صيدنايا التي لا تعرف سجنها/ حسام جزماتي
تكاد كلمة التحديات أن تكون الأشد تكراراً في كلام ماريّا سعادة، العضو السابق في «مجلس الشعب» السوري، حين روت سيرتها الذاتية لقنوات مختلفة. وهو ما بات يعدّ أمراً طبيعياً عند سرد «قصة نجاح»، فضلاً عن تشكيلة مفردات مألوفة أخرى من نوع: التفوق؛ محطات؛ مفاصل؛ إنجاز؛ الفرص؛ الصعوبات؛ إعادة التقييم… إلخ.
والحق أن مسيرة هذه المهندسة المعمارية متميزة في السياق السوري رغم نمطيتها. بدءاً من «الشطارة» في الدراسة والحصول على جائزة في الرسم والانضمام إلى «جوقة الفرح» الكنسية التي يشرف عليها الأب الياس زحلاوي الذي يصف تلك الطفلة التي عرفها بالالتزام والعقل الراجح.
ولدت ماريا جميل سعادة في عام 1974. وهي مغرمة بالقول إنها كانت الأولى في معظم الأحيان؛ في المدرسة ثم الجامعة فما تلاها من دبلومات وحياة عملية في مكتب خاص، وبالتعاون مع بعثات أثرية أجنبية، والتدريس معيدة في جامعة دمشق لعقدٍ انتهى بالتزامن مع اندلاع «الأزمة» السورية في عام 2011، والتي كانت «التحدي» الأكبر طبعاً على المستويين العام والشخصي.
عندئذ كانت سعادة راجعة من رحلة لتسلُّم جائزة من لندن دامت تسعة أيام، اكتشفت فيها مزايا «حرية التعبير»، رغم أن ذلك لم يكن السفر الأول لها إلى أوروبا. وبعد «عودتها من الخارج» رأت أن ما ينقص مجتمعنا كسوريين هو أن «نسمع بعض»، فاستضافت في منزلها حواراً هو «الأول» الذي جرى في البلاد، ضم خمسة عشر شخصاً لا يريدون أن يموتوا من أجل صندوق اقتراع أو غيره، وكانوا من مشارب وطوائف وأعمار متعددة. وبعده قررت الانخراط في الشأن العام، بما أنها تعتقد أنها تفهم «تماماً» طبيعة البلد والمجتمع والأسباب التي أدت إلى «المشكلة».
وبما أن الهندسة المعمارية لا تنفصل عن السياسة، وفق تعبيرها، فقد انشغلت بالبحث عن طريقة إبداعية للتعبير، لا طريقة المظاهرات، فأسست مجموعة باسم «عبّر لتؤثّر»، سرعان ما قادتها إلى الترشح لعضوية «مجلس الشعب» في عام 2012، بناء على اقتراح الأعضاء من الشباب لتكون صوتهم تحت القبة.
تلك السنة كان النظام في أزمات حقيقية، منها انكفاء بعض محسوبيه عن أدوارهم في تمثيلية هيئته التشريعية المزعومة، وانشقاق آخرين أيدوا الثورة أو بضغط مجتمعاتهم المحلية، إلى درجة تمديد فرصة الترشح لأسبوع إضافي كان كافياً لماريا سعادة لتطلق حملتها، الأولى من نوعها «طبعاً»، لأنها كانت تحت شعار «نريد، نؤمن، نستطيع» القابل للترجمة بسهولة، أو المترجَم أصلاً كمفاهيم وإيقاع.
نجحت سعادة في «الانتخابات» لجمعها بين كوتا المسيحيين (الروم الأرثوذكس) والمرأة والمستقلين و«الوجه الحضاري». وفي «البرلمان»، كما تفضّل «النائب» أن تقول، تمييزاً لنفسها عن الزملاء المتجهمين من بعثيين وحلفائهم، لم تقصّر سعادة في تمثيل النظام في محافل سياسية وبرلمانية أوروبية، والتقت بابا الفاتيكان مرتين لتنقل له رسالة «الشعب السوري» التي غيّبها عنه الإعلام المغرض. كما كانت، عند عودتها، تشرح لمواطني القرية السورية الكبيرة كيف أن مزيداً من الجهد السياسي والإعلامي كفيل بجلاء حقائق الوضع لجمهور أوروبي مضلل من أخمص شبابه إلى قمة برلمانييه.
تُختصر أفكار ماريا سعادة في أن ما يجري في البلاد هو حرب على الدولة بهدف تفكيك المجتمع، تقودها الولايات المتحدة الأميركية وتستخدم فيها دول الاتحاد الأوروبي والسعودية وتركيا وسواهم، عبر أدوات «معارضة» محلية مصنّعة في الخارج. فعندما يكون البلد برمته في خطر لا مجال لاستخدام «مصطلحات غريبة» مثل معارضة وموالاة أو «مفاهيم مستوردة» مثل المجتمع المدني أو الأهلي، كما تقول المهندسة الاستشارية التي تفتخر بأنها تستوعب الأمور «برؤية ثلاثية الأبعاد» بفعل «الفطرة» التي تورثها الهندسة لأصحابها.
الكلمة في أثناء «الحرب الكونية» للجيش، والوقت كله له ليحقق الحسم على الأرض وينتصر في ساحة القتال على التنظيمات الإرهابية التي لا تركّز سعادة منها على داعش مخافة أن يوحي ذلك بمهادنة الآخرين واختلافهم. فالكل سواء، حتى من يفكر في تشكيل حزب سياسي في أوار المعركة. ولذلك تنقلت سعادة النائب بين تأسيس الجمعيات والمجموعات بأسماء رشيقة مثل «كلمتنا» و«أجيال»، حتى استقرت على «هنا هويتي» التي تفرغت لها بشكل شبه كلي بعد أن فشلت في تجديد عضويتها في «البرلمان» الذي استعاد راغبيه، وفوقهم صاعدون جدد من الشبيحة، في دورتي عام 2016 و2020.
تعرّف «هنا هويتي» نفسها بأنها «مؤسسة تنموية تسهم في إعادة ترابط نسيج المجتمع السوري». ولتحقيق ذلك تتعاون مع بعض مدارس النخبة باهظة التكاليف في العاصمة، ومع مؤسسات داعمة كبعض الجمعيات الإيطالية والمركز الثقافي الروسي. وقد نظّمت دورات متتالية من مشروع «يافعين فاعلين» يضم كل منها عشرات الطلبة (15-18 سنة). كان أبرز نشاطاتها غرس شتلة زيتون قادمة من فلسطين في احتفال دعي إليه وزيرا الزراعة والتربية في حكومة دمشق، أقيم بمناسبة السنة الأولى لتأسيس المنظمة وتليت فيه صلاة للمحبة والسلام.
منذ ثلاثة أعوام تنظم «هنا هويتي» نشاطاً شبه كشفي، يقيم فيه اليافعون وأهاليهم في دير مار توما في مدينة صيدنايا بريف دمشق، حيث يعيشون بين الطبيعة والتراث والطاقة المتجددة ويتلقون تدريبات في مجالات عدة؛ كاليوغا وتحرير الروح والارتقاء بها، ومهارات تقديم الذات على مواقع التواصل الاجتماعي وسواها، والوعي بتأثير الحياة اليومية وبناء الشخصية، يلقيها «كوتشات» لبنانيون على الأغلب.
هل قلنا إن سعادة من صيدنايا بالأصل؟!
يبدو أن الأمر قد فاتنا، كما فاتها قبل أن تعود بفريقها من اليافعين وذويهم إلى بلدها مرة في السنة. وكما نسيت أن تصحب ضيوفها في زيارة، كانت ستبقى في ذاكرتهم طويلاً على الأرجح، إلى السجن الذي تشتهر به هذه المدينة، ليعاينوا عن قرب جانباً من انتصارات الجيش، وبعض نتائج قصة نجاحه الدموية… رغم التحديات!