جوائز اللامعنى/ نجوى بركات
لا أجلس مع كاتبٍ شاب، ولست أدري إن كانت كلمة “شاب” معبّرة فعلاً عن واقع الحال، إلّا ويحدّثني عن الجوائز، فهو إمّا بات متملكاً كلّ مكوّنات الوصفة التي تتيح له بلوغها، بدليل أنّه حاز منها هذه أو تلك، أو أنّه يتساءل عن كيفية الترشّح لها أو الوصول إليها، لأنّه، خارج تلك القوائم التي يتهافت عليها القرّاء، لن يكون له وجود. نعم، ثمّة كتّاب، موهوبون، باتوا لا يقيّمون أعمالهم سوى بمقدرتها على المثول في قائمة هذه الجائزة أو تلك. وإن حاولتَ لفتَ انتباههم إلى ضرورة التركيز على ما هو أكثر جوهريةً وأهمية، عادوا إليك بتلك النظرة المواربة التي تقول، من دون أن تقول، إنّك بتّ “خارج الصورة” يا مسكين، أو إنّك قديم الطراز تنتمي إلى عصر لم يعد، فمن تراه ما زال مؤمناً اليوم بمقدرة “الجيّد” على اختراق الصفوف ولفت الأنظار وفرض الذات. كاتب اليوم بات يريد اعترافاً سريعاً به، أيّاً كانت قيمة هذا الاعتراف أو مصدره. أصلاً، لم يعد النقاش بعُرفه يطاول مضمون الكتاب، مزاياه، خصوصيّته، بل هو مدى حضوره على ألسنة الناس وفي وسائل التواصل، وانتشار صور كاتبه مشاركاً في هذا النشاط أو ذاك، ما يحدّدان أهميته.
ولا ألتقي قارئاً مطّلعاً إلّا ويكون قد قرأ من رشّحته الجوائز وثبّتته بعُرفها كاتباً “جديراً بالقراءة”. وإذا ما غامرتَ وحكيتَ عن كتاب جميل لم يسمع به، وهو ما يحصل لجميعنا، تراه يرفرف بعينيه شبه ممتعض، إذ ما بك تخرُج عن الموضوع وتحيد عن الصراط لتكلّمه بلغةٍ غريبةٍ ومنغلقةٍ لا يريد تعلّمها ولا هي تخاطبه أو تعنيه. هو يريد أن يسمعك تحكي عمّا يعرفه سلفاً، وأن تعلّق بما يقوله الجميع، ففضوله غائب، واهتمامه صفر، ورأسه مبرمجٌ بناء على قوائم جاهزة لا تستطيع أن تضيف إليها أو تشطب منها حرفاً. وإذ يحدوك أملٌ للقيام بمحاولة أخيرة، فلعلّ وعسى ومن يدري، سوف يفاجئك السؤال اللئيم بضربته القاضية التي لن تقوم لك من بعدِها قائمة: غريب، ولمَ لم يمثل الكتاب على أية قائمة إذا كان بهذه الأهمية، وهل نال كاتبُه أية جائزة من قبل؟
قلّما نقرأ في أيامنا هذه تقييماً حقّاً لعمل حقّق نسبة معيّنة من الانتشار. الأعمال المغمورة، مهما علا شأنها وارتفعت قيمتها، لن تجد من يغامر بالحديث عنها. أصلاً، في غياب شبه تام للصحافة الثقافية وانعدام النقد الجاد، المطلوب منك اليوم بوصفك متابعاً للشأن الأدبي والثقافي، هو الابتسام والتصفيق مع جوقات المهنّئين والمصفّقين وما أكثرها. أجل، مطلوبٌ أن تُبارك وتهنّئ وتتمنّى التوفيق والنجاح لكي تثبت للآخرين أنّ لك أخلاقاً رفيعة وروحاً رياضية ونياتٍ حسنة، وأنك تتمنّى الخير للغير! ولا، ليس مطلوباً أن تناقش، تنتقد، تفنّد، تحاسب، تعترض، فهذا كلّه إقلاقٌ لنظامٍ الجميع متفقون عليه ولا يُراد لك أن تقلقه بأي شكل. الكتّاب والمثقفون والقرّاء باتوا جميعاً يتكلّمون اللغة نفسها، يروّجون القيم ذاتها، يتشكّلون في دوائر مقفلة متكرّرة متشابهة، حيث يمسك الجميع بيد الجميع، منعا لأي تعدّ، لأيّ اختراق.
“الكاتب العربي مسكين، والكاتب العربي يحتاج الدعم المالي الذي توفّره الجوائز، ومن حقّ الكاتب العربي أن يتمتع بشيء من التكريم”! هذا ما تسمعه ما إن تفتح فاك لتقول: مبروك يا إخوان، ولكن… لا، ليس من لكن! فأنت لن تسمع إلا في حالاتٍ نادرة جداً أنّ الكاتب العربي بات يخاف أن يعلّي الصوت لكي لا يُستبعد من دوائر المحظيين، وأنت لن تسمعه يقلق لتسطيح الأدب وضرب الذائقة الأدبية وتغييب كل عمل من شأنه أن يعترض ويفكّك ويجرّب ويخرّب ويغامر ويستفزّ، أي كلّ ما يشكّل فعلاً جوهر الإبداع وعلّة وجوده.
قلّما انتقد الكاتب العربي الجوائز بوصفها قوة ضاربة خطرة، تعمل بنعومة وذكاء، وتوزّع عطيّاتها على من يلملم أطرافه ويقصّ أجنحته ويتحجّم لتؤاتي مقاساتُه حجم قفصها الذهبيّ!
العربي الجديد