هَا نحنُ نمرُّ بالحدائقِ والقرى/ اختيار وترجمة: تحسين الخطيب
■ ■ ■
من يوميات سيّدة أصفهان، أرملة ميرزا خليل (ترجمة نثرية، كما في الصنعة الإنكليزية، مع أنّها في الأصل منظومة في أبياتٍ مَثنويّةِ القافية):
ولمَّا جرَّعني القدَرُ المكَّارُ مرارةَ فراقِ قُرّةِ العينِ حبيبي، قضَّ الحزنُ عليَّ مضجعي. لم أَجِد ملاذيَ إلَّا في السَّفرِ. لَن أذوقَ طعمَ النّومِ في الليلِ ولا طعمَ الرّاحةِ في النّهارِ حتَّى أطوفَ بالكعبةِ المُشرَّفةِ. هيَّأتُ نفسي ثُمَّ انطلقتُ والعزيمةُ تحثُّ خَطوي. لم يرافقني أحدٌ مِن أهلِ بيتي، فهرعتُ إلى البريَّةِ كالمجنون [مجنون ليلى] وحدي. فما نفعُ غَوثِ الخليقةِ حينَ يكونُ اللّهُ وَلِيّ المُنكَسرِ القلبِ؟ ـ حَسْبِي أنّ ذلك يَكفِي. ولمَّا رأيتُ غدرَ أحبَّتي، غادرتُ أصفهانَ كالرّيحِ الباردةِ. غسلتُ الخوفَ عن قلبي فاستبشرتُ خيرَ الغَيبِ في السَّفرِ. تنشقَّتُ، في لحظةٍ، سحرَ الرِّيفِ على مدَّ البصرِ، فطرتُ كالعصفورةِ مِن فوقِ غصنِ الحزنِ. ولكي أطوفَ ببيتِ اللّهِ، انطلقتُ في البريَّةِ وحدي.
■ ■ ■
من يوميات الشاعرة التركية شكوفه نهال بشّار، والمنشورة بالتركية في عام 1935، تحت عنوان “ثلاثة أيام في فنلندا”:
وكانَ المساءُ… كانتِ الشمسُ تغربُ… وكانَ الأفقُ، وسطَ الخُضرةِ الشاسعةِ، يحترقُ. توقَّفنا أمامَ محطَّةٍ بديعةٍ بواجهةٍ بيضاءَ مِن غيرِ سُوءٍ. مرَّت ثُلَّةٌ من الجنودِ أمامَنا؛ كأنَّهم قُدُّوا مِن القماشِ ذاتهِ أو جُبِلُوا في القالبِ ذاتهِ؛ شبابٌ مَمشوقونَ، بشعورٍ ذهبيَّةٍ، ووجوهٍ لوَّحتها على مَهلها الشَّمسُ… كانت ثيابُهم نظيفةً، تخلُو مِنَ أيِّ عيبٍ…
راحَ القطارُ يتحرَّكُ؛ كأنَّني أتصفَّحُ كشكولَ صُوَرِ فنَّانٍ يتمتَّعُ بمهاراتٍ جَماليَّةٍ عظيمةٍ: ثمَّةَ حدائقُ، ذاتَ اليمينِ وذاتَ الشِّمالِ، ومتنزَّهاتٌ، وبيوتٌ، نسَّقها شخصٌ صاحبُ ذوقٍ رفيع… وتلوحُ، في البعيدِ، رقعةٌ من بحرٍ شاحبٍ تُذكِّرُ بحلمٍ أزرق… وتلوحُ مِن الشَّارع المرصوف بالأشجارِ فتياتٌ يرتدينَ مَناماتهنَّ، جميلاتٌ كباقاتِ الزُّهورِ، بوجوهٍ عتَّمَتها سُمرَةُ الشَّمسِ الأخَّاذةُ، عائداتٍ إلى بيوتهنَّ. مفعمات، جميعهنَّ، بالحيويّةِ، فاتنات، ورزيناتٌ، ورشيقاتٌ ناعمات…
ويلوحُ، في الطَّريقِ الأُخرى إلى القريةِ، أطفالُ القريةِ، وصبايا القريةِ، كبارًا وصغارًا على حدٍّ سواء، كأنَّ عيونهم الزرقاء وشعورهم الذهبيَّة وأعناقهم المدوَّرة، كُراتٌ ذهبيَّةٌ. وتلوحُ في وجوهم آثارُ ابتساماتٍ صامتة. وثمَّةَ أناسٌ، عَن يمينِ القطارِ وشمالهِ، يركبونَ الدرَّاجاتِ الهوائيَّةِ، ويتسكَّعون.
دَنَتِ السَّاعةُ مِن الغروبِ… والشَّمسُ، كطفلةٍ عابثةٍ وُضِعَتْ في السَّريرِ ولكنَّها ترفضُ أنْ تنامَ، تواصلُ فتحَ ناموسيَّتِها بيدَيْها الشَّقِيَّتَيْنِ، ثُمَّ تشقُّ الغيومَ، بينَ حينٍ وآخرَ، مبتسمةً، والفرحُ يتهلَّلُ مِن وجهِها، مِن طرفِ الأفقِ إلى الطَّرفِ الآخر…
ثُمَّ اتَّسعَتِ الحُمرةُ التي في طرفِ أشجارِ الصَّنوبرِ فجأةً؛ ظننتُ أنَّ الشَّمسَ تشرقُ. نظرتُ إلى الوقتِ؛ كانت السَّاعةُ الحاديةَ عشرةَ فحسبُ… أظنُّ القطارَ قد صعدَ إلى مُرتقىً أعلى. كانت في المحطةِ صبيَّةٌ صغيرةٌ وجميلةٌ ترتدي طاقيَّةً مخمليَّةً حمراءَ قانيةً، وزيًّا كُحليًّا، وترتسمُ على مُحيَّاها نظراتُ جادَّةٌ: مسؤولةُ المحطَّة… إنَّها شيءٌ يشبهُ تمثالًا صغيرًا على قارعةِ الطَّريق…
غادرَ القطارُ: هَا نحنُ نمرُّ بالحدائقِ، والقرى، والمدنِ، مرَّةً أخرى. دائمًا التَّرتيبُ ذاتهُ، ودائمًا النظافةُ ذاتُها والجَمالُ ذاتُه… لا نعدمُ رؤيةَ النَّاسِ خارجَ منازلهم أبدًا. وفي الغسقِ المُلوَّنِ، يتسكَّعُ الفِتيةُ الوسيمونَ كالجنِّ المليحينَ الذينَ يلجونَ أحلامَنا. نظراتي، التي تطيرُ مِنَ الأرضِ إلى السَّماءِ ومِن السَّماءِ إلى الأرضِ، تخافُ أنْ تُضيِّعَ مثقالَ ذرَّةٍ مِن هذا الجَمال…
ثُمَّ سطعَ الشَّفقُ مرَّة أُخرى، كأنَّ الشمسَ لم تستطع أن تتمالكَ نَفْسَها بأنْ تظلَّ محجوبةً عَنِ النَّاسِ، فشقَّتْ بطانيَّةً رماديَّةً من طرفِ بستانِ الصنوبرِ المعتمِ، وأخرجتْ لسانَها المتوقِّدَ وراحتْ تمزحُ معَ الأرضِ…
■ ■ ■
من يوميات الشاعرة الطَّاجيكيّة دِلشاد (1800 – 1900؟) أيَّام سجنها في خُوقند (أوزبكستان الوقت الراهن) بعد وقوعها أسيرةً في يد الأمير عُمر خان إبّان إغارته على قريتها، والتي دوَّنتها، في وقت متأخِّر من حياتها، في كتابها “تاريخ المهاجرين”:
وبعد سؤاله عن اسمي وعائلتي، أراني الأميرُ رمَّانةً، ثُمَّ طلب منِّي نظمَ غزليَّةٍ حولها. فأنشدتُ الغزليَّةَ التّالية في ذلك الوقت:
“رأيتُ القُبَّةَ السَّماويَّةَ، وجميعُ مَا فيها طافحٌ بالألمِ.
حجابُ حريرٍ يُغطِّي وجوهَهم. رأيتُ عيونَهم دامعةً وقلوبَهم تنزفُ.
رأيتُ قلبَ كلِّ جَمالٍ وقد شقَّهُ سيفُ حُكمِ عُمر خَان الظَّالمِ”.
ومَا إنْ أكملتُ تلك الأبيات، حتَّى وكزني الأمير مرَّتَيْن، فدخل أحدُ أتباعه الغرفة. فقال له الأميرُ: “خُذ هذه الآثمةَ إلى السِّجن”، ثُمَّ أومأ إليه بعينيهِ، ولكنَّني لم أُدرك مغزى ذلك.
ولكنَّ هذا التَّابع أخبرني، حين كنَّا نعبر سويَّةً، في وقت لاحق، قرب بوَّابة القلعة: “أتعرفين، يا بُنيَّتي، أنَّ الأمير قد وهبني إيَّاكِ؟ ولكنَّني لا أعرفُ حقيقةَ أمركِ، حقيقةَ إنْ كنتِ قد اتَّخذتِ عشيقًا أم ليس بعد. راجيًا أن تُخبريني إنْ كنتِ تعشقين شخصًا مَا”.
فقلتُ: “لقد عرفَ عشقُ شابٍّ من قريتي طريقَهُ إلى قلبي”.
فقال: “أيَّتها الجاريةُ، ألا ترغبينَ في أن أعتقَكِ؟”.
فقلتُ: “بلى”.
فقال: ” لقد أعتقتُكِ”.
فقلتُ: “إنَّني غريبةُ ديارٍ، ولا أعرف أينَ أذهب؟”.
فقال: “أترينَ، هُنَاك، يا بُنيَّتي، حيث الجنودُ الأربعون المستريحونَ في ثكناتهم بجانبَيِ البوابة يغطُّون في النوم الآن؟”.
وبعد التَّعبير عن مدى امتناني لهذا الشابِّ العطوف، الذي تعود أصوله إلى قريتي، مشيتُ خلفه. أبدى هذا الشابُّ، في ذلك الوقت، جرأة عظيمة، ففتح البوابة من أجلي. خرجتُ، سائرةً صوب ضوءٍ يلوح من بعيد. وحينَ اقتربتُ من مصدر الضوء، رأيتُ بأنَّه كان حمَّامًا عموميًّا. وخشيةَ أن يكون موقدو النَّار في فرن الحمَّام ينامون في الرَّماد المتناثر، سلكتُ طريقًا أُخرى.
رأيتُ، ذاتَ الشمال، كوخًا أسود حيث كان متصوِّفةٌ سكارى من أتباع الطريقة القلندريَّة منهمكون في احتساء البوظة. وبعد أن مِلتُ على الباب الموارب، سقطتُّ مغشيّةً عليَّ! لا أذكرُ ما حدث لي بعد ذلك. وحين عدتُّ إلى وعيي، رأيت بأنّني كنت مستلقيةً على الأرض وقطعة قماش تغطِّي وجهي.
* يوميَّاتٌ مختارة من كتاب “ثلاثة قرون من أدب الرحلات المكتوب من طرف نساء مُسلِمات”، الصادر، في 532 صفحة من القطع الكبير، عن مطبعة “جامعة إنديانا الأميركية”.
العربي الجديد