي أو أثني. ويُمكن للعدالة الانتقالية أن تلعب دوراً مهماً في إحقاق الحقّ لأصحابه ومحاسبة الجناة بشكل قانوني بعيداً عن التصفيات أو الانتقامات. وكما لم يحمّل الكُرد في سورية وزر سلسلة المظالم التي لحقت بهم جرّاء القرارات والمراسيم والتمييز الذي تعرّضوا له على الهويّة، لأيَّ مكوّن سوري، وخصوصا القواعد الاجتماعية العربية في سورية، فإن لا أحد يحقّ له جرّ الكُرد إلى ساحات المواجهة بسبب قضايا عسكرية أو مدنية تخصّ هياكل الحكم وخلافاتها البينية، أو حماية المجرمين أيًّا كانت توجّهاتهم، وتأكيد أن الكُرد والعرب لن يتقاتلوا أبداً، إرضاءً للسياسيين أو أيَّ جهة كانت.
العربي الجديد
——————————-
مواجهات شرق الفرات ومستقبل الصراع السوري/ مروان قبلان
بعد 12 عاما على انطلاق الثورة السورية، وتحوّلها إلى حرب وكالةٍ إقليمية ودولية، وساحة تنافس مفتوحة أمام خمسة جيوش أجنبية، اتّضح، في نهاية المطاف، أن مصير منطقة شرق الفرات هو ما سيحدّد مستقبل الصراع في سورية وفي أي اتجاه سيذهب. ورغم أنه كان واضحًا، منذ البداية، أن هذه المنطقة ستكون “بيضة القبّان” في الصراع الدائر على امتداد الهلال الخصيب، خصوصا بعد سيطرة تنظيم داعش عليها عامي 2013-2014، إلا أن تفجّر الوضع بين العشائر العربية والمليشيات الكردية، واحتدام التنافس بين القوى الخارجية في المنطقة أخيرا، يؤكّد صحّة هذه الخلاصة.
سبق أن أطلق مهتمّون بالشأن السوري على مناطق الكثافة السكانية العالية الواقعة غرب سورية اسم “سورية المفيدة”. لكن المفيد في سورية حقًا كان تلك المنطقة الواقعة شرق نهر الفرات بين نقطة دخوله الأراضي السورية من تركيا، في جرابلس، شمالا، وصولا إلى نقطة خروجه منها، في البوكمال، على الحدود مع العراق، جنوبا. تتركّز في تلك المنطقة أكثر ثروات سورية الطبيعية من نفط وغاز وموارد مائية وأراض زراعية خصبة (سلّة الغذاء والكساء، القمح والقطن)، والتي يصعب على أي سلطة/ سلطات واقعة غرب النهر الاستمرار بمعزلٍ عنها. وهو ما تدلّ عليه الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعانيها مناطق سيطرة النظام والمعارضة على السواء. لكن الأهم من ذلك الموقع الاستراتيجي لهذه المنطقة، والتي لم تبد الولايات المتحدة اهتماما بغيرها في أثناء سنوات الصراع على سورية، فقد تدخّلت واشنطن، في بداية الأمر، لإخراج تنظيم الدولة الإسلامية منها، عبر إنشاء (ودعم) قوات سوريا الديمقراطية، التي تشكّل “وحدات حماية الشعب الكردية” عمودها الفقري. لكن القضاء على التنظيم لم يقلّص أهمية المنطقة بالنسبة لواشنطن، بل زادها، إذ وضعتها سيطرتها عليها في قلب مربع القوى الرئيس في غرب آسيا (تركيا وإيران والعراق وسورية)، ووضعت، من ثم، في يدها أداة تأثير رئيسة في سياسات هذه القوى، فمن خلال وجودها شرق الفرات، تحفظ واشنطن دورها في الصراع السوري، وفي تقرير نتائجه السياسية والعسكرية، وعبرها تراقب حركة إيران وحلفائها في المنطقة، وتستخدمها أداة ضغط عليها في مفاوضاتها معها حول دورها الإقليمي وبرنامجها النووي، وتبقى كذلك لاعبا مؤثرا في سياسات العراق الذي تحاول إيران إحكام سيطرتها عليه، وتحظى بأداة ضغطٍ قويةٍ على تركيا بوجودها على حدودها الجنوبية ورعايتها الطموحات الكردية. عسكريا، تمثّل منطقة شرق الفرات عقدة ربط مهمة بين القواعد الأميركية في تركيا وشمال العراق والأردن والخليج، ونقطة تمركز إضافية في مواجهة مشروع “الحزام والطريق” الصيني. حتى عام 2014، كانت سورية البلد الوحيد في المنطقة الذي لم تكن تملك واشنطن قواعد عسكرية، أو وجودا من نوع ما فيه. ولأهميتها، عارض البنتاغون قرار الرئيس ترامب الانسحاب منها عام 2019 وعمل على إجهاضه.
وللأسباب نفسها التي تجعل المنطقة مهمة للولايات المتحدة فإنها مهمّة لبقية الأطراف، بالنسبة لإيران تمثل معبرا لا غنى عنه لضمان بقائها في سورية، وهيمنتها على العراق، والوصول إلى حلفائها في لبنان، والحفاظ على نافذة مطلّة على الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. وهي مهمّة أيضا من نواح اقتصادية، إذ تمثّل مناطق شرق الفرات معبرا إجباريا لمشاريع نقل النفط والغاز من الخليج، وإيران والعراق باتجاه المتوسّط، ولا بديل عن ثرواتها إذا أرادت إيران استيفاء ديونها على النظام السوري، والتي تضعها تقديراتٌ عند 50 مليار دولار. بالنسبة لروسيا، تعدّ منطقة شرق الفرات نقطة الحوار الوحيدة الممكنة مع الولايات المتحدة، في ظروف القطيعة الكاملة بينهما بسبب حرب أوكرانيا. لهذا تتزايد الاستفزازات الجوية الروسية لإجبار واشنطن على الحديث معها. وهناك بالطبع اهتماماتٌ روسيةٌ بثروات المنطقة، وبتكريس نفوذها فيها، وإكمال “نصرها” في سورية عبر السيطرة عليها.
بالنسبة لتركيا، تعدّ شرق الفرات قضية أمن قومي تهدّد وحدتها، ولا يمكن التغاضي عنها. لهذه الأسباب، تختلف روسيا وإيران وتركيا والنظام السوري على كل شيء تقريبا، لكنها تلتقي على هدف إخراج الأميركيين من المنطقة، ويشكّل تفجر الصراع بين العشائر العربية والمليشيات الكردية فرصة مهمة لتحقيق ذلك. من هنا، يرجّح أن تستمر المنطقة ساحة صراع ونفوذ يتقرّر بها مصير المسألة السورية برمتها.
العربي الجديد
——————-
إلى أين يتّجه الشمال السوري؟/ فاطمة ياسين
عندما يشرح المحلّلون السياسيون الوضع السوري، يعتبرون أن سورية أصبحت مقسّمة إلى عدة قطاعات، أولها الذي يسيطر عليه النظام، والثاني قطاع الشمال الغربي الذي يمكن أن يقسّم إلى منطقتين، تسيطر على الأولى قوات معارضة مدعومة مباشرة من تركيا، والأخرى تخضع لنفوذ منظمات متشدّدة إسلامية تدير مناطق في إدلب وريف حلب. فيما يعتبر القسم الشرقي من الفرات قطاعاً رابعاً، خرج مبكّراً عن طاعة النظام، وظهر فيه الكرد قوةً مسيطرة، خصوصاً بعد أن لعبوا دوراً مهماً في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بمساعدةٍ مباشرةٍ من الولايات المتحدة. ساهمت أميركا بقواتها ومعدّاتها في القتال، ما أعطى الجانب الكردي سيطرة واضحة على القطاع، إلى جانب مشاركةٍ عربيةٍ فضفاضة، ولكن الدول الأخرى حافظت لها على وجود وتأثير متفاوت، كتركيا وروسيا، وحتى النظام نفسه الذي بقيت له بقع في مراكز مدن القامشلي والحسكة، وتمدّدت قواته لتتاخم الضفة الغربية من الفرات، وتوجِّهَ أسلحتها واهتمامها نحو الضفة الأخرى، وعينها على الموارد الغنية الموجودة في ذلك القطاع، وترفع شعار استعادة السيادة على كامل القطاع، وتساندها روسيا في ذلك، وتدعم مساعيها لتعود إلى هناك بقوة.
حافظت الولايات المتحدة على وجودٍ مؤثّرٍ في المنطقة، بعد إعلان انتصارها على “الدولة الإسلامية” (داعش)، وأرادت أن تفرض استقراراً يمنع عودة عناصر التنظيم الإرهابي المذكور، ووجدت ذلك في زيادة دعم الجانب الكردي، ولكن الموقف الأميركي سرعان ما أصيب بارتباكٍ من خلال إعلانات متناقضة عن الانسحاب والبقاء وسحب بعض المعدّات الثقيلة، والإبقاء على عدد محدد من القوات، الأمر الذي شجّع الأطراف الأخرى على أن تزيد من مساحة وجودها أو تأثيرها. وكان الجانب الإيراني حاضراً بقوة، فهو مثابرٌ في الحفاظ على أمن الممرّ المفضي إلى سورية عبر العراق، وفيما لم تغيّر الإدارة الأميركية موقفها المعلن في محاربة “داعش”، أضافت إليه محاربة النفوذ الإيراني، ولعل ما بقي من قوات أميركية هو لتنفيذ هذا الغرض. قد تكون القوة الرمزية كافية للإشارة إلى الوجود الأميركي وتأمين حماية ما، لكنها غير قادرة على تأمين الاستقرار الذي تبحث عنه، ويبدو دورها مشوّشاً في الصراع الذي نشب قبل أيام في منطقة وجودها.
حاول الجانبان، التركي والروسي، البحث عن نقاط مشتركة فيما بينهما في المنطقة، وجرّبت روسيا جرّ تركيا إلى التقارب مع النظام، وإيران في خلفية المشهد، فهذا الحلف تجده روسيا قوياً وقادراً على مجابهة الولايات المتحدة، لكن جهودها لم تفلح في إيجاد أي تقارب بين النظام وتركيا. وتبدو علاقاتها مضطربة مع الكرد، ولا يبدو أنها تتمتّع بأي نفوذ بين العشائر العربية، ووجودها شرق النهر محفوفٌ بالمخاطر، فيما تعزّز تركيا وجودها ببطء شديد قد يمكّنها من الوصول إلى هدف المنطقة العازلة بعرضٍ كافٍ، وهي بحاجة لتعاطف العشائر فقط من دون أن تكون هناك ضرورة للتفاهم مع النظام ولا مع روسيا، ويمكن للولايات المتحدة أن تغضّ النظر إذا ظلت حالة من الاستقرار سائدة في المنطقة.
يعتبر الصراع الناشئ حالياً حرباً أهلية مصغّرة، تتوسع وتفتح محاور جديدة فتُنتج المزيد من النازحين الذين بدأت طلائعهم تقطع النهر نحو الجهة الغربية، أو تزحف بمجاميع كبيرة تاركة قُراها نحو التجمّعات الكبرى ذات الاستقرار النسبي، مثل منبج. وحالة كهذه تُنشئ بيئة مناسبة قد تمكِّن النظام وحلفاءه من مدّ النفوذ إلى نقاط الضعف التي ستنشأ، وهذا ما لا ترغب فيه الولايات المتحدة، لكن المجال سيكون مفتوحاً أمام تركيا لتُحرز المزيد من السيطرة على قطاعات أوسع من الحدود، في ظل إحجام القوات الأميركية التي لا تبدو لديها رغبة في تورّطٍ يتطلب استقدام مزيدٍ من الجنود، قبل عام من الانتخابات الرئاسية في بلادها، فالفرصة متاحة في هذا الظرف لكل من النظام وإيران وتركيا وروسيا لفرض سيطرةٍ ما، قد تعرّض المنطقة لشكلٍ جديدٍ من التجزئة.
العربي الجديد
————————
من وحي النزاع بين «قسد» والعشائر العربية شمال سوريا/ وائل عصام
بالتأكيد فإن قوات سوريا الديمقراطية «قسد» لا تمثل جميع الأكراد، وهي بالتالي تنظيم مسلح ساهمت الولايات المتحدة في تعزيز قدراته، لمهام تتعلق بالحرب على تنظيم الدولة، وتدعيم مؤسسات إدارة المناطق، وفق ما تسميه قسد «الإدارة الذاتية»، وهي نظام لا مركزي لإدارة المناطق. وفي تركيبة قوات قسد نجد تعددا عرقيا يضم، الأكراد والعرب والسريان، وبعض التركمان والشركس وغيرهم، لهم تمثيل متفاوت ضمن الإدارة الذاتية والمجالس العسكرية. لكن من المهم التذكير أيضا أن قوات قسد، التي تتسيّد مشهد السيطرة على مناطق واسعة في محافظات الحسكة ودير الزور والرقة، تغلب السيطرة الكردية على مراكز القرار في تلك القوات، في الوقت ذاته الذي يشكل العرب المنضوون تحت قيادتها نسبة كبيرة من مقاتليها.
بمعنى أن صبغة الاشتباكات الأخيرة، قبل تدخل قبيلة العكيدات بزعامة إبراهيم الهفل، وعشائر أخرى، أخذت طابعا عربيا ـ عربيا في الكثير من جوانبها، ضمن إطار قوات قسد والمجلس العسكري لدير الزور، الذي فجّر اعتقال قائده أحمد الخبيل «أبو خولة» الأحداث الأخيرة. لكن في الوقت ذاته فإن الاشتباكات أفصحت عن حالة غضب لدى الغالبية العربية، التي تقطن مناطق شرق وشمال شرقي سوريا من «انتهاكات» لقوات قسد طيلة سنوات، بالإضافة إلى تهميش قيادات المجتمع العربي في توزيع السلطة والثروات التي تهيمن عليها قوات قسد.
ولا يمكن في أي حال الفصل بين ما يجري في دير الزور ومجمل الصراعات الإقليمية، أو التوترات بين مختلف المجموعات العرقية والطائفية في المنطقة العربية، والضغوط الاقتصادية والأمنية، وتعدد القوى المسلحة من مشارب مختلفة شيعية ممثلة بالحشد الشعبي، وعربية سنية ممثلة بمجموعة من فصائل المعارضة السورية المسلحة وتنظيم الدولة. وتشكل محافظة دير الزور أهمية بالغة لجميع الأطراف المحلية والإقليمية والدولية، لمشاركتها الحدود مع غرب العراق، الذي تمر عبره قوافل الإمدادات الإيرانية لحزب الله اللبناني والميليشيات الإيرانية وقوات النظام السوري، وهي الحدود ذاتها التي تمر عبرها قوافل الإمدادات الأمريكية لقوات قسد. وفي حيثيات الصراع ومستقبله لا تبدو الولايات المتحدة، التي ترعى قوات قسد في وارد التخلي عن هذه القوات، التي لا تزال مهمتها الحصرية هي قتال تنظيم الدولة، ومنع عودته للسيطرة على المدن والمناطق مرة ثانية، طالما أن قيادات المجتمع العربي «فشلت» في تقديم أوراق اعتمادها لقوات التحالف الدولي كقوة منظمة قادرة على ضبط الأمن والاستقرار في محافظة دير الزور، وتمتلك ما يكفي من الإمكانيات والقدرات لمواجهة تنظيم الدولة، الذي يرتبط وجود القوات الأمريكية في سوريا باستمرار وجود هذا التنظيم. أثبتت أحداث دير الزور، أن الولاءات القبلية تحكمها مصالح المتنفذين بالقبيلة، وأن عموم أبناء القبائل ليسوا أكثر من أدوات في خدمة مصالح الكبار.
كاتب فلسطيني
—————————-
الجزيرة السورية تنتفض/ إبراهيم العلوش
انتفاضة الجزيرة السورية رافد جديد من روافد الثورة السورية تضاف إلى انتفاضة السويداء، ما يجعل هذه الثورة حية ومتواصلة لتصل إلى أهدافها مهما كانت المعوقات.
اندلعت المواجهات بين العشائر العربية وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) منذ 27 من آب الماضي، بعد اعتقال أحد أمراء الحرب ومجموعة من مساعديه، وهو أحمد الخبيل (أبو خولة)، وقد فهمت العشائر ذلك الاعتقال الجماعي تصعيدًا ضد المكون العربي في الجزيرة السورية، ما أدى إلى حصول انشقاقات كبيرة في صفوف القوات المتحالفة مع “قسد”، ومع التحالف الدولي، واندلاع اشتباكات أدت إلى سقوط أكثر من مئة قتيل، ومئات الجرحى حتى كتابة هذه السطور، في مختلف أنحاء الجزيرة السورية ومناطق شرق الفرات انطلاقًا من دير الزور وانتهاء بريف حلب ومنبج.
الانتفاضة العشائرية في مناطق شرق الفرات وضعت أمراء الحرب من جبال قنديل أمام حقائق الأمر الواقع، وهي أن الأغلبية العربية ترفض قواتها الدخيلة على المنطقة، وأن أيديولوجيا “عبادة” عبد الله أوجلان لا تعني بالنسبة لسكان المنطقة إلا إعادة جديدة لعبادة حافظ الأسد بقوة البنادق والسجون، أو هي إعادة ذكريات سيطرة “داعش” التي مهد إرهابها لتسليم المنطقة لمرتزقة جبال قنديل الذين يجيدون التلاعب السياسي مع التحالف الدولي ومع نظام الأسد ومع إيران، فإلهام أحمد ومظلوم عبدي ومساعدوهما يكررون بشكل دائم خطابات التقرب من الأسد، وموفدوهم يوجدون بشكل شبه دائم في دمشق وفي حميميم بحجج كثيرة!
مظلوم عبدي، قائد “قسد”، صرح في مقابلة مع قناة “العربية” بأن القوات الأمريكية تساند قواته وتدعمها بالطائرات، رغم أن الأمريكيين ينفون ذلك، ويؤكدون عدم تدخلهم في الصراع الدائر ضد “قسد”، وخرجت إلى العلن اتصالات أمريكية مع قادة العشائر للتفاوض معهم والتهدئة، والتزمت القوات الأمريكية بأنها لن تتدخل عسكريًا فيما يحدث في أنحاء الجزيرة السورية.
واتهم مظلوم عبدي المنتفضين بأنهم عملاء لنظام الأسد وإيران، وبأنهم يسعون لإدخال النظام إلى القرى والمدن التي خرجت عن سيطرته، في نفس الوقت الذي تسلّم فيه قوات “قسد” مزيدًا من القرى في ريف حلب لنظام الأسد في مفاوضاتها معه ومع الجانب الروسي، المستعمر الرسمي لسوريا مع إيران، بحجة حماية “قسد” وأنصارها من الاجتياح التركي.
تحالف “قسد” العلني مع القوات الأمريكية، ومن خلف الستار مع إيران، ضد المكون العربي، يعيد الحالة التي ولد فيها تنظيم “داعش” الإرهابي، بعد حالة اليأس والانهيار التي عمت غرب العراق إثر الهجوم الأمريكي مع حلفاء إيران على العشائر السنّية هناك.
التحالف الدولي الذي يسيطر اليوم على البترول وعلى السهول الزراعية الخصبة يمنع الوجود العربي في الجزيرة السورية من حكم نفسه بنفسه، من خلال قوات غازية من حزب “العمال الكردستاني” (بي كي كي) من الشمال التركي، فالتحالف الأمريكي رفض حكم العرب لمناطقهم بحجة أنهم يعطون أولوية لإسقاط الأسد على إسقاط “داعش”.
وفي الجانب الآخر، ترفض إيران، وهي الحليفة السابقة للأمريكيين في العراق، أن تحكم المناطق السورية نفسها، وترفض تحرر المناطق السنّية في دير الزور من الهيمنة الإيرانية ومن هيمنة نظام الأسد. ويضاف إلى كل ذلك الهيمنة التركية على المناطق العربية والكردية في الشمال السوري.
هذا الواقع المأساوي المتمثل بالتبعية للقوات والميليشيات الأجنبية، دفع بالعشائر العربية إلى الهجوم على “قسد” ومحاصرة حواجزها ومقارها في ريف دير الزور، وريف الرقة، وريف منبج وحلب، فهذه المناطق ترفض عودة الأسد، وترفض عودة “داعش”، وترفض أن تبقى رهينة قوات دخيلة أو أجنبية مهما كان حجم المساعدات التي يتم تقديمها كصدقة من قبل قوات التحالف، هذا التحالف الذي يتجاهل تعويضات تدمير المدن والقرى التي سحقتها الطائرات الأمريكية بحجة إخراج “داعش”، وأعادت مدينة الرقة مثلًا إلى العصر الحجري.
قبلت العشائر العربية التحالف مع “قسد” من أجل إخراج “داعش” والتخلص من إرهابها، ولعل قبيلة “الشعيطات” كانت من أكثر المتحمسين لطرد “داعش” وتحطيم منظومتها الإرهابية، ولكن القبيلة اليوم كانت من أبرز المنتفضين على الحكم الدخيل الذي تديره “قسد”، والذي يكرّس المنطقة كأرضية لمحاربة تركيا وبناء الدولة الكردية المرتقبة، ولو كان ذلك على حساب العرب في الجزيرة السورية، وتتجاهل وجودهم بحجة المظلومية التاريخية، التي لم يتسبب عرب الجزيرة السورية بها، والتي تتركز جبهاتها بشكل رئيس في تركيا وإيران والعراق.
مع ذلك لا أحد يستطيع تجاهل الوجود الكردي السوري ومتطلباته المشروعة، والجميع تعاطف مع المأساة الكردية التي خلّفها انهيار الدولة العثمانية خلال المئة عام الماضية، واستمر هذا التعاطف رغم وجود حزب “البعث”، وبعده “داعش”، وهما الطرفان الأكثر عنصرية، والأكثر كراهية للأقليات، الأقليات العرقية من جهة “البعث”، والأقليات الدينية من جهة “داعش”.
في بداية الثورة السورية كان لصوت مشعل التمو صدى واسع في الأنحاء السورية، ولا تزال تدور اتهامات اغتياله حول أنصار “البي كي كي” الذين أسسوا قوات “قسد”، لأنهم تبنوا العداء لأحلام السوريين في الثورة، وسلّمهم النظام مساحات واسعة في الحسكة والقامشلي على حساب الأحزاب الكردية الأخرى، وسلّمهم الأمريكيون منطقة الجزيرة منذ عام 2017 على حساب عرب المنطقة المنتفضين ضد حزب “البعث” وحكم الأسد!
انتفاضة العشائر العربية في الجزيرة السورية التي بدأت خلال الأسابيع الماضية لن تقبل استمرار هيمنة رجال قنديل على حياتهم، وسينتهي هذا الحكم المتغطرس عاجلًا أو آجلًا كما انتهى حكم “داعش” الإرهابي.
وهذه الانتفاضة رغم أنها لم تفرز بعد رؤية سياسية متماسكة، فإنها تذكير بأن الثورة السورية كانت وما زالت ثورة من أجل الكرامة والحرية، ومن أجل حكم الناس أنفسهم بأنفسهم بعيدًا عن الاستبداد، وبعيدًا عن النظم الطوباوية العنصرية التي عانتها المنطقة على يد “البعث” و”داعش”، واليوم على يد ميليشيات “قسد” و”البي كي كي”.
عنب بلدي
———————————-
سوريا… منعاً لانزلاق جديد/ جمال الكشكي
لا تزال مناعة الدولة الوطنية السورية ضعيفة، انفجرت الأوضاع من جديد في شمال شرقي سوريا بين القبائل العربية، وما يسمى قوات سوريا الديمقراطية «قسد»، ويمتد الخطر شمالاً في إدلب وريف حلب الشمالي وريف اللاذقية، وبالتزامن أيضاً تشتعل الأحداث في درعا والسويداء بالجنوب السوري، وبهذا يتضح مثلث التأزيم في بلاد الشام.
ما الذي يحدث في سوريا؟ ولماذا الآن؟ ولمصلحة من العودة مرة أخرى بعد أن لاحت في الأفق آمال وطموحات بالاستقرار والسلام وإعادة الدولة السورية لمفهومها الوطني؟
في الحقيقة ثمة علامات استفهام عديدة، باتت تطرح نفسها بقوة في هذا التوقيت، فالنتائج على الأرض السورية لا تتوافق مع المقدمات التي جرت خلال الأشهر الماضية، سوريا استعادت عضويتها الكاملة بجامعة الدول العربية، أثناء القمة العربية التي عقدت بمدينة جدة السعودية في مايو (أيار) الماضي، وشهدنا مصالحة عربية سورية، وتم الاتفاق على مبدأ الخطوة خطوة، ورافق ذلك جولات وزيارات متبادلة على مستوى الدبلوماسية العربية، أفضت إلى توافق عربي – سوري من خلال لجنة الاتصال العربية التي عقدت في جدة وعمان والقاهرة، وتستعد لانعقادها المقبل في بغداد، فضلاً عن استقرار التمثيل الدبلوماسي بين دمشق وسائر العواصم العربية، الأمر الذي فتح شهية بعض دول العالم إلى استعادة علاقاتها الرسمية مع العاصمة دمشق.
هذه المعطيات كانت تشير إلى أن سوريا عائدة بقوة، وأن الجرح كاد يلتئم، وأن اللاجئين سيعودون إلى ديارهم، يتنفسون هواء الوطن وعذوبة الشام، لكن ها هي النتائج جاءت مغايرة، لم يرق الحال لطباخي الفوضى، وسرعان ما عاد التأزيم يطرق أبواب سوريا من جديد، وكأن هناك اتفاقاً غير معلن بعدم استقرار هذا البلد الذي يمثل مكانة جيوسياسية مهمة في قلب العالم العربي، فلو قرأنا ملامح أحداث هذه المرة سنتوقف بالطبع أمام أحداث الجنوب في درعا، تلك المدينة التي اندلعت منها الشرارة الأولى لمظاهرات 15 مارس (آذار) عام 2011، والآن تشهد المدينة نفسها المظاهرات ذاتها، ربما تختلف الأزمنة، لكن الخوف كل الخوف أن تكون هذه المشاهد استعادت استنساخاً لتقارير المختبرات التي قادت إلى الفوضى والتخريب، وأصابت سوريا بعاهة مستديمة.
أما إذا انتقلنا إلى الأزمة في الشمال الشرقي بين «قسد» والقبائل العربية، فتتسع دائرة الرؤية وتزداد التدخلات ومحاولات فرض النفوذ الخارجي، والسيطرة على الموارد من النفط والغاز والمنتجات الزراعية، ففي هذه المنطقة تظهر بصمات اللاعب الأميركي من خلال دعمه المتواصل لما يسمى قوات سوريا الديمقراطية، فجدول أعمال واشنطن يتضمن بنداً ثابتاً بعنوان «التأزيم وعدم الاستقرار في سوريا»، حفاظاً على البقاء الأميركي أطول فترة ممكنة، ومن ثم، فإن الوصفات الأميركية الجاهزة تنطلق من دورها في محاربة تنظيم داعش، برغم أنها تبذل جهداً كبيراً في صناعته، ونلمس ذلك جيداً عبر عدم إنهاء مشكلة مخيم «الهول» الذي يلد جيلاً جديداً من الدواعش يتمدد يوماً بعد الآخر، مثلما شاهدنا الأيام الماضية الهجمات الداعشية المتكررة على قوات الجيش السوري، التي راح ضحيتها عشرات من الجنود السوريين.
لم تبتعد كثيراً ملامح الأزمة في إدلب، انفجرت الأوضاع بصورة متلاحقة، فالجماعات الإرهابية القادمة من آسيا الوسطى التي تنتمي إلى القاعدة والنصرة تسابق الزمن في إشعال فتيل المواجهة مع الدولة السورية، هؤلاء يعرفون جيداً الرمزية التي تمثلها مدينة إدلب، كبوابة إلى العالم الخارجي، فليس خافياً على مر التاريخ أن الجسد السوري لن يستقر وإدلب تتألم.
اللافت هنا وسط هذه الصورة القاتمة، أن منسوب التفاؤل بات يتراجع، وصدى الأزمات العالمية أصبحت تنعكس في الداخل السوري، إنه صراع النفوذ والإرادات والمصالح، واشنطن لن تحقق الاستدارة الكاملة بالاتجاه شرقاً مهما يكن انشغالها. حلمها بالبقاء في الشرق الأوسط جزء من لعبة الأمم الكبرى، على الشاطئ الآخر من نهر الفرات تقف موسكو يقظة من أجل اتساع نفوذها والحفاظ على مصالحها، وتحقيق حلم القياصرة بالإقامة في المياه الدافئة بشرق المتوسط.
إذن، ما بين الصراع التاريخي الروسي – الأميركي، وأحلام الجماعات الإرهابية عابرة الحدود، تظل سوريا مسرحاً للتجارب، وجس النبض لقلب المنطقة، وهدفاً لاستئناف نسخة جديدة من ربيع الفوضى والتخريب والقتل بما يهدم الهندسة السياسية الجديدة التي توافقت عليها الدول العربية خلال الأشهر الماضية، وهنا علينا أن ندرك جيداً أبعاد ما يحدث في سوريا، ونتوقف أمام رسائله المباشرة وغير المباشرة، ربما تكون إشارته الحقيقية أن ما يسمى بالربيع العربي لا يزال جمراً تحت الرماد، ربما هو قابل للاشتعال، لكن في انتظار الفرصة المواتية، حتى لو كانت مصطنعة، ومن ثم، علينا أن نستبق الأحداث، ونتعلم من دروس الماضي، ونتحرك بصورة جماعية وسريعة للحفاظ على الأمن القومي العربي، ولمنع انزلاق سوريا مرة أخرى نحو حرائق، ربما تتطاير شظاياها إلى سائر الجسد العربي.
الشرق الأوسط
————————–
سوريا: شروخ واضطراب في الوضع القائم
تشهد سوريا عددًا من الاضطرابات السلمية والمسلحة تمتد على شكل قوس من الشمال إلى الشرق، أبرزها تصدعات داخل ركائز النظام في منطقة السويداء، وتصدعات أيضًا في بنية التركيبة التي تجمع (قسد) مع بعض القوى العشائرية برعاية أميركية في مناطق الشرق بدير الزور. قد تتطور هذه الديناميات إلى تغييرات في بنية التحكم ونطاقه.
اندلعت في السويداء جنوب سوريا موجة احتجاجات جديدة، مستمرة منذ منتصف أغسطس/آب 2023، هي الأوسع مقارنة مع الموجات السابقة التي شهدتها المحافظة. بالتزامن، شهدت أيضًا دير الزور شرق البلاد، أواخر أغسطس/آب 2023، اشتباكات عنيفة للغاية بين المكونات العسكرية لقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، سرعان ما تحولت لمواجهات مستمرة بين قسد والعشائر، وهي تُشكل امتدادًا للاحتجاجات التي كانت تخرج في ريف المحافظة الشرقي خلال السنوات الماضية. في الأثناء أيضًا تشهد خطوط التماس بين مناطق المعارضة والنظام شمال غرب البلاد عمليات عسكرية محدودة قد لا تُؤدي لتغير في خارطة السيطرة لكنها مؤشر على شروخ في بنية النظام الأمنية. بالموازاة، زاد نشاط القوات الأميركية في سوريا بقصد مد نفوذها والتضييق أكثر على مناوئيها.
السويداء: اضطراب في معاقل النظام
جنوبًا، شهدت السويداء في 16 أغسطس/آب 2023، إضرابًا عن العمل لعدد من سائقي وسائط النقل؛ رفضًا لقرار “حكومة النظام” رفع أسعار الوقود، وسرعان ما تحول الإضراب إلى احتجاجات اندلعت في معظم مدن وبلدات المحافظة. في الأثناء، كانت الليرة السورية تشهد انهيارًا تاريخيًّا جديدًا؛ حيث وصل سعرها إلى ما دون 15 ألفًا للدولار الواحد، تزامنًا مع إعلان النظام عن رفع مرتقب للدعم الحكومي عن المحروقات وزيادة في أسعار الخبز.
يُحمِّل المتظاهرون النظام مسؤولية انهيار الليرة؛ التي وقعت غالبًا نتيجة مضاربات كبيرة رعاها المصرف المركزي لتحصيل النقد الأجنبي بعد فقدان الأمل في الحصول على تمويل عربي قريب، وفي ظل تراجع محتمل لدخول أموال جديدة عبر مشاريع التعافي المبكر بسبب تعطل آلية المساعدات الإنسانية عبر الحدود التي كانت تتضمن دعمًا أمميًّا لتلك العمليات.
تلقت احتجاجات السويداء دعمًا واضحًا من مشيخة العقل -وهي المرجعية الدينية لطائفة الموحدين الدروز، وتتقاسمها تاريخيًّا ثلاث عوائل، هي: الجربوع والهجري والحناوي- إذ أصدرت بيانًا دعمت فيه مطالب المتظاهرين، دون تبني خطابهم بما يخص “إسقاط النظام السوري وتطبيق القرار 2254 (2015)”، بل أكد بيان المشيخة على “ضرورة إجراء النظام إصلاحات اقتصادية عبر تغيير حكومي، ومحاربة الفساد والتراجع عن القرارات الاقتصادية الأخيرة، وتحسين الواقع المعيشي وتشغيل معبر حدودي بين السويداء والأردن”.
قابل النظام السوري احتجاجات السويداء وموقف مشيخة العقل بسياسات هادئة، بخلاف سلوكه مع الاحتجاجات التي اندلعت في مختلف مناطق البلاد عام 2011، فلم تستخدم أجهزته الأمنية ووحداته العسكرية العنف ضد متظاهري السويداء، رغم وصفهم بالمخربين، وعمل على شق صف مشيخة العقل، عبر محاولة استقطاب الشيخ يوسف الجربوع الذي تراجع عن موقفه الداعم للاحتجاجات بعد أيام من إبلاغه المتظاهرين بالبقاء على موقفهم حتى تحقيق مطالبهم. كما حاول النظام احتواء الأزمة عبر الوسطاء؛ فأرسل وفدًا لتهدئة الاحتجاجات، ضم شخصيات حكومية درزية أو تحظى بعلاقات مع أعيان ووجهاء المحافظة.
إن سياسة التهدئة التي يتبعها النظام مع احتجاجات السويداء تُفسَّر بعدد من الأسباب: حرصه على عدم خسارة نفوذه في المحافظة مع ارتفاع سقف المطالب التي وصلت للدعوة إلى إسقاطه وتشكيل حكم ذاتي، لاسيما أن قرار المواجهة العسكرية قد يؤدي لاستنزاف قدراته وموارده العسكرية في منطقة ينشط فيها العديد من المجموعات المسلحة الدرزية المدعومة محليًّا مثل حركة رجال الكرامة، واحتمال أن تصبح هذه المجموعات في طليعة القوات التي تواجه إيران جنوب البلاد. من جانب آخر، يبدو أن النظام يخشى تضرر ادعاءاته بحماية الأقليات التي يسوِّقها داخليًّا وخارجيًّا وتسهم في تعزيز استمراره في السلطة، وكذلك لا يرغب في تراجع فرصه في الحصول على دعم عربي؛ لأن استخدام العنف سيقوض ما يروج له حول “الاستقرار” في مختلف مناطق البلاد، لاسيما السويداء ودرعا والقنيطرة في الجنوب.
لا تزال أزمة السويداء محلية على نحو كبير لكن هناك ما قد يجعلها تتحول لقضية ذات بعد إقليمي، خصوصًا أن من بين مطالب مشيخة العقل والمتظاهرين فتح معبر بين السويداء مع الأردن، وهو مقترح قديم سبق وبحثته المملكة رسميًّا، عام 2017، ولم ترفضه، وقد تعيد النظر فيه حاليًّا لمواجهة التحديات الأمنية مثل تهريب المخدرات من معبر نصيب في درعا والمنافذ غير الشرعية المحيطة به والتي يتم تهريب الأسلحة منها نحو أراضيها. كذلك هناك موقف دروز فلسطين المحتلة؛ حيث دعمت مشيخة العقل فيها الاحتجاجات الأخيرة، وقد تضغط على إسرائيل لإقناع الولايات المتحدة وبعض الدول العربية المطبِّعة بدعم مقترح إنشاء حكم ذاتي بغرض حماية دروز المنطقة في ظل تآكل قدرة النظام على حماية الطائفة وتحوله لطرف يُشكل تهديدًا لمصالحها.
بالمحصلة، تعكس احتجاجات السويداء تآكل سلطة النظام على المناطق الخاضعة لسيطرته أو تلك التي استعادها بالقوة مثل درعا؛ التي تشهد مدنها وبلداتها منذ أسابيع احتجاجات مستمرة لا تزال تأخذ طابعًا تصاعديًا، بسبب تردي الأوضاع المعيشية وزيادة الأزمة الاقتصادية، وقد بدأ المشاركون في حراك درعا بزيادة التنسيق فيما بينهم وتقديم الدعم لمتظاهري السويداء عبر الانخراط المباشر معهم.
دير الزور: صدام قسد والعشائر
شرقًا، اندلعت في 30 أغسطس/آب 2023، مواجهات مسلحة واسعة وغير مسبوقة بين قبيلة العكيدات العربية في دير الزور وقوات سوريا الديمقراطية (قسد). سبق ذلك، تنفيذ قسد عملية أمنية ضد قيادة مجلس دير الزور العسكري، وهو أحد مكونات العشائر العسكرية، أدت لاعتقال قائده، أحمد الخبيل، المكنى أبا خولة، الذي يُعد أميرًا لإحدى عشائر العكيدات (البكير)، ومقتل عدد من المدنيين خلال عمليات الاقتحام لقرى وبلدات ريف دير الزور الشرقي. اعتبر شيخ قبيلة العكيدات، إبراهيم الهفل، الواقعة تعديًا على أبناء قبيلته وقرر قتال قسد، وطالب التحالف الدولي بـ”دعم إنشاء قيادة عسكرية لمحافظة دير الزور من وجهاء وضباط وأبناء المنطقة”.
قد ينطوي موقف الهفل على حسابات أخرى، كترسيخ قيادته للقبيلة من خلال التكفل بحمايتها، خصوصًا بعد تراجع مكانة زعامة المشيخة وبروز نزعة استقلالية للعشائر الفرعية. كذلك بدا أن هناك رغبة لدى الشيخ الهفل بإعادة الاعتبار لمكانة القبيلة وسلطتها بعد أن باتت قسد تتحكم في تشكيل الكيانات والأجسام العسكرية والمدنية في المنطقة دون الرجوع لبيت المشيخة أو الوجهاء والأعيان.
حرصت قسد على إنهاء الأزمة على نحو سريع بالقوة؛ فأعادت الانتشار عسكريًّا في مناطق انسحبت منها مسبقًا لصالح العشائر في ريفي دير الزور الشرقي والشمالي ثم دخلت بلدة شيخ قبيلة العكيدات على أمل إحداث انقسام في مواقف العشائر، وإحداث شروخ في مشيخة الهفل من خلال الاتفاق مع راغب جدعان الهفل وهو أحد أبناء عمومة الشيخ إبراهيم، على تعيينه شيخًا مؤقتًا للقبيلة مكان الشيخ إبراهيم الهفل. لكن هذه المحاولة من قبل قسد لم تؤدِّ إلى إنهاء المواجهات وإنما حوَّلتها إلى ما يشبه حرب العصابات.
في غضون ذلك، يراقب التحالف الدولي المشهد، وبدا موقفه المُعلن أقرب نسبيًّا لدعم قيادة قسد في المواجهات؛ إذ اعتقلت قسد قائد مجلس دير الزور العسكري في إحدى قواعد التحالف بالحسكة، بعد توجيه دعوة له لاستكمال تسوية تبعات الاشتباكات المسلحة التي وقعت بين الطرفين نهاية يوليو/تموز 2023، وقد كانت الأعنف مقارنة مع المواجهات السابقة. كما أن التحالف الدولي لم يمنع قسد من دخول معقل شيخ قبيلة العكيدات ومضافته في ريف دير الزور الشرقي، لكنه بذات الوقت لم يُقدم أي دعم مسلح لها رغم أنها أعطت حملتها غطاء أمنيًّا ضد خلايا تنظيم الدولة.
أدت مواجهات دير الزور إلى اندلاع “فزعة عشائر” داخل مناطق المعارضة شمال غرب سوريا، لاسيما أن دير الزور سبق وأطلقت “فزعات” لمساعدة الأهالي شمال حلب وإدلب في حالات عدة منها كارثة الزلزال. قدمت فصائل المعارضة المسلحة دعمًا محدودًا لأبناء العشائر في الفزعة، فيما اعتبرت تركيا تحركهم مشروعًا لكن دون تقديم الدعم لهم، وشنَّت عمليات عسكرية محدودة نحو منبج التي تسيطر عليها قسد، وواجهتها روسيا بقصف جوي عنيف كونها المسؤول عن حماية هذه المنطقة بموجب اتفاق سابق مع قسد يعود إلى عام 2019، دخلت أثناءه قوات النظام خطوط التماس وانتشرت في العديد من المناطق الفاصلة بين قسد والمعارضة. لم تُؤدِ “فزعة” العشائر إلى تغير في خريطة السيطرة لكنها زعزعت الوضع القائم، وقد تمتد آثارها مستقبلًا إلى تقليص نفوذ قسد في أرياف حلب والرقة.
تُعد المشاكل الاقتصادية واحدة من الأسباب التي أدت لاندلاع المواجهات المسلحة بين قسد والعشائر العربية في دير الزور، فالمحافظة الغنية بالثروات الطبيعية من نفط وغاز وقمح تشهد موجات احتجاج منذ سنوات بسبب سوء الأوضاع المعيشية والاقتصادية التي يدعي المحتجون أن قسد مسؤولة عنها؛ لأنها تستغل موارد المنطقة عبر شبكات الفساد “ولا تستجيب” الإدارة الذاتية الشريكة لها لدعوات تحويل الرواتب والأجور من الليرة إلى الدولار. هناك أسباب أخرى كانت أكثر وضوحًا للمواجهات بين الطرفين وفق رواية العشائر، مثل الانتهاكات المستمرة بحق المدنيين وسكان المنطقة والتي تكون غالبًا بغطاء عمليات مكافحة الإرهاب وملاحقة خلايا تنظيم الدولة، إضافة إلى القوانين والإجراءات التي تتعارض مع رغبات السكان مثل التجنيد الإلزامي، وفرض مناهج تعليم تتجاهل الأعراف والتقاليد الإسلامية للمنطقة.
أعلنت قسد، في 9 سبتمبر/أيلول، انتهاء العملية في دير الزور مع استمرار الملاحقات، وبالتزامن أعلن شيخ قبيلة العكيدات استمراره في مواجهة قسد إلى حين تحقيق هدف “إدارة المكون العربي لمناطقه”. مما يدل على استمرار الاضطرابات في المحافظة واحتمال تراجع سلطة قسد عليها مع تنامي مطالب العشائر.
نشاط أميركي كثيف
مواجهات دير الزور واحتجاجات السويداء لم تكن التحولات الوحيدة في الوضع القائم في سوريا. شرقًا أيضًا، هناك نشاط متزايد للتحالف الدولي المتزايد؛ إذ ضاعف من معدل إمدادات السلاح لقواعده منذ بداية عام 2023، فزود قاعدته في دير الزور براجمات صواريخ متطورة، لكن لم يترافق ذلك مع زيادة في عدد القوات الأميركية في سوريا التي يبلغ تعدادها حوالي 900 عنصر، إلى جانب 2500 آخرين في العراق وذلك في إطار عملية “العزم الصلب” ضد تنظيم الدولة، فيما لم يصدر أي إعلان رسمي عن تغير في مهام وعدد هذه القوات.
من جانب آخر، رفع التحالف بشكل ملحوظ معدل التدريبات المشتركة مع جيش سوريا الحرة في قاعدة التنف جنوب شرق البلاد، دون أن يترافق ذلك بتغيير مع برامج عمل وانتشار الفصيل على الحدود مع العراق وعلى خطوط التماس مع قوات النظام السوري والميليشيات الإيرانية. كما قدم التحالف الدعم والتغطية لعمليات أمنية وتدريبات غير مسبوقة بين جهاز مكافحة الإرهاب التابع لحزب الاتحاد الوطني الكردستاني العراقي وجهاز مكافحة الإرهاب التابع لقسد، فلقد وقع تنفيذ 6 عمليات مشتركة في مناطق مختلفة شرق نهر الفرات في سوريا منذ أبريل/نيسان إلى أغسطس/آب (2023).
على ما يبدو، فإن زيادة نشاط القوات الأميركية في سوريا تهدف إلى تعزيز حالة الردع والدفاع في ظل استمرار وارتفاع مستوى التهديد الذي تُشكله الفصائل المسلحة الموالية الإيرانية المنتشرة غرب الفرات وعلى أجزاء من الحدود السورية-العراقية، لاسيما أن هذه الميليشيات سبق أن قصفت قواعد القوات الأميركية في دير الزور والحسكة.
تحريك الخطوط في الشمال
شمالًا، نفذت هيئة تحرير الشام خلال أغسطس/آب 2023، ما لا يقل عن 3 عمليات عسكرية ضد مواقع قوات النظام في جبهات غرب حلب وجنوب إدلب وشمال اللاذقية، وهذه العمليات امتداد لتلك التي بدأتها فصائل المعارضة المسلحة منذ نهاية عام 2022 وتهدف إلى تغيير توازن القوى العسكري القائم منذ عام 2020 (بموجب اتفاق وقف إطلاق النار بين تركيا وروسيا).
كانت عمليات فصائل المعارضة والهيئة تقتصر سابقًا على إضعاف قوات النظام، وحاليًّا باتت تركز أكثر على القضم المحدود للمناطق أو السيطرة والاحتفاظ بالمواقع المتقدمة، ويبدو أن التحول في هدف العمليات مرتبط بعوامل عدة أبرزها تراجع قدرة روسيا على توفير التغطية الجوية الكافية للنظام بسبب انتقال معظم مجهودها الحربي إلى أوكرانيا، إضافة إلى تطوير فصائل المعارضة أدواتها وقدراتها الدفاعية والهجومية وحرصها على إنهاء أي تهديد محتمل لمواقعها، لاسيما جبهات جنوب إدلب والساحل، باعتبار أن النظام كان دائمًا يتحين الفرص للتخلي عن التزامه بوقف إطلاق النار والتقدم باتجاه مساحات جديدة ضمن مناطق المعارضة للسيطرة عليها.
تبدلات في الأفق
تُشير التحولات التي تشهدها مناطق جنوب وشرق سوريا إلى وجود إمكانية كبيرة لتغير شكل وتوزيع السلطة في تلك المناطق، وكذلك احتمال تغير أجزاء من خارطة السيطرة والنفوذ في المناطق الخاضعة للنظام بعد ثبات دام لأكثر من ثلاثة أعوام ونصف، إضافة لإمكانية تأثر مسار التطبيع العربي مع النظام بما يجري من تطورات.
سواءً استمرت المواجهات في دير الزور أو انتهت فإنها ستؤدي غالبًا إلى دفع الولايات المتحدة لإعادة النظر في شكل الحكم وتوزع السلطة ضمن مناطق سيطرة قسد حتى لا يستثمر تنظيم الدولة أو إيران الاستياء المتزايد منها، خاصة أن واشنطن تعزز قوة ردعها ضد الجماعات المسلحة الموالية لإيران في سوريا. لذلك، يُرجح أن يكون للمكون العشائري دور أكبر في مستقبل المنطقة على حساب دور قيادة قسد التي يسيطر عليها حزب العمال الكردستاني وفرعه السوري.
لا يبدو أن الاضطراب في دير الزور الذي يؤثر على الاستقرار وعلى مهام التحالف الدولي في مكافحة الإرهاب سيؤدي إلى تراجع الولايات المتحدة عن جهودها في تعزيز قوة الردع لقواتها وشركائها في سوريا؛ إذ من المتوقع أن تستمر في تقديم الدعم والتغطية للعمليات الأمنية المشتركة بين جهازي مكافحة الإرهاب التابعين لقسد والاتحاد الوطني الكردستاني العراقي، وربما إقناع جهاز مكافحة الإرهاب في الجيش العراقي بالدخول في تنسيق مماثل مع أحد شركائها في سوريا أو مع التحالف الدولي بمفرده بغرض تأمين أجزاء واسعة من الشريط الحدودي بين سوريا والعراق، لتقويض أنشطة تنظيم الدولة، وكذلك قدرة إيران على نقل الأسلحة والمقاتلين بين البلدين.
كما فتحت المواجهات في دير الزور ثغرة للمعارضة السورية قد تؤدي إلى إحداث تغير في خارطة السيطرة والنفوذ مستقبلًا، فاستمرارها يحمل فرصة أكبر للفصائل وتركيا من أجل دخول منبج أو أجزاء منها، إضافة لدفع ضامني أستانا، أي تركيا وروسيا وإيران، إلى مناقشة آلية مشتركة لدعم العشائر في مناطق النظام والمعارضة ضد قسد.
إن التأثير المحتمل على شكل السلطة وتوزيعها لا يقتصر على مناطق شرق سوريا بل قد يصل إلى شمالها وجنوبها، فهيئة تحرير الشام استطاعت الوصول لأول مرة إلى مناطق جديدة شمال حلب بغطاء مجموعات وعناصر لأبناء العشائر العاملين في صفوفها لمد سلطتها. بدورها السويداء قد تحصل على امتيازات في الحكم يوافق عليها النظام تحت ضغط عربي كخيار يضمن له استمرار مسار التطبيع وفرص الحصول على التمويل العربي وتوسيع العلاقات الدبلوماسية التي لا تزال محدودة.
مركز الجزيرة للدراسات
———————-
سوريا: “المكونات” واستعادة “الرومانسية الثورية”/ حسام عيتاني
تزامُن اشتباكات شرقي سوريا مع مظاهرات مدينة السويداء في الجنوب، يحرض على التفكير في سياقات جديدة للعثور على حل للاستعصاء السوري المستمر منذ 12 عاما.
لا يمكن، بداهة، إسقاط احتمالات وقوف قوى إقليمية ودولية وراء الاقتتال بين “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) ذات الاكثرية الكردية وبين والعشائر العربية، في نواحي دير الزور، ولا التحرك المستمر منذ أكثر من ثلاثة أسابيع في منطقة السويداء وقراها. ذلك أن دوافع عدة تعزز الاحتمالات هذه.
وفي حالة الشرق السوري، هناك كلام تردد عن عزم الولايات المتحدة إغلاق الطريق البري الذي سمي “خط طهران– بيروت” والذي تستخدمه قوى “الممانعة” لإمداد عناصرها وقواتها على امتداد العراق ثم سوريا وصولا إلى لبنان. وأن ثمة من دفع مسلحين عربا لافتعال صراع مع “قسد” التي ستسير في الخطة الأميركية المذكورة، مفضلة الراعي الأميركي على غيره ممن تعاملت وتعاونت “قسد” معهم على امتداد الصراع في سوريا.
أما في الجنوب، فيقول محللون إن التحركات في السويداء هي من علامات فشل التطبيع العربي مع نظام بشار الأسد الذي لم يتخذ أية خطوة في اتجاه وقف تهريب المخدرات وإبعاد القوات الإيرانية عن الحدود مع الأردن ضمن تفاهمات “الخطوة مقابل الخطوة” التي أسست لاستئناف العلاقات العربية مع دمشق وحضور بشار الأسد القمة العربية الأخيرة. وعليه، ستستمر هذه التحركات على أن تتسع لاحقا لتشمل مناطق درعا لتشكل منطقة عازلة بين الأردن وسوريا. ويوضح المحللون أن إغلاق بعض المنافذ الحدودية بين البلدين والتراجع الكبير في نشاط المناطق الحرة هناك، يعكس حقيقة أن الأسد لم يتخذ أي إجراء في مجالي المخدرات والوجود الامني – العسكري الايراني.
مهما يكن من أمر، تتعين ملاحظة أن الفاعلين الميدانيين في التحركات المذكورة، في معزل عمن يخطط ويدير المعركة من وراء الأبواب الموصدة ويرسم الخطط بعيدة ومتوسطة المدى، هي “المكونات” المحلية: “قسد” والعشائر في دير الزور ومنطقتها والطائفة الدرزية في الجنوب. “المكونات” هي “الطوائف” في لغة اخرى وجغرافيا متاخمة لسوريا.
يعيد ذلك التأكيد على جانب رئيس من الصراع السوري الذي غالبا ما استنكر كتاب ومثقفون سوريون إدراجه ضمن تفسير أسباب إخفاق الثورة التي انطلقت عام 2011 وانقلابها حربا أهلية دموية أفضت إلى تحقيق النظام وحلفائه انتصارات استراتيجية وحطمت النزوع الثوري الذي برز بين عامي 2011 و2013، أي عنصر توزع المجتمع السوري على مكونات أهلية يطلب كل منها ما يراه حقا في التمثيل السياسي والحفاظ على هويته الثقافية والدينية والاجتماعية، بعدما انجلت سنوات حكم “البعث العربي الاشتراكي” عن حكم تحالف أقلية طائفية مع فئات اجتماعية متنفذة. غني عن البيان أن التحالف هذا بين عسكريي الطائفة العلوية وكبار برجوازيي الطائفة السنية المدينية، قاد البلاد إلى دمارها الحالي، من جهة، ورفع “الوعي” بالذات الجهوية والطائفية والعشائرية وحقوقها، من جهة مقابلة، على نحو بات فيه من المحال العودة إلى الوراء.
الرؤية المفضلة عند قسم وازن من المثقفين المعارضين تقوم على تصوير الصراع كتطلب للديمقراطية والعدالة والكرامة بين “الشعب السوري الواحد” وبين نظام عسكري غاشم. الرومانسية الطاغية في الرؤية هذه تتجاهل ما حدث من مجازر طائفية ومذهبية وجهوية ومن خطاب علني ومضمر عن تصنيف الخصوم طائفيا، وتنحو في اتجاه اعادة التأسيس لرومانسية ثورية لم تثبت الاحداث ولا الايام قدرتها على الصمود او على التحول الى واقع ملموس.
قوات سوريا الديمقراطية، وبغض النظر عمن تحالفت معه في السنوات السابقة ومن خاصمته، ستبقى تعبيرا عن القضية الكردية العميقة في التكوين السوري. الحراك الدرزي كذلك. العشائر والطبقات المحرومة من السنة يصح عليها الأمر ذاته. فيما لا يتورع النظام عن الإفراط في استخدام العلويين كـ”لحم للمدافع” لإرجاء لحظة سقوطه.
هل “الديمقراطية التوافقية” على الطريقتين اللبنانية والعراقية، هي الحل في سوريا. التجربتان الكارثيتان في بيروت وبغداد تحضان على أن تتجنب دمشق السير في هذا الطريق نظرا إلى قدرة بعض المكونات على الالتفاف على التفاهمات التأسيسية التي تنص عليها دساتير ما بعد الحروب، وأن تعتمد على موازين القوى المسلحة والاستقواء بالخارج للاستحواذ على السلطة الكاملة.
لا مفر من الاعتراف بأن المشهد الحالي في سوريا معقد أكثر من أن تحيط به نماذج سابقة ومستنفدة وأن حالة من الإنهاك والضيق تحاصر جميع القوى وربما تدفعها إلى طرق عمل مفاجئة.
المجلة
——————————-
أجواء لاهبة في شرق سورية/ أرميناك توكماجيان
كان الصيف حارًّا في شمال شرق سورية، وكذلك فترة الانتقال إلى الخريف. ففي بداية هذا الفصل، احتدمت التشنجات بين القوات الأميركية التي لا تزال منتشرة في الشمال الشرقي من جهة، وروسيا وإيران والنظام السوري من جهة أخرى. وفقًا للمسؤولين الأميركيين ولوثائق مسرّبة من البنتاغون، تتعاون موسكو وطهران ودمشق منذ أواخر العام 2022، لزيادة الضغوط على القوات الأميركية وطردها من الشمال الشرقي. لقد عمدت روسيا إلىمضايقة الطائرات الأميركية والحليفة، وألحقت أيضًا أضرارًا بالطائرات المسيّرة الأميركية. وهاجمت مجموعات مرتبطة بإيران، بدورها، القوات الأميركية، وأقدمت على خطوات تصعيدية مثلنقل صواريخ مضادة للطائرات إلى محافظة دير الزور.
ولكن الولايات المتحدة لم تُظهر أي مؤشرات بأنها ستغادر المنطقة. بل على النقيض، عمدت في حزيران/يونيو إلى تعزيز أسطولها من الطائرات هناك، وشمل ذلك نشر مقاتلات متطوّرة من طرازَي إف-22 وإف-35. وفي 9 آب/أغسطس، تحدّثت تقارير عن تجمّع ممثّلين عن الحرس الثوري الإسلامي الإيراني، وحزب الله، وقوات الحشد الشعبي العراقية وغيرها من وكلاء إيران قرب الحدود اللبنانية-السورية لمناقشة سبل ردع الهجمات المحتملة على مواقعها في دير الزور. وفي الوقت نفسه تقريبًا،نقلت واشنطن، كما أفيد، مزيدًا من القوات إلى شمال شرق سورية عن طريق العراق، ويُعتقَد أنها ناقشت مع تركيا نقل مقاتلي المعارضة السورية من الشمال الغربي إلى القاعدة العسكرية الأميركية في التنف، بالقرب من الحدود الأردنية. وكانت هذه إشارة إلى أن الأميركيين يستعدّون لإغلاق الحدود السورية-العراقية ومنع القوات الموالية لإيران من عبورها بحرّية.
بدا الشمال الشرقي، لبرهة من الوقت، وكأنه يقف على شفا مواجهة عسكرية كبرى. ولكن حدث العكس مع تنفيس الاحتقان سريعًا، وذلك لأسباب عدّة أبرزها التوصل إلى اتفاق أميركي-إيراني في مطلع آب/أغسطس بشأن السجناء وإفراج واشنطن عن الأصول الإيرانية المحتجزة. لذلك، ليس مفاجئًا أن يكون نزع فتيل التصعيد جزءًا من هذه المقايضة. وقد جاء ذلك بعدما تحدّثت تقارير في حزيران/يونيو عن أن الولايات المتحدة وإيران توشكان على التوصّل إلى اتفاق بشأن “وقف إطلاق نار سياسي”، وقد نصّ أحد بنوده على قيام طهران “بوقف الهجمات الدموية التي يشنّها وكلاؤها في المنطقة ضد المتعاقدين الأميركيين في سورية والعراق”.
ربّ قائل بأن انحسار التشنجات الأميركية-الإيرانية عنى أن إيران كانت صاحبة اليد العليا أمام روسيا والنظام السوري (اللذين اعتمدا عليها للنهوض بالمهام الشاقّة في المواجهة مع واشنطن)، ما يساعد على ضمان سيطرتها المستمرة في المنطقة. والحال هو أن طهران تبدو راضية عن الوضع القائم في شرق سورية، ويمكن أن يُربَط أي تبدّل في موقفها بعلاقاتها مع واشنطن، لا مع موسكو أو النظام في دمشق.
ولكن في أواخر آب/أغسطس، احتدمت الأوضاع من جديد في سورية، إنما هذه المرّة بسبب التشنجات المحلية بين قوات سورية الديمقراطية (قسد) الخاضعة لسيطرة الأكراد والعشائر العربية في شرق محافظة دير الزور. وكانت الشرارة اعتقال أحمد الخبيل وعددٍ من رفاقه. كان الخبيل رئيس المجلس العسكري في دير الزور التابع لـ”قسد”. وقد أشارت التقارير إلى أن أنصار الخبيل هم مَن انتفضوا أولًا ضد “قسد”، ولكن تسلسل الأحداث، بما في ذلك إقدام “قسد” على قتل مدنيين، أدّى إلى توسيع دائرة التمرد لتشمل عشائر من خارج معقل الخبيل. وبعد عشرة أيام، فرضت قوات سورية الديمقراطية من جديد سيطرتها على المناطق التي استولت عليها القوات العشائرية، من دون أي معارضة كبيرة من الولايات المتحدة.
يجدر التوقّف عند عدد من العوامل في سياق النزاع في الشمال الشرقي، أو النزاع السوري الأوسع. أولًا، يمكن القول بأن المحفّز الأساسي لتمرّد العشائر لم يكن فعلًا اعتقال الخبيل، بل سعيها إلى تحقيق استقلال ذاتي أكبر عن قوات سورية الديمقراطية والأكراد في دير الزور، بالإضافة إلى تظلّمات أخرى ما زالت قائمة منذ وقت طويل. فالعشائر العربية تتمتع بالفعل باستقلال ذاتي أكبر في دير الزور مقارنةً مع الرقّة، ولكن القادة الأكراد في المنطقة هم مَن يتسلّمون زمام الأمور. والسبب الثاني المحتمل للتمرّد هو زيادة الوصول إلى الموارد الاقتصادية في المنطقة، بما في ذلك النفط. فقد اشتكى السكّان المحليون في دير الزور من أنهم لم يستفيدوا كما يجب من ثروات محافظتهم بعد إلحاق الهزيمة بالدولة الإسلامية. ومن شأن تعزيز استقلالهم الذاتي أن يتيح لهم حرّية تحرك أكبر للاستفادة من هذه الموارد.
ثمة عامل آخر جديرٌ بالذكر، وهو أن قوات سورية الديمقراطية واجهت تحدّيًا خطيرًا لسلطتها، لكن يبدو أنها تخطّته بشكل سلس، على الأقل حتى الآن. أظهرت قوات سورية الديمقراطية أنها قوية بما فيه الكفاية لسحق تمرّد العشائر المسلحة المحلية التي قد تطرح تهديدًا على مشروع الحكم الذاتي الكردي في مناطق شرق سورية وشمالها الشرقي. وكشف هذا التمرّد أيضًا عن أن قدرة العشائر على شنّ حرب حقيقية ضد “قسد” محدودة.
والعامل الثالث هو أن هذا النزاع المحلي سرعان ما اكتسب بعدًا إقليميًا. فقد انتقدت تركيا “قسد” والولايات المتحدة، وبدأت العشائر التي حشدت قواتها في المناطق الخاضعة لسيطرة تركيا بالضغط على “قسد” على طول الخطوط الأمامية بالقرب من تل تمر ومنبج. أما قوات سورية الديمقراطية، فقد حمّلت النظام السوري وإيران مسؤولية التحريض وإثارة الهبّة العشائرية ضدها. وفيما أعرب النظام عن دعمه للعشائر، وربما قدّم لها المساعدة على الأرض، بقي دور إيران ملتبسًا، إذ لم تصدر بيانًا واضحًا لمساندة العشائر ولم تزوّدها بالأسلحة. لكن من المناسب لقوات سورية الديمقراطية إلقاء اللوم على إيران لأن ذلك يصرف الانتباه عن العلاقات الجيدة التي تجمع تاريخيًا بين طهران وحزب العمال الكردستاني، الذي يُعتبر مكوّنه السوري جزءًا أساسيًا من “قسد”. ويثير ذلك أيضًا السؤال التالي: لو أن إيران ساندت العشائر، هل كانت ستتمكن قوات سورية الديمقراطية من سحق التمرّد في غضون أيام قليلة؟
إن كامل الشمال السوري، من شرقه إلى غربه، هو جزء من إيكوسيستم سياسي-أمني واحد واسع النطاق. وبعد ما بدا أن إيران تحاول أن تكون لها اليد العليا أمام روسيا والنظام السوري من خلال تنفيس الاحتقان مع الولايات المتحدة، باتت دمشق تشكّ في مدى قدرتها على الاعتماد على طهران لزعزعة الانتشار الأميركي في الشمال الشرقي. فلن يكون للمناورات الجوية الروسية الخطرة ولا لمحاولات النظام الخجولة الرامية إلى إطلاق “المقاومة الشعبية” ضد القوات الأميركية أي تأثير يُذكر على واشنطن وقوات سورية الديمقراطية ما لم يترافق ذلك مع انخراط إيراني نشِط، ذلك أن طهران هي الجهة الوحيدة القادرة، مع حلفائها، على التصعيد ضد الأميركيين. إن لم تكن إيران مهتمة بذلك، فستضطر دمشق وموسكو إلى البحث عن شريك آخر.
تركيا هي الشريك الآخر الوحيد المتوفر. فلدى أنقرة مصلحة حقيقية في توقف الدعم الأميركي للأكراد، وهذه رغبة تتشاركها مع روسيا والنظام السوري. إذًا، إذا التزمت الولايات المتحدة وإيران بقواعد اللعبة في شرق سورية وحدّتا من توتّر علاقاتهما الثنائية، فسيعزّز ذلك نفوذ “قسد”. وقد يفضي ذلك في المقابل إلى تعاون أوثق بين موسكو ودمشق وأنقرة من شأنه أن يساعد على حدوث تقارب بين سورية وتركيا، اللتَين أعاق نزاعهما عملية احتواء الأكراد.
إذا كانت حسابات إيران في الشمال الشرقي مرتبطة على نحو متزايد بعلاقاتها مع الولايات المتحدة، قد لا تودّ روسيا والنظام السوري البقاء رهينة هذه الاعتبارات. ويعطي هذا الأمر موسكو سببًا إضافيًا للضغط على الرئيس السوري بشار الأسد كي يكون أكثر مطواعيةً في المفاوضات مع تركيا، وكي يرحّب بهذه الخطوة. قد تكون سورية وتركيا عدوّتَين لكن مصالحهما في الشمال الشرقي تلتقي ربما أكثر من مما هي حال المصالح مع إيران.
*في نسخة سابقة من هذا المقال، تمت الإشارة إلى أحمد الخبيل على نحو خاطئ بأحمد البخيل.
لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.
———————————-
دير الزور والسويداء والساحل.. هل تصبح ثالوثا لنهاية حكم الأسد؟
جددت التطورات الأخيرة المستمرة في كل من دير الزور شرقي سوريا والسويداء في أقصى الجنوب ومنطقة الساحل في شمالي غربي البلاد، إحياء الملف السوري بعد نحو 3 سنوات مما يوصف بالركود الناتج عن تموضع القوى المختلفة وإيجاد حدود لأماكن سيطرتها على الأرض وتراجع الأصوات الداعية لإنهاء الصراع الذي تشهده البلاد منذ 12 عاما.
ودفع تزامن التطورات غير المسبوقة في سوريا خلال الأسابيع الماضية مراقبين لمحاولة ربطها وإيجاد قواسم مشتركة بينها، وطرحت كذلك تساؤلات حول ما إذا كانت ستؤدي في النهاية إلى تغيرات دراماتيكية في المعادلة السورية المعقدة.
قتال العشائر العربية و”قسد” شرقا
اندلعت الأسبوع الماضي اشتباكات في بضع قرى بالريف الشرقي لمحافظة دير الزور (شرقي البلاد) بعد اعتقال ما تعرف بـ قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، المدعومة أميركيا، قائد مجلس دير الزور العسكري التابع لها أحمد الخبيل، مما دفع مقاتلين محليين موالين له إلى شن هجمات عليها سرعان ما تطورت إلى اشتباكات انضمت إليها العشائر العربية، التي ينتمي إليها سكان المنطقة الممتدة حتى الحدود مع العراق شرقا، وأسفرت عن سيطرة العشائر على معاقل كبيرة لـ”قسد”.
وأفادت مصادر محلية في سوريا بأن القتال بين العشائر العربية وقوات سوريا الديمقراطية امتد خلال اليومين الماضيين إلى ريفي الرقة (شمال) والحسكة (شمال شرق) المجاورتين لمحافظة دير الزور، وسيطروا على عدد من المواقع التابعة لـ”قسد” فيهما.
كما اشتبك مقاتلو العشائر مع قوات النظام السوري، وقطعوا الطريق الدولي “إم 4” على محور “صكيرو” جنوب تل أبيض بريف الرقة، وذكرت مصادر محلية أن مقاتلي العشائر سيطروا على حاجز لقوات النظام السوري وقوات سوريا الديمقراطية في ريف تل تمر شمال الحسكة.
وطرد مقاتلو العشائر العربية في بادئ الأمر القوات التي يقودها الأكراد من عدة بلدات كبيرة، لكن قوات سوريا الديمقراطية تقول إنها بدأت في استعادة السيطرة على الوضع.
ويرى مراقبون أن الولايات المتحدة لم تدخل طرفا في القتال إلى جانب حليفتها قوات سوريا الديمقراطية كونها تخشى زعزعة الاستقرار في المنطقة وأن تتحول حقول النفط والغاز التي تسيطر عليها ويوجد فيها جنود أميركيون إلى جزر واقعة في محيط معادٍ لها كونها تقع في منطقة العشائر العربية.
مدة الفيديو 02 minutes 58 seconds 02:58
وأوفدت واشنطن مسؤوليْن رفيعين اجتمعا الأحد مع قيادات من الطرفين المتحاربين، واتفقوا على “نظر المظالم المحلية” و”وقف تصعيد العنف بأسرع ما يمكن”.
وأفادت المصادر بأن المسؤوليْن الأميركيين أكدا ضرورة تجنب سقوط قتلى وجرحى في صفوف المدنيين، وأهمية الشراكة مع قوات سوريا الديمقراطية في جهود دحر تنظيم الدولة الإسلامية، حيث تعتمد واشنطن على هذه القوات في فرض السيطرة على المناطق التي تم طرد تنظيم الدولة منها في سوريا عام 2019.
وتتقاسم السيطرة حاليا على محافظة دير الزور، التي يقسمها نهر الفرات، قوات تابعة للنظام السوري مدعومة من روسيا ومليشيات إيرانية من جهة، وقوات سوريا الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة من جهة أخرى.
ويرى مراقبون أن الاشتباكات الجارية قد تمتد إلى مناطق خاضعة لسيطرة النظام خاصة أن بعض المواقع التابعة لقواته سيطر عليها مقاتلو العشائر خلال اليومين الماضيين، ومن الممكن أن تتدحرج كرة النار في حال امتداد الاشتباكات الأخيرة لتطال مواقع أخرى، إلا أن آخرين يرون أن النظام السوري وحلفاءه المستفيد الأكبر من الاشتباكات الحالية بين العشائر وقوات سوريا الديمقراطية كونها تضعف الطرفين في مناطق خارجة عن سيطرته، وأيضا تُدخل الولايات المتحدة في دوامة صراع عرقي قد يؤثر على وجود قواتها في سوريا.
احتجاجات الدروز ضد الأسد جنوبا
على مدى الأسبوعين الماضيين، خرجت مظاهرات عديدة في محافظة السويداء الجنوبية، التي تضم معظم الطائفة الدرزية في سوريا، احتجاجا على سوء الأوضاع المعيشية وطالبت بتنحي الرئيس بشار الأسد عن منصبه.
وردد المحتجون خلال الاحتجاجات “الشعب يريد إسقاط النظام” و”سوريا حرة وبشار بره”، وهي ضمن شعارات أطلقها متظاهرون خرجوا للمطالبة بإسقاط حكم الأسد عام 2011 قبل أن تقمعها قوات الأمن التابعة له، وتنجر الأمور إلى صراع مسلح مستمر حتى اليوم.
والجمعة الماضي، بثت شبكات -ترصد الحراك في السويداء على مواقع التواصل الاجتماعي- مقاطع فيديو تظهر ما وصفتها بمشاهد غير مسبوقة “لأكبر مظاهرة ضد الأسد” في تاريخ هذه المحافظة القريبة من الحدود مع الأردن.
أكبر تظاهرة ضد الأسد في تاريخ السويداء
في مشهد غير مسبوق، احتشد الآلاف من أهالي محافظة السويداء، من مختلف الفئات والمكونات، في الساحة الرئيسية لمدينتهم، التي ثبّتوا اسمها بساحة الكرامة، لا ساحة الرئيس..https://t.co/9tsl9IufNG pic.twitter.com/m8NzxigWap
— السويداء 24 (@suwayda24) September 1, 2023
واندلعت مظاهرات السويداء في أغسطس/آب الماضي بسبب رفع النظام الدعم عن الوقود، مما عكس ارتفاعا للأسعار وزيادة في الأعباء الاقتصادية والمعيشية على السوريين، الذين يعانون من تردي أحوالهم منذ سنوات.
وظلت السويداء، التي تضم معظم الطائفة الدرزية في سوريا، تحت سيطرة الحكومة طوال فترة الحرب، وأفلتت إلى حد كبير من العنف الذي عمّ أماكن أخرى، إلا أنها شهدت في أوقات متفرقة مظاهرات ضد ممارسات نظام الأسد، وطالبت برحيله في بعضها.
ومع تصاعد الاحتجاجات في السويداء وإعلان المتظاهرين الأسبوع الماضي إغلاق مقرات حزب البعث الحاكم وعدد من المؤسسات التابعة للحكومة، أخلت قوات الأسد ثكنات وحواجز عسكرية شرق وجنوب المحافظة.
وازداد زخم المظاهرات مع انضمام قيادات للطائفة الدرزية إلى عدد من التجمعات وإعلانهم أن مطالب المحتجين “محقة”، كما خرجت مظاهرات داعمة لمتظاهري السويداء في درعا المجاورة، وهي المحافظة التي اندلعت منها شرارة ثورة 2011، وكذلك في مناطق أخرى في شمالي وشرقي سوريا بالمناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة.
وتمر سوريا بأزمة اقتصادية خانقة أدت لانخفاض قيمة عملتها إلى رقم قياسي بلغ 15 ألفا و500 ليرة للدولار بالسوق السوداء، في انهيار متسارع. وكانت العملة المحلية تُتداول بسعر 47 ليرة للدولار بداية الصراع قبل 12 عاما.
وكان الأسد أصدر أغسطس/ آب الماضي مرسوما بزيادة الأجور بنسبة 100%، كما أعلنت الحكومة قرارات برفع أسعار المحروقات بنسبة تصل إلى 200%، مما أسهم في زيادة أسعار معظم المواد بالأسواق وزيادة معاناة المواطنين.
وقالت مصادر أمنية ودبلوماسيون -وفق ما نقلت رويترز- إن احتجاجات السويداء تؤجج مخاوف لدى المسؤولين من امتدادها إلى المناطق الساحلية المطلة على البحر المتوسط، وهي معاقل أقلية الطائفة العلوية التي ينتمي إليها الأسد، حيث أطلق نشطاء مؤخرا دعوات نادرة للإضراب.
حراك بحاضنة النظام غربا
شهدت منصات التواصل الاجتماعي خلال الشهرين الماضيين ظهور عدد من المؤثرين في محافظتي اللاذقية وطرطوس، اللتين تضمان معظم الطائفة العلوية التي ينتمي لها رئيس النظام السوري بشار الأسد ومعظم قادة أجهزته الأمنية وتشكيلاته العسكرية، دعوا خلالها لرحيل النظام، ووصل الأمر ببعضهم لتحدي أجهزة النظام الأمنية باعتقالهم.
وأظهر أصحاب المقاطع الذين تزايد عددهم تدريجيا، إحباطهم الشديد من السياسات الاقتصادية للنظام، فضلا عن نفوذ زوجته أسماء ومجلسها الاقتصادي، الذي يُحمِّله السوريون مسؤولية الانهيار السريع لليرة المحلية.
ير الزور والسويداء والساحل.. هل تصبح ثالوثا ينهي حكم الأسد؟
مناطق الساحل السوري ودير الزور والسويداء تشهد تطورات غير مسبوقة منذ اندلاع الأزمة في البلاد عام 2011 (الجزيرة نت)
ويتركز العلويون في شمالي غربي سوريا، خاصة في مدينتي اللاذقية وطرطوس، وهناك تجمعات لهم في دمشق والريف المحيط بمدينتي حمص وحماة، ولكن أغلب العلويين يعيشون في قرى صغيرة عديدة في منطقة الجبال الساحلية.
والأسبوع الماضي أظهرت صور نشرها ناشطون على صفحاتهم على مواقع التواصل أن بعض سكان محافظة طرطوس الساحلية (شمال غرب) رفعوا لافتات صغيرة كُتب عليها “سوريا لنا وما هي لحزب البعث (الحاكم)” وفي الخلفية صورة الأسد على لوحة إعلانية كبيرة.
ولا تذكر وسائل الإعلام الرسمية عادة الاحتجاجات، لكن معلقين موالين للحكومة اتهموا قوى أجنبية بتأجيج الاضطرابات خاصة في السويداء، وحذروا من تفشي الفوضى إن استمرت.
ويبدو النظام السوري مقيدا في إطلاق العنان لقواته لإخماد احتجاجات العلويين بالتحديد، إذ اقتصر الأمر على ملاحقة واعتقال بعض النشطاء بطرق سرية بعيدا عن الأنظار، كذلك دفع بـ”الشبيحة” لترهيب المحتجين والمنتقدين وتهديدهم بالاعتقال أو التصفية، ويرجع ذلك إلى خشيته من وقوع انتفاضة واسعة قد تؤدي إلى اختلال الوضع الأمني ضمن مناطق دعمته بثبات خلال سنوات الحرب.
ويربط محللون بين التطورات الثلاثة، ويرون أنها تساهم في إضعاف الأسد خاصة في السويداء والساحل السوري معقله الرئيسي، وأن تلك التحركات من الممكن أن تحيي المطالبة الدولية بتطبيق قرار مجلس الأمن 2245 الداعي لإيجاد تسوية سياسية دائمة للوضع في سوريا، في حين يرى آخرون أنها متباينة الخلفيات والأهداف وقد لا تؤثر على حكم الأسد وبقائه في السلطة.
بيد أن لقاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيره الروسي فلاديمير بوتين في مدينة سوتشي اليوم الاثنين، وكذلك زيارة وزير خارجية تركيا هاكان فيدان كلا من موسكو وطهران وبغداد وأربيل مؤخرا، وأيضا تحركات غير معلنة للجيش الأميركي على الحدود العراقية السورية مؤخرا، عدا عن الحراك في السويداء والمناطق الساحلية، توحي بتحرك ما في الملف السوري، وفق مراقبين.
المصدر : الجزيرة + وكالات
—————————————
“مطالب محقة” وتخبط اتهامات.. كل ما تريد معرفته عن مواجهات دير الزور
“إنها معركة كرامة. مطالبنا مُحقه، ولم نكن نريد الحرب لكنها فُرضت علينا، نحن أبناء عشائر بحتة، لسنا تابعين لأي جهة وضد الفتنة، فليتوجه الجميع لجبهات منطقة البصيرة”.
هذه الكلمات أطلقها شيخ مشايخ قبيلة العكيدات، إبراهيم الهفل “بلباس الحرب”، يوم السبت، وتلخص آخر مواقف مقاتلي العشائر العربية بخصوص المواجهات التي يخوضونها منذ ستة أيام ضد “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) في محافظة دير الزور.
🔸#DeZ
“أنها معركة كرامة، مطالبنا مُحقه، لم نكن نريد الحرب لكنها فُرضت علينا، نحن أبناء عشائر بحتة، لسنا تابعين لأي جهة، وضد الفتنة، فليتوجه الجميع للجبهات للتمشيط، وأدعوا أبناء العگيدات بالكامل للتوجه لجبهات البصيرة”، من كلمة الشيخ إبراهيم الهفل بلباس الحرب، شيخ العگيدات. pic.twitter.com/eN5LSI6dtm
— زين العابدين | Zain al-Abidin (@DeirEzzore) September 2, 2023
لكن لـ”قسد” موقف آخر كشفت عنه أيضاً صباح السبت، معلنةً فرض “حظر للتجول” في دير الزور ولمدة 48 ساعة، فيما هدد الناطق باسمها فرهاد شامي عبر مواقع التواصل الاجتماعي بـ”الحزم والحسم”، حسب تعبيره.
ورغم أن الشرارة الأولى للمواجهات اندلعت في أعقاب اعتقال “قسد” لقائد “مجلس دير الزور العسكري” التابع لها، أحمد الخبيل والملقب بــ”أبو خولة”، إلا أن الدوافع الرئيسية للمواجهات التي يقودها مقاتلو العشائر العربية تذهب بمسار مختلف.
وفي أعقاب اعتقال “أبو خولة” وقادة الصف الأول في “المجلس” ارتكبت قوات “قسد” وجهازها الأمني المعروف بـ”أسايش” انتهاكات في دير الزور، ووصلت إلى حد قتل أطفال ونساء، ما دفع مقاتلي عدة عشائر عربية لخوض مواجهات ضدها، بعدما أعلنوا “حالة النفير العام”.
وجاءت الانتهاكات ضمن الحملة التي أطلقتها “قسد” تحت عنوان “تعزيز الأمن والسلام” في دير الزور. وفي حين قالت أولاً إنها تستهدف “خلايا داعش” وسّعت الدائرة شيئاً فشيئاً، لتتحدث عن محاولات تسلل لقوات النظام إلى دير الزور، وضلوع “أصابع خارجية”، تتمثل بتركيا وإيران، حسب زعمها.
#فرات_بوست#دير_الزور الريف الشرقي :
بينهم طفـ.ـل…إصـ.ـابة شخصين في بلدة ذيبان بجـ.ـروح بلـ.ـيغة، جراء استهـ.ـداف طـ.ـائرات مسيّرة ( درون ) تابعة لـ “قسد” عدة مـ.ـواقع في مدن وبلدات الشحيل وذيبان والبصيرة. pic.twitter.com/BPWgIMECZe
— فرات بوست (@EuphratesPost) September 1, 2023
وعلى مدى الأيام الستة من المواجهات تمكن المقاتلون من السيطرة على عدة قرى وبلدات وحواجز أمنية لـ”قسد” في دير الزور وريفها الشرقي والمحاذي للحدود السورية-العراقية. وجاء ذلك بعدما أعلن أكثر من شيخ عشيرة دعمهم لـ”الانتفاضة العشائرية”، مؤكدين الدخول على خط المواجهات ضد “قسد”.
في غضون ذلك تواصل “قسد” التأكيد على استمرارية حملتها الأمنية في دير الزور، نافية فكرة أن ما يحصل هو “حراك عشائري”، وأن “مجموعات مسلحة تابعة لبعض الأجهزة الأمنية التابعة للنظام وكذلك خلايا داعش وتركيا لإحداث فتنة في المنطقة”.
ورداً على هذا الادعاء خرج الشيخ الهفل بتسجيل صوتي ومصور نشرته شبكات محلية، السبت، مؤكداً أن ما يحصل “مطلب حق”، وأنهم “ضد أي مفتن ولا يتبعون لأي جهة”.
وتابع: “نوجه نداء لأبناء عمومتنا الشعيطات وعشائر البوجمال وإلى عشائر البوشامل والبكير الفزعة إلى جبهة البصيرة. مطلبنا مطلب عشائر عام وهذا يومكم يا شباب”.
According to the #SDC co-chair, the tribes rising up against the #SDF in Deir ez Zour are allied with #Assad & #Iran…
… even though the very same tribes have been demanding the #SDF *fight* #Iran & #Assad’s regime for years.
It’s just totally illogical.
Propaganda, frankly. https://t.co/x2v4YRZv2E
— Charles Lister (@Charles_Lister) September 2, 2023
ماذا يحصل؟
يوضح الباحث السوري في “مركز عمران للدراسات الاستراتيجية”، سامر الأحمد أن ما يحصل في دير الزور “انتفاضة مدنيين، ورغم أن سببها اعتقال أبو خولة تطور مسرح الأحداث، بعدما ارتكبت قسد انتهاكات وقتل بحق مدنيين بينهم أطفال”.
ويقول الأحمد لـ”السورية.نت” إن “القبيلة الرئيسية التي تخوض المواجهات ضد قسد هي العكيدات، والمؤلفة من عدد من تجمع العشائر، مثل الشعيطات والبكير وغيرها..”.
“العكيدات هم الذين حرروا المناطق في دير الزور وهاجموا قسد ويخوضون الاشتباكات ضدها حتى اليوم”.
وتؤكد التسجيلات المتداولة للشيخ الهفل أنهم “غير تابعون لأي جهة ويرفضون دعوات النظام للانخراط أو استغلال الموقف”، وهو ما يخالف الاتهامات التي ترددها “قسد”، منذ أيام.
ويضيف الأحمد: “قسد لعبت على عدة خيارات خلال الأيام الماضية، أولا بإرسال أرتال لم تجد نفعا في إطار الحسم، ومن ثم حرب إعلامية، اتهمت من خلالها المقاتلين بخلايا لداعش، وأنهم تابعين للنظام وإيران مخربين، وصولا لإطلاق مزاعم أنهم عملاء للأتراك”.
ويشير الباحث السوري إلى أنها “تدير حرب إعلامية ضد العشائر”، وأن “حظر التجول الذي أعلنته صباح السبت غير فاعل كون قسد غير موجودة على الأرض في ريف دير الزور الشرقي”.
“الإعلان عن حظر التجول إعلامي من أجل التخويف، والعشائر حسمت أمرها ولن تتراجع، إلا بفتح طاولة مفاوضات مع التحالف الدولي”، الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، وفق ذات المتحدث.
ما المتوقع؟
وحتى الآن من غير الواضح النقطة التي ستصل إليها المواجهات بين “قسد” ومقاتلي العشائر في دير الزور، ومع ذلك تتجه الأنظار إلى حد كبير على الموقف الفعلي الذي ستتخذه أمريكا والتحالف الدولي إزاء ما يجري.
وأعلنت الولايات المتحدة الأمريكية، الخميس، عن “قلقها العميق إزاء أعمال العنف الأخيرة بما في ذلك الخسائر في الأرواح في دير الزور”، داعية جميع الأطراف إلى وقف التصعيد وحل الوضع سلمياً.
كذلك نشر التحالف الدولي بياناً أكد فيه “الالتزام بدعم قوات سوريا الديمقراطية في مهمة الهزيمة الدائمة لداعش دعماً للأمن والاستقرار الإقليميين”.
واعتبر بيان التحالف أن “الانحرافات عن هذا العمل المهم تؤدي إلى عدم الاستقرار، وتزيد من خطر عودة ظهور داعش”.
ومن النقطة المتعلقة بـ”طاولة المفاوضات بين العشائر والتحالف” يرى الباحث السوري الأحمد أنها تتضمن “تسليم المنطقة (دير الزور) لأبناها أي الإدارات المحلية والمدنية”.
أما “الإدارات العسكرية” قد يكون هناك قدرة لتشكيل “مجلس عسكري من أبناء المنطقة لا تتحكم به كوادر حزب العمال الكردستاني، مع ضرورة كف يد قيادات قنديل وفرض إيديولوجيتها وأفكارها في دير الزور”.
ويتابع الباحث الأحمد: “التحالف يجب أن يتدخل لوضع حد، لأن العنف والصراع إذا ما استمر في المرحلة المقبلة سيتطور أكثر، ويمكن أن تدخل قبائل جديدة على الخط بالقرب من دير الزور أو الحسكة أو الرقة”.
وفي الوقت الحالي، “لا ينبغي وصف هذا القتال المتصاعد بأنه صراع عربي كردي، ولكن إذا سمح له بالاستمرار لفترة أطول، فإنه يتجه في هذا الاتجاه”، حسب ما يقول الباحث تشارلز ليستر في مقال تحليلي نشر على “معهد الشرق الأوسط” بواشنطن، السبت.
ويقول ليستر: “يمثل العديد من أولئك الذين يقاتلون الآن قوات سوريا الديمقراطية ما تبقى من المعارضة المسلحة في شرق سوريا، والتي كان تصميمها الحفاظ على جبهة ضد النظام منذ فترة طويلة شوكة في خاصرة قسد، وهي تحاول الحفاظ على الحياد تجاه دمشق”.
وربما ليس من قبيل الصدفة أنه في الأشهر الأخيرة، زُعم أن “أبو خولة” استأنف الاتصالات مع المعارضة في شمال سوريا ومع السلطات في تركيا.
ويضيف ليستر: “لن يوقف القتال الحالي ويمنعه من الخروج عن نطاق السيطرة إلا بجهد كبير ومتضافر من جانب الولايات المتحدة”.
وقد سعت القوات الأمريكية في قاعدتي كونيكو والعمر إلى إشراك القيادات القبلية، لكن هذا قد لا يكون كافياً، وفي الوقت نفسه، مع استمرار تصاعد الوضع، هناك جهة فاعلة واحدة فقط في وضع جيد للاستفادة من ما يحصل وهي “داعش”، حسب الباحث الأمريكي.
– حاولت قسد أرتال SDF الليلة الماضية السيطرة على بلدتي الصبحة والدحلة بناحية البصيرة، لكن مع ساعات الفجر الأولى تم صد الهجوم من قوات العشائر، وبهذا بلدتي الصبحة والدحلة “خضراء” تحت سيطرة مقاتلي العشائر.
– الأنباء التي تتحدث عن إقتحام قسد SDF لمدينة البصيرة عارية الصحة 11:00 AM pic.twitter.com/s8GhwYSaa3
— زين العابدين | Zain al-Abidin (@DeirEzzore) September 2, 2023
لماذا النظام على الخط؟
ولا تزال “قسد” ترفض ذكر “مجلس دير الزور” أو المقاتلين العشائريين كطرف ثان للاشتباكات.
واللافت في المواجهات هو الموقف الخاص بالنظام السوري، إذ اتجهت وسائل إعلامه إلى تغطية التطورات الجارية على الأرض، وأبدت نبرة تضامنية مع مقاتلي العشائر ضد “قسد”.
#عاجل – التلفزيون السوري: مقاتلو العشائر يسيطرون على طريق #حقل_العمر النفطي شرقي #دير_الزور ويعد من أهم حواجز ميليشيا #قسد في المنطقة. pic.twitter.com/HADKKrlFn5
— جريدة الوطن (@alwatan_sy) September 1, 2023
ويعتبر مسرح الأحداث والاشتباكات بعيد عن مناطق سيطرة النظام السوري وعلى الطرف الشرقي من نهر الفرات.
ومع ذلك تحدثت “قسد” وقياديين فيها عن عبور عناصر من قوات تتبع لنجل نواف البشير شيخ عشيرة البكارة الموالي للنظام السوري، من مناطق غربي الفرات إلى شرقيها.
ويوضح الباحث الأحمد أن المواجهات يمكن أن يستغلها النظام السوري وإيران، من خلال “إدخال خلايا تستهدف قوات التحالف وتنسب للعشائر”.
كما قد “يستغل داعش التوتر، ودول أخرى باعتبار أن حراك العشائر غير مدعوم من أحد وكذلك الأمر بالنسبة للمقاتلين العشائريين، الذين يدافعون عن أرضهم وأهلهم”.
“قسد حتى الآن فشلت في الحسم، واليوم وغدا تكون قد خسرت الكثير. المعارك أظهرت هشاشتها وأنها بالون لا قدرة لها على الأرض إلا بدعم مقدم من طائرات التحالف الدولي”.
ويتابع الباحث السوري في نقطة تتعلق بموقف النظام السوري أنه “يحاول منذ عامين كسر عشائر دير الزور في المنطقة مستغلا حالة الرفض الشعبي لوجود قسد أو تحكم قيادات قنديل وحزب العمال الكردستاني”.
والآن “يحاول استغلال الحراك باعتبار أنه هدد لأكثر من مرة بضرب قوات التحالف وقسد”.
لكن الأحمد يرى أن “العشائر ومقاتليها متمسكون ببقاء التحالف الدولي في دير الزور، وأنه يجب أن يتدخل لوقف انتهاكات حزب العمال الكردستاني وقيادات قنديل”.
———————————
تراشق بين تركيا و«قسد» حول الصراع في دير الزور
أنقرة: سعيد عبد الرازق
أعلنت أنقرة أنها تراقب بقلق الاشتباكات في دير الزور، عادّةً ما يحصل محاولة للهيمنة على السكان عبر ممارسة الضغط عليهم.
في الوقت الذي تتصاعد فيه الاشتباكات في دير الزور بين «قوات سوريا الديمقراطية (قسد)»، ومسلحي العشائر العربية، إلى جانب الاشتباكات بين «قسد» وفصائل ما يُعرف بـ«الجيش الوطني السوري» الموالي لتركيا في منبج بشرق محافظة حلب، أعلنت أنقرة أنها تراقب بقلق الاشتباكات في دير الزور، عادّةً ما يحصل محاولة للهيمنة على السكان عبر ممارسة الضغط عليهم.
في المقابل، نفت «قسد» استهدافها العشائر العربية، مؤكدةً أن المواجهات تدور مع فصائل موالية لأنقرة، مع تورط لدمشق وطهران في دعم مسلحي العشائر.
وبالتزامن، جددت أنقرة شروطها لعقد لقاء بين الرئيس رجب طيب إردوغان ونظيره السوري بشار الأسد، وذلك قبل 48 ساعة من لقاء إردوغان والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مدينة سوتشي بجنوب روسيا، الاثنين، الذي سيتناول، من بين ملفات أخرى، مسار تطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق الذي انطلق بمبادرة من موسكو وانضمت إليه إيران.
اتهامات متبادلة
وقالت وزارة الخارجية التركية إن أنقرة تراقب «عن كثب وبقلق» الاشتباكات بين عشائر عربية و«تنظيم وحدات الشعب الكردية الإرهابي» في الجزء الخاضع لسيطرة الأخير بريف محافظة دير الزور شرق سوريا.
و«الوحدات الكردية»، هي أكبر مكونات «قسد»، وتعدّها أنقرة ذراعاً سورية لـ«حزب العمال الكردستاني» الذي تصنفه منظمة إرهابية.
وأضافت الخارجية التركية، في بيان ليل الجمعة – السبت: «نلفت إلى أن هذا التطور يُعد مظهراً جديداً لمحاولات (التنظيم الإرهابي) الهيمنة على السكان في سوريا من خلال ممارسة العنف والضغط عليهم، وانتهاك حقوقهم الإنسانية الأساسية».
وأعرب البيان عن أمل تركيا في أن يرى «داعمو» العمال الكردستاني والوحدات الكردية (في إشارة إلى الولايات المتحدة وبعض دول أوروبا) «الوجه الحقيقي للتنظيم الذي يسعى للتستر على مآربه متخفياً وراء أكذوبة أنه فاعل في الحرب ضد (داعش)، دون إضاعة الوقت، أو التسبب بمزيد من المعاناة للسكان بمن فيهم أكراد سوريا».
ويشكل الدعم الأميركي لـ«قسد» نقطة خلاف عميقة بين تركيا والولايات المتحدة، التي تعدّ «الوحدات» الكردية حليفاً وثيقاً في الحرب على «داعش».
في المقابل، أكدت «قسد» أن الاشتباكات تجري ضد عناصر موالية لتركيا، وأنه لا خلاف لها مع العشائر العربية في دير الزور. وشددت القيادة العامة لـ«قسد»، في بيان السبت، صدر بعد ساعات من بيان الخارجية التركية، على أن محاولات تصوير الأمر على أنه قتال مع العشائر العربية، لا تهدف إلا لخلق «الفتنة»، نافية أن تكون الاشتباكات الدائرة في دير الزور حرباً مع العشائر. وأوضحت أن الاشتباكات تدور مع مسلحين موالين لتركيا وعناصر تابعة لجهات أمنية في «النظام السوري».
واندلعت الاشتباكات في دير الزور بعد أن أوقفت «قسد» قائد «مجلس دير الزور العسكري»، أحمد الخبيل، المعروف بـ«أبو خولة»، في مدينة الحسكة الأحد الماضي، ما أثار توتراً أدى إلى اشتباكات مسلحة أوقعت 54 قتيلاً، بحسب «المرصد السوري لحقوق الإنسان».
وبدأ التوتر بسبب مخاوف لدى «المجلس العسكري»، الذي يقوده الخبيل، من قيام «قسد»، بدعم أميركي، باستبدال به مجموعة «الصناديد» العسكرية المنضوية تحت «الوحدات» الكردية، وعارض المجلس نقل المجموعة إلى شرق نهر الفرات في دير الزور. ويضم «المجلس العسكري» عناصر من عشائر العقيدات والبوسرايا والبقارة العربية في شرق الفرات بدير الزور، فيما تشكل عشيرة شمر العمود الفقري لمجموعة «الصناديد»، وكلتا المجموعتين عملت خلال السنوات الماضية تحت مظلة «قسد».
ويبلغ عدد عناصر «المجلس العسكري» نحو 4 آلاف فيما يراوح عدد عناصر «الصناديد» بين ألفين و3 آلاف شخص، وفق مصادر محلية.
ويشكل العرب 100 في المائة من سكان دير الزور التي سيطرت عليها «قسد» بدعم أميركي في ظل الحرب على «داعش».
وتمكن مسلحو عشائر عربية من الموالين للخبيل من السيطرة على 24 قرية كانت خاضعة لـ«قسد» في دير الزور.
اشتباكات في منبج
في غضون ذلك، اندلعت اشتباكات عنيفة، مجدداً السبت، بين فصائل «الجيش الوطني»، الموالي لتركيا، وقوات «قسد» في محاور ريف منبج الغربي، شرق محافظة حلب.
وحاولت الفصائل، منتصف ليل الجمعة – السبت، تنفيذ عملية تسلل من جهة قرية عريمة باتجاه قرية اليلاني بريف منبج، ضمن مناطق نفوذ «مجلس منبج العسكري» التابع لـ«قسد»، لكن الأخير تمكن من منع تقدمها باتجاه القرية.
واندلعت اشتباكات عنيفة بين الطرفين، استخدمت فيها الأسلحة الثقيلة، وتخللها قصف مدفعي لقوات الجيش السوري باتجاه قرية عريمة.
وأفاد «المرصد السوري» بأن عناصر مجلس منبج العسكري تصدت لعملية تسلل ثانية لفصائل «الجيش الوطني»، فجر السبت، باتجاه قرية عون الدادات بريف منبج الشرقي.
واستعاد «مجلس منبج العسكري» بدعم من قوات الجيش السوري، الجمعة، السيطرة على على قرية المحسنلي بريف منبج، بعد أقل من يوم واحد من سيطرة «الجيش الوطني» المدعوم من تركيا عليها.
وجاء التصعيد ومحاولتا التسلل الأخيرتان، في أعقاب الضربات الجوية الروسية، التي استهدفت الجمعة، 5 مواقع كان مقاتلو «الجيش الوطني» سيطروا عليها في السابق.
لقاء إردوغان – الأسد
على صعيد التطبيع بين أنقرة ودمشق، قال كبير مستشاري الرئيس التركي، السفير عاكف تشاغطاي كيلتيش، إن «اللقاءات مع النظام السوري مستمرة على مستويات مختلفة»، موضحاً أن هناك بعض المواضيع العالقة للوصول إلى «لقاءات على أعلى مستوى بين رئيسي البلدين». وأكد ثبات ووضوح موقف بلاده من ملفات مكافحة الإرهاب، وضمانات عودة اللاجئين واستئناف عمل اللجنة الدستورية وإجراء الانتخابات، مشدداً على احترام تركيا لوحدة أراضي سوريا، ورفضها سيطرة أي تنظيم إرهابي هناك.
وأضاف تشاغطاي كيليتش، في مقابلة تلفزيونية ليل الجمعة – السبت، أن أنقرة اتخذت بعض الخطوات للحيلولة دون سيطرة تنظيمات إرهابية على المنطقة، من أجل أمنها القومي ومن أجل سوريا.
ويلتقي الرئيس التركي رجب طيب إردوغان نظيره الروسي فلاديمير بوتين في مدينة سوتشي جنوب روسيا، الاثنين، وسيكون الملف السوري ومسار التطبيع بين أنقرة ودمشق الذي ترعاه روسيا، بين الملفات المطروحة خلال اللقاء.
وجدد الرئيس السوري بشار الأسد، خلال استقباله وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان في دمشق الخميس، التأكيد على أنه لا يمكن التحرك باتجاه التطبيع أو عقد لقاء مع إردوغان قبل انسحاب القوات التركية من شمال سوريا.
————————————–
دير الزور:”قسد”تسحب تعزيزاتها وآلياتها من الريف الشرقي
انسحبت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) من عدد من النقاط العسكرية والحواجز التي أقامتها خلال حملتها الأخيرة على ريف دير الزور الشرقي، بعد أن شنّت على مدى 3 أيام حملات اعتقال طاولت أبناء العشائر بتهم الانتماء إلى قوات النظام والميلشيات الإيرانية.
وقالت مصادر محلية ل”المدن”، إن “قسد” سحبت أكثر من 50 آلية وعشرات العناصر من عدد من النقاط في ريف دير الزور الشرقي، موضحةً أن الانسحاب حصل من بلدة الباغوز وصولاً إلى بلدة الجرذي.
كما شمل الانسحاب عدداً من النقاط بين المنازل وعلى أطراف بلدتي ذيبان والبصيرة، مؤكدةً أن الانسحاب جاء بأوامر من التحالف الدولي.
ولفتت إلى أن الانسحاب الذي يصل إلى نسبة 80 في المئة، لم يشمل النقاط العسكرية والحواجز الأمنية التي كانت موجودة قبل طرد “قسد” من ريف دير الزور الشرقي خلال المعارك مع أبناء العشائر.
وأشارت إلى أن دورية تابعة للتحالف الدولي تجولت في بلدة الشحيل في ريف دير الزور الشرقي لأسباب قد تكون للتأكد من سحب “قسد” لقواتها كما أوعزت لها.
وبحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، فإن الدورية تجوّلت كذلك في بادية الشعفة والباغوز قرب الحدود السورية- العراقية، موضحةً أن الدورية ضمت 5 آليات وانطلقت من قاعدة التحالف في حقل العمر النفطي.
ونفّذت “قسد” على مدى الثلاثة أيام الماضية، حملات دهم واعتقالات في القرى التي ثارت ضدها في ريف دير الزور الشرقي.
وقالت مصادر محلية ل”المدن”، إن قرى ريف دير الزور الشرقي وخصوصاً الطيانة وأبو حمام وحوايج ذيبان، تعرضت لحملة دهم واعتقال لليوم الثاني على التوالي، موضحةً أن عدد المعتقلين بلغ نحو 100 شخص حتى الآن.
وأضافت أن حملات الدهم تأخذ شكلاً انتقامياً على سبيل التشفي من أهلها بسبب “ثورتهم” ضد “قسد”.
وكانت العشائر قد خاضت على مدى أسبوعين بدءاً من 27 آب/أغسطس، معارك شرسة تمكنت على إثرها من طرد “قسد” من قرى الريف الشرقي لمحافظة دير الزور، وعدد آخر منها في ريفي المحافظة الغربي والشمالي، قبل أن تستعيد “قسد” السيطرة عليها.
وعقب إعلان “قسد” انتهاء المعارك ضمن ما أطلقت عليه معركة “تعزيز الأمن”، أكد قائدها العام مظلوم عبدي إن “قسد” ستصدر عفواً عاماً عن جميع من شاركوا من أبناء العشائر في المعارك ضدها. لكن نهج الاعتقالات وعمليات الدهم الذي نفّذته قواته ضد أبناء العشائر، أكد عكس نواياه المبطنة للانتقام منهم، بحسب ناشطين.
—————————
ديناميكيات الصراع والاستقرار في شمال شرق سوريا/ ريزان حسن
سلّطت التطورات الأخيرة بمدينة دير الزور، التي تقع شرقي الفرات وتتبع للإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، الضوء على شبكة معقدة من الصراعات الداخلية والخارجية في سوريا التي تشهد أزمة منذ ربيع العام 2011، وأظهرت تحديات كبيرة تهدد السلم الأهلي في عموم المنطقة، ما يشير إلى تحولات كبيرة على الساحة السورية، تتمدد على أرضية خصبة شرق الفرات.
فمع إعلان قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية عن عملية عسكرية في ريف دير الزور تحت مسمى عملية “تعزيز الأمن”، نهاية آب/ أغسطس الماضي، والتي بدأت باعتقال قائد مجلس دير الزور العسكري (أحد تشكيلات قسد) المدعو “أحمد الخبيل”، بناء على طلب العشائر العربية بحسب بيان للمركز الإعلامي لقوات سوريا الديمقراطية، تعالت أصواتٌ تدعو إلى استنفار العشائر العربية ضد “قسد”، وما ظهر في البداية على أنه تمرد لمقاتلي المجلس العسكري ضد قيادة هذه القوات، سرعان ما تم استغلاله من قبل الأطراف الفاعلة في سوريا مترجماً الصراع القائم الذي يمتد جذوره إلى وقت سابق.
جملة من العوامل الداخلية والخارجية كانت تشير إلى أن هذه البقعة الجغرافية هي الأكثر قابلية للانفجار، وأنها مسألة وقت حتى يقوم أحد الأطراف المتصارعة بإشعال فتيل الحرب، لتتحرك الأطراف الأخرى في مسعى لتحقيق مكاسبها الخاصة، فخارجياً تثير هذه المنطقة لعاب الكثيرين للسيطرة عليها، وذلك لغناها بالموارد النفطية، إذ توجد فيها كبرى حقول النفط في سوريا وهي (العمر والتنك وكونيكو)، والسيطرة على هذه الحقول تعني تحولاً في ميزان القوى إلى جانب اتساع رقعة النفوذ، ويتفق كل من النظام السوري ومن خلفه روسيا وإيران على ضرورة خروج القوات الأميركية من سوريا لاستعادة حقول النفط التي تغذي محطات التكرير والغاز غرب الفرات، وتشاطرهم تركيا في ذلك، بهدف إفشال مشروع الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، حيث تعتبرها خطراً على أمنها القومي من باب عدائها لوجود كيان يحفظ للكرد حقوقهم القومية ويحفظ خصوصيتهم على حدودها الجنوبية لتركيا، ولتحقق هذه الأطراف مصالحها في سوريا بدأت المكنة الإعلامية لهذه الدول تعمل على تأليب الرأي العام وإثارة الحدث بكل الأشكال، تنفذ أجندات الدول الفاعلة، بعيداً عن المصالح الوطنية السورية، وتشكيل تيار موحد يدعم الجهود الأممية لحل الأزمة السورية وفق القرار 2254.
داخلياً، يمكن تلخيص العوامل التي من الممكن اعتبارها عوامل الصراع وعدم الاستقرار وجعلت المنطقة تتصدر المشهد السوري خلال الأيام الماضية ومهدت الطريق أمام الأطراف المتصارعة للدفع بمخططاتها للأمام، وظهر هذا جلياً عبر وسائل الإعلام إلى حد تطابق فيه خطاب الأطراف المتصارعة، وبشكل خاص النظام السوري والمعارضة الموالية لتركيا ضد الإدارة الذاتية، هي أولاً، طبيعة المنطقة الجغرافية وانقسام مدينة دير الزور بين طرفي نهر الفرات الذي لم يكن يوماً عائقاً للفصل بين أبناء المدينة الواحدة وتأثر الطرفين ببعضهما البعض، أن الريف الذي شهد “انفجاراً متوقعاً” يمتد على طول نهر الفرات المتاخم لمناطق سيطرة الفصائل الموالية لإيران والنظام السوري وروسيا على الضفة المقابلة، مما يسهل عملية وصول تلك الفصائل للمنطقة بهدف السيطرة عليها إذا ما أتاحت الفرصة، وثانياً قدرة أطراف الصراع على تطويع الثقافة العشائرية المنتشرة في تلك المنطقة لصالحها، والتي تعد الرابط الأقوى الذي يرسخ العادات والتقاليد في المنطقة ويربط أبناءها ببعضهم البعض مهما كانت المسافة فيما بينهم، وبالنظر إلى العدد الكبير ممن انضموا إلى الفصائل المتحاربة في دير الزور على فترات مختلفة خلال السنوات الأزمة السورية الماضية ونزحوا إلى الريف الخاضع لسيطرة تركيا شمال سوريا فكانت أيضا من العوامل الصراع والاستقرار.
ثالثاً، تراكمات كثيرة خلال السنوات الماضية تم استغلالها، ليتم من خلالها استهداف الإدارة الذاتية، رغم أن الأخيرة تتحمل جزءاً من المسؤولية في تسليم المنطقة لمجلس دير الزور العسكري وترك الأمور تسير وفق منظور طبيعة العشائر دون التدخل لتطوير الإدارة أسوة بباقي المناطق، فلا شك أن مدينة دير الزور هي أكثر المناطق السورية التي عانت من سيطرة القوات المختلفة منذ بداية الأزمة السورية، وكانت آخر منطقة تم تحريرها من قبل مقاتلي “قسد” من تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، وهي المنطقة الوحيدة التابعة للإدارة الذاتية التي ما تزال تعاني من نشاط خلايا التنظيم بشكل كبير إلى يومنا هذا، بحسب ما يتم تداوله عبر معرفات التنظيم نفسه، ويعزز هذا إقرار قوات سوريا الديمقراطية في بيان لها مؤخراً وجود خلل أمني في المنطقة، محمّلةً قيادة المجلس العسكري مسؤولية هذا الخلل، وقدرة مجموعات تابعة للنظام السوري على خرق الأمن، ليظهر المشهد على أنه ثورة لأبناء العشائر العربية ضد “قسد” والإدارة الذاتية.
إن مجموع هذه العوامل، المحلية والإقليمية والدولية، شكل الوضع القائم في دير الزور، وكان من الممكن أن يتفاقم الوضع الإنساني بصورة مقلقة، ويؤثر المشهد على استمرار النزاع في سوريا واشتعال مناطق أخرى لولا احتكام أبناء المنطقة إلى العقل وموقف العشائر العربية لجانب قوات سوريا الديمقراطية، رغم محاولات تغييب حقيقة الصراع الدائر ذات الأبعاد الإقليمية والدولية.
وكما أسلفنا الذكر، فإن الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا تتحمل جزءاً من المسؤولية فيما حصل بمدينة دير الزور، وتشير الأوضاع هناك إلى أن الإدارة الذاتية تواجه تحديات كبيرة تتمثل في الصراع الإقليمي والدولي، فأيضاً هناك حاجة ملحة إلى الحوار المستمر بين الإدارة الذاتية وأبناء المنطقة التي تدار وفق نظام عشائري، فالمساحة التي توفرها الإدارة الذاتية للحكم يتم استغلالها بشكل لا يتوافق مع التغيير البناء أولاً وطبيعة النظام القبلي ثانياً، كما يجب إعادة النظر في التمثيل نفسه وهياكل الحوكمة مما يرسخ الاستقرار بالمنطقة، فسوريا معروفة بتنوعها العرقي والقومي والديني، ومحاولة جمع كل هؤلاء تحت مظلة واحدة مع المحافظة على خصوصية الجميع وفي ظل الأوضاع الاقتصادية المتردية الحالية والضغوطات الموجودة، تكاد تكون مهمة شبه مستحيلة دون تغليب المصلحة الوطنية في ظل تجربة حكم تُعد مختلفة وغريبة عن شعوب المنطقة ولا تتوافق مع مصالح الإقليمية.
ليفانت – ريزان حسن
——————————
ثورة الأيام العشر !
قد لا يعجب هذا العنوان الكثير من أبناء المنطقة ( شرق الفرات) الذين لازالوا يعيشون بحلم إنشاء منطقة عربية نموذجية، تكون مأوىىً للعرب ومأوى لكل المعارضين للنظام وحلفائه وعلى رأسهم قسد والميليشيات الإيرانية .
الثورة العربية التي أحيت الدم في عروق الثوار ولدت ميتة لعدة أسباب :
▪️عدم التجهيز لهذه الثورة بكل ما تحتاجه من أدوات .
▪️الفهم السياسي لمنطقة تحت سيطرة التحالف الدولي حيث لن يسمح بالسيطرة العسكرية دون تفاوض سياسي يتخلل العمل دون الذهاب بعيدا.
▪️الثورة العشائرية تأخرت بالإعلان عن القيادة السياسية والعسكرية وفضلت الإعلان عن رمزية عشائرية.
▪️الحماسة أنست القائمين على العمل الجيوب التي تعيش بينهم وتتبع لقسد بسبب المنافع المالية المستفادة من النفط .
▪️لم يتم الإعلان عن الرؤيا والأهداف بل فقط طرد المحتل دون خارطة طريق .
▪️لم يتم تحديد العلاقة مع النظام السوري وإيران بشكل واضح وصريح، كما لم يتم تحديد العلاقة مع المعارضة السورية في الشمال وأنها امتداد أو فكرة جديدة !
▪️غياب الرمزية (الشيخ) التي صنعتها هذه الثورة عن المشهد أضعفت الثورة وساهمت في إنهائها، وإلى هذه اللحظة الناس تبحث عن فيديو يظهره بين مناصريه بدلا من الصوتيات مجهولة المصدر!
لازال الناس يراهنون على نجاح هذه الثورة التي تبددت، ويساهمون بنشر أي معلومة دون التحقق من صحتها، وآخرها انسحابات كبيرة ومفاوضات وانتصار ….وكل هذا وهم الحلم العربي …
والحقيقة ما جرى ليس عملية انسحاب كليّة لقوات «قسد»، بل عملية انسحاب تكتيكي وشكلي، حافظت فيه ميليشيا قسد على قوة ضاربة بجوار الحواجز الرئيسة عند مدخل القرى والبلدات ذات الأغلبية العربية، وما كان تدخل الأمريكان لفرض (هدنة) نزولاً عند الوعود التي قدموها لزعماء بعض العشائر (الذين تربطهم علاقات جيدة بقسد) سوى إعادة الأمور إلى سابق عهدها مع الوعود الصارمة بالنظر في المظالم، وهذه الوعود ستتبخر يوما بعد يوم مادام العرب لا يملكون أدوات ضغط لتحقيق مطالبهم !
العرب بحاجة إلى حراك سياسي ضاغط وواضح المعالم، تقوده كتلة سياسية من أبناء المنطقة تتسلح بمطالبهم وبقوة تمثيلهم، وتكون دائرة الحراك في أروقة الدول، لتقديم مشروع حقيقي يمتد بعيدا، وإظهار جرائم وأخطاء قسد وفشلها في المنطقة، وما تلك الثورة إلا ترجمة لتراكمات سابقة، وسيتكرر هذا الحراك ما لم يتم تبني مشروعا حقيقيا يمثل أبناء المنطقة بشكل منصف وحقيقي، وعلينا الاستفادة من أخطائنا السابقة في المرات القادمة .
كتبه/ خالد الحماد
——————————-
كتب الاستاذ محمود دياب المعارض المستقل المقيم في ولاية ماساشوستس في الولايات المتحدة مقالاً يناقش فيه ما جرى في شمال شرق سورية وهو الخبير بهذا الموضوع :
( كلنا شركاء )
كثرت المقالات عن الأحداث الأخيرة في منطقة دير الزور.
– انتفاضة القبائل والهجوم المضاد لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) في المنطقة بهدف توحيد السلطة في يد قسد وبالتالي الإدارة الذاتية لشمال شرق سوريا (الإدارة الذاتية). ويتوقع الكثير أن إيران، بدعوى ترهات شرعية الأسد، ستستمر في تصعيد النزاع على أمل تشتيت استراتيجية الولايات المتحدة في شمال شرق سوريا، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى انسحاب امريكي من سوريا على مثيل انسحابها من أفغانستان وتعزيز قبضة إيران على السلطة في سوريا. ولكني اريد العودة للنظر في الاستجابة الهادئة من قبل الدول العربية تجاه هذه الأحداث والنظر في حالة الصمت النسبي بشأن دير الزور، حتى قبل أن تصل للحالة الراهنة.
من المهم الاعتراف بأن الغالبية العربية السنية واجهت تحديات في تشكيل توافق وطني يمثل تطلعات جميع السوريين بصورة حقيقية. المعارضة السنية السورية، سواء السياسية أو المسلحة، اعتمدت في بعض الأحيان أيديولوجيات متطرفة وشاركت في أوقات في ممارسات إرهابية. من ناحية أخرى، لا تخلوا ممارسات الأكراد في شمال شرق سوريا، على الرغم من عدم كونها إرهابية بشكل صريح، مسارًا مشابهاً لخطوات الأسد في إقامة نظامه الوحشي الحالي. يعتمد هذا المسار بشكل حصري على العناصر الكردية وعلى استبعاد العناصر العربية النشطة، بمن في ذلك الذين قاتلوا في صفوف مسد ضد تنظيم الدولة وعدد من الميليشيات المدعومة من قبل تركيا خلال تشكل الإدارة الذاتية، وانفراد مسد بالسلطة المسلحة. وتنوه العناصر العربية أن نشاطات الإدارة الذاتية تهدف إلى تهجير العرب من أراضيهم التاريخية، ويشارك هذه الرؤية عدد من الذين يراقبون نشاطات الإدارة الذاتية ومسد عن كثب. بشكل أو باَخر تعطي نشاطات الإدارة الذاتية الانطباع بأنها تهدف إلى إنشاء دولة كردية على أرض عربية من خلال شن حرب ضد عدو وهمي مختلق. وهنا قد يخطر للبعض رغبة الاكراد في الانتقام من العناصر العربية التي اضطهدتهم في كل من حكومتي البعث في العراق وسوريا، إلا أن ذلك لا يبرر انتهاكاتهم ضد العرب السوريين في شمال شرق سوريا وتعاون قسد بشكل متكرر مع نفس النظام البعثي في سوريا الذي ارتكب العديد من الجرائم ضد الأكراد السوريين ولغتهم وثقافتهم.
لا بد من قراءة موقف الدول العربية من الأحداث في شمال شرق سوريا من خلال عدسة التطورات التي أثرت على العلاقات بينها وبين تركيا، وأفضت إلى النهج الحالي تجاه القضية السورية ككل. إلى وقت قريب كان خطاب المملكة العربية السعودية يؤيد قضية الشعب السوري بأكمله، وبدت السردية تدعم نضال الإدارة الذاتية وقسد كغيرهما من أطياف المعارضة ضد نظام الأسد. ومع ذلك، لم تقدم السعودية أي دعم لـلإدارة الذاتية. في حين حققت معارضة تركيا لأي خطاب دعا بتساوي الأكراد السوريين مع غيرهم من السوريين في الحقوق والواجبات العائق الحقيقي لأي تطور باتجاه اتفاق بين هذه الدول يحقق تأثيراً ايجابياً في تطورات القضية السورية نحو حل شامل. وأفضت التقاربات العربية التركية تباعاً إلى النهج الحالي للدول العربية، الذي يهدف إلى التهدئة مع جميع اللاعبين الإقليميين، بما في ذلك إيران وتركيا دون اتخاذ موقف واضح من استمرار الانتهاكات في سوريا. هذا الموقف لا يتعدى خلقه لحالة من الوهم تبعد كل البعد عن الواقع المستمر بين هذه الدول والمتجلي باستمرار تأثيرها أو تأثرها بالحال السوري. والواقع في سوريا يكمن في عدم قدرة الأسد – اسم يليق بوحش في غابة وهو الواقع السوري – على تلبية احتياجات الشعب السوري وهو شعب مبدع وخلاق. إن تصاعد ممارسات النظام القمعية والفاسدة بشكل متزايد منذ صعوده إلى السلطة في نهايات ستينات القرن الماضي أدى إلى إنشاء البيئة المثالية لتستمر الاضطرابات حتى يأتي الانفراج أو الانهيار. إن التطبيع مع النظام السوري ليس خياراً قابلًا للتحقيق، والشاهد للعيان واضح في تطور لبنان تحت تأثير النفوذ الإيراني. إن سياسة اللامبالاة الحالية للدول العربية والغرب تجاه الأحداث في سوريا والدعوة للتسوية باستمرار النظام الدموي ستؤدي فقط إلى مزيد من الاضطراب في المنطقة.
*إذًا، ما هي الخيارات المفتوحة في سوريا؟*
سياسة الانتظار ليست في مصلحة أحد والواضح للعيان أن إيران لا تزال تعمل بنشاط على تغيير المعطيات على أرض الواقع. تشير العديد من الدراسات إلى أن الاضطرابات في مناطق النزاع تنتشر إلى البلدان المجاورة. ومع استمرار التأثير الإيراني والتغييرات الديموغرافية ومنهجية الدعوة ضد العرب السنة والغرب، فالاعتقاد بأن ذروة العاصفة في سوريا قد مضت هو اعتقاد خاطئ. حتى في حال الهدوء في ظل دعوات التطبيع مع الأسد، فإن نأي الدول العربية عن الوضع السوري يضيف جوًا من الغموض والترقب. ولا يغيب عن أي عاقل إدراك أهمية وجود علاقات بناءة بين دول الجوار وسوريا، علماً انه من الاسهل تخيل استثمارات سعودية وخليجية في إيران على حصول مثيلها في الداخل السوري في ظل الوضع الراهن.
لكن *من المستهجن غياب أي ذكر لعمل مشترك بين الدول العربية وتركيا* حتى بعد التوافقات الحاصلة، وعدم تمكنها حتى الآن من التنسيق لإيجاد آلية يمكن بها تحقيق تقدم في الملف السوري يتماشى مع قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254، وهو قرار مركزي لإيجاد حل جذري لمعاناة السوريين، ويقرر بما لا يقبل الجدل بوجوب تنحي الأسد ونظامه عن السلطة. إنه من المفاجئ غياب ذكر أي حوار بناء بخصوص الشأن السوري بين السعودية وتركيا والولايات المتحدة وهم اقرب الحلفاء للولايات المتحدة، علماً أن الولايات المتحدة هي اللاعب الوحيد في سوريا في مواجهة التأثير الإيراني.
وبالنظر إلى قوة العلاقات الحالية بين الدول العربية وتركيا مع روسيا في حين استمرار الخلافات بين الولايات المتحدة وروسيا فهذه ميزة استراتيجية قد تمكن هذه الأطراف من التوصل إلى ترتيب يضمن المصالح الروسية في سوريا في ظل تطبيق القرار 2254 ومرحلة ما بعد الأسد. علماً أن روسيا صوتت بالإيجاب للقرار رقم 2254 واعترفت ضمنيًا بضرورة تنحى الأسد.
هنا اعود للتحدي الرئيسي لتحقيق أي انفراج، وهو كيف يمكن للدول العربية وتركيا التفاوض مع الأكراد السوريين بما يضمن حقوقهم ولكن دون منحهم أرضًا عربية أو تمكينهم من إقامة كيان يهدد الامن التركي او يقحم نفسه في الشأن التركي الداخلي. ورغم صعوبة الإجابة عن هذا السؤال، إلا أن سياسية الانتظار ستؤدي فقط إلى عكس النتائج المرغوبة لجميع الأطراف. لابد من إيجاد صيغة حوار مناسبة تحقق مشاركة الاكراد السوريين ومؤسساتهم مع مؤسسات المعارضة السورية الأخرى في حوار بناء الوطن والعمل في سبيله، بدلاً من السماح باستمرار العداء المتبادل بين الاكراد والعرب، وهو ما يمكن ان يتطور لخلق حالة مشابهة لما بين الفلسطينيين والإسرائيليين على الأراضي المقدسة.
وفي ملاحظة أخيرة على الوضع في الشمال السوري بأكمله دونما التقيد بمجريات الاحداث في دير الزور، فلا يمكن للمتابع الا ان *يشعر بالقلق حول عدم سعي الولايات المتحدة من تأمين التزام حقيقي من حلفائها الأكراد في سوريا لدمج العنصر العربي بشكل عادل* في محاولة تشكيل بديل مستقر ومتكامل لاستبدال دكتاتورية الأسد، ولكني لا أرى جدوى هذا الرجاء دونما دفع الدول العربية وتركيا بهذا الاتجاه.
من الممكن للبعض توجيه اللوم للعنصر العربي هناك ولعدم قابليته على التواصل بشكل فعال و*افتقاره إلى اليات العمل بروح الفريق* اللازمة للتفاعل مع الإدارة الذاتية. وللبعض الاخر ان يوجه الاتهامات المتكررة ضد سياسات قسد وتقصيتهم للقادة العرب المؤهلين الذين يمكن أن يكونوا مرشحين ناجحين وذلك بتواصل التنسيق بين قادة الأكراد ونظام الأسد والحرس الثوري الإيراني، وهي علاقة معروفة تثير شكوكًا محقة حول نوايا الإدارة الذاتية وقسد، حيث يشكل الأسد و الحرس الثوري الإيراني العدو الرئيسي للأكراد والشعب السوري علاوة على الدول العربية وتركيا.
وللمتابع ان يشعر بالمزيد من القلق حيال استمرار معاناة السوريين في ظل تجاهل تركيا استمرار استخدام الأسد الطائرات الروسية لقصف القرى المدنية في مناطق دعمها. هذه التركيبة تثير ما لا ينتهي من التساؤلات حول تأثر تركيا بالعنصرية العرقية ضد الاكراد والعرب دونما تمييز عند تعاملها مع الملف السوري، وصمت العرب أولاً والغرب ثانياً عن هذه المعضلة التي تعرقل التقدم في الملف السوري.
نهاية، في حين استفاد الأكراد من حماية الولايات المتحدة وعلاقاتهم مع كردستان العراق لتحقيق مكاسب تمثلت في استقرار وأمان ملموس بعيداً عن الأسد في شمال شرق سوريا، فإن العرب في المنطقة 55 وفي ظل حماية الولايات المتحدة لا زالوا في مخاض عسير بسبب انقساماتهم الخاصة ولنأي الأردن – القريب العربي عبر الحدود – عن دعمهم لتنمية المنطقة.
ومع هذا كله، فإن *الفرصة لم تنحسر لأن تأخذ الدول العربية وتركيا بزمام المبادرة معًا لتحقيق توافق يضمن مصالح الشعب السوري بأكمله* ، وذلك بالشراكة مع الولايات المتحدة ومراعاة المصالح الروسية، وصولاً إلى سياسة مجدية لسوريا تلبي مصالحه هذه الدول مع ضمان الاستقرار الدائم وفقًا لقرار مجلس الأمن رقم 2254.
—————————
اللحظة السياسية السورية الراهنة / محمد سيد رصاص*
المركز الكردي للدراسات
في شهر أغسطس/آب 2022 انهارت المفاوضات الأميركية- الإيرانية التي بدأت في فيينا قبل ستة عشر شهراً من أجل احياء الاتفاق النووي مع إيران لعام 2015 بعد أن سحب الرئيس الأميركي دونالد ترامب التوقيع الأميركي عليه في عام 2018. بعد شهر من ذلك بدأت تظهر المسيرات الايرانية من نوع (شاهد) في الحرب الروسية على أوكرانيا.
منذ ربيع عام 2023 بدأت تظهر تسريبات في مقالات ودراسات بالصحف وبعض مراكز الأبحاث الأميركية عن خطة أميركية لإغلاق الحدود العراقية – السورية عبر السيطرة العسكرية بواسطة قوات أميركية أو حليفة أو موالية لواشنطن على خط التنف- البوكمال من أجل قطع الشريان عن حزب الله في لبنان وحركة حماس في فلسطين ولضرب التواجد العسكري الإيراني أو الموالي لطهران بين تنظيمات عسكرية أغلبها عراقي، في سوريا، والأمر انتقل مؤخراً للعلن بعد تصريحات مضادة ومحذرة من الخطة الأميركية أطلقها رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي ووزيرالخارجية الايراني أمير عبداللهيان.
لا يمكن هنا الفصل بين ما جرى في فيينا وبين تلك التسريبات. ويبدو أن الأميركيين يريدون عبر هذه الخطة الضغط على ايران في نقطة يظنون ويحسبون أنها النقطة الرخوة عند طهران ولكن يعتقدون أو يقدرون أنها الأكثر تأثيراً وإيلاماً. والأرجح هنا أن الأميركين يريدون تكرار معاكس لما جرى في شهري أغسطس/آب وسبتمبر/أيلول 2013 عندما كان تهديد طهران بالانسحاب من المفاوضات النووية الرادع الرئيسي للرئيس الأميركي باراك أوباما عن تنفيذ ضربته العسكرية على سوريا، حيث يبدو أن هناك حسابات أميركية بأن تنفيذ هذه الخطة الأميركية في سوريا يمكن أن يجبر إيران على الابتعاد عن روسيا (ومعها الصين) والعودة لما يريده الرئيس جو بايدن من مفاوضات نووية جديدة تكون فيها ايران ضعيفة الأوراق الإقليمية.
هنا ، يجب الربط بين الانعطافة التركية نحو واشنطن التي جرت في قمة حلف الناتو الأخيرة في ليتوانيا في يوليو/تموز والتي هي كسر لانعطافات أردوغان نحو موسكو التي بدأت في قمته مع بوتين في 9 أغسطس/آب 2016 وبين ما تسرب لأوساط إعلامية عديدة عن أن هناك نقل من تركيا بطائرات أميركية باتجاه قاعدة التنف لعناصر من فصائل عسكرية سورية معارضة موالية للأتراك من أجل التدريب والتحشيد لتنفيذ تلك الخطة الأميركية وعن أن الأتراك طالبوا واشنطن مقابل ذلك بتغيير الواقع القائم في شرق الفرات باتجاه تحجيم نفوذ قوات سوريا الديمقراطية – قسد .
يمكن أن يضاف لهذا الأمر الأخير الأميركي- التركي مؤشرات عديدة على أن قوات سوريا الديمقراطية رفضت وترفض الاشتراك في هذه الخطة الأميركية التي من المؤكد إن دخلت طور التنفيذ ستقود إلى مواجهة بين القوة العظمى في العالم والقوة الإقليمية العظمى ستكون لها تداعيات كبرى في عموم إقليم الشرق الأوسط، وليس من دون دلالة تركيز الأميركيين في الأشهر الأخيرة على العرب في شرق الفرات الذي يميل وسطهم الاجتماعي إلى عداء شديد للإيرانيين، وهو وسط له الكثير من الخيوط التي نسجت مع الأتراك في سنوات الأزمة السورية منذ 2011. وأيضاً ليس من دون دلالة الصمت الأميركي على ما جرى من قتال مؤخراً في جنوب وشرق ديرالزور عند الضفة الشرقية للنهر بين قوات سوريا الديمقراطية وقوى عسكرية معظمها يتبع لقيادات في مجلس ديرالزور العسكري التابع لتلك القوات وساندها وسط اجتماعي تركز أساساً في قبيلة العقيدات بمنطقة جنوب محافظة ديرالزور، من دون وجود مساندة عند عرب الرقة والحسكة، ثم محاولة الأميركين لعب دور الإطفائي بعد عشرة أيام، في حريق لاقى حطباً جافاً بوسط عربي على الأقل في بعض مناطق محافظة ديرالزور يشعر بتظلمات وعدم رضا وتهميش. وكذلك ليس من دون دلالة الحبور التركي تجاه ما جرى في ديرالزور، والحماس عند المعارضين السوريين الموالين لأردوغان، وهو ما شاركتهم طهران في حبورهم التي رأت في ماجرى بدير الزور لصالحها.
هذا التوتر الأميركي- الإيراني الذي انعكس على سوريا سريعاً لم نرى موازياً له من خلال المجابهة الأميركية – الروسية في أوكرانيا، ولو أن هناك بالأشهر الأخيرة احتكاكات جوية غير مسبوقة في السماء السورية بين الأميركيين والروس، ما يوحي ببدء ترجمات محتملة في سوريا لهذا الصراع الروسي- الأميركي الذي هناك مؤشرات على أنه سيمتد لمناطق عديدة من العالم ولن يقتصر على أوكرانيا حيث هناك حرب لحلف الناتو ضد روسيا تقوم بها أوكرانيا بالنيابة، وسوريا مرشحة لأن تكون ميداناً لهذا الصراع وأيضاً القارة الافريقية.
من جهة أخرى، بعد قمة حلف في ليتوانيا تم الاعلان عن نية الحلف إنشاء مركز ارتباط إقليمي في الأردن. وهناك مؤشرات على أن الأردن سيكون مركز الارتباط الاقليمي في عموم منطقة الشرق الأوسط.
لا يمكن عزل هذه الخطوة عن التوتر الأميركي- الإيراني، وعن هواجس الأردن من تواجد مليشيات موالية لطهران في الجنوب السوري، والتي يربط الأردنيون بينها وبين تجارة المخدرات التي تعبر الحدود السورية – الأردنية، وهما أمران جعل الأردن يتصدر المبادرة العربية الأخيرة تجاه الأزمة السورية، إضافة إلى موضوع اللاجئين السوريين في الأردن. تعثر المبادرة العربية واقترابها من الفشل، وهو أمر يتوازى مع جمود الاتفاق السعودي- الإيراني بعد مرور ستة أشهر عليه، يتزامن مع تصريحات أردنية غير رسمية ومن وزراء ومسؤولين سابقين عن نية عمًان إقامة منطقة عازلة في الجنوب السوري، ولا يعرف مدى ارتباط هذا مع ما يجري في محافظة السويداء حالياً، وإن كان أسبوعان وأكثر من الحراك الاجتماعي المعارض هناك تميز بسلميته وبشعاراته التي تطالب بالانتقال السياسي وفق القرار الدولي 2254 وعدم اقتصاره على القضايا المطلبية الاقتصادية – الاجتماعية ، وإن كان يلاحظ أنه حراك موضعي ولا توحي مؤشرات بأنه سيمتد لمناطق سورية أخرى، بخلاف ماجرى مع درعا في 2011، وربما هذا ما يفسر هدوء رد فعل السلطة السورية على مايجري في السويداء.
كتكثيف: منذ أن تأقلمت وتدولت الأزمة السورية في خريف 2011، ولم تعد داخلية كما كانت في الأشهر الستة الأولى من بدئها في درعا، فإن تناول ما يجري في سوريا لا يمكن أن يكون أساساً إلا تناولاً لمايجري بين القوى الفاعلة في الأزمة السورية والتي هي بالترتيب من حيث القوة :الولايات المتحدة ، روسيا تركيا، إيران.
*كاتب سوري.
———————————-
هل تدفع تطورات دير الزور “قسد” إلى تغيير سياستها شرقي سورية؟
سلام حسن وعدنان أحمد
العربي الجديد
مع إعلان “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، أول من أمس الجمعة، انتهاء العمليات العسكرية في ريف دير الزور، شرقي سورية، بعد مواجهات دامية استمرت نحو 10 أيام مع مقاتلي العشائر العربية في المنطقة، تثار أسئلة حول ما إذا كانت هذه التطورات ستشكّل منعطفاً إيجابياً في سياسة “قسد” تجاه منطقة شرق الفرات، كما توحي بذلك التصريحات الصادرة عن قيادتها، أم أن هذه التصريحات مجرد محاولة لامتصاص الغضب الشعبي والعشائري، وستعود “قسد” لسياساتها القديمة التي استفزت السكان، حالما تهدأ الأمور.
وذكرت “قسد”، في بيان نشرته عبر معرفاتها الرسمية، أن العملية المسماة “تعزيز الأمن”، والتي أطلقتها في 27 أغسطس/آب الماضي ضد ما قالت إنها خلايا لتنظيم “داعش” و”تجار المخدرات” و”العناصر الإجرامية المطلوبة للعدالة”، انتهت وبدأ العمل الآن ضمن نطاق “العمليات الأمنية المحدودة”. وأشارت “قسد” إلى أن هذه العملية أسفرت عن مقتل 25 عنصراً من “قسد”، و29 “مسلحاً”، فضلاً عن مقتل 9 مدنيين زعمت أنهم قضوا “برصاص المسلحين الذين استخدموا الأسلحة الثقيلة في المواجهات”، إلى جانب اعتقال عنصرين من “داعش” و4 عناصر من “الدفاع الوطني” التابع لقوات النظام السوري.
وطوال المواجهات، تجنّبت “قسد” في بياناتها الإشارة إلى الطرف الثاني بوصفه مقاتلي العشائر أو سكان المنطقة، وظلت تصفهم بـ”الخارجين عن القانون”، لكنها اتهمت “بعض القوى”، وعلى رأسها قوات النظام السوري، “بخلق فتنة ما بين الأهالي وقوات سوريا الديمقراطية”. وقالت إن عناصر تابعة للنظام تسللوا من غربي نهر الفرات واتحدوا مع مسلحين من المنطقة تحت مسمى “جيش العشائر”.
“فرات بوست”: دفعة من الآليات العسكرية سُلّمت إلى “قسد” بعد مفاوضات مع وجهاء المنطقة
وبالتزامن مع إعلان “قسد” عن توقف العمليات العسكرية، وردت معلومات غير رسمية عن التوصل إلى اتفاق بين العشائر العربية في ريف دير الزور الشرقي و”قسد”، يقضي بتسليم الأخيرة الآليات التي استولى عليها مقاتلو العشائر ودخول “قسد” المناطق التي خرجت عن سيطرتها خلال الأيام الماضية من دون قتال.
وذكرت شبكة “فرات بوست” المحلية، أن دفعة من الآليات العسكرية التي استولى عليها المقاتلون سُلّمت بالفعل إلى “قسد” بعد مفاوضات مع وجهاء المنطقة، تم خلالها الاتفاق على السماح لـ”قسد” بدخول مناطق الريف الشرقي تباعاً من دون قتال، مع التشديد على عدم التعرض للمدنيين والممتلكات الخاصة.
ودخلت “قسد” إلى بلدتي الجرذي وأبو حردوب بدون قتال تنفيذاً لشروط الاتفاق، بحسب شبكة “فرات بوست”، فيما أقام عناصر “قسد” عدداً من الحواجز داخل البلدتين.
تواصل التوتر في ريف دير الزور
ورغم هذه الإعلانات عن التهدئة، إلا أن أنباء متقاطعة أكدت تواصل التوترات ولو بحدة أقل، حيث قتل عنصران من قوات “قسد” ليل الجمعة – السبت برصاص مجهولين يستقلون دراجة نارية على طريق الخرافي الواصل بين الحسكة ودير الزور. كما هاجم مسلحون في بلدة جزرة البوحميد بريف دير الزور الغربي، أول من أمس، حاجزاً لـ”قسد” وسيطروا عليه لبعض الوقت، قبل أن تبادر الأخيرة إلى اقتحام البلدة.
كذلك شنّ عناصر “قسد” حملة اعتقالات بالقرب من محطة القطار غربي دير الزور، وداهموا تجمعات النازحين في المنطقة، بعد تعرّض حاجز المحطة لهجوم، ليل الجمعة – السبت من قبل مقاتلي العشائر.
وفي السياق، عثر الأهالي على جثة الشاب المدني زاهر أحمد الكمال بين بلدتي الطيانة وذيبان، وتظهر عليها آثار التعذيب داخل منزله، وذلك بعد فقدانه منذ اقتحام “قسد” للمنطقة قبل يومين.
كما قام عناصر “قسد” بتفتيش الهواتف المحمولة للمدنيين بشكل دقيق في بلدة درنج شرقي دير الزور، صباح أمس، وتعرّضوا للمدنيين بألفاظ نابية، وفق مواقع محلية. كذلك شنّ عناصر “قسد” حملة مداهمات في شارع العشرين بمدينة البصيرة بريف دير الزور الشرقي. وسبق ذلك ورود شكاوى عن قيام عناصر “قسد” بسرقة محال تجارية في الشارع العام وسط بلدة العزبة شمال دير الزور، تزامناً مع استمرار حواجزها في تفتيش الهواتف المحمولة الخاصة بالمدنيين بحثاً عن مواد مصورة تخص الحراك الأخير في دير الزور.
وقال الناشط أبو عمر البوكمالي، المقيم في شرقي دير الزور، لـ”العربي الجديد”، إن الأمور انحسمت ميدانياً تقريباً لصالح “قسد”، لكن هناك حملات تفتيش تقوم بها الأخيرة، وما تزال الطرق الرئيسة مقطوعة. كما لفت إلى أن الوضع الإنساني ما زال صعباً بسبب قطع الطرق، خصوصاً لجهة توفر المواد الأساسية مثل الطحين.
تحرك أميركي وجهود للتهدئة
وكانت جهود التهدئة قد تزامنت مع وصول وفد أميركي إلى شمال شرقي سورية برئاسة نائب مساعد وزير الخارجية إيثان غولدريتش لبحث التطورات الأخيرة.
وقال نائب المتحدث باسم الخارجية الأميركية، فيدانت باتل، إن مسؤولين أميركيين، على رأسهم غولدريتش، وقائد عملية “العزم الصلب” اللواء جويل فويل، أجروا (الأحد الماضي) اجتماعاً في شمال شرقي سورية مع قادة من “قوات سوريا الديمقراطية” و”مجلس سوريا الديمقراطية” وزعماء عشائر عربية في دير الزور.
وأوضح باتل أنه تم “الاتفاق على أهمية معالجة مظالم سكان دير الزور، ومخاطر التدخل الخارجي في المدينة، وضرورة تجنب سقوط قتلى وجرحى في صفوف المدنيين، وضرورة وقف التصعيد والعنف في أقرب وقت ممكن”.
وفي سياق هذه الجهود، تعهد قائد “قسد” مظلوم عبدي، بتلبية مطالب العشائر العربية شرقي سورية وإصلاح ما دعاه بالأخطاء التي قال إنها ارتكبت في إدارة المنطقة. وأضاف عبدي، في حديث لوكالة “رويترز”، الخميس الماضي، أنه التقى بزعماء العشائر وسيحترم طلبهم بالإفراج عن عشرات المقاتلين المحليين الذين شاركوا في المواجهات ضد “قسد”، واعتقلوا خلال المواجهات الاخيرة.
كما وعد عبدي باستضافة اجتماع موسع مع وجهاء العشائر العربية وممثلين آخرين من دير الزور لمعالجة “المظالم” القائمة منذ فترة طويلة، من التعليم والاقتصاد إلى الأمن، مشيراً إلى أنه يقر بوجود “عيوب” في مدى شمول المجالس المحلية لمختلف العشائر.
وتعهد عبدي بإعادة هيكلة كل من “المجلس المدني” التابع لـ”الإدارة الذاتية” والذي يحكم المحافظة، إلى جانب “مجلس دير الزور العسكري” التابع لـ”قسد”، بحيث يكونان أكثر تمثيلاً لجميع العشائر والمكونات في دير الزور، وفق قوله. وأكد انفتاح “قسد” على كل الانتقادات، وسيتم دراستها بحيث تعود “قسد” بكل مكوناتها بشكل أقوى، مؤكدا أنها لن تنسحب من المنطقة. وكتب عبدي على موقع “إكس”، أنه دعا شيخ قبيلة العكيدات إبراهيم الهفل، إلى الجلوس والتفاوض وحل المشكلات العالقة، لكن الأخير لم يتجاوب مع الدعوى.
تعهدات “قسد” مجرد وعود
وأعرب الباحث والأكاديمي الدكتور فريد سعدون، عميد كلية الآداب في جامعة الحسكة، شمالي شرق سورية، في حديث مع “العربي الجديد”، عن اعتقاده بأنه لن تطرأ تغييرات جوهرية على سياسة “قسد” في المنطقة، وهي سياسة تعتقد “قسد” أنها تحافظ على سلطتها هناك.
وأضاف سعدون أن “الانتصار العسكري لا يعني شيئاً، فما زالت هناك حاجة إلى عملية سياسية تحل الأمور العالقة وتعالج مظالم الناس”، ملاحظاً أن كلا الطرفين، “قسد” وزعماء العشائر، يحاولان استقطاب الأهالي إلى صفهما. وفي هذا الإطار، “تحاول قسد بشكل مستمر الاجتماع مع بعض شيوخ العشائر الموالين لها، وإظهارهم على أنهم يمثلون المنطقة”، وفق قوله.
وأضاف سعدون أن الطرف الآخر “رغم أنه أضعف عسكرياً، لكنه يمتلك الثقل السكاني والقومي، وسيظل قادراً على إثارة المتاعب أمام قسد في حال لم تتمكن الأخيرة من استيعابه وإرضائه”.
ورأى سعدون ضرورة أن تتشكل إدارة مدنية حقيقية في كل منطقة، مشيراً إلى أن “قسد تتبنى نظرياً سياسة الإدارات المحلية لكل منطقة، لكن على أرض الواقع لا تطبق ذلك، وهناك دائماً سلطة أقوى تتبع لجهة ما من خارج إطار هذه الإدارات”. وأعرب سعدون عن اعتقاده بأن العشائر “لن تتنازل عن حقها في إدارة مناطقها، خصوصاً في دير الزور ومنبج والرقة، وهي مناطق عربية خالصة، ولن يقبل أهلها بوجود عنصر آخر يشاركهم في إدارة مناطقهم”.
من جهته، نفى سيهانوك ديبو، الرئيس المشترك لمكتب العلاقات العامة في حزب الاتحاد الديمقراطي (الحزب الأم الذي يقود “قسد”) في تصريح لـ”العربي الجديد”، أن تكون التطورات الأخيرة تمثل حرباً عرقية بين العرب والأكراد، أو بين “قسد” والعشائر العربية، واصفاً العشائر العربية بأنها “إحدى أهم الدعامات المجتمعية” بالنسبة لـ”قسد”.
واتهم ديبو “بعض الجهات ضمن نقطة الصراع الدولي والإقليمي في الساحة السورية وبعد أن استعصى عليه طيلة السنوات الماضية تحجيم وإفشال الإدارة الذاتية، يسعون إلى إفشال هذه التجربة وخلط الأوراق كمحاولة لتعزيز المواقع للدول المتصارعة في هذه المرحلة الانتقالية”.
واعتبر ديبو أن “حملة تعزيز الأمن التي قامت بها قسد، تفتح مرحلة جديدة لصالح مكونات المنطقة والتمهيد لحل الأزمة السورية”.
وكانت المواجهات المسلحة في دير الزور اندلعت بعد اعتقال “قسد” قائد “المجلس العسكري” في دير الزور أحمد الخبيل في 28 أغسطس/آب الماضي، ما أسفر عن تحالف عشائر من المنطقة مع مقاتلي المجلس، وبدأت اشتباكات عسكرية في بعض قرى وبلدات دير الزور خرجت عن سيطرة “قسد” بالكامل لبعض الوقت.
————————————
بعد انتفاضة العشائر في شرق سوريا: «قسد» نحو إعادة هيكلة مجلسي دير الزور العسكري والمدني/ منهل باريش
استعادت قوات سوريا الديمقراطية «قسد» السيطرة نسبياً على المناطق التي أخلتها إثر الانتفاضة المحلية العشائرية وثبتت نقاطها في بلدة الشحيل أهم البلدات والقرى المنتفضة وحاصرت بلدة ذيبان معقل آل الهفل الذين يتزعمون قبيلة العكيدات، وسط أنباء متضاربة عن مكان تواجد الشيخ إبراهيم الذي صعد نجمه خلال الأيام الماضية، وهو أخ مصعب الهفل شيخ قبيلة العكيدات المقيم في الدوحة منذ سنوات.
ورغم المساعي المختلفة لفتح باب الحوار بين العشائر و«قسد» إلا أنها أخفقت بحث القوات الأمريكية على التدخل المباشر. وأدى استمرار الغليان في المنطقة الواقعة تحت نفوذ واشنطن إلى إجبار «قسد» على تغيير حدة خطابها قليلا وهو ما يمكن قراءته بإيجابية من قبل العشائر العربية في شرق الفرات.
وفي السياق، أكد قائد قوات سوريا الديمقراطية «قسد» أن هيكلة جديدة ستعمل عليها «قسد» في المرحلة المقبلة لإعادة تنظيم المجلس المدني في دير الزور، و«مجلس دير الزور العسكري» بهدف شمولية تمثيلها عن «جميع العشائر والمكونات الموجودة في محافظة دير الزور» وشدد مظلوم عبدي بقاء قواته في مناطق سيطرتها شمال شرق سوريا دون تغيير.
وأشار في تصريحٍ لوكالة «رويترز» إلى وجود «خلل في تمثيل العشائر في المجالس المحلية» ضمن المناطق التي تسيطر عليها «قسد» متعهدًا باستضافة اجتماع واسع النطاق مع كبار الشخصيات في العشائر العربية وممثلين عن مكونات دير الزور، لمعالجة الشكاوى المستمرة بقضايا التعليم والاقتصاد والأمن.
واتهم النظام السوري بـ «إثارة الفتن والاضطرابات في المنطقة» لافتًا إلى أن قواته اعتقلت عددا من العناصر التابعين لقوات النظام، ولن يشملهم العفو العام الذي تعتزم «قسد» إعلانه في الفترة المقبلة عن جميع الموقوفين من المسلحين والمدنيين المشاركين بالانتفاضة.
وفي سياقٍ متصل، قال قائد قوات «الدفاع الوطني» في دير الزور، المساندة لقوات النظام، فراس العراقية، حسب ما نشرته صفحة الدفاع الوطني بالقامشلي، إن «قسد» اعتقلت عددًا من مقاتلي «الدفاع» من الميادين، عبروا ضفة الفرات لمساندة قوات العشائر العربية في مواجهاتها مع «قسد».
وأعلنت «قسد» في بيانٍ نشرته على موقعها الإلكتروني، الأربعاء الماضي، انتهاء المواجهات بينها وبين قوات العشائر، بسيطرتها على بلدة «ذيبان» بريف دير الزور الشرقي آخر معاقل قوات العشائر العربية، التي واجهت «قسد» على خلفية اعتقال الأخيرة قائد مجلس دير الزور العسكري، أحمد الخبيل «أبو خولة» في 17 آب (أغسطس) الماضي.
وأشارت «قسد» في بيانها إلى أن قواتها سيطرت على «ذيبان» وبدأت مرحلة تفتيش للبلدة بحثًا عما وصفتهم «بمسلحين من الضفة الغربية للفرات» وهي مناطق سيطرة قوات النظام والميليشيا الإيرانية الموالية لها.
بموازاة ذلك، أكدت مصادر محلية لـ «القدس العربي» أن المواجهات بين الطرفين لم تنته ببيان «قسد» مؤكدة على أن اشتباكات بين مقاتلين من «مجلس دير الزور العسكري» ومقاتلي العشائر من جهة، و«قسد» من جهة أخرى، اندلعت في ذيبان، مساء الأربعاء، كما اندلعت مواجهات بين الطرفين في قرى وبلدات الكسرة جزرة البوشمس وجزرة البوحميد وأبو خشب بريف دير الزور الغربي.
وأضافت المصادر، بأن قوات «قسد» لم تحكم سيطرتها الكاملة على «ذبيان» مشيرة إلى أن حي «اللطوة» بالقرب من مجرى نهر الفرات لا يزال تحت سيطرة مقاتلي العشائر ومجلس دير الزور العسكري، الذين شنوا ليل الأربعاء هجومًا استهدف حواجز «قسد» وسط ذبيان، تزامنًا مع هجوم آخر على نقطة «السرب» التابعة لقسد على طريق ذبيان -الطيانة.
وقال إبراهيم الهفل في مقطع صوتي تداوله ناشطون على منصات التواصل الاجتماعي، يوم الخميس، أن قوات العشائر مستمرة في قتال «قسد» مشيرًا إلى أنه في مكان آمن، نافيا جميع الأنباء التي تحدثت عن توجهه لمناطق سيطرة قوات النظام على الضفة الغربية للفرات، لافتًا إلى أن هذه الأنباء هي مخططة لربط حراك العشائر العربية شرق الفرات بنظام الأسد وإيران.
وكان المتحدث باسم «قسد» فرهاد شامي، قد قال في منشورٍ على صفحته الرسمية في فيسبوك ليل الأربعاء، إن شيخ «العكيدات» إبراهيم الهفل، توجه إلى مناطق سيطرة نظام الأسد بعد إحكام قوات «قسد» سيطرتها على معقله في ذيبان. ونشر الناطق بعد إعلان «قسد» سيطرتها على ذيبان، تسجيلاً مصورًا من مضافة «الهفل» قائلا إن «قواتنا تنظم زيارة لشيوخ ووجهاء ذيبان».
وزارة الدفاع الأمريكية «البنتاغون» حليف «قسد» دعت الثلاثاء الماضي، إلى وقف القتال بين العشائر و«قسد» مطالبة الأطراف التركيز على هزيمة تنظيم «الدولة الإسلامية».
وأفاد المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، فيدانت باتل، باجتماع نائب مساعد وزير الخارجية، إيثان غولدريتش، وقائد عملية العزم الصلب الجنرال جويل فويل مع قيادات من «قسد» وممثلين عن العشائر العربية لحل الخلاف بين الطرفين، مشيرًا إلى أن الأطراف اتفقت على ضرورة وقف العنف، كما أكدوا على أهمية معالجة شكاوى العشائر العربية، كما أشاد كل من غولدريتش وفويل، بـ «الشراكة الأمريكية المتينة مع قوات سوريا الديمقراطية، وجهودهما المشتركة في محاربة فلول تنظيم داعش».
من جعة أخرى، علق نظام الأسد على التطورات الأخيرة على لسان وزير خارجيته، فيصل المقداد، في مؤتمر صحافي الأربعاء، على هامش قمة اتحاد المؤسسات العربية في القارة الأمريكية اللاتينية، وقال المقداد إن دمشق تدعم قوات العشائر في دير الزور في معركتها مع القوات المدعومة أمريكيا.
وأضاف، أن «ما يجري في شرق سوريا لا يحتاج إلى بيانات رسمية، لكون المواطنين السوريين يخوضون نضالا وطنيا باسم جميع السوريين، في معركتهم ضد الاحتلال والمسلحين الموالين له».
وعلى صعيدٍ آخر، أشار المقداد إلى أن انسحاب القوات التركية من سوريا هو الشرط الأساسي لعودة العلاقة مع أنقرة، والتي عبرت عن دعمها للعشائر العربية في مواجهاتها مع «قسد» وجاء ذلك في تصريح للرئيس التركي، رجب طيب اردوغان، خلال عودته من قمة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سوتشي، الثلاثاء الماضي، قائلاً إن «العشائر العربية في محافظة دير الزور السورية هم أصحاب تلك المناطق الأصليون، وأن تنظيم بي كي كي، واي بي جي مجرد إرهابيين». وأشار الرئيس التركي، إلى أن العشائر بتوحدها الأخير قد «زادت من قوتها وفعاليتها» لافتًا إلى أن «الأحداث الأخيرة حظيت باهتمام الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الذي أكد على أهمية اتحاد العشائر.
إن استعادة «قسد» السيطرة على المناطق المنتفضة ضدها مرة أخرى لا يعني بطبيعة الحال ضبطها أمنيا كما كان الحال قبل منتصف آب (أغسطس) الفائت. وما جرى يحتم عليها الدخول بشراكة حقيقية مع المكون العربي في شرق الفرات، تحديدا في محافظة دير الزور من خلال تحسين الخدمات والوضع الاقتصادي ومنع التهريب إلى مناطق النظام إضافة إلى ضبط الحالة الأمنية على المستوى الأهلي. فدير الزور التي تعتبر خزان النفط في شرق سوريا والمورد الرئيسي لميزانية «الإدارة الذاتية» تنتهج الأخيرة تجاهها سياسة تمييزية واضحة وضوح الشمس مردها اعتراض الناس على المشاركة في مشروع حزب الاتحاد الديمقراطي السياسي والعسكري.
القدس العربي
——————————
مواجهات دير الزور: خرائط تحت الطبع!/ محمد قواص
سيكون عسيراً الخروج برواية حقيقية نهائية بشأن الأسباب والتوقيت اللذين يقفان وراء اندلاع الاشتباكات في محافظة دير الزور بين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وبعض عشائر منطقة الجزيرة العربية. لقادة “قسد” روايتهم ولقادة العشائر روايتهم المضادّة، لكنّ في الأمر مخاطرة احتراب عربي كردي يأتي من خارج أيّ سياق سوري أو إقليمي أو دولي، لكنّه أيضاً قد يصادف كلّ هذه السياقات مجتمعة.
بدأت القصّة حين دعت قيادة “قسد”، بشخص القائد العامّ لهذه القوات مظلوم عبدي، قيادة المجلس العسكري لدير الزور (المنضوي داخل “قسد”) الذي يُعتبر ممثّلاً للعشائر العربية إلى اجتماع في “استراحة الوزير” بريف الحسكة. بعد ذلك ظهر أنّ تلك الدعوة كانت فخّاً أدّى إلى اعتقال قائد المجلس أحمد البخيل (أبي خولة) وقيادات أخرى. أثار الأمر عشائر المجلس التي تصادمت واشتبكت وهدّدت بعظائم الأمور إذا لم يتمّ الإفراج عن المعتقلين.
تبرّر “قسد” سلوكها بأنّه جاء استجابة لشكاوى عديدة أكثرها من العشائر العربية من انتهاكات وتجاوزات يمارسها أبو خولة وجماعته. وتتحدّث بعض مصادرها عن تواصل الرجل مع دمشق وتؤكّد اشتباه الأميركيين بعلاقاته مع إيران. بدا التبرير ركيكاً وبدت فكرة “فخّ الحسكة” صبيانيّة متعجّلة مرتجَلة.
تفجير الأحقاد
لا يحظى البخيل برضى وإجماع العشائر. لكنّ الحدث فجّر أحقاداً تراكمت بين الفصائل الكردية والعربية التي لفّقت الولايات المتحدة تحالفها تحت مسمّى “قسد”. ولئن لم ينتقل الغضب العشائري إلى مستوى شامل يمثّل كلّ المجتمع العشائري، غير أنّ الأمر مثّل تصدّعاً مقلقاً في علاقات المكوّنات الاجتماعية التي تتشكّل منها المنطقة. كتب عبد الباسط سيدا، القيادي الكردي، الذي رأس في عام 2013 المجلس الوطني السوري، مذكّراً بوحدة النسيج الاجتماعي في منطقة الجزيرة التي وصفها بـ “سوريا الصغرى”.
تتحدّث روايات عن خطط أكراد سوريا لـ “تطهير” “قسد” من مكوّنها العربي وتثبيت سيطرة كردية كاملة على المنطقة إلى حين نضوج التسويات
لاحظ سيدا تزامن تفجّر الصراع بين “قسد” ومجلس دير الزور العسكري مع انتفاضة السويداء. وفنّد ادّعاء “قسد” محاربة الفساد متّهماً إيّاها بأنّها “غارقة فيه”، واتّهم نظام دمشق والمرتبطين بإيران بركوب الموجة بحجّة حماية العرب. وفي ذلك ما يشرّع الأبواب أمام سيناريوهات لا تنتهي بشأن من يقف وراء المواجهات الدموية هناك وسرّ توقيت ذلك وارتباطه بصراع العواصم على سوريا عامّة، وشرق الفرات خاصّة.
يجري الحدث على خلفيّة ضجيج كثيف عن حشود عسكرية أميركية مثيرة للجدل في العراق وصوب سوريا وعلى الحدود بين البلدين. جرى الترويج لخطة أميركية تهدف إلى قطع الطريق على إيران والجماعات التابعة لها وإغلاق تلك الحدود أمامها. حتى الأمين العامّ للحزب في لبنان أثار الموضوع ممعناً في تأكيد الاحتمال رافضاً له ومهدّداً بمواجهته. قيل في شأن هذا الضجيج إنّ الولايات المتحدة تُعِدّ جيشاً من العشائر العربية للمساهمة مع “قسد” في تنفيذ المهمّة المزعومة.
الأميركيون ينفون
أخبرني أحد المصادر السورية أنّه تواصل قبل أيام مع المبعوث الأميركي إلى منطقة شمال شرق سوريا، نيكولاس غرينجر، لسؤاله عن هذه الخطة الأميركية. نفى الرجل، الذي يمارس مهامّه من تركيا، وجود أيّ خطط عسكرية غير معتادة وأكّد أنّ الأمر محصور بتبديلٍ للقوات وغيره من الإجراءات اللوجستية الروتينية. وإذا كان من حقّنا أن لا نصدّق الرواية الأميركية بالنسخة التي يقدّمها غرينجر، فحريّ بنا أن نتنبّه إلى أنّ واشنطن خصّصت لشمال شرق سوريا مبعوثاً خاصاً، وهو ما يعكس أهميّة المنطقة في خطط واشنطن لسوريا والعراق داخل خارطة المنطقة.
تتحدّث روايات أخرى عن خطط أكراد سوريا لـ “تطهير” “قسد” من مكوّنها العربي وتثبيت سيطرة كردية كاملة على المنطقة إلى حين نضوج التسويات. صحيح أنّ هذا التحالف هو “قوّة عسكرية وطنية موحّدة لكلّ السوريين تجمع العرب والكرد والسريان وكلّ المكوّنات الأخرى”، حسب بيان التأسيس في تشرين الأول 2015، لكنّ قيادته وعموده الفقري هما في يد “قوات حماية الشعب” الكردية، الفرع العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي الموالي لحزب العمّال الكردستاني PKK الذي تضعه تركيا وبلدان كثيرة في العالم على لوائح الإرهاب. وفق هذا الواقع فإنّ حسابات قيادة الـ PKK في جبال قنديل شمال العراق تُملي توجّهات فرعها السوري في قيادة “قسد”.
قيادات قنديلية في “قسد”
نُقل عن مصدر بريطاني أنّ لندن سبق أن كلّفت الدبلوماسي جوناثان باول (شغل منصب أوّل مدير لرئاسة الحكومة في عهد طوني بلير) بالتواصل مع القيادة الكردية في شمال شرق سوريا. عاد باول بعد لقائه بقائد “قسد” مظلوم عبدي بتقرير يؤكّد أنّ الرجل محاط بقيادات “قنديلية” وأنّه واجهة تتحرّك وفق تعليماتها. ولئن تكرِّر تركيا تأكيد ذلك لتبرير حربها ضدّ “الإرهاب الكردي” في جنوب حدودها السورية، فإنّ واشنطن التي تدرك الأمر متمسّكة بالتحالف مع “قسد” وتحمي وجودها في المنطقة وتعتبرها شريكاً جدّياً ومجرّباً في الحرب ضدّ داعش.
إضافة إلى الحوافز “القنديلية” تأتي حوافز دمشق وطهران لمشاغلة المنطقة بتوتّر يخفّف من ضغوط ما تمثّله ظواهر الاعتراض في السويداء واحتضانها داخل بيئات المعارضة في درعا وإدلب ومناطق أخرى، ولمشاغبة التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة في تلك المنطقة لإرباك خططه المزعومة بشأن قطع طريق طهران-بيروت. سبق لوزير الخارجية السوري فيصل المقداد أن هدّد في تموز الماضي من طهران بـ “إجبار القوات الأميركية على الانسحاب”، فيما بدا تعظيم الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله في آخر الشهر الماضي لـ”معركة شرق الفرات” هاجساً خطيراً يستحقّ التحرّك.
نشرت رئيسة مجلس سوريا الديمقراطية (مسد) إلهام أحمد على موقع “X” أنّ التطوّر مدفوع ومسلّح ومُحفَّز من قبل محور دمشق-طهران، وفي الوقت نفسه سُجّل تدخّل ملتبس قيل إنّه لمقاتلات روسية لتخفيف ضغوط العشائر العربية العسكرية على مواقع “قسد” بما يزيد الأسئلة بشأن تعقّد المصالح وتداخلها ويلقي غموضاً فوق غموض على حقيقة ما يجري، خصوصاً أنّ بيان العشائر أو بعضها، السبت، قد وافق منشور القيادة الكردية حين تحدّث عن “دخول مرتزقة وخلايا داعش والميليشيات الإيرانية للمنطقة بتسهيل من أجهزة النظام للتحريض والفتنة بصيغة عشائرية”.
اللافت أنّ التحالف الدولي الذي يدعو إلى عودة الهدوء لم يُظهر انحيازاً لأحد طرفَي الصراع، وهو ما ساق ماء إلى طاحونة أنباء تحدّثت عن خطة أميركية لتشكيل جيش من العشائر العربية ليست تركيا بعيدة عنها. وإذا ما يبدو المشهد مخصّباً بكثير من التشتّت والعبث، فذلك لأنّ الأمر يعكس حقيقة الأمور في سوريا. ففي ظلّ غياب سياق لحلّ جذري شامل للمسألة السورية، تذهب الأمور باتجاه إدارة طويلة الأمد لمناطق النفوذ في سوريا، وهو ما يمهّد لإنتاج مفدْرَل لسوريا المستقبل، ويتطلّب في جبل العرب أو الجزيرة أو حوران أو إدلب أو غيرها إعادة تموضع قوى الصراع لتثبيت خرائط الأمر الواقع.
—————————–
نصائحُ وتوصياتٌ إلى قوات العشائر الكرام، من الشيخ الفاضل *عمر حذيفة*
١- إيّاكم والرايات، بل يكفيكم رايةٌ واحدة تجتمعون تحتها، وتتعارفون من خلالها، ولتكن (راية العشائر).
٢- ابتعدوا عن الخطابات الدينية ولا تسمحوا لأحدٍ بذلك، مهما كانت صفته، فأنتم تحرّرون مناطقكم وتستعيدون حقوقكم وأراضيكم.
٣- إيّاكم أن يدخل في صفوفكم مَنْ ليس منكم، وخاصةً من الايرانيين وقوات النظام وقد لبسوا لباسكم لأغراضٍ خبيثةٍ تضرُّ بكم وبأهدافكم.
٤- وحّدوا الإعلام الثوري ضمن مكتبٍ رسميٍّ واحدٍ يأخذ منه الجميع ولا تسمحوا لأحدٍ بتجاوزه.
٥- اعملوا على تشكل غرفة عملياتٍ واحدةٍ تنسق الأعمال العسكرية من أصحاب الأمانة والاختصاص فيكم.
٦- إيّاكم أنْ تفوّتوا فرصةَ التحرير الذهبية الآن، واحشدوا ما تستطيعون من قوّة، واستعينوا بالله، ثمّ بإخوانكم الذين تظنّون فيهم خيراً لمدّ يد العون والمساعدة.
٧- لا تتسرّعوا في تحرير المناطق قبل أن تتمكّنوا في تثبيتها بأيديكم، ولا تأخذكم العواطف في التّحرير والعسكرة.
٨- أعطوا الأمان لكلّ من سلَّم نفسه لكم من العسكريين، وطمِّنوهم بالأمان على أنفسهم وأهليهم.
٩- حافظوا على المدنيين الذين أصبحوا أمانةً بين أيديكم وأحسنوا معاملتهم.
١٠- حافظوا على بيوت الناس ولا تتركوا مجالا للتعفيش والسَّرقة لمن دخل للقتال باسمكم.
١١- أنشؤوا لجاناً لتنظيم وإدارة المناطق التي يتمُّ تحريرها تكون على مستوى الأمانة والمسؤولية.
١٢- إذا جاءكم مَنْ يناصرونكم ويقاتلون معكم فرحّبوا بهم ضمن مجالات العسكرة والتحرير وليس في مجال الإدارة والحكم.
أخوكم عمر حذيفة
٢ / ٩ / ٢٠٢٣م
—————————————–
شيخ قبيلة العكيدات لـ”العربي الجديد”: ما يحدث في دير الزور انتفاضة عشائرية ضد ممارسات “قسد“
محمد كركص
قال شيخ قبيلة “العكيدات”، إبراهيم خليل الهفل، إن تحرك العشائر في ريف محافظة دير الزور لم يكن من أجل قائد مجلس دير الزور العسكري، وإنما من أجل استعادة حقوق أهالي المحافظة التي سلبتها ما تسمى “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، مؤكداً أن “هذا الحراك يعتبر انتفاضة عشائرية لاستعادة الحقوق المشروعة والمسلوبة”.
وقبيلة العكيدات هي واحدة من أبرز العشائر التي تخوض منذ أيام معارك واسعة ضد “قسد” في محافظة دير الزور، عقب احتجاز الأخيرة قائد مجلس دير الزور العسكري أحمد الخبيل (أبو خولة)، بداية الأسبوع الماضي، واعتقال قياديين آخرين من أبناء العشائر العربية.
وأضاف الهفل، في حديث خاص لـ”العربي الجديد”، أن بداية الحراك لم تكن واسعة “لكن اعتقال ومحاصرة قسد لنساء وأطفال قادة مجلس ديرالزور العسكري” الذين هم من المكون العربي ومحاولتها الهيمنة على المجلس والسيطرة التامة على دير الزور كانت “مستفزة لأبناء العشائر”، بالإضافة إلى التجاوزات والتراكمات السابقة و”الممارسات العنصرية” لـ”قسد” في المنطقة و”تلفيقهم التهم وخلق فزاعات” بوجود تنظيمات إرهابية بين العشائر بهدف إقناع التحالف واستخدامها “ذريعة لتنفيذ أجنداتهم”، علماً أن “أكبر المتضررين” من التنظيمات هم العشائر.
وبين شيخ القبيلة أن “كل التطورات التي حصلت أدت إلى انفجار وتطور الحراك إلى انتفاضة شعبية”، مشيرا إلى أن “ممارسات” المليشيا الأخيرة “كانت محاولة فعلية لمصادرة حق أبناء محافظة دير الزور في حماية وإدارة مناطقهم”.
ونبّه إلى أن “الحراك ليس موجهاً لمصلحة أشخاص وليس موجهاً ضد أشخاص”، مشدداً على أنه “انتفاضة عشائرية للدفاع عن حقوق أبناء المنطقة المشروعة والمسلوبة”.
وحول توارد أنباء عن مفاوضات بين “قسد” والعشائر، قال الهفل: “لم يطرح علينا أي مفاوضات، وهذا دليل أن القوة هي اللغة الوحيدة التي تنهجها قسد في التعامل مع أطياف المجتمع المدني.. إنها تسلك سلوك الأنظمة الديكتاتورية”، مضيفاً: “نسعى جاهدين لمنع إراقة الدماء وتحقيق الاستقرار، لذلك نتطلع للتفاوض مع التحالف الدولي فهو الضامن الوحيد لتحقيق مطالبنا”.
وتابع: “نرفض الظلم وانتقاص حقوقنا كمكون عربي، ولن نسمح بالمساس بها، ونقصد حق الدفاع عن النفس والعدالة في توزيع الثروات والإدارة المحلية وتوفير الخدمات للمنطقة من أمن وصحة وتعليم واقتصاد”.
وعن أُفق الحراك، لفت الهفل إلى أن “كل السوريين إخوة لنا، تجمعنا وحدة الأرض والتاريخ والمصير ولن يكون سلاحنا موجهاً نحو إخوتنا، وإنما نحن اليوم في موقف الدفاع عن النفس، وكما كنا يداً واحدة في مواجهة الإرهاب والطغيان سنكون يداً واحدة لبناء سورية التي تتسع للجميع”، مؤكداً أن “العشائر ستستمر في المقاومة ما لم يتم الاستجابة لمطالب أصحاب الأرض”.
وأوضح أن “الهدف النهائي هو ضمان حقوق أهل دير الزور وبسط الأمن والاستقرار في المنطقة”.
وحول كيفية إدارة الخدمات في المناطق التي سيطر عليها أبناء العشائر العربية، أوضح الهفل أن “موظفي الخدمات في قرى دير الزور جميعهم من أبناء المنطقة، ريثما يتم مناقشة إيجاد جسم مدني جديد منتخب مستقل عن (الإدارة الذاتية)، وهم الآن مكلفون من قبل أعيان العشائر بمتابعة الشؤون المدنية وأداء مهامهم ومستمرون في عملهم”، مبيناً أن “هناك وعيا مجتمعيا بأهمية حماية المنشآت المدنية والخدمية، وهذا ما لمسناه وشاهده الجميع من خلال تدخّل الأعيان والاجتماع بشكل فوري في القرى وإعلانهم بتحمّل هذه المسؤولية”.
وبخصوص الحديث عن التواصل بين العشائر و”التحالف الدولي”، أشار شيخ قبيلة “العكيدات” إلى أنه “جرى تواصل غير مباشر مع التحالف الدولي لكننا لم نرَ أي تحرك جدي من قبلهم، فهذا التأخر بالتواصل سيؤدي إلى إراقة المزيد من الدماء”، مطالباً التحالف الدولي “بفتح قنوات تواصل حقيقية”.
وحمّل الهفل التحالف مسؤولية “حدوث أي انفلات أمني أو خلل في السلم الأهلي في مناطقنا”. ومضى قائلا في هذا الصدد: “عليهم أداء مهامهم في تحقيق استقرار محافظة ديرالزور، من خلال انسحاب كوادر قسد من المنطقة بقرار رسمي علني من التحالف، وتسليم إدارة المنطقة لمجلس عسكري عشائري جديد مستقل عن قسد ومنتخب من قبل أعيان العشائر وتوكيل المهام لقادة العشائر لسد الفراغ الأمني، بالتعاون وبإشراف التحالف وبأسرع وقت ممكن دون مماطلة”، لافتاً إلى أن “الأهالي لديهم مجموعة مطالب من التحالف بصفته الضامن الوحيد لتحقيقها، ونرى أنها مطالب بسيطة ومشروعة ومحقة”.
واستدرك أن مطالب الأهالي تكمن في “العمل على تفعيل المحاسبة والمساءلة عن الجرائم والانتهاكات المرتكبة بحق أبناء المنطقة، من خلال إنشاء جهاز قضائي مستقل، وتشكيل مجلس عسكري وعشائري مستقل عن قسد ويمثل القوى المدنية والعشائرية في محافظة دير الزور، ومنح المجلس العسكري السلطة المطلقة بصلاحيات مالية وتنفيذية،
والتنسيق معهم من خلال غرفة مشتركة مستقلة عن هيمنة قسد، واستحداث هيئة قضاء في جميع مراكز المدن والقرى العربية، لحل النزاعات العشائرية والجرائم الجنائية وأن تكون له سلطة تنفيذية بمساندة مخافر شرطة ودفاع مدني”.
وشدد على أن من بين مطالب الأهالي أيضاً، “منح دير الزور السيادة المطلقة، إضافة إلى مجلس تشريعي وتنفيذي مستقل لما تتمتع به من خصوصية وأعراف ونسيج عشائري خاص، وتفعيل دور منظمات حقوق الإنسان والتحقيق في الانتهاكات وضرورة توكيل محامين للمعتقلين والسماح بزيارة ذويهم، وضمان محاكمة سريعة وعادلة للمتهمين لدى قسد، والإفراج عن المعتقلين الأبرياء الذين لم تثبت إدانتهم خاصة النساء”.
وعن موقف العشائر في دير الزور من النظام السوري، نوه الهفل إلى أن “موقف أبناء العشائر واضح وصريح، نحن لا نسمح لأي طرف بالتسلق على مطالب أبناء العشائر، لأن هذا الحراك هو حراك شعبي وانتفاضة كرامة، وهو ليس مدعوماً أو موجهاً من أي طرف خارج المنطقة”، مشدداً على أن “أي ادعاء بوجود أيد خارجية عار عن الصحة ومحاولة لتجاهل مطالب أهالي المنطقة وهروب من الحوار ورفض مبطن للتفاوض وللاستماع لمطالبنا”، مضيفا: “هي جزء من بروبغاندا كاذبة بثتها قسد بهدف شرعنة هجومها على أبناء المنطقة”.
————————————-
دير الزور… صراع أبعد من اعتقال “أبو خولة”؟/ شفان إبراهيم*
تتسارع الأحداث في دير الزور، وخصوصاً في ريفها الشرقي، حيث يتركز العدد الأكبر من المنتسبين إلى “مجلس دير الزور العسكري”، وهو أحد المكونات العربية التابعة لـ “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، وذلك عقب اعتقال الأخيرة، القائد السابق للمجلس أحمد الخبيل والمعروف بـ “أبو خولة” وبعض مرافقيه في “استراحة الوزير”، حيث المقر الرئيس لـ “قسد” في ريف الحسكة؛ وهو ما أدى إلى إندلاع مواجهات مسلحة بين مقاتلين من العشائر العربية في المنطقة و”قوات سوريا الديموقراطية”.
وكان دخول العشائر على خطّ الأزمة، من خلال مشاركة بعضها في المعارك الدائرة بين الطرفين، وسيطرته على عدد من القرى والحواجز العسكرية التابعة لـ “قسد”، زاد من تعقيدات الوضع في المنطقة. وربما لم تكن “قسد” تتوقع مشاركة عشائرية واسعة في المعارك، لكنّ عشائر “البكير” و”العكيدات” أعلنت النفير العام ضد “قسد”، وآزر مقاتلوها “مجلس دير الزور العسكري”، كما طالبت “التحالف الدولي” بالتدخل لإطلاق سراح المعتقلين، وناشدت المقاتلين العرب في صفوف “قسد” إلى الإنشقاق عنها.
وأكدت مصادر متطابقة لـ “المجلة”، أن مقاتلي العشائر سيطروا على “حاجز الجعابي” في مدينة هجين، ومركز الأمن العام في بلدة السوسة. كما وقعت بلدة الحوايج وبلدات الطيانة والشنان وذيبان وحواجز “قسد” في بلدة الجرذي، ومقار عديدة في بلدة غرانيج، تحت سيطرتهم.
ويقول، الباحث المساهم في “معهد واشنطن للدراسات” براء صبري، في حديث إلى “المجلة”، ان “الأحداث في دير الزور هي امتداد للصراع السوري الذي دخل عقده الثاني؛ إذ لا تعتبر هذه الأحداث ظاهرة فريدة وغريبة عن السياق السوري العام، بيد أنّ المميز فيها هو هوية الأطراف المُتقاتلة”. وأعاد، صبري، الأحداث في دير الزور، إلى عوامل داخلية عدّة، يُضاف إليها التأثيرات الخارجية. وليس بروز ملف “أبو خولة”، بحسبه، سوى نتيجة لرفض “قسد” الخروج عن طاعتها، خصوصاً أنّها تتهمّ “أبو خولة” بقضايا فساد وإستغلال للسلطة.
وكانت “قسد” تستشعر ذهاب الرجل وفريقه في طريق قد يمهّد لانفصال تشكيله عن “قسد”، ما يجعلها تخسر منطقة واسعة غنية بالموارد، ولذلك حاولت عزله، وهو ما أدى لاحقاً إلى إندلاع المعارك في المنطقة. أي أنّ الصراع بين المجلس و”قسد” يأخذ، بحسب صبري، منحى مرتبطا بأحقية السيطرة على دير الزور، و”هو أمر لا يخلو من تأثيرات خارجية سواء من طرف المعارضة التابعة لتركيا في أطراف منبج، أو من طرف تشكيلات الحكومة السورية وحليفتها الإيرانية على الضفة الغربية من نهر الفرات”.
ويعتبر صبري، أنّ “قسد تدفع ثمن سوء فهمها لما يحصل داخل مكوناتها، فضلاً عن ثمن فشلها الجزئي في تصحيح الإختلالات الإدارية وتقديم صورة عن الحكم الرشيد في مناطق سيطرتها، وذلك بالرغم من أنّ واقع المنطقة أفضل من سائر المناطق السورية”.
لماذا اعتقل “أبو خولة”؟
انتشرت خمس روايات متضاربة حول أسباب اعتقال “أبو خولة”؛ الأولى أن الثقة فُقدت بينه وبين “قسد”، خصوصا بعد الاشتباكات التي دارت بين الطرفين في مناطق عدّة من الريف الشرقي لدير الزور آواخر يوليو/تموز، والتي خمدت إثر إجتماع بين “أبو خولة” وقيادات من “قسد” برعاية قوات التحالف الدولي، في قاعدة حقل العمر النفطي. وانتشر، وقتذاك، تسجيل صوتي نُسب إلى “أبو خولة”، يُعلن فيه رفضه الإنصياع الكامل لها. كما اتهم “أبو خولة”، “قسد”، بمحاولة تعيين مفوض سامٍ في دير الزور للتحكم بمصيرها.
أما الرواية الثانية بحسب مصادر إعلامية من “قسد”، فإن “الخبيل اعتقل بناء على أمر من النيابة العامّة في شمال وشرق سوريا، بسبب تواصله مع جهات خارجية معادية للثورة، وارتكابه جرائم جنائية بحق الأهالي، واستغلال منصبه لتأمين مصالحه الخاصة”.
والرواية الثالثة، وفقاً للناشط مدين عليان، أنّ “القضية تتجاوز مسألة الإعتقالات، وهي تتعلق بالمشهد السوري العام؛ فإيران والحكومة السورية تدخلان على خط الأزمة، في إطار تصديهما للاحتجاجات الممتدة من السويداء إلى درعا وريف دمشق، وصولا إلى الساحل السوري، بخاصة أن احتجاجات شعبية بدأت في الرقة ودير الزور والقامشلي، لكن المعارك أوقفتها نهائيا”.
ورابع الروايات أنّ “قوات سوريا الديمقراطية اكتشفت تعاونا خطيرا بين مجلس دير الزور العسكري والميليشيات الإيرانية، وأن إيران تعمل على نقل السلاح عبر المناطق الممتدة بين دير الزور والبوكمال”. وهو ما أكدته الرئيسة التنفيذية لـ “مجلس سوريا الديمقراطية” إلهام أحمد، التي نشرت تغريدة لها عبر منصّة “إكس” تقول فيها أن الاشتباكات ليست حوادث معزولة، بل هناك أدلة، وفقها، تشير إلى أن الإضطرابات الجارية تحرّكها ميليشيات مدعومة من الحكومة السورية وايران، بغية تصوير المسألة على أنها صراع عرقي بين العرب والكرد، وصرف الانتباه عن الحركات الاحتجاجية في جنوب سوريا.
أما الرواية الخامسة، فتضع الخلاف بين المجلس و”قسد”، ضمن إطار الصراع الروسي الأميركي للسيطرة على المنطقة الغنية بموارد النفط والغاز والماء، خصوصاً أنّ الخبيل أظهر، في الآونة الأخيرة، رغبة في التواصل المباشر مع قوات التحالف، وسط اتهامه، في المقابل، بالتعامل مع الفرقة الرابعة والقوات الإيرانية.
من جهته، يؤكد رئيس تحرير موقع “الشرق نيوز” فراس علاوي، في حديث إلى “المجلة”، أنّ “أسباب التوتر عائدة إلى الفساد المالي في المنطقة والذي يؤدي إلى تعميق التفاوت في المجتمع، فضلاً عن عدم إشراك الأهالي في الملفات الأمنية والعسكرية، والإتهامات الجاهزة لكلّ معارض بالإنتساب إلى داعش؛ أما اعتقال أبو خولة، فلم يكن سوى الشرارة التي أشعلت المنطقة”.
موقف العشائر:
إلى ذلك، تضاربت مواقف العشائر العربية في دير الزور؛ فاصطفت غالبية قبيلة “العكيدات”، بقيادة مصعب الهفل، إلى جانب “حقوق الأهالي ضدّ سيطرة قسد”، وأصدرت عشيرة “البكير” التي ينتمي إليها “أبو خولة”، بياناً باسم العشيرة وقبيلة “العكيدات”، خيّرت فيه “الإدارة الذاتية الكردية” وقوات التحالف، بين إطلاق سراح المعتقلين وعودتهم سالمين إلى مناطقهم، وبين إعلان النفير العام لمحاربة “قسد”؛ كما أصدرت قبيلة “البوجامل” في مدينة الشحيل بيانا، أعلنت فيه وقوفها إلى جانب المجلس العسكري.
ويُمكن القول إن نقطة التحول الكبيرة في موقف العشائر كانت في بيان الهفل، الذي وقف ضد “قسد”، كما اصطف حاجم البشير شيخ “البكارة” إلى جانب الهفل، في وقت لم تشارك عشيرة “الشعيطات” في القتال، لكنها أغلقت مناطقها في أبو حمام والكشكية وغيرهما.
ويرى الباحث براء صبري، أنه لا يمكن الركون إلى تقسيم عشائري بحت في الصدامات هناك؛ “إذ لا توجد عشائر صافية في الصراع السوري؛ كل العشائر مشتتة الولاءات، ويوجد قادة وأعضاء من العشيرة نفسها مع كل طرف من أطراف الصراع السوري”.
ومعلوم أنّ عشائر دير الزور ذات امتداد تاريخي مع العشائر العربية في عموم سوريا والعراق، وبالرغم من نجاح “قسد” في تشكيل حشد عشائري موال لها، إلا إنه لم يكن بقوة الشخصيات العشائرية المفتاحية التي بقيت بعيدة عنها.
والجدير ذكره أنّ بعض شيوخ العشائر ووجهائها، أصدر بيانا تضامنا مع “قسد” ضد “أبو خولة”، أكد فيه أنّها طالبت “قسد” بمحاسبته.
ويؤكد الناشط أحمد الحمد من عشيرة “الشعيطات”، في حديث إلى “المجلة”، أنّ “هناك مآخذ لدى كثيرين على أبو خولة، لكنّ طريقة إلقاء القبض عليه أجّج مشاعر الأهالي، إذ دعي إلى اجتماع، ثمّ تبين أنه استُدرج وتعرض لضغوط لتقديم استقالته، وتسليم قيادة المجلس إلى قيادات تحددها قسد”.
أما اصطفاف العشائر، وبخاصة “البكير”، ضد “قسد”، بالرغم من اعتراضها على سلوكيات الخبيل، فهي تعود لثلاثة أسباب مترابطة، أولاها انحدار “أبو خولة” من “البكير”، بل ويُعتبر “أميرهم”؛ وثانيها أنّ غالبية مناطق سيطرة المجلس العسكري تقع ضمن جغرافيا “البكير”؛ وثالثها أن تلك القبائل، وبخاصة “البكير”، كانت تحظى بموقع سياسي وإقتصادي مهمّ في المنطقة، بسبب تولّي أبنائها المناصب العليا في المجلس.
أما بقيّة القبائل والعشائر، فدعمت “البكير” لتوجسها من اتجاه “قسد” و”الإدارة الذاتية” للقضاء على المجلس العسكري الذي نجح، وفق تلك العشائر، في حمايتها من “هيمنة قسد”.
صراع كردي- عربي؟
وفي جانب آخر من الصراع، نشر ناشطون تابعون لـ “مجلس دير الزور العسكري”، وشخصيات قريبة من “أبو خولة”، مقاطع فيديو على شبكات التواصل الإجتماعي، يدعون فيها لاعتبار ما يحصل صراعا كرديا – عربيا، ويطالبون أبناء العشائر العربية بـ “الفزغة ضدّ ظلم قسد، وسيطرة الكُرد على دير الزور العربية”.
تلك الدعوات قوبلت بثلاثة ردود أفعال، أولاها تلك الرافضة لها جملة وتفصيلا، وفي السياق صدرت بيانات عن “المجلس الكردي”، تتهم جهات محسوبة على الحكومة السورية ببث الفتنة بين العرب والكُرد، بينما قال مثقفون عرب في محافظة الحسكة ومناطقها، في بيان، إن “الاشتباكات الأخيرة ليس لها أي بعد إثني أو عرقي”.
في المقابل يشير الصحافي مدين عليان، إلى أن “معظم مقاتلي قسد، الذين يقاتلون أبناء العشائر، هم من أبناء دير الزور والحسكة والرقة، وليسوا عناصر كردية”. ويضيف، “إن تأخر الحل سيضع قيادات العشائر في حرج أمام أبنائها، بخاصة أن المناطق الغنية بالموارد، لا تزال تحت سيطرة قسد”.
من جهته، يتساءل الناشط أمين أمين، من الريف الشرقي لدير الزور، في حديث إلى “المجلة”، ما إذا كانت إقالة “أبو خولة” أضرت بمصالح كثيرين في المنطقة، وخصوصا لجهة الإفادة من ريع الثروات النفطية؟ ويقول، “ربما تعود العشائر لولائها للحكومة السورية، بعد علاقتها الطويلة مع قسد”.
أما عليان، فيشير إلى أنّ “اجتماعا حصل بين قيادات من الحرس الثوري الإيراني وممثلين عن مسلّحي العشائر العربية، عرض خلاله الجانب الإيراني تقديم الأسلحة والذخائر للعشائر، فضلاً عن وضع سيارات إسعاف على الضفة المقابلة للنهر لإسعاف المصابين من أبناء العشائر، وإذا لزم الأمر، نقلهم إلى مستشفيات دمشق”؛ مع العلم أن المنطقة الحدودية مع العراق تشهد توترا إيرانيا أميركيا، في ظل الأنباء عن سعي أميركي لإقفال الحدود السورية – العراقية أمام تدفق الأسلحة الإيرانية إلى سوريا ولبنان.
ماذا عن موقف واشنطن؟
وكان “التحالف الدولي ضدّ داعش” أصدر بيانا، عقب اندلاع المواجهات بين المجلس و”قسد”، أكد فيه استمراره في دعم حلفائه ضدّ “داعش”، مشيرا إلى أن عدم الاستقرار في المنطقة يزيد من خطر عودة “داعش”، كما دعا الجميع إلى إنهاء العنف.
بدورها اكتفت وزارة الخارجية الأميركية، بالإعراب عن قلقها العميق إزاء أعمال العنف الدائرة في دير الزور، مشددة على أولوية هزيمة “داعش”، من خلال الشراكة مع “قوات سوريا الديمقراطية”.
البيانان واضحان لجهة تأكيدهما أن اهتمام التحالف وواشنطن محصور في هزيمة “داعش”. ورجّح ناشطون أن عدم تضمين البيانين دعما واضحا لـ “قسد” ضد مقاتلي العشائر، ينطوي على تأنيب لها، لإعلانها عدم نيتها المشاركة في أي حرب تشنّها قوات التحالف ضد الميليشيات الإيرانية في المنطقة.
ويرى براء صبري أن “تعامل واشنطن بهدوء مع الأحداث يثير الريبة؛ فهل تعتقد واشنطن أن الموضوع خارج أهدافها في سوريا؟”، ويضيف، “شريك واشنطن في محاربة الإرهاب بسوريا يتعرض حالياً للخطر، وهي تتفرج. لكن ربما ترى واشنطن أن الأحداث غير خطيرة، وأن قسد قادرة على احتوائها، ولذلك بقيت على الحياد. بيد أن هذا الحياد يزيد عدم الثقة بين قواعد قسد وواشنطن”.
ثمة احتمال آخر لموقف واشنطن من الصراع، إذ يرى مراقبون أن واشنطن ربما سمحت بحصول التمرد ضدّ “قسد” لإخضاعها على نحو تام، أو لفتح الطريق أمام صعود تشكيل مسلح مواز لها، يكون استخدامه متاحا أميركيا، “في حال خرجت قسد عن بيت الطاعة”.
بيد أنّ السفارة الأميركية في دمشق أعلنت، الأحد، عن لقاء في شمال شرقي سوريا جمع نائب مساعد وزير الخارجية في مكتب شؤون الشرق الأدنى المعني بملف سوريا إيثان غولدريتش، وقائد “التحالف الدولي ضد داعش” اللواء جول فاول، بـ “قوات سوريا الديموقراطية” ووجهاء عشائر من محافظة دير الزور.
واتفق المجتمعون على “ضرورة معالجة شكاوى سكان دير الزور”، والتأكيد على “مخاطر تدخل جهات خارجية في المحافظة، والحاجة لتفادي سقوط قتلى وضحايا مدنيين، وضرورة خفض العنف في أقرب وقت ممكن”.
كما شدد غولدريتش وفاول، وفق ما أعلنت السفارة على منصة “إكس”، على “أهمية الشراكة القوية بين الولايات المتحدة وقوات سوريا الديموقراطية في جهود مواجهة تنظيم داعش”.
فهل يتوقف القتال الذي يدور منذ نحو أسبوع بين “قسد” ومقاتلين من العشائر العربية، والذي أسفر عن مقتل 49 مقاتلا من الطرفين و8 مدنيين، وفق “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، أم أن أسباب الصراع لا تزال كامنة، في منطقة تشهد تداخلات جيوسياسة معقدة جداً؟
*صحافي سوري مقيم في القامشلي.
المجلة
————————-
صراع الأدوار: أسباب تصاعد المواجهات بين “قسد” و”المجلس العسكري لدير الزور”/ كرم سعيد*
تواجه التحالفات العشائرية التي سعت مليشيا “قوات سوريا الديمقراطية” الكردية (قسد) إلى تأسيسها خلال المرحلة الماضية تحديات عديدة في الوقت الحالي، على نحو بدا جلياً في اتساع نطاق المواجهات بين “قسد” ومقاتلي ما يسمى بـ”المجلس العسكري لدير الزور”، حتى وصلت إلى الذروة في 31 أغسطس الفائت مع انخراط مزيد من القبائل والعشائر العربية فيها، واستقدام “قسد” قوات لتعزيز مواقعها. وقد بدأت إرهاصات الصراع العنيف بين الطرفين في مناطق ريف دير الزور الشمالي الشرقي، منذ منتصف أغسطس الفائت، بعد رفض “المجلس” المشاركة مع العناصر الكردية في عملية عسكرية ضد قوات النظام السوري في غرب نهر الفرات، وأسفر ذلك في النهاية عن مقتل نحو 30 عنصر من الطرفين.
مؤشرات عديدة :
تزايدت مؤشرات التوتر بين “المجلس العسكري لدير الزور” ومليشيا “قسد” خلال الفترة الأخيرة، ويتمثل أبرزها في:
1- اعتقال قائد “مجلس دير الزور”: قامت قوات “قسد”، في 27 أغسطس الفائت، باعتقال أحمد الخبيل المعروف بـ”أبو خولة الديري” قائد “المجلس العسكري لدير الزور”، بالإضافة إلىمحاصرة قادة “المجلس” في قاعدة عسكرية تابعة لـ”قسد”، على نحو اعتبره “المجلس” محاولة من جانب الأخيرة لإضعافه تمهيداً لتفكيكه في مرحلة لاحقة.
2- تكرار الاشتباكات بين الطرفين: اندلعت خلال الفترة الماضية اشتباكات عنيفة بين مقاتلي قبائل عربية داعمة لـ “المجلس العسكري لدير الزور” ومليشيا “قسد” المدعومة أمريكياً. وفي الوقت الذي تواصل فيه مليشيا “قسد” حملة تمشيط في البلدات التابعة لمناطق ريف دير الزور، شن مسلحون من “المجلس العسكري”، في 29 أغسطس الفائت، هجمات على مواقع عسكرية مختلفة تابعة لها. كما تم استهداف سيارتين للقوات الموالية للأخيرة على أطراف بلدة ضمان في ريف دير الزور الشمالي.
وبالتوازي مع ذلك، هاجم العشرات من عناصر “المجلس” ومسلحي عشيرة “العكيدات” التي ينتمي إليها “أبو خولة”، مقرات “قسد” بمناطق عدة في دير الزور، كما رفض “مجلس شورى عشائر البكير” الحملة الأمنية التي أطلقتها “قسد” في دير الزور، وتعهد بمواصلة القتال ضد “الإدارة الذاتية الكردية”.
3- فرض حظر التجوال في بعض المناطق: بالتزامن مع حملة الاعتقالات في صفوف العشائر، فرضت “قسد” حظر تجوال في مدينة الحسكة وناحيتي الشدادي والهول، كما اتجهت إلى الاستعانة بقوات التحالف الدولي لتعزيز حالة الأمن، ومحاصرة احتجاجات القبائل العربية المناهضة لتحركاتها في مناطق شرق الفرات.
4- انخراط العشائر العربية في الصراع: ارتفعت وتيرة التهديدات والتهديدات المضادة بين “قسد” والعشائر العربية. فقد أصدرت الأخيرة بياناً، في 30 أغسطس الفائت، أمهلت فيه قوات “قسد” 12 ساعة لإخلاء المنطقة التابعة لها في دير الزور، والإفراج عن “أبو خولة”. كما أعلنت العشائر النفير العام ضد كل مكونات “قسد” في إطار ما أطلقت عليه “عملية تطهير كامل لريف دير الزور”.
5- استمرار استهداف حقول النفط: في تطور جديد للمواجهات بين “قسد” و”المجلس العسكري لدير الزور”، استهدف مسلحون تابعون للأخير، بقذائف صاروخية، أحد آبار النفط الواقعة قرب حقل “كونيكو” للغاز الذي توجد فيه قاعدة لقوات “التحالف الدولي” في ريف دير الزور الشمالي. وأدى الهجوم، الذي وقع في 30 أغسطس الفائت، إلى اشتعال النيران في الحقل النفطي، وهو ما أثار استياء “قسد” التي يمثل النفط المورد الأهم بالنسبة لها، فضلاً عن أنه سيتم توظيفه كسلاح استراتيجي في أي مفاوضات محتملة مع القوى الخارجية المنخرطة في الأزمة السورية أو مع النظام السوري.
دوافع مختلفة :
يمكن تفسير تطور المواجهات العسكرية بين “المجلس العسكري لدير الزور” وقوات “قسد” في ضوء اعتبارات عديدة هى:
1- تصاعد المخاوف من تهميش العشائر العربية: تنامت خلال الفترة الأخيرة مخاوف العشائر والمكونات العربية في دير الزور من مساعي “قسد” لتهميش حضورها بشأن إدارة مناطقها. وقد اندلعت على إثر ذلك اشتباكات بين عناصر “المجلس العسكري” وما تسمى الشرطة العسكرية لمليشيا “قسد” في 25 يوليو الماضي.
وفي سياق متصل، فإن اعتقال قادة عسكريين من العشائر أثار حفيظة المكون العربي، وهو الأمر الذي وفّر بيئة خصبة لزيادة وتيرة التصعيد، ولا سيّما في ظل انخراط العشائر العربية في أرياف حلب وحماة وحمص في معارك مع قوات “قسد”.
2- استمرار تبني سياسات التمييز: ترتبط المواجهات، وفقاً لتقارير عديدة، برفض أهالي دير الزور السياسات التمييزية التي تمارسها الإدارة الذاتية الكردية التي تسيطر على دير الزور ذات الغالبية العربية.
وبحسب مراقبين وتقديرات محلية، فإن تصاعد حدة الاضطرابات الأمنية واستمرار ظاهرة اغتيال القادة العسكريين والوجهاء أثار أيضاً حالة من الاعتراض لدى المواطنين، توازت مع تفاقم الأزمة المعيشية في تلك المناطق على نحو وفر مناخاً مواتياً لتصاعد تلك المواجهات.
3- منع انتقال عدوى الاحتجاجات: لا تنفصل المواجهات بين “قسد” والعشائر العربية في دير الزور عن التطورات المحلية في الداخل السوري، وتصاعد الاحتجاجات التي تشهدها مدن جنوب سوريا، وخاصة درعا والسويداء والقنيطرة، بالإضافة إلى عدد من المدن الساحلية في اللاذقية وجبلة، فضلاً عن تصاعد الاحتجاجات في بعض مناطق مدينة حلب والعاصمة دمشق للمطالبة بتحسين الأوضاع الاقتصادية والمعيشية.
وفي هذا السياق، وفي ضوء التدهور الملحوظ في الأوضاع المعيشية في دير الزور التي تهيمن عليها قوات “قسد”، بالإضافة إلى حالة الانسداد السياسي بين الجماعات المحلية في هذه المناطق والإدارة الذاتية الكردية، فإن ثمة مخاوف لدى الأخيرة من انتقال عدوى الاحتجاجات إلى هذه المناطق، وهو ما قد يزيد من أعباءها، ويدخلها في نفق مظلم، خاصة أن مناطق دير الزور شهدت في الآونة الأخيرة احتجاجات متقطعة، وهو ما دفع “قسد” لمطالبة العشائر العربية بفض الاحتجاجات الداعمة لـ”المجلس العسكري لدير الزور”، بل وطالبت بمنح مقاتليه “إجازة إجبارية” لحين دعوتهم للخدمة مرة أخرى.
4- كبح نفوذ قادة “المجلس العسكري”: تعود المواجهات العسكرية بين “قسد” و”المجلس العسكري”، في قسم منها، إلى محاولة الأولى تقليص نفوذ الأخير، خاصة بعد محاولاته تعزيز قدراته العسكرية وتوسيع نطاق القاعدة الشعبية المؤيدة له، على نحو اعتبرت “قسد” أنه سوف يخصم من نفوذها ومن المكاسب التي حققتها في إطار الحرب ضد تنظيم “داعش”.
توتر مستمر :
ختاماً، يمكن القول إنه من المرجح استمرار حالة التوتر بين الجانبين في محاولة لفرض كل منهما نفوذه في دير الزور، بما يعزز استمرار عدم الثقة بينهما، إلا أنه من المستبعد أن تستمر المواجهات العسكرية طويلاً، نظراً لمحدودية القدرات العسكرية لـ”المجلس العسكري لدير الزور”، وضعف مهارات عناصره القتالية، وذلك خلافاً لقوات “قسد”التي اكتسبت خبرات قتالية بسبب المواجهات مع تنظيم “داعش”، فضلاً عن تلقيها دعماً عسكرياً واستخبارياً من قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية التي اعتبرت أنها طرف أساسي في الحرب ضد التنظيم.
3 أيلول 2023 ( الحائط العربي ) –
————————-
ماذا يجري في دير الزور؟/ عبدالناصر العايد
ثمّة مقتلة حقيقة تدور رحاها في أرياف دير الزور، الخاضعة لسيطرة قوات التحالف الدولي وقوات سوريا الديموقراطية، ذهب ضحيتها حتى الآن العشرات من المدنيين والعسكريين. لكن ظلالاً كثيرة وتعتيماً مقصوداً يلقى على دماء الأبرياء المسفوكة، لسبب بسيط هو أن المعركة ذات طبيعة استخباراتية بامتياز، تختلط فيها الأمور وتختفي أبعاد، وتتضخم أبعاد، وتغيب اللعبة الحقيقية وراء جيش من الدعاية المصنّعة بعناية.
ماذا حدث؟
في مطلع الصيف الحالي، نشرت وسائل إعلام أميركية، نقلاً عن مصادر استخباراتية أميركية، معلومات عن مشروع لإخراج القوات الأميركية من شرق سوريا، تعمل عليه كل من إيران ونظام الأسد وروسيا. وبُعيد ذلك، بدأت تتصاعد المؤشرات الملموسة، من الاحتكاك المباشر بين الطيران الحربي الروسي والأميركي في سماء سوريا، إلى تحركات واسعة للمليشيات الإيرانية في شرق الفرات، إلى استنفار القوات الأميركية في عموم المنطقة وزيادة احتياطها من الأسلحة والمقاتلين.
في شرق الفرات تحديداً، وعلى حين غرّة، تم جلب أفواج تتبع لـ”قسد” من مناطق متعددة لتتمركز في ريف دير الزور، في محيط القاعدتين الأميركيتين في حقل العمر النفطي ومعمل كونيكو والشريط النهري الذي يضم معابر نهرية تصل بين مناطق سيطرة “قسد” ومناطق سيطرة المليشيات الإيرانية وقوات النظام. واندلعت على اثر ذلك، احتجاجات وأعمال عنف بسبب ما قيل انه انتزاع للصلاحيات من مجلس دير الزور العسكري المكون من العشائر المحلية، وتُوّج ذلك بإذاعة قائد المجلس احمد الخبيل، منشورات صوتية أعلن فيها ما يشبه التمرد على قوات سوريا الديموقراطية التي ينضوي مجلسه تنظيمياً تحتها.
عند هذا الحد، هدأت الأحداث ظاهرياً، وشاعت روايتان متناقضان. الأولى تقول إن “قسد”، بضغط من التحالف الدولي، تفاهمت مع الخبيل وتمت تسوية الأمور بينهما. فيما قالت الأخرى أن قيادة “قسد” قدمت للتحالف الدولي أدلة قاطعة على ضلوع الخبيل ومجلسه العسكري مع النظام والمليشيات الإيرانية في مخطط للانتفاض على “قسد” وقوات التحالف معاً، وبالتالي فإن أمر حلّ مجلس دير الزور العسكري بات مسألة وقت ولا مفرّ منه.
ما الذي يحدث الآن؟
مساء يوم 28 آب الجاري، أعلنت “قسد” استنفار قواتها في الحسكة ودير الزور، وبثت خبراً غير رسمي عن هروب عناصر من تنظيم داعش من سجن غويران. وبعد مضي أقل من ساعة، تبين أن الخبر الوهمي كان للتغطية على تحرك لقوات “قسد” وإلقاء القبض على أحمد الخبيل واثنين من قادة المجلس البارزين عند ذهابهم إلى مدينة الحسكة للقاء قيادة قوات سوريا الديموقراطية، فيما ألقت قوات التحالف الدولي في حقل العمر القبض على قائد ثالث من ذلك المجلس. وتصاعدت الاحتجاجات من أقارب الخبيل أولاً، ثم توسعت الدائرة بسرعة كبيرة، وتم الإبلاغ عن عشرات الهجمات التي تنسب لـ”مقاتلي العشائر ومجلس دير الزور العسكري”، ولم يظهر أي شخص معروف أو قائد عسكري يتبنى هذا الحراك، أو يقود مطالبه.
وانجرف الصراع بسرعة إلى قتال من أجل طرد “الأكراد” من دير الزور، وهنا أيضاً ظهر نوعان من التفسيرات لما يجري. الأول يقول أن أبناء العشائر العربية قد نفذ صبرهم من الهيمنة الكردية، وأنهم يرون في حلّ المجلس العسكري خطوة أخيرة للإطباق عليهم، وقد خرجوا لكسر الطوق الأخير الذي يريد الأكراد فرضه على رقابهم. والمقولة الثانية تشير إلى مجموعات من المقاتلين وكميات من الأسلحة التي ضخت إلى المنطقة من مناطق سيطرة المليشيات الإيرانية المتهمة بأنها هي من تحرك اللعبة بكاملها، بما فيها تسليم ما قيل أنها أدلة على تورط المجلس العسكري وقيادته في التعاون معها، ونحن نرجح كلا التفسيرين ومجموعهما.
ما السيناريوهات المحتملة؟
لا يمكن الإنكار أن الحرس الثوري يضع نصب عينيه هدف السيطرة على مناطق شرق الفرات. وإذا صحت الشائعات المتداولة، فأنه قد وضع قدمه في تلك المنطقة فعلياً مستغلاً الفوضى التي اصطنعها بنفسه. لكننا نعتقد بأن المسؤول الأول عما جرى، وخاصة سفك الدماء، هو قوات سوريا الديموقراطية، ليس بمعنى أنها حاولت استغلال الظروف لإحكام هيمنتها على المنطقة، بل لأنها على تعاون وثيق مع المليشيات الإيرانية على أساس حسابات استراتيجية تتعدى منطقة دير الزور. ولدينا على هذا الصعيد دليلان بارزان. الأول، هو إعلانها بشكل رسمي بأنها لن تحارب إيران في سوريا، والثاني الضربة التركية لاجتماع ضم قادة من قسد وقادة المليشيات الإيرانية في مدينة نبل شمالي حلب، قبل أسبوع واحد فقط من تفجر الاشتباكات. ويمكن التفكير ببساطة بصفقة ما بين قيادة حزب “ب.ك.ك” وإيران في ملف ما، يتم من خلاله مساعدة الحرس الثوري في السيطرة على الضفة الشرقية لنهر الفرات مقابل مكسب محدد، لا سيما أن تلك الضفة مصدر صداع وقلق دائم لقادة قسد من الأكراد.
وما نتوقعه خلال الأيام والساعات المقبلة هو مزيد من العمليات العسكرية في المنطقة، وقد نشهد الإعلان عن سيطرة قوات النظام والمليشيات على مناطق معينة، وبدء الضغط العسكري على القواعد الأميركية لإجبارها على الانسحاب. وفيما تدور دوائر هذه الالعاب بين القوى الكبرى، يستمر نزيف المنطقة وسكانها الذين سحقتهم الحروب العديدة، وكانوا على الدوام وقودها الرخيص.
المدن
————————–
معركة قريبة ومؤكدة…بين إيران وأميركا في شرق سوريا/ عبدالناصر العايد
ما عادت سرّاً الاستعدادات الإيرانية لشن هجوم على القوات الأميركية، فالسكان المحليون بدأوا بالنزوح من قرى وبلدات عديدة على خلفية مشاهدتهم حشد المقاتلين والأسلحة من الطرفين، والحديث يدور حول زج مقاتلين من المليشيات الإيرانية في محورَين: الأول في البلدات على ضفة نهر الفرات الغربية مقابل حقل العمر النفطي ومعمل غاز كونيكو على الضفة الأخرى، حيث تتمركز القوات الأميركية. والثاني هو محور البلدات في شرق الفرات، والتي تسيطر عليها إيران، بدءاً من بلدة حطلة، مروراً بمراط، ووصولاً إلى خشام القريبة جداً من معمل كونيكو.
ومن الواضح أن الخطة الإيرانية هي شن هجوم صاروخي ومدفعي بعيد من وراء النهر، فيما تحاول قواتها التقدم على الأرض، على امتداد الضفة الأخرى من النهر. وفي المقابل، لم تتوقف القوات الأميركية عن دفع المزيد من العتاد والمقاتلين في المنطقة، أما طيرانها فلا يفارق الأجواء لحظة واحدة منذ ما لا يقل عن أسبوعين.
إن التحشيد المتبادل وفوضى المشهد، يجعلان من الصعب معرفة مَن الذي يستعد للهجوم على الآخر، لكن السياق الجيوسياسي، ونوعية التحركات، يؤكدان أن المبادرة إيرانية، فيما يقبع الأميركيون في موقع ردّ الفعل. فالحرس الثوري يهيئ الميدان منذ سنوات لهذه المعركة التي ستسيطر من خلالها إيران على ضفتي نهر الفرات لإنهاء اختناق الطريق البري الى المتوسط في هذه المنطقة المناوئة لها بشدة.
كما ترغب طهران في إيصال رسالة واستعراض قوتها في الشرق الأوسط، من خلال تحدي ومنازلة القوات الأميركية، وهو ما سيكبدها خسائر بشرية كبيرة على نحو محقق، إلا أنها لن تكون هزيمة المشروع الامبراطوري بل سيتم تعزيزه ولفت النظر إلى عمقه واتساعه، خصوصاً فيما إذا توسعت المواجهة لتشمل مناطق أخرى من التي تسيطر عليها ايران أو تمتلك نفوذاً فيها، وهي تمتد من خليج عدن إلى الخليج العربي والعراق وسوريا ولبنان. وخسارتها لبضعة مئات من المقاتلين في شرق سوريا، أو حتى الآلاف، لن يكون ذا أهمية في مقابل المكاسب السياسية التي ستحصدها، لا سيما أن هؤلاء في غالبيتهم العظمى ليسوا مواطنين إيرانيين، بل قوة متعددة الجنسيات تضم الأفغان والباكستانيين والعراقيين واللبنانيين والسوريين وغيرهم.
أما عن موقف وأدوار القوى الأخرى الموجودة في المنطقة، فهي أيضاً متأثرة بالمبادرة الإيرانية، وليست قائمة على مشروع أو توجّه مدروس. فقوات نظام الأسد مثلاً، تحاول مجاراة الحرس الثوري، وأن يكون لها دور في معركة “التحرير” هذه، وقد أدت محاولاتها المتخبطة لحجز مكان، إلى مزاحمة الحرس الثوري الإيراني والمواجهة معه، إلى درجة إشهار السلاح على بعضهما البعض مطلع هذا الأسبوع في بلدة مراط عندما حاولت المليشيات الإيرانية انتزاع موقع متقدم من قوات النظام لتتمركز فيه. فيما يحاول الجانب الروسي، الضعيف والخائف من الاستهداف الأميركي، الحفاظ على مواقعه، خصوصاً بعد تفكيك قوات “فاغنر” في المنطقة.
وتبدو قوات سوريا الديموقراطية، مرتبكة، إذ تنقسم قيادتها إلى تيارين، أحدهما يرفض المواجهة مع إيران، وربما لديه مشروع للتفاهم معها في حال أصبحت القوة المهيمنة في المنطقة، وتيار يستمع للتعليمات الأميركية ويحاول أن يحافظ على تحالفه معها.
أما السكان المحليون من القبائل العربية، فيبدو أن المليشيات الإيرانية حققت اختراقًا كبيراً في صفوفهم، سواء في شرق الفرات أو غربه، حيث ستدفع بقوة عشائرية إلى مقدمة الهجوم لنِسبته إلى هذه القبائل والتنصل من تبعاته الأولية. بينما ستعمد خلاياها النائمة، والتي يبدو أنها أصبحت كثيرة جداً، إلى ضرب الأميركيين من الخلف وفي العمق، وربما تستخدم خلايا “داعش” المتبقية في هجمات من هذا النوع. وهذا الموقف السلبي من جهة العشائر نحو الأميركيين هو ناتج سياستهم التي تعاملوا بها مع السكان المحليين العرب، والذين هُمّشوا بشدة لصالح العناصر الكردية.
من جوانبها العسكرية تبدو ملامح العملية الإيرانية المرتقبة شبيهة بمعركة خشام في شباط 2018، عندما حاول مرتزقة “فاغنر” احتلال حقل كونيكو، وقد يكون الرد الأميركي شبيهاً بما حدث في تلك السنة عندما أباد القوات المهاجمة. لكن النتائج الاستراتيجية ستكون مختلفة هذه المرة، فالجانب الإيراني هنا يركز على احتلال أراض وايقاع خسائر بشرية في صفوف القوات الأميركية، وإحداث ضجيج دولي عبر استنفار مليشياتها في كامل إقليم الشرق الأوسط. وهدف العملية هو عرض عضلات استراتيجي، لإرهاب الأطراف الأقل قوة من الولايات المتحدة وإسرائيل، وتعزيز صورة إيران كمنتصر إقليمي في نهاية هذا الشوط من الصراع الذي امتد من لحظة سقوط بغداد العام 2003 إلى يومنا هذا.
المدن
————————–
==================================