من منجنيق تيمورلنك إلى رماد شجر الزيتون: لا نسخة نهائية لأرشيف الحرائق/ خليل صويلح
ستخطر في بالك أولاً عبارة زكريا تامر، التي أطلقها عنواناً لإحدى قصصه «دمشق الحرائق». كأنّ هذه المدينة منذورة للحرائق والمحن والنكبات، قرناً وراء آخر. كان حريق 14 تموز (يوليو) 2023 الذي أطاح جزءاً من حي ساروجة الأثري المسجّل على لائحة التراث العالمي لمنظمة اليونسكو، النسخة الأخيرة للهب النيران. كنت أتتبع طريقي إلى موقع الحريق بحاسة الشّم تبعاً لهبوب رائحة الخشب المحترق، وبقايا الرماد، ونسيس النار، لكنني سأتوه في الأزقة الضيقة، والأسواق المتداخلة، والبيوت الطينية القديمة. في مدخل الحيّ، ستباغتني سيارة شرطة تغلق الطريق إلى المكان، فأعود خائباً، لكنني بدورة التفافية ثانية، سأجد نفسي أمام بوابة «متحف الوثائق التاريخية». كان الباب مغلقاً، فكّرت بأن ألتقط صورة للواجهة الرخامية، ثم طويت الفكرة على الفور بسبب نظرات الريبة من أصحاب الدكاكين المجاورة. لا أعلم ما هو مصير نحو خمسة ملايين وثيقة نادرة تعود إلى حقبة العهد العثماني (سجلّات المحاكم الشرعية، ووثائق أصول العائلات الدمشقية، والفرمانات السلطانية، والصحف، والجريدة الرسمية «السالنامة» والمخطوطات). كان هذا الأرشيف النفيس يضجّ في رأسي، وأنا أغادر «إسطنبول الصغرى» بإهاب المؤرخ الذي شهد حريقاً عن كثب، متجاهلاً ضجيج «سوق الحرامية»، وزحام الباعة تحت «جسر شارع الثورة»، والجدران الملطّخة بسواد الفحم. أقول لنفسي، وأنا أعبر جسراً معدنياً نحو قلعة دمشق، وصولاً إلى فضاء الجامع الأموي: ما حاجتي للطباق والجناس والسجع في وصف الكارثة، على غرار ما فعله صلاح الدين بن أيبك الصفدي في «رشف الرحيق في وصف الحريق»؟ فهذه الكارثة تنطوي على بلاغة أخرى متعالية في توثيق طعم المرارة في الحنجرة. سجّلَ هذا المؤرخ وقائع الحريق الذي نشب في الجامع الأموي ومحيطه، أواسط القرن الثامن الهجري، لتتبعه حرائق أخرى، سبق أن وصفها ابن كثير بأنها «من الحوادث العظيمة الهائلة». في مقهى «النوفرة» المتاخم للجامع الأموي، سأستحضر مشهد الحكواتي، مستبدلاً نصوص الفروسية بأرشيف النار، إذ كان على أحدهم أن يقتفي تاريخ هذه المدينة المنكوبة حريقاً إثر آخر. كان تيمورلنك أول من أشعل الفتيل في موقد الفاجعة، حين أمر بحرق دمشق في عام 1400، من دون أن يثنيه نداء العلماء بالتراجع عن قراره، ذلك أنّ الغزاة يعملون على محو الذاكرة بالبطش أولاً. وهو ما سيوثّقه المقريزي بدّقة في كتابه «السلوك لمعرفة دول الملوك»، كما سيذكر البدير الحلّاق في كتابه «حوادث دمشق اليومية» بأن تيمورلنك اتّخذ من حيّ ساروجة قاعدة لمنجنيقاته التي كانت تقصف قلعة دمشق قبل الاستيلاء عليها، ثم أحرق دمشق.
كان طيف عبد الرحمن باشا اليوسف، رئيس محمل الحج الشامي في العهد العثماني، يلوح مهرولاً في الشارع مستغيثاً، وهو يرى قصره الأثري وقد التهمته النيران أمام عينيه. ولكن مهلاً، ماذا يفعل أمبرتو إيكو في هذا المقهى الدمشقي العريق؟ على الأرجح، كان يعيد ترتيب خرائط المتاهة التي تتعلّق بحريق دير «ساكرا دي سان ميكيلي»، الذي سيلهمه كتابة روايته «اسم الوردة»، وهتك تاريخ الهراطقة أو «وحوش الجحيم». صوت قذيفة أطلقتها مدفعية الجنرال الفرنسي هنري غورو من جبل المزّة نحو أحياء دمشق القديمة، قبل نحو مئة عام، أخرجتني من متاهة «اسم الوردة» والدخان المنبعث من مكتبة الدير، إذ كان عمود من الدخان الأصفر يرتفع في سماء حي «سيدي عامود» عقاباً على دخول «مجاهدي الثورة السورية» الحيّ. يومان من الحرائق أحالت المكان إلى «كومة حطب مشتعلة»، وفقاً لما روته الصحافية الفرنسية أليس بولو في كتابها «تحت القنابل». سيسمّى هذا الحي اليوم «الحريقة»، تذكيراً بتلك الفاجعة التي خلدها الشاعر أحمد شوقي بمرثية، استهلّها بقوله «سَلامٌ مِن صَبا بَرَدى أَرَقُّ/ ودمعٌ لا يُكَفكَفُ يا دِمَشقُ». لا ماء في بردى اليوم كي يطفئ الحرائق، والنيران المشتعلة في الأرواح المعذّبة، وإلا كيف نختزل حال شجرة رمّان عارية فيما تتدلّى ثمار متفحّمة من أغصانها، أو شجرة زيتون عمرها مئة عام، في حرائق لا نهائية؟ اختر هلاكك إذاً، بين الموت حرقاً، أو الموت غرقاً، حين لا أمل! ثم أوقفني النفّري وقال لي «إذا رأيت النار فقع فيها ولا تهرب، فإنها إن وقعت فيها انطفأت وإن هربت منها طلبتك وأحرقتك»
النار في المنام
ورؤية إشعال النار من دون سبب تعبّر عن كثرة الفتن بين الناس.
والنار في المنام تدل على الحرب إذا كان لها لهب وصوت، فإن لم يكن الموضع الذي رأيت فيه أرض حرب، فإنَّها تدل على طاعون، وبرسام وجدري، أو موت يقع هناك.
من رأى في منامه أن ناراً وقعت من السَّماء في الدور، والمحلات، فإن كانت لها ألسنة ودخان، فهي دليل على فتنة، وسيف يحلُّ في ذلك المكان.
«تفسير الأحلام» (ابن سيرين)
كان يوماً عاصف الريح
فدخلوا دمشق يوم الأربعاء آخر رجب ومعهم سيوف مشهورة وهم مشاة، فنهبوا ما بقي من الأثاث وسبوا النساء بأجمعهن وساقوا الأولاد والرجال وتركوا من عمره خمس سنين فما دونها وساقوا الجميع مربّطين في الحبال. ثم طرحوا النار في المنازل وكان يوماً عاصف الريح، فعمَّ الحريق البلد كلها وصار لهب النار يكاد أن يرتفع إلى السحاب، وعملت النار ثلاثة أيام آخرها يوم الجمعة. وأصبح تيمورلنك يوم السبت ثالث رجب راحلاً بالأموال والسبايا والأسرى بعدما أقام على دمشق ثمانين يوماً وقد احترقت كلها وسقطت سقوف جامع بني أمية من الحريق وزالت أبوابه وتفطر رخامه ولم يبقَ غير جدره قائمة. وذهبت مساجد دمشق ومدارسها ومشاهدها وسائر دورها وقياسرها وأسواقها وحماماتها وصارت أطلالاً بالية ورسوماً خالية قد أقفرت من الساكن وامتلأت أرضها بجثث القتلى ولم يبق بها دابّة تدب إلا أطفال يتجاوز عددهم الآلاف، فيهم من مات وفيهم من يجود بنفسه.
«السلوك لمعرفة دول الملوك» (المقريزي)
الماء والنار
وَما الجَمعُ بَينَ الماءِ وَالنارِ في يَدي/ بأَصعَبَ مِن أَن أَجمَعَ الجَدَّ وَالفَهم
(المتنبي)
رماد
دار حيّ أصابهم سالف الدهر
فأضحت ديارهم كالخلال
مقفرات إلاّ رماداً غبيّا
وبقايا من دمنة الأطلال
(شاعر مجهول)
موقد النار
فما وجدت شيئاً ألوذ به
إلاّ الثمام وإلاّ مَوْقدُ النار
(النابغة الذبياني)
نار الغرام
فلا تحسبي أني على البعد نادم
ولا القلب من نار الغرام مُعَذّبُ
(عنترة بن شدّاد)
حتى صارت قاعاً صفصفاً
ثمّ أمر حضرة الباشا أن يوجّهوا المدافع على سوق ساروجة، فوجهوا ما عليهم وأمر بضربها بالكلل فضربت، فما كان بأقل من حصة يسيرة حتى احترقت الدور وتهدّمت البيوت، واحترق بيت القلطقجي وعدم عن آخره، ونهبت العساكر كل ما فيه، ثمّ سرى النهب في بقية الدور، فنهبوا وقتلوا ومثّلوا وبدّعوا، وذهب الصالح والطالح، حتى صارت محلة سوق ساروجة قاعاً صفصفاً.
«حوادث دمشق اليومية» (البدير الحلّاق)
في وصف حريق الجامع الأموي
انظر إلى الجو، كيف انتشرت فيه عقائق اللهب اللامع، فبادرت إلى صحنه والناس فيه قطعة لحم، والقلوب ذائبة بتلك النار، وقد نشرت في حداد الطلماء معصفرات عصائبها، وصعدت إلى عنان السماء عذبات ذوائبها، وعلت في الجو كأنها أعلام ملائكة النصر.
«رشف الرحيق في وصف الحريق» (الصفدي)
يوم الحشر
ليس على سكان عامودا إلاّ أن يُطفئوا الحريق بالتراب، وبالأيدي، وبالأكباد. لقد انشطر التاريخ بعد ذلك الحريق كفلقتي مشمشة. فإن سَرَدَ أحد أمراً، سند الكلام بجملة «ما قبل الحريق» أو «ما بعد حريق السينما». لم تمضِ نصف ساعة حتى دوّى انفجار مريع، إذ لم يحتمل المحوّل الكهربائي البالي عرضين متواصلين. حشرَ الأطفال بعضهم بعضاً ففوتوا على أنفسهم فرص الهرب. صاروا يتوهجون كالبرقوق الأحمر، وتتفجر جماجمهم. من احترق احترق، ومن لم يحترق خنقه الدخان.
«سيرة الصبا» (سليم بركات)
اللهب العظيم هو ما يتبع شرارة صغيرة.
«الكوميديا الإلهية» (دانتي أليغييري)
حريق، حريق
كانت تتذكر كيف تتحكم بالأمر كي تهيّئ فتيلة طويلة الاشتعال، أوقدتها، رسم اللهب شكل خنجر صغير الحجم، ينير كنصلي المقص الحاديَن. وبدأت مع السرير المرتفع، راحت ألسن اللهب تلعق بجدية ملاءات الأسرَة القذرة، وبعد ذلك اشتعلت، بدأت بالسرير في الوسط، ثم تلاه الأسفل، وشمّت المرأة هسيس شعر رأسها، كان يجب عليها أن تكون حذرة، فهي المرأة التي عليها أن تشعل الحريق، وليس عليها أن تموت، كانت تسمع صراخ الأوغاد، وفي تلك اللحظة عنَت لها فكرة سريعة، افترضت أنهم يملكون ماء وبإمكانهم إطفاء الحريق، وزحفت تحت السرير يلفها اليأس، أخذت تشعل بالولاعة الملاءات جميعها، هنا، هناك، وفجأة تضاعف اللهب، وتحَوّل إلى ستار هائل من النار، وتدفق الماء من أمامه، وجاءتها رشقة، ولكن من دون جدوى، فقد تحوّل جسدها طعاماً للنار. ما الذي هناك، لا أحد يستطيع أن يخاطر في الدخول، ولكن يجب على مخيالنا أن تنقذنا بشيء ما، فالنار تسري بسرعة من فراش إلى فراش، كما لو أنها تريد أن تشعلهم جميعاً في الوقت ذاته، ونجحت، وفقد السفاحون بطريقة عشوائية ما تبقى بحوزتهم من ماء، والآن يحاولون الوصول إلى النوافذ، وتسلّقوا أعلى الأسرَة بارتباك التي لم تنهشها النار بعد، ولكن سرعان ما وصلت النار، تزحلقوا، سقطوا، مع كثافة حرارة اللهب. أخذ زجاج النوافذ يتشقق، ويتشظى، وهبّ الهواء يصفر عذباً مما زاد من اشتعال اللهب، نعم، إنهم لن ينسوا، صرخات الغضب والخوف، و عواءات الألم وسكرات الموت، وهنا، الشيء بالشيء يذكر، وعلى كل حال، إنهم سيموتون تدريجياً، وسكتت المرأة وما زالت تمسك بيدها ولاعة لبعض الوقت.
في هذا الوقت هرب النزلاء العمي الآخرون برعب باتجاه الممرات التي ملأها الدخان، وهم يصرخون، حريق، حريق..
«العمى» (خوسيه ساراماغو)
ألسنة اللهب
سقط السراج فوق كومة الكتب التي سقطت على الطاولة حيث تراكمت الكتب، الواحد فوق الآخر، بصفحاتها المفتوحة. وسال الزيت، واضطرمت النار حالاً في ذلك الرّق الهشّ الذي اشتعل كأنه حزمة من الزغف الجاف. حدث كل ذلك في لحظات قليلة، وانطلقت من المكتبة شعلة عظيمة، كما لو كانت تلك الصفحات الألفية تتوق منذ قرون إلى الاحتراق وتنعم بإرضاء تعطشها للحرق مرّة واحدة.. ولمست النار كتاباً أقدم من الكتب الأخرى فاشتعل اشتعالاً سريعاً قاذفاً إلى أعلى بلسانٍ من اللهب. وشفرات الريح الرهيفة التي يمكن أن تطفئ شعلة ضعيفة، كانت على العكس تقوى الشعلة الكبيرة الحيّة، بل وتخرج منها شرارات تنطلق في كل اتجاه. فصاح غوليالمود «اسرع، أطفئ تلك النار، وإلا سيحترق كل شيء هنا».
بقي الدير يحترق لمدة ثلاثة أيام، وثلاث ليالٍ، ولم تجد نفعاً المجهودات الأخيرة لإنقاذه. منذ صبيحة اليوم السابع من إقامتنا في ذلك المكان، عندما فهم كل الذين بقوا على قيد الحياة أنه لم يعد بالإمكان إنقاذ أي مبنى، عندما انهارت الأسوار الخارجية للبناءات الأكثر روعة، وابتلعت الكنيسة برجها في انطوائها على نفسها، عندئذٍ أعوزت الجميع القوة لمكافحة العقاب الإلهي. فضعف حماس البحث عن الدلاء القليلة من الماء، بينما كانت قاعة المجلس تحترق ببطء.
«اسم الوردة» (أمبرتو إيكو)
ذاكرة النار
في العام 1499، في غرناطة، ألقى الأسقف ثيسنيروس إلى النار الكتب التي تتحدث عن ثمانية قرون من الثقافة الإسلامية في إسبانيا، بينما كانت تحترق، في الوقت نفسه، ثلاثة قرون من الثقافة اليهودية في محارق محاكم التفتيش.
في العام 1562، في يوكاتان، أرسل الراهب دييغو دي لاندا إلى المحارق ثمانية قرون من آداب المايا.
كانت هناك حرائق سابقة في العالم، ذاكرات أُلقي بها إلى النار، وحرائق كثيرة أخرى تالية.
في العام 2003، عندما أنهت القوات الغازية احتلال العراق، طوّق المنتصرون بالدبابات والجنود آبار النفط، واحتياطات النفط، ووزارة النفط، وكان الجنود، بالمقابل، يصفّرون وينظرون في اتجاه آخر، عندما أُفرغت كل المتاحف، وسرقت كتب ألواح الطين المشوي التي تروي أولى الأساطير، وأولى القصص، وأولى الشرائع المكتوبة في العالم.
وبعد ذلك مباشرة، أُحرقت الكتب الورقية. اشتعلت مكتبة بغداد الوطنية، وتحوّل أكثر من نصف مليون كتاب إلى رماد. كثير من أول الكتب المطبوعة باللغة العربية وباللغة الفارسية ماتت هناك.
«أفواه الزمن» (إدواردو غاليانو)
حرائق متقدة
يخطئ من يقول إنه لا بد لكل نار من أن تنطفئ عاجلاً أو آجلاً. هنالك غراميات هي حرائق متقدة إلى أن يخنقها القدر بضربة من مخلبه، وحتى في هذه الحال تظل بعض الجمار ساخنة وجاهزة للتأجج بمجرد وصول نفثة أوكسجين صغيرة إليها
«العشيق الياباني» (إيزابيل الليندي)
رائحة الروث
ثم أضرم النار في أقراص الروث الذي نثرته الأبقار نهاراً من الردهة وحتى قاعة الاجتماعات
ـ«خريف البطريرك» (غابرييل غارسيا ماركيز)
451 بدرجة فهرنهايت
يرسم الروائي الأميركي راي برادبيري في روايته Fahrenheit 451 الصادرة عام 1953 وهي درجة الحرارة التي تحترق عندها الكتب، صورة سوداء حيال تحريم التفكير وقهر العقول والارتهان إلى الرقابة الصارمة، ما يقود إلى مجتمع بلا ذاكرة وبلا تاريخ. بدرجة الحرارة نفسها، أُحرقت ملايين الكتب إذ عصفت النيران في مكتبة الإسكندرية أعظم مكتبات العالم القديم على يد يوليوس قيصر، فأبيد نحو مليون كتاب، بينها أعمال هوميروس ومكتبة أرسطو. أما الحريق الذي تعرّضت له خزانة الكتب في بغداد القرن الثالث عشر، فقد أسفر عن إبادة نحو عشرة آلاف مجلد من نفائس العلوم، وكان للغزو الصليبي والمغولي للشام حصته من الدمار، إذ أحرق هولاكو مدارس دمشق وخزانة كتبها، التي كانت تحتوي على أكثر من أربعمئة ألف مجلد، وتشير الروايات إلى أن النار ظلت مشتعلة طيلة ثلاثة أيام كاملة ولم يتبقَ من تلك المكتبات إلا الجدران والحوائط فقط. وفي السنوات التي أعقبت سقوط الأندلس، شهدت حرق أكثر من 70 مكتبة إسلامية تضم مئات آلاف الكتب، بما فيها كتب ابن حزم والغزالي وابن رشد.
على المقلب الآخر، محا الألمان أثناء الحرب العالمية الأولى، «مكتبة لوفين» في بلجيكا، في حريق امتد إلى ستة أيام، كما دمّروا المدينة القروسطية ومخطوطاتها التي تربو على 750 مخطوطاً قروسطياً، وأعادوا إحراق المكتبة نفسها ـــ بعد إعادة إعمارها ـــ في الحرب العالمية الثانية. واستخدم الجيش العراقي، في أثناء غزوه الكويت، المكتبات ومراكز المعلومات والمدارس كمراكز قيادة ومستودعات ذخيرة، ودُمّر نحو 43 في المئة من مخزون الكتب في المكتبات المدرسية، وأُتلفت آلاف الكتب، كما شُحنت كتب أخرى إلى بغداد، واستخدم جزء منها كوقود للطهي.
ويروي أحد الكتّاب الصينيين المجهولين ذكرياته عن كوارث الثورة الثقافية قائلاً: «أحرقتُ جميع كتبي ومخطوطاتي، لكن الكتاب الذي أعمل على إنجازه، صار حياتي، فكيف كان لي أن أدعه يضيع؟ وعلى الرغم من أنهم أحرقوا مكتبتي وأوراقي، فإنهم لم يحرقوا ذاكرتي، فبدأت أكتب سرّاً، مستدعياً الكلمات التي اخترتها من قبل، وخبأت الصفحات في لحافي». وبالآلية نفسها حدثت فظائع لا تغتفر في يوغوسلافيا لحظة تفكّكها، فكانت المعالم الثقافية مثل الكنائس والمكتبات أهدافاً عسكرية، ومحاولة وحشية لنزع الهوية عن المكان. دمّر الصرب نحو 210 مكتبات كرواتية، و370 متحفاً ودار محفوظات، وقصف الجيش الصربي مدناً أثرية، وأُضرمت النيران في «مكتبة تاون ميوزيام»، وبلغ العنف أقصاه ضد البوسنة، ضمن خطة محكمة لمحو الثقافة الإسلامية، وإعدام صفوة المفكرين فيها، ودُمّرت المقابر والأضرحة والمكتبة الوطنية، والمعهد الشرقي في سراييفو الذي يضم مخطوطات إسلامية ووثائق عثمانية وصكوكاً ملكية. والحال، فإنّ حملات الإبادة لم تتوقّف، منذ أن اندلعت النيران في كتب ابن رشد ذات يوم حزين من عام 1194 في إحدى ساحات إشبيلية بأمر من الأمير يوسف يعقوب المنصور. كان خادم ابن رشد ينتحب بحرقة وهو يرى النيران تلتهم المخطوطات النفيسة، فلطالما سهر الليالي برفقة سيّده وهو منهمك بتدوين أفكاره. ربّت الفيلسوف على كتف تابعه قائلاً «إذا كنت تبكي حال المسلمين فاعلم أن بحار العالم لن تكفيك دموعاً، أما إذا كنت تبكي الكتب المحروقة، فاعلم أن للأفكار أجنحة وهي تطير».
ملحق كلمات