«كائنات مسكينة» ليرغوس لانثيموس: رحلة فتاة لاكتشاف الذات في عالم غرائبي/ نسرين سيد أحمد
البندقية ـ «القدس العربي»: عندما ترد أنباء عن أن المخرج اليوناني يرغوس لانثيموس ينجز فيلما جديدا، أو يوشك على طرح فيلم جديد في مهرجان من المهرجانات الكبرى، يتلقف عشاق السينما والنقاد النبأ بمزيج من الابتهاج والتلهف والفضول، وبتساؤلات لا تنضب عن الرحلة الجديدة، الصادمة في كثير من الأحيان، التي سيلقينا لانثيموس في أتونها في عمله الجديد. عوالم لانثيموس لا تكف عن صدمتنا وإدهاشنا، في آن.
وهكذا كنا نترقب بشدة طرح جديد لانثيموس «كائنات مسكينة»، في المسابقة الرسمية لمهرجان البندقية في دورته الثمانين (30 أغسطس/ آب إلى 10 سبتمبر/أيلول الجاري)، وجاء الفيلم ليفوق كل توقعاتنا وليحملنا في رحلة لا تنسى كنا نود لو استمرت ولم تنته. هي رحلة في عالم غرائبي، محوره فتاة تدعى بيلا باكستر، لا تقل غرابة عن أجواء الفيلم، ولكنها على غرابتها تشبهنا في محاولة فهم ذاتها وفهم العالم. بيلا في واقع الحال فتاة ذات جسد فتي شاب يضج حياة ورغبة، ويحمل عقل طفلة في عامها الثاني أو الثالث. ترى العالم بعين طفل صغير يملؤه الفضول، لا يكف عن الاستكشاف، استكشاف الأشخاص والمذاقات والأماكن، وكل ما يحيط بها. «الإسعاد الذاتي» و»القفز الغاضب» هكذا تصف «بيلا باكستر»، (إيما ستون) في أداء مميز للغاية يمزج بين البراءة والدهشة والرغبة، في اغتراف الحياة اغترافا، اكتشافها للجنس والاستمناء، تكتشفها بسعادة بريئة تشبه سعادة الأطفال لحل أحجية، أو للحصول على لعبة جديدة. إنه فيلم لا يخجل عن تناول الجسد بإفرازاته ورغباته، وفيلم ينظر إلى تعطش الإنسان إلى الجنس كغريزة أساسية لا غناء عنها، مثل الجوع أو العطش.
يأتينا لانثيموس في الفيلم في أوج صنعته السينمائية، وفي أوج جنونه وخلقه لعوالم غرائبية عجائبية، ولكنها على غرابتها تمتلئ بشخصيات تشبهنا، نكتشف لاحقا إن بيلا مزيج من جسد امرأة شابة في مراحلها الأخيرة في الحمل حاولت الانتحار بإلقاء نفسها في نهر «التيمز» في لندن في العصر الفيكتوري، فأنقذها طبيب حاذق هدفه التجريب يدعى «غدوين باكستر» (ويليم دافو في أداء مميز للغاية) بأن زرع في جمجمتها مخ طفلها الذي تحمله، وكانت توشك على ولادته، بيلا إذن كائن هجين، ناتج عن تجريب طبيب يعتبر نفسه إلها يصرف الخلق كيف يشاء، وينتج كائنات هجينة، فنرى في قصره المنيف بطات برأس خنزير، وحيوانات غرائبية، ولكن إبداعه الأهم هو مع بيلا، الذي ينعكس على تدوين ومراقبة تطورها العقلي والجسدي. أما باكستر ذاته، فهو رغم شعوره بأنه إله على الكائنات التي يملأ بها قصره، إلا أنه شخص مسكين معذب مشوه الوجه، أخصاه والده ضمن واحدة من تجاربه العلمية.
رغم الأجواء العجائبية وتصرفات بيلا التي تشبه في بادئ الفيلم سلوك الأطفال، يحفل الفيلم بالأسئلة الكبرى عن الخلق والخالق ومصير المخلوقات، عن الحياة والموت، عن الهدف من الحياة ولماذا جئنا؟ يحفل الفيلم بالأسئلة عما إذا كان الإنسان يختلف عن غيره من الكائنات وعما يجعل الإنسان إنسانا؟ ويطرح الفيلم تساؤلات أيضا عمن يحتاج الآخر بصورة أكبر: هل يحتاج باكستر إلى بيلا بصورة أكبر، لإثبات مقدرته، أو لملء فراغ عالمه، أو لأنه يحتاج إلى ولد يؤنس وحشته، أم أن بيلا تحتاجه بصورة أكبر حتى تعلم من أين جاءت، وكيف جاءت إلى العالم.
الفيلم مقتبس عن رواية الكاتب الكاتب الاسكتلندي أليسدر غراي بعنوان «كائنات مسكينة» التي صدرت عام 1992، وكتب لها السيناريو لانثيموس بالتعاون مع توني ماكنمارا، الذي سبق له التعاون مع لانثيموس في فيلمه «المفضلة»، لعل أحد أمتع عناصر الفيلم هو الكلمات غير الموجودة في اللغة، التي تصيغها بيلا للتعبير عن مشاعرها أو عن العالم حولها. يستقدم غدوين باكستر أحد طلبته في كلية الطب ليعاونه في مراقبة تطور بيلا عقليا وجسديا. هذا المساعد هو ماكس (رامي يوسف)، الذي يقع في هوى بيلا فور أن يراها، ببراءتها الطفولية وقوامها الجميل وشعرها الأسود الفاحم الطويل. يتابع ماكس حصيلتها اللغوية المتزايدة يوما عن الآخر. ثم يأتي التطور الأكبر حين تكتشف بيلا أعضاءها التناسلية، وما تقدمه هذه الأعضاء من سعادة وراحة للجسد والنفس.
يفتتن ماكس ببيلا ويطلب يدها للزواج، ويمنحه باكستر موافقته، على أن يلتزم ببنود عقد يخطه المحامي الحاذق الخبير بالعالم دانكان ويدربرن (مارك رافلو في واحد من أفضل أدواره). وبدخول ويدربرن في حياة بيلا، بشهوانيته ورغبته النهمة للطعام والشراب والمال والسفر ومتع الحياة، تخرج بيلا من عالم طفولتها البريئة إلى طور استكشاف الحياة خارج القصر، على الرغم من موافقتها على الزواج من ماكس اللطيف الطيب، إلا أنها تفتن بويدربرن الذي اعترك الحياة وخبرها واغترف ملذاتها، وتغادر القصر تلبية لدعوة ويدربن أن تجوب معه العالم، وأن تتذوق متعة الجنس مع رجل مجرب خبير. مع ويدربرن وبعد خروجها من القصر، تبدأ بيلا رحلتها الطويلة في النضج والفهم ،وفي محاولة إيجاد إجابات للأسئلة التي تحيرها عن الحياة والبشر ونوازعهم. ترى لأول مرة الفقر في العالم حين تحط السفينة التي تستقلها في ميناء فقير، وتعلم قيمة الكتب والقراءة والتفكير من سيدة كبيرة العمر (الممثلة المخضرمة هانا شيغولا) تجوب العالم في صحبة شاب مثقف يساري التوجه. تسمع بيلا وتقرأ وترى من الأشياء والأشخاص الكثير، وفي لحظة تأثر بالفقر الذي تراه في العالم، تستغني عن كل ما في حوزة ويدربرن من المال، ليشتري الفقراء ما يحتاجونه. وعندما ينضب المال وتضطر بيلا لمغادرة السفينة الفارهة التي تجوب بها العالم إلى طرقات باريس، لا تجد سبيلا لكسب قوت يومها إلا أن تمتهن أقدم مهنة في التاريخ. وفي مهنتها الجديدة تكتشف بيلا جانبا جديدا من الحياة لم تخبره من قبل قط، ترى الرجال بأشكالهم المختلفة ونفسياتهم المختلفة، تختبر من يحتاج إلى سماع كلمة طيبة ومن يحتاج إلى القسوة ومن يطلب الإهانة ومن يطلب الاحترام الزائد. وفي عملها الجديد أيضا تكتشف بيلا قيمة المال وقيمة القراءة والثقافة واتساع المدارك.
هي رحلة طويلة أساس مصداقيتها وتفاعلنا معها هو إيما ستون التي تؤدي الدور بسلاسة ومصداقية شديدين، والتي تحملنا بيسر من براءة بيلا كطفلة إلى جموح شهوتها كأنثى إلى ذكائها وعقلانيتها في التعامل مع الرجال، إلى رغبتها في تطوير مداركها بالقراءة والدراسة. يمكننا القول إن إيما ستون وأداؤها هما جوهر الفيلم وقلبه. في «كائنات مسكينة» يخلق لانثيموس عالما مليئا بالألوان والأصوات والمباني والتفاصيل المذهلة. ويصحبنا في رحلة نشارك فيها بيلا دهشتها وانبهارها ورغبتها في اغتراف الحياة اغترافا، ولكن هذه الرحلة المذهلة التي تدوم أكثر من ساعتين تحمل الكثير من التساؤلات عن الإنسان والهدف من وجوده والغاية من حياته.
القدس العربي»