قصة “سوريا الصغرى” أوّل الأحياء العربية في أميركا/ تيسير خلف
عاش 80 عاما وأزيل بسبب نفق بروكلين ومبنى التجارة العالمي
لولا صحيفة “كوكب أميركا” لما عرفنا إلا القليل عن حي “سوريا الصغرى” في قلب مدينة نيويورك. فهذا الحي الإثني الذي نشأ أواخر ثمانينات القرن التاسع عشر في شارع واشنطن، وأزيل معظمه في العام 1945 مع البدء بمشروع نفق بروكلين- باتيري، شكّل التجمع السكاني الأهم لعرب شمال أميركا، والمركز الأهم لحضورهم التجاري والثقافي بنكهته السورية.
بدأت النواة الأولى لهذا الحي بالتكوّن بعد فشل مشروع مدحت باشا الإصلاحي في ولاية سوريا العثمانية، منتصف العام 1880، وكانت الهجرة الأولى لأبناء هذه الولاية التي تشكّلت منها بعد الحرب العالمية الأولى أربع دول هي سوريا ولبنان وفلسطين والأردن، إلى مصر، فأسّسوا فيها حياة ثقافية وتجارية لا تزال آثارها باقية حتى اليوم. لكن آخرين منهم توجهوا إلى نيويورك وبدأوا بتأسيس حياة جديدة لهم اعتمدت على التجارة بشكل رئيس، وتمخّضت عنها حركة أدبية أشهر رموزها الشاعر والفيلسوف جبران خليل جبران.
على الرغم من أن غالبية هؤلاء التجار كانوا من الصنف المتجوّل، إلا أن عددا مهما منهم أنشأ متاجر كبيرة كانوا يبيعون فيها المشغولات والتحف والأقمشة الدمشقية، إضافة إلى المطاعم والمقاهي. كما نشأت شركات استيراد وتصدير هدفها جلب البضائع السورية لبيعها في السوق الأميركية، وتصدير البضائع والمصنوعات الأميركية لبيعها في الأسواق السورية.
حين فكّر المحامي والناشر والديبلوماسي نجيب عربيلي، المولود في دمشق عام 1861، في إنشاء صحيفة عربية في أميركا الشمالية، اختار هذا الحي ليكون مقرا لصحيفته “كوكب أميركا”، وكان اختيارا موفقا، فبالاضافة إلى أن نيويورك هي الميناء الرئيس للولايات المتحدة مع العالم الخارجي، كانت قد أصبحت مركز الجذب الأهم للمهاجرين السوريين، فصدر العدد الأول في الخامس عشر من أبريل/نيسان 1892، متضمنا نبذا من أخبار الوطن الأم، والكثير من أخبار الجالية السورية في “سوريا الصغرى”.
وكان لافتا أن يكون الخبر الأول عن هذا الحي قصة شجار متكرّرة بين السوريين والإيرلنديين الذين يسمّيهم المحرّر بـ”الرعاع”، فيقول (نترك النص كما ورد في الصحيفة): “مساء الأحد الواقع في 2 الجاري عند الساعة الرابعة بعد الظهر كان أحد الفتيان السوريين مارا بشارع ركتُر بالقرب من شارع واشنطون، فعارضه أحد الوزغة الإرلنديين، وهو يظن أن الدنيا ملك مباح للسكيرين، يفعلون بأهلها ما شاؤوا، فتنازع الشابان وتلاكما، وانسل الإرلنديون من دورهم يوسعون الفتى ضربا ولكما، حتى إذا مر شاب آخر سوري ورأى ما يصيب رفيقه الوطني، اندفع لإنقاذه، فأصبح بين أيديهم مهشما، وخرجت فتاة أخرى تدعى بدر الحلبي، وما كادت تمس الزحام حتى وقعت صريعة بآجرّة نزلت على أم رأسها رمتها بها إحدى الفاجرات، فجذبت أصوات الاستغاثة أسماع السوريين، فهبوا من الجوار إلى محل الجرم، وقد تداخل أنفار البوليس وسلم زمام الأمر لهم…”.
يواصل المحرّر سرد تفاصيل أخرى تتعلّق بسلوك الإيرلنديين مع باقي الجاليات، وخصوصا الألمان، وأن السوريين طلبوا السماح لهم بحمل الأسلحة للدفاع عن أنفسهم بسبب كثرة التعديات من جانب الإيرلنديين. في العدد نفسه نقرأ خبرا عن مغربي أطلق النار على أحد أصدقائه، فشاع أنه سوري، لكن الصحيفة أكدت أنه من مراكش بعد القبض عليه.
دفاع عن العرب والسوريين
ويبدو أن نجيب عربيلي ومحرّري جريدته كانوا مشغولين جدا بتصويب الصورة السلبية عن العرب والسوريين، المترسّخة في أذهان الجمهور الأميركي، نتيجة النظرة الاستشراقية التقليدية لعوالم الشرق وتخلّفه الحضاري. فانبروا يدافعون عن أبناء جلدتهم في وجه التقارير المنحازة في صحيفة “نيويورك تايمز”، التي ما فتئت تصف الباعة المتجوّلين السوريين بـ”العرب القذرين”، و”العرب اللصوص” الراغبين في “غزو الولايات المتحدة”.
ويبدو أن جهود نجيب عربيلي على هذا الصعيد وجدت صدى لدى بعض الكتاب الأميركيين، ومنهم الكاتب المسرحي هنري تشابمان فورد (توفي 1938، وهو غير هنري تشابمان فورد الرسّام) صاحب المسرحية التي صارت فيلما “ارتقاء آنا” (1920) التي تتمحور حول القصة الحقيقية لنادلة سورية، والذي في معرض تعليقه عن سبب اهتمامه بهذه النادلة، أبدى إعجابه الشديد بحياة السوريين الأسرية، وطريقة عيشهم النظيفة، معتبرا أن صَهرهم في المجتمع الأميركي أمر عظيم لأنهم ينحدرون من إحدى أعظم أمم التاريخ.
مطربة دمشقية
شهد حي “سوريا الصغرى” أوج نشاطه الثقافي والفني أثناء “إكسبو شيكاغو 1893″، حيث كان هذا الحي المحطة الأولى التي ينزل فيها المشاركون، قبل توجّههم على متن القطارات إلى مدينة شيكاغو، من الأمثلة على هذا النشاط ما كتبته صحيفة “كوكب أميركا” عن حفل للمطربة الدمشقية روجينا مكنو التي وصلت إلى نيويورك على متن الباخرة “أويدام” في الرابع عشر من أبريل/نيسان 1893، بصحبة أصحاب امتياز المقهى العثماني “الأدباء الأفاضل الأفندية شديد كوراني وسلوم فاضل وإسبر نصور وسليمان كحيل وعبد الله جرجي الخوري وخليل الخوري المعوشي”.
ومما جاء في “كوكب أميركا” عن الحفل: “تبرع وطنيّنا الهمام الخواجة عبده لطفي أن يحتفل بتلك الليلة في داره، فاجتمع عنده الجوق الموسيقي المؤلف من عدة مطربين ومطربات ذوي الشهرة، من جملتهم الذائعة الصيت في بلاد مصر وسوريا المطربة روجينا الشهيرة بحسن غنائها، وعذوبة صوتها، واعتدال قوامها، وفرط جمالها، وكان ضاربو العود والقانون والكمنجة يعزفون بآلاتهم الموسيقية المطربة حتى سحروا العقول، وأسروا القلوب بما أبدوا للحاضرين من أنواع التفنن في الغناء، فخلنا أننا في سوريا بين أبناء وطننا، وذهلنا عن أننا موجودون في أميركا… وفي أثناء ذلك انتصب جناب الشاب الأديب إيليا الحاج مرتجلا عدة أبيات رقيقة الألفاظ، دقيقة المعاني، نذكر منها البيتين التاليين وهما:
ومجلس ضاءت محاسنه
فضاق عن إيفائها وصفي
حوى أناسا عم فضلهم
والكل مجبولون من لطف
في العدد نفسه نقرأ خبرا عن وصول الشيخ أبو خليل القباني وفرقته المكونة من خمسين فنانا إلى نيويورك قبل توجههم إلى شيكاغو، وكذلك تقارير عن أعضاء فرقة “المرمح الحميدي” الذين حظيت أزياؤهم البدوية بإعجاب الأميركيين حين رأوهم يتجولون على متن خيولهم وإبلهم في “سوريا الصغرى” وعلى جسر بروكلين.
أخبار الحي
حافظت “كوكب أميركا” على اهتمامها بأنشطة “سوريا الصغرى” فكنت تقرأ أخبار الواصلين والمغادرين، والمناسبات الاجتماعية، والإعلانات التجارية لبعض المحلات والمتاجر، والمستوردين، والمصدّرين. وقد تخلّت الصحيفة بعد فترة عن الصفحات الإنكليزية التي كانت تنشرها إلى جانب صفحاتها العربية، ولعل مردّ ذلك يعود إلى ضعف اهتمام الجمهور الأميركي بأخبار الجالية السورية. توقفت هذه الصحيفة عن الصدور مع الانقلاب على السلطان عبد الحميد في العام 1908، لتختتم مرحلة مهمة من مراحل تاريخ عرب المهجر في أميركا الشمالية.
نقرأ نبذا عن سيرة هذا الحي في الصحف الأميركية، وخصوصا “نيويورك تايمز”، فورد في عدد 20 أغسطس/آب 1899: “شارع واشنطن الأسفل، مكان الحي السوري الحقيقي في نيويورك (…) ‘سوريا الصغرى’ تثير الفضول كونها تتكون من شرقيين بمهن مختلفة. هذه المقاهي والمحلات التجارية ومراكز البيع بالجملة، ومجموعة المساكن غير المرتبة في اتجاه ‘باتيري بارك’ تحكي قصة ‘سوريا الصغرى على وجه التحديد”.
وتنشر صحيفة “سبرينغفيلد” (ماساتشوستس) في عدد 22 يناير/كانون الثاني 1902 مقالا بعنوان “سوريا الصغرى في نيويورك” تقول فيه: “في الطريق الهابط القريب من نهاية جزيرة مانهاتن، حيث يلتقي خليجان من الشمال والشرق، بعيدا عن الأحياء الأجنبية الأخرى، هناك الحي السوري، كأنه يرفض الاختلاط بأشقائه الأجانب. إنهم تجار كونهم قادمين من الساحل الفينيقي القديم، حيث ولدت روح التجارة”.
وكتب مراسل صحيفة “بالتيمور” في 26 ديسمبر/كانون الأول 1905 مقالا بعنوان “في سوريا الصغرى”: “وجدت مطاعم مثالية لتناول الطعام في الحي السوري في نيويورك. عثرت على سر القهوة اللذيذة. معظم أطباق اللحوم والخضروات السورية ثقيلة جدا ودسمة لا تناسب الذوق الأميركي. في أسفل الجانب الغربي من الحي السوري يلعب الأطفال ذوو الشعر الأسود والبشرة الزيتونية في الشوارع، وتتسامر الأمهات النحيفات والجميلات عند مداخل البيوت. اما أكشاك الفاكهة والمخابز ومحلات البقالة فهي مليئة بالعديد من الأشياء غير المألوفة لعين الأميركي وفمه”.
قبل الإزالة
ربما كان وصف الصحافي نثنائيل نيكتين لسوريا الصغرى، آخر ما كتب عن هذا الحي قبل هدمه. ففي عدد 9 نوفمبر/تشرين الثاني 1941 من “نيويورك تايمز” كتب نيكتين مقالا بعنوان “طرف المدينة” جاء فيه: “المرحلة التالية من السير، هي مغادرة باحات الكنيسة والتوجه غربا نحو شارع واشنطن المتجه جنوبا، ومع دخول المستكشف شارع ريكتور يكون قد دخل سوريا الصغرى. على اليمين واليسار ثمة مطاعم الشرق الأوسط العديدة التي تحمل أسماء مثل ‘ليتل إيجيبت’، ‘النيل’، ‘لبنان’، ينبغي تخصيص وقت للوقوف عند أحد هذه الأماكن، على الأقل، لتناول فنجان من القهوة التركية. محلات المواد الغذائية ليست أماكن الجذب الوحيدة في ‘سوريا الصغرى’، هناك متاجر تبيع السجائر والشيشة المستوردة. يعرض آخرون الأواني الخزفية والمعدنية بزخارف الأرابيسك. أخيرا، هناك مطبعة الجرائد التي تطبع أوراقها بأحرف عربية رشيقة. لكن الأكثر إثارة للاهتمام في ‘سوريا الصغرى’ هم السكان. إنهم ودودون، يدخلون بسهولة في محادثة مع الزائر للتحدث عن وطنهم وعاداتهم. في هذا الجزء الخلاب من نيويورك، من المفيد إلقاء نظرة أخيرة الآن، لأن جزءا من سوريا الصغرى سيختفي عند بدء الاقتراب من تنفيذ نفق باتيري”.
ما تبقّى من حي ‘سوريا الصغرى’ بعد شقّ النفق، أزيل في ستينات القرن العشرين، حيث حلّ محله مبنى مركز التجارة العالمي. وبين الفينة والأخرى تظهر مقالات ودراسات تتحدث عن تفصيل مفقود من لوحة نيويورك الفسفسائية، تمت إزالته بسبب الأعمال الإنشائية. ويبدو أن هذا التفصيل لا يزال يثير حنين المهتمين بتاريخ المدينة، خصوصا أن آثار الأحياء الإثنية الأخرى لا تزال قائمة حتى اليوم.
المجلة