مظانّ نوبل وجدارة فوسه/ صبحي حديدي
كما في كلّ مرّة تشهد منح جائزة نوبل للأدب إلى اسم غير معروف عربياً، فكيف إذا كان مجهولاً أو يكاد؛ تتوفّر ثلاثة أنماط من ردود الفعل حول الخبر، لعلها الأبرز بين أخرى عديدة: 1) يستحقّ، مقابل القائلين بأنه لا يستحقّ؛ و2) تقصير المترجمين إلى العربية، لأنهم أوّل المسؤولين عن كونه مجهولاً؛ و3) أنّ العشرات من الكبار الأحياء، وقبلهم نفر من الراحلين، أخطأتهم الجائزة، مما يقلّل استطراداً من قيمة الفائز بها في هذه السنة أو تلك.
والأرجح أنّ شيوع هذه الأنماط الثلاثة أمر مشروع، بصرف النظر عن حيازته هذه الدرجة أو تلك من المصداقية العادلة، النصّية والفنية أو حتى الأخلاقية؛ الأمر الذي لا يُغفل أحكام القيمة العجلى أو المتسرعة، سواء صدرت عن سابق قصد وتصميم أم جاءت عفو الخاطر والتلقائية، خاصة حين تُبنى خلفياتها على المقارنة مع هذا أو ذاك ممّن رحلوا دون الفوز بالجائزة (وهم كثر، بالطبع)، أو الذين تضعهم مكاتب الرهانات اللندنية على لائحة كلّ سنة فلا يفوز أيّ منهم. مدهش إلى هذا، ومحزن باعث على الإحباط أيضاً، أن تسير بعض تلك الأحكام في واد؛ ويكون أدب الفائزة أو الفائز في وادٍ آخر ناءٍ كلّ النأي عن الخصائص الدنيا الراسخة للمعطيات الجمالية في النتاج ذاته؛ وأن ينهض الحكم على أساس الاكتفاء بقراءة نموذج واحد، شاءت المصادفة أنه متوفر في ترجمة عربية.
وفي مثال النرويجي يون فوسه، نوبل الآداب لهذه السنة، هل من الإنصاف الحكم على أساليبه السردية بأنها بطيئة أو مملة أو تكرارية، اعتماداً على رواية واحدة مترجمة إلى العربية، قصيرة، ويتعمد فيها عدم استخدام علامات الوقف أياً كانت وكيفما سارت السياقات، من جهة أولى؛ ثمّ غضّ النظر، عند النطق بالحكم، عن حقيقة أنّ للرجل عشرات الأعمال في الرواية والمسرح والشعر، بينها سباعية تمتدّ على مئات الصفحات، من جهة ثانية؟ وإذا كانت الذائقة متجبرة متقلبة، ولهذا القارئ أن يستطيب عملاً يأنف منه ذاك القارئ، فهل من العدل تعميم التذوّق الشخصي على الملأ في هيئة حكم قيمة ساحق ماحق؟
وكان الناقد البريطاني المعروف تيري إيغلتون قد قارب الكثير من الصواب حين اعتبر أنّ «في وسع المرء تحقيب تاريخ النظرية الأدبية الحديثة إلى ثلاث مراحل: الانشغال بالمؤلّف (المدرسة الرومانتيكية والقرن الثامن عشر)؛ والانشغال الحصري بالنصّ (مدرسة «النقد الجديد»)؛ والنقلة الملحوظة نحو الاهتمام بالقارئ في السنوات الأخيرة».
هذه النقلة الملحوظة، التي اتخذت صفة «العودة إلى القارئ»، لا تعني أنّ تاريخ التنظير للعملية الإبداعية انطوى دائماً على إهمال القارئ/ المستقبِل. فالكتاب العاشر من «الجمهورية» يشهد على قلق أفلاطون إزاء احتمال إفساد الجمهور من جانب نصوص تحاكي الواقع على نحو زائف، أو تشدّ انتباه العامّة إلى مسائل مبتذلة. وأرسطو يعرّف التراجيديا بمصطلح ما تثيره في نفس المشاهد من أنشطة عاطفية، وبناء النصّ المسرحي يخضع عنده للسؤال الدائر حول مدى استجابة الجمهور للعمل في اكتماله. وعند هوراس ينتقل الجمهور إلى صفّ الاهتمام الأوّل، ومعيار الجودة الأبرز هو البهجة التي يدخلها النصّ على المتلقّي، بل إنّ النصّ يُعرّف بمصطلحات «عملية» ذات صلة بالسياقات الأدبية والثقافية التي سيصل من خلالها إلى الجمهور.
أمّا في العصور الأحدث، فإنّ إقصاء المتلقي إلى هوامش العملية الأدبية كان قد تمّ على يد المدرسة الرومانتيكية، التي رفعت موهبة الكاتب إلى مصافّ عليا على حساب الناقد (الذي ليس سوى قناع القارئ، في واقع الأمر). وهكذا ركّز معظم النقد الغربي في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين على المؤلّف أساساً، ولم تفلح النقلة نحو الشكلانية (قرابة أواسط القرن المنصرم) في إزاحة المؤلّف، إلا لكي تحلّ النصّ محلّه. ومدرسة «النقد الجديد» الأمريكية تولّت قيادة الحملة الشعواء على المؤلّف (من خلال ما عُرف بـ «مغالطة القصد»)، وعلى القارئ (مفهوم «المغالطة العاطفية»)، وعلى الناقد الذي قد تسوّل له نفسه دراسة النصّ بمصطلح التأثيرات العاطفية التي يخلّفها في نفس القارئ.
وثمة رسم كاريكاتيري طريف يلتقط امرأة تقف في حافلة عامّة، وتقرأ في كتاب مفتوح، مقطّبة الحاجبين وجدّية الملامح؛ على يمينها يتطفّل رجل يقرأ الصفحة ذاتها من الكتاب، ولكنّ دموعه تسيل مدرارة؛ وعلى يسارها يتطفّل رجل ثانٍ يقرأ الصفحة ذاتها، ولكنه يكاد يسقط على قفاه… ضحكاً! نصّ واحد، ثلاثة قرّاء، وثلاث استجابات مختلفة تتراوح بين الجدّ والهزل والبكاء. وأن نقرأ يعني أن نمارس سطوة التأويل، ورغبة استكمال العالم؛ وذلك لأننا حين نكتب فإننا عملياً نقرّ بنقصان العالم ونقصان النصّ، وأنهما بذلك موضوع تغيير، وموضوع استكمال.
فوسه، في يقين هذه السطور، استحقّ جائزة نوبل بالمعنى المبدئي خارج نظريات المؤامرة والتصنيف والانتقاء، وفي مستوى جدارة أدب رفيع أفلح مراراً في تحويل ميكروكوزمات محلية مبسطة، في بلدة نرويجية ساحلية منسية، إلى عوالم كونية رحبة وشاسعة واسعة. ولعلّ الإنصاف الأبسط يقتضي قراءة هذا الكاتب الكبير بما يتجاوز 130 صفحة، ومنحه فضيلة التذوّق خارج مظانّ نوبل وظنونها…
القدس العربي