حوار سمر يزبك مع سنان أنطون
باكورة “حديث الألف”: مع سنان أنطون/ محمد هديب
كان الروائيُّ والشاعر والمترجم العراقي سنان أنطون أوّلَ ضيوف منتدى “حديث الألِف”، الذي انطلق الأربعاء الماضي في “مكتبة ألف” بـ الدوحة بتنظيم من مؤسَّسة “فضاءات”، ويُقام شهرياً وتديره الكاتبة السورية سمر يزبك التي قدّمت باكورة المنتدى بالقول إنه مشروع لإحياء فعل القراءة عبر علاقة رباعية بين الناشر والمكتبة والكاتب والقارئ.
وعَرض أنطون (1967) رؤيته إلى العالم والذات، ولكن على وجه الخصوص من خلال المنتج الروائي الذي وسم مسيرته منذ 2003، بوصفه المجال الأدبي المرحِّب أكثر من غيره باستلهام واستقطاب روافد معرفية وإبداعية.
على مدار ساعة ونصف، كان الحديث – بين أسئلة وأجوبة تخلّلتها قراءات المذيعة الجزائرية آمال عراب مقاطعَ روائية وشعرية للكاتب – يشق طريقه الشائكة نحو مفاهيم الهوية والوطن والاستبداد والاستعمار الجديد، والموت والطائفية وانحيازات المثقّف.
خزامى
ففي الرواية الأخيرة “خزامى”، والصادرة هذا العام، تَظهر شخصية عمر بأذنه اليمنى المقطوعة، لتقول رأيها في فكرة “الوطن”، أو للدقّة لتحكي ذاتها بتأتأة من لم يعتد تشكيل إطار لغوي متماسك في جملة مفيدة يمكن اعتبارها رأياً أو رأياً آخر.
وهذه الشخصية روائية بقدر ما هي حقيقية عند الكاتب الذي يعشق فنّ النحت، وعند أيّ عراقي تَصادف ميلاده في نصّ الحياة الواقعية.
والآذان المقطوعة، وهي عقوبة حقيقية لكلّ من حاول الفرار من الخدمة العسكرية إبان حكم الرئيس الأسبق صدّام حسين، ونحت الحقيقة لفرد يبحث عن ذاته في جمهورية الخوف، هو المجال الإبداعي الذي قدّم من خلاله أنطون منذ 2003 خمس روايات وثلاث مجموعات شعرية، وفيلماً وثائقياً يتيماً، إلى جانب عمله الأكاديمي أستاذاً للأدب العربي في جامعة نيويورك.
طبقات تراتبية
وعنده، فإن الوطن فكرة جميلة وحلم، لكنّه بشكله المثالي لا يتحقّق للجميع، إذ هناك دائماً طبقات تراتبية يفرضها من يحتكرون السلطة الرمزية والحقيقية، فيدفعون الأوطان إلى ثلاثة مهالك: الطغيان والحروب الخارجية والأهلية. وفي جردة الصور التي يستعيدها مرغَماً وبخياره، تظهر ملامح قديمة لمجتمع غني ومتعدّد، ولكن منهك، وصولاً إلى جثث طافية على مياه البحر المتوسّط في أسوأ مآلات “الوطن” الذي يهرب على كتفَين.
لقد عايش الكاتب الحروب الكبرى وعاين عن قرب أطوَلها وهي الحرب العراقية الإيرانية منذ مطلع الثمانينيات، ولكن في الوقت ذاته يتحدّث عن خياراته السردية بما استطاع إلى ذلك سبيلاً، حيث لم يكن متاحاً سوى سردية واحدة بدعائية أيديولوجية وأجهزة أمنية ترى في اجتماع اثنين من المواطنين محلّ شبهة.
وأعاد أكثر من مرّة القول إنه كان يشاهد في سنّ صغيرة كتّاباً ومثقفين يتقاطرون إلى بغداد في مهرجانات أدبية وفنّية، وكانوا ينظرون إلى بلاده “العلمانية” والتي تقف في وجه المدّ الإيراني، وكان يفكّر كم يمكن أن يكون الفتى على حقّ أمام هذه الأسماء اللامعة؟
صراع سرديات
وبما هي الحياة في نهاية المطاف صراع سرديات، تناوَل السردية التي تنامت لديه من خلال الشغف بأرشفة المواد الصحافية، أو تلقُّف كاسيت لمظفّر النواب الذي ثمّن عالياً حضور قصيدته الشعرية بما فيها من جماليات ومعرفة عابرة لعقود العنف الجسدي والرمزي، سواء منذ زمان الحُكم السابق حتى الحراك الشعبي الواسع في 2019 ضدّ الورثة السياسيّين الجدد.
وما زال في سياق السرديات حين أبدى ملاحظته بشأن عشرات الروايات التي طُبعت عن الحرب العراقية الإيرانية وما تلاها قائلاً إنها “أصبحت في مزبلة التاريخ”، لأنّها كُتبت تحت نظام استبدادي لم يحاول فقط أن يسيطر على الحياة اليومية، ولكن أيضاً على اللغة وإنتاج المعنى.
صدر للكاتب خمس روايات: “إعجام” (2003)، و”وحدها شجرة الرمّان” (2010)، “ويا مريم” (2012)، و”فهرس” (2016)، و”خزامى” (2023)، وثلاث مجموعات شعرية: “موشور مبلل بالحروب” (2004) و”ليل واحد في كلّ المدن” (2010)، و “كما في السماء” (2018).
تصنيف إشكالي
وعرض أنطون لبعض ملامح أعماله بحسب ما كان يُطرح عليه من أسئلة، ومن ذلك روايته الأُولى “إعجام”، وقد صنّفها البعض ضمن أدب السجون، الأمر الذي اعتبره الكاتب تصنيفاً إشكالياً، إذ إنّ الرواية التي تدخل دهاليز السجن تطرح منظومة شمولية تطبَّق على الحيز العام، وما السجن إلّا تفصيل ظلامي.
ووصولاً إلى رواية “وحدها شجرة الرمّان”، يذكر أنّ التقرير الصحافي عام 2005 سيسعفه بالشخصية التي تقوم عليها روايته، وهي شخصية ممتهن غسل الموتى وتكفينهم، المهنة التي ازدهرت بسبب عدد القتلى الكبير، حتى أنّ الرجل فكّر في هجرة البلد كي لا يرث ابنُه مهنة تواجه الجثث يومياً. ومن هذه الإلماعة ينطلق الكاتب إلى السؤال الجوهري منذ غلغامش حول حقيقة الموت.
وإذ تشي تجربة سنان أنطون بموقف غير ملتبس من منظومة الاستبداد فإنه ردّاً على مداخلة أوضحَ أنّ موقفه منذ 2002 كان مضادّاً لجماعة من المثقّفين الذين روّجوا لغزو العراق، قائلاً إنه وقد ترك البلاد بسبب النظام، فإن الموقف منه ينبغي ألّا يعني الاصطفاف في خندق الاستعمار الجديد.
هذا الأمر يشرحه أكثر بأنّ البعض وجد الاصطفاف الأحادي هو الأسهل، بدل تحمل عبئين مضادّين للنظام والغازي، لافتاً في الآن نفسه إلى أنّ ظاهرةً نشأت لدينا وهي صبُّ جام الغضب على هذا الصنف من المثقّفين الداعمين للحرب، بينما يقع تجاهُل مواقف مثقّفين ليبراليين في أوروبا وأميركا لديهم قسط من الحرية واختاروا أن يؤيّدوا الحرب، بل وعملوا مستشارين لقادتها.
كلّ شهر
“حديث الألِف” هو منتدى ثقافي جديد تستضيفه “مكتبة ألف” التابعة لمؤسَّسة “فضاءات”، في مقرّها بمنطقة الدفنة في الدوحة، وذلك في أحد أيام الأربعاء من كلّ شهر. مدّة الجلسة 45 دقيقة مع الضيف، تتخلّلها قراءات من نصوص الكتّاب، ويعقبها حوارٌ مفتوح مع الجمهور الافتراضي والواقعي بين ساعة و45 دقيقة، ويلي الجلسةَ حفلُ توقيع لأعمال الكاتب، والتي تُوزَّع مجّاناً للجمهور الحاضر، دعماً للقرّاء والكتاب ودُور النشر.