بولانسكي يطلق زوبعة “الهتك السياسي” في البندقية/ هوفيك حبشيان
في فيلمه الأحدث “القصر” لا يوقر أحداً ويقدم طبقة معينة من الناس ليكشف مدى تفاهتهم ونزقهم في أسلوب كاريكاتوري
في فيلمه الأحدث، “القصر”، لا يوقر رومان بولانسكي أحداً، بل يمرغ الجميع في الوحل: من أصحاب الأموال التي لا تحرقها النيران إلى الروس وكومبيناتهم التي لا تنتهي، مروراً بهواة عمليات التجميل ذوي الوجوه المنتفخة وممثلي أفلام البورنو المعتزلين… وصولاً إلى حفنة من كبار القوم الرأسماليين الذين يجتمعون في فندق سويسري فخم يقع في جبال الألب، للاحتفاء برأس السنة ومواكبة هذه اللحظة المجيدة على طريقتهم، أي بالكثير من الكحول والكافيار، فيما العالم يترقب ذعر الولوج إلى العام 2000، مع ما يعني ذلك من خلل معلوماتي منتظر ومخاوف من انتهاء العالم. أما الفندق الذي يؤويهم، فيساعدهم كي “تخرج فقاعات الشمبانيا من أنوفهم وآذانهم”، كما يتوقّع مدير الفندق في مفتتح الفيلم، وهو يحاول تحفيز الموظفين تحضيراً للسهرة الشهيرة التي ستفسدها عدة أحداث مفاجئة لم تكن في الحسبان.
أما مدير الفندق نفسه، هذا الرجل الكاريزماتي الذي لن يفعل سوى الانتقال من غرفة إلى أخرى طوال مدة الفيلم للاستجابة لطلبات هؤلاء النزلاء ذوي الإيغو المتضخم، فهو صلة الوصل بين كل الأطرف، كل شيء يمر به وعبره، إنه الحد الفاصل بين عالمين، عالم شديد الثراء يقيم في برجه العاجي، وآخر يتألف من الموظفين والطهاة وعاملات النظافة والسمكريين والبوابين والنادلين الذين يجندون كل قواهم في سبيل إنجاح السهرة، ولا يحق لهم التذمر، حتى إذا تعرضوا لأفظع الإهانات. فالمال هو الذي يحكي في هذه الأجواء الفندقية، وله الكلمة الأخيرة دائماً.
في عمر التسعين، وقف صاحب “عازف البيانو” خلف الكاميرا، لإنجاز هذه الفيلم الكوميدي الساخر واللئيم الذي عُرض أمس لأول مرة في مهرجان البندقية السينمائي الحالي، فيلم يضرب بعرض الحائط كل المفاهيم والقيم، ويدين تجاوزات الطبقة المخملية بشكل مباشر، بلا أدنى رحمة ولا أي شعور بالاكتفاء. وكأن، بعد تسعة عقود على هذه الأرض، هذا ما توصّل اليه بولانسكي من نظرة إلى الأثرياء الذين من حوله، وألقاها في عمل لا بد من تلقيه كوصية معلم سينمائي لا يشبه أي معلم آخر. يجب القول إن مدير المهرجان ألبرتو باربيرا كان قد حذرنا سابقاً عندما قال عن الفيلم: “إنه زوبعة من الشخصيات البشعة والسوريالية”. طوال ساعتين، هذا ما يرسمه بولانسكي بعبقرية تضعه بضع درجات فوق مستوى الكثير من الأفلام المعروضة في المهرجان، علماً أنه يشارك خارج المسابقة.
إذاً يجمع بولانسكي وكاتب السيناريو يرجي سكوليموفسكي طبقة معينة من الناس، ليكشفا مدى تفاهتهم ونزقهم في أسلوب كاريكاتوري بعيداً كل البعد عن الصواب السياسي الذي يهمين على العقول في هذه الأيام. الفيلم يشبه في بعض جوانبه، “مثلث الحزن” لروبن أوستلوند (سعفة “كانّ” 2022)، لكنه أقل ادعاءً بكثير، إذ يختار بولانسكي الكوميديا على طريقة المدرسة القديمة، لدرجة نخال أنفسنا في “الحفلة” لبلايك إدواردز، مع لحظات قد تذكرنا بـ”سحر البورجوازية الخفي” للويس بونويل. الضحك هنا هو على الشخوص، وعلى ما لا يرونه في أنفسهم، وعلى حماقتهم التي لا يدركونها، والتي يراها المُشاهد جيداً، لأن بولانسكي لا يرينا الا ذلك، مسلطاً الضوء عليه وواضعاً كل شيء آخر في الظل.
الفيلم مبهج نخرج منه بشعور الرضى، فهو يحرص على توفير متعة كبيرة للمشاهد. كل شيء فيه ممتاز على المستوى الفني. التقطيع والإيقاع وأحجام الكادر والعناية بالتفاصيل… هذا كله يشير إلى أن خلف الكاميرا هناك سينمائي كبير يجيد صناعة فيلم له تأثير في المشاهد. لا كوميديا جيدة بلا سيطرة على الإيقاع، وهذا ما يبرع فيه بولانسكي. أما حفنة الممثلين الذين استعان بهم، من ميكي رورك ذي الوجه المتورم جراء عمليات التجميل، إلى جون غليز في دور الملياردير الثمانيني المتزوج بفتاة في العشرين، والذي يعطينا مشهد موته واحد من أكثر اللحظات طرافةً، مروراً بفاني آردان وميلان بيشيل. ثمة اختيار صائب لوجوه يعتمد عليها الفيلم لإدخالنا في خفايا هذا العالم، من خلال نبذة عن أنماط تفكير أوسلوكيات هؤلاء أولاً، والمأكل والمشرب ثانياً. مع تنويه خاص للممثل الألماني أوليفر مازوتشي الذي نتماهى معه في دور مدير الفندق الذي يشهد على كل شاردة وواردة من داخل الفندق، محاولاً المحافظة على برودة اعصابه وطول أناته. إذا كان لنزلاء الفندق المال، فله الذكاء والحنكة للاستفادة منهم.
“كائنات مسكينة”
بولانسكي ليس الوحيد الذي أضحكنا في البندقية أمس. طوال ساعتين و20 دقيقة لم يتوقف الجمهور من القهقهة أمام “كائنات مسكينة”،جديد المخرج اليوناني يورغوس لانثيموس، لكنها كانت ضحكات مختلفة، تنبع من أماكن وأسباب اخرى، وحظي الفيلم في النهاية بإعجاب شديد من النقاد، فصفقوا له تصفيقاً حاراً. هذا الفيلم الذي يُعرض في المسابقة أحد أجمل ما شاهدناه في البندقية إلى الآن، ويمكن وصفه بالصادم والغني والمتشعب، حد أنه من الصعب أن يترك أي مشاهد غير مبال تجاهه.
اقتبس لانثيموس الفيلم من رواية للكاتب الإسكتلندي ألازدير غراي صدرت في العام 2013، أي قبل وفاته بست سنوات. الرواية جميلة وسوريالية، فيها عناصر تنتمي إلى عالم الخيال، وتنطلق من دكتور مشوه الوجه يعثر على سيدة منتحرة، فيبدل مخ طفلها الذي في بطنها، بمخها، من خلال عملية جراحية. تواصل السيدة حياتها ولا تتوقف عن التطور، وعندما تكتشف اللذة الجنسية، يفتح هذا أمامها آفاقاً جديدة. وهكذا تصبح صاحبة قرار حر وتفرض خياراتها. يضطلع بدور الدكتور ويليام دافو في واحد من أعظم ما أُسند له من شخصية، أما السيدة التي تُعطى فرصة حياة ثانية واسمها بيلا، فتحمل ملامح إيما ستون في دور جريء يضعها في دائرة أقوى الممثلات للحصول على جائزة التمثيل.
للنص فضل كبير في أهمية الفيلم، فهو يوفّر تأرجحاً مستمراً بين السوداوية والخفة، ومن هذا المزيج يولد عمل مسخ لا يقاوَم ولا يمكن مقارنته مع أي عمل آخر، لكونه يحمل لمسات المخرج اليوناني الذي يميل إلى النظر في الطبيعة البشرية بطريقته الخاصة جداً. الحكاية مبتكرة إذاً وتخرجنا من مزاج الأعمال التي تدّعي الواقعية وكشف قضايا كبيرة. لكن السر هنا في النبرة التي تُعالَج بها، إذ نجد أنفسنا داخل حكاية خرافية قابلة للتصديق والغرق في تفاصيلها الكثيرة.
يحدث هذا نتيجة قدرة لانثيموس على الإمساك بكل عناصر الفيلم، بدءاً من الإخراج، وصولاً إلى التأليف فالتصوير والتمثيل. في النهاية، هذا فيلم عن المرأة، في دورة تنطوي على الكثير من الشخصيات النسائية القوية والمصممة على القفز فوق أسوار التخلف المجتمعي والسجن الذكوري، ولكن كل ذلك بما يرضي ذوق لانثيموس وهواه الفني.