فالتر بنيامين وحالة الاستثناء/ فريدريش فايسباخ
ترجمة: سوار ملا
مقدمة المترجم:
هل ثمّة عنفٌ شرعي؟ لعل هذا أحد أشدِّ التساؤلات الفلسفيّة إلحاحاً وإشكاليّة. فعلاقة العنف بالقانون تمثّل تحديّاً فكريّاً شائكاً على مرّ الزمن. وقد أُثيرت نقاشات مُسهَبة حول هذه المسألة من قبل عدد من الفلاسفة وعلماء الاجتماع، الذين حاولوا فهم طبيعة العنف وتأثيره على الفرد والمجتمع، إضافة إلى علاقته المُربكة بالقوانين في سياق الدول والمجتمعات الحديثة؛ ومن بين هؤلاء يبرزُ المفكر النّقدي وأحد ألمع الأصوات الفلسفية في القرن العشرين، فالتر بنيامين.
في أعقابِ الحربِ العالميّة الأولى، وفي ظلّ تشكّلِ جمهورية فايمار الفتيّة وما زامنَ ذلك من توتّرات سياسيّة واجتماعيّة، سلّط بنيامين الضوء على مسألة شرعيّة العنف؛ مُناقِشاً إمكانية وجودِ شكل شرعيٍّ للعنفِ، مركّزاً انتباهه على التوتّر النّامي بين «القانون الطبيعي» و«القانون الوضعي»؛ أي، بين النظام الفطريّ-الطبيعيّ والنظام الذي قام البشر بوضعه. كما انتبه بنيامين في سياق تحليله لبنية الدولة الحديثة إلى التّداخل الشائك والإشكالي بين مهامِ السلطتين التنفيذيّة والتشريعيّة، وعلاقتهما بالعنف في الأنظمة الحديثة، لذلك يقترحُ بنيامين ما أسماه «العنف الإلهي» – أي ذلك العنف النقيّ أو المحض، منقطع الصلة بالقانون – سبيلاً للخروج من دوامة استعمال وسوء استعمال العنف في الدولة الحديثة. ويعني ذلك، من بين ما يعنيه، إيلاء الأهميّة للضوابط الأخلاقيّة على حساب الضوابط القانونيّة؛ إذ من شأن ذلك، بحسب بنيامين، أن يفتح الباب أمام شكلٍ من الحكم قائمٍ على التخلّي عن السلطة ومُتّبِعٍ لسلوكِ أخلاقيّ. لكن، وبما أن مسألة الوصول إلى نظام حكم خالٍ من القمعِ والتسلّط تُمثّلُ تحديّاً بالغ التعقيد، يقترحُ بنيامين ما وصفه بــ«حالة الاستثناء الحقيقيّة»، والتي بوسعها أن تُقدّمَ بديلاً لشكلِ الحكمِ الراهن من خلال نزعِ الطابع المؤسساتي عن العنف والحيلولة، بذلك، دون إساءة استخدامِ السلطة من قبل المُتحكّمين بالقانون ومؤسّساته.
فريدريش فايسباخ هو أكاديمي وكاتب ألماني، تقدّمُ مقالته المُترجمة هنا، والمنشورة بالأصل في الخامس من كانون الثاني (يناير) 2023 في مجلة الفلسفة الألمانيّة، لمحةً مكثّفة وذكيّة حول رؤية بنيامين لمسألة العنف وشرعيّته ومقترحه لــ«حالة الاستثناء الحقيقيّة».
***********
إنه العام 1920؛ سنتان فحسب انقضتا على نهاية الحرب العالمية الأولى، وجمهورية فايمار لا تزال في مهدها. الاحتجاجات والانتفاضات والإضرابات تشكّل السمة الأبرز للجمهورية الفتية، دافعةً بها إلى شفا حرب أهلية. في آذار (مارس) 1920، تُقدِمُ حركة الفيلق الحرّ «الفرايكوربس» العرقيّة-القومويّة على محاولة انقلاب ضد الحكومة الديمقراطية الجديدة، المُتشكّلة في أعقاب ثورة تشرين الثاني (نوفمبر) 1918. وكردّ فعلٍ على هذه الحركة المناهضة للجمهورية، يتشكّل جيش «الروهر الأحمر» بقوام 50 ألف مجند، ويعلن نقابيّون إضراباً عاماً على مستوى البلاد، يُشارك فيه اثنا عشر مليون شخصٍ، ما يجعله أكبر إضراب في التاريخ الألماني حتى يومنا هذا. ولم تخمد انتفاضة الروهر إلا بتدخُّل وحدات جيش الرايخ الرسميّة في نهاية آذار. ولأجلِ إظهار القوّة، حُكِمَ، آن ذاك، بالإعدام على عددٍ من المنتفضين واعتُقِلَ الآلاف منهم. بإيجاز: سادت حالة استثناء.
في ضوء هذه الأحداث، أخذ زخم النقاشات الفلسفية بشأن حالة الاستثناء يزداد في بدايات تشكّل جمهورية فايمار. فاعتمد كارل شميت، في عمله الشهير اللاهوت السياسي (1922)، «حالة الاستثناء» مُنطلَقاً لنظريّته السياسية. إذ «السّياديُّ»، هكذا مقولة شميت الشهيرة، «هو مَن يقرر بشأن حالة الاستثناء». وبالتالي، فإن الحاكم الحقيقيّ هو الشخص الذي يضع ويضمن النظام والقانون في أوقات الغياب الظاهر للقانون.
أيضاً فالتر بنيامين، البالغ آنذاك الثامنة والعشرين من العمر، كان مأخوذاً بالأحداث الجارية من حوله. وقد كتب، في نهاية العام 1920 ومطلع العام 1921، مقالهُ في نقد العنف، الذي سيغدو أحد أكثر نصوصه إثارةً للنقاشِ والتأويلِ المُتجدّد. كان بنيامين يعيش في تلك الفترة في برلين، وكانت أطروحته حول مفهوم النقد الفني في الرومانسية الألمانية قد نُشِرَت لتوّها. وكان العالَم الأكاديمي بأسره لا يزال مفتوحاً أمامه، ذلكَ العالم الذي سيبقى عصيّاً عليه لبقيّة حياته؛ وذلك ليس لعدم مواءمة أفكاره غير التقليدية مع مجال العمل الأكاديمي فحسب، بل، يُضاف إلى ذلك أيضاً، رفضه المشاركة في الحربِ وأصله اليهودي، الأمران اللذان كانا يشكلان، في عشرينيات القرن المنصرم، عقبة لا يمكن تجاوزها. وعلى الرغم من صداقته لعددٍ من المشاهير، من بينهم بيرتولت بريشت وسيغفريد كراكور وتيودور أدورنو، ظلَّ بنيامين أكاديميّاً دخيلاً؛ لكن دون أن يُفقده ذلك رغبته في الكتابة الفلسفيّة. إذ شرعَ، لاحقاً، بعد نفيه إلى باريس في ثلاثينيات القرن العشرين، بتأليف كتاباته التي تُعدّ اليوم علامات فارقة في الفلسفة: مشروع الأروقة والعمل الفني في عصر إعادة إنتاجه تقنيّاً.
لكن، وبالعودة إلى العام 1920:
كان اهتمام بنيامين، خلافاً لكارل شميت، بمسألة السيادة أقلّ منه بإمكانية تبرير العنف: فهل ثمّة شكلٌ مشروع للعنف؟ وهل العنف وسيلة مشروعة لفرضِ القانون والنظام؟. وما فتئ هذا السؤال الجوهريُّ، إلى الآن، بعد نحو قرنٍ من الزمن، مُحافظاً على طابعِه المُلِحّ. لا سيّما أن الديمقراطيّة تخضعُ في أزمنة الأزمات المتعدّدة لضغوطاتٍ: فلنفكّر، مثلاً، في الاقتحام العنيف لمبنى الكابيتول في واشنطن في العام 2021؛ أو في المحاولة الانقلابيّة التي خطّط لها «مواطنو الرايخ» هنا في ألمانيا وتمّ إحباطها عبر حملة مداهماتٍ في كانون الأول (ديسمبر) 2022؛ أو في تحديات أزمة المناخ والنقاشات حول النشاطات الاحتجاجيّة لحركة «الجيل الأخير». كما راحت مسألة شرعية استخدام العنف تحتلُّ، بصورة متزايدة، مساحةً في محورِ النقاشات العامة: فمن جهةٍ، ثمة تساؤل حول إمكانية تبريرِ التدخُّل الشديد، جزئياً، لسلطة الدولة ضد النشطاء المحتجين سلميّاً؛ ومن جهة أخرى، ثمة تساؤل حول إمكانِ شرعيّة الاحتجاجات العنيفة، كالتي جرت بعد مقتل جورج فلويد.
العنف كصيرورة تاريخيّة
من غير الممكنِ التحدّث عن العنف، كما يوضح بنيامين في بداية أطروحته، إلا في سياق أخلاقي، وبالتالي إنساني. فالحيوانات لا تستخدم العنف. ويميّز بنيامين، فيما يخصّ البشر، بين مذهبين فلسفيين-قانونيين، يسودُ كليهما منطقُ «الغاية والوسيلة»، ويخضع العنفُ، في كلٍّ منهما، لتشريعٍ مغاير خاص.
يفترض «القانون الطبيعي» وجود نظام طبيعي صالح عالمياً، يُعامِل العنفَ بوصفه منتجاً طبيعياً، «مثله مثل أيّ مادة خام، ليس في استخدامه أي إشكاليّة، ما لم يُسأ استخدامه لأغراض غير عادلة». وبالتالي، فإن مسألة شرعيّة العنف كوسيلة لإنفاذ القانون غير مطروحة في إطارِ القانون الطبيعي، لأن الغرض الذي يُستخدم العنف في سبيله هو الذي يُحدّد إن كان للعنف ما يُبرّره أم لا. ومن غير الممكن إعطاء إجابة مُرضية حول شرعية العنف ضمن إطار القانون الطبيعي، إذ يفضي هذا النقاش دوماً إلى جدلٍ حول الأسباب الميتافيزيقية للعدالة، تلك الكامنة بعيداً عن الحقائق المُبررة، مما يحوِّر مسار المسألة صوب قضايا اعتقاديّة. ويمكننا رؤية عواقب هذا المفهوم للعدالة في ما يسمى بالدولِ الإلهيّة مثل إيران، تلك التي تضفي الشرعية على بعض تجاوزاتها العنيفة بادعاء إرادة الله، تلك التي يُفترض أنّ لا جدال فيها.
بالنسبة لبنيامين، «ثمّة تعارضٌ رأسيٌّ بين الفرضية الطبيعية للعنف بوصفه مُعطى طبيعيّاً، وبين الفرضية القانونية-الوضعيّة للعنف باعتباره صيرورة تاريخية». فالمقصد من «القانون الوضعي» هو ذاك القانون الذي من وضع البشر. وبتركيزِ الضوء على الصيرورة التاريخيّة للقانون، يتبدَّى استخدامُ العنف من منظورٍ مغاير. فبدلاً من أن يكون وسيلةً لا جدال فيها لتحقيق هدفٍ طبيعي، يمكن، في إطار القانون الوضعي، التشكيك فيه وتقييمه من حيث شرعيّته. وهذا يفتح المجال لإجراء مراجعةٍ نقديّةٍ وطرح التساؤل عن إمكان أن يكون العنف شرعيّاً – وإن كان الأمرُ كذلك بالفعلِ، فكيف.
في معاينته التاريخيّة، يلاحظ بنيامين أنه ثمّة في القانون الوضعي ميلٌ لعدم التّسامح مع العنف الخارج عن نطاق القانون، وبالتالي احتكارٌ مطلقٌ للعنف. يقول بنيامين: «يحثُّ هذا النظام القانوني، في جميع المجالات التي يمكن للأفرادِ أن يسعوا فيها لتحقيق غاياتهم بواسطة العنف، على تحديد غاياتٍ قانونيّةٍ لا يمكنُ تحقيقها إلا بواسطة العنف الشرعيّ». ما يفضي إلى توسُّع القانون وتغلغله في جميع مجالات الحياة، بما في ذلك المجالات الخاصّة للغاية، في مُحاولةٍ لضبطها – ويمكنُ الاستشهاد بمسألة الإجهاض أو القتل الرحيم كأمثلة جيدة لهذا المنحى في العصر الحديث. فهي تكشفُ عن مسعى القانون لضبطِ أكثر اللحظات حميمية في حياة الإنسان. وبدلاً من فهم هذه الحركة على أنها توسعة للحقوق الوقائية للشرائح الأضعف في المجتمع، يرى فيها بنيامين مشكلاتٍ أساسية: فمن ناحية، ثمة سيطرة مُطلقة وتحكمٌ في جميع مواقف الحياة، ومن ناحية أخرى، هنالك ميلٌ في القانون للعملِ انطلاقاً من إرادة السلطة وليس من روحيّة أخلاقيّة. وتنبعُ هذه الإرادةُ من حقيقة أن كلّ شكل من العنف غير القانوني قادر على حلِّ النظام القانوني بأسره. ويتضح هذا جليّاً في حالات الاستثناء، كالحرب أو الإضرابات: حيث هنا، وبحسبِ كارل شميت، تُقرّر القوة الأكبرُ من يملكُ السيادة ويُحدّد ما هو قانوني وما هو غير قانوني. وفي حالات الريبة، قد يكون الحشدُ المهيّأ للعنف أو حتى جيش الخصم هو القوة الأكبر.
حدود مائعة
بالنسبة لبنيامين، فإن المؤسسات الحافظة للقانون، كالجيش أو الشرطة أو مؤسسات تنفيذ العقوبات، إشكاليّةٌ بذاتِ القدر أيضاً. عادةً ما يتم إضفاء الشرعية على عنف هذه المؤسسات، بالإحالة إلى أنها تحافظ على القانون والنظام الاجتماعي. لكن، وبالنظر إلى السحق الوحشي لاحتجاجات الروهر من قبل سلطة الدولة عام 1920، تشكّلت لدى بنيامين وجهة نظر متشكّكة في هذه السرديّة: «إن هذه [الشرطة] بالرغم من أنّها سلطةٌ لأغراض قانونية (الحق في التصرف)، غير أنها في الوقت نفسه مخوّلة لوضع هذه الأغراض ضمن حدود واسعة (الحق في إصدار المراسيم)».
وبخلاف ما يُزعَم دائماً، فإن الشرطة ليست مُجرّد حافظة للقانون، بل واضعة له أيضاً. لأنّها – وفق تحليل بنيامين – تُحدّد، بصورة فاعلةٍ، من خلال تدخلها أو عدم تدخلها، ما هو قانوني وما هو غير قانوني. وبذلك يغدو الفصل بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية مائعاً. وبمقدورنا العثور على العديد من الأدلة المُعاصرة لتشخيصِ بنيامين الآنف: فقد تجلّى، بصورةٍ خاصةٍ في سياق حركة «حياة السود مهمة»، أنّ المضايقة والقتل من قبل الشرطة في الولايات المتحدة الأميركية جزءٌ من حقيقة محزنة. وفي ألمانيا أيضاً، ثمّة، باستمرار، المزيد من التقارير عن عنف الدولة المُفرط. وقد أظهرت مجموعة البحث القانوني المسمّاة «الاعتداء الجسديّ من قبل ضباط الشرطة في إطار الخدمة العامّة» التابعة لجامعة بوخوم، تجريبياً ومن خلال دراسة حظيت بتقدير كبير سنة 2020، أن محاولات الضحايا لمقاضاة الظلم الذي تعرضوا له من قبل الشرطة تذهب، في الغالب، سدى. على العكس، ينبغي توقُّع أن ينتهي المطاف بالمرءِ في قفص الاتهام، إذا ما شهّرَ علناً بسلوك خاطئ للشرطة. ومن شأنِ ذلك أن يقوض الثقة في شرعية الشرطة، بل حتى في السلطة القضائيّة، التي يبدو أنها غير قادرة على احتواء هذا العنف الخارج عن نطاق القانون. إنّ حق استخدام العنف من قبل الشرطة يشير في جوهره – كما يلخّص بنيامين – إلى «نقطة تبلغها الدولة، أكان ذلك بسبب العجز أو بسبب العلائق الجوهرية داخل كل نظام قانوني، حيث يتعذّر عليها ضمان تحقيق غاياتها التجريبيّة التي ترغب في تحقيقها، بأي ثمن، عبر النظام القانوني».
يتوصّل بنيامين إلى استنتاج جذري بأنه لا يوجد أيّ شكل مشروع للعنف «خليّ من تلك الإشكالية الجسيمة التي ينطوي عليها كل حق في استخدام العنف». لذلك يُجيب بنيامين بنفيٍّ واضحٍ على السؤال الأساسي حول إمكانيّة إضفاء الشرعية على العنف القانوني. فالعنف، كوسيلة لإنفاذ القانون، غير قادر على إقامة نظام سلمي. بل أن بنيامين يرى العنف جزءاً من حركةٍ للحفاظ على السلطة، تلك التي تؤدي، في كثير من الأحيان، إلى حالات من القمع والاستخدام غير القانوني للعنف.
حكم الآلهة
لكن «هل ثمّة أيّة إمكانيّة لحلّ النزاعات دون عنف؟» – بالنسبة لبنيامين ليس ثمّة شكٌّ في وجود هذه الإمكانيّة، ويشير إلى ممارسات موجودة بالفعلِ كــ«الحوار». تقومُ الوسائل «النقيّة» لحلّ النزاعات – بذلك يعني بنيامين الوسائل «الخاليّة من العنف» – على شروطٍ ذاتية مثل «الكياسة والعطف وحبّ السلام والثقة». وبالرغم من هذه الأمثلة لحلّ النزاعات سلميّاً، يدركُ بنيامين بأنه من غير الممكن إزالة العنف كظاهرة من العالَم. فماذا يمكن فعله إذن؟ وكيف يمكن مواجهة العنف، إذا تبدّى أن القانون الحديث وسيلة غير مُناسبة بسببِ العنف المتجذّر فيه؟ وهنا أيضاً يقدِّم بنيامين إجابة غير مألوفة، بل إجابة بالكاد سمعتها آذاننا المُستنيرة؛ إذ يقولُ المُفكّرُ: يجبُ، حينها، أن نوجّه أنظارنا نحو أحكام الآلهة.
فالآلهة ليست مُقيّدةً بأيّ منطق مُحدَّد، وأفعالها تدلُّ على استقلاليّة مطلقة. ومع ذلك، ليست جميع أحكام الآلهة متساوية في مُباشرتها؛ حيث يميز بنيامين في تأمّلاته بين عنف أسطوريّ وعنف إلهيّ. فالعنف الأسطوريّ، الذي يراه بنيامين بشكل رئيسي عند آلهة اليونان، إنما عنفٌ واضعٌ للقانون؛ حيث يكشفُ للناسِ حدودهم بصورة فاعلة، ويعاقب على الأفعال المرتكبة، راسماً بذلك حدوداً للأجيال القادمة. ومن الممكن اعتبار ذلك نموذجاً للتفكير السياديِّ الغربيّ. ولنتذكّر، في هذا السياقِ، صياغة كارل شميت المذكورة حول حالة الاستثناء: مثلما هو الحال لدى الآلهة القديمة، فإن السيادي هو ذاك الذي يضعُ القوانين دون أن يَخضعَ بنفسه لها.
أمّا العنف الإلهيّ، فهو مختلفٌ تماماً: «فإذا كان العنف الأسطوريّ واضعاً للقانونِ، فإن العنف الإلهيّ مدمّر للقانون». يركّز بنيامين في هذا السياق، بشكل خاص، على التراثِ اليهودي. فعلى عكسِ العنف الأسطوريّ، لا يقوم العنف الإلهيّ بوضع القوانين، إنما يأتي بوصايا، من قبيل «لا تقتل». ولا يترتّب على هذه الوصية أيُّ حكمٍ أو عقوبة مشتقة بصورة عقلانيّة؛ فالأفعالُ المسترشدة بهذه الوصية إنما تُنفّذُ انطلاقاً من رؤية أخلاقيّة. فالوصية ليست معياراً للحكم، بل مُرشِدة لأفعال الشخص أو المجتمع الفاعل. وهنا تحتلُّ «قدسية الحياة» مكاناً محوريّاً، والمقصدُ هنا ليس حياةَ البشر فحسب، بل «الحياة الحيوانية أو حتّى النباتية» أيضاً. إن العنف الإلهي يظهر كإدانةٍ للحكم. إنّه يتخلّى عن السلطة.
استنتاج بنيامين لا يقبل المساومة:
فإذا أراد المرء حلّ دائرة العنف الداخل إلى العالم من خلال القانون، فلا مناص من توديع التصوّر الحاليّ للقانون. وفقط باستثناء (استبعاد) الفعل البشري من منطق العنف الأسطوري-القانوني، تتحقق «حالة الاستثناء الحقيقية»، كما أعلن عنها بنيامين في أطروحاته حول التاريخ. وفقط، في هذه الحالة، يمكن لتعايشِ خالٍ من التسلُّط أن يتحقّق.
ما يعنيه ذلك، بشكلٍ واضح يظلّ غامضاً حتى عند بنيامين. فالعنف بحد ذاته لن يختفي، لكنّه لن يكون مؤسساتيّاً بعد، أي أنّه لن يعود موجوداً كاستجابة تلقائيّة لفعل التعايش المجتمعي. إلا أن بنيامين لم يتطرّق لكيفيّة ظهور مجتمع خالٍ من العنف المُنظِّم، وهذه الإشكاليّة لا تزال قائمةً دونما حل. وفي النقاشِ الفلسفيّ، تحاول المناهج الإلغائية (abolitionistisch) والمناهج الفلسفية-القانونية على وجه الخصوص حلّ هذه المسألة. ومع ذلك، تبدو فكرة مجتمع خالٍ من القانون طوباوية إلى أبعد حدّ، وربما مخيفةً للبعض. وبحسب بنيامين، فإن «حالة الاستثناء الحقيقية» هي، في نهاية الأمرِ، لحظة مسيحانيّة بحق.
موقع الجمهورية