صعود الجيوسياسة العالمية وهبوطها/ غازي دحمان
ثمّة مساع تبذلها أطرافٌ دولية لتشكيل نظام دولي جديد يختلف، في تفاعلاته وتراتبيته، عن النظام الدولي الحالي، واللافت أن هذه المساعي لا يقف خلفها المتضرّرون من النظام الحالي فقط، بل حتى الولايات المتحدة، قائدته، تنخرط في هذه المساعي بشكل ملحوظ عبر نشاطها المكثف على المستوى الدولي.
لا يبدو أن الحرب ستكون الأداة الرئيسية لصناعة الديناميكيات المولّدة للنظام الدولي الجديد، مثلما شهد العالم في حقبٍ سابقة، حيث كانت الحروب ونتائجها تشكّل المعيار الأساسي لتشكّل النظام الدولي وتحديد تراتبيته، والسبب أن احتمال حصول حروبٍ كبرى غير وارد إلى حد كبير، في ظل قدرة اللاعبين الدوليين على إدارة حروبهم من دون إيصالها إلى مرحلة الانخراط بحروب واسعة وشاملة، وهو ما أثبتته الحرب الأوكرانية منذ أكثر من عام ونصف العام.
بدلا من ذلك، تأخذ مساعي تشكيل النظام الدولي الجديد مسارات مختلفة وتتعامل بمفاتيح جديدة، منها صناعة التحالفات، عبر عودة سياسة الاستقطاب التي تراجعت مفاعيلها في السنوات الثلاثين الأخيرة، وبعد سيطرة الولايات المتحدة على خريطة التفاعلات الدولية وتحوّلها إلى مركز مؤثر ومحدّد، إلى درجة كبيرة، على طبيعة التفاعل الدولي وحدوده ومدياته، وهو الوضع الذي سمح لها وعبر سنواتٍ طويلةٍ بضبط الصعود الصيني ومنعه من الانفلات، وتحجيم الاندفاعة الروسية عبر استنزافها في أوكرانيا وسورية.
هل باتت الأدوات الأميركية متقادمة إلى درجة أنها لم تعد صالحة لأداء مهمة السيطرة على التفاعلات الدولية، بما يبقيها سيدة النظام الدولي؟ رغم تكاثر المؤشّرات في هذا السياق، والتغير الحاصل في أوزان اللاعبين الدوليين، وظهور ديناميكيات جديدة من شأن تطوّرها تحجيم الدور الأميركي بدرجة كبيرة، إلا أن أميركا ما زالت اللاعب الأكثر فعالية على مسارح الحدث الدولي، كما أن نفوذها يشمل أركان العالم الأربعة. ورغم أن سجّادة نفوذها أُصيبت برتوق عديدة، إلا أن وراثة دورها ومكانتها في النظام الدولي تبدو غير محتملة في المديين المنظور والمتوسّط، وكل ما يحكى عن دور صيني “بصيغ حماسية احتفالية” سيزيح الفعالية الأميركية ليس أكثر من كلام رغبوي لا يؤيده الواقع ولا ترشّحه المؤشّرات.
ما يحصل على مسرح الحدث الدولي ليس أكثر من ردّات فعل، وليست مشاريع مكتملة، أو في طريقها إلى الاكتمال، ومضادّة للسيطرة الأميركية، بما فيها تجمّع “البريكس” الذي يجري أخذه دلالة على تراجع التأثير الأميركي العالمي، فهذه المشاريع تستخدم كونها أوراق ضغط أو عمليات تحوّط مستقبلية، بدليل أن جزءا من مكوّنات هذه التحالفات ترتبط ارتباطا مصلحيا كبيرا بالأميركيين، بالإضافة الى انخراطها بمشاريع أميركية على المستوى العالمي، الأمر الذي يؤشّر إلى هامش المناورة الأكبر الذي باتت تملكه بعض الأطراف في اللعبة الدولية، من دون أن يعني تغيّر أوزان هذه الأطراف في اللعبة الدولية.
بدأ التشكّل الجديد للنظام الدولي يأخذ شكلا جديدا من الصياغات، يقوم على إعادة التقييم الجيوسياسي لمناطق العالم، وصناعة جيوسياسة جديدة ووظيفية بالدرجة الأولى، الهدف منها التحكّم بدرجة كبيرة بحركة التبادل التجاري الدولي وسلاسل التوريد. وبالتبعية، التحكّم بمراكز الإنتاج والأسواق المستهدفة، بما يعنيه ذلك من صعود وهبوط للقوى الصناعية والتجارية العالمية. وبالتبعية، تراجع أدوار الجغرافية التقليدية والمراكز الجيوسياسية التي تأسست طبقا لها.
كانت الصين أول من نبّه العالم إلى هذا النمط من أشكال اللعبة الجيوسياسية، عبر مشروعها “الحزام والطريق” الذي يربط الصين بأسواق أوروبا وآسيا ويمتد حتى قلب أفريقيا، وأصبح هذا المشروع بمثابة المعيار الذي على أساسه يتم تحديد شكل العالم في المراحل اللاحقة، فالصين هي المنتج والصانع، ومراكز آسيا سوف تدور مجبرة في الفلك الصيني الذي سيتحوّل لاحقا إلى وكيل حصري للمراكز الآسيوية، فيما أوروبا هي السوق المستهدفة، بعدما تراجع إنتاجها السلعي بدرجة كبيرة.
استدعى التدخل الأميركي في إعادة رسم خرائط العبور، والإنتاج بالتبعية، الهند وحوافها الآسيوية (فيتنام وتايلند) بدل الصين، استعمال المسطرة والبيكار لرسم مساراتٍ جديدة وتشكيل جيوسياسة تخالف معطيات الجغرافية القديمة، التي شكّلت، في الغالب، مصر وتركيا، وحتى سورية بدرجة ما، الطرق الطبيعية بين آسيا وأوروبا، وتحت عنوان أقدار الجغرافيا سار العالم قرونا مديدة على هذه المسارات، رغم صراعات السياسة والأيديولوجيا وتبدّلات مراكز القوى العالمية وانتقالها من أوروبا إلى أميركا.
هل سيستتبع هذا التحوّل أشكالا جديدة من التفاعل الدولي، وهل سيؤدّي إلى تغيير مراكز اللاعبين الدوليين وتراتبيتهم؟ ثمّة رهانات لدى الصين بأن إمكانية منافستها، على الأقل في المدى المنظور، مستحيلة، على اعتبار أن المنافس الآخر، الهند ودول آسيا الأخرى، لا تملك القدرات التشغيلية التي لدى الصين، وأن بناء هذه القدرات سيستغرق وقتا طويلا لا يملك العالم، الذي أدمن استهلاك المنتجات الصينية، ترف انتظاره.
تلك حقيقة. وفي المقابل، قد نكون إزاء مرحلة انتقالية بحيث تستمر الصين موردا رئيسيا للعالم، من جهة، وتسريع تفعيل البدائل، بحيث تبدأ حصّة الصين بالتراجع رويدا رويدا، وصولا الى مرحلة تتفوّق فيها قدرات الأطراف الأخرى على الإنتاج والتحكّم بسلاسل التوريد، وقد لا يأخذ ذلك مدىً زمنيا يتجاوز العقد. والحال، أننا نقف إزاء مرحلة جديدة في السباق الدولي على السيطرة، عنوانها توظيف الجيوسياسة في هذه اللعبة، بعد أن باتت الفوارق التكنولوجية متقاربة إلى حد بعيد، ولم تعد تشكّل المعيار الأساسي للتفوّق.
العربي الجديد