نقاش المصير… كيف خسر المثقفون ذاتهم/ برهان غليون
أثار كتاب “سؤال المصير … قرنان من صراع العرب من أجل السيادة والحرية” (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، الدوحة، 2023)، لكاتب هذه المقالة، ردود أفعال وفتح نقاشات كثيرة طرحت مسائل إضافية مهمة لم يكن من الممكن للكتاب أن يتناولها بالتفصيل، ومنها ما أشار إليه ياسين الحاج صالح في مراجعته للكتاب في مقالين نشرا في صحيفة القدس العربي (12 و26/ 7/ 2023) وما ذكره أصدقاء آخرون في مقالات أخرى، وهذا هو بالضبط الهدف من تحريره. وحتى يأخذ هذا النقاش المطلوب والمنشود حقّه رأيت من المناسب، قبل الخوض في هذه المسائل، توضيح الإشكالية الكبرى التي طرحها والغاية التي أراد الوصول إليها.
كما يبدو لي اليوم، ختمت الثورات العربية (2011) دورة كاملة من تاريخ العرب الحديث، سيطرت عليها إشكالية التقدّم والحداثة، وطغت على تفكير مثقّفيها مفاهيم وطروحات ومناهج تفكير وبحث أصبح من الضروري مراجعتها، ولن يكون من الممكن إعادة النظر في المسائل التفصيلية الاجتماعية والسياسية والأيديولوجية، من دون البحث في هذه الإشكالية والانتقال في الفكر العربي من نقد الأيديولوجيا إلى نقد الواقع، ومن البحث في الماضي عن مفاتيح فهمه إلى دراسة الحاضر، ومن التركيز على الأيديولوجيا والهوية إلى المعرفة والعلوم الإنسانية والاجتماعية.
من التقدّم إلى الخراب: عندما يصبح الشعب هو المشكلة
المسألة التي تشكل وينبغي أن تشكّل محور النقاش اليوم في الساحة الفكرية العربية هي فهم الحصيلة المأساوية لقرنين من جهود التنمية والاستثمار في مشاريع الحداثة والتقدّم في المجتمعات العربية أو أغلبها، وذلك حتى بالمقارنة مع مجتمعات الجنوب الأفريقية التي عانت من أسوأ أنواع الاستعمار في الحقبة ذاتها، وبعيدا جدا عما حقّقته معظم مجتمعات الجنوب آسيوية أو الأميركية اللاتينية. وذلك سواء تعلق الأمر ببناء اقتصادٍ حديثٍ منتج، أو دولة وطنية حتى لو لم تكن ديمقراطية، أو ثقافة حيّة تقدّم للجماعات إطارا للتواصل والتفاهم والتعاون والسلام، وتعطي لحياة الأفراد والجماعات معنىً وحدّا أدنى من الشعور بالجدوى والاعتبار والسعادة. هذا الإخفاق الخطير والمأساوي بنتائجه الذي وصلت إليه هذه المجتمعات، أو بالأحرى القسم الأكبر منها، وبشكل خاص تلك التي قامت فيها حركات جمهورية وسياسية أكثر راديكالية من أجل التغيير واللحاق بالعصر، بمقدار ما يثير اليوم من تخبّط واضطراب وثورات في أكثر من مكان يترك الشعوب في الفراغ، ويغلق في وجهها طريق الأمل، ويدفعها إلى اليأس والقنوط من المستقبل والاستدارة بأذهان أبنائها ومشاعرهم إلى الماضي، علّها تستمد منه بعض المدد الروحي والأيديولوجي الذي يسكن آلامها.
كيف حصل ذلك ولماذا ومن المسؤول؟ هذا هو السؤال الأكبر الذي يطرح علينا نفسه اليوم، ويشكّل، أو ينبغي أن يشكّل محور نقاشاتنا. وهذا موضوع كتاب “سؤال المصير …” وغايته. وليس من الممكن قول أي جديد في مسائل الثورة والديمقراطية والإسلام في تحولاته الراهنة، والدور الذي تلعبه القوى الإسلاموية وبناء الهوية والذاتية، بمعزل عن هذه المسألة الرئيسية وخارج سياقها.
خلال نصف القرن الماضي، طوّر المثقفون، وأعني القادة منهم بالأساس، طروحاتٍ أصبحت في ذهن قاعدتهم الاجتماعية، أي أتباعهم من المثقفين والمتعاملين بالشؤون الأيديولوجية والسياسية، طروحات تحوّلت إلى بديهيات، تفيد بأن المسؤول عن إخفاق مشروع الحداثة الذي استثمرت فيه الشعوب العربية مواردها المادية والمعنوية هو الطبيعة الجامدة والسحرية أو الأسطورية أو الرومانسية للثقافة العربية، والتي تمثلت بشكلٍ خاص بالتراث الديني الذي يسيطر عليها، وما أورثه للفرد العربي من عقل متحجّر وجامد، بل من غياب التفكير العقلاني والتاريخاني، أي المتفاعل مع الأحداث، وجعله يخفق في فهم الحداثة وتمثل قيمها.
وهكذا بنى المثقفون، والمفكرون البارزون منهم، أجندة فكرية لقلب الطاولة على هذه العقلية التراثية اللاعقلانية السائدة عند الجمهور، غايتها تزويد الذهن العربي بمنطق العقل الذي ينقصه، ويحتاج إليه للتفكير السليم والناجع بشؤونه ومستقبله، فصبّوا جهدهم على نقد التراث وإبراز تعارضه مع العقل وحتمية الأخذ بأيديولوجيا جديدة أصبح دعاتها يسمّونها التنويرية نسبة لعصر التنوير الأوروبي في القرن 18 الذي اعتبروا أنه المؤسّس الرئيس للحداثة وقيم العقل والحرية.
ركّز بعضهم على تطهير الفكر التراثي من اللاعقلانية الساكنة فيه، واستعادة ما صلح منه منصّة للوصول إلى العقل الحديث، كما فعل محمد عابد الجابري. واعتقد بعضهم الآخر، وفي مقدمتهم عبد الله العروي، أن القطع الكامل مع التراث شرط استيعاب منطق العقل الحديث، وتمثل قيمه بكل ما فيه من محاسن وعيوب، حتى تستقيم أحوالنا مع باقي مجتمعات العالم. وأنه لا مهرب من الاختيار بين الماهية والوجود، أي بين التراث والحداثة، فإما هذا أو ذاك، ولا يمكن الجمع بينهما.
نجم عن هذه الأجندة الفكرية الجديدة التي خلفت وراءها أجندة الثورات القومية والاشتراكية المجهضة، بعد انتكاساتٍ متراكمةٍ عسكرية وصناعية واجتماعية، أن المشكلة كامنة في الجمهور الشعبي العاجز عن التحرّر من أوهام “الماضي المجيد”، وإن تجاوز عقبته لا تكون إلا بالرهان التاريخي على أمرين: الأول، تكوين نخبة حديثة تتمثل منطق العقل والعلم المرتبط به متحرّرة من ضغوط المجتمع وأوهامه وثقافته، هي وحدها القادرة على انتشاله من انحطاطه الروحي والفكري وخرافاته. الثاني، تعزيز شرعية الدولة وسلطتها بوصفها الأداة الرئيسة للتحديث وإعادة بناء المجتمع وتغيير جلده القديم البالي، وإبداع هوية وطنية جديدة حداثية، بعيدة عن أوهام الجماعة الدينية والعصبيات القبلية أو الطائفية أو المناطقية.
كما تشير إليه الوقائع، وأكّدته انتفاضات الربيع العربي الشعبية، ثم تفريغها من مضمونها بمشاركة النخب المثقفة والاجتماعية الحديثة ذاتها، لم تحقّق هذه الأجندة التحديثية بعد نصف قرن ونيف من تطبيقها أيا من أهدافها. بل إنها أنتجت تماما عكس ما كانت تطمح إليه أو تعتقد أنها تريد تحقيقه، فبدل أن تعمل على تعزيز دور الدولة في الحياة الاجتماعية، وهو لا يحصل إلا بمقدار ما تتحوّل إلى مصدر للحقوق المتساوية وضامن لتطبيقها، أي مصدر التنظيم الذاتي للمجتمعات، تحوّلت إلى قوة قهر مادي وأيديولوجيا خارجية، وظيفتها الرئيسة نزع السيادة عن الفرد والشعب وتبرير انتهاك حقوقهما، والعمل بمثابة وكالة للقوى الكبرى الإقليمية والدولية. وقد أنتجت، في أحسن الأحوال، طغمة حاكمة استبدّت بها واعتبرتها ملكيتها الخاصة، وأصبحت تستخدمها، بما في ذلك الدستور والقانون للسيطرة والقهر والإخضاع لعموم جمهورها. وفي حالات عديدة، تحوّلت النظم السياسية المتماهية معها إلى صاعق لتفجير المجتمعات وإشعال الحروب والنزاعات الأهلية واللعب على الأحقاد والتمايزات الطائفية والقبلية والمناطقية لتحييد الشعوب، والتمكّن من إخضاعها.
وبدل أن تنشئ نخبة تضع مواهبها وتفكيرها في خدمة المجتمع الذي تدّعي إصلاحه وتحديثه دينيا وثقافيا، أنجبت نخبة مارقة ومتمرّدة عليه، ترى حريتها في تقييد حرّياته وسيادتها في خضوعه وتتطلع إلى محاكاة النخب الأوروبية، لتميز نفسها عن العامّة المفتقرة لهوية وذات وإرادة، والمتماهية مع كل ما فاته الزمن، وأصبح من مخلفات الماضي وأشكال انحطاطه الدينية والقبلية والعائلية البالية.
وبدل أن يساعد تطبيق هذه الأجندة على العبور بالجمهور الواسع من الأمية إلى المعرفة العلمية، ومن ثقافة التقليد والاقتداء إلى ثقافة التعبير الحر عن الرأي والتفكير العقلي والاهتمام بالشؤون العامة، دفع به إلى الفراغ الروحي والعاطفي والفكري، كي تتلقفه هيئات دينية مترهّلة، مفصولة عن الواقع، قبل أن تنتزعها منها “نخبة مضادّة” حديثة، جعلت من الإيمان والإرث الديني رصيدها الأبرز في صراعها مع الطغم الحاكمة، وفي تأسيس شرعية لدولة إسلامية متصوّرة بديلة. وليست هذه الدولة المنشودة إلا الوجه الآخر لدولة الحداثة الرثّة القائمة ونظيرها.
هكذا خسرنا معركة الحداثة على جميع مستوياتها: الدولة المنتجة للمواطنة، أي الحريات والحقوق، والنخبة الفكرية المؤثّرة في الرأي العام التي توجّه الممارسة العامة، وتنور الجمهور في خياراته، وتساهم في النقاش حول ما يطرح عليه من مشكلات وتحدّيات، وتساهم، من وراء ذلك، في بلورة عناصر العقد الاجتماعي. صارت دولنا مزارع إقطاعية، ونخبنا شرائح أرستقراطية رثّة تعتقد أنها بدرجاتها العلمية أو علاقتها بالسلطة تؤكّد تميّزها ورقيّها وحداثتها ضد عامة الشعب النكرة التي تستحقّ معاناتها، طالما أنها ترفض التجرّد عن اعتقاداتها الدينية الخرافية وعصبياتها الأهلية، وهي كل ما بقي لها، للاعتقاد أنها لم تخسر انتماءها إلى جنس الإنسانية وعالم المدنية والحضارة. ومجتمع مفكّك ومتنازع منطو على روابطه الموروثة، من العائلة إلى العشيرة إلى الطائفة، لتأمين ما أخفقت في تقديمه الدولة المخطوفة من تكافل وتواصل ومبادئ موجّهة وبعض السكينة وقليل من الشعور بالذاتية والتحصّن وراءها ما أمكن ضد الاعتداءات الخارجية.
وبدل تعميم مبادئ التفكير العقلاني، احتلت ساحة الوعي الجمعي أيديولوجية إسلاموية متمرّدة على رجال الدين وعلى الدولة والنخبة الحديثة معا، تنوّعت أشكالها ونماذجها، لا تختلف، في علاقتها مع الجمهور، عن النخبة المثقفة، إلا في تعزيز الشعور لديه بأن الحلّ ليس في هذه الدنيا وهذه الدولة، وإنما في مقاومتها.
وبدل التقدّم في اتجاه الديمقراطية، أصبحت الوصاية على الجمهور عقيدة رسمية، وصار الصراع بين من يملك الشرعية لفرض هذه الوصاية الموضوع الرئيسي للفكر والممارسة السياسية في مجتمعاتٍ تتراجع باطراد على جميع المستويات الإنتاجية والسياسية والثقافية والأيديولوجية، فلا تقدّم صناعيا أو زراعيا أو تقنيا أو علميا أو سياسيا أو ثقافيا أو إنسانيا، وإنما تجذّر للمأزق التاريخي أو الانسداد المزمن مع الاستعداد الدائم للانفجار.
ضلال الفكر: في صناعة الأوهام وتصديقها
ليس لهذه الفرضية السائدة التي تُرجع إخفاق العرب في التقدّم على طريق الحداثة الناجزة إلى طبيعة ثقافتهم وعقائدهم الدينية أو المدنية أي قسط من الواقعية والعقلانية، إنما هي وسيلة للتهرّب من المراجعة الذاتية، والتغطية على فشل النخبة المثقفة في لعب أي دور في مصير شعوبها ومجتمعاتها خلال نصف القرن الماضي الذي صنعته، في أغلب الأحيان، الطغم العسكرية والأجهزة الأمنية والأوليغارشيات والمافيات المحلية تحت إشراف القوى الدولية. ويظهر كتاب “سؤال المصير …” أن التراث، مهما كان، ولأي شعب، بصرف النظر عن طبيعته وتأخّره الأيديولوجي والمعرفي، لم يلعب أي دور فاعل في توجيه دفّة الأحداث التاريخية، وفي الوصول إلى هذه النتائج والأوضاع. وجميع الثورات التي قامت ضد الاستعمار، بتوجيه منه في الجزائر وليبيا والسودان، خسرت رهاناتها. وهو لم يؤسّس الواقع السياسي والاقتصادي والأيديولوجي الذي وجه الدولة والنخب السائدة من ذلك الوقت. ولم يلهم سياسات النخب المثقفّة والسياسية خياراتها. ولم يتحكّم بموارد البلاد المادية والبشرية.
ما ثوّر المجتمعات وقلبها رأسا على عقب هي أيديولوجية الحداثة وقيمها وأفكارها التي انتشرت بموازاة الصعود التاريخي والحضاري الكبير للدول الأوروبية، وتقديمها نموذجا للعيش وتنظيم المجتمع وعملية الإنتاج والدولة، جبّ، بالمعنى الحرفي للكلمة، كل ما سبقه من نماذج، وجعلها فارغة من الفاعلية والصدقية والمعنى. وهي التي ألهمت النخب المحلية، التي غالبا ما تلقّت العلم في أوروبا نفسها، قبل الحقبة الاستعمارية وبعدها، أفكارها القائدة، والتي حوّلتها إلى نخب سائدة جديدة ومكّنتها من الوصول إلى السلطة ونيل الشعبية، وأولها أفكار القومية والوطنية وإقامة الدولة المستقلة وممارسة السياسة بوصفها نشاطا عموميا، وليس حكرا على سلطان أو ملكٍ مطلق. ونشرت في موازة ذلك أفكار الحرية وسلطة القانون والدستور والإرادة الجمعية والشعب والمواطنة والمساواة القانونية والأخلاقية، وفي السياق ذاته. كما أدخلتها في منظومة الرأسمالية والصناعة والتقنية الحديثة والتعليم الإجباري والمجاني والبحث العلمي، وغير ذلك من التجديدات التي غيّرت في العمق وجه النظم الاجتماعية والمنظومة الدولية. وهذه الأفكار والتحوّلات الحديثة هي التي زعزعت العقول، وهزّت الأفئدة وأسقطت الإمبراطوريات العريقة، وفرضت على كل صاحب سلطة أو مصلحة أو مهنة، بما فيها الدينية، مراجعة أفكاره وعقائده للتكيّف مع الشرط الحضاري الجديد، وتجنب السقوط في الهاوية، والخروج من التاريخ. وبفضل ما تمثّلته من القيم والأفكار الحديثة، دخلت النخب الجديدة معترك السياسة، واكتسبت مواقعها في الساحتين الدولية والمحلية، ومنها لا تزال تستمد شرعية قهرها شعوبها واستمرارها في الحكم ورفضها الاحتكام للرأي العام والقبول بنتائج الاقتراع الديمقراطي معيارا للحكم وتبوء مركز السلطة والقيادة وتداولها. وهي التي تتحمّل المسؤولية الرئيسية عما وصلت إليه بلادها ومجتمعاتها من اختناقات مآزق تاريخية.
لكن، لا ينبغي التوقف عند ذلك لفهم ما حصل. ففي ما وراء مسألة المسؤولية الفكرية والسياسية والأخلاقية ليس الخراب الذي تشهده أكثر المجتمعات العربية، ومن ورائه إخفاق عملية التحديث الفعلي، أي الذي يتجاوز المظهر، إلا جزءا من الخراب الذي تشهده أكثر مجتمعات الجنوب، والذي يقود إلى الحروب والنزاعات وانحلال المجتمعات ذاته. وسببُه الرئيس خسارة هذه الشعوب والمجتمعات معركة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وفي سياقها الحداثة السياسية والفكرية. وليس لهذه الخسارة علاقة بتراث الشعوب الإسلامية أو المسيحية أو البوذية أو الوثنية، وإنما هي حاصل تقاطع سياسات دولية اصطلح على تسميتها إمبريالية، غايتها ضمان الدول الأقوى السيطرة على الموارد العالمية والهيمنة على خيارات الحكومات الضعيفة وخياراتها وتجييرها لخدمة مصالحها الاستراتيجية أو الاقتصادية، وسياسات نخب محلية تعاقبت على الحكم، وأخفقت في سعيها إلى إيجاد الشروط اللازمة لإطلاق تنمية حضارية مستقلّة نسبيا، أي نابعة من حاجات شعوبها وبلدانها وإمكاناتهما، فوراء كارثة التخلف الذي يضرب ثلاثة أرباع المعمورة بدرجة أو أخرى، تقف عوامل متداخلة جيو سياسية وجيو ثقافية، ونزاعات وحروب خارجية وداخلية اجتماعية وسياسية وفكرية معا.
وكما أن الوعي مهما كان عقلانيا لا يمكن أن يلغي مفاعيل العوامل الأخرى، بما فيها المناخ والكوارث البيئية، فهو لا يمكن أن يتقدّم أو يتغيّر من خارج الشروط المادية التي تحكم حياة الشعوب وإمكاناتها وفرص تحرّرها وتقدّمها. ما يعني أن الحداثة لا تختصر في الفكرة التي نصنعها عنها مهما كانت، خاطئة أو صائبة، ولكنها معركة مادّية كبرى تتعلق بتغيير هذه الشروط واستيعاب نتائج الثورات الثلاث الكبرى التي غيّرت مجرى تاريخ البشرية، وأنتجت الحداثة المادية والعقلية والأخلاقية، ولا تزال تعيد إنتاجها في كل مجتمع: الثورة الصناعية التي أعادت بناء نظم الإنتاج، وفي مقدمها إنتاج الثروة المادية، والثورة السياسية التي أسّست للدولة/ الأمة الحديثة وللديمقراطية، والثورة الثقافية التي لم تقلب مناهج البحث العلمي ودراسة الواقع فحسب، وإنما قلبت نظم الفكر الأيديولوجية ومنظومات القيم وتطلّعات الأفراد لتجعل من احترام الفرد وتعليمه والعناية بتفتح مواهبه وإمكاناته مصدر سعادةٍ دنيوية ونفسية.
وخسارة الثورة الصناعية هي ما يجعل هذه المجتمعات تعيش اليوم في شروط قاسية من انتشار البطالة والفقر والتفاوت الطبقي العميق. وخسارة الثورة السياسية، أي بناء الدولة الأمة، التي تضمن سيادة شعوبها وتتقاسم سيادتها مع كل فردٍ مواطن فيها، هي التي تفسّر انفصال الدولة عن شعبها وأن تختطفها أقلية من أبنائها وتتغوّل عليهم. وخسارة الثورة الثقافية، وما تعنيه من تقديس الحياة الإنسانية والحق في الحرية والمساواة والمشاركة الإيجابية وتداول الأفكار والمعلومات والنقد والتصحيح والمكاشفة النظرية والمحاسبة والمساءلة الذاتية والأخلاقية، هي السبب في استلاب النخبة، المنبثقة مع ذلك من الشعب، وتثبت وعيها على المحاكاة والتقليد وتكرار ما يقوله الآخرون وتبنّيه، مثل ما أنها السبب في ضياع الجمهور وعجزه عن فهم ما يدور من حوله، وسبب ما يعانيه من استغلال فاحش وقهر سياسي وانتهاك مُزمن للحقوق واستلاب للحاضر والماضي. وفي النهاية، حتمية التكيف مع البؤس والتعاسة والتسليم بالأمر الواقع. وذكرتُ كلمة الخسارة وليس الفشل، لأشير إلى أن الشعوب جميعا، بعكس ما تركّز عليه أيديولوجية الحداثة الرثّة، لم تتوقف منذ أدرك بعض مفكّريها وحكامها مخاطر الصعود الحاسم للغرب في موازين القوة والصناعة والتقنية، عن محاولات استدراك تأخّرهم، وطرق باب الحداثة. وقد سبق العرب في ذلك معظم مجتمعات العالم الأخرى.
استعادة العقل: تغيير الأولويات ومراجعة الإشكالات
يتحمّل المثقفون جزءا كبيرا من المسؤولية في صياغة الأولويات وصناعة الأوهام التي أدّت إلى إخفاق الحركة التحرّرية التحديثية والديمقراطية، فقد شرعنت الأيديولوجية الجديدة العقلانوية والتنويروية، وأقصد هنا التنقيص من قيمة هذه الألفاظ، تحييد الشعوب وتهميشها، وحرّرت الطغم الحاكمة من أي ضغط وأطلقت يدها بوصفها الخيار الأكثر عقلانية وحداثة من عموم الشعب المريض بالماضوية والجهل. وورّطت النخب المثقفة، وجعلتها تستهلك طاقاتها في معركةٍ لا ضرورة لها ولا فائدة منها سوى حرف الأنظار عن الواقع المادّي، أي عن بؤس السياسات الاقتصادية والاجتماعية، وعن عملية تحويل الدولة من أقلية انقلابية إلى آلة حربٍ ضد شعبها ذاته، وعن إمكانية تفهم النكوص الثقافي الفكري والأيديولوجي للجمهور الواسع، والسعي إلى معالجته. وهذا ما حوّل النخبة المثقفة الحديثة إلى فقاعة صغيرة طافية على السطح، تعيش في عالمها الخاص، وتنتج لنفسها وتستهلك وحدها إنتاجها، من دون أن يكون لها أي تأثير يذكر على المجتمع. وكل ما نجحت في تحقيقه أنها حيّدت أصحابها سياسيا ووضعتهم في مواجهة مع شعوبهم وضدها بشبهة تماهي هذه الشعوب مع الأيديولوجيات الدينية القروسطوية. وفي المناسبة ذاتها، حرمت هذه الشعوب من مساهمتها، وسدّت آخر نافذة يمكن أن يأتي منها التغيير، وهي القوة الفكرية والأيديولوجية. ولهذا، بدل أن يكون المثقفون عونا للشعب في مقاومته نُظم التمييز والقهر والتحقير لإفقاده ثقته بنفسه، فاقمت من مأزق الحداثة الرثة أو الكسيحة التي لا تشكّل هذه الأيديولوجية إلا أحد شروط إعادة إنتاجها. هكذا ما ظهر في البداية وكأنه راديكالية عقلانية لصالح الحداثة أصبح، كما بيّنت العقود الخمسة الماضية، أكبر أعدائها.
ولتبرير خطئهم الكارثي، ورفضهم مراجعة طروحاتهم الضعيفة والفاسدة، تلقفوا أسطورة أن الإسلامويين اختطفوا الثورة الشعبية وقادوها إلى الفشل. والحال أنهم، حتى بعد سقوط الإسلامويين وانهيار شعبيتهم، لم يستطع المثقفون العلمانويون أن يحصدوا شيئا من فتات الجمهور الذي أحبطته بالفعل سياسات خصومهم. ولا يزال أغلب المثقفين السوريين يصرّون على أن المجلس الوطني، الذي كان الفرصة الوحيدة والأخيرة، بعد محاولات عديدة فاشلة قادها بالفعل الإسلامويون، لانخراط المثقفين في قيادة الثورة وتجنيبها الفوضى، كان من صناعة الإسلاميين وواجهة لهم. ولو فعلوا لجنّبوا الثورة الضياع وأجبروا الإسلامويين على احترام تعهداتهم، ولساهموا في توحيد الصف الوطني الديمقراطي، ووضع حد لحرب داحس والغبراء الإسلاموية العلمانوية التي كانت ولا تزال العقبة الرئيسية أمام بناء قطب ديمقراطي شعبي فاعل.
ليست أسطورة العقل العربي أو الإسلامي الجامد المقيم خارج التاريخ بسبب ما سمّيت الروح السامية أو شمولية الديانة الإسلامية وخصوصية فقهها، إلا أحد أكبر أوهام هذه الأيديولوجية الاستعلائية والعنصرية التي طوّرها بعض مثقفي العقود الماضية، ليبرّروا فشلهم ويغطّوا على عزلتهم الاجتماعية. لا يوجد نصّ يتحكّم بمجتمعات إلى الأبد. ببساطةٍ لأن الحياة ومطالبها والحاجة لإعطائها معنىً أقوى من أي نص. والذين تبنّوا الشيوعية في أكثر الثقافات محافظة وانعزالا، وهي الثقافة الصينية التقليدية، هم من قاموا بأكبر ثورة تحديثية في القرن الماضي.
التراث أو العقل الجمعي الجامد أو المفوت أو المسحور الذي يحول دون وصول آثار الحداثة والتقدّم هو اختراع وخرافة لا وجود لهما في الواقع الحي. ولا يقود الاعتقاد بوجوده إلا إلى ما قادت إليه الثورة الثقافية الصينية التي أرادت أن تمحو الماضي وتراثه، فراح ضحية راديكاليّتها المفرطة عشرات ملايين الصينيين من بينهم أهم الأطر العلمية والتقنية. وها هي الصين تعود إلى الاستثمار في الكنفوشيوسية لتعزّز هويتها الوطنية. وهذا ما حصل أخيرا للأتاتوركية.
الثورة الثقافية الحقيقية هي: حرية الرأي والاعتقاد واحترام حاجات الفرد المادية والنفسية وحقوقه الإنسانية. وأدوات هذه الثورة الحقيقية تعميم التعليم وتحديث مناهجه ودعم النشاطات الأدبية والفكرية والفنية وتشجيع الإبداع والبحث العلمي والرياضات بمختلف أشكالها. وهذا هو الذي يقضي على أي استنقاع فكري يحصل نتيجة القمع والاستبداد السياسي والإغلاق الفكري المديد. وأيديولوجية التنوير المزيّف الراهنة التي يتبنّاها معظم المثقفين لتبرير الاستبداد الفكري وتثبيت صورة سلبية للشعب تبرّر عزله وتجاهل حقوقه ومعاملته معاملة القاصرين وشرعنة إقصائه وتحييده سياسيا وأخلاقيا هي النقيض الكامل لمبدأ التنوير الأصلي وفلسفته، فالمفهوم التنويري للعقل يفترض وجود العقل ملكةً مشتركةً ومتماثلة بين البشر تؤسّس لمساواتهم في الحقوق والواجبات ومشاركتهم في بناء نظمهم الاجتماعية بحيث يحل التفاوض والحوار والعقد الاجتماعي محل الفوضى وسوء التفاهم والخلاف والاقتتال، والاحتكام إلى معايير العقل والمنطق المشتركة بدل الاحتكام للسلاح، ومن ثم إحلال السلام والوفاق بدل النزاع والحرب. وكل ما يحتاجه الأمر ترقية هذه الملكة المشتركة وتفعيلها بالتعليم والتأهيل والنقاش الفكري والبحث وإفساح المجال أمام تداول الرأي وإقرار مبدأ تداول السلطة، بصرف النظر عن أصل المرشّح أو دينه أو عقيدته وشرطه العلمي والاجتماعي، وفي المحصلة زيادة فرص التقدّم وتوفير شروط الحرية والسعادة والكرامة للجميع.
وعلى هذه الفرضية، بنيت الديمقراطية التي تساوي بين أصوات الجميع، الغني والفقير، والمتعلم والأمي. أما الإيمان بوجود عقل متجمّد أو مفوت او فاسد لدى أي شعب أو جماعة فهو يعني حتما استبعادها من ممارسة حقوقها أو التمتع بالحريات والحقوق ذاتها وحتمية التمييز ضدها وفرض الوصاية عليها، وهو دعوة مباشرة إلى إقصائها وتهميشها، كما كان يحصل في النظم الأرستقراطية القرسطوية التي ما كانت تتصوّر أن أي إنسان قادر على التعلم واستيعاب المعرفة والمشاركة في التفكير وإبداء الرأي، فما بالك في الحكم انتخابا وترشيحا لمناصب المسؤولية. لا يعني الاعتراف بالعقل للجميع أن الجميع على درجة واحدة من المعرفة، ولا أن وجود العقل يتنافى مع وجود اعتقادات خاطئة والإيمان بالخرافات، فهذه جميعا موجودة حتى عند العلماء، لكنه يعني الاعتراف بحقوق واحدة للبشر، إيمانا بقدرتهم جميعا على التعلم ومراجعة أخطائهم وتطوير إمكانياتهم الفكرية. وهذا ما يجعل منهم بشرا، أي أناس عقلاء وعاقلون، وقابلون لتطوير ملكاتهم النقدية والمشاركة بالتساوي في إدارة شؤونهم.
وفي المقابل، عندما يتحوّل العقل وقيم العقلانية إلى ملكية خاصة بفئة اجتماعية دون الآخرين، يصبح رديفا لسلطةٍ وهيمنة وتمييز اجتماعي، ويتحول أيضا إلى ما يشبه الديانة الخاصة، وإلى ذريعة لفرز البشر بين من يستحق الانتماء للجماعة والتمتع بحمايتها والمشاركة في قرارها ومن لا يستحقّ، ومن يحق له الكلام والوصول إلى المعارف والمعلومات والأسرار ومن يحرم منهما لنقص في عقله أو إيمانه.
من هنا، بدل الشعور بالمسؤولية تجاه تعليم أبناء الشعب وتأهيلهم للمشاركة في الرأي والسياسة والتفكير في مصير البلاد والدولة، دعت هذه الأيديولوجيا إلى التبرؤ منهم ولا تزال تقول لمن ترى فيهم أسياد العقل وسادة العالم: نحن غير هؤلاء المسلمين المتعصبين الذين يعيشون في القرون الوسطى. نحن متحضّرون مثلكم نؤمن بالعقل والعلمانية والديمقراطية وهم متخلفون ولا عذر لهم. وبمقدار ما قرّب هذا التفكير النخب المثقفة من نظم الاستبداد أو شجّعها على التعايش معها، قرّب مثقفين عربا ومسلمين عديدين من الأوساط العنصرية الأوروبية، وجعلهم شركاء نشطين في صناعة الإسلاموفوبيا وكراهية الإسلام والهوية العربية ورموزهما في العقود الماضية القليلة. وفي المحصلة، لا تقول هذه الأيديولوجية شيئا آخر، سوى أن وجود الشعب هو المشكلة وليس الديكتاتورية، ولا الفساد وليس التبعية وهدر الموارد والتنكيل بالبشر، ولا حتى حروب الإبادة الجماعية، فالديكتاتورية ذاتها لم توجد ولا توجد إلا لجهل الشعب وتعصّبه وطائفيته، وتخلف عقله وعاطفته.
والنتيجة، لن يمكن الردّ على الخراب الراهن واستعادة السيطرة على المصير إلا بتغيير هذه التوجهات الأيديولوجية الخاطئة والإشكالية، وقلب المقاربات النظرية والأجندة الفكرية العربية رأسا على عقب، فبدل البحث عن سبب التخلف في الأيديولوجية، الدينية أو العقلية ينبغي النزول إلى الواقع الحي، ومعاينة الشروط المادية والعملية والثقافية التي تتحكم بالحداثة وتشكيلاتها المختلفة والمتباينة هنا وهناك، فاستعمار الأطراف والتراكم البدائي للثروة في المراكز الحضارية هما وجهان لعملة واحدة.
وبدل البحث في التراث والتخبط في تأويلاته ينبغي التأمّل في ثقافة المجتمع الراهن وأيديولوجية طبقاته ونخبه كما هي قائمة اليوم. وبدل البحث عن مفتاح أزمة المجتمعات في الماضي وعطالاته ينبغي البحث في شروط حياة المجتمعات في الحاضر وفي التحديات التي تهدد وجودها وفي تناقضاتها وصراعاتها واختناقاتها. وبدل الجري وراء أيديولوجيات الخلاص (الحداثية أو العلمانية أو العقلانية أو الدينية) ينبغي التوجه إلى الناس الأحياء وسماع شكاواهم والتعرف إلى مشاكلهم ومساعدتهم على حلها. باختصار بدل تضييع الجهد في خلع أبواب مفتوحة ينبغي الاجتهاد في إزالة الحواجز والستائر التي تحول دون رؤية الواقع وفتح النوافذ التي أغلقتها الشكوك والمخاوف والتفكير المنفصل عن الواقع قبل أن يختمها بالشمع الأحمر سيف الطغيان.
العربي الجديد