إشاعة «النيوليبرالية»: هل يمكن تفسير ثقافتنا بطروحات «أولاد شيكاغو»؟/ محمد سامي الكيال
شاع استخدام مصطلح «نيوليبرالية» كثيراً، منذ سبعينيات القرن الماضي، خاصة في الأدبيات التي تُحسب على «اليسار»، لدرجة أنه بات أشبه بمبدأ تفسيري لأي ظاهرة جديدة، تبدو «سلبية» بشكل من الأشكال، من السياسات الاقتصادية للدول وحتى النزعات الفردانية. وعلى الرغم من أن مفكرين مهمين، مثل ديفيد هارفي وأنتوني غيدنز، حاولوا تقديم تعريف واضح له، بما يجعله مفهوماً، إلا أنه لا توجد فعلياً في أيامنا أي مدرسة اقتصادية، أو حزب سياسي، يصف نفسه بـ»النيوليبرالي»، ما يفتح الباب لجعل هذه المفردة أقرب لوصمة أو شتيمة، يستخدمها ناشطون، من اتجاهات مختلفة، وأحياناً متناقضة، للانتقاص من خصومهم. يُقدّم لنا النيوليبراليون، من قبل التيارات الدينية والمحافظة، وحتى «اليسار» الراديكالي – البيئي المناهض للتحديث الرأسمالي، بوصفهم أشباحاً شريرة، تسمّم الحياة في عالمنا.
الطريف أن تسمية «نيوليبرالية» ارتبطت، في النصف الأول من القرن الماضي، بـ«مدرسة فرايبورغ» الاقتصادية الألمانية، التي كان من نظرياتها «الليبرالية التنظيميّة» Ordoliberalismus، وهي أقرب لما يعرف في عصرنا بـ«اقتصاد السوق الاجتماعي»، وقد سمى هؤلاء أنفسهم بـ«النيوليبراليين» للتمايز عن الليبراليين الكلاسيكيين، لأنهم من دعاة دور تنظيمي واجتماعي للدول، أي على خلاف ما نسميه «نيوليبرالية» اليوم. أما الأيديولوجيا، التي يصفها هارفي وغيره، فهي أقرب لأنصار مدرسة شيكاغو والمدرسة الاقتصادية النمساوية، وهؤلاء لم يربطوا أنفسهم بتسمية «النيوليبرالية»، وإنما شاع هذا الوصف بحقهم على يد المعارضين اليساريين التشيليين، بعد انقلاب أوغستو بينوشيه، الذي استخدم خبراء، في «إصلاحاته» الاقتصادية، عرفوا باسم «أولاد شيكاغو»، نظراً لتأثّرهم بنظريات الاقتصادي الأمريكي ميلتون فريدمان. وقد انتقلت المفردة في ما بعد إلى العالم الأنكلوساكسوني، لتصف سياسات مارغريت ثاتشر ورونالد ريغان، منذ أواخر السبعينيات، وهما لم يكونا «نيوليبراليين» إلا في شتائم خصومهما.
ولكن، إذا كان المقصود من المفردة، وبغض النظر عن جذورها، أيديولوجيا تقوم على «أصولية السوق»، المدعومة بتدخّل أجهزة الدول، لتحرير الاقتصاد، ودعم الشركات الكبرى، وتحطيم تنظيمات الطبقة العاملة، وتفكيك شبكات الرعاية الاجتماعية، فهل يمكن حقاً رصد جهة أو جهات «نيوليبرالية» تطبّق مثل هذا البرنامج بشكل واعٍ؟ وإن وجدت، فلماذا لا يمكن الخلاص منها، رغم كثرة كارهي النيوليبرالية؟
يغدو الموضوع أكثر تعقيداً إذا ربطناه بثقافتنا المعاصرة، بمعناها الأوسع. هل ما نشهده من تغيّرات، على مستوى تعريف الذات، وأساليب التواصل، والإنتاج الفني والأدبي، متفرّع، بشكل مباشر أو غير مباشر، من الأيديولوجيا النيوليبرالية؟ ربما كان الأنسب اختصار كل هذه الأسئلة بسؤال واحد، لا يمكن أن يُطرح إلا بصيغة استنكارية، وليس استفهامية: ما مدى ضخامة تلك «النيوليبرالية»، التي يمكن من خلالها تفسير كل شيء تقريباً؟
أيديولوجيا أم بنية؟
إذا كان ديكتاتور دموي مثل بينوشيه قادراً على تطبيق تعاليم مدرسة شيكاغو بالحديد والنار، فهذا ليس الوضع في كل أنحاء العالم، في الدول الغربية دار صراع اجتماعي عنيف، بين تيارات مختلفة، أفضى بالنهاية إلى النتائج الحالية، واللافت أن عدداً من أهم «الإصلاحات»، التي تُحسب على النيوليبرالية، لم تتم علي يد الثاتشريين أو الريغانيين، بل وفق برامج أحزاب «يسارية»، مثل حزب العمال البريطاني، و«أجندة 2010» التي بشّر بها الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني، وهذان الحزبان هما الحزبان العماليان الأعرق في العالم. حاولت المفكرة البلجيكية شانتال موف تفسير ذلك، بالتأكيد أن تيار ثاتشر استطاع انتزاع الهيمنة الأيديولوجية، فصار خصومه يفكّرون وفق منطلقاته وأولوياته أنفسها، مشكّلاً لا وعيهم السياسي، والحل هو إنتاج هيمنة أيديولوجية جديدة، عبر «الشعبوية اليسارية»، إلا أن هذا التفسير يبدو مثيراً للاستغراب فعلاً. هل يمكن تعليل تغيّر مواقف مناضلين سياسيين ونقابيين، محنّكين سياسياً إلى أبعد حد، بـ«الاستحواذ» على لا وعيهم فقط، وفي مدى زمني قصير نسبياً؟
ربما كان المأزق النظري الأكبر لـ«النيوليبرالية»، وفق تعريف «اليساريين» المعاصرين لها، هو إصرارهم على كونها أيديولوجيا، بمعنى أنها مجموعة مبادئ وتعريفات للذات الاجتماعية والسياسية، نشرتها قوى معيّنة، لتحقيق مصالح طبقية، ما يجعل الأمر أقرب لنظرية مؤامرة. كذلك لم يزعم أي مفكر يساري مرموق أن النيوليبرالية بنية اجتماعية أو مرحلة تاريخية، لأن هذا سيعني أن هنالك تغيّراً جذرياً في بنية النظام الرأسمالي، بوصفه تجريداً نظرياً لأسلوب وعلاقات إنتاج محددة، وتشكيلات اجتماعية واقتصادية متعيّنة، وهذا ادعاء أكبر من أن يتحمّل مسؤوليته منظّر اجتماعي أو مؤرّخ جدّي. المفكرون الأكثر انضباطاً منهجياً تحدّثوا عن «نقل التصنيع»، وتطور النزعة المالية واقتصاد الخدمات والعمل العاطفي، وأحياناً «الرأسمالية المتأخرة»، وكل هذه عوامل بنيوية، لا يمكن نسبتها إلى أيديولوجيا واحدة فقط مثل «النيوليبرالية». مؤخّراً انتشرت نظريات عن «إقطاعية جديدة»، تتجاوز آليات الرأسمالية التي نعرفها، ولكن، في كل الأحوال، تلك ليست «نيوليبرالية».
ربما كان الإصرار على هذه المفردة، والتأكيد أنها إشارة إلى مذهب أيديولوجي، محاولة من ناشطين ديمقراطيين اجتماعيين للتمييز بين «رأسمالية جيدة»، هي رأسمالية دولة الرفاه في الغرب، التي ازدهرت في «الثلاثين سنة المجيدة» (1945-1975)، وقامت على سياسيات اقتصادية كينزية؛ و»رأسمالية سيئة»، اخترعها أشرار مثل فريدمان وبينوشيه وثاتشر، والحل هو «العودة» إلى رأسمالية دولة الرفاه، والسنوات القديمة المجيدة.
إلا أن مشكلة دعوات «العودة» أنها، مثل أي فكرة رجعية، تبني تصورات مثالية عن الماضي، فدولة الرفاه لم تتزعزع فقط بسبب «النيوليبراليين» ونظريات مدرسة شيكاغو، بل أيضاً بسبب تمرّد جيل جديد من الطبقة العاملة، رفض الاستمرار بالحياة والعمل الانضباطي في المصانع، وغيرها من المؤسسات الانضباطية، وعلى رأسها العائلة الأبوية. وكذلك فإن القادة النقابيين واليساريين لم يستطيعوا تقديم أي حلول (باستثناء خطة مايدنر- رين في السويد) لأزمة الركود التضخمي، التي ضربت الاقتصاد العالمي في السبعينيات، ولذلك استسلموا لحلول «النزعة المالية»، التي حققت بالفعل ازدهاراً اقتصادياً كبيراً حول العالم، وإن كنا اليوم ندفع ثمن هذا «الازدهار»، عبر أزمات المديونية، وانفجار الفقاعات المالية، والخراب الاجتماعي والبيئي، والأدهى، عودة الركود التضخمي بأبشع الأشكال.
الذات «التقهقرية»
يمكن القول إذن إن أحوال العالم المعاصر، وتطوراته الاقتصادية والسياسية والثقافية، من نتائج التوسّع الرأسمالي نفسه، وأزماته البنيوية، وليست نتيجة أيديولوجيا فاسدة هي «النيوليبرالية»، وبالتأكيد فإن التمسّك بقيم معيّنة، سواء كانت دينية أو هوياتية أو فلسفية، لن ينفع كثيراً في تجاوز الشرط التاريخي العام الذي نعيشه؛ أما الحلم بالعودة لسنوات الرفاه، فلا معنى له، مع تغيّر الطبقات الاجتماعية وأساليب الإنتاج وأجهزة الدول. ما زالت مؤسسات الرعاية الاجتماعية، وكذلك الأحزاب اليسارية والنقابات الرسمية، موجودة في كثير من البلدان المتقدّمة، بل قادرة على تحريك الشارع، ولكنّ هذه التحركّات عاجزة عن التغيير الفعلي، أو تقديم أفق واضح للمحتجين. تبدو التغيرات الثقافية في عصرنا، مثل انتشار النزعة الفردانية على حساب النزعة الاجتماعية؛ واضمحلال الحيز العام؛ وتصاعد الميول الهوياتية؛ و»الوعي النفسي» المبتذل؛ وما يسمى «الإلغاء الثقافي»؛ وغيرها، دلالة على انحدار المدنيّة وأنظمة التحضّر، لدرجة تدفع بعض علماء الاجتماع للحديث عن «حداثة تقهقرية»، إلا أن كل هذه الظواهر قد لا تكون إلا أساليب للتكيّف مع ظروف بنيوية قاهرة، تنتشر بين الأفراد، وليست أجندة ظلامية، تروّجها جهات سياسية معيّنة بشكل مقصود. فيما تتطفّل «المنظمات غير الحكومية»، بأيديولوجيتها الرثة، على الفراغ الذي يخلّفه تراجع كل ما هو اجتماعي وسياسي. وربما كان البشر سيرفضون، بفعالية أكبر، فساد مثل تلك المنظمات، لو سمحت لهم ظروفهم بفعل اجتماعي أكثر نجاعة.
يمين النيوليبرالية
ربما كان يمكن التجاوز عن «إشاعة النيوليبرالية»، واعتبارها مجرّد خرافة غير مضرّة، لولا أن فئات كثيرة تستغلّ النقد، الموصوف باليساري، للترويج لأفكار ذات عواقب وخيمة اجتماعياً. في الدول العربية مثلاً، يظهر نوع من الشعبوية الجديدة، التي تبرّر الاعتداء على حقوق البشر، وتقييد أبسط حرياتهم، بدعوى أنهم متأثّرون بأفكار «نيوليبرالية»، مثل النسوية، أو المثلية، أو «الجندر»، وبالتأكيد ليست هذه أكبر مشاكل الدول الفاشلة وشبه الفاشلة في غرب آسيا وشمال افريقيا. تتلاقى تلك الشعبوية مع ما يسمى «اليمين الجديد» في الغرب، وهو بدوره مظهر لانحدار أنظمة التحضّر. كما أن التعوّد على الاستخدام المفرط للمفردة، يؤدي لنوع من الكسل الفكري، لدى كثير ممن يعتبرون أنفسهم يساريين أو «تغييرين»، إذ يمنحهم ما يشبه التعويذة السحرية، يلقونها على كل ما يثير ضيقهم، بدلاً من تفكير أكثر جديّة، لفهم معادلات الواقع، وإمكانيات التعامل معها.
قد يكون كثير من نقّاد «النيوليبرالية» المعاصرين على يمين مدرسة شيكاغو والمدرسة النمساوية، فروّاد هاتين المدرستين كانوا على الأقل يحلمون بـ«مجتمع مفتوح»، وقد باتت أوهامهم الأيديولوجية من الماضي عملياً، فيما قد تلعب أيديولوجيا نقد النيوليبرالية، دوراً في عرقلة طرح أسئلة الحاضر الأكثر صعوبة.
كاتب سوري
القدس العربي