«عن الأعشاب الجافة» للتركي نوري جيلان: تكريس الأسلوب بثرثراته/ سليم البيك
استطاع المخرج التركي نوري بيلجي جيلان أن يشقّ لنفسه أسلوباً سينمائياً خاصاً، ليس بالإلحاح عليه في أفلام متتالية وحسب، بل بتمكينه وتكريسه ضمن سينما ممتازة وإن لم تخلُ من مشاكل. هي أقرب لتكون سينما بين الإيرانية، وهذه الأخيرة متمايزة شكلاً وموضوعاً، والأوروبية، وهو ما يمَوقع تركيا ثقافياً عموماً وسينمائياً خصوصاً، بين الشرق والغرب. نذكر هنا روايات التركي النوبليّ أورهان باموك، الذي قارب ما بين المجتمع المشرقي المسلم من ناحية، والنزعة الأوروبية المستحدثة من ناحية أخرى. نرى ذلك في السينما التركية بشكلها الراهن، التي يمكن لأفلام جيلان أن تختصرها.
لجيلان أفلام روائية طويلة فاق عددها العشرة، تطورَ أسلوبه فيها مع إشارات له في أوائلها، ليكتمل في أفلامه الأخيرة، هو أسلوب معتمد على الصور البعيدة، حيث تشكل الطبيعة الثلجية والصحراوية وكذلك المدينية، جزءاً من السياق والأجواء، وعلى اتخاذ الحوارات المطوّلة كما هي الصور البانورامية بمعناها المطوّل لنفسها مساحة واسعة من الفيلم. هو أسلوب بدأ مع «حدث مرة في أناطوليا» 2011، وامتد من بعده إلى «سبات شتوي» 2014 و»شجرة الإجاص البرية» 2018، وصولاً إلى فيلمه الذي نزل إلى الصالات الفرنسية أخيراً «عن الأعشاب الجافة». الأفلام السابقة لها كانت ممهدة لهذا الأسلوب المعتمد على الحوارات الطويلة والصور العريضة، دون أن يعني ذلك أي غلبة لأي من هذه الأفلام أو تلك على الأخرى في جودتها كعمل سينمائي.
أسلوب جيلان هذا، وفي مدة لكل فيلم تجاوز زمن معظمها ثلاث ساعات، اعتمد على الإكثار من الكلام، زادت مدة الأفلام إلى أطولها في الفيلم الأخير، وزادت الحوارات لتدخل أكثر إلى مونولوغات بين شخصيتين، منها حوارات استدعتها طبيعية المشهد واللقاء والسياق. ليست المشكلة أساساً في ثرثرة مستقرة وصل أحد المشاهد فيها إلى نصف ساعة، بل إلى الثقل فيها، إلى أفكار قد لا تكون بعفوية الشخصيات كما قدمها الفيلم ببطء، ما يمكن أن يجعل الفيلم مقحِماً، بين جماليات مشهدية وسردية، حواراتٍ مونولوغاتية، ظهر أن الغاية منها إيصال أفكار بغض النظر عن علاقتها بمجمل الفيلم. قد يكون هذا العيب الوحيد في الفيلم الأخير لجيلان، وهو كذلك حاضر في أفلامه الأخيرة، لكن عيباً آخر يحضر ويتعلّقٍ بالأول، هو الطول غير المجدي للفيلم، فقص حوارات طويلة، أو اختصارها أو التخلي عن غاية إيصال فكرة مهما تطلبت من ملل، يودي كذلك إلى اختصار مدة هذا الفيلم التي قاربت ثلاث ساعات ونصف الساعة.
في الفيلم، مدرّسٌ أناني وانتهازي، مبتعث إلى قرية نائية في تركيا، نصف العام تكون مغطاة بالثلج ونصفه بأعشاب جافة. البرد القارص والأجواء السوداوية هي ذاتها كما بتنا نعرفها من أفلام جيلان. ينتظر المدرس الشاب انتقاله إلى إسطنبول. يقيم علاقة ودٍّ مع إحدى طالباته. ودٌّ يتخطى حدوده إلى الانجذاب كما بدا. يرفع عليه وعلى زميله بعض الطلاب شكوى لتخطيه أصول العلاقة مع طلابه، هنا تبدأ مشاكله وتظهر عنصريته تجاه المجتمع القروي الذي يعيش فيه. مقابل ذلك، يلتقي بامرأة شيوعية ومثقفة تغير بعض أفكاره. يقيم معها علاقة سريعة كاسراً بذلك ما بدا حبا تجاهها من قبل زميله.
نال الفيلم (About Dry Grasses) مهرجان كان السينمائي الأخير جائزة أفضل ممثلة، وذلك بعد حضور شبه دائم لجيلان في المهرجان الفرنسي ونيله عام 2014 سعفته الذهبية، وقبلها جائزة أفضل إخراج وجائزتَي لجنة التحكيم الكبرى وجائزتَي فيبريتشي. وهو، بمعزل عن ثرثرات بعض مشاهده الطويلة، لم يبخل على مُشاهديه بجماليات بصرية أحسن استثمار اللقطات الداخلية والخارجية لأجلها، وقد نقلت المَشاهد روحَ الحياة الريفية بتفاصيلها البيتية من ناحية، وعقلياتها وأحاديثها من ناحية أخرى. ولعل الثقل الفكري غير المستحَب في حوارات مطولة بين المدرّس السطحي الذي صار فجأة مثقفاً، ورفيقة شيوعية، كان، الثقل، غير منسجمٍ مع عموم الكلام العادي اليومي في جوٍّ ريفي. تجاوُر الحوارين، الأحاديث السريعة التلقائية والمونولوغ البطيء المقحَم على طول الفيلم، أوقعه في أكثر من مرحلة ضمنه، بالانفصال عن انسياب السرد فيه. في الفيلم عدة أسباب تستدعي القص، وإن استلزم ذلك التضحية ببعض اللقطات الجميلة.
كاتب فلسطيني سوري
القدس العربي