الإمارات: الدولة غير المنبوذة/ حسام عثمان محجوب
منذ سقوط الدكتاتور عمر البشير في نيسان (أبريل) 2019، بدأ استخدام مصطلحي «المحور» و«الكفيل» من قبل غالبية القوى السياسية السودانية، للحديث عن تدخلات دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية في الشأن السوداني. حيث تتيح اللفظتان لهذه القوى اللعب في المساحة الآمنة (المُتوهَّمة)، بين رفض الشعب السوداني لدور الدولتين المضاد لمطالب الثورة في الديمقراطية والحرية والعدالة والتنمية والسيادة، وبين تجنُّب إثارة حفيظة الدولتين رغبةً أو رهبةً أو واقعيةً سياسية.
ذلك بينما لا تتقيد تلك القوى السياسية السودانية بالمحاذير نفسها حين تتطرق للأدوار السالبة لدولٍ أخرى في الإقليم، إما لأنها معروفةٌ بحكم التاريخ والجغرافيا (كمصر وأثيوبيا)، أو لأنها معروفةٌ بمناصرتها لتنظيمات الإسلام السياسي بما فيها أنصار النظام البائد في السودان (كقطر وتركيا وإيران).
إلا أن النفوذ المُتعاظم للإمارات والسعودية في المنطقة، والسودان خصوصاً، منذ سنواتٍ، يقدح في موضوعية أي تحليلٍ للشأن السوداني لا يتطرق لدورهما بعمق. ولا يمكن فهم الحرب التي اندلعت في 15 نيسان (أبريل) الماضي بشكلٍ وافٍ، أو العمل على إيقافها بجديةٍ، دون محاولة قراءة مواقفهما وأفعالهما، لا سيّما أن الإمارات هي الداعم الأول لقوات الدعم السريع، ويبدو أنه لولا دعمها المباشر لهذه المليشيا لما تمكَّنت من خوض هذه المعارك، والاستمرار فيها بكل هذا القدر من التخريب والدمار.
هنالك شبه إجماعٍ في المنطقة أن استراتيجية الإمارات والسعودية تقوم على الهيمنة الاقتصادية على المنطقة (بشكلٍ فضفاضٍ الشرق الأوسط وشمال أفريقيا)، وبسط النفوذ السياسي، والقضاء على خطر حركات الإسلام السياسي المرتبطة بصورة أو أخرى بجماعة الإخوان المسلمين، ومواجهة الخطر الإيراني.1 ولكن النظر المُتعمِّقَ يشي بأن خوفهما من قيام أي نظامٍ ديمقراطيٍ في المنطقة يسبق أي اعتباراتٍ أخرى.
إن نوع ومقدار استجابتهما لهذا الخطر ليسا دائماً متماثلين. فرغم التشابه الكبير – لدرجة التطابق أحياناً – بين الدولتين في علاقاتهما بجوارهما الإقليمي، هناك الكثير من الفروق بينهما في الأولويات والأهداف والوسائل، كما تُبيّنُ تغيّرات مواقفهما من السودان منذ اندلاع ثورة ديسمبر (كانون الأول).
هذا المقال يُسلِّطُ الضوء على الدور الإماراتي في الحرب المستعرة في السودان، ويبدأ أولاً باستعراض تاريخ رَجُلي المنطقة القويين، رئيس الإمارات الشيخ محمد بن زايد آل نهيان (MBZ)، وولي عهد السعودية الأمير محمد بن سلمان آل سعود (MBS)، ودورهما في ثورات الربيع العربي. ويمكن قراءته بترتيب مختلف يبدأ من دورهما في الحرب السودانية (الأقسام من 7 إلى 14)، ثم سياق المنطقة الأكبر (الأقسام من 1 إلى 6).
1- الربيع العربي؛ خطرٌ واحدٌ، استجاباتٌ متعددةٌ
فاجأت تظاهرات «الربيع العربي»، التي بدأت في تونس ثم انتقلت إلى مصر واليمن والبحرين وليبيا وسوريا، دول الخليج وعلى رأسها السعودية والإمارات وقطر. لوحظ ذلك في الارتباك الذي وسمَ تَعامُلَ وسائل الإعلام المُعبِّرة عن سياسات هذه الحكومات مع التظاهرات/الانتفاضات /الثورات، ورضوخها في البداية للغة الشارع العربي المتعاطِف في غالبه معها، بعكس نهج السياسات الخارجية المحافظة لهذه الدول، باستثناء قطر التي تبنت قناتُها الجزيرة هذه الثورات بصورةٍ صارخةٍ، منحازة لوجهة نظر تيار الإسلام السياسي العريض.
رأت السعودية والإمارات في هذه الهبّات الجماهيرية تهديداً وجودياً لنظامي الحكم الملكيين شديدي المحافظة فيهما، والقائمين على أسسٍ عشائريةٍ وقبليةٍ، وعلى قمعٍ للحريات وغياب العدالة والمساواة، والتمييز بين المواطنين، وعلى حماية عسكرية من الولايات المتحدة الأميركية في المقام الأول.
بعد هروب زين العابدين بن علي وتنحي حسني مبارك، امتدت ألسنة لهب الربيع العربي قريباً من أبواب السعودية والإمارات في البحرين في تظاهرات 14 فبراير (شباط) 2011، التي قابلتها السلطات بقوةٍ قُتِلَ على إثرها عددٌ من المتظاهرين السلميين في دوار اللؤلؤة في 17 فبراير دون أن تتوقف التظاهرات، حتى تدخّلت قواتٌ عسكريةٌ وشرطيةٌ سعوديةٌ وإماراتيةٌ عبر جسر الملك فهد الذي يصل جزيرة البحرين بالساحل الشرقي للسعودية لتقمعَ الاحتجاجات، وتستعيد «النظام» وسيطرة ملك البحرين، سُنّي المذهب، على الجماهير الثائرة ذات الغالبية الشيعية.
بين كانون الثاني (يناير) وآذار (مارس) من العام نفسه، اندلعت مظاهراتٌ محدودةٌ في عددٍ من مدن سلطنة عمان المجاورة، إلا أنها لم تأخذ الزخم الذي شهدته دول الربيع العربي الأخرى، كما أن سلطان عمان استجاب بإجراء تعديلٍ حكوميٍ واسع، والتزمت دول مجلس التعاون الخليجي بتقديم مساعدات مادية للسلطنة لمجابهة الوضع الاقتصادي الذي كان سبباً رئيساً للاحتجاجات.
التعاملُ مع مصر واليمن وليبيا وسوريا وتونس كان مختلفاً لاعتباراتٍ جيوستراتيجية وسياسية متعددة، إلا أن الدور الحاسم كان للتغيرات في رأسي بيت آل سعود وبيت آل نهيان العليلين في هرمهما والمزدحمَين بالمتنافسين (طاعني العمر في السعودية، والشباب في الإمارات)، وصعود MBZ وMBS إلى السلطة والمسرحين الإقليمي والعالمي.
2- إم بي زد وإم بي إس؛ لعبة العروش
توفي الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان مؤسس دولة الإمارات في تشرين الثاني (نوفمبر) 2004 عن 86 عاماً، وخلفه ولي عهده ونجله الأكبر الشيخ خليفة الذي كان عدم اهتمامه بشؤون الحكم المباشرة معروفاً بشكلٍ واسعٍ، مما أتاح للابن الثالث لزايد، الشيخ محمد، أن يصبح الرجل القوي في الإمارات منذ أوائل القرن. ثم صار مقبولاً عالمياً كحاكمٍ فعليٍ مع تدهور صحة أخيه خليفة.
في السنوات التالية واصل MBZ العمل بهمةٍ على تعضيد موقعه في قمة السلطة في الإمارات، على حساب منافسيه المحتملين من إخوانه وعلى رأسهم الشيخ هزاع بن زايد رئيس جهاز الأمن، وتعزيز موقع ابنه خالد لافتراعِ خط وراثةٍ جديدٍ للسلطة في إمارة أبوظبي (ومن ثم الإمارات) على حساب الأعمام الأقوياء. وقد تحقَّقَ ذلك بإبعاد هزاع من أعلى مناصب الأمن الوطني عام 2016 وإبداله بشقيقه الشيخ طحنون، ثم ترقية الشيخ خالد بن محمد بن زايد ليصبح نائباً لطحنون في 2017، حتى تم تعيينه ولياً للعهد في 2023 ناقلاً خط السلطة عملياً من أبناء الشيخ زايد الكثيرين لأبناء MBZ.
في الشقيقة الكبرى، المملكة العربية السعودية، كان الأمير محمد بن سلمان واحداً من مئات أفراد الجيل الثالث للعائلة السعودية الحاكمة، التي أسس الملك عبدالعزيز آل سعود دولتها الثالثة في 1932. لم يكن هناك شيءٌ يميز هذا الأمير الشاب عن عشراتٍ من إخوانه وأبناء عمومته الأمراء. ولكن حين توفي الأمير نايف بن عبدالعزيز ولي العهد الثاني لأخيه الملك عبدالله في حزيران (يونيو) 2012 (بعد أخيهما الأمير سلطان ولي العهد الأول الذي توفي في تشرين الأول (أكتوبر) 2011 أصبح الأمير الهَرِم سلمان بن عبدالعزيز ولياً للعهد للملك عبدالله، الذي كان طاعناً في السن وبدأ في الانسحاب من تسيير أمور المملكة اليومية. وبدأ الأمير ذو الـ 26 سنة حينها يقترب أكثر من قوائم عرش المملكة، رغم أنه الابن السادس بين اثني عشر ابناً للأمير سلمان، ولكنه الأقرب لوالده (أمير الرياض منذ منتصف القرن الماضي) في مناصبه السياسية.
رغم تعيين الأمير مقرن بن عبد العزيز في المنصب المُستحدَث، ولي ولي العهد، في آذار (مارس) 2014 رغبةً من الملك عبدالله في إضفاء بعض الاستقرار والثقة في عملية انتقال السلطة بعد وفاة سلطان ونايف، إلا أنها لم تحدث بتلك السلاسة المرجوة بعد وفاة الملك عبدالله في كانون الثاني (يناير) 2015. اعتلى الملك سلمان العرش كما هو مخططٌ، وخلفه ابنه MBS وزيراً للدفاع، وتولى الأمير مقرن ولاية العهد لفترةٍ قصيرة، قبل أن يتم إعفاؤه «بناءاً على طلبه» في نيسان (أبريل) 2015.
تم رسمياً تجاوز الجيل الثاني ومعظم الجيل الثالث من أمراء آل سعود، وتعيين ولي العهد الجديد الأمير محمد بن نايف الرجل، القوي المقرب من الولايات المتحدة (بسبب مسؤوليته عن ملفات مكافحة الإرهاب)، والذي يتميز بصفةٍ شخصيةٍ أخرى مهمة في لعبة العروش وهي أنه ليس له أبناءٌ ذكورٌ يمكن أن يطمح لتوريثهم بعده، وتعيين MBS ولياً لولي العهد.
بدأ عمقُ العلاقة بين MBZ وMBS (التي فُهَِمت على نطاقٍ واسعٍ بأنها علاقة إرشاد) بالظهور على السطح مع قرار MBS بدء عاصفة الحزم؛ حرب التحالف العربي بقيادة السعودية (والإمارات) ضد الحوثيين في اليمن في آذار (مارس) 2015. وحرب اليمن كانت إحدى أهم المحطات في تاريخ قوات الدعم السريع السودانية، التاريخ الذي تُوِّجَ باندلاع الحرب الحالية.
واصلَ الأمير الشاب MBS توطيد سلطته بتوليه هو، وبعض أشقائه والمقربين منه، ملفات مهمة في المملكة بصورةٍ مباشرةٍ، كان بعضها مثل قطاع النفط متروكاً بعنايةٍ لتكنوقراطٍ سعوديين خارج أيادي وصراعات الأسرة المالكة. واتجهت المملكة كالإمارات لتنويع مصادر سلاحها، وتقوية علاقاتها العسكرية والسياسية والاقتصادية مع حلفاءٍ استراتيجيين غير الولايات المتحدة وبريطانيا، مثل فرنسا وروسيا والصين وكوريا الجنوبية.
زاد التناغم والتقارب بين المُحمَّدَين في الملفات الإقليمية والدولية مع تزايد نفوذ MBS الداخلي، حتى أسفر التقارب عن أحد أخطر أزمات المنطقة؛ عزل وحصار قطر في حزيران (يونيو) 2017 من قبل السعودية والإمارات والبحرين ومصر، وهي الأزمة التي أربكت أميركا المتحالفة استراتيجياً مع كل هذه الدول. وشكلت الأزمة المشهدَ الأساسي لحياة سكان المنطقة والمصالح الاقتصادية العالمية خلال السنوات التالية.
2.يُنظَر مقال محور الشرّ الثلاثي للكاتب فتحي الضو، المنشور على موقع سودانايل.
وهنا أيضاً تُذكَر قوات الدعم السريع، حيث تسربت معلوماتٌ غير مؤكدةٍ أن السعودية والإمارات وضعتا خططاً لغزو قطر (كما حدث في البحرين)، وأن الدعم السريع كانت ستُشكِّلُ ضلعاً أساسياً في هذه المغامرة العسكرية، مع دور غامض لطه عثمان الحسين2 مدير مكاتب الرئيس عمر البشير السابق ومستشار الحكومة السعودية فيما بعد، في الإعداد لمشاركة هذه القوات.
ثم في الشهر نفسه تم أخيراً «إعفاء» محمد بن نايف وتعيين MBS ولياً للعهد. ولعبَ MBZ دوراً مفصلياً في إحداث هذه التغييرات، بما وصفه محمد بن نايف بإثارة الخلافات داخل الأسرة المالكة والقصر الملكي، وبالترويج لـ MBS في أوساط إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما أواخر عهده، ثم الدور الحاسم في إقناع حليفه الرئيس الأميركي دونالد ترمب بـ MBS عميلاً للتغيير في المنطقة أوائل فترته الرئاسية.3
3- الشقيقة الكبرى سابقاً؛ الربيع المصري
الأهمية الاستراتيجية لمصر كإحدى أكبر دول المنطقة وأكثرها تأثيراً في سياستها وثقافتها، لم تكن لتسمح للإمارات والسعودية بتجاهل التغيير المفاجئ في قمة السلطة، والشعور الطاغي لدى أكبر الشعوب العربية بتحول موازين القوى لصالح هذا الشعب، وامتلاكهم القدرة على التقرير في مصير بلادهم واختيار حكامهم، وممارستهم للديمقراطية الحقيقية، وتمتعهم بالحريات الأساسية، وقدرتهم على السيطرة على الجيش وأجهزة قمع الدولة المصرية العتيدة، لما يمثله ذلك من خطر انتشار هذه المشاعر والقيم لبقية شعوب المنطقة ولشعبي الإمارات والسعودية خصوصاً.
كما لم تكن أهمية مصر لتسمح لهما بتركها تواجه احتمالات التفكك والانهيار أو الفوضى، أو الوقوع فريسةً لحكم جماعة الإخوان المسلمين، رغم وصولهم للسلطة عبر انتخاباتٍ ديمقراطيةٍ، وما يمثله ذلك من خطرٍ إضافيٍّ بتقوية تيارات الإسلام السياسي في المنطقة وفي البلدين تحديداً.
ولمحاصرة مدّ الربيع العربي الديمقراطي تحت قناع محاربة الإسلام السياسي، فقد عملت المملكة والإمارات بتناغمٍ شديدٍ للانقضاض على التجربة الديمقراطية المصرية بالتعاون مع مؤسسات الدولة العميقة في مصر، بدعمهما المباشر لقيادة الجيش المصري، ولترشيح محمد شفيق للرئاسة، ثم دعم عبدالفتاح السيسي وحركة تمرد المعارضة ضد الرئيس محمد مرسي حتى استيلاء السيسي على السلطة، وتوفيرهما غطاءاً سياسياً وإعلامياً لمجزرة ميدان رابعة العدوية التي ارتكبها ضد جماهير غالبيتها من أنصار الإخوان المسلمين، مُدشِّناً عهداً من القمع والرعب ما زال مستمراً منذ 2013.
قَدَّمت الإمارات والسعودية عشرات المليارات من الدولارات كمنح لمصر منذ 2013، وبالذات بعد صعود تحالف MBS وMBZ في 2015. وبالمقابل، تخلّى السيسي عن جزيرتي تيران وصنافير الاستراتيجيتين للسعودية، وفتحَ السوق المصري للاستثمارات والأموال الساخنة الإماراتية والسعودية.
بعد عشر سنوات من الانقلاب تبدو مصر اليوم دولةً دكتاتوريةً قمعيةً خالصة، يسيطر على كل مناحي الحياة فيها الرئيس وقلة من أسرته وأعوانه وكبار القادة العسكريين الفاسدين. ويبدو الاقتصاد منهاراً ومعتمداً على قروض صندوق النقد الدولي بشروطها الصعبة، وعلى هِبات وقروض دول الخليج المتلاشية. ويعيش الملايين تحت قمعٍ واسع النطاق وانتهاكاتٍ للحريات ولحقوق الإنسان، في وجود أكثر من 60 ألف سجينٍ سياسيٍّ.
بين 2015 و2022 ارتفع الدين المصري الخارجي من 40 مليار دولار إلى أكثر من 160 مليار دولار، وتفاقمت مشكلة الدين الداخلي، وتوقفت ماسورة الهِبات والقروض الإماراتية والسعودية، وبدأت الدولتان بالضغط على السيسي للتأثير على سياساته الاقتصادية، وللاستحواذ على أصول الدولة المصرية.
وتراجعَ الدور الإقليمي التاريخي لمصر في المنطقة بصورةٍ واضحةٍ، واتجهت الإمارات للضغط عليها عن طريق دعمها لرئيس الوزراء الأثيوبي آبي أحمد الذي يهدد تنفيذُ بلاده لسد النهضة إمدادات نهر النيل المائية لمصر، وبدعمها لمليشيا الدعم السريع السودانية التي تعتبرها مصر تهديداً بالغ الخطر لأمنها القومي.
4- صيف صحراوي ساخن؛ الربيع الليبي
لم يكن الزعيم الليبي معمر القذافي كأس الشاي المفضل للسعودية والإمارات طوال فترة حكمه. ليبيا لم تكن أبداً بأهمية مصر للدولتين، فهي دولةٌ قليلة في عدد السكان، أبعدُ جغرافياً، ومعرفة شعوب الخليج وتأثرهم بها سياسياً وثقافياً أقل بكثير. ولكنها دولةٌ غنيةٌ بالنفط، وكان للقذافي نفوذٌ واسعٌ في أفريقيا.
حين اندلعت التظاهرات الشعبية في ليبيا في شباط (فبراير) 2011، مُطالبةً بوضع حدٍّ لحكم الدكتاتور المستمرّ منذ 1969، واجهتها السلطات الليبية بعنفٍ بالغٍ أسفر عن قتل الكثير من المدنيين. ولأسبابٍ متعددةٍ – يبدو من السذاجة اعتبار أن الحرص على حياة المواطنين الليبيين يأتي في مقدمتها – تحمَّست دول الناتو لشن هجماتٍ عسكريةٍ على النظام الليبي بدءاً من آذار (مارس) 2011، الأمر الذي أعقبه دخولُ البلاد في فوضى لم تخرج منها حتى اليوم.
لم تستمر العمليات العسكرية بقيادة الناتو كثيراً بعد مقتل القذافي في تشرين الأول (أكتوبر) 2011، وكانت بعض نتائج الحملة كارثيةً على دول التحالف، خصوصاً مقتل السفير الأميركي في بنغازي في أيلول (سبتمبر) 2012. ولكن بوابة التدخل الخارجي انفتحت واسعةً، فبدأت بعض الدول بدعم مليشياتٍ وجماعاتٍ مختلفةٍ بالسلاح أو التمويل أو الدعم السياسي، أو في حالات، مثل مصر والإمارات، بالمشاركة القتالية الفعلية داخل الأراضي الليبية.
اليوم تتقاسم السيطرة على ليبيا مليشيا خليفة حفتر (الذي تم طرحه كسيسي ليبيا منذ 2014) والحكومة المُعترَف بها من الأمم المتحدة، مع حالة سيولةٍ عاليةٍ وانتشارٍ لعددٍ من المليشيات والحركات الأخرى، ليبيّة وأجنبية.
الداعمون الأساسيون لحفتر هم الإمارات وروسيا (وبدرجة أقلّ مصر والسعودية والأردن وفرنسا)، مقابل الدعم القطري والتركي القوي للحكومة بخلفيتها الإسلامية. كما تلعب عدة مليشياتٍ أجنبيةٍ أدواراً متعددةً ومتحولةً في الصراع، من أهمها مليشيا فاغنر الروسية، ومليشيا الدعم السريع السودانية، ومليشيات تابعة لحركاتٍ مسلحةٍ سودانيةٍ من إقليم دارفور.4
الدور الإماراتي مركزي في الدعم السياسي والمالي والعسكري واللوجستي والدبلوماسي لمليشيا حفتر (ومعها مليشيات فاغنر والدعم السريع المُساندة لحفتر)، منذ بداية الحرب الأهلية الليبية الثانية في 2014. خرقت الإمارات مراراً حظر الأسلحة المفروض على ليبيا، وأمدَّت حفتر بأسلحةٍ من روسيا والصين، وهو الدور الذي أجادته الإمارات وتُطبقه حالياً في السودان لصالح الدعم السريع بمساندة مليشيات حفتر وفاغنر قبل وبعد اندلاع حرب 15 نيسان (أبريل) في السودان.
اليوم، تبدو آمال تحقيق السلام والاستقرار في ليبيا بعيدة المنال، ويبدو أن هذا الوضع مناسبٌ للإمارات كدرسٍ للشعب الليبي وشعوب المنطقة في مآلات الحلم بتحقيق تحولٍ ديمقراطي.
5- حيث تفتَّقَ الياسمين؛ الربيع التونسي
لا يمكن إغفال رمزية تونس في ثورات الربيع العربي، باعتبارها أولها وأسرعها وأكثرها سلميةً ونجاحاً في تحقيق تحولٍ ديمقراطيٍّ استمر سنواتٍ أطول من تجارب غيرها. ورغم بُعد تونس الجغرافي عن دول الخليج، إلا أن العلاقات الشعبية والثقافية بينهم أكبر من نظيرتها الليبية، وإن كانت أقل من نظيرتها المصرية. لذلك، ولأسبابٍ أخرى عديدةٍ منها نضج المجتمع المدني والحياة السياسية في تونس، وموقع تونس المركزي في استراتيجيات أوروبا الغربية وأميركا في الشرق الأوسط، لم يكُن من الحكمة أن تستعمل الإمارات والسعودية الوسائل سافرة العنف نفسها التي جرَّبتاها في مصر واليمن وليبيا والبحرين، وفضَّلتا اتخاذ سياسة النَفَس الطويل إزاءها.
وقد صرَّحَ عددٌ من السياسيين التونسيين، مثل الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي، بأن الإمارات والسعودية اتخذتا قرار تصفية الربيع العربي، وأنه أثناء فترة حكمه «كان المال الإماراتي يتدفق إلى البلاد بصورةٍ مثيرةٍ، وأن التدخل الإماراتي كان واضحاً وكان يثير انشغاله». وتواترت التقارير عن وقوف الإمارات وراء «انقلاب» قيس سعيد على العملية الديمقراطية في تموز (يوليو) 2021، مُنهياً بصورة عملية موجة التحولات الديمقراطية المسماة بالربيع العربي، ومُنَصَّباً دكتاتوراً مدنياً، فيما يبدو مواصلةً لنسق رؤساء تونس ما قبل الربيع العربي، بورقيبة وزين العابدين.
6- حمامات الدم؛ الربيع السوري
شجاعة الشعب السوري في الانتفاض ضد قهر حزب البعث ودكتاتورية أسرة الأسد، بِدءاً من آذار (مارس) 2011، كانت مثيرة لإعجاب الكثيرين على امتداد الدول العربية، بما فيها دول الخليج، نتيجة وزن سوريا الكبير في المنطقة تاريخياً وثقافياً وشعبياً، ولما يعرفونه عن دموية وقمع وجرائم النظام السوري.
تصاعدت الانتفاضة وتحولت إلى حرب أهلية، زاد من تعقيدها تدخل دول عديدة مثل روسيا وإيران والولايات المتحدة وإسرائيل وتركيا ودول الخليج، إضافة لظهور تنظيمات مثل داعش وجبهة النصرة.
أظهرت المواقف الإماراتية من تطورات الأوضاع في سوريا قدرات عالية على التحور، يمكن أن تُعزَى لتغيُّر قراءتها للمخاطر القادمة من جماعات الإسلام السياسي، والنفوذ الإيراني في المنطقة، وتطلعات شعوب المنطقة الديمقراطية. وقد تباينت مواقفها مع السعودية بصورة كبيرة أحياناً.
في البدء، أعلنت الدولتان وقوفهما مع الشعب السوري ضد النظام، وأيَّدتا عدة جماعات معارضة سورية. ثم شاركتا في حملات التحالف الدولي للحرب على الإرهاب بقيادة الولايات المتحدة منذ العام 2014. ولكن في 2015 أيدت الإمارات التدخل الروسي العسكري المناصر لنظام الأسد، بينما واصلت السعودية دعمها لعدد من الجماعات المعارضة الإسلامية.
فيما بعد، أعلنت الإمارات عن ضرورة بقاء بشار الأسد ضمن أي تصور لإيقاف الحرب في سوريا، وعملت على إعادة العلاقات العربية مع بشار الأسد ونظامه، في مواجهة التيار الرافض لذلك وفي القلب منه السعودية وقطر وأميركا، حتى توج ذلك بفك تجميد عضوية سوريا في الجامعة العربية في أيار (مايو) الماضي بعد انضمام السعودية إلى الرأي المؤيد لفك تجميد العضوية.
7- السودان والخليج ومصر
استطاع عمر البشير أن يخفي عن الحكومة المصرية حقيقة انتماء نظامه الجديد للجبهة القومية الإسلامية، الخارجة من صلب جماعة الإخوان المسلمين، حين انقلب على الحكومة الديمقراطية في 30 حزيران (يونيو) 1989. وفي الأشهر الأولى الحاسمة من حكمه، نجح في الحصول على رضا واطمئنان دول الخليج تبعاً للموقف المصري المخدوع في طبيعة العسكر الجدد.
لم تكن مصر على وفاقٍ مع الحكومة الديمقراطية التي أعقبت انتفاضة الشعب السوداني على الدكتاتور السابق جعفر نميري، الذي حكم السودان بين 1969-1985، ولم يكن هذا مُستغرَباً على مصر ولا دول الخليج، التي دائماً ما كانت تنظر بعين الريبة لأي حكمٍ ديمقراطيٍّ في المنطقة.
لم يَطُل شهر العسل، فقد بدأ وجه النظام الإسلامي في الظهور، حتى أسفر عن نفسه بوقوفه مع صدام حسين في غزو العراق للكويت في 1990. اعتُبِر السودان من «دول الضد»، التي خفضت معظم الدول الخليجية علاقاتها الدبلوماسية معها.
عَمَّدَ النظام نفسه في السنوات اللاحقة كأول نظام حكمٍ عربي ينتمي لحركات الإسلام السياسي السنّية، وصارت الخرطوم ملاذاً لتنظيمات المعارضة الإسلامية والقومية، وعمَّقت علاقاتها بالنظام الإيراني. ووضع النظام نفسه في مواجهة العالم بدعمه لتنظيماتٍ «إرهابية»، حتى تم فرض حصارٍ دبلوماسيٍّ واقتصاديٍّ وسياسيٍّ عليه، بعد دوره في عملياتٍ إرهابيةٍ ضد أهدافٍ أمريكيةٍ ومحاولة اغتيال للرئيس المصري مبارك عام 1995.
ظلَّ السودان مُمَثَّلاً دبلوماسياً في الإمارات بمستوى قائمٍ بالأعمال، حتى قبلت الإمارات برفع المستوى لدرجة السفير عام 1999، ورغم ذلك ظلت العلاقات الثنائية فاترة، حتى بدأت تظهر علامات تحسُّن حين زار طه عثمان مدير مكاتب البشير أبوظبي برفقة الأمين، الشيخ الصوفي المثير للجدل، في حزيران (يونيو) 2014، وقابلا الشيخ منصور بن زايد نائب رئيس الوزراء المعروف بإشرافه على الملفّ الليبي. لم يُعرَف بالضبط ما دار في هذا اللقاء، ولكن تحسنت العلاقات بعده بشكلٍ مضطرد، وتكشَّفَ فيما بعد أن قوات الدعم السريع أرسلت جنوداً للقتال مع حفتر بترتيب إماراتي.
وعلى التوازي مع ذلك، بدأت العلاقات السودانية السعودية في التحسُّن بعد أن ظلت فاترة رغم محاولات البشير المستمرة – المخجلة أحياناً – لتحسينها، حتى قام بطرد الملحق الثقافي الإيراني وإغلاق مراكز ثقافيةٍ إيرانيةٍ في الخرطوم في أيلول (سبتمبر) 2014 قبل وفاة الملك عبدالله بأشهرٍ قليلة. ثم تسارعت هرولة الخرطوم لتحسين العلاقات مع صعود الملك سلمان للعرش، وتفاجأ الجميع بمشاركة السودان بقواتٍ إلى جانب السعودية والإمارات في حرب اليمن بعد ذلك بشهور.
8- قوات الدعم السريع والإمارات
مليشيا الجنجويد هي امتدادٌ لمسيرة الدولة السودانية في تسليح قبائل تُساندها في قتالها لمتمردين في أقاليم بعيدةٍ عن المركز (جنوب السودان سابقاً، ودارفور وكردفان). برز اسم القائد موسى هلال كأهم قادة القبائل، عندما قاتلت قواته الحركات المسلحة التي خرجت على الحكومة المركزية في دارفور عام 2003. ارتكبت المليشيا مع الجيش فظائع وانتهاكاتٍ جسيمةٍ لحقوق الإنسان، أدَّت فيما بعد لإحالة الرئيس البشير وعدد من رموز نظامه للمحكمة الجنائية الدولية.
عملت الحكومة على تقنين وضع الجنجويد بتأسيس «حرس الحدود» وتبعيته للقوات المسلحة، وظهر اسم محمد حمدان دقلو (حميدتي) كأحد قادة الجنجويد/حرس الحدود. وتوسَّعَ نفوذ حميدتي حتى أطاح بموسى هلال، وأصبح هو القائد للتحوُّر الجديد للجنجويد (قوات الدعم السريع) التي أُنشئت في عام 2013 بإشراف جهاز الأمن والمخابرات السوداني. تضاعف عدد أفراد المليشيا من حوالي 10 آلاف مقاتل عام 2007 إلى 30 ألف عام 2013. وتواصلت جرائم المليشيا بمختلف مسمياتها في دارفور، بما فيها فظائع موثقةٌ للدعم السريع.
كانت حالة اللادولة التي تزامنت مع الحرب الأهلية في دارفور قد أدَّت إلى سيطرة موسى هلال على منطقة جبل عامر، التي بدأ فيها تعدين الذهب بصورةٍ تقليدية ولكن بكمياتٍ تجارية منذ عام 2010 تقريباً. ومن المُرجَّح أن الصراع على الذهب كان من عوامل صعود حميدتي للقيادة وسقوط موسى هلال، الذي تحوَّلَ فيما بعد إلى مُعارضٍ للحكومة المركزية التي قامت بسجنه.
الوجهة الأولى للذهب المُنتَج في مناطق سيطرة حميدتي كانت، وما تزال، الإمارات. وأشارت تقديرات أن إنتاج السودان من الذهب من التعدين الأهلي في عام 2012 بلغ حوالي 1.2 مليار دولار. وظَّلت الإمارات مركزاً لعمليات تحويل الأموال من وإلى السودان لصالح الحكومة السودانية وأجهزتها الأمنية، والحركات المسلحة المتعددة.
يعرف كثيرٌ من السودانيين في مدنٍ إماراتيةٍ عديدة مكاتبَ صغيرةً فقيرة التأثيث وخاليةً من الموظفين معظم الأوقات، ممتلئةً بأوراقٍ نقديةٍ بالدرهم الإماراتي أو الدولار الأميركي، ويتم التعامل فيها بالكاش وبرسائل الواتساب والاتصالات الهاتفية. كما يعرفون برحلات الطيران العارضة التي تأتي محملةً بشحناتٍ من الذهب والأوراق النقدية عبر مطارات الإمارات المختلفة.
الدور الإماراتي على هذا الصعيد مهمٌ نسبةً لحالة الحصار الاقتصادي المفروض على السودان منذ تسعينات القرن الماضي، والتي شلَّت تعامل الجهاز المصرفي السوداني مع البنوك والأسواق العالمية. وهو الدور نفسه الذي ظلت تلعبه الإمارات، ودبي خصوصاً، مع الدول الواقعة تحت حصارٍ أو عقوباتٍ اقتصاديةٍ (مثل إيران، وسوريا، وروسيا … الخ). حيث توفر دبي ملاذاً آمناً لدخول هذه الأموال وغسيلها وتحويلها.
وتُوفّر أسواق دبي، ولا سيما العقارية الفاخرة، حرزاً للعديد من الشخصيات القيادية في تلك الدول، حتى تلك التي لا تتمتع بعلاقات ودّية رسمياً مع الإمارات (فمثلاً يمتلك عدد من أفراد أسر عمر البشير وبشار الأسد وقادة جنوب السودان وأفغانستان عقارات فخمة في أيقونة دبي برج خليفة وبعض مناطق دبي البارزة الأخرى). ويُلاحِظ سكان المدينة والباعة في المولات الفخمة ظهور أعدادٍ كبيرةٍ من المشترين، الذين يصرفون صرفَ من لا يخشى الفقر، من دول تتعرض لاضطراباتٍ سياسيةٍ من ثوراتٍ أو حروبٍ.
ومن المعلوم للمُطَّلعين على سَير الأمور في الإمارات أن مثل هذه النشاطات لا تمرّ بغير علم السلطات التي تغض الطرف عن بعضها، وتمنع بعضها، بما يسمح لها بإدارة سمعة مدينة دبي، وهي إحدى الأصول الأساسية لاقتصاد الإمارات. ومن المفارقات أن السلطات المصرفية في الإمارات قد تُضيّقُ التعاملات المصرفية الفردية العادية لمواطنين من الدول التي تقع تحت طائلة عقوبات، بينما تسمح بتداول هذه المبالغ المليارية.
من شركات الدعم السريع المسجلة في الإمارات تراديف للتجارة العامة (المسجلة باسم القوني دقلو، شقيق حميدتي)، وقد حظرتها الولايات المتحدة وبريطانيا بعد قيام الحرب ضمن شركات أخرى منها الجنيد (ذات النشاطات الواسعة في الذهب والإنشاءات والمملوكة لعبدالرحيم دقلو، شقيق حميدتي ونائبه).
وقد سمحت الإمارات لواجهات الدعم السريع بالقيام بتوفير الأسلحة وخدمات الإمدادات والتمويل للمليشيا، وبالقيام بعمليات تهريب وتصدير الذهب وغسيل الأموال مع شركاتٍ روسية وأفريقية مرتبطة بحكومات هذه الدول ومليشيا فاغنر.
لا شكَّ أن معرفة الإمارات بحجم الأعمال التي تديرها مليشيا الدعم السريع عبر واجهاتها قد حفزتها لمعرفة حميدتي وخلق علاقةٍ معه، تطورت بعد مشاركة قواته في حرب اليمن.
لعبت الإمارات أيضاً دوراً في ربط قوات الدعم السريع بحليفيها مليشيا حفتر ومليشيا فاغنر. وقد شارك مقاتلون من الدعم السريع في القتال في ليبيا مع حفتر بتنسيقٍ مع الإمارات. وقامت شركةٌ أمنيةٌ مملوكةٌ لرجل أعمال سوداني (بلاك شيلد) بتجنيد شبابٍ سودانيين للعمل مع مليشيا حفتر في ليبيا بتمويلٍ إماراتي.5
وقد أسهمت الإمارات بما هو أكثر من المال، فقد عملت على تحويل المليشيا إلى مُنظمةٍ حديثة، وإعادة تقديم قائدها حميدتي كقائدٍ سياسيّ، جيّد الهندام، شعبوي الخطاب، واسع العلاقات، عظيم الحيلة. وقد وفَّرت له شخصياً ولقواته خدمات التدريب والاستشارات والعلاقات العامة والإعلام، عن طريق شركات دولية وإقليمية.
ويجدر بالذكر أن من مصادر تَضخُّم ثروة ونفوذ حميدتي وحصوله على قبولٍ ضمنيٍّ، انضمامه لعملية مكافحة الهجرة «غير المشروعة» لأوروبا المعروفة باسم عملية الخرطوم، التي صممتها عدة حكوماتٍ أوروبيةٍ وأفريقيةٍ.
9- قوات الدعم السريع وحرب اليمن
كانت مشاركة قوات الدعم السريع في حرب اليمن نقطة تحولٍ كبرى في مسيرتها وفي تاريخ السودان الحديث. كان التنسيق بين MBZ والأمير الصاعد MBS شبه كامل، ولذلك كان الإغراء لحكومة عمر البشير كبيراً إلى درجة انتقالها بانتهازيةٍ مُذهلة إلى معسكر دول الخليج المُعادية لها طوال ربع قرن، وقيامها بقطع علاقاتها الدبلوماسية القوية بإيران.
في البداية كانت القوات السودانية مشكلةً من أفرادٍ من القوات المسلحة السودانية ومن قوات الدعم السريع، ولكن بالتدريج أصبح معظم المقاتلين من الدعم السريع، ممّا متَّنَ علاقات قادتها بالإمارات والسعودية بصورة مستقلة عن الجيش والدولة السودانيتين.
عملت الإمارات على استيعاب الدعم السريع ضمن المنظومة العسكرية الإماراتية التي أصبحت تعتمد بشكلٍ متزايدٍ على مرتزقة، عن طريق تعاقدات مع شركاتٍ وشخصياتٍ سيئة السمعة مثل الأميركي إريك برينس مؤسس شركة بلاكووتر، المتورطة في جرائم قتل مدنيين وانتهاكات أخرى في العراق. شارك برينس منذ 2010 في تطوير قوات نخبة مسؤولة عن حرس الرئاسة الإماراتي، وفي القيام بعمليات عسكرية خارج الإمارات (في سوريا واليمن)، وفي عملياتٍ خاصة و«مكافحة الإرهاب»، بمرتزقةٍ جنودٍ وضباطٍ ومُدرِّبين من دول عديدة مثل كولومبيا، وجنوب أفريقيا (من قوات نظام الفصل العنصري – الأبارتايد)، والمغرب، وأميركا، وبريطانيا، وألمانيا، وفرنسا، وأستراليا.
وتوسَّعت هذه المنظومة مع حرب اليمن بإنشاء قواعد إماراتية في أريتريا (عصب) ، وأرض الصومال (بربرة). وأصبحت الإمارات ومنشآتها وقواعدها العسكرية داخل وخارج الإمارات متاحةً لأفراد الدعم السريع، كمحطات انطلاق وعبور وتنظيم وتشوين وتسليح وتدريب، وترويح وعلاج وأعمال.
وصل عدد قوات الدعم السريع في اليمن وفق بعض التقديرات إلى 40 ألف جنديّ. وقد كانت الأموال التي تدفعها الإمارات والسعودية لحميدتي مقابل هذه القوات من أسباب تزايد قوة وسطوة الدعم السريع، وزيادة جاذبيته لاستقطاب عشرات الآلاف من الشباب السودانيين – بمن فيهم صغار السن – للالتحاق بها.
10- التانغو الأخير للبشير
مهارة البشير في البقاء في السلطة، واللعب على تناقضات السياسة الإقليمية والدولية، وصلت مراحلها الأخيرة بانقلابه على حليفه الإيراني وانضمامه للتحالف العربي في اليمن بقيادة السعودية والإمارات، والذي ضمّ أيضاً قطر قبل تفجُّر أزمة الحصار الأخيرة.
وقد حاول البشير الحفاظ على الحياد في هذه الأزمة، ولكن موقفه كان حَرِجاً، خصوصاً وقد فقد الكثير من أوراق اللعب بسبب تدهور أوضاعه الداخلية بتصاعد المعارضة، وظهور أجيالٍ شابةٍ من المعارضين زرعت بذرة ثورة ديسمبر بأشكالها القاعدية الممتدة على مساحة الوطن (لجان المقاومة) والمجموعات المهنية، مُستلهِمةً ثورات الربيع العربي ومستفيدةً من انتشار وسائط التواصل الاجتماعي، والصراعات الداخلية في قلب حزب المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية، وتحوُّل النظام إلى دكتاتوريةٍ كليبتوقراطيةٍ متمحورةٍ حول شخص البشير وأسرته وبعض خلصائه وبعض الامتدادات القبلية، ومبتعدةً أكثر عن الإيديولوجيا الإسلامية الجامعة، مع تدهور الأوضاع الاقتصادية الشديد بعد استقلال جنوب السودان وجفاف عائدات النفط.
استغلَّت الإمارات والسعودية هذه الفرص في براغماتية فذة تغاضت عن حقيقة أن نظام البشير نظامٌ إخوانيٌّ بامتياز، وربما كان من الأهداف الجانبية لضمهما السودان إلى التحالف هو القضاء على نفوذ الإخوان في السودان.
ارتفعت مساعدات وقروض واستثمارات الإمارات والسعودية في السودان بصورة ملحوظة بين عامي 2015 – 2018،6 وشملت مدفوعاتٍ تصب مباشرةً في تقوية موقف النظام وتخفيف الغضب الشعبي عليه مثل تغطية عجز الموازنة، وتوريد الوقود. تتحدث أرقامٌ رسميةٌ إماراتيةٌ وسعوديةٌ عن استثماراتٍ بلغت 7 مليارات من الأولى (بدون تحديد فترة زمنية) و36 ملياراً من الثانية (بين 2000 – 2020). وكانت أموال المساعدات الإماراتية والسعودية المُعلنة شبه منعدمة في 2014، ثم تضاعفت بصورةٍ كبيرة في 2015 – 2016، قبل أن تهبط في العامين التاليين.
ظهر جلياً في نهايات 2018 أن الوضع الاقتصادي للسودان على حافة الانهيار، وأن قدرات البشير على المناورة والبقاء لم تعد كافيةً لبث الثقة في أنصاره المحليين وحلفائه الدوليين والقوى المتصارعة داخل نظامه. وانطلقت تظاهراتٌ شعبيةٌ في مناطق عديدة في السودان في ديسمبر.
11- ربيع السودان؛ ثورة ديسمبر
كانت كُتُب التاريخ المدرسية في المنطقة العربية تعتبر أن الرجال (العبيد الأقوياء/الجنود) والذهب أهم ثروات السودان، التي تدفع الطامعين في احتلاله. لم تتغير هذه النظرة كثيراً بعد أن تبدلت موازين القوى في المنطقة بصعود دول الخليج إلى هرم الثروة والنفوذ، إلّا بإضافة عامل أرض السودان الشاسعة الخصبة إلى الاستعانة بمقاتلي مليشيا الدعم السريع كمرتزقة والتجارة في ذهب السودان (مُهرَّباً أو مُستورَداً).
ورغم ضعف تأثير السودان الثقافي والسياسي على المنطقة، إلا أن وجود الجاليات السودانية في الإمارات والسعودية مؤثر لا يمكن إغفاله، فالصورة النمطية للسوداني في الخليج، التي ترسمه بريئاً كسولاً غير ذي بال، تُصوره أيضاً مثقفاً مُسيَّساً. وقد سبق السودان موجة الربيع العربي بانتفاضتين شعبيتين أطاحتا بنظامي حكم عسكريين في تشرين الأول (أكتوبر) 1964 ونيسان (أبريل) 1985. كما استمرت المقاومة الشعبية للبشير طوال عهده حتى وصلت أوجها في أيلول (سبتمبر) 2013، التي قمعتها بوحشية قوات الدعم السريع مُدشِّنةً وضعها الجديد كخط حمايةٍ إضافيٍّ وفتاك للبشير في العاصمة الخرطوم، إضافة لانتهاكاتها التي لم تتوقف في دارفور.
احتفظت الإمارات والسعودية دائماً بعلاقات قوية مع القوى السياسية السودانية التقليدية والحركات المسلحة «المتمردة»، ولذلك كان منطقياً مواجهتهما خطر ثورة ديسمبر بمزيج من تكتيكات الاحتواء والاستيعاب.
مع تَصاعُد التظاهرات الشعبية، تَوجَّه مئات الآلاف من جماهير الشعب السوداني يوم 6 نيسان (أبريل) 2019 إلى محيط القيادة العامة للقوات المسلحة، واعتصموا مطالبين الجيش بحمايتهم. اتخذت قيادات أجهزة النظام الأمنية قرار التخلُّص من البشير للحفاظ على جسم النظام ومواقعهم فيه. بعد أيامٍ حافلةٍ بالأحداث فوق الطاولة وتحتها، تولَّى البرهان وحميدتي قيادة مجلسٍ عسكريٍّ انتقاليّ، بدأ في إجراء مفاوضات مع قوى الحرية والتغيير «قحت» ممثلة القوى المدنية للمشاركة في السلطة (بدلاً من مطلب الجماهير بتسليم السلطة كاملة للمدنيين).
وصل إلى هرم السلطة ضباطٌ لم يكونوا حتى أشهرٍ قليلةٍ في سدّة قيادة البلاد، وأخطأت قوى الحرية والتغيير خطأً استراتيجياً بالتعامل معهم كما لو أنهم ضعاف الحيلة لا يملكون علاقاتٍ دوليةٍ أو محليةٍ تُمكِّنهم من منافسة «قحت»، التي جاءت إلى المفاوضات بسند غالبية الشعب، وبعلاقات دولية وإقليمية ترى في التخلص من نظام الإخوان المسلمين هدفاً استراتيجياً عظيماً.
بدأ موسم الهجرة إلى الإمارات من القوى السياسية بعد سقوط البشير مباشرة، بزيارات لافتة لأبوظبي من قوى تحالف نداء السودان (أحد أضلاع قوى الحرية والتغيير) نهاية نيسان (أبريل) 2019. وظهر دورٌ مركزيٌ لسفيري الإمارات والسعودية في الشهور التالية. وشهدت عواصم المنطقة اجتماعات لا تنتهي لقوىً سياسيةٍ سودانيةٍ متعددة مع القوى الإقليمية والدولية، وبدأ الناشطون يلاحظون ظهور أصابع غليظة لأجهزة الاستخبارات الإقليمية والدولية في كل مواقع صناعة الحدث داخل وخارج السودان، ومعها أحاديث عن أموال تُدفَع من قبل الإمارات والسعودية وقطر.
كانت علاقات الإمارات والسعودية في ذلك الوقت قد بدأت تشهد توتراً صامتاً، سببه الرئيس خلافاتٌ حول الحرب في اليمن. فقد بدأت الرياض بالقلق من دعم أبوظبي للانفصاليين الجنوبيين، وبِدئهم سحب قواتهم من اليمن.
ويبدو أن ذلك التوتر انعكس على تباين رؤيتهم للحالة السودانية. ذكر عددٌ من قادة قوى الحرية والتغيير أن السفير السعودي في السودان انتقد في أحاديث معهم دور الإمارات وعدم معرفتها بالواقع السوداني، واستنكر تَوجُّه الساسة السودانيين لأبوظبي.
آنئذ لعبَ حميدتي دوراً كبيراً باعتباره رجل المجلس العسكري الانتقالي القوي ذا العلاقات الواسعة مع الإمارات والسعودية، ولم تُضيّع الإمارات والسعودية ومصر زمناً في خلق علاقاتٍ قويةٍ مع البرهان وبقية أعضاء المجلس أثناء مفاوضات العسكر والمدنيين، فقد أعلنت السعودية والإمارات في 21 أبريل 2019 عن تقديم مساعداتٍ للمجلس العسكري بقيمة 3 مليارات دولار.
كما ساعدت الإمارات في توقيع حميدتي عقد لوبي بـ 6 ملايين دولار مع وكالة دكنز ومادسون الكندية، ورئيسها رجل المخابرات الإسرائيلية السابق آري بن مناشي، في 7 أيار (مايو) 2019، لترويج المجلس العسكري في الولايات المتحدة وروسيا والسعودية والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي وأي دول ومنظمات أخرى، وللحصول على الأسلحة والتمويل، ولتجميل صورة المجلس في الإعلام الدولي والسودان.
وقامت شبكاتٌ تتبع للإمارات ومصر وروسيا بعمل حملات تضليلٍ وبث معلوماتٍ كاذبة ومضللة، وبثّ محتوىً مزيف مُنَسَّق لمصلحة العسكر وضد القوى المدنية وضد التحول الديمقراطي على منصات التواصل الاجتماعي (مثل فيسبوك وإنستغرام وتويتر). وقد كشفت تقارير عن ارتباط هذه الشبكات بأجهزة الأمن الإماراتية والمصرية.7
ومع تطاول مرحلة التفاوض والأخطاء السياسية للقوى المدنية السودانية، ازداد إحساس العسكريين والدول الثلاثة (الإمارات والسعودية ومصر) بقدرتهم على استعادة زمام المبادرة، وعكس موازين القوى لصالحهم، وظهر ذلك في استمرار حوادث قتل المتظاهرين والمعتصمين السلميين، وفي تعنُّت العسكر في التفاوض.
وبعد النجاح الواسع لإضراب سياسي استمر ليومين، قام العسكر بارتكاب مجزرة فض اعتصام القيادة العامة، الذي جاء على نسق مجزرة فض اعتصام رابعة العدوية، ورأى الكثيرون أن المجزرة كانت بدعم الدول الثلاث لتحقيق نفس نتائج رابعة بإطلاق الرصاصة الأخيرة على ربيع السودان وثورة ديسمبر، وتعميدِ سيسي جديد للسودان؛ هو البرهان القادم من مؤسسة الجيش كما يرغب المصريون (وربما السعوديون)، أو حميدتي في مرحلةٍ لاحقةٍ كما يرغب الإماراتيون.
حاولت الدول الثلاثة توفير غطاءٍ سياسيٍّ وإعلاميٍّ للمجزرة شبيهٍ بما حدث في رابعة، إلا أن مقاومة الشعب السوداني الباسلة للمجزرة في الأيام التالية، وقدرته على استمرار المقاومة، وكشف فظائع المجزرة والانتهاكات التي تلتها، والحشد لمليونيات 30 حزيران (يونيو)، أجبرت الإمارات والسعودية على الانحناء للعاصفة وتغيير السيناريو المصري. كما كان واضحاً استياء مصر من ضعف البرهان، وربما عدم قيامه بقتل العدد اللازم من الأشخاص لإخماد الثورة.
جمع سفراء الإمارات والسعودية وبريطانيا وأميركا قلةً مختارةً من قيادات قوى الحرية والتغيير مع حميدتي، وذلك في منزل رجل الأعمال البارز أنتوني حجار قبل أيام من مواكب مليونية 30 يونيو، وأسفرت ضغوطهم المتواصلة منذ المجزرة على فرض العودة للتفاوض، رغم النجاح المدوي للمليونية، وفرض الشراكة بين المدنيين والعسكر، التي أدت لتوقيع اتفاقٍ والتوصل لوثيقةٍ دستورية وترتيباتٍ انتقالية، تُشكَّلُ بموجبها حكومةٌ انتقاليةٌ برئاسةٍ مدنيةٍ (د. عبدالله حمدوك)، ومجلسٍ سياديٍّ مشترك برئاسة دورية تبدأ للبرهان ثم تتنقل للمدنيين بعد انقضاء نصف الفترة الانتقالية.
12- الإمارات والفترة الانتقالية
واصلت الإمارات والسعودية ومصر خطط تصفية الثورة، وإضعاف الحراك الجماهيري، وتقوية الجانب العسكري (الذي آلت له عملياً معظم مفاتيح السلطة الجديدة)، والضغط على الجانب المدني في الحكومة والقوى السياسية.
فقد أوقفت الإمارات والسعودية المساعدات المالية التي تعهدت بها بعد تشكيل الحكومة المدنية قبل نهاية 2019. وازدادت وتيرة تسليح الإمارات للدعم السريع.
ووقع آري بن مناشي ووكالته دكنز ومادسون عقداً مع شركة موانئ دبي في 4 (تشرين الثاني) نوفمبر 2019، بغرض الضغط لإتمام صفقة استحواذ موانئ دبي على ميناء بورتسودان الجنوبي، وللحصول على حق إدارة الميناء لمدة 20 سنة، وعلى حق «الرفض الأول» لإدارة ميناء بشاير النفطي وأي مشاريع موانئ أخرى في بورتسودان.
ولعبت الإمارات دوراً كبيراً في عملية تطبيع علاقات السودان مع إسرائيل، وتوقيع السودان على «العهود الإبراهيمية»، تدشيناً لانضمام السودان لتحالفٍ إقليميٍّ ترعاه الولايات المتحدة الأميركية، التي قدمت للسودان وعوداً برفع اسمه من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وتقديم مساعداتٍ اقتصادية وقروضٍ وتيسير إعادة علاقاته مع مؤسسات التمويل الدولية. ولاحقاً تعمقت علاقات إسرائيل العسكرية والاستخبارية، والزيارات السرية والعلنية المتبادلة مع الجيش والدعم السريع، بصورةٍ مستقلة عن الحكومة المدنية.
ومع تزايد الفتور في العلاقات بين الإمارات ومصر، بدأت تظهر للعلن تناقضات الجانبين حول السودان وأثيوبيا. فقد عمقت مصر من علاقاتها العسكرية مع القوات المسلحة السودانية (لا سيما بإجراء المناورات المشتركة والاجتماعات العلنية وإرسال طائراتٍ مقاتلةٍ مصريةٍ لقاعدة مروي في شمال السودان، وبتحول نبرة الخطاب الرسمي السوداني حول سد النهضة ليقترب أكثر من الخطاب المصري لدرجة التطابق في منتصف 2021)، بينما أصبح الدعم الإماراتي لرئيس الوزراء الأثيوبي واضحاً.
وعندما حدثت مناوشاتٌ عسكريةٌ مصطنعةٌ في الفشقة على الحدود السودانية الأثيوبية، كان لافتاً عدم مشاركة الدعم السريع فيها إلى جانب الجيش السوداني، كما أن الإمارات تقدمت بمقترح وساطة تمّت مواجهته برفض شعبي سوداني حين تسربت أنباؤه.
وفي مناسباتٍ متعددة، ظهرت للعلن أدلةٌ على متانة علاقات الحكومة الإماراتية مع أكثر رجال الأعمال السودانيين ثراءاً ونفوذاً وتأثيراً على مجريات الأحداث في السودان، وقدرة الإمارات على استغلال مصالحهم الاقتصادية الكبرى لديها للعب دور وكلاء لها في الساحتين السياسية والاقتصادية في السودان.
13- الانقلاب والحرب
حققت الشراكة للبرهان وحميدتي أكثر مما يحلم به أي شريكٍ في أي شراكة. فقد حصلا عملياً على سلطة وصلاحيات أكبر بكثير مما جاء في مواثيق الشراكة، وفي الوقت نفسه تمكَّنا دائماً من تحميل مسؤولية الفشل في تحسين حياة الناس وتنفيذ شعارات الثورة للشريك المدني «قحت» والحكومة ورئيسها. وقد وجدا شرعيةً دوليةً متزايدة، وتمكَّنا من تحقيق اختراقاتٍ عديدة في صفوف المدنيين، مدعومين بعلاقاتهما مع الإمارات والسعودية.
ولذلك لم يكن انتهاء فترة رئاسة العسكريين لمجلس السيادة، والتوترات المُفتعلة حولها بين المدنيين والعسكريين، مبرراً مقنعاً لانقلاب 25 تشرين الأول (أكتوبر) 2021، إلا إذا كان الغرض منه تأكيد طبيعة الحكم العسكرية، والقضاء على رمزية وجود المدنيين في الانتقال حسبما ترى الإمارات والسعودية ومصر.
مقاومة الشعب السوداني البطولية – بقيادة لجان المقاومة – منذ لحظات الانقلاب الأولى، عطَّلت خطط الانقلاب بالسيطرة السريعة على البلاد، وجعلت التأييد العلني من دول المحور مُحرِجاً. ولكن بدلاً من الرفض الحاسم، حاول المجتمع الدولي (الولايات المتحدة وبريطانيا والأمم المتحدة… إلخ) إعادة الروح للشراكة بمقارباتهم نفسها منذ نيسان (أبريل) 2019.
وحين كانت لجان المقاومة تهتف بلاءاتها الثلاثة (لا تفاوض، لا شراكة، لا شرعية)، وتطالب بعودة العسكر للثكنات وحلّ الجنجويد، مُتعرضةً للقتل برصاص الجيش والدعم السريع، كانت مفاوضاتٌ محمومةٌ تجري بين العسكر وحمدوك وبمشاركةٍ فاعلةٍ من بعض قادة أحزاب «قحت» ورموز النخبة السياسية التقليدية، لعب فيها عبدالرحيم دقلو دوراً بارزاً.
في الأشهر اللاحقة، بدا واضحاً تمايُز الموقفين الإماراتي والسعودي.
فبعد أن اتَّفقَ حمدوك مع البرهان، ثم استقالَ بعد رفض الشارع القاطع للاتفاق، غادر إلى العاصمة الإماراتية أبوظبي، حيث ما زال يقيم في ضيافة الرئاسة الإماراتية، وما يزال يلعب دوراً مركزياً في سيناريوهات دولٍ ومنظماتٍ دوليةٍ متعددةٍ، مدعوماً من الإمارات، ومتصلاً بالقوى السياسية السودانية التي أصبح مقره في أبوظبي مَحجَّاً لقادتها.
بينما اتجهت السعودية للتنسيق مع الأميركان للدفع بالتفاوض بين العسكر و«قحت»، في العملية التي أسفرت عن ما عرف بـ«الاتفاق الإطاري» الذي وقع في كانون الأول (ديسمبر) 2022، وبدأت ورش عمليته السياسية «النهائية» أوائل العام الجاري، على أن تنتهي بالتوقيع على اتفاقٍ جديدٍ في نيسان (أبريل) 2023، وهو التوقيع الذي تم تأجيله، ثم سقط مع قعقعة السلاح صباح 15 أبريل.
في الأشهر السابقة للحرب، عملت شبكاتٌ تابعةٌ للإمارات على تعزيز شبكات الدعم السريع في منصات وسائط التواصل الاجتماعي، بالاستحواذ على العديد من الحسابات القديمة، وإعدادها للقيام بلعب دورٍ في حملات المليشيا التضليلية بعد اندلاع الحرب.
ويدير فريقٌ من الخبراء في دبي عمل مليشيا الدعم السريع الإعلامي والدعائي، مستعينين بعقودٍ مع شركاتٍ إماراتيةٍ وأوروبيةٍ لترويج المليشيا لدى صناع القرار الأوروبيين، وتوفير التدريب في المجال الإعلامي، وإدارة صفحات الدعم السريع في وسائل التواصل الاجتماعي.
وبعد بدء الحرب مباشرةً كشفت تقارير عن قيام الإمارات بشحن أسلحةٍ للدعم السريع، مستغلةً شبكة علاقاتٍ تمتد من ليبيا وتشاد وأفريقيا الوسطى وأوغندا ومليشيات حفتر وفاغنر،8 وعن تقديمها خدماتٍ استخباراتيةٍ وتقنيةٍ لقوات الدعم السريع.
والتقى MBZ قائدي تشاد وأثيوبيا فيما بدا أنه يهدف لحشد تأييدهما للدعم السريع، وتسهيل جهود الإمارات في تقديم خدمات التسليح والتموين والعلاج عبر واجهات الخدمات الإنسانية والطبية.
وحسب شهودٍ عيان، تقدم الحكومة الإماراتية معاملة «شخصياتٍ مهمةٍ جداً» لنائب حميدتي عبد الرحيم دقلو والمئات من قواته، الذين يقيمون في أبوظبي بعد مغادرتهم السودان لإدارة أعمال الدعم السريع وشؤونها السياسية والعسكرية، أو للحصول على العلاج الطبي.
بينما يبدو الموقف السعودي بعد الحرب أبعد ما يكون عن الموقف الإماراتي، وأصبح السودان بنداً إضافياً في قائمة أسباب توتر العلاقات بين MBS وMBZ، التي تضم خلافات حول اليمن، وأسواق النفط، وخطط MBS العملاقة للاقتصاد السعودي التي تراها الإمارات تهديداً حقيقياً لها.
فقد ابتدرت المملكة مع الولايات المتحدة منبر جدة للتفاوض حول وقف إطلاق النار بين الجيش والدعم السريع، الذي يعلن الطرفان التزامهما به، ويبدو الجهد الدبلوماسي لوقف الحرب الأكثر قبولاً سودانياً ودولياً.
وبدا واضحاً لكثير من المراقبين أن السعودية ابتعدت في الحرب الحالية عن قوات الدعم السريع، واقتربت من البرهان وقيادة الجيش، وأنها ترى أولوية إيقاف الحرب والحفاظ على وحدة السودان واستقراره.
والموقف المصري في الحرب مهم أيضاً، وليس سرَّاً تأييد مصر للجيش السوداني ومعارضتها للمليشيا، ودورها الدبلوماسي النشط لتحييد مواقف أصدقاء الإمارات والدعم السريع في المنطقة (كينيا وأثيوبيا وتشاد ويوغندا)، لما تشكله سيناريوهات انهيار السودان وتفككه من أخطار على أمن مصر القومي.
14- الدولة المنبوذة؟
قوات الدعم السريع ليست مليشيا تقليدية، أو مجرد مجموعة شبه عسكرية. يتزايد الاتفاق بين نشطاء ومحللين سياسيين سودانيين على تعريف قوات الدعم السريع باعتبارها إقطاعيةً تعمل داخل الدولة السودانية بأكملها؛ إقطاعيةً من حيث كيفية إدارتها كمجال من قبل إقطاعيين (عائلة دقلو)، وكيفية تشكيلها كتكتلٍ للعمليات العسكرية والسياسية والاقتصادية والإعلامية.
إن الحرب التي تخوضها قوات الدعم السريع، بدعمٍ من الإمارات وغيرها، ليست حرباً تقليدية، بل هي حربٌ لتفكيك الدولة السودانية وإخضاع الشعب السوداني. والإمارات لا تستهدف بها الهيمنة الاقتصادية فحسب؛ فقد كان باستطاعتها الحصول على ما تريده من موارد السودان بموافقة حلفائها أو أصدقائها أو عملائها في طبقة النخبة السودانية، من سياسيين ورجال أعمال وقادةٍ عسكريين ومثقفين. فمثلاً، لم تنقطع شحنات الذهب السوداني للإمارات طوال السنوات الماضية رغم كل الظروف المتقلبة، ووقعت الإمارات مع حكومة الأمر الواقع الانقلابية وأحد أهم رجال الأعمال السودانيين؛ أسامة داوود الذي منحته الحكومة الإماراتية مؤخراً جنسيتها، على اتفاقٍ لتطوير ميناء أبوعمامة الجديد على البحر الأحمر، باستثمارات تبلغ 6 مليار دولار، لتوضح للسكان المحليين والقوى السياسية أنها تستطيع خنق ميناء بورتسودان الذي عارضوا استيلاء الإمارات عليه.
وهي ليست حرباً ضد الإسلاميين ببساطة؛ فكما أن معظم قيادة الجيش ينتمون تنظيمياً أو يتحالفون مع حزب المؤتمر الوطني الخارج من عباءة الإخوان المسلمين، وماعونه الأوسع هو الحركة الإسلامية، فإن صفوف قيادات الدعم السريع ملأى بقياداتٍ من نظام البشير، بمن فيهم قادة أجهزته الأمنية سيئة السمعة، كما أن الإمارات تعاونت مع البشير وحكومته وحزب المؤتمر الوطني.
إنها في أحد أهم وجوهها حربٌ لحماية النظام الحاكم في الإمارات، إذ تعتبر الإمارات احتمالات نجاح أي تجربةٍ ديمقراطية أو ثورية في محيطها الإقليمي خطراً على نظامها وأمنها القومي، يبرر تدمير البلد مصدر هذه التجربة، حتى وإن أدى ذلك لتأخير هيمنة الإمارات واستغلالها الاقتصادي لها.
إنها حرب دق المسمار الأخير في نعش الربيع العربي، باعتباره رمزاً للتطلُّعات الديمقراطية لدى شعوب المنطقة العربية والأفريقية.
رغم مسؤولية MBS والسعودية المباشرة عن مقتل مئات الآلاف من اليمنيين الأبرياء، إلا أن قتل رجلٍ واحدٍ، هو الصحفي السعودي المقيم في الولايات المتحدة جمال خاشقجي وتقطيع جثته (بأوامر MBS) في مقر القنصلية السعودية في اسطنبول، هو ما دفعَ الرئيس بايدن أثناء حملته الانتخابية ليتعهَّد بجعل السعودية منبوذةً، وهو العهد الذي تراجعَ عنه بالطبع.
لكن لم يتحدث بايدن أو أي مسؤولٍ حكوميٍّ في أميركا والغرب عن الإمارات بلغةٍ مشابهةٍ، رغم مسؤوليتها المشتركة مع السعودية في مقتل كل أولئك اليمنيين، ورغم مسؤوليتها الأكبر في مقتل عشرات الآلاف من الأبرياء في ليبيا والسودان.
ويبدو أن طموحات MBZ في الهيمنة على المنطقة وإجادته اللعب بكروت الضغط على القوى الكبرى والإقليمية، تجعل احتمال ورود اسم الإمارات كفاعلٍ أساسيٍّ في حرب الدعم السريع على السودان أمراً بعيد المنال من قبل المجتمع الدولي، أو من قبل أي من الأطراف السودانية، بما فيها قيادة القوات المسلحة، التي لم تتطابق مصالحها ومخاوفها وأهدافها تاريخياً (ولا الآن بالضرورة) مع الشعب السوداني.
ولكن تاريخ الحروب والنزاعات التي تلعب فيها أطرافٌ أجنبيةٌ أدواراً بهذه الأهمية يُخبرنا أنه لخلق فرصٍ حقيقيةٍ لإنهائها، يجب مواجهة هذه الأطراف وإرغامها على وقف دعمها الحيوي للأطراف المحلية. حدث هذا عندما أرغمَ الضغط الشعبي الحكومتين الأميركية والبريطانية على تغيير مواقفهما الداعمة لنظام الأبارتايد في جنوب أفريقيا، والضغط عليه ليقبل بمسار التفاوض السلمي مع المؤتمر الوطني الأفريقي، وحدث أيضاً حين أوقفت الولايات المتحدة دعمها لإندونيسيا في احتلالها لتيمور الشرقية، مما أفسح المجال لاستقلالها عنها.
لهذه الأمثلة وغيرها، فإنه لخلق أي فرصةٍ جادةٍ لإيقاف الحرب، لا بد من تحميل الإمارات مسؤوليتها عنها، ودفعها أو الضغط عليها للعمل على إيقافها، وذلك يبدأ بكشف دورها على أوسع نطاق، وخلق رأيٍ عامٍّ شعبيٍّ عالميٍّ ضد هذا الدور، يُرغم الحكومات الحليفة للإمارات في الولايات المتحدة وأوروبا والمنظمات الدولية كالأمم المتحدة على مواجهة الفيل الإماراتي الأبيض في الغرفة.
1.لمزيد من التفاصيل يُنظَر: «Esfandiary, D. (2023). New Order in the Gulf: The Rise of the UAE. I.B. Tauris».
3.يُنظَر مقال «A Saudi Prince’s Quest to Remake the Middle East» لـ «Dexter Filkins»، المنشور في نيويوركر.4.يُنظَر مقال «The UAE is making a precarious shift in its Libya policy. Here’s why» لـ«Emadeddin Badi»، المنشور في «Atlantic Council».
5.يُنظَر تقرير هيومان رايتس ووتش: وُظِّفوا كحراس أمن في الإمارات، وخُدعوا للعمل في ليبيا المنكوبة بالنزاعات.
6.لمعلومات أكثر تفصيلية يمكن مراجعة ورقة سيما الدردري يعنوان «سياسة المساعدات الخليجية للسودان» المنشورة في موقع «معهد دول الخليج العربية في واشنطن».
7.منها مثلاً تقرير نيويورك تايمز «We’re at War: A Covert Social Media Campaign Boosts Military Rulers».
8.يُنظر مقال وول ستريت جورنال: «A U.S. Ally Promised to Send Aid to Sudan. It Sent Weapons Instead».
موقع الجمهورية