اليسار السوري، هامش واسع في الحياة السياسية/ راتب شعبو
دخل اصطلاح اليسار واليمين، مثل الكثير غيره، إلى ثقافتنا السياسية قادماً من وراء البحار. وقد تعرض هذا المفهوم أو الاصطلاح إلى تبدلات عميقة في الأرض التي أنتجته، حتى يمكن القول إن اليمين واليسار تبادلا المواقع مع الزمن. كان التعريف الأولي البسيط يقول إن اليمين يسعى إلى الحفاظ على النظام السياسي والاجتماعي القائم (محافظ)، بينما يسعى اليسار إلى تغيير الواقع السياسي والاجتماعي (ثوري)، اليوم يحتج اليمين في أوروبا على الواقع السياسي ويطالب بتغييره ليس أقل من اليسار، وإن اختلفت الوجهة. وفيما كانت الحرية الفردية مطلباً أساسياً من مطالب اليسار في الثورة الفرنسية، في مواجهة المؤسسات الأخلاقية والدينية القائمة التي تحمي وتكرس قيم التبعية والاستكانة وارتهان إرادة الأفراد، كان اليمين يعارض مفهوم الحرية ويرى أنها ضد النظام الطبيعي للأشياء، وأنها تحط من القيم الأخلاقية، ويحث على التضحية بالطموحات الفردية من أجل المصلحة العامة والقيم الجماعية. مع تغير الأحوال السياسية، غلب لدى اليسار مفهوم المساواة والعدالة الاجتماعية على مفهوم الحرية، وراح اليمين، في مواجهة ذلك، يركز على الذات الفردية ويجعل من الحرية الفردية المبدأ والغاية من الوجود الإنساني في وجه تدخل المؤسسات والدولة. أصبح الدفاع عن الحرية الفردية أداة اليمين للتميز عن اليسار، في تبادل مواقع صريح . ولكن الواقع الأوروبي (حيث نشأ الاصطلاح) يطرح مشاكل جديدة اليوم، مثل الهجرة والجندرة وعقوبة الإعدام والعلاقة بالاتحاد الأوروبي والعالم، ولم تعد هذه المعايير كافية للتمييز بين يسار ويمين، كما لم تتبلور إلى اليوم معايير جديدة واضحة.
المرجعية الإسلامية بوصفها حداً فاصلاً
في بلداننا التي وردها الاصطلاح من الخارج، غريباً عن طبيعة الصراعات والثقافة السياسية عندنا، كان لليمين معنى محموداً بذاته، ولليسار معنى مذموماً بذاته، أي كان لهما معنى غير سياسي. يستند هذا المعنى إلى النصوص المقدسة، وفي سياق ديني غير سياسي، (في مقابل اليمين يرد في القرآن “الشمال” وليس اليسار، ربما للابتعاد به عن “اليسر” ومعناه المحمود). أما في الثقافة السياسية الحديثة فقد شاع استخدام اصطلاح اليسار واليمين حتى بات لا يمكن الاستغناء عنه. هكذا نجد مثلاً من يستخدم المفهوم السياسي لليمين واليسار من أجل فهم تاريخ الإسلام، رغم الموقف الإسلامي الواضح من اليمين واليسار، الأمر الذي يجعل الباحث ملزماً بتوضيح الفروق، فبعد أن يشير إلى المفهوم الإسلامي “أهل اليمين في الجنة دائماً وأهل الشمال في النار دائماً … فلليمين معنى الموافقة والإيمان، في حين أن لليسار معنى المخالفة والإنكار” ، يوضح المضمون الذي يريده من المفهوم، “اليسار الذي نعنيه هنا هو اليسار بمعناه الاصطلاحي الحديث … هو الذي يتجه إلى رفع الجور عن الفقراء والمستضعفين والمساواة بين أبناء المجتمع الواحد في الحقوق والواجبات، أي باختصار هو النزعة الاشتراكية في الإسلام” .
كان ذلك حين كانت النزعة الاشتراكية طاغية في العالم إلى حد أنها كانت كافية لتعريف الطيف اليساري كاملاً، ولاسيما أن العالم كان يحتوي على “منظومة اشتراكية” تجسد هذا الطيف وتعتبر يسار العالم في مقابل العالم الرأسمالي “اليميني”. ولكن حين بدأت المنظومة الاشتراكية بالتفكك في أواخر ثمانينات وأوائل تسعينات القرن العشرين، ضاعت الحدود بين اليمين واليسار، فأين نصنف، مثلاً، القوى ذات “النزعة الرأسمالية” التي نهضت ضد “النظام القديم” الاشتراكي المتمثل في الأحزاب الشيوعية الحاكمة في هذه البلدان، التي كانت للتو معيار اليسار؟
بعد أن تراجعت، أو تلاشت، النزعة الاشتراكية أصبح تعريف اليسار غائماً، ولاسيما في بلداننا حيث يوجد فقر في التمايز الاجتماعي (الطبقات)، وفقر في الانتاج النظري الأصيل، وفقر في الصراعات الفكرية السياسية. يصعب أن تجد اليوم عندنا، حالنا في ذلك كحال غيرنا في العالم، تعريفاً واضحاً لليسار واليمين يمكن الركون إليه. على أن الحال الخاص في مجتمعنا جعل التمييز الثابت بين اليمين واليسار في تاريخنا الحديث، هو الصلة الفكرية والسياسية بالإسلام. يكاد يكون اليمين في سوريا اسم آخر للإسلاميين بألوانهم، ما يعني أن المعارضة اليسارية هي المعارضة غير الإسلامية. اليمين هو كل تنويعات الإسلام السياسي، أو كل حركة سياسية ذات مرجعية إسلامية، واليسار هو كل ما عدا ذلك. لعلنا في ذلك “نتفوق” على غيرنا ممن لا يجدون لديهم خطاً يميز، على نحو ثابت، اليمين عن اليسار.
مع ذلك، يبقى من الصعب الاستغناء عن هذا التصنيف الذي نحتاجه للفرز داخل الحركات الإسلامية وداخل الحركات العلمانية. ويبقى من الصعب التخلي عن اعتماد الطيف يمين يسار سواء من أجل التصنيفات الكبرى أو من أجل التصنيفات الأصغر التي تصل إلى حدود تصنيف الأفراد.
اليسار السوري غير المعارض، بعثيون بألوان أخرى
معروف أن انقلاب حافظ الأسد كان انتصاراً للجيش على الحزب، وانتصاراً ليمين حزب البعث على يساره. غير أن هذا الانقلاب اليميني كان أكثر ديموقراطية في تعامله مع القوى اليسارية التي كانت موجودة حينها، قياساً على السلطة البعثية اليسارية التي أطاح بها الانقلاب . لقد عرض اليمين البعثي بعد استيلائه على السلطة في 1970، انفتاحاً أكبر على القوى السياسية، الشيء الذي اتخذ، بعد حوالي سنة ونصف، صيغة تحالفية باسم (الجبهة الوطنية التقدمية)، صيغة ارتضتها هذه القوى وثابرت على الالتزام بها، عبر كل المراحل التي مر بها نظام الأسد الأول والثاني.
من اللافت أن كافة القوى السياسية اليسارية السورية الموجودة أثناء العمل على بناء الجبهة الوطنية التقدمية، قد دخلت في هذا التشكيل الجديد قبل أن يتبين أنه كان واجهة تعددية لديكتاتورية طغمة أو فرد. وبعد أن تبين ذلك خرج حزبان من هذا “التحالف” هما الاتحاد الاشتراكي العربي (جمال الأتاسي)، والحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي (كان خروجه تدريجياً) الذي كان قد انجز انشقاقه عن الحزب الأم (خالد بكداش) بعد حوالي سنتين من تشكيل الجبهة. أما بقية الأحزاب فإنها ثابرت على وجودها في الجبهة، ومنها من انقسم على نفسه مع بقاء الانقسامين في الجبهة. والحقيقة أن هذه الأخيرة لم تكن، مجرد واجهة، فهي محل لتحقيق بعض الامتيازات لقيادات الأحزاب المشاركة (وزارات ومقاعد في البرلمان ومكاتب ومناصب إدارية)، أي إن الجبهة انطوت على عملية إفساد للعناصر القيادية. فضلاً عن كونها، حسب ميثاقها، محل للتشاور واتخاذ القرار على اعتبار أن القيادة المركزية للجبهة هي أعلى هيئة قيادية في البلاد. لا شك أن هذا الكلام يبقى حبراً على ورق في ظل وجود طغمة حكم تسيطر تماماً على أجهزة القوة في الدولة (الجيش والأمن) . هذا لا يلغي أن وجود هذا الإطار امتص الكثير من الطاقة الاحتجاجية لنخبة من السوريين الذين كانوا لولا ذلك سيتجهون، نسبة منهم على الأقل، إلى معارضة النظام. كما أن الجبهة صارت مجالاً يتيح للنظام “استقبال” هياكل حزبية جديدة، فقد تضاعف عدد أحزاب الجبهة خلال عقود حكم الطغمة الأسدية.
قد يُقال إن ما جعل الجبهة تستمر، وما جعل غالبية الأحزاب التي دخلتها منذ البداية تستمر فيها رغم تهميشها الفعلي، ورغم أنها ممنوعة، وفق ميثاق الجبهة نفسه، من النشاط في صفوف الجيش والطلاب، هو الجمع الذي أتقنته الطغمة الأسدية جيداً، بين المكاسب الفردية للقيادات، والعصا الغليظة الخبيئة خلف الظهر، والتي عرف طعمها، أكثر من مرة، حتى “الحليف” الأبرز في الجبهة، نقصد الحزب الشيوعي السوري – بكداش، ولاسيما عقب البيان الذي أصدره الحزب في انتخابات مجلس الشعب السوري عام 1982. هذا القول صحيح، ولكنه يغفل عن حقيقة أساسية هي أن الأحزاب اليسارية، سواء تلك التي كانت في معظمها ملتحقة بنظام الأسد، أو تلك التي عارضته، لا تمتلك مشروعاً سياسياً مغايراً يمكن أن تبنى عليه معارضة جدية للنظام. في اللغة والأهداف والمرجعيات، لا تختلف هذه الأحزاب فيما بينها، ولا تختلف كثيراً عن حزب البعث نفسه. الحليف الاستراتيجي لنظام الأسد كان دائماً الاتحاد السوفييتي (يسار العالم)، وكان هذا الحليف هو المرجع الأخير والسند الافتراضي أيضاً لكل اليسار السوري.
التيار السياسي الوحيد الذي لم يشارك في الجبهة البعثية هو التيار الإسلامي. هكذا يبدو أن اليسار هو الحاكم في سورية، فيما يبدو اليمين مقصى من الحكم ويشغل بالتالي موقع المعارضة. هنا لا بد أن نتوقف للقول إن النظام السياسي في سورية لا يفسح مكاناً لما يسمى في الأنظمة الديموقراطية، معارضة. حين نستخدم كلمة معارضة هنا، نقصد الجماعة السياسية المقصاة من النظام والمحظورة والملاحقة من قبل أجهزة الأمن. في سورية قبل 1976، أي قبل بدء الطليعة المقاتلة للأخوان المسلمين بعمليات الاغتيال السياسي، لم يكن الأخوان المسلمون مقموعين وإن كانوا خارج النظام (خارج الجبهة)، وهناك من يذهب إلى أنهم كانوا مرتاحين في نشاطهم قياساً على بقية القوى السياسية، نظراً للتداخل الحاصل بين نشاطهم السياسي ونشاطهم الديني الدعوي. هذا نوع من الوجود السياسي المحايد، فتكون الجماعة صامتة تجاه النظام، ويكون النظام مراقباً لها بحيث تكون في المتناول حين يبدر منها ما يبدو مضاداً للنظام. كان هذا واقع الأخوان المسلمين قبل 1976، وكان هذا وضع حزب الاتحاد الاشتراكي العربي (الأتاسي) بعد خروجه من الجبهة عقب الإعلان عن دستور 1973 الذي تنص المادة الثامنة منه على قيادة حزب البعث للدولة والمجتمع.
الواقع أن المشروع السياسي الإسلامي، على فقره في المضمون، ظل الصورة الأبرز لمعارضة نظام الأسد. وظلت القوى الإسلامية مصدر الرعب الداخلي الوحيد للنظام. والحقيقة أن خوف النظام من الإسلاميين مفهوم، ليس فقط لأنهم اللون السياسي الوحيد الذي لم يتمكن النظام من احتوائه، وهو لم يتمكن من ذلك بسبب التنافر الفعلي بين فكر الإسلام السياسي والفكر السياسي “اليساري” العلماني لحزب البعث و”جبهته”، التنافر الذي زاده حدة تحدر رئيس النظام وغالبية العناصر الأمنية والعسكرية الأساسية فيه، من الطائفة العلوية، الأمر الذي أضاف بعداً مذهبياً إلى البعد “العلماني”. التناقض هنا ظاهري، الجمع بين العلمانية (التي تعني في ذهن الأحزاب الإسلامية عدم التزام الشريعة الإسلامية) وبين الطائفية ممكن وواقعي، كما هو الحال في نظام الأسد، دولة علمانية (لا تطبق الشريعة الإسلامية) وتغذي تماسك أجهزة القوة فيها بعصبية طائفية.
على هذا، كان من المفهوم أيضاً أن يكون “اليمين” وليس اليسار هو صورة معارضة النظام. وكان أن بدأ نفور السوريين من النظام الذي يعتبر في نظر غالبيتهم علمانيا وطائفياً، يتخذ شكل الالتزام الديني في صورته الإسلامية، فزادت ظاهرة الحجاب والتدين في المجتمع السوري. لم ينفع حرص النظام على كسب رجال الدين وبناء الجوامع ومعاهد تحفيظ القرآن والاهتمام بالمناسبات الدينية … الخ، في كسب قلوب الناس، لأن أساس الظاهرة سياسي وليس دينياً.
اليسار السوري المعارض، خيارات محاصرة بين شرين
لم تشكل المعارضة اليسارية في سورية تهديداً لسلطة نظام الأسد في أي يوم. كل التهديدات التي تعرض لها النظام جاءت من اليمين. مرة من خارج السلطة، نقصد التهديد اليميني الإسلامي (الإخوان وطليعتهم المقاتلة) الذي تمكن نظام الأسد من تجاوزه بأعمال أمنية وعسكرية ومجازر توجت بمجزرة مدينة حماه في شباط/فبراير 1982. ومرة من داخل السلطة، نقصد التهديد من يمين السلطة نفسها (رفعت الأسد وسرايا الدفاع)، والذي تمكن نظام الأسد من معالجته وتجاوزه قبل أن يتعدى مرحلة الحشد العسكري المتبادل ليصل إلى صراع مسلح مفتوح، وذلك من خلال تسوية داخلية انتهت إلى ترحيل الأخ المتمرد إلى خارج سورية، وتفكيك قوته العسكرية وعزل ضباطها الرئيسيين.
التهديد الدائم للسلطة الأسدية من اليمين يعطي الانطباع بأنها سلطة يسارية، وأن اليمين في سورية هو “المعارض” الأساسي والمبعد الأساسي عن السلطة. يعزز هذا الانطباع وجود “الجبهة الوطنية التقديمة” التي هي تحالف أحزاب يسارية عموماً (قومية وشيوعية) يقودها حزب البعث الحاكم. فضلاً عن أن هذا الأخير ينتمي أيضاً إلى اليسار، في التحديد الواسع لهذا التيار السياسي.
عمل التهديد اليميني لسلطة الأسد عمله في ضفة المعارضة اليسارية السورية التي كانت تجد نفسها دائماً تحت واقع قمعي شديد على يد السلطة القائمة، ومهددة بواقع قمعي أشد على يد القوى اليمينة التي تهدد السلطة القائمة، دون أن تمتلك في أي يوم المقدرة على التأثير الجدي في مسار تطور الأحداث في سورية. على طول الخط، كان يمكن اختصار نشاط اليسار السوري في البحث عن “أهون الشرين” اليمينيين المتصارعين. هل تكون مصلحتنا في مساندة هذا الطرف أم ذاك؟ مساندة مباشرة أم مضمرة؟ وقد يعترض أحد علينا بالقول إن اليسار السوري سعى إلى أن يكون “طرفاً ثالثاً” مستقلاً عن طرفي الصراع اليمينيين. وهو قول صحيح في حسبان أو في وعي اليسار السوري الذي حاول أن يكون طرفا ثالثاً، غير أنه بقي بلا قيمة عملية في الواقع، لأن اليسار لم يتمكن من تطوير قوة جماهيرية مؤثرة، وهذا ما جعله، كيفما اتجهت خياراته، وبصرف النظر عن نواياه، في صالح أحد طرفي الصراع.
كانت الجدالات بين القوى اليسارية السورية حادة وقليلة القيمة وذات نتائج تقسيمية. فالكثير من هذه المحاجات كان الغرض منه تثبيت تهمة أو ردها، بدلاً من تطوير وعي أفضل بالواقع السياسي الذي بقيت هذه القوى، إلى حد لا بأس به، غريبة عنه. والسبب الأولي لذلك هو أن الإطار الفكري الذي كان يتحكم بهذه القوى كان يحجب الواقع أكثر مما كان يكشفه، لأنها كانت، في وعيها، محكومة لهذا الإطار أكثر مما هي محكومة للواقع. حتى يمكن القول، تهكماً، إن الإطار الفكري كان يستخدم حامليه أكثر مما كان هؤلاء يستخدمونه.
في كل الأحوال، كان النشاط الورقي هو الغالب لدى اليسار السوري. وإذا كان من الممكن للنشاط الورقي أن يمهد لتحول جماهيري، فإن الجماعات اليسارية في سورية لم تشهد في تاريخها شيئاً من هذا التحول، وظلت ضعيفة الحضور الجماهيري، ويمكن القول إن تدني حضورها السياسي كان في تناسب مع علو تطلعاتها التغييرية.
كان نصيب المعارضة اليسارية في سورية أن تذهب ضحية السلطة الأسدية ملاحقة واعتقالاً وقتلاً، أكان ذلك في زمن استقرار السلطة أو في زمن اضطراب سيطرتها. هذا الواقع يطرح على الفكر السياسي سؤالاً محرجاً هو ما قيمة المحتوى المعرفي أو الصوابية البرنامجية أو المهارات التكتيكية لجماعة سياسية سلمية، في مجال سياسي يسيطر فيه العنف المنفلت؟ ما قيمة ما سبق لنا من قوله عن سلفية أو انتهازية أو إصلاحية اليسار السوري، حين يكون لدى السلطة الحاكمة القدرة الكاملة على سحق أي تشكيل سياسي تريد سحقه، وحين لا ترضى هذه السلطة عن أي تشكيل بغير الولاء والتبعية أو البقاء على الهامش، في أحسن الأحوال؟ لا نبالغ إذا قلنا إن هذه الحقيقة تجعل كل بحث نقدي في تاريخ اليسار السوري هامشياً كهامشية اليسار (غير العسكري) في تاريخ سورية.
القوى التي استطاعت أن تهز أركان سلطة الأسد كانت قوى مسلحة، أي لجأت إلى وسيلة هي من جنس وسيلة السلطة نفسها. ولأن اليسار السوري كان مسالماً، فإنه بقي هامشياً، وبقي مصيره متوقفاً على قرار الأقوياء المسلحين تجاهه.
ثلاثة اتجاهات في طيف اليسار السوري
لا قبل انقلاب 1970 ولا بعده، لم يتمكن أي حزب يساري أن يتطور إلى حزب جماهيري، لكي يفرض ولو شيئاً من إرادته. أولاً لأن القوة العارية تسيطر على المجال السياسي السوري، الأمر الذي يشل فاعلية القوى السلمية. وثانياً لأنه ليس من السهل أن يطرح اليسار نفسه بديلاً عن حكم ينظر إلى نفسه، كما يُنظر إليه، على أنه يساري ويستند إلى المرجعيات نفسها. في مثل هذه الحال، سوف تنسب كل إخفاقات ونواقص وعيوب الحكم القائم إلى اتجاهه السياسي العام، وسوف ينال الأحزاب اليسارية، حتى لو كانت في صفوف المعارضة، حصة من الأذى وكأنها تتحمل، بوصفها تنتمي إلى اليسار، مسؤولية عما يعانيه الناس في ظل الحكم اليساري القائم. والحقيقة أن هذا الاعتبار ليس خاطئاً، فالأحزاب اليسارية المعارضة لم تكن تمتلك في فكرها وخطها السياسي علاجاً للواقع المتردي الذي تستخدمه حجة على الحكم القائم وتطرح نفسها بالتالي بديلاً له. دون أن يعني هذا أن الأحزاب اليمينية (أي الإسلامية) تمتلك العلاج. غير أن اليمين يمتلك، على الأقل، استناده إلى أساس فكري مغاير، الأمر الذي يعطيه مقبولية شعبية أكبر وفق منطق شعبي يقول إذا كان اليسار في السلطة هكذا، فقد يكون اليمين أفضل. يمكن تلخيص الواقع السياسي السوري بعد 1970، في صورة بسيطة: سلطة يسارية قمعية تستمد قوتها من سيطرتها على جهاز الدولة ومن استفادتها من اللعب على صراع القوى العالمية الكبرى وموقع سورية المهم، تتعرض بين فترة وأخرى، لتهديد من قوى يمينية (إسلامية)، تحوز على الشعبية وعلى الجاهزية القتالية مع توفر الدعم الخارجي. وبينهما قوى يسارية هامشية التأثير.
أمام هذا الواقع انقسم اليسار السوري، بعد 1970، ولاسيما عقب اندلاع الصراع بين السلطة والإخوان المسلمين، إلى ثلاثة اتجاهات.
الاتجاه الأول هو التحالف مع السلطة “اليسارية” القائمة في أفق الضغط عليها من اليسار في سياق التحالف الذي أتاحته السلطة في الصيغة المعروفة “الجبهة الوطنية التقدمية”. نستخدم مفهوم “تحالف” هنا تجاوزاً، فالعلاقة هي علاقة تبعية للسلطة وليس تحالفاً معها. والحقيقة أن بنود “التحالف” لا تخفي هذه التبعية حين تنص وثيقة الجبهة على أن يكون حزب البعث هو القائد فيها وله الأكثرية في هيئاتها جميعاً و”بأن يكون منهاج الحزب ومقررات مؤتمراته موجهاً أساساً لها في رسم سياستها العامة وتنفيذ خططها”. مع ذلك رأى الحزب الشيوعي السوري، كغيره من الأحزاب التي وقعت على وثيقة الجبهة، “إن وجود الحزب داخل الجبهة، ومع مجموع القوى السياسية في البلاد، سيمكنه من تحقيق أهدافه وسياسته بصورة أفضل من بقائه خارج الجبهة”.
مثّل هذا الاتجاه كل أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، وقد يكون الحزب الشيوعي السوري – بكداش نموذجاً جيداً عنها، ولاسيما أنه كان الحزب الأقدم والأكثر قوة بينها، إذا وضعنا حزب السلطة جانباً. كان الموقف الأكثر يسارية حيال مشروع جبهة البعث هذه، هو التريث بانتظار ما قد يسفر عنه النظام الجديد. كان هذا موقف أكرم الحوراني (الذي كان في بيروت فاراً من الملاحقة الشرسة أيام صلاح جديد، بحسب تعبيره) في رأيه الذي أرسله إلى التنظيم بشأن الاتصالات التي كان يجريها حافظ الأسد لتشكيل الجبهة، “لا ضرورة للاستعجال باتخاذ موقف من الحكم الجديد لأنه في حقيقته انقلاب عسكري كسابقيه في 1963 و1966، ولكن إذا تحقق ما يشيعه عن رفع القبضة الحديدية للمخابرات عن رقاب الشعب وأنه سينهج النهج الديموقراطي فيضمن الحريات الخاصة والعامة للمواطنين … فإن من الواجب عندئذ دعمه وتأييده كقائد لبلاد وباختيار الشعب ورضاه” .
شهد الحزب الشيوعي السوري خلافاً داخلياً مباشرة عقب انقلاب الجناح العسكري من حزب البعث (حافظ الأسد) على الجناح المدني (صلاح جديد). فقد خرجت مظاهرات مؤيدة للجناح المدني في حلب ودمشق، وأصدر المكتب السياسي للحزب الشيوعي بياناً داعماً للمظاهرات بعد تصويت داخل المكتب السياسي انتهى لصالح الدعم بخمسة أصوات مقابل صوتين. كان الصوتان المعارضان للبيان هما يوسف فيصل وخالد بكداش الذي سيعرف لاحقاً كيف يدير الأزمة داخل الحزب ويستعيد غالبية المكتب السياسي لصفه، مستفيداً، ليس فقط من علاقته القوية مع السوفييت، بل ومن مهارة حافظ الأسد في كسب الحلفاء عبر تقديم مغريات في السلطة. معروف أنه في أول وزارة تتشكل بعد الانقلاب، حين كان أحمد الخطيب رئيساً للدولة، فيما تولى حافظ الأسد رئاسة مجلس الوزراء ، قدم هذا الأخير منصبين وزاريين للحزب الشيوعي (يوسف فيصل وعمر السباعي)، سعياً وراء كسب الشيوعيين السوريين والاتحاد السوفييتي من خلفهم . وكان له ذلك.
في الواقع لم يكن الموقف من انقلاب حافظ الأسد هو الخلاف المهم ضمن صفوف الحزب الشيوعي، كانت نقاط الخلاف الأساسية تتعلق بطريقة بكداش في قيادة الحزب “التي تذكر بعبادة الشخص في المرحلة الستالينية”، وتقييم المرحلة التي تمر بها البلد، والموقف من حركة الوحدة العربية، وجوهر القضية الفلسطينية والعدوان الإسرائيلي والموقف من المقاومة الفلسطينية، والعلاقة مع الاتحاد السوفييتي . هذا ما يفسر لنا أنه بعد انقسام الحزب إلى فرعين الأول بزعامة خالد بكداش والثاني بزعامة رياض الترك، استمر الفرعان في علاقة تحالفية مع نظام الأسد، وإن بدأ الترك ينسحب تدريجياً ثم نهائياً، ويختار خطاً سياسياً سوف يشكل، مع قوى سياسية أخرى، الاتجاه الثاني في اليسار السوري.
الاتجاه الثاني، تبلور مع تطور الصراع بين النظام والأخوان المسلمين. هذا الاتجاه عرض موقفاً غير نقدي تجاه الإسلاميين السوريين حين هددوا فعلاً سلطة الأسد بأعمال عسكرية استجرت مع الوقت حركة احتجاج مدنية تمثلت في إضراب التجار وإضراب النقابات المهنية. يمكن فهم المنطق السياسي لهذا الاتجاه على أنه مع تغيير النظام القائم بأي شكل، وأن عدم نقدهم الحركة الإسلامية لا ينبع من توافق فكري وسياسي معها، إنما من قناعة بأن هذه الحركة هي القوة الداخلية الوحيدة التي تمتلك القدرة على إسقاط النظام. فكما تحالف أصحاب الاتجاه الأول مع حزب السلطة سعياً إلى تحقيق أهدافهم وسياستهم من ضمن هذا التحالف، وجد أصحاب الاتجاه الثاني أن السكوت عن مخاطر الإسلاميين والتركيز على نقد النظام الذي أبدى تجاه الإسلاميين وحشية لم تكن تعرفها سورية من قبل، هو الموقف الصحيح الذي يمكن أن يؤدي إلى زعزعة أركان النظام وإسقاطه، وهذا يمكن أن بفتح باب العمل السياسي المغلق في ظل سلطة الأسد.
اجتمع على هذا الخط مجموعة أحزاب يسارية ضمت الاتحاد الاشتراكي العربي الديموقراطي، الحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي، حزب العمال الثوري العربي، حركة الاشتراكيين العرب، حزب البعث الديموقراطي العربي الاشتراكي. انضوت هذه الأحزاب في أواخر 1979 في تحالف حمل اسم “التجمع الوطني الديموقراطي”، وأصدر بيانه الأول والأخير في آذار 1980. حيا البيان الحراك الشعبي وطالب السلطات بالاستجابة لمطالب الشعب واعتماد الحل الديموقراطي. الميل العام لهذا التجمع، كما ذكرنا، هو تحميل النظام مسؤولية ما يجري من صراع اتخذ منذ البداية شكل عنيف وطائفي صريح، والابتعاد عن أي نقد للإخوان المسلمين، أكان في نهجهم العنفي أو الطائفي . كان الحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي هو الحزب الأكثر تعبيراً عن هذا الاتجاه.
لدى مراجعة ما توفر من أعداد “نضال الشعب”، الجريدة المركزية للحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي، في تلك الفترة، يبدو واضحاً الابتعاد عن أي نقد للإخوان المسلمين، مع التركيز على المطلب الديموقراطي بوصفه الحل. في الأعداد عناوين دالة مثل “ملاحظات أولية عن الديموقراطية”، “محامو دمشق يطالبون برفع حالة الطوارئ” (العدد 204، أوائل آب/أغسطس 1978). “حقوق الانسان والمجتمع بلا حقوق” (العدد 206، آذار/مارس 1979). “الخيار الديموقراطي بداية الصمود وطريق التصدي”، “غياب الحرية السب الأساسي للهزائم والنكبات” (العدد 209، حزيران/يونيو 1979). وتحفل الأعداد بمقالات ترحب بالثورة الإيرانية (شباط/فبراير 1979) بوصفها طريقاً إلى الديموقراطية، كما في العدد 206 “الثورة الإيرانية المنتصرة تضع إيران على درب الحرية والديموقراطية والتحرر”، ما يشير إلى أن هذا الاتجاه يجد في القوى الإسلامية رافعة ديموقراطية ممكنة، وربما كان هذا ما يفسر سكوته عن نقد الإسلاميين السوريين في تلك الفترة. على أن هذا الاتجاه ينظر إلى نفسه على أنه الخط الثالث، أي إنه غير راض عن طرفي الصراع، ويرى إلى نفسه الخط الديموقراطي (الثالث) بين خطين ديكتاتوريين، ما يؤكد لنا أن سكوته عن نقد الإسلاميين هو تكتيك سياسي. غير أن الواقع يثبت لنا، للأسف، أن الضعيف غالباً ما يتحول إلى وقود في صالح القوي، كما هو الحال في الفيزياء، حيث الكتل الكبيرة تستتبع الكتل الصغيرة.
الاتجاه الثالث مثلته قوى صغيرة متعددة حاولت أن تكون قطباً مستقلاً مضاداً للقطبين الرئيسيين في المجال السياسي السوري، السلطة الحاكمة والإسلاميين. كانت نشأة قوى هذا الاتجاه حديثة نسبياً قياساً بقوى الاتجاهين السابقين. أبرز هذه القوى المنظمة الشيوعية العربية التي نشأت في بداية سبعينات القرن الماضي وانتهت بصورة دموية في 1975، ورابطة العمل الشيوعي (تأسست 1976) التي تحولت إلى حزب العمل الشيوعي (1981). وهما تنظيمان ينتميان إلى ظاهرة اليسار الجديد التي ازدهرت في ستينات وسبعينات القرن الماضي. وإذا كانت هذه الظاهرة في الغرب قد استندت إلى تنظيرات جديدة تستدرك غياب البعد الديموقراطي في الأحزاب الشيوعية السائدة، فإن هذه الظاهرة اتخذت عندنا شكلاً أصولياً أو سلفياً تجلى في العودة إلى الأصول الماركسية الأولى بوصفها مصدر الحقيقة.
يشير اسم المنظمة الشيوعية العربية إلى عدم الاقتصار على الساحة السورية، وقد كان لها تواجد تنظيمي في لبنان وسوريا والكويت، قبل أن تقوم بنشاط عسكري تعرضت في إثره إلى ضربة قاصمة. وبحسب فارس مراد وعماد شيحا، وهما من أعضاء التنظيم الذين قضوا حوالي 30 سنة في سجون نظام الأسد، فإن العمل العسكري لم يكن الطريق النضالي الذي اختاره التنظيم، بل كان بمثابة رافعة دعائية لشد أنظار الجمهور إلى ما يطرحه التنظيم. وقد انتهى نهاية مشابهة وفي الفترة نفسها، تنظيم شيوعي آخر ذو بعد عربي أيضاً ولكنه أقل شهرة اسمه “الحزب الشيوعي العربي الماركسي اللينيني الموحد” .
أما حزب العمل الشيوعي الذي ابتعد عن الخيار المسلح، متعظاً من مصير من سبقه، فهو برأينا التنظيم اليساري السوري الوحيد، بعد 1970، الذي اختبر إلى النهاية، طريق “الفروسية السياسية” وحدوده. فقد حاول أن يكون ما يتصور أنه ينبغي على “الحزب الثوري” أن يكونه، فارس الساحة والمعبر الاستراتيجي عن مصلحة الشعب في تعبيره الاستراتيجي عن مصلحة الطبقة العاملة، بناء على ما تقوله “رياضيات” الماركسية.
بعد إفراج السلطة الأسدية في شباط/فبراير 1980، تحت ضغط احتدام الصراع مع الإخوان المسلمين، عن المعتقلين الشيوعيين، وغالبيتهم من رابطة العمل الشيوعي، صدر العدد 43 من الجريدة المركزية للرابطة (الراية الحمراء) وفيه تتساءل الرابطة “هل يجب اعتبار القوة الدينية الحلقة الرئيسية التي يجب مواجهتها عوضًا عن النظام”؟ وتجيب: “الصراع في سورية لا يزال قائمًا بين فئتين برجوازيتين وعلى نفس الأرضية والأهداف وغايات واحدة في الأخير، ولا يزال النظام في ذلك الصراع هو الطرف الأكثر قوة وبأسًا وتأثيرًا على حركة الواقع والجماهير وقواها السياسية، إنه لا يزال يشدد القمع ويكبح جماح الحركة الجماهيرية، وكل هذا يؤكد بأنه الحلقة الأولى التي يجب أن يتوجه إليها نقدنا وتحريضنا وفعلنا السياسي حتى نكسرها” . والحقيقة أن متابعة أدبيات الرابطة ثم الحزب تبين أنه وزع نيرانه على طرفي الصراع معتقداً أن الجماهير سوف تتحرر من سيطرة هذين القطبين وتشكل قطباً شعبياً ثورياً ضدهما. هذا ما يفسر بدء الرابطة في إصدار نشرة ذات طابع تحريضي شعبي باسم “النداء الشعبي” ضد طرفي الصراع، بدءاً من نيسان/أبريل 1980.
على كل حال، أراد هذا التنظيم أن ينهض بذاته، وأن يتعامل مع الداخل والخارج من موقع أنه “الحزب الثوري”، فانتهى معزولاً ثم محطماً، رغم النضالية العالية التي تمتع بها أعضاؤه، ورغم التضحيات الكبيرة التي قدمها جسد التنظيم ومحيطه الاجتماعي.
الخط الثالث المزعوم، الخط الثالث المرفوع
في الصراع الذي انفجر بين السلطة الأسدية والإسلاميين السوريين، نظر الاتجاه الثاني مع من اليسار السوري إلى نفسه على أنه يمثل “الخط أو القطب الثالث” بين طرفي الصراع المحتدم في سورية حينها، وكذلك فعل الاتجاه الثالث. إذا كان الاتجاه الثاني من اليسار السوري (التجمع الوطني الديموقراطي) قد اعتبر نفسه “الخط الثالث”، فقد كان محقاً من حيث أنه يطرح الخط الديموقراطي وسط صراع بين قطبين ديكتاتوريين، ولكنه لم يكن كذلك من حيث أنه لم يمارس نقداً سياسياً إلى طرفي الصراع، مكتفياً بنقد قمع النظام وطائفيته. أما الاتجاه اليساري الثالث الذي مثله حزب العمل الشيوعي، فقد كان محقاً في ان يعتبر نفسه “الخط الثالث” من حيث أنه أطلق نيرانه السياسية، في التحليل والتحريض، على طرفي الصراع دون هوادة وبلغة سياسية حازمة وحادة لا سابق لها في المجال السياسي السوري، ولكنه لم يكن محقاً من حيث أن طرحه الخاص لم يكن ديموقراطياً، فقد ظلت الاشتراكية (بشكلها الديكتاتوري) وديكتاتورية البروليتاريا جزءاً أساسياً من برنامج الحزب.
على هذا فإن اليسار السوري لم يبلور، في الواقع، خطاً ثالثاً متكاملاً حيال الصراع الذي احتدم في سورية في سبعينات وثمانينات القرن الماضي. التجمع الوطني كان خطاً ثالثاً من حيث البرنامج فيما لم يكن كذلك من حيث الموقف السياسي المباشر من الصراع، أما حزب العمل الشيوعي فقد كان، على العكس من ذلك، خطاً ثالثاً في الموقف السياسي من طرفي الصراع، ولكنه لم يكن كذلك في البرنامج.
خاتمة
ظلت الجماعات السياسية السلمية في سورية بعد انقلاب البعث 1963، هامشية التأثير. الكلمة للقوة فقط. وقد انطبق هذا على حزب السلطة نفسه حيث أُبعد الجناح المدني منه إلى السجون والمنافي والهامش على يد الجناح العسكري. اليسار السوري، بكامل طيفه، كان هامشياً على الساحة السياسية في سورية، ويصعب رد ذلك إلى شيء آخر سوى سيطرة القوة المباشرة على المجال السياسي، السيطرة التي تحيل إلى الصفر فاعلية كل شيء آخر (الصوابية البرنامجية والمهارات التكتيكية والوعي النظري … الخ).
توزع طيف اليسار السوري إلى ثلاثة اتجاهات متباينة، دون أن يثمر أي منها عن قوة مؤثرة في الواقع السياسي. اتجاه الانحياز إلى السلطة واتجاه الاتكاء على الإسلاميين واتجاه الاعتماد على الذات.
يمكن القول إن الاتجاه الثاني (الاتكاء على الإسلاميين) انطوى على مفارقة مثيرة للاهتمام، فقد كان الحزب الشيوعي الذي مثل هذا الاتجاه، هو الأكثر إدراكاً لأهمية الديموقراطية، وهو الحزب الوحيد الذي تخلى عن اسمه “الشيوعي” انسجاماً مع برنامجه، ومع ذلك، وجد نفسه، مع حلفائه، مضطراً للتقرب أو الاستناد على قوى إسلامية معادية للديموقراطية. هذه المفارقة تجد تفسيرها، مرة أخرى، في الضعف المزمن لليسار.
لم يقصر اليسار السوري المعارض في العمل وفي تقديم التضحيات، مع ذلك يكاد يكون تأثيره لا يذكر في تاريخ سورية، الأمر الذي يطرح علينا البحث عن سبيل إضافي أكثر جدوى للعمل وسط الشروط الاجتماعية والثقافية التي تحكم مجتمعاتنا، ووسط الشروط السياسية والأمنية التي تفرضها السلطات الحاكمة في بلداننا.
مجلة قلمون