حوار سمر يزبك مع ممدوح عزام
ممدوح عزام في “حديث الألِف”.. جغرافيا الرواية ومكرُها/ محمد هديب
يقرّر ممدوح عزام (1950) التخلي بتهذيب عن مجموعته القصصية الأولى “قصص مكتوبة مرتين” الصادرة عام 1983. إنه غير راض عنها، وسينتظر سنتين لإصدار مجموعة “نحو الماء” عام 1985. لكن هاتين التجربتين وأُخرى ثالثة عام 2000 بعنوان “الشراع”، كانت كافية لأن يُدركَ أنَّ المتن الروائي الذي شيّده منذ عام 1987 مع رواية “معراج الموت” هو طريقه لا بمقياس أفعل التفضيل، ولكن بحسب قوله: “عرفتُ حدودي حين وجدتُ كتّاب القصة السوريين متقدمين عنّي، فتوقفتُ عن كتابة القصة”.
غير أنَّ الأمر لا تحسمه ميولات تقنية عند الروائي الذي بات اسماً معروفاً على أغلفة ثماني روايات حتى الآن. وفي لقائه مساء الأربعاء الماضي ضمن منتدى “حديث الألِف” في “مكتبة ألِف”، التابعة لمؤسّسة “فضاءات”، وضعنا الروائي السوري أمام سرديّة سوريّة اختارت ذاتها منذ ثمانينيات القرن الماضي.
تصوّر آخر
وفي ذلك يقول: “إنَّ لدى جيل ما بعد الثمانينيات كتابةً مختلفةً وتصوّراً مختلفاً للعالَم وللمجتمع عمّا يفرضه حزب البعث بوصفه حزباً حاكماً فرض مرئياته للتاريخ والحاضر والمستقبل”. وهذا هو “أحد أشكال مكر الرواية”، كما يشير إليه الكاتب، فحين لا تقدر على الكتابة السياسية تحت السقف الواضحة حدوده، تعيد الرواية كتابة التاريخ بما يخالف السائد الذي تسعى السلطة السياسية إلى تأطيره.
للكاتب إذا ما تضامنّا مع حق المجموعة الأولى في تقييدها بدفتر العائلة السردية ستكون الحصيلة “قصص مكتوبة مرتين” (1983)، و”نحو الماء” (مجموعة قصصية، 1985)، وروايات “معراج الموت” (1987) التي أُنتجت فيلماً عام 1993، و”قصر المطر” (1998)، و”جهات الجنوب”، (2000)، ومجموعة قصصية بعنوان “الشراع” (2000)، وروايات “أرض الكلام”، (2005)، و”نساء الخيال” (2011)، و”أرواح صخرات العسل” (2018)، و”لا تُخبر الحصان” (2019)، و”حبر الغراب” (2021).
اللقاء الذي أدارته الروائية السورية سمر يزبك، مع قراءة الإعلامية أماني جحا مقاطعَ من روايات الكاتب، أخذت حصةٌ كبرى من ساعتيه لصالح انكشاف النص الآخر، وهو العناصر الواقعية المؤسسة للرواية.
ما وراء الواقع
وهذه الخلفيات ممّا يشغل تياراً نقدياً يفحص سيرة الرواية والكاتب. وعزام استجاب لهذه الدعوة دون أن يتعب أيّ ناقدٍ، وتحدّث للجمهور بأريحية عن غالبية الوقائع الحقيقية التي حرضته على كتابة كل رواية. فكل القصص الواقعية التي تتناسل وتُورث هي من السويداء، لا بوصفها فقط تلك الجغرافيا الجبلية التي تسكنها طائفته الدرزية، ولكن لأنّه يعرف سلالته معرفة الولادة والوعي الذي يتشكّل تشكّل المسام.
هذا الصدق الذي كتب عنه الروائي الروسي إيفان تورغينيف: “لا بدَّ من الصدق.. الصدق الذي لا يرحم”، يحتاج إلى إعادة خلق، كما يقول عزام، أو للدقة كما يؤكد ما قالته أجيال الكتابة الروائية التي سبقته واستلهمها. إنَّ الخيال الذي يُعيد تشكيل العناصر الواقعية يتحوّل بدوره إلى واقع جديد، ولذلك يقع تأثيره على القارئ، ولذلك قد يزعج أحياناً سلطة دينية أو سياسية، حتّى لو كان خيالاً.
قصر المطر
نتذكر في السياق واقعة روايته “قصر المطر” عام 2000، التي تسبّب من سماهم “أنصاف المثقفين” في إهدار دمه لدى بعضٍ من الطائفة الدرزية “في وشاية من جماعة مُغلقة ليس لديها حس الحرية”. غير أنَّ الكاتب أُحيط بحملة تضامنية واسعة من داخل مدينته. الرواية في هذا المقام تأكيد جديد على كونها معياراً شجاعاً للخلق والدفاع عن حرية الكتابة الخيالية، وهي لا تهدم واقعها، بل تستعيره لتُنشئ عمارة ذهنيّة بين كاتب وقارئ مُنتظر، مستنداً إلى ما قاله الروائي السويسري ماكس فريش في رواية “شتيلر”: “إنّ لا أحد يكتب دون أن يكون هناك قارئ”.
ويدافع ممدوح عزام عن فضائه الروائي في الجنوب السوري، بل تحديداً في السويداء، بالقول: “إنّ الكتابة المنتمية إلى مكان تنتمي بالضرورة إلى هوية سورية”. وقف الروائي العراقي سنان أنطون من قبله ذات الموقف حين سُئل في اللقاء الافتتاحي لـ”حديث الألِف” عن إمكانية كتابة رواية أميركية كونه يعيش فيها منذ عقود، وبشّر القرّاء بأنّ رواياته المقبلة كلّها ستكون عن العراق.
جغرافيا روائية
وكما الحال في سرده الأنيس عن حكايات رواياته، قال عزام مباشرة “إنَّ روائياً مثل خيري الذهبي (1946 – 2022) يستطيع الكتابة عن دمشق، لا لأنّه يتفرّد في معرفة شوارع وأزقة وأسواق المكان، بل لأنه يعرف الدمشقيين”.
وكاتبنا الذي يصرف وقتاً طويلاً في القراءة، أيضاً يقول مباشرة إنّه استعار من وليم فولكنر وغابرييل غارسيا ماركيز السعي إلى إيجاد مكان روائي. الأول هو الذي سجّل شخصية الجنوب الأميركي باسمه روائياً، والثاني ماكوندو في خيال الروائي الكولومبي. وسواء أكان تشكيل الجغرافيا مستنداً إلى اسم واقعي أو أسطوري كماكوندو، فإنّ المكان عند عزام هو البساط بدئي التكوين الذي عليه أن يتوسّع بالخيال ليحمل كلّ هؤلاء الناس ومصائرهم.
وعن عناوين بعض رواياته المأخوذة من أشعار محمود درويش، قال “إنّه مغرم بشعر درويش، وإنَّ العناوين المُستمدّة من قصائده ليست أمراً غريباً، وإنّما تقليد مُتعارف عليه في الرواية العالمية”. يتحدّث الكاتب عن عنوان “حبر الغراب”، وهي استعارة تكرّرت عدة مرات في مجموعات درويش، و”أرض الكلام”، ووردت في ديوان “لماذا تركت الحصان وحيداً” ومنها: “من يكتب حكايته يرث أرض الكلام”.
صمت روائي
والصمت الروائي في الحرب عند الروائي ينبغي تفضيله على الكتابة الركيكة، مشيراً إلى أن الحرب والثورات تكتب الشعارات والبيانات، وليس لديها مُتسعٌ لكتابة رواية، الأمر الذي نقع على نماذج كثيرة له في العالم أنتجت رواياتها بعد انتهاء الحرب.
بل أكثر من ذلك، يلفت إلى أنَّ الثورات قد تضيق ذرعاً بالكتّاب، ومن ذلك ما أعقب الثورة البلشفية في روسيا، فقد غادر مكسيم غوركي بلاده وانتحر سيرغي يسينين وماياكوفسكي، “وهذا لا يعيب الثورة ولا يقلل من شأن الكاتب” على حد قوله. أمّا إذا تمكّن روائي من تفنيد رأي ممدوح عزام، فهذا في ختام قوله ما يتمناه.