الحرفُ والصوت وأغنيتهما/ يانيس إفثيمياذيس
■ ■ ■
رسم أمّي
أوّل مرّة في سنّ التاسعة والأربعين رسمتُ أمّي
بتسعة وأربعين خطّاً ربّما
كلُّ خطّ – العينان مُغلقتان وقد رسمتها – كان ينساب على الورقة مثل زَمن
من شفتيها قُبَل
من العَينين غيومٌ ظُلماتٌ رقيقة، أنا مُصاب بحُمَّى في سنِّ العاشرة
وكلُّ سمّ من مسامّها ينضح بالرائحة التي سأبقى أعرفها إلى الموت.
بعد طول حين سأنحني على البياض القليل البياض لأشمَّه
رسمٌ بلا فنّ، ساكت، سيحيا بلا صوت دوماً على أصابعي.
كانت تجلس ضَجِرة عديمة الصبر قليلاً لم يكُن يسعُها المكان
فكيف يسَع، ستقول لي، مكانٌ يسير، ورقةٌ، اللانهايةَ العظيمة؟
■ ■ ■
بيتنا
ذات يوم كان بيتُنا العالَم كلّه
الآن كلُّ العالَم بيتنا.
قبالته شجرة الليلك الهنديّ الباسقة – لأنّني كنتُ أظنّها هكذا –
أتربةٌ، أجسام مخدوشة، نفسُنا مخدوشة من الداخل والخارج
على بُعد بابَين الفتاة التي لم أُغرَم بها قطّ
ربّما لأنّنا لم نكن مختلفَين كفاية.
طريق وطريق أخرى كانتا تحدّدان نهاية هذا العالم
سماء وسماء أخرى فوقها تُحدّدان الخفّة اللامحدودة
هاجس بالموت، نوع من عدالةٍ ما بأيّة حال.
■ ■ ■
الثورة ستأتي من ظُلمة عميقة
الكلام الذي لم يتجسّد بعدُ يسكن في أحلامي كالطيف؛
أريد أن أكلّمك للغاية، يا مستقبل
نُطفةُ الصوتِ غيرِ المضيء وبُرعُمُه الذي يطرح وُرَيقاتِه، أعرف،
سيغمر عالمي وسيقلب القُطبَين
كساعةٍ رمليّة
الحرفُ والصوت وأغنيتهما ستتردَّد جميعاً في أذنَيّ
كالموسى – أهرم وأضطرّ أن أجرّ أثقالاً نحو آلاف
الكلمات التي فسدت في أفواه قديمة، رغم أنّنا نتنفّس أبداً
ناس من نحاس، وفي داخلهم أقوال خوارزمية، انفجار
مدوٍّ لكنّه مُرسَلٌ إلى صُمٍّ – أمرٌ غريب لكنّها الحقيقة
سنوات على سنوات يُجرَّبون، يُصْقَلون، يَلمَعون،
لدرجة أنّهم باتوا قشرةً تُوشك على الانكسار فليُرمَوا، كي ينطفئوا.
يبزغ الآن كلامُ أطفالهم جديداً وجريئاً،
وإن لم يكونوا بعدُ قد نطقوا بحياء قُرابةَ الأوان
جديداً، أكثر جدّة حتّى من النور الذي يومض عند جذر
الشجرة العظيمة
كلّ غصن قَولة، وكلّ ورقة كلمة
تَغلي داخل الشجرة العصائرُ، تفور بالربيع، فاح الصمغُ شعلةً
في الهواء
نعبر إلى الأمام. أُخطُوا، لتنقُلَنا الخطوة أبعد.
■ ■ ■
يا ربّ
يا ربّ، أين أَلقى بلدي وأراه؟ أيّ صخرة ظلّت قائمة على أصلها؟
نظري يغرق في البحر، في بحرٍ أسودَ مرارةٍ بلا قعر
ليس عندي، يا ربّ، سوى حُبّ قليل فقط وغضَبٍ قد فضَلا لي،
من أجل أن أعيد بناء الحدود من جديد
وأحدّدَ داخلها حياة يسيرة
حلقةٌ أنا، يا ربّ، في سلسلة اللّامتناهي، أنا الوضيع
الذي اتّضعتُ
إنّني قليل، ونَفَسي لا يكفي، ليعلوَ صرخةً في عالمكَ المُتكامل
عشبةٌ زُرِعَتْ في أزمنة الجَدْب وبات قدرها أن تُطعِم
الوحوش، يا ربّ، والسالِبين، ومَجاعات النَفْس وآمالاً جشعة
ما الذي صمد أمام عبور المتّشحين بالكذب الذين أتَوا وعيونهم
مُضطرمة؟ والمنتصرين الذين تُوِّجوا مخلِّصين لي، المُنكِرين
حتّى قبل ساعتي الثالثة؟
بماذا أُعيد تشييد الأنقاض المتآكلة؟ بماذا أُنظِّف الصدأ عن جسدي؟
فحتّى الحُبّ، يا ربّ، قد تدنّس
رحمتك العظيمة صلاتي، يا ربّ، من أجل بلد
على الجَلَد.
* ترجمة عن اليونانية: روني بو سابا
بطاقة
شاعر يوناني، ولِد في مدينة بيرياس عام 1969. درس الأدب اليونانيّ القديم، وأنهى دراسات عُليا في المسرح اليونانيّ القديم. درس، لاحقاً، النقش في “الكلّيّة العُليا للفنون الجميلة” بأثينا. أصدر إلى الآن تسع مجموعات شعريّة، ويعمل في التدريس والتأليف والترجمة.
العربي الجديد