حامد بدر خان: الشاعر الطليق ولكن في قفص/ نبيل سليمان
“أشعارنا صغيرة/ كهنيهات/ ترابية اللذة/ … قصائدنا ليست ملاحم خالدة/ مثل إلياذة/ أو أوديسة/ مثل شاهنامت/ أو ألف ليلة وليلة/ بل كالشجيرات المتكاثفة/ … ليست ماجينو أو سينغريد/ قصائدنا/ ليست جبالًا من الإسمنت المسلح/ من دمنا هي”…
أيًا يكن من تعنيهم (نا) الدالة على الجماعة في هذه السطور/ الأبيات الشعرية، فهي ترسم ما يعنيه الشعر لصاحبها، الشاعر الكردي السوري حامد بدر خان (1924 – 1996). وليس يخفى أن هذه الهنيهات والشجيرات التي جِبلّتها لذةٌ ودمٌ وتراب تستبطن مضاهاة الملاحم الخالدة بقدر ما هي براء من الصلادة (الإسمنت المسلح).
قرابة ثلاثة عقود انطوت على رحيل حامد بدر خان، داورتُ خلالها الكتابة عنه مرة بعد مرة، فكان يعجزني أمران، أولهما أو ثانيهما الصداقة التي جمعتنا خلال إقامتي في حلب (1972 – 1978)، والتي لم تزدها إقامتي من بعد في اللاذقية إلا حرارة رغم الجغرافيا والنأي. أما الأمر الثاني أو الأول فهو أني كنت – تراني لا زالت فيما تبقى من العمر؟ – أحلم بكتابة رواية عن حياة حامد بدر خان، ولعل كاتبًا أو كاتبة، وبخاصة من المبدعين الكرد من أي جيل، يحقق هذا الحلم، وأول عناصره أن حامد بدر خان ولد في قرية شيخ الحديد (شييّه) من أعمال عفرين على الحدود السورية التركية، وكان قد سماها (صومعة الفكر) وفيها كان مثواه الأخير، على سفح الجبل.
سكنت الطبيعة روح الشاعر كما سكنت شعره الذي تبرق فيه غابات عذراوات وينابيع زرقاء وزيتون ونهر ورياح… ولئن كان ذلك يلوح بالرومانسية، ففي شعر الشاعر أيضًا مستنقعات وحفر وضجيج أحمق وصرخات عميقة وضحكات تصمّ وغشاءات الزيف وأزهار الشر… إلى آخر ما يشكل النقيض. ولقد رهن حامد بدر خان حياته وشعره لمقاومة هذا النقيض والتبشير بنقيضه.
في البداية كان اسمه حميد مراد حسن خضر. ويُروى أنه حين هرب إلى تركيا من جَوْر أهل الجور حمل اسم حميد آراغون تيمّنًا بالشاعر الفرنسي لويس آراغون. ومن بعد، في دمشق، منحه الكاتب جلادت بدر خان اللقب، فصار اسمه: حامد بدر خان.
في الرواية/ الحلم أو الحلم/ الرواية أن الشاعر عمل في الباطون وتزفيت الطرق وفي المطبعة وفي… وفي تركيا درس الأدب في جامعة إستانبول، كما درس الفرنسية في أحد معاهدها، وصادق ناظم حكمت وعزيز نيسين وأستاذه ممدوح حليم، ومعهم ومع آخرين كان تأسيس الحزب الشيوعي التركي، واعتقل بالتهمة الشيوعية، لكنه هرب إلى (شييّه/ شيخ الحديد)، ثم تابع الفرار إلى دمشق التي ستجمعه بحنا مينة وسعيد حورانية ومظفر النواب وممدوح عدوان ومحمد عمران ومصطفى الحلاج وفاتح المدرس ووحيد استانبولي وعلي الجندي: نجوم الشعر والرواية والقصة والفن التشكيلي، وسوف تظل حياة حامد بدر خان تغتني بمثل هذه الصداقات، وبخاصة في حلب.
قبل ذلك كله، حين عاد من دمشق إلى شيخ الحديد/ شييّه عام 1951، بعد ما حمل اللقب الذي سيلازمه، كان لروحه الوشمان: أولهما اللغة العربية التي علمه إياها في القرية المعلم رشيد عيد المجيد، والوشم الثاني هو صداقة هذا المعلم وزوجته نازلي خليل (أم فؤاد).
ولسوف يغدو منزلهما في حلب، حين ينتقلان إليها، منزله ومنتداه أيضًا. أما نازلي خليل، فهي الملهمة التي فوضها الشاعر بالتصرف بأعماله الأدبية وممتلكاته. إنها (إلزا) حامد بدر خان، كما كانت لآراغون إلزا. وقد طبعت نازلي/ إلزا على نفقتها الأعمال الكاملة لحامد بدر خان في 949 صفحة؛ وقدم لها محمد جزائر حمكوجرو، وجرى توزيع المجلد الضخم مجانًا.
في تراث حامد بدر خان ديوانان بالكردية، وخمسة عشر ديوانًا بالتركية، واثنا عشر ديوانًا بالعربية. وقد كان لي شرف إصدار ديوانين بالعربية، أولهما (على دروب آسيا) عام 1983، وهي السنة التي تعرض فيها لأزمة قلبية، وكنت قبل ذلك بسنة قد أسست دار الحوار للنشر في اللاذقية. أما الديوان الثاني فهو (ليلة هجران) الذي صدر عام 1988 بعدما نام في أدراج رقابة اتحاد الكتاب برئاسة علي عقلة عرسان منذ 1984.
تفتتح الديوان الأول قصيدة (ترجمة في حال الوصية) ومنها: “وصيتي مكتوبة فوق يدي/ ليس لدى كاتب بالعدل/ أترك عظامي إلى الأرض والزمن/ ولحمي إلى الديدان!/ وربما يأخذونه إلى الأفران/ دون رضائي/ لا أدري…/ أما الدماغ بما يحتوي/ فإلى الولادة الجديدة في كل جيلٍ/ عند بزوغ كل فجر/ إلى الأطفال…/ من فؤادي”. وقد أهدى الشاعر قصيدته (إلى إلزا تريبولي رفيقة الطريق)، ومنها مناجاته للفرات: “يا فرات/ إن آراغون يكتب عن الربيع الهارب/ على عيون إلزا التي لن تلمع في المرآة/ والعينان بلون المطر/ وإن أبا العلاء بيده المقلاع/ في كروم معرة النعمان/ يطارد الديدان/ عن الأوطان”. وفي هامش هذه القصيدة أن (الربيع الهارب) هي آخر قصيدة كتبها آراغون بمناسبة موت زوجته إلزا، أما (الديدان) فهي ما كان يطلق على العملاء في اصطلاح الثوار الكوبيين من رفاق غيفارا.
والآن، هذا هو حامد بدر خان، بعد كل ما تقدم، ولكن بقلمه هذه المرة، كما نقرأ في قصيدة (من أنا): “الجداول الجبلية منحدرة نحو البحر/ وأنا ابن القرية البعيدة/ متجه نحو المدينة/ أفتش عن السعادة والاطمئنان/ بعد غربتي التي طالت بين أروقه المعاهد/ والجامعات/ في الحقول والغابات/ في السجون/ والمعتقلات/ ما كان يخطر ببالي/ أن الحياة مليئة بالصعوبات والعراقيل/ أنا القطرة التي تروي غصن شجرة الزيتون… والخوخ/ … أنا الكومونة/ … أنا سيمفونية خاجا دوريان: إلى الشهداء/ أنا لدى السلطان والخليفة/ وفي خفايا جسدي/ خنجر للخوارج/ وسمّ القرامطة والطغاة/ أنا نظرات غيفارا قبل الموت/ وشهيد غزة في شارع عمر المختار/ وقنبلة موقوتة/ تحت البنوك في تل أبيب/ محير العقول بالسي. آي. إي”. ويعد الشاعر أيضًا أنه وقفة بوشكين وليرمنتوف وطرفة بن العبد، وأنه “السماء في مزاج الجاحظ”. وأخيرًا: “أنا الآتي…/ القرن الحادي والعشرون”.
في ديوان (على دروب آسيا) واحدة من أطول قصائد حامد بدر خان التي تميل إلى القِصر بعامة. والقصيدة المعنية هي (أفتش عن قاتل لوركا). وتختم الديوان قصيدةُ (حتى آخر باستيل) التي أراها نشيدًا للحرية، وأولها: “أرقص/ أرقص/ حتى آخر باستيل يتهدم”. وبالمناسبة، كان حامد بدر خان يسمي المخابرات (الخازوق) فيقول: جاء الخازوق راح الخازوق”.
يحتشد شعر حامد بدر خان بالإشارات التاريخية والثقافية. ومن كثيرٍ أشير إلى قصيدة (قلب ربيعي في خريف العمر) من ديوان (ليلة هجران) وفيها: “أنا لست ألفريد دي موسيه/ ولست شوبان/ وأنت مثل جورج صاند/ بيننا”. ومن جورج صاند أتى الشاعر بعتبة القصيدة التي حمل الديوان عنوانها (ليلة هجران). وتمضي الإشارة إلى أندريه جيد وثورة الزنج وكربلاء وسيف الدولة ومسرحية السيدة لإبسن وجميلة بوحيرد وأنجيلا ديفيز والنبي يحيى وهيرودتس وبيكاسو ومعين بسيسو وحنا مينة والجنرال ويستمورلند قائد الحملة الأميركية على فيتنام…
في ديوان (ليلة هجران) كما في ديوان (على دروب آسيا) لا تفتأ الرومانسية تتمرأى. وقد سبقت الإشارة إلى الطبيعة. ومن ذلك أيضًا قصيدة (الحب للشاعر القروي)، والتي تبدأ بالقروي القادم إلى المدينة حيث: “الحب في المدينة/ يترعرع في رزمات الأوراق المنفوشة/ والمعدن الصلب اللامع/ وينعش قلبه بالويسكي والشمبانيا”. ولأن المدينة كذلك يهتف الشاعر بذاته: “ارجع إلى قريتك يا صاحبي/ إلى كرامتك إذا بقي منها شيء” ويهتف “ابتعد عن هذه المدن المسمومة” و”ارجع إلى قريتك… نبعك الحار”. وتتعزز هذه الصور الشعرية للذات بين قصيدة أخرى، كأن نقرأ في قصيدة (فالليل كثير النجوم): ” لا أدري/ من أين تأتي قرابتي/ للسلالات المنقرضة من الحيوانات/ مثل الديناصورات والماموت/ أعرف جيدًا في دمي غليان من أقدم العصور”. كما نقرأ في قصيدة (موت العبيد): “رأسي مثل تمثال سومري/ في قاع الأيام والسنين/ وجهي متحيّر/ رمز لجنون العصر”. غير أنه مهما يكن من شأن الرومانسية هنا، فما يمور به شعر حامد بدر خان هو ما تشربته روحه من النشأة والثقافة والسياسة والترحال. وهكذا يكون لكوبا أو فيتنام أو ناظم حكمت أو الجولان أو الجنرال جياب أو البيان الشيوعي أو أميركا أو… حضورها الفعال حتى لو كان لا يعدو ومضة. واللافت في ذلك هو حضور فلسطين، ومنه في قصيدة (خريف العمر): “أنا آتٍ إليك/ من أساطير الشرق الحزينة/ وقلبي ممزق/ مثل أطفال الخليل وصفد/ ونساء بيت لحم”.
***
ثمة حوار خاطف أجراه رياض صالح الحسين (1954 – 1982) مع حامد بدر خان، نشر في مجلة (جيل الثورة) التي كان يصدرها اتحاد الطلبة في دمشق في سبعينيات القرن الماضي، وأُعيد نشر الحوار في مجلة (أبابيل) الإلكترونية، عن قصاصة غير مؤرخة من أرشيف نذير جعفر. ومن قروية وفلاحية حامد بدر خان يمضي إلى لقائه بآراغون وإلزا، فإلى الأصدقاء الذين هم كالتراب والماء والهواء، تجدهم في العالم كله، ومنهم في سورية، ولكلٍ منهم عنوان: سعيد حورانية: الصدق والمجابهة؛ حنا مينة: الحب والبساطة؛ علي الجندي: أصابع الموتى؛ ممدوح عدوان: عظيم في الشعر؛ علي كنعان: نموذج للاشتراكي المتواضع؛ بندر عبد الحميد: صوت القاطرات الرائعة؛ نزيه أبو عفش: النبي إرميا؛ بشير البكر: رامبو غاضب وعاشق مجنون. ومن هؤلاء من كتب عن حامد بدر خان، فالشاعر بندر عبد الحميد يرى أن الصور الشعرية لحامد بدر خان تجمع أطرافها من لغة الناس ومن كتب التاريخ الجديد والجغرافيا الجديدة، فتنقل التجربة من عالم داخلي متحرك إلى عالم خارجي مملوء بالتناقضات، يحتاج إلى معرفة اللون واللحن، وتنمو فيه الأشجار المثمرة والأعشاب الضارة. ويكتب الشاعر حسين درويش قصيدة (حامد يرى قوس قزح) ومنها: “يسمونك البنفسج في النحيب/ يهدون صمتك شمس المغيب/ … يمتد القنديل الأخير/ بقوس قزح على جسدك/ يلونك بألوان ثلاثة/ الأخضر امتداد الوطن في عينيك/ الأحمر نزيف الطلقات من يديك/ الأبيض… راياتك الأخيرة”. وقد كتب حواس محمود عن ديوان (على دروب آسيا) فرأى فيه تلخيصًا لمرارة الحياة في منطقتنا، وانعكاسًا لإخفاقات الشعوب في نشدانها للحرية: ويرى حواس أن حامد بدر خان قرين لنيرودا وإيلوار ومحمود درويش. ولست أنسى كيف أومض حامد بدر خان في رواية خالد خليفة (لا سكاكين في هذه المدينة) حين تحدث فيها آزاد عن العجوز ذي الحواجب الكثيفة: “خالي شاعر الأكراد حامد بدر خان” فنقرأ للسارد: “وكان الرجل الستيني خجولًا كعصفور في قفص”.
غير أن ما كتبه ممدوح عدوان عن حامد بدر خان يظل الأوفى، سواء تعلق بحياته أو شخصيته أو شعره: “حامد، منذ أن عرفنا عليه محمد الجندي أيام العمل في جريدة الثورة في أواسط الستينيات، ظل فيه شيء لم يتغير. كان الجندي يعطينا قصائد حامد بدر خان لكي ننشرها في الصفحة الثقافية، وكانت قصائد نثرية. وكنت أحس بشيء من الركاكة فيها، حتى أنني كنت أسمح لنفسي بالتدخل في بعض الصياغات أحيانًا. ولكنها كانت قصائد تنم عن رؤية كونية وشفافية يجرحها النسيم. وصارحت الجندي بمسألة الركاكة، قلت له يبدو لي كأن هذا الشعر مترجم، فسألني: وبمعزل عن الصياغة، أقصد لو أنها كتبت بعربية سليمة، ماذا سيكون رأيك فيها؟ قلت جيدة. فقال لي ببساطة: تدخلْ. أنت شاعر. إن كان هناك ما يدعو للتدخل والإعادة، فَلِمَ لا؟ قلت له ولكن الشعراء عادة يتضايقون من تدخلات الآخرين في صياغتهم. قال بثقة: إلا حامد. إنه يعرف أن قصائده مترجمة. هو لا يتقن العربية جيدًا. تطلعت إليه مندهشًا، فقال: حامد كردي، ولا يعرف العربية جيدًا. قدّر الجهد الذي يبذله للكتابة بالعربية. إنه يفكر بالكردية ويكتب بالعربية.
هذا يعني أنه يترجم في أعماله ما يكتبه.
قلت لحامد بعد أن تعارفنا: أتمنى أن أعرف كيف تبدو قصائدك بلغتها الأصلية. هزّ رأسه وقال: ألا يصلك منها ما يكفي؟ لا تهتم بما تبقى.
كان هذا جوابًا مبهمًا من شاعر، وليس شاعرًا عاديًا. إنه لا يكتب بغزارة فقط، بل يعيش بالشعر وللشعر. هذا الفلاح الذي يعتني بأشجار الزيتون، والذي لأصابعه قسوة جذوع الأشجار، والذي يبدو وجهه، بحاجبيه الكثيفين المبعثرين وعينيه الزيتونيتين وملامحه الأبوية، وكأنه نحت بإعجاز لكي يكون ابنك أو أباك معًا. كيف يجمع هذا الأبوة والبنوة في آن؟ الأهم من هذا كله كيف يبكي بهذه السرعة؟ لم يجلس مرة معنا، أنا وعلي كنعان ووديع اسمندر، إلا وبكى لسبب أو لآخر. يبكي وهو يسمع الشعر، ويبكي وهو يقرأ الشعر. ويبكي وهو يتحدث عن الزيتون. ثم يبكي وهو يحكي عن الشوفينية، ويشتم بطريقته الطفولية الشوفينيين العرب والشوفينيين الأكراد. ثم تختنق التعابير بين العربية والكردية والبكاء والغضب فتبدو وكأنها ستعتصر روحه، حتى لتخاف عليه. ويجد مهربه من أزمة التعبير هذه حين تقفز أبيات الشعر التي قالها أو حفظها (يا الله كم كان يحفظ شعرًا!)، لتساعده في التعبير عما كان يريد أن يقوله، ولا ضرورة لأن تسأله في لحظة كهذه لمن هذا الشعر. هو شعره في هذه اللحظة لأن نفسه جادت به الآن. وما تدفق هو عصير الروح.
لماذا أعود إلى الروح؟ إنها عودة خاطئة عند الحديث عن حامد بدر خان. وإذا كان لا بد من الحديث عن الروح هنا فلا بد من ربطها بالشعر. نعم، كانت روحه تنعصر ولكن كما تنعصر حبات الزيتون ليتدفق زيت الشعر منها”.
ضفة ثالثة