نظام الأسد أمام محكمة لاهاي: محاولة لوقف التعذيب المتفشّي في البلاد/ كارمن كريم
حاجة السوريين اليوم إلى قرار دولي يردع نظام الأسد بشكل مباشر، هي على رأس قائمة أولوياتهم، مع كل يوم يموت شخص تحت التعذيب، ويتعرض المئات لأصناف متنوعة من الإذلال والاغتصاب داخل أقبية النظام.
بدأت أخيراً، أولى جلسات محكمة العدل الدولية للنظر في الشكوى التي رفعها كلّ من كندا وهولندا ضدّ سوريا، بناءً على اتهامات بتعذيب عشرات آلاف الأشخاص وارتكاب انتهاكات كثيرة بحق السوريين منذ العام 2011. وكانت حصلت سابقاً محاكمات فردية عدة لشخصيات مرتبطة بنظام الأسد متَّهمة بارتكاب انتهاكات ضد الإنسانية. لكن للمرة الأولى، يوضع النظام السوري بشكل مباشر تحت مجهر المحاكمة.
عن أولى جلسات المحاكمة
استمرت المحاكمة على مدى يومي 10 و11 من الشهر الجاري، بينما تجاهلتها دمشق بشكل كلّي ولم تحضرها. وفي كل الأحوال، لن يرضخ النظام لفكرة المحاكمة.
وكان مقرراً أن تتألف جلسة الاستماع من أربع جلسات تُعقَد يومَي الثلاثاء والأربعاء، وأن تُعقَد هذه الجلسات في حزيران/ يونيو – تموز/ يوليو الماضيين، لكن نظام الأسد طلب تأجيلها إلى تشرين الأول/ أكتوبر الحالي. ولاحقاً، أبلغت سوريا المحكمة، عبر رسالة أرسلتها السفارة السورية في بروكسل، بأنها لن تشارك في المرافعات الشفهية، ما أدى إلى إلغاء الجلسات الثلاث المتبقية.
رفض النظام منذ البداية الاتهامات، ووصفها بأنها مضلّلة وعبارة عن أكاذيب، فيما قال الممثل الرئيسي لكندا ألان كيسيل، إنّ سوريا اتخذت “خياراً مؤسفاً” بعدم الحضور، مضيفاً أنّ “هذا لا يعني أنّ العالم غائب”.
قدمت كندا وهولندا شكوى أمام محكمة العدل الدولية، في تموز الماضي، ضد النظام السوري بتهمة التعذيب، وهذه هي أول قضية أمام أعلى محكمة للأمم المتحدة تتعلق بجرائم نظام الأسد في سوريا. واتهمتا النظام السوري بانتهاك اتفاقية الأمم المتحدة لمنع التعذيب وارتكاب انتهاكات مختلفة، بما في ذلك استخدام أسلحة كيميائية. كما أدانتا عمليات اغتصاب على نطاق واسع لنساء وأطفال، وعمليات تشويه وقطع رؤوس، وطلبت الدولتان من المحكمة إصدار أوامر لسوريا بشكل عاجل، لوقف جميع أشكال التعذيب والاعتقال التعسّفي، وفتح السجون أمام مفتّشين من الخارج، وتبادل المعلومات مع العائلات بشأن مصير أقاربهم.
هذه المحاكمة شديدة الأهمية، إذ إن وضع حد للتعذيب هو قضية طارئة وضرورية وتأجيلها يعني انتهاك المزيد من حقوق الأفراد، وتغييب مصيرهم، واستمرار ماكينة الأسد في التخلص من معارضيه ومعاقبتهم. وقال كبير ممثلي هولندا رينيه لوفيبر للمحكمة: “الأشخاص المعتقلون في سوريا حالياً أو المعرّضون لخطر الاعتقال لا يستطيعون الانتظار لفترة أطول”.
قد تستغرق محكمة العدل الدولية سنوات لاتخاذ قرار في قضية ما، لكن، ما يمكن أن يساعد السوريين، هو إمكان إصدار قرار عاجل في غضون أسابيع، بناء على ما يُسمى “تدابير تحفّظية”، والتي ستكون ملزمة قانوناً. والتدابير المؤقتة أو التحفظية هي إجراءات آنية تقرّها المحكمة أثناء القضية الجارية، بهدف حماية حقوق الأطراف ومنع حدوث أضرار إضافية حتى صدور حكم نهائي بشأن الدعوى. وعند إصدار المحكمة أمر التدابير المؤقتة، ستكون نهائية وملزمة قانوناً للنظام السوري، ويجب عليه الالتزام بها وتقديم تقارير دورية حول تنفيذها حتى صدور قرار المحكمة النهائي.
إذاً، في هذه المرحلة من المحاكمة، سيقرر ما إذا كان ضرورياً فرض إجراءات مؤقتة على النظام السوري، وليس قضية قيامه بجرائم حرب وانتهاكات ضد الإنسانية. يُذكر أن المحكمة تتألف من 15 قاضياً، وعلى رأسهم القاضية جوان دونوهيو. وينحدر القضاة من جنسيات مختلفة، من بينهم القاضي اللبناني نواف سلام، ونُقلت الجلسات في بث مباشر باللغتين الإنكليزية والفرنسية على موقع المحكمة وعلى قناة التلفزيون الخاصة بالأمم المتحدة.
استمرت المحاكمة على مدى يومي 10 و11 من الشهر الجاري، بينما تجاهلتها دمشق بشكل كلّي ولم تحضرها. وفي كل الأحوال، لن يرضخ النظام لفكرة المحاكمة.
النظام السوري لا يحضر جلسات الاستماع
يتجاهل نظام الأسد أي اتهامات توجه له، ويرد عليها غالباً، بأنها معلومات لا مصداقية فيها، يحارب من خلالها أعداؤه استقرار البلاد. وطوال عقود، بخاصة منذ 2011، كانت محاسبة النظام صعبة ولم تنجح محاولات كثيرة حتى في إدانة انتهاكاته، بدعم من روسيا والصين اللتين منعتا في عام 2014 مشروع قرار لمجلس الأمن الدولي يقضي بإحالة الوضع في سوريا إلى المحكمة الجنائية الدولية. وقال محامٍ عن كندا للقضاة، إنه ليس من المفاجئ عدم مثول مسؤولين من سوريا أمام المحكمة، وإنه على مدار ما يقارب الثلاث سنوات، بينما كانت المحادثات تتم بين الأطراف المتنازعة على أمل تجنب رفع دعوى قضائية، تعمدت سوريا تأخير موقفها. يُذكر أن محكمة العدل الدولية التي تتخذ من لاهاي مقرّاً لها، لم تستطع التعامل مع سوريا، لأنّها لم تصادق على نظام روما الأساسي، أي المعاهدة التأسيسية للمحكمة.
هذا كله زاد من تمادي نظام الأسد وارتكابه مزيداً من الانتهاكات والمجازر. إذ قال كيسيل لـ “فرانس بيرس”: “أعلم أنّ الناس يتعرّضون للتعذيب على مدار 24 ساعة في اليوم”، مضيفاً: “لا يحدث هذا أثناء الاستجواب فقط، بل يحدث أحياناً من أجل المتعة، وذلك ببساطة لأنهم يعتقدون أنّ لديهم حصانة من العقاب”، مؤكداً “أن مئات الأشخاص يموتون بسبب التعذيب كلّ شهر”.
وأشارت كندا وهولندا إلى وفاة 15 شخصاً تحت التعذيب منذ رفع القضية أمام المحكمة في حزيران الماضي، كما أكدتا أنه لا يمكن الاعتماد على سوريا للامتناع بإرادتها ومن دون أمر من المحكمة، عن ممارسة أعمال التعذيب ضد السوريين.
وبعد عقود من الظلم والتعذيب في الأقبية، وإخفاء النظام معارضيه، تبدو العدالة وكأنها بعيدة، ومع رمي النظام الأجساد في المجازر الجماعية المرة تلو الأخرى، يبدو أنه رمى معها حقوق الإنسان، فليس مستغرباً اليوم أن يخفت الأمل بتحقيق العدالة السورية.
السوريون بحاجة الى العدالة
حاجة السوريين اليوم إلى قرار دولي يردع نظام الأسد بشكل مباشر، هي على رأس قائمة أولوياتهم، مع كل يوم يموت شخص تحت التعذيب، ويتعرض المئات لأصناف متنوعة من الإذلال والاغتصاب داخل أقبية النظام. وقد قالت بلقيس جراح، المستشارة الأولى في برنامج العدالة الدولية في منظمة “هيومن رايتس ووتش”، إنّ قرار المحكمة ضروري لمنع المزيد من الانتهاكات ضدّ السوريين، الذين لا يزالون يعانون في ظروف مروّعة، وتتعرّض حياتهم للتهديد بشكل خطير.
وعلى رغم أن نظام الأسد لن يعترف بقرارات المحكمة وسيستمر بنهجه الديكتاتوري، تعتبر المحكمة نقطة تحوّل في مسار العدالة السورية، وسيضع قرارها الدول المطبعة مع نظام الأسد أو التي تفكر بالتطبيع في موقف صعب، في ظلّ اعتراف دولي بإجرام نظام الأسد. كما يمكن أن يساعد في إبطاء الحملة التي يقودها عدد من الدول التي تريد إعادة اللاجئين السوريين الذين فروا إلى أوروبا والشرق الأوسط ودول المنطقة. ويرى محامون أن الأمر القضائي قد يؤثر على التمويل الدولي الذي ينتظره نظام الأسد بفارغ الصبر بحجة إعادة الإعمار والاستثمار في سوريا.
ووثّقت منظفة العفو الدولية في عامي 2016 و2017، إعدامات جماعية بطرق مختلفة، نفّذها النظام السوري بحق عشرات آلاف المعتقلين في سجن صيدنايا سيئ السمعة. لكن رغم التحقيقات التي أثبتت جرائم النظام، لم تتم محاسبته طوال هذه السنوات.
كذلك، وثق تقرير للشبكة السورية لحقوق الإنسان مقتل 15039 شخصاً، بينهم 190 طفلاً و94 سيدة، على يد عناصر النظام السوري، بسبب التعذيب، منذ آذار/ 2011 حتى حزيران/ 2023.
ووفقاً للتقرير، لا يزال هناك مواطنون سوريون كثر محتجزين لدى نظام الأسد، ولا يزال لديه العدد الأكبر منهم، ومن المختفين قسرياً. ويستمر التعذيب طوال مدة اعتقال الشخص، وتعتمد ممارسة النظام السوري عمليات التعذيب في كثير من الأحيان على خلفية انتماء الضحية الى منطقة ما مناهضة له، كنوع من الانتقام الجماعي، وتأتي محافظتا درعا وحمص في مقدمة المحافظات التي فقدت أبناءها بسبب التعذيب. وأشار التقرير إلى “المعاملة المقيتة” لآلاف الأشخاص المحتجزين في مراكز الاحتجاز، بما في ذلك استخدام التعذيب والاختفاء القسري والظروف اللاإنسانية والاعتداءات الجنسية والعنف، بما في ذلك العنف ضد الأطفال، والذي أدى في كثير من الأحيان إلى الوفاة.
التعذيب، إنه ذعر ومصير السوريين الذي فرضه نظام الأسد، وأداته الأولى في فرض ديكتاتوريته، يمارسه من دون سبب وليس بهدف الحصول على اعترافات إنما لأجل التعذيب وإعلان الانتصار على أجساد السوريين المتعبة. للسوريين باع طويل مع التعذيب، إذ يدرك الطفل السوري منذ نعومة أظفاره خطر التطاول على النظام وعلى الرئيس، ويكبر معه الذعر من أن يقع يوماً بين أيدي القتلة.
درج