باربي ـ هايمر: هل ينقذ «الميمز» صناعة السينما المعاصرة؟/ محمد سامي الكيال
باتت الظاهرة المُسماة باربي – هايمر Barbenheimer حديث الصحافة العالمية مؤخراً، وأُنشأت لشرحها، حتى الآن، صفحات باثنتين وعشرين لغة على موقع «ويكيبيديا»، والمقصود بها، باختصار، ميل الناس حول العالم لمشاهدة فيلمين متناقضين أشد التناقض في وقت واحد، وهما فيلم «باربي» للمخرجة الأمريكية غريتا غيروغ، الذي يتحدّث عن الدمية البلاستيكية الشهيرة؛ وفيلم «أوبنهايمر»، للمخرج البريطاني – الأمريكي كريستوفر نولان، المخصص لسيرة حياة مدير مشروع إنتاج القنبلة النووية، التي استُخدمت مرتين ضد اليابان. هذه «المناسبة» شديدة الانتشار، اعتُبرت قمة البراعة التسويقية، فبدلاً من أسلوب «البرنامج المضاد» Counterprogramming، أي تقسيم المتلقين وشاري التذاكر بين فيلمين متعارضين، نجحت هوليوود، وصناعة الترفيه الأمريكية عموماً، في تطبيق مفهوم «الميزة المزدوجة» Doppelfeature، أي تحويل عوامل التناقض والاختلاف إلى فرصة يمكن استغلالها لجذب مزيد من الناس، الذين يرون فيها أمراً طريفاً. يمكنك اليوم شراء «تي – شيرت» مقسّم إلى لونين، أحدهما داكن، والثاني زهري مبهج، ومشاهدة الفيلمين في اليوم نفسه.
بعض المحللين والنقّاد رأوا أن الفيلمين ليسا متناقضين للدرجة التي يتخيّلها البعض، فحسب موقع «راديو ألمانيا الثقافي»، المموّل حكومياً، يعالج كل من «باربي» و»أوبنهايمر» اثنتين من أهم مشكلات وهموم العصر، اللتين تؤثران في حياتنا اليومية: قضايا النسوية والهيمنة الذكورية؛ وتهديد الحرب النووية، خاصة مع تصاعد «العدوانية الروسية»، الذكورية بالتأكيد، في أوكرانيا مؤخراً، وبالتالي فليس من المفاجئ أن يندفع الناس إلى صالات السينما لمشاهدة العملين معاً؛ فيما أكد نقّاد آخرون أن الظاهرة من التجليات الثقافية لـ»الأنثروبوسين»، أي العصر الجيولوجي، الذي بات البشر فيه المؤثرين الأهم في بيئة الكوكب. نحن نصنع أفلاماً نشهد فيها علاقات القوة والاضطهاد التي أنتجناها، وقدرتنا على تدمير الحياة في الأرض، ونرى كل هذا مسلّياً!
اللافت هو رد الفعل المقبل من اليابان، التي انتشر فيها هاشتاغ #NoBarbenheimer، الذي اعتبر أن مزج سحابة الانفجار النووي، من فيلم «أوبنهايمر»؛ مع الألوان الزاهية من فيلم «باربي»، استهانة بالآثار المأساوية للقنبلة النووية على اليابان، ويدلّ على عدم مسؤولية كبيرة من صانعي السينما الأمريكية، وهكذا اكتملت الدائرة، إذ بات للظاهرة بعض «المتضررين» منها، ممن أثيرت «حساسياتهم»، ما سينتج مزيداً من لفت الانتباه. ولكن هل ظاهرة باربي – هايمر بالفعل نموذجٌ عن العبقرية التسويقية لهوليوود وصناعة الترفيه الأمريكية؟ وعن قدرة السينما على معالجة أهم قضايا العصر، بأسلوب جذّاب، يجعل الذهاب لصالات العرض «مناسبة» من جديد؟ أم علينا التعمّق أكثر في «الأنثروبوسين» لفهم تعقيد هذه الظاهرة الثقافية؟
اقتصاد «الميمز»
ربما لم يكن بإمكان صناعة الترفيه الأمريكية الاستفادة من «الميزة المزدوجة» للفيلمين، أو لم تفكّر فيها أصلاً، لولا صانعي «الميمز» على مواقع التواصل الاجتماعي، الذين استغلّوا كل ما يتضمّنه تزامن الفيلمين من طرفة وتناقض، لصناعة آلاف الصور والمنشورات الساخرة، التي لاقت هوى المستخدمين، فشاركوها كثيراً حول العالم. يشير هذا إلى واحدة من أهم ظواهر ما يميل بعض المفكرين إلى تسميته بـ»الرأسمالية التواصلية»، إذ يُنتج ملايين البشر، المرتبطين بالشبكة على مدار الساعة، كمّاً هائلاً من العلامات والبيانات، التي يمكن شراؤها وتحليلها، ومن ثم الاستفادة منها. الناس يسخرون من هوليوود كثيراً هذه الفترة، إذن فلنحوّل هذه السخرية إلى فرصة للربح!
لفترة طويلة اعتُبر «الميمز» أسلوباً مستجدّاً للتعبير، حلّ محل فن الكاريكاتير، بكل ما يحتويه من إمكانيات التهكّم على السلطة، والتعليق على الأوضاع السياسية والثقافية. ووصل الأمر ببعض الصحافيين والناشطين الأمريكيين لاعتباره قادراً على «تفكيك علاقات القوة» و»السخرية من الأدوار الجندرية الراسخة»، إلا أن ذلك «الفن» لا ينتشر بحرية كاملة، بل يتعرّض لتقييد أكثر فعالية من المعايير الأيديولوجية، التي كانت تفرضها الجرائد والمنابر التقليدية، إذ يمكن لخوارزميات مواقع التواصل إقصاء كل المنشورات المخالفة لـ»قيم» معينة، وإتاحة المجال للمنشورات الآمنة، التي يمكنها إنتاج بيانات مفيدة.
هكذا يبدو اقتصاد «الميمز» إنتاجاً سيمولوجياً، يصعب فيه فصل الاقتصادي عن الأيديولوجي، ويمكن تحويل كل ما يتضمنه من إمكانيات التهكّم و»التفكيك»، إلى عوامل تعزز «السلطة» القائمة، وتعيد إنتاجها.
يتفق هذا مع مضمون الفيلمين إلى حد كبير، فمن خلال المعجزة نفسها، التي جعلت «باربي» رمزاً نسوياً، وهي الدمية البلاستيكية الأمريكية، ذات الأبعاد الجسدية/الطبقية، المُقصية لأغلب النساء؛ وحوّلت مسألة إبادة عشرات آلاف المدنيين اليابانيين، إلى مجرد «سؤال أخلاقي»، يتردد في الذات الفردية لأوبنهايمر، صار بالإمكان تحويل سخرية الناس، من المضاربة والتنافس بين شركتي «يونفيرسال» و»ورنر براذرز»، منتجتي الفيلمين، إلى فرصة ربح لكليهما. لم يكن من المهم حقاً اتفاق فيلم «باربي» مع المفاهيم المتعددة لتيارات النسوية المعاصرة، بل يكفي أن يدّعي ذلك، كي يثير جدلاً كبيراً في الأوساط النسوية، بين مؤيدات ومعارضات، ما سيزيد من «العلامات» المتداولة عن الفيلم؛ أما «أوبنهايمر»، فكان سيستفيد، عبر ادعائه لـ»التعقيد» في طرح مسألته التاريخية والأخلاقية، من النزعة المعادية لأمريكا، والمؤيدة لها، كما سيستفيد من المنبهرين بمخرجه كريستوفر نولان، إلا أن «التريند» وصل إلى مرحلة جديدة، بعد أن ربط الناس بين الفيلمين، وحوّلوا «أهم القضايا المعاصرة» إلى مجرد نكتة وملاحقة للموجة السائدة. ليست هذه عبقرية تسويقية، بل قراءة، بأثر رجعي، لما خلّفه البشر من بيانات، وربما لن تنجح هوليوود بتكرار «الميزة المزدوجة» هذه، بل ستبتذلها بشدة. ويمكن، منذ الآن، توقّع محاولات عدة لإطلاق حملات تسويقية جديدة، عن أفلام متناقضة المضمون والأجواء، ولكنها ستفشل على الأغلب، إلى أن ينجح محللو البيانات في اكتشاف ميل جديد عند الناس، يمكن تحويله إلى أرباح.
وبعيداً عن التسويق والبيانات وفنونهما، فإن «النكتة» بحد ذاتها تستحق التأمّل، كيف أمكن بالفعل أن تتحوّل المعايير البلاستيكية، التي اضطهدت ملايين النساء؛ والسلاح الذي يهدد البشرية، خاصة في أيام تشهد حرباً بين روسيا والناتو، إلى أمور يمكن أخذها بكل هذه الخفّة؟
البروباغندا الجديدة
لم تُؤخذ السينما، وغيرها من فنون الثقافة الجماهيرية، بخفّة عبر تاريخها. في مطلع القرن الماضي كانت ميداناً لصراع سياسي عنيف، أبطاله البلاشفة والفاشيون والمحافظون والليبراليون، ولعبت ضرورات «البروباغندا» دوراً كبيراً في تطوير الفن السينمائي بأكمله. ومن الموجة السوفيتية، مروراً بالتعبيرية الألمانية والمستقبلية الإيطالية، وصولاً إلى كوميديا تشارلي شابلن، كانت السينما «ملحمة الأزمنة الحديثة»، لأن القدرة على التحكّم بالعلاقة بين الصورة والحركة/الزمن، التي تشكّل جوهر الفن السينمائي، أتاحت لفاعلين اجتماعيين متعددين، فرصة غير مسبوقة لتقديم خطاب متكامل عن العالم، والذات الفردية والجماعية، كانت الصور المتحرّكة علامات دالة على أنماط متعددة، وغالباً متضاربة، من «الحقيقة». اليوم لا أحد يأخذ صور السينما، والعلامات الثقافية عموماً على محمل الجد، ولا قيمة لها إذا لم تكن قابلة للتحوّل إلى مثيرات عصبية، يمكن تداولها لفترة محدودة. وهكذا فإن قضايا النسوية، وأخلاق العلم، والتاريخ الأمريكي، لا تُقدم أساساً لإيصال تصوّرات جديدة عن العالم، بل لضمان استمرار عجلة إنتاج العلامات اللافتة للانتباه. ربما لم ينته دور البروباغندا حتى اليوم، ولكن ما اختلف هو «الأزمنة الحديثة» نفسها. الأيديولوجيا لم تعد مجرد تأثير على المستوى الواعي وغير الواعي، بل سلعة بحد ذاتها، ننتجها عبر تصميم «الميمز» ومشاركته؛ ونشتريها، على هيئة فستان زهري، أو قميص يحمل أجواءً «نولانية»، مع «عروض خاصة» لمنتجات تحمل السمتين معاً. أما تأثيرها فينتهي بمجرد أن نرمي تلك السلع، مع انتهاء «التريند».
إحياء للسينما؟
اعتبر كثيرون أن نجاح الفيلمين، بهذه الطريقة، بشرى باستمرار السينما، رغم كل أزماتها ومنافسيها، من وسائط عرض جديدة. وبالفعل، عوّدنا الفن السينمائي على نجاحه في الاستمرار، في كل مرة يتمّ فيها إعلان اقتراب موته. رغم هذا فلا تبدو ظاهرة باربي – هايمر متعلّقة بإنجاز سينمائي جديد، بقدر ما ترتبط بعوامل خارج الفن والصناعة نفسيهما، إذ إنها أشبه بـ»تريندات» سادت قبل سنوات قليلة، مثل لعبة «بوكيمون غو»، التي دفعت كثيرين للخروج من بيوتهم، لالتقاط وحوش خرافية كرتونية من الشوارع، ثم نسي الجميع هذا النمط كله من الألعاب، يصعب البناء على مثل هذه الظواهر، للحديث عن «عودة» فعلية لأي إنتاج ثقافي. وسواءً قرر الناس العودة إلى قاعات السينما أو هجرها، فهم في النهاية ليسوا «مغيّبين» أو مجرد ضحايا للتلاعب، بل منتجون فعليون لكل «التريندات»، وربما يكون وعيهم لموقعهم الإنتاجي هذا بداية لتغيير ما، فمَنْ يمتلك القوة، لتوجيه ماكينات الدعاية والتسويق في عدد من أضخم شركات العالم، يمكنه بالتأكيد أن يصنع نوعاً آخر من الموجات الثقافية والاجتماعية، خاصة أن رفاهية الموقف الساخر و»الخفيف» من الحياة تتراجع بالتدريج، بالنسبة لفئات كثيرة، تدرك اليوم مدى ثقل وصلابة الواقع.
كاتب سوري
القدس العربي