أوقفوا حرب الابادة الجماعية التي تقوم بها اسرائيل في غزة – مقالات لكتاب سوريين حصرا-
تحديث 11 كانون الأول 2023
—————————
العربي الجديد
—————————
في غياب النهج الاستقلالي للإعلام الغربي/ عمر كوش
11 ديسمبر 2023
كشفت الحرب الإسرائيلية المستمرّة على قطاع غزّة عن مواقف منحازة بشكل مطلق لإسرائيل في مختلف وسائل الإعلام الغربية، خصوصا الرسمية منها، وتلك الخاضعة لتأثير مجموعات ضغط صهيونية أو قريبة منها. والمستغرب أن الآلة العسكرية الإسرائيلية استهدفت بشكل متعمّد العاملين في وسائل الإعلام في غزّة، وقتلت عديدين منهم، من دون تلقى الشجب والإدانة من أغلب وسائل الإعلام الغربية.
لم يقتصر الأمر على تبنّي الرواية الإسرائيلية كاملة، وما يعتريها من افتراءاتٍ وأكاذيب، بل وضعت حكومات دول غربية قيودا على حرية التعبير وحق التظاهر، وعلى حرية وسائل الإعلام، التي تعرّضت لانتهاكات عديدة. إضافة إلى المضايقات من أصحاب رؤوس الأموال والداعمين، ووصلت إلى حدّ وقف الدعم عن أي وسيلةٍ تنصف الضحايا المدنيين في غزّة، وتهديد العاملين بفصلهم وقطع موارد أرزاقهم، لذلك لجأ بعضُهم إلى عالم الإنترنت من أجل تفادي هذه المعيقات والمضايقات، وبما يمكّنهم من مواصلة نشاطهم الصحافي بنوع من الحرية، على الرغم من إمكانات الإنترنت العظيمة في تبادل المعلومات ونشر الأفكار، إلا أن هذه المعلومات والأفكار لا تصل إلى كل شخص، نظراً إلى القيود المادية والسياسية.
إذاً، غاب النهج الاستقلالي الذي يفصل بين وسائل الإعلام وأجندات الحكومات وسياساتها في كل من الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا وفرنسا وسواها، حيث تبنّت وسائل الإعلام مصطلحات تركز على “الإرهاب” و”الإرهابيين” في غزّة، وعلى معاناة الرهائن الذي أفرجت عنهم حركة حماس، وعلى تفاصيل حياة القتلى الإسرائيليين، بينما صمتت في المقابل عن معاناة المدنيين وعن تفاصيل حياتهم، جرّاء حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل عليهم، ولم تأتِ على ذكر الضحايا الفلسطينيين إلا أرقاما، في انحياز واضح لإسرائيل وابتعاد فاضح عن مبادئ الشفافية والحياد المطلوبين مهنياً، مع التستر على تفعيله الآلة العسكرية الإسرائيلية في غزة، وعدم التطرق إلى خطابة الإبادة الذي يتبناه بنيامين نتنياهو وحكومة حربه، وتجسيداته التي تتجلى في أعمال قتل جماعي للفلسطينيين.
وصل فقدان الاستقلالية إلى حدّ عدم إتاحة الفرصة لأي شخص يعبّر عن مواقف الفلسطينيين، أو من يؤيد قضيتهم وحقوقهم، بل اعتبرت وسائل إعلام غربية أن استضافة كل من يؤيد القضية الفلسطينية أمر خطير، وقامت في بعض الأحيان بقطع الاتصال مع ضيوف حاولوا انتقاد ما تقوم به إسرائيل في حربها على قطاع غزّة، حيث إن انتقاد جرائمها بات خطّاً أحمر لدى أغلب وسائل الإعلام، ويجري تبريره بالتذرع بسياسات التحرير. وذهبت بعض وسائل الإعلام إلى تشبيه حركة حماس بتنظيم داعش، وتبنّت ما طالب به الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في زيارته تل أبيب، بمحاربة “حماس” وفق الأساليب نفسها التي استخدمها التحالف الدولي في حربه ضد “داعش”، ولم تعلق كثيراً على التصريحات الإجرامية لرئيس الوزراء السويدي، أولف كريسترسون، “إن لدى إسرائيل الحقّ في ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية”، وحين تعالت أصوات التنديد بما قاله، حاول التنصّل منه.
المشكلة أن روح التضامن القَبَلي، بحسب وصف الفيلسوفة الأميركية، سوزان نيمان، ما ساد في ألمانيا والغرب بعد عملية طوفان الأقصى التي نفذتها حركة حماس في 7 أكتوبر، وصلت أيضاً إلى وسائل الإعلام الرسمي الغربية، ودخلت الديمقراطية في أصعب امتحان لها في هذه البلدان، بالنظر إلى سيادة عصبية غريبة في المواقف، تمخّضت عن تشكيل المسؤولين السياسيين الغربيين ما يشبه جبهة أو حزباً داعماً لإسرائيل، تماهت معه معظم وسائل الإعلام، أو على الأقل لم تنأى بنفسها عنه، من خلال مساندة أطروحات الساسة وتبني مواقفهم من دون التحقق من صحة ادعاءاتهم. وحاول هذا الحزب فرض مقولاته على مختلف الأوساط الإعلامية، حيث يكفي أن نذكر، مثالا، أن بعض أطراف هذا الحزب مارست ضغوطاً كبيرة على شبكة الأخبار والمعلومات البريطانية “بي بي سي”، من أجل اعتماد توصيف “حماس” منظمة إرهابية، لكنها لم تتبنّ ذلك، على الرغم من أن تغطيتها الحرب الإسرائيلية على غزّة بقيت منحازة لإسرائيل.
لم تجد نيمان سوى الدعوة إلى التخلص من الروح القبلية لدى ساسة الغرب، كي يكون لديهم مبادئ، لكن يبدو أنهم لم يكترثوا بها، فلم يتمسّكوا بالقيم والمبادئ الأخلاقية المفترض أن تجمع كل البشر، بوصفها أساس الحوار والتواصل بينهم، وجوهر الحكم على المواقف والتصرّفات وطرح التطلعات والمطالب العادلة، بل آثروا الانحياز إلى عصبية قبلية مبطّنة بنفاق أخلاقي يغطي مصالحهم الضيقة.
ولعل السؤال المطروح: لماذا ذهبت وسائل الإعلام في أغلب دول الغرب في نفس الاتجاه، وتبنت موقف المنحاز لإسرائيل على الرغم من جرائمها؟ وهل يمكن اعتبار أن دول مثل ألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا وسواها ما تزال تشعر بالذنب عما ارتكبته بحقّ اليهود خلال عهد النازية وعبر قرون من معاداة اليهود وكرههم، على الرغم من أن هذه الدول لا تتشابه بما فعلته بهم، فضلاً عن أن إسرائيل لا تمثل يهود العالم، حيث إن ملايين اليهود الذين يرفضون ادّعاءها تمثيلهم، كما يرفضون بشدة ما تقوم به من جرائم باسمهم، وخرج عشرات الآلاف منهم في تظاهرات في نيويورك وواشنطن وسواهما ضد حربها العدوانية على غزّة، واقتحموا مبنى الكونغرس للمطالبة بوقفها؟
لا يمكن التغاضي عن فقدان الاستقلالية لصالح الانحياز الأعمى الرامي إلى الدفاع عن كيان إسرائيل الاستيطاني، الذي تحوّل إلى دولة محتلة شرسة، يقودها ساسة وجنرالات يمين عنصري متغطرس، لا يتوقفون عن اتباع نهج التوسع والاستحواذ وقضم أراضي الشعب الفلسطيني من دون وجه حقّ، مهما تمادت وسائل الإعلام في محاولاتها طمس الحقيقة وتزييف الواقع والتستر عليه. ولا يفسّر ذلك الانحياز أن معظم دول الغرب لها تجارب مع الاستعمار ذاته، على الرغم من تشابه أشكاله ومضامينه وممارساته مع الاحتلال الصهيوني
العربي الجديد
—————————
هل يتخلّى الغربُ عن ورقة التوت الأخيرة؟/ حسان الأسود
10 ديسمبر 2023
ليست مصادفة أن تزداد حالات نجاح الأحزاب اليمينية في الانتخابات الأوروبية، مثل ما حصل في السويد وفنلندا وإيطاليا وبولندا، وليس خارجًا عن سياقه فوز العنصريين المتطرّفين مثل خيرت فيلدز في هولندا، وليس من المتعذّر أن يكون دونالد ترامب في سدّة الرئاسة مجددًا في عام 2024، فهذه وقائع ترى ونعايشها يومًا بعد يوم، وليست مجرّد توقّعات وتحليلات وضرب من خيال. فهل يكفي تفسير هذا الانزياح الغربي نحو اليمين من خلال مؤشّرات الاقتصاد وأزمات البيئة والطاقة والصراع على طرق التجارة العالمية ومصادر الثروات والمنافسة مع الصين وروسيا سلمًا وحربًا، أم ثمّة خلفياتٌ تاريخيةٌ ثاويةٌ في العقل الجمعي الغربي، تجعل من القشور سهلة الانزياح عند المنعطفات الحاسمة والاستحقاقات الكبرى؟ وهل فعلًا ثمّة صراعُ حضاراتٍ وتضادُّ ثقافاتٍ بين الغرب والشرق، بين المسيحية الغربية والإسلام، بينما ثمّة وئامٌ وانسجامٌ بين المسيحية واليهودية مما يُسمّى حاليا بين قوسين الثقافة المشتركة، وهل لاختلاف الدين السائد عند غالبية البشر بين ضفتي المتوسط هذا الأثر الكبير في تفريقهم وفي هذه النظرة العدائية تجاه أهل الشرق والجنوب عند نظرائهم؟
من يرجع إلى التاريخ يرى الأمرَ عكس ما يحاولُ الغربيون تصويره، فكُرهُ اليهودِ واضطهادهم محفورٌ في الوجدان الغربي منذ مئات السنين، واستمرّ حتى سقوط الرايخ الثالث وهزيمة النازيّة، بل إن المرء ليغامر بالقولِ إنّه لولا القوانين الصارمة في أغلب دول أوروبا فيما يخصّ تجريم معاداة الساميّة، لرأينا غير ما نسمع تجاههم من المواطنين الأوروبيين. هل ينسى اليهودُ التمييز والترحيل والاضطهاد الذي عانوا منه قرونا طوالا في أوروبا؟ هل ينسى اليهودُ أنّهم كانوا أوائل ضحايا الحملات الصليبية، وأنهم أُحرِقوا وأبيدت مجتمعاتهم عشرات المرّات، عبر تاريخ الغرب المسيحي؟ هل ينسى اليهودُ أنّه جرى طردهم من فرنسا عام 1080 ومن التشيك عام 1098، ومن إيطاليا 1171، ومن إنكلترا ثلاث مرات عام 1188 وعام 1198 وعام 1290 بمرسوم من الملك إدوارد دام مفعول تطبيقه 350 عامًا، ناهيكم عن طردهم وترحيلهم من روسيا وأوكرانيا وبولونيا؟ وهل ينسى اليهود أنّ الغرب المسيحي كان يعتبرهم لوثةً في ثوبه النقيّ، وأنّ الهولوكوست لم يأت من فراغٍ، بل جاء نتيجة طبيعية لمسار الحقد عليهم في هذه المجتمعات؟ ولماذا لا يبحثُ عُقلاؤهم عن فرصة للتعايش في الشرق الذي كان أرحم عليهم بما لا يقارن وفق مقاييس تلك الأزمان، بدءًا من عهد الأمويين في دمشق ومرورًا بحكم العرب الأندلس، ثم وصولًا إلى الفترة العثمانية وحتى مرحلة النكبة؟
في المقابل، يرى الناظرُ بعينٍ فاحصةٍ أنّ السياسات الأوروبية الرسمية تبالغ في حماية اليهود من خلال سنّ القوانين التي تجرّم معاداتهم تحت عنوان معاداة الساميّة، فهل أتت هذه المعاداة مع نشوء إسرائيل ومن جهة العرب والمسلمين، أم هي نتيجة ممارسات الأوروبيين ذاتهم تجاه اليهود؟ يرى المواطنون الأوروبيون الذي يُجبرون على تقديس اليهود رغم أنوفهم بفعل تلك القوانين التي تجعلُ مجرّد التنبيه إلى عدم جواز استهداف المدنيين الفلسطينيين على يد الجيش الإسرائيلي تهمةً، بل جريمةً كاملة الأركان، يرون أنّهم محرومون من بعض الحقوق التي نشأوا عليها ويفاخرون بأنّهم حصلوا عليها نتيجة نضالاتٍ مريرة، امتدّت قرونًا طوالًا بدءًا من عصر الأنوار وصولًا إلى هذه الأيام. كيف يمكن للألماني أو الفرنسي أو الإنكليزي أو الأميركي أن يقبل حرمانه من طرح الأسئلة بشأن الدعم اللامشروط لإسرائيل رغم الجرائم التي يراها تُرتكب بالأسلحة المصدّرة لها من بلاده وتحت غطاء الحماية السياسية الكاملة منها؟
ليست مناسبة هذه الطروحات مجرّد الاستجابة لتحدّيات الضمير الإنساني الذي بدا وكأنّه يتصارع مع الإرادة السياسية لحكّام الغرب “المتفوّق حضاريًا” إثر الحرب الهمجيّة على أهل غزّة والضفّة الغربية، بل إضافة إلى ذلك ثمّة أسبابٌ أخرى، تمسّ شرائح مجتمعيّة واسعة أتت من خلفياتٍ مهاجرة بحثًا عن الأمن والاستقرار بعد أن فقدته في بلدانها، فهذه الجموع من العرب والإيرانيين والأتراك والأفغان وغيرهم لم تعد تشعر أنّها مُحصّنةٌ أو محميّة بموجب المبادئ الدستورية والقوانين الأوروبية التي تضع في الصدارة منها حقوق الإنسان. لقد بات الإحساس بأنّ تعريف الإنسان لم يعد واضحًا كلّ الوضوح، وأنّ انطباق معايير الحماية لا يشملهم بالضرورة، وأنّ الشعبويّة المتنامية لا تجد أفضل من تحميلهم وزر فشل السياسات الداخلية، تمامًا مثلما كان يتمّ تحميل اليهود عبر مئات السنين الغابرة وزر أخطاءٍ أو خطايا لم يرتكبوها. هنا يكمنُ سرّ التعمية المقصودة على الحقيقة والسيطرة الممنهجة على وسائل الإعلام. لكن هل يبقى الأمرُ على حاله إلى الأبد؟
يقول الواقع إنّه ولّى زمنُ احتكار الحقائق وتوجيه المواطنين وعقولهم نحو الرواية التي يرغب الساسة بعرضها فقط، فزمن وسائل التواصل الاجتماعي الآن فتح نوافذ لا يمكن إغلاقها أمام الناس، للحصول على المعلومة من أطراف مختلفة، وحتى لو أمكن التحكّم بها أو بمعظمها بعضًا من الزمن، فإن من غير الممكن ذلك في كل الدنيا وفي جميع الأزمان. أليس لهذا بالذات تحدّثت المرشحة المحتملة للرئاسة الأميركية، نيكي هيلي، عن ضرورة منع تطبيق TikTok من العمل في الولايات المتحدة بحجّة أنّ من يتابعون ما يُنشر عبره 30 دقيقة يوميًا تزداد نسبة معاداتهم للسامية وتأييدهم حركة حماس بـ 17%، أليس لأنّ السياسيين يرون كيف يتمّ عبره كسر احتكار إيصال المعلومة إلى الناس؟
منذ عملية طوفان الأقصى، بدأت ردود الأفعال الأوروبية والغربية عمومًا تكشف عن تناقضات بنيوية في الممارسة الديمقراطية داخل هذه البلدان. وصل الأمرُ حدّ حظر النقاش العقلاني الذي هو من المسلّمات لدى المواطنين الغربيين الذين اعتادوا على أن يكون كلّ شيء تحت مبضع النقد والفحص والمراجعة. كذلك نما شعورٌ بوجود ترهيبٍ ممنهجٍ للجمهور من فكرة التساؤل حول مشروعية ما يقوم به جيشُ الاحتلال الإسرائيلي من انتهاكات خطيرة بذريعة حقّ الدفاعِ عن النفس. ثم صار إرغامُ الناس على القبول برواية الساسة والأحزاب السياسية أمرًا شبه مفضوح، إلى درجة أن شارك في التعمية الفكرية بعضٌ من أرفع المفكرين والفلاسفة، مثل الألماني يورغان هابرماس.
ذلك كله وغيره الكثير يؤشّر على انزياحٍ عن القيم التي طالما تغنّى بها الغرب، وصدّرها أنّها قمّة التطور البشري فكريًا وأخلاقيًا، أو أنّه انكشافٌ صارخٌ لمقارباتٍ طالما جعلت الآخر غير مرئي ولامقروءا. يبدو أنّ العقل الغربي جعل من الشرق والجنوب موضوع دراسة ونقدٍ فقط، فهو ليس ندًّا يمكنه أن يطالب بالمعاملة على القدم نفسها من المساواة، بل هو موضوعٌ للتجريب فقط، أي محلّ بحثٍ لا غير، ويمكن توجيهه وتقريعه وتحميله مسؤوليات عدم تطوّره ليصل إلى مصافّ البشر المتحضرين، لكن لا يُتصوّر أو يُقبل أن يُسمع منه مطالبة بمعاملته بوصفه مكافئًا أو معادلًا أبدًا، فهل يتخلّى الغربُ عن ورقة التوت الأخيرة، ويريحنا من هذه الجعجعة أم يتمسّك الأوروبيون بمنجزاتهم، ويزيحوا الغشاوة عن عيونهم؟
العربي الجديد
——————-
العجز والتواطؤ العربي والدولي على غزّة/ بشير البكر
08 ديسمبر 2023
الحرب على غزّة أمام مزيج من حالة عجز وتواطؤ عربي ودولي. وفي كل يومٍ يمرّ، تتّضح الصورة أكثر، وخصوصا في العالم العربي. ومع أن جامعة الدول العربية عقدت قمّة عربية إسلامية في الرياض، وشكلت وفودا زارت الصين ودولا أخرى، إلا أن صوتها كان خافتا، وخطابها استجدائيا، ومهادنا. حتى اللحظة، لا نتيجة أمام عدوانٍ يجتاح أرضا عربية، تمدّه الولايات المتحدة، كل يوم، بأحدث الأسلحة التي تقتل المدنيين، وتهدم البنى التحتية والبيوت. وليس في وسع أحد أن يفسّر سبب هذا النأي بالنفس، عن جرائم الحرب التي تفتكُ بشعبٍ شقيق، سوى بلوغ جامعة الدول العربية وضعا مُزريا. وباتت دولها غير قادرة على اعتماد موقفٍ واحد، يحمي أهل غزّة من الإبادة، من خلال ممارسة ضغط على الحليفة الكبرى أميركا. وما يهمّ أكثر أن المواقف العربية تجاه غزّة هي نتيجة سلسلة من الانهيارات والتراجعات والهزائم الداخلية، والحسابات المحلية الضيقة. وعلى هذا، سوف تؤسّس لما ينتظر العالم العربي، ليس على مستوى سقوط التضامن فقط، بل فقدان القرار المستقل. وعلى الصعيد الشعبي، ليس الحال بأفضل مما هو عليه رسميا. وهو في أقصى ما وصل إليه، لم يبلغ سقف التضامن في بعض المدن الأوروبية. ويبدأ العجز الشعبي من أقرب نقطة إلى غزّة وهي مصر، ويتدحرج من بلد عربي إلى آخر، نزولا وصعودا، حتى يصل إلى حالة الصفر في بلد مثل الجزائر، الذي لم تخرج فيه مظاهرة تضامن واحدة، بسبب المنع الحكومي، بينما يلعلع الخطاب الرسمي، إن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة.
منع المظاهرات التضامنية مع غزّة في الجزائر مبرّره المباشر الخوف من عودة الحراك الذي يطالب برحيل النظام، غير أن بعض الدول العربية صريحة في منع التضامن مع غزّة، ومتواطئة مع إسرائيل، بل لم تعد القضية الفلسطينية تعنيها من قريب أو بعيد، ومنها ما يهمّها التطبيع، وإقامة علاقات جيدة مع إسرائيل تصل حتى التحالف. ولذا ليست مستعدة أن تُغضبها، وتطلب منها أن تتوقّف عن قتل المدنيين وتهجيرهم من أرضهم. وتقف هذه الدول متفرّجة، بانتظار أن تُنجز إسرائيل مهمّة استباحة قطاع غزّة، والقضاء على حركة حماس، وكل ما يمثل مقاومة مسلحة. وبذلك تصبح حرّة في تنفيذ مشروع ضم الضفة الغربية من دون عقبات. وسيمتدّ هذا المشروع إلى تقرير مستقبل المنطقة. وأول الغيث، سيكون على العرب أن يتحمّلوا فاتورة هذه الحرب بالمعنيين المباشر وغير المباشر، ومن ذلك أن يتقبلوا، بالقوّة، إسرائيل طرفا أساسيا في الشرق الأوسط.
لا يتعلق العجز بالعرب فقط، بل بالدول التي لم تتوقّف عن المزايدات الكلامية، مثل إيران، التي رفعت شعار “وحدة الساحات” لنصرة غزّة، في حين أنها لم تقدّم حتى الحد الأدنى مما يترتب عليها. ومع تهافت هذه الأطروحة، تكشّف للرأي العام أن إيران تستخدم العرب دروعا بشرية في نزاعاتها مع إسرائيل والولايات المتحدة، وفي كل مواجهةٍ، تكون شريكة في الربح وخارجة من الخسارة. ومن العجز إلى انعدام الوزن، والتواطؤ، تتبدّل المواقف من الصين إلى روسيا، وبعض بلدان أوروبا. وتبيّن أن بكين وموسكو أصبحتا خارج معادلة التأثير في الشأن الفلسطيني، وغير مهتمّتين بمواجهة الولايات المتحدة خارج حدود مصالحهما المباشرة. وفي صدد روسيا، بدأت نتائج حربها على أوكرانيا تظهر بوضوح، لجهة تهميش الدور وعدم الفاعلية وغياب الوزن والتأثير. ولذا لم يصدُر عنها أي موقف يُعتدّ به، أو يمكن البناء عليه. وتفوّقت عليها دولٌ أصغر، مثل النرويج وإسبانيا، ميّزت نفسها عن بقية دول أوروبا، الشريكة، مثل ألمانيا وبريطانيا، والعاجزة كفرنسا.
——————–
البراغماتية الفرنسية المقنَّعة من دمشق إلى غزّة/ عبير نصر
08 ديسمبر 2023
ينطبق على الذاتية المتطرفة أو الفردية الصارخة في البنية الفكرية للبراغماتية السياسية الفرنسية ومواقفها “المتذبذبة” مما يحدُث في المنطقة العربية ما كتبه مايلز كوبلاند في كتابه “لعبة الأمم”، إنك “لا يمكنك أن تربح المباراة من دون أن تكون لاعباً ضمن الفريق، واذا لم تربح المباراة فغيّر اللاعبين”، ما يطرح واحدةً من إشكاليات الحكم العقيمة التي يبحث المتابع عن إجاباتٍ لها فيما يخصّ علاقة الأخلاق بالسياسة، وليس جديد هذه المواقف أخيرا، بالطبع، إصدار مذكّرات توقيف دولية بحقّ بشّار الأسد وشقيقه وعميدين في الجيش السوري بتهمة التواطؤ في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، عبر هجمات كيميائية وقعت صيف عام 2013 قرب دمشق. جاءت هذه المذكّرات بعد شهور من تأكيد وزيرة الخارجية الفرنسية، كاترين كولونا، أنّ بلادها تؤيد محاكمة رئيس النظام السوري “الإرهابي”، رغم مشاركته في القمّة العربية الإسلامية التي عُقدت في الرياض، وللمفارقة لم يكن ليُنسى بعد التصريح الشهير للرئيس ماكرون، الذي قال حرفياً بداية استلامه الحكم: “الأسد عدوّ الشعب السوري لكنه ليس عدو فرنسا، ولم أعد أشترط عزله لتحقيق كلّ شيء، لأنني لا أرى شخصاً خليفة شرعيا له”، الأمر الذي يعزّز فكرة أنّ منظومة الحقوق والقوانين الناظمة لها ما هي إلا مادة سياسية “خام” تُشكّل وفقاً لمصالح الدول بعيداً عن أيّ دعاية قيمية وأخلاقية. في السياق، يستقي ما سبق مزيداً من شرعية الأسد على اعتبار أنّ البراغماتية السياسية تشتمل على مفهومين محوريين: إنكار الحقائق ورفض جميع الأطُر التي تحدّد السلوكيات والأفعال بالفضائل الإنسانية.
طبقاً لهذا الأصل، ووفق هاتين الخصيصتين، نلاحظ، وبنظرة عميقة، أنّ فهم السياسيين الحقائق، في نهاية المطاف، رهنٌ بالنتيجة النافعة للوقائع، وهل أدلّ على ذلك، مثلاً، من تباكي الولايات المتحدة على الإسرائيليين وإدانتها حركة حماس رغم ارتكابها جرائم إبادة مروّعة في العراق وأفغانستان! على التوازي، شكلت البراغماتية السياسية الأساس الذي بنيت عليه الأطماع العالمية اللاحقة، ليبلغ الفكرُ السياسي قمّةَ هرمه البراغماتي، بعدما نشأ تيار رجال الدولة والساسة “البراغماتيين” الذي لا يتبنّى عقائد حتمية، وإنما يكتفي بتطبيق منهجيّته الخاصة، وأساسها النظرة الدارْوينية إلى الإنسان بوصفه حيواناً في دائرة الصراع والبقاء فيها للأقوى، لأنّ العقلية البراغماتية، باختصار، لا تؤمن بالثورة ولا بالثوريين، ويكفي التعليل على ذلك بصمت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون ديرلاين، عن وصف وزير الدفاع الإسرائيلي سكان غزّة بـ”الحيوانات البشرية”، وتهديده بقطع الوقود والغذاء والمياه عن مليوني فلسطيني والتهديد بتهجيرهم.
البراغماتية السياسية، في جوهرها، تُعَدّ نوعاً من الفعل “الابتزازي المقنَّع” في مقابل المثالية، لأنّ معيار صحّتها رهنٌ بارتباطها العضوي بالأكاذيب التي يجب تصديقها وتبنّيها، ثم القول بأصالة المنفعة، والعملانية، والذرائعية، وما إلى ذلك. وعلى اعتبار أنّ البراغماتية الفرنسية تجاه ما يحدُث في سورية عملية عاقر لم تؤتِ ثماراً أو مغانم سياسية حقيقية.
وبالعودة إلى بادئ ذي بدء، لا بدّ من طرح السؤال الملحّ: هل تُؤخذ مذكّرات التوقيف الفرنسية آنفة الذكر على محمل الجدّ بعدما تمرّغت لعبة المراوغة وازدواجية المعايير للحقائق المطلقة في موقف فرنسا من حرب الأسد ضد شعبه الثائر في مستنقع المحاصصات والتحالفات وسط غياب منهجية إلزام التطبيق والقدرة عليه؟ ولنزد من الشعر بيوتاً للإحاطة بالجواب الشافي… منذ بدء الانتفاضة السورية، أدّت فرنسا دوراً مهماً بتشجيعها تكوين المجلس الوطني السوري المعارض، وكانت أول دولة غربية تعترف به ممثلا للمعارضة، ورغم تصريحات المسؤولين الفرنسيين النارية ضد النظام السوري آنذاك، إلا أنها مع قرب الاستحقاقات الانتخابية الرئاسية التي جرت عام 2012 تراجعت بشكل ملحوظ، خوفاً من الانغماس في الأزمة، والتي ربما ستنعكس سلباً على انتخاب ساركوزي، ليؤكّد يومها رئيس الحكومة الفرنسية، فرانسوا فيون، وهو أحد كبار زعماء المعارضة اليمينية، “أنه لا بدّ من مساعدة نظام الأسد لأنه رغم كلّ سيئاته على وشك السقوط”. ثم وبعد وصوله إلى سدّة الرئاسة، دعا فرانسوا هولاند إلى ضرورة استخدام القوة العسكرية لإسقاط الأسد، إلا أنّ التوافق الأميركي الروسي على تدمير الأسلحة الكيميائية أدّى إلى تراجع الموقف الفرنسي، وهذا بدهي بطبيعة الحال، فالتطورات السياسية الظاهرة تعكس السلطة الحقيقية العالمية التي تختفي خلف “الدمى” السياسية، هرباً من الفضائح البراغماتية المجلجلة، رغم تفاؤل بعضهم واعتبار المذكّرات ذات رمزية سياسية كبيرة، كونها تستهدف الأسد نفسه، وإمكانية استثمارها بذكاء لجرّه إلى قفص الاتهام ومحاكمته.
في المقابل، من المفيد الإشارة إلى الوعد السابق للرئيس ماكرون، أنّ فرنسا ستقوم بضرباتٍ لتدمير خزائن الأسلحة الكيميائية في حال معرفة مصدرها، غير أنه لم يصدر عنها أيّ ردّ فعل، رغم إثبات تقرير البعثة الخاصة لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية في سورية أنّ نظام الأسد استعمل غاز السارين في قصفه خان شيخون في أبريل/ نيسان 2017.
وبالتأسيس على هذا المعطى، لا يضيرنا القول إنّ المذكرات الصادرة أخيرا تفقد مصداقيتها اليوم، خصوصا وسط العزف الفرنسي الصريح على وتر “معاداة السامية” في غضون الحرب التي تشنها إسرائيل على الفلسطينيين في قطاع غزّة، فبعدما ندّد ماكرون بأعمال العنف التي ينفّذها المستوطنون الإسرائيليون في الضفة الغربية على أنها “سياسة ترهيب”، برّأ في مكالمة هاتفية له مع نظيره الإسرائيلي تل أبيب من إيذاء المدنيين عمداً، مشدّداً على دعمه المطلق حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها. وفي الحقيقة، تبدّل المواقف الفرنسية يجعل من ماكرون قائداً فاشلاً في ملعبٍ دموي مليء بـالتخبّط والتناقض وعدم المصداقية، فبعد حظر وزير الداخلية الفرنسي المظاهرات المؤيدة للشعب الفلسطيني في جميع أنحاء البلاد، جرى اتهام النجم الفرنسي من أصول جزائرية كريم بنزيمة، بأنه ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين بسبب تغريدة له يدعم فيها سكان غزّة، تحاول باريس نفي تهمة “البراغماتية المقنَّعة” بتذكير الدول الداعمة للقضية الفلسطينية بأنها صوّتت في الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح وقف إطلاق النار في غزّة، والذي حاز تأييد 120 دولة، ومعارضة 14، بينها الولايات المتحدة.
بالتساوق مع ما تقدّم، وفي إطار إعادة ترتيب البيئة الدولية ضمن مصفوفات براغماتية جاهزة، مرتكزة على ترسانة هائلة من تشويه الحقائق وتغييب المشاهدات الحيّة، يبدو أنّ واقعية السياسة الفرنسية تُطعّم بقيم ومبادئ ذرائعية وعواقبية، من دون إغفال القياس للظروف الموضوعية التي أدّت إلى التذبذب الفرنسي وتفسير حركية انتقاله من موقف إلى آخر. وقد نفى، وبشكل قطعي، توماس هوبز، وهو أبرز المنظّرين الغربيين في القرن السابع عشر، وجود الأخلاق في الأروقة السياسية. ومن هذا المنطلق المقتصر على المصالح الآنية والأنانية، تأتي سياسة “الابتزاز العالمي النفعي” مستندة إلى الانتهازية وإسقاط الاعتبارات الأخلاقية من مسارات العمل السياسي، لأنها ببساطة لا تهتم بقضايا الإنسان وتحرّره، وإنما بالبحث عن المنافع الخاصة وبالوسائل الكفيلة بتحقيقها، ما يؤكّد أنّ الضعيف مكرهٌ على العيش في عالم لا عقلانيّ يتعذّر فهمه. أما الأمور الأخرى، من قتلى وجرحى ومنكوبين ومشرّدين، فهي أثمان مستحقة لا ينبغي الوقوف عندها أمام (نبل) الهدف العالمي، لأنّ “الشيطان البراغماتي” يكمن دائماً في التفاصيل، ويحكم بقبضةٍ حديدية من خلال إسقاط كلّ الأيديولوجيات ما لم تكن قابلة للانضواء تحت مظلته.
العربي الجديد
——————–
دفاعاً عن أنفسنا/ ممدوح عزام
08 ديسمبر 2023
المُتتبّع لحالة النفاق، أو التأييد الحقيقي، في الموقف الأوروبي تجاه عدوان “إسرائيل” على غزّة، قد يستنتج أنّ انهياراً تامّاً للإيمان بالقيم والمبادئ التي أُرسيت عليها المدنية الحديثة يشهده عالمُنا المعاصر. يمكن أن نلاحظ هذا في كثير من مقالات الصحافة العربية، التي لا تكتفي بالتنديد بالكذب الذي مورس من قبل حكومات الغرب، وإعلامه، وبعض كتّابه، حول حرية التعبير، وحقوق الإنسان، وحقّ الشعوب في تقرير المصير، ونهاية الاستعمار، بل بالمبادئ ذاتها.
تهاجَم الديموقراطية لأنّ الغرب الذي صدّرها إلى العالم ينتهكها. يطاول الهجوم حرية التعبير الذي يمارَس وفق طريقة الكيل بمكيالين، وشرعة حقوق الإنسان، والانتخابات، ومبدأ فصل السلطات.
أي إنّ أهمّ أكثر المبادئ التي توصَّلت إليها البشرية، عدالة وإنسانية وأخلاقية، تُستبعد من برنامج النهوض العربي لمواجهة الصهيونية، والمشروع الإسرائيلي، وذلك نكاية في غربٍ يؤيّد “إسرائيل”.
واللافت في كلّ المطالعات العربية الداعية إلى مقاطعة مبادئ الغرب، أنّ “المُنظّرين” العرب يستخدمون لغة مستلّة في معظمها من مصطلحات الغرب: الخطاب، والسرد، والسردية، والإبادة الجماعية، والتفرقة العنصرية، والأعراق… وغيرها.
هل يؤيّد الغربُ “إسرائيل” فعلاً؟ أمّا “القادة”، فلم يُخفِ أحدٌ منهم انحيازه إلى “إسرائيل”، غير عابئين بأيّ قيمة أخلاقية، وجاراهم في ذلك كتّاب عرب، تخلّوا عن ضميرهم الإنساني مقابل أن يرضى عنهم نظام تربيح رأسمالي. ولكن يمكن اعتبار الشهرين الماضيين اللذين ارتكب فيهما الصهاينة مجازر ضدّ غزّة وأهل غزّة، شاهداً على تحوُّلٍ ما في رأي الغرب تجاه القضية الفلسطينية أوّلاً، وهو موقف أو رأي تجلّى بكلّ قوّة في المظاهرات الضخمة التي قادها شبّان وشابّات “غربيون”، منادين بسقوط الصهيونية، واستعادوا أغنية سويدية تهتف لفلسطين، عمرها أكثر من خمسين سنة، ونشروها في شوارع أوروبا وأميركا، ولم تستطع أكبر حصون الإعلام في الغرب أن تدافع عن السلوك الإجرامي الوحشي للصهاينة في غزّة، إلا بترديد لغتهم، أي لغة الإبادة والقتل والتدمير، ولم يكن بوسعها أن تستعيد للحظة واحدة أيّ مفردة من لغة الإنسانية، لغة الرحمة والتعايش والتفهّم والتنوّع والتعدّد الثقافي، وغيرها من المفردات التي شكّلت إنسانية الإنسان في الشرق والغرب.
ليست قيم الغرب عدوّتنا، بل قادة الغرب، وليست قيم الغرب من أوجد “إسرائيل”، بل أكثر التوجّهات حقارة في تفكير قادة الغرب، وإذا شئنا أكثر فإنّ الغرب نفسه، ممثَّلاً في شعوبه ومفكّريه الأحرار، سأل الغرب الآخر الحاكِم عن القيم والمبادئ، وربّما كان السؤال لدى المفكِّرين والفلاسفة في الغرب أكثر عمقاً وجدّية بسبب المواجهة التي وجدوا أنفسهم يخوضونها ضدّ أولئك الساسة الذين يرغبون، بين مرحلة وأُخرى، في الانقضاض عليها، وحرمان الشعوب إمكاناتها التي تعوق “حريتهم” في التحرّك المبني على مصالح الرأسماليّين الكبار.
الدفاع عن الديمقراطية في بلادنا، أو حرية التعبير، أو الانتخابات النزيهة، أو فصل السلطات، حاجة حياتية تضمن لنا العيش الكريم بعيداً عن سلوك الأنظمة التي تهدر كرامة الإنسان العربي، والإخلاص للديمقراطية يعني أن نملأها، فيما لو استطعنا تطبيقها يوماً ما، بمضمون إنساني يناسب حياتنا المحرومة كلّ هذه الممارسات الإنسانية.
* روائي من سورية
العربي الجديد
——————————
إلى المثقفين الفلسطينيين وتفكيك دولة الاحتلال/ عمار ديوب
07 ديسمبر 2023
أعادت عملية طوفان الأقصى القضية الفلسطينية إلى طاولات كل دوائر القرار في العالم، ولم يتأخّر أحد عن إعلان الموقف منها، وليس فقط رفض العدوان على غزّة، فهناك من يدعم العدوان بحجّة الدفاع عن النفس، رغم أن دولة الاحتلال في القانون الدولي لا يحقّ لها هذا الدفاع من أصله.
ولأن القضية استعيدت بكل هذه القوة، أدعو المثقّفين الفلسطينيين إلى إنشاء “سلطة ثقافية فلسطينية”، تعمل على إصدار البيانات الثقافية وإرسالها إلى مختلف الدوائر الفاعلة في العالم، السياسية والثقافية والاقتصادية والتعليمية والدينية؛ وهذه مهمة راهنة للمثقّفين الفلسطينيين.
الدعوة هذه، لأن القضية الفلسطينية أصبحت مجدّداً القضية الأهم في العالم، وتُحدِثُ مواجهة ثقافية وإعلامية حادّة في مختلف أنحاء العالم بصددها؛ معها أو مع دولة الاحتلال، وإذ لا تستطيع السلطة الفلسطينية في رام الله القيام بذلك، وإذ حركة حماس محاصرة، بكل كوادرها، في الداخل والخارج، والنقد يتركز عليها، وليس فقط إثر عملية طوفان الأقصى، فإن لصوت المثقفين الفلسطينيين والمنتشرين في كل العالم أهمية قصوى في هذه اللحظة الفارقة؛ لحظة العدوان، الهادف، إلى اجتثاث ليس “حماس” فقط بل قطاع غزّة، وبعدها ستكون الضفة الغربية.
الدعوة، لأنّ كل المشاريع السياسية المطروحة من الإدارة الأميركية ومعها السبعة الكبار، إلى ما بعد الحرب، ومنذ الآن، من القماشة القديمة إياها، والفاشلة بامتياز، خيار الدولتين، وقوات دولية ومنطقة أمنية وعازلة في غزّة، وتهجير أهلها، وسواها، ولأنّ دولة العدو صهيونية و”ليهود العالم فقط” فهي تخطّط استراتيجياً، ولا تفكر إلّا بتهجير أهل الضفة الغربية وفلسطينيي الـ1948 إن نجحت في غزّة، وتخشى بشكل متزايدٍ بقاء الفلسطينيين، ديموغرافياً، وليس فقط قواهم السياسية، الساعية، نحو حلّ الدولة الواحدة، أو كل من يعمل منها نحو تفكيك دولة الاحتلال.
الدعوة لأنّ سياسات المحاور العربية (الاعتدال والمقاومة) والدول المحيطة بالمنطقة العربية (تركيا وإيران) تسعى كل منها نحو تهدئة الأوضاع في فلسطين وعلى حساب الفلسطينيين، وضمن خيار الدولتين، الفاشلة كما ذكرنا؛ إن عملية طوفان الأقصى قطعت الطريق على الاتفاقيات الابراهيمية، وعلى الممرّ الهندي الرابط بين بعض دول الخليج ودولة الاحتلال، ومنها إلى أوروبا وبدءا بالهند. أوقفت هذه العملية كل تلك التطوّرات، ولأنّها كذلك، ولأسباب أخرى، اصطفّت الدول السبع، ومعها الهند، مع العدوان لإنهاء الوضع “الشاذّ والإرهابيين” في غزّة، أي لكي تتخلّص تلك الدول من أهل غزّة، وليس فقط من “حماس”. وبالتالي، لا يجوز الركون مطلقاً للقول إن عملية تهجير أهل غزّة انتهت برفض مصر والأردن ومعهما الدول العربية، وحتى مع إعلان الإدارة الأميركية رفضها التهجير.
لم تبذل واشنطن جهداً لإيقاف العدوان، والشروط، التي تضعها، أخيرا، له هي للاستهلاك المحلي والعالمي. وبسبب تصاعد الانتقادات لتأييدها العدوان، وبروز جناح سياسي وازن في الحزب الديموقراطي، يرفض سياسة بايدن وإدارته، بينما الحقيقة، الإدارة الأميركية، ومعها الحكومتان، البريطانية والألمانية، خصوصا، وسواها، لا تزال تتمسّك بحق دولة الاحتلال في العدوان ورفض حقّ الفلسطينيين في تحرير بلادهم سواء في غزة أو في الضفة أو في الـ 48؛ فكل المشاريع المطروحة من قبلهم لا تعالج موضوع غزة أو خيار الدولتين القديم بأي صورةٍ، وبما يسمح برفع الحصار وتفكيك الاستيطان في الضفة والقدس، وهذه المشاريع تخدم مصالح تلك الدول في تعزيز دور الكيان الصهيوني، بوصفه قوّة عسكرية متقدّمة ضد شعوب المنطقة، وتحديداً العرب، وضد اليهود أيضاً.
المثقّف الفلسطيني هو الأدق في فهم قضيته. ولأنّ الأمر كذلك، عليه حمل ثقل القضية العادلة، وإيصال قضية تحرير بلاده إلى العالم، والدفاع عنها فيه، وعلى منابره، بلغة دقيقة ورصينة ونضالية بامتياز، وطبعاً بالتآزر مع المثقّفين اليهود الساعين بدورهم من أجل إقامة دولة واحدة وللجميع؛ دولة ديموقراطية علمانية.
غزّة كاشفة بامتياز لحقيقة المواقف تجاهها، فأهلها من يُبادون، وهي ما تُدمّر؛ المشافي، البيوت، البنى التحتية، وتمَّ، وبعد قطع الكهرباء والطعام والماء والوقود عنها، منع وصولها عبر مصر، ولم تبذُل الأخيرة، ومعها الدول العربية والإسلامية، جهداً حقيقياً لفتح معبر رفح بشكل مستمرٍ، ولم يجدوا طريقة لمنع ضغوط دولة الاحتلال ومعها الدول المساندة لها لفتح المعبر، وأيضاً لم يستخدموا أوراقهم الضاغطة “قطع العلاقات مع الكيان، والتهديد بإيقاف تصدير النفط والغاز، والتلويح بإعلان الحرب” لمنع الدمار والمقتلة في غزّة، والأمر سيتكرّر في الضفة الغربية والـ 48؛ فدولة الاحتلال تعلن، من دون توقف، أنّها ساعية إلى دولة يهودية ولن تتوقف عن ذلك، والاستيطان في الضفة بمثابة إنذار للتهجير القادم، أو التحوّل إلى مواطنين من الدرجة العاشرة.
المثقف الفلسطيني، ومعه العربي والعالمي، يتحمّل مسؤولية كبرى عن إعادة طرح القضية الفلسطينية كأهم قضية عادلة، ومعها كل القضايا العربية الأخرى، كالانتقال الديمقراطي في سورية، وفي ليبيا واليمن بالتحديد، نظراً إلى الأزمات المهولة التي تتعمّق في هذه الدول. المهم، الآن، أن يجد المثقفون الفلسطينيون إطاراً جامعاً لنشاطاتهم، سيما أن مثقفين في العالم يعلنون تأييدهم دولة الاحتلال، وفي مقدمهم هابرماس ببيانٍ مناهضٍ للقضية الفلسطينية مع آخرين. إذاً، لا تكفي الإطلالات الإعلامية للمثقفين الفلسطينيين على أهميتها، ولا ما ينشرونه في الإعلامين، العربي والعالمي، بل يجب تشكيل جبهة عالمية من المثقفين الفلسطينيين أولاً والعرب ثانياً، ومن كل أنحاء العالم ثالثاً.
القضية معقّدة، سيما بوجود الانقسام الفلسطيني، وعدم ارتقاء كل من حركتي حماس وفتح بشكل خاص إلى مستوى الحدث، وغياب أيّة مبادراتٍ لطيّ الانقسام بينهما، وأقصد أن المخطط الصهيوني، وهو سابق لـ7 أكتوبر، هو تهجير أهل غزّة والضفة الغربية، ولاحقاً من بقي من عرب 48. القضية إذاً ليست هذه القوى وسواها، وهي قضيتهم أيضاً في آن واحد، وقضية كل الشعب الفلسطيني كذلك، ولأن الأمر على هذا النحو، يجب أن يسارع المثقفون الفلسطينيون إلى تشكيل الجبهة العالمية تلك.
———————–
هل تصبح غزّة بوابة التغيير العربي؟/ غازي دحمان
07 ديسمبر 2023
ليست فلسطين وقطاع غزّة أمام واقع سياسي واستراتيجي آخذ بالتشكّل، بل المنطقة العربية بمجملها باتت، ومن دون وعي من نخبها وغالبية صنّاع القرار فيها، على عتبة تحوّلات خطيرة، فرضتها حالة السيولة الأمنية وارتباك التصوّرات السياسية التي سادت المنطقة في العقد الأخير.
إرهاصات عديدة كانت قد كشفت عنها السنوات السابقة، بدءا من صراع القوى الإقليمية على المنطقة العربية، ثم دخول المنطقة في قلب المشاريع الجيوسياسية المتصارعة، والتي كانت في قلبها المشاريع الروسية والإيرانية والصينية، ثم الرد الأميركي بمشروع الممرّ الهندي، وليس انتهاء بالمشروع الإسرائيلي القاضي بتهجير سكّان غزّة.
يأخذ هذا التشكّل سبغة تدرّجية، وتقوم بإدارته الفواعل الدولية والإقليمية، في إطار سعيها إلى تأمين مساحات استراتيجية تعزّز قدرتها التفاوضية في عالم ما بعد القطبية الأحادية، حيث تسعى الأطراف الواعية لهذا التحوّل إلى الاستزادة بأوراق قوّة تسمح باعتمادها، أو توصيفها، أطرافا فاعلة لنظام دولي قد تحكم قواعده العالم عقودا طويلة، وبالتالي، تتحكّم بغلاله ومصائر شعوبه طوال تلك المرحلة.
ويبدو أن إسرائيل بدأت استثمار اللحظة الدولية السائلة، والتي غالبا ما يجري وصفها في أدبيات العلاقات الدولية، بالمرحلة الانتقالية بين نظامين وعالمين، حيث الفواعل الدولية منهمكة في ترتيبات مشاريعها، فيما الأطراف المستهدفة إما مستنزفة بفعل الصراعات أو متخوّفة من شمولها في إطار تلك المشاريع. لذا تكون اشتراطاتها ضعيفة مقابل استعداد مرتفع لقبول الانضواء في ظل أي مشروع يحقّق لها مساحة، تراها معقولة من الأمان.
وتسعى إسرائيل لدخول اللعبة عبر استراتيجية تقوم على دمج خيارين متناقضين، لكنهما في الوقت نفسه، يحققان لها، في حال تحقّقهما فائضا من القوّة الاستراتيجية يجعلانها طرفا مقرّرا، إن لم يكن أقوى الأطراف المقرّرة والفاعلة في النظام الدولي المنتظر. الأول: التخفّف من أكبر قدر ممكن من الفلسطينيين، ومن جميع مناطق فلسطين. أدواتها في تحقيق هذا الخيار واضحة في الحرب على غزّة وتسليح المستوطنين في الضفة الغربية، والتضييق إلى أبعد الحدود على الفلسطينيين داخل الخط الأخضر. الثاني: الاندماج في النظام الشرق أوسطي، من خلال توسيع دائرة التفاعل مع الأنظمة العربية وتشبيك المصالح والتحوّل إلى لاعب عضوي مرتبط بشدّة ببنية الإقليم، بحيث يصبح بقاؤه خارج تركيبة الإقليم عنصرا مهدّدا لبقائه واستمرارية تفاعلاته. بالإضافة إلى أنه فرصة مضيّعة وخسارة من رصيد الإقليم في لعبة التوازنات الدولية، وبالطبع الطموح الإسرائيلي لا يقبل بأقلّ من دور قائد ضمن البنية الإقليمية.
لكن هذا التحوّل، في حال تحقّقه، ولا شيء يشي بعدم اكتمال سيناريوهاته، قد يُفرز استجابات لم تلاحظها مفكّرات اللاعبين الإقليميين والدوليين. وبالقطع، ستؤدّي إلى نشوء ديناميات جديدة في العالم العربي، تماما مثل تلك التحوّلات التي شهدتها البيئة العربية بعد نكبة فلسطين سنة 1948، والتي نتج عنها تغيير للطبقات الحاكمة في أكثر البلدان العربية وظهور موجة المدّ القومي، ثم موجة المد الإسلامي بداية من سبعينيات القرن الماضي، بعد نكسة عام 1967، ثم بروز التطرّف بدرجة كبيرة بعد احتلال العراق سنة 2003.
ربما يجادل بعضهم بأن موجة التحوّلات في العالم العربي انتهت مع نجاح الثورات المضادّة في إعادة ضبط المسارات العربية لمصلحتها، والتحكّم تاليا بمخرجات السياسة والاجتماع وتوجهاتهما في العالم العربي، بل أصبح بقاء النخب الحاكمة المحدّد الأساسي لأي تحرّك شعبي. وفي ظلّ ذلك، تراجعت سقوف الشعوب العربية إلى حد الحصول على الأمان، الذي يعني الأمان من جبروت الحاكم وطغيانه بالدرجة الأولى، أما قوى الاعتراض المدني فلم تعد مرئية على مساحة العالم العربي.
مثل هذا التوصيف الإستاتيكي والذي يحلّل الأمور انطلاقا من فرضيّة أن استمرار الأوضاع الراهنة هو الحقيقة المؤكّدة، ولا توجد أدنى مؤشّرات على إمكانية تغييرها أو حتى خدشها في المديين، القريب والمتوسط، وكل ما دونها ليس سوى بيع للأوهام، توصيف ليس دقيقا لأنه لا يأخذ في الاعتبار قضية مهمة، أن التحولات يُغذّي بعضها بعضا، وأن الديناميّات تتفاعل بطريقة يصعب التحكم بها، كما أن الأحداث ليس لها اتجاه واحد على الدوام.
المؤكّد أن نتائج حرب غزّة التي يتضح أنها تسير صوب سيناريوهات، ما زال كثيرون منّا يحاولون حتى عدم تصوّرها، فضلا عن النتائج الكارثية التي ستخلّفها الحرب إذا استمرّت على الإيقاع نفسه مدّةً أطول، ستكون لها تفاعلات خطيرة في العالم العربي. وتتخوّف غالبية النخب الحاكمة من تلك التفاعلات، وتحاول بطرق عديدة قمع إمكانية تشكّلها عبر إظهار تعاطفها مع الطرف الفلسطيني. لكن، هل يكفي هذا النوع من التحوّطات لصد طوفان التحوّلات المحتملة؟ وهل يكفي أن الأنظمة الحاكمة، وبعد الربيع العربي، أدخلت الجيوش إلى قفصها بعدما أعادت هيكلتها ووضعتها تحت رقابة أجهزة أمنية لتنام قريرة العين؟
الأهم من ذلك أن التحوّلات عندما تقع لا تكون انتقائية، بمعنى أنها ستحافظ على مكان النخب مقابل تغيير البنى الاجتماعية والأيديولوجية. وتحتاج المشاريع الجيوسياسية أدوات جديدة لتحقّق أقصى العوائد الممكنة. وبالتالي، من ينتظر من مشاريع الآخرين أن تحافظ له على وضعيته واهم، ويبدو أن غالبية الأنظمة العربية التي لم تستعد لمثل هذه التطوّرات تقع في هذه الخانة، هل كان الملك فاروق يتصوّر بعد احتلال فلسطين، غير أنه باق على العرش إلى أبد الآبدين؟
العربي الجديد
——————-
“لماذا يكرهوننا؟”/ مروان قبلان
06 ديسمبر 2023
بعد هجمات 11 سبتمبر (2001) في الولايات المتحدة، طرحت وسائل إعلام ودوائر فكرية وسياسية غربية على نطاق واسع سؤال: لماذا يكرهوننا؟ أي لماذا من قام بتلك الهجمات، ومن ورائهم الثقافة أو الحضارة التي ينتمون إليها، يكرهون الغرب ويُضمرون له كل هذا العداء؟ وكانت الإجابة التي تصدّى كثيرون لتقديمها، من ضمنهم سياسيون، كالرئيس الأميركي حينها، جورج بوش الابن، ورئيس وزراء بريطانيا الأسبق، توني بلير، ومفكّرون بارزون من أمثال فرنسيس فوكوياما، الذي تراجع عن أطروحته انتصار الرأسمالية في مقال نشره في صحيفة فاينانشال تايمز في ذلك الوقت، أنهم (أي الآخرون) يكرهون الغرب بسبب قيمه وأسلوب حياته (way of life). في السياق نفسه، وإن كان بمقاربة مختلفة، اعتبر صمويل هنتنغتون، صاحب أطروحة “صدام الحضارات” ما جرى حينها دليلاً على صحة نظريته التي تهكّم عليها بعضهم عندما أطلقها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في مطلع التسعينيات. حالياً، وبسبب الحرب على ضدغزة صار السؤال نفسه (لماذا يكرهوننا؟) يُطرح من الطرف المقابل، أي الطرف العربي والفلسطيني، وسبب ذلك هو دعم إدارة بايدن غير المسبوق لإسرائيل في حربها على قطاع غزة، والتغطية الفضيحة لوسائل الإعلام الغربية للحرب ولجرائم إسرائيل فيها.
ومع أننا ما زلنا نرفض أطروحة “صدام الحضارات”، ونؤكّد وجود قيم إنسانية عليا، متفق عليها بين البشر، عمادها الحرية والعدالة وحقوق الإنسان، بدليل المظاهرات التي تشهدها عواصم غربية كبرى ضد العدوان الإسرائيلي على غزّة، ورفض حكومات غربية عديدة جرائم الإبادة التي ترتكبها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني (إسبانيا، بلجيكا، أيرلندا، النرويج، وغيرها)، إلا أنه لا يمكننا، مهما حاولنا، إنكار وجود بعد ثقافي في نظرة الإعلام الغربي إلى المجتمعات العربية والإسلامية (المختلف، الآخر)، تجلى بأوضح صوره في تغطية الحرب الإسرائيلية على غزة، ومحاولة وسائل إعلام غربية عديدة نزع إنسانية الإنسان العربي الفلسطيني، في مقابل تكريس إنسانية الطرف الآخر وتبرير أفعاله، باعتبارها من صنوف الدفاع عن النفس. من ذلك مثلاً أن هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) دأبت، منذ بداية الصراع الحالي، على استخدم تعبير “قتلوا” عندما تشير إلى الإسرائيليين الذين سقطوا يوم 7 أكتوبر وبعده، كما أنها تحرص على التذكير بهوية القاتل، وهو في هذه الحالة حركة حماس أو “المسلحون الفلسطينيون”. أما عندما تتحدّث عن القتلى الفلسطينيين فهي (بي بي سي) تستخدم تعبير “مات” أو “ماتوا” (died) بدلاً من “قُتل” أو “قُتلوا” (killed) في محاولة لتجهيل القاتل، وكأن هؤلاء ماتوا نتيجة “وباء” أو هزّة أرضية، مثلاً. فضيحة أخرى طالت هذه المرّة شبكة سي أن أن الأميركية التي أذاعت تقريراً قال فيه متحدّث باسم الجيش الإسرائيلي، خلال جولة لصحافيين غربيين في مستشفى الرنتيسي، إن حماس استخدمت المستشفى لاحتجاز رهائن. وأشار المتحدث إلى مفكّرة (روزنامة) بأيام الأسبوع كانت معلّقة على الجدار، باعتبارها لائحة تحمل أسماء الحراس من حركة حماس الذين يتناوبون على حراسة الرهائن. وقد أذاعت الشبكة التقرير، من دون تمحيص، أو محاولة للاستعانة بمن يعرف العربية، للتحقّق من أمر اللائحة المعلقة على الجدار. وعندما انطلقت حملة تهكّم على الشبكة وعلى جهل مراسلها، نيك روبرتسون، الذي أذاع التقرير، اضطرّت الشبكة إلى حذفه. وقد استغرق الأمر بصحيفة نيويورك تايمز، المعروفة بتوازنها عموماً، خمسة أسابيع كاملة، قبل أن تنشر أول صورة للقتل الجماعي الذي تقوم به إسرائيل على صدر صفحتها الأولى، في حين أنها ركّزت، قبل ذلك، بشكل كامل تقريباً على ما جرى للجانب الإسرائيلي.
خلال تغطيتها عمليات تبادل الأسرى التي جرت بين “حماس” وإسرائيل أثناء الهدنة التي جرى التوصل إليها بين 24 – 30 نوفمبر، أخفقت الشبكات الإعلامية الرئيسة في بريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة في الإشارة إلى أن المحتجزين الفلسطينيين لدى إسرائيل كانوا من الأطفال والنساء، في حين جرى التركيز على أعمار المحتجزين لدى حركة حماس، وتراوحت أعمارهم بين 4 سنوات و79 عاماً من الأطفال والنساء. وفيما جرى تصوير العائلات الإسرائيلية وهي تحتضن محتجزيها المُطلق سراحهم، جرى تصوير الفلسطينيين وهم يحتفلون بإطلاق أسراهم في مسيرات شعبية، ترفع شعارات سياسية، يتخلّلها إطلاق نار.
العربي الجديد
——————
هل كشفت الهدنة سرديّات إسرائيل الكاذبة عن الحرب؟/ سميرة المسالمة
04 ديسمبر 2023
تتعامل إسرائيل في حربها الوحشية ضد الفلسطينيين مع مسلّمة بنت عليها سرديّة ثابتة، منذ أطلقت الحركة الصهيونية إسرائيل مشروعاً (أواخر القرن الـ19) وصولاً إلى إقامتها (1948)، أن وجودها وأمنها مقرونان بنفي الآخر أو تغييبه وإخفائه من الوجود، أي الشعب الفلسطيني، فمشكلة إسرائيل في حقيقة وجوده، وهو أنه لا يغيب ولا يختفي، وربما نستطيع القول لا يُباد، على الرغم من كلّ جرائم إسرائيل التي تهدف إلى ذلك، بل إنه شعب عنيد ويواصل البقاء، والمقاومة، وأنّ الذين يموتون جسداً لا يموتون حقاً، إذ تنتقل أرواحهم وذاكرتهم ورائحة وطنهم، وأسماء مدنهم وقراهم وحاراتهم، وحجارتهم، وأشجارهم، وكامل قضيتهم، إلى صغارهم، حيث يكونون، سواء في فلسطين أو خارجها.
ولعلّ قناعة الإسرائيليين بحقيقة وجود الشعب الفلسطيني، على عكس مقولتهم التي برّرت اختيارهم فلسطين وطناً لليهود بأنها “أرضٌ بلا شعب لشعبٍ بلا أرض”، هي ما يفسّر تركيز العملية العسكرية الإسرائيلية الدموية (السيوف الحديدية) على استهداف المباني المدنية وقتل ما تستطيع من المدنيين، وهي ما يبدّد روايتها أنّ هدفها هو استئصال حركة المقاومة الإسلامية (حماس) من غزّة، فقد كانت معظم أهدافها ولا تزال مدنيةً وشعبية، ومعظم ضحاياها من الأطفال والنساء بنسبة 67% من بين الضحايا، الذين فاق عددهم 15 ألفاً وفق أرقام تحقيق لمجلة “+972 ونداء محلي” التي يصدرها صحافيون فلسطينيون وإسرائيليون، وتتوقع زيادة كبيرة في هذه الأعداد مع استمرار الحرب.
ولعلّ في ما تمثله غزّة من صمود ومقاومة تاريخيين أكبر تجلّ لتلك الحقيقة التي ظلت تقض مضاجع قادة إسرائيل، الذين طالما تمنّوا أن يستيقظوا ويجدوا أن غزّة ابتلعها البحر، لكنّها ظلت عصية على الاختفاء، فمنها اندلعت الانتفاضة الأولى (1987 – 1993)، وهي التي أجبرت إسرائيل على الانسحاب منها، وتفكيك مستوطناتها (2005)، وصمدت أمام الحصار الجائر منذ 16 عاماً، ولا تزال، قبل عملية حماس “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر/تشرين الأول، وبعدها، وقد عدّت إسرائيل هذه العملية حدثاً مناسباً لتوقيت حربها المخطّط لها سابقاً، لإبادة الشعب الفلسطيني، والمدينة المستعصية منذ قرابة شهرين على جيش الاحتلال، رغم كل التوحش، بالقياس لجيوش هزمت في ظرف أيام قليلة. ويفسّر هذا الصمود القهر الذي تشعر به إسرائيل من غزّة، وكل ذلك التوحّش ضد الفلسطينيين فيها، وما تسعى إليه باستعجالها استئناف حربها الشرسة، بعد هدنة الأيام السبعة التي لم تكن خياراً إسرائيلياً، بل فرضتها على إسرائيل ظروف داخلية وخارجية، حيث الضغط الشعبي الداخلي الذي مارسه أهالي الأسرى الإسرائيليين، وتوظيف المعارضة ما حدث يوم 7 أكتوبر في سياق الفشل السياسي لرئيس الحكومة (بنيامين نتنياهو) وأجهزته الأمنية، ما استدعى استراحة تهدئة اضطرارية تحتوي فيها الحكومة الغضب الشعبي، استعدادا لمرحلة حربٍ جديدةٍ تحتاج فيها إلى موقف داخلي موحّد، المرجّح أنها لن تحصل عليه ضمن سيناريوهات الخلافات الحزبية القائمة.
ومن جهة أخرى، رأت إسرائيل في الموافقة على الهدنة فرصة لها قد تمكنها من تدارك تآكل (أو تغير) الموقف الدول، الذي بدأ يتفكّك أو ينزاح بعيداً عن الموقف الأميركي المساند لها، حيث باتت حكومات أوروبية كثيرة تواجه سيلاً جارفاً من التظاهرات الشعبية المساندة للفلسطينيين، بعد انكشاف حجم الجرائم التي ترتكبها إسرائيل بحقّ المدنيين في غزّة، وانحسار مصداقية روايتها أمام الشارع الغربي عموماً، على الرغم من توظيف معظم وسائل الإعلام العالمية لتبرير الحرب تحت مسمّى كاذب “الدفاع عن النفس”.
إذاً، هذه إسرائيل اليوم أضحت مكشوفة أمام فضائيات العالم، إذ باتت سرديتها موضع شكّ، بل موضع إدانة، حتى إنّها، في توحّشها المنفلت، فتحت أسئلة قديمة عن المبرّرات السياسية والقانونية والتاريخية والأخلاقية لإقامتها، وحتى إن هذه الأسئلة باتت مثار نقاشٍ بين يهود العالم.
تدرك إسرائيل أن الهدنة كشفت بعض جرائمها أمام مجتمعها والعالم، على عكس ما رجته منها، حيث تجوّلت الكاميرات والصحافة داخل غزّة، ولمست عن قرب فظاعة الأرقام التي تتحدّث عن تدمير إسرائيل مباني مدنية، وقرى بكاملها، بغرض التنكيل بالشعب وإبادته، وإرهاب من يحالفه الحظ بالبقاء على قيد الحياة، ليكون التهجير وسيلته للنجاة، إلا أنها لم تدرك غايتها، وبقي شعب غزّة صامدا في مكانه. ويمكن القول إن السحر انقلب على الساحر، إذ لم يختف الشعب الفلسطيني، بل إنه، أيضا، بات حاضرا بكل قوّة، كشعب في الداخل وفي كل المجتمعات العربية والغربية، ومؤثّرا في الضمير الأخلاقي العالمي، في مقابل خسارة إسرائيل مكانتها بوصفها ضحية.
وعلى صعيد آخر، تطرح هذه الحرب الاسرائيلية على غزّة أسئلة عديدة بشأن حقيقة نشأتها وسردياتها أنها المكان الآمن لليهود، في وقتٍ بات على اليهودي، في ظل حكوماته العنصرية والدموية، أن يتحوّل من ضحية إلى قاتل، وتنكشف الدولة “الديمقراطية” أمام العالم على حقيقتها منذ نشأتها كدولة إسبارطية متغطرسة، تمارس سياسة الإبادة والعقاب الجماعي ضد الفلسطينيين، لتصبح عبئاً أخلاقياً وأمنياً واقتصادياً على الدول الغربية، التي يعيش اليهود بين ظهرانيها، وحتى على اليهود في العالم وصورتهم ومكانتهم في مجتمعاتهم.
الفضيحة التي كشفت عنها وقائع حرب إسرائيل ضد غزّة أنها حرب إبادة وحرب تطهير عرقي وحرب وحشية وكراهية تنطوي على نزع إنسانية الآخر، الفلسطيني، واعتبار ذلك بمثابة امتياز لها. وهذا بالضبط ما كانت تمثّله النازية في رؤيتها إلى ضحاياها اليهود، وغيرهم، أي أن إسرائيل في حربها تلك ضد الفلسطينيين تتماهى مع جلّاديها، حتى إن رئيس الكنيست الأسبق أبراهام بورغ شبّه سياسات إسرائيل ضد الفلسطينيين بسياسات النازية في البلدان التي احتلتها في الحرب العالمية الثانية. دلالة ذلك قتل الأطفال والنساء والمدنيين، بل قتل أسر كاملة عددها بالعشرات، حتى لا يبقى منهم أحد، وقطع المياه والكهرباء والوقود والغذاء، وهدم البيوت والمشافي. ولم يأت هذا نتيجة أخطاء حربية، أو أضرار جانبية، وإنما وفق مخطّطات معدّة مسبقاً وجداول رقمية معروفة للقيادات الإسرائيلية، وهذا ما أكّدته لمجلة “+972 ونداء محلي” مصادر عديدة، بشرط عدم الكشف عن هويتها، “أن لدى الجيش الإسرائيلي ملفّات حول الغالبية العظمى من الأهداف المحتملة في غزّة، بما في ذلك المنازل، التي تنصّ على عدد المدنيين المرجّح أن يقتلوا في هجوم على هدف معين. يجرى حساب هذا الرقم، ومعروف مسبقا لوحدات الاستخبارات التابعة للجيش، والتي تعرف أيضا، قبل وقت قصير من تنفيذ الهجوم تقريبا، عدد المدنيين المؤكّد أنهم سيُقتلون”. العلامة الجديدة على ذلك في تقسيم الجيش الإسرائيلي قطاع غزّة إلى “بلوكات” (أو مربّعات)، مع علامة على شكل رقم (تماما كما كانت تعمل النازية بوضع إشارات على بيوت اليهود لاستهدافهم)، لإعلام السكّان في كل مربّع بإخلاء المناطق وفق الرقم، لإجبار ساكنيه على مغادرته إلى مربّع آخر، وللادعاء أنها تتجنّب استهداف المدنيين، وأنها تحارب “حماس” فقط، في حين تتوخّى بعدها دفع هؤلاء المتجمّعين لإزاحتهم ربما خارج غزّة، أي إما قتل أو ترانسفير جديد، أو إخضاع الفلسطينيين للسردية الإسرائيلية وقبولهم بنفي سرديّتهم والاختفاء كبشر مع سرديتهم وحقوقهم ودولتهم.
العربي الجديد
——————–
“إسرائيل” هي داعش لا حماس/ مالك ونوس
03 ديسمبر 2023
في الحرب العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية التي تشنها دولة الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، وعلى الشعب الفلسطيني عموماً، من الضروري تناول الخطاب الإسرائيلي الذي يشكِّل العمود الفقري للدعاية الإعلامية الإسرائيلية بالنقد والنقض، خصوصاً محاولاته شيطنة الشعب الفلسطيني، ونزع صفة الإنسانية عنه ليسهل استهدافه، وتأمين الغطاء الغربي لهذا النهج وتبريره. وفي هذا الإطار، لوحظ كم كانت الدعاية الإسرائيلية منسقة ومدروسة وموزعة بين أقطاب الحكم في الكيان خلال الأيام الأولى للحرب، حيث لكلٍّ دوره في ترويجها بكل دقة. ومن المفردات التي ساقها الإسرائيليون، في بداية حربهم الجارية على قطاع غزة، قول وزير الدفاع، غالانت، “إن حماس هي داعش غزة”، فمن هي “داعش” في فلسطين، حركة حماس أم “إسرائيل” التي أعلنت نفسها دولةً دينية، وأقرت في قوانينها يهودية الدولة؟
تَبيَّن منذ بداية الحرب أن ادعاءات قادة دولة الاحتلال حول قطع المقاتلين في “حماس” رؤوس أطفال رضّع خلال توغُّلهم في غلاف غزّة ليس سوى جزء من حملة إعلامية مضللة. وكان المقصود في ادّعائهم هذا استدعاء الصور والأفلام التي نشرها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بدءاً من سنة 2014، والتي أظهرت قطع رؤوس ضحاياها في سورية والعراق ومصر وليبيا وغيرها إلى الذاكرة. وتَبِع هذا الادّعاء قول رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في خطاب متلفز عشية عملية طوفان الأقصى: “حماس هي داعش وسنسحقها وندمرها كما دمّر العالم داعش”. وكان المقصود من هذه الادّعاءات والتصنيفات تذكير الأوروبيين وغيرهم بالجرائم والتفجيرات التي اقترفها تنظيم داعش في بعض الدول الأوروبية، قبل سنوات، وذلك بغرض التجييش ضد “حماس” والفلسطينيين بشكل عام، وتحشيد التأييد لدولة الكيان. وقد لاقت هذه السردية نجاحاً رأيناه حين ردّدها بعضهم في الغرب، منهم الرئيس الأميركي جو بايدن، وكذلك وزير الخارجية الأميركي بلينكن، الذي قال “إن ممارسات حماس تستحضر أسوأ ما في داعش”.
وساهمت هذه السردية في إعطاء قادة الغرب دولة الاحتلال الضوء الأخضر لفعل ما تريد بالفلسطينيين، ردّاً على هجوم “حماس”، مبرّرين ذلك بأنه “حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها”. وإذ تراجع بعض الإعلام الغربي عما نقله من روايات قطع رؤوس الأطفال بسبب غياب الدليل، وقال البيت الأبيض إن بايدن حين تحدّث عن قطع الرؤوس كان يشير إلى تقارير إخبارية، لكن تلك التقارير لم تتضمّن أدلة، إلا أن ذاك التراجع، ونفي وجود أدلة، لم يؤثّرا على حجم التأييد الغربي الذي نالته الحرب الإسرائيلية على غزّة. كما لم يتوقف الإعلام عن دعم الحرب الإسرائيلية، وعن السكوت عن الجرائم والمجازر التي ارتكبتها قوات الاحتلال بحقّ المدنيين في غزّة، وتدمير المنازل والمشافي والبنى التحتية، علاوة على احتلالها شمال القطاع.
عندما تحدّث قادة الاحتلال عن قطع الرؤوس، واتهموا “حماس” أنها داعش غزّة، أي تكريسها كياناً دينياً شبيهاً بداعش، تناسوا أنهم هم أنفسهم قد أعلنوا يهودية الدولة الإسرائيلية، أواسط يوليو/ تموز 2018، عبر قانون “الدولة القومية” الذي أقرّه الكنيست (البرلمان) يومها، والذي يمنح اليهود دون غيرهم ما سمّي حقّ تقرير المصير، أي يجعل دولة الاحتلال لليهود فقط، تماماً كما فعل “داعش”، حين أعلن قيام الدولة الإسلامية في العراق والشام للمسلمين الذين يحدّدهم. ويُعدّ إقرار القانون تجسيداً للفكر السلفي اليهودي المستحضر لأساطير قامت عليها دولة الاحتلال في بداياتها. وإضافة إلى أن القرار يعزّز التفوق الديني وسياسة التمييز والفصل العنصري الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، فإنه يكرّس الهوية الدينية لدولة الاحتلال أيضاً، ويوحي أنها تقود حرباً دينية في المنطقة. وليست الهوية الدينية لدولة الاحتلال جديدة على الخطاب والممارسة الإسرائيليَّيْن، بل استخدم قادة الفكر الصهيوني منذ المؤتمر الصهيوني الأول في بازل في سويسرا، سنة 1897، مصطلحات دينية توراتية، وذلك لاجتذاب أكبر عدد من اليهود لفكرة إقامة وطن قومي يجمعهم، ويكون حكراً عليهم، خصوصاً بعدما فوجئ أحد مؤسّسي الصهيونية، تيودور هرتزل، بعدم رغبة أغنياء اليهود بدعم هذا المشروع.
في الحرب الإسرائيلية الجارية على قطاع غزّة لم يعد من يقود دولة الاحتلال حكومة من مدنيين، بل هو مجلس حربي يقرّر شؤون السلام والحرب، وهو ما كان عليه الأمر مع “داعش”. ويقود هذا المجلس نتنياهو الذي أخذ ينحو بالحرب التي يخوضها لتحويلها إلى حربٍ دينية، عبر استعانته بالتوراة من أجل الضخ في عنصر الكراهية من منطلق ديني، وبالتالي، جعل الحرب ضد العرب واجباً عقدياً. وقد قال نتنياهو في خطابٍ، أواخر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي: “تقول لنا التوراة تذكروا ما فعل عماليق بكم، ونحن نتذكّر ذلك بالفعل ونقاتل”. وإذا ما علمنا أن تذكُّر عماليق يعني بالضرورة تذكُّر وصايا التوراة التي توصي بقتل عماليق جميعاً؛ قتل الرجال والنساء والأطفال والرضع وقتل الثيران والغنم والجِمال والحمير وإتلاف أملاكهم، ومحاربتهم وإبادتهم حتى يفنوا فناءً تاماً، فهذا الأمر لا يذكرنا سوى بداعش. إذ إن داعش شنت حروبها جميعاً واقترفت جرائمها باسم الدين، واعتبرت من يخالفون معتقداتها وتفسيراتها للإسلام مرتدّين يجب قتلهم، كما يجب قتل الملل الأخرى.
وليس عبثاً أن نتنياهو جاء على ذِكر هذه الوصايا، فهو يريد من استحضار هذه المقولة الدينية عدم استثناء أحد أو شيء في حرب الإبادة التي يشنها على قطاع غزّة، وكلامه يؤيد تصنيف الحرب حرب إبادة جماعية. بل يريد من استحضار هذه المقولة تهديد العرب في الدول العربية، أو ربما يريد في مرحلة مقبلة شن حرب إبادة عليهم، لأن عماليق بحسب التاريخ هم قبيلة عربية حاربت اليهود قبل أكثر من 3000 سنة. ومن هنا يمكننا تذكُر دعوة وزير التراث الإسرائيلي إلى إبادة غزة بقنبلة نووية، لذلك يبدو أن الإبادة الجماعية والتامّة للفلسطينيين، وربما للعرب، باتت هدفاً إسرائيلياً مطروقاً، وقد لا يستثنى من الإبادة العرب المطبّعون أيضاً ما داموا مصنّفين عماليق.
بغضّ النظر عن أن دعوات نتنياهو ووزرائه تُعدّ تحريضاً على الإبادة الجماعية بموجب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، ويستحقّ مطلقوها أن يُقادوا للمثول أمام هذه المحكمة، إلا أن ما توفّر من دلائل على اقترافهم جرائم حرب وجرائم تطهير عرقي وجرائم إبادة جماعية، باتت من الكثرة والوضوح ما يجعلها في متناول يد كل من يريد التَنطُّع لمهمة توجيه الاتهام لهم، غير أن المهمة التاريخية الأهم التي تقع على عاتق الجميع تكمن في تعرية هذه الدولة من الرداء التي وضعته على جسدها لتخفي به عوراتها الكثيرة، ومنها حقيقتها دولة دينية لمن يعدون أنفسهم “شعب الله المختار” الذي يضع الآخرين في درجة أدنى. ولا يحتاج المختصّون والباحثون كثيراً لإثبات ذلك وإظهاره للمخدوعين بديمقراطيةٍ تَدَّعيها هذه الدولة.
———————–
وداع المختطفين في غزّة/ رشا عمران
02 ديسمبر 2023
يبدو المختطفون الإسرائيليون في قطاع غزة لدى “حماس” (وغيرها)، وهم يعودون إلى بيوتهم في أثناء الهدنة، كما لو أنهم يعودون من نزهةٍ طويلة، فهم بكامل صحّتهم، ليس على أجسادهم أي أثر للتعذيب أو للتعرّض للضرب أو للإساءة أو حتى للجوع. وجوههم ضاحكة، ما يعني أن فترة إقامتهم في مقرّ اختطافهم لم تكن سيئة، ولم يُعاملوا بعنف أو بإساءة أو بانتقام نتيجة الجرائم التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي ضد قطاع غزّة وسكّانه وضد المقاومة فيه؛ والأكثر إثارة للدهشة الودّ الذي يُظهره هؤلاء لخاطفيهم الملثّمين، فهم يمازحونهم ويودّعونهم بمودّة لافتة، ويتكلّمون معهم بعض الكلمات العربية، ويردّد بعضهم آيات قصيرة من القرآن الكريم، ويحرص بعضهم على الطلب من الخاطفين الانتباه لأنفسهم ويتمنّون لهم السلامة، ويأمل بعضهم بعودة اللقاء. وليس الحديث هنا عن الأطفال والنساء فقط، بل حتى عن المختطفين من الشباب والرجال (غير إسرائيليين). يدلّ هذا على أن المقاومين تصرّفوا مع المختطفين بكامل الالتزام بالمعاهدات والشروط الإنسانية في فترات الحروب، متجاوزين بذلك حتى الاعتبارات الإسلامية التي تعتبر أسرى الحروب من النساء سبايا؛ فلا يبدو أن واحدة من المخطوفات قد تعرّضت لأي نوع من العنف الجنسي والجسدي، ولا يظهر في كل الفيديوهات التي نشرت أي مظهر للغضب أو للعدائية بين المختطفين وخاطفيهم. بل العكس تماما، يبدو هؤلاء كما لو أنهم كانوا في ضيافة فيها كثير من الكرم والمودّة والمرح.
تدحض هذه الفيديوهات كل الدعاية الصهيونية والغربية عن همجية المقاومة الفلسطينية و”حماس” وعن ارتكاباتها في 7 أكتوبر/ تشرين الأول، وعما قيل عن قطع رؤوس الأطفال واغتصاب النساء وتعريتهن، وعن كل الفظائع التي ادّعى الصهاينة أن مقاتلي “حماس” ارتكبوها في عملية طوفان الأقصى. وعلينا أن نتذكّر دائما أن الطيران الإسرائيلي قتل (بالخطأ كما قالوا) إسرائيليين عديدين ممن كانوا في الحفلة الموسيقية التي قيل إن المقاومين استهدفوها، وجرى تحميلهم في الميديا العالمية مسؤولية موت كثيرين ممن كانوا في الحفلة، ونسبت إليهم ارتكاب فظائع تبين لاحقا أنها غير حقيقية في أسرع عملية تبنٍّ للتلفيق والكذب، كما لو أن الأمر كان مرتّبا ومجهّزا من قبل، حيث لم تمض 24 ساعة على عملية طوفان الأقصى، حتى كانت وسائل الإعلام العالمية كلها تقريبا تنشر صورا وفيديوهات عن الذبح والقتل والاغتصاب والهتك، من دون أن يسأل أحد كيف تم تصوير ذلك كله وتوثيقه في قلب العملية المفاجئة؟
كثرت في فترة الهدنة أصوات عربية قالت إن تبادل الأسرى والمختطفين لا يستحقّ كل هذه التضحيات، ولا الثمن الباهظ الذي دفعه أهل غزّة، وقد يكون في هذا الكلام كثير من الصواب، فحياة البشر أثمن من كل القضايا. لكن هذه مجرّد نظرية نقولها نحن الآمنون. أما المحاصرون والأسرى والممنوعون من العيش الطبيعي، والفاقدون أرضهم وبيوتهم وأوطانهم، فقد يكون لهم رأي آخر، ومستعدّون لدفع ثمن باهظ مقابل الإحساس بقليل من الحرية. وبغضّ النظر عن هذا كله، وبغضّ النظر عن الحقّ في حرية الرأي والتعبير والمشاركة وطرح الأفكار والنقاش، فإن ما حدَث قد حدَث، وقد تكون “طوفان الأقصى”، بكل ما تبعها وما نتج عنها، من أهم مفاصل القضية الفلسطينية، وسوف تغيّر في شكل القضية، سواء لصالحها أو ضدّها. لا أحد يعرف، فكل ما يطرح ويقال مجرّد تخمينات مبنيّة على راهنٍ يتغير كل يوم، أو على أمنياتٍ ورغباتٍ لا وزن لها في سوق السياسة الدولية.
ما يمكن التعويل عليه حاليا هو السلوك الذي قدّمته المقاومة في تعاملها مع المختطفين (ولا علاقة للمقاومة، في رأيي، بالقيادة السياسية لحركة حماس خارج غزّة)، هذا السلوك الذي يفضح أكاذيب الكيان والغرب وادّعاءاتهما في تبرير الحرب المجنونة على غزّة، ويفضح الادّعاءات الكاذبة عن الفلسطينيين والعرب، وعن المقاومة الشعبية الحقيقية التي تولد من رحم القضية لا من خارجها. هذا السلوك الذي يجب تعميمه والشغل عليه من النشطاء العرب ليكون الصورة البديلة عما تتبنّاه الميديا الغربية وتبرّر به خطاب الكراهية الحالي ضد الفلسطينيين والعرب.
العربي الجديد
—————
في مفارقات المجزرة/ راتب شعبو
01 ديسمبر 2023
تجرّ الحروب المآسي على الناس. كان الحال دائماً هكذا، وكان الحال دائماً أن الناس الذين يدفعون الثمن الأكبر ليسوا هم من يقرّرون الحرب. لكن الوضع في التركيبة السياسية لعالم اليوم لم يعد كذلك، أو لم يعد فقط كذلك. في عالم اليوم، أصبحت المأساة أو الكارثة التي تحل بالناس وسيلة حربية، كما في يد الأقوياء في يد الضعفاء.
يوجد اليوم فارق هائل في مستوى القوة بين أصحاب الحقّ ومغتصبيه، الأمر الذي يمكن أن يجعل أي نشاط “عدائي” يقوم به أهل الحقّ الضعفاء ضد غاصبي حقهم الأقوياء سبباً لكارثة تحل على الضعفاء. هذا هو نمط العلاقة التي تكرّست في فلسطين بين الفلسطينيين والسلطات الإسرائيلية. والحقيقة أن هذه العلاقة مكرّسة أيضاً بين الحاكمين والمحكومين في كل البلدان التي تحكمها أنظمة تسلطية ترى أنها صاحبة حقّ أبدي في حكم الناس، فهي لا تحتكم لأي وسيلة تغيير سلمي، وقادرة على أن ترتدّ بكل صنوف العنف المدمّر تجاه أي تحدٍّ جدّي لوجودها أو حتى لإرادتها.
يبقى الباب الوحيد المفتوح أمام المحكومين والمغتصبة حقوقهم القبول بالأمر الواقع والتكيّف. وإذا كان هذا القبول يمثل كارثة بالنسبة لهم، لأنه يعني التخلّي عن حقوقهم، فإن باب الرفض والتحدّي يمكن أن يفتح على كارثة إنسانية أكبر بكثير إلى حدّ يسوّغ النقاش حول جدوى التحدي وجدوى إيلام الغاصب إذا كان قادراً على إنزال الردّ الكارثي بالضعفاء (في إسرائيل “النووية” هناك مسؤولون فكّروا باستخدام سلاح نووي ضد غزّة عقب عملية طوفان الأقصى). الكارثة التي أنزلتها إسرائيل بلبنان في 2006 عقب عملية خطف جنود إسرائيليين (رغم أنها كانت عملية محدودة وبغرض محدّد هو تحرير أسرى)، والكارثة التي أنزلتها الطغمة الأسدية بالشعب السوري عقب ثورة 2011، والكارثة التي تنزلها إسرائيل بغزة اليوم عقب “طوفان الأقصى”، لها كلها منطق واحد، هو تقصّد المجزرة، وجعل الكارثة وسيلة ردع لفرض القبول والإذعان.
وبسبب الاختلال الكبير في علاقة القوّة بين أصحاب الحق ومغتصبيه، في عالم اليوم، بات التدخّل الخارجي مهمّاً وحاسماً. باتت استعادة الحقوق غير ممكنة في الغالب من دون تدخّل أطراف خارجية لها القدرة الكافية على فرض حلول وخيارات معينة على “الأقوياء”. والأطراف الخارجية القادرة على ذلك هي الدول الكبرى. وفي الواقع، يبقى رهان الضعفاء معقوداً، من بين الدول الكبرى، على الدول الديمقراطية التي يمكن لثقل الشارع، ولضغط المنظمّات الحقوقية والإنسانية، أن يؤثر على صناعة القرار فيها. وبما أن الكوارث التي تحلّ بالناس هي أكثر ما يحرّك الشارع والمنظمّات الإنسانية، وأكثر ما يشكّل ضغطاً على صنّاع القرار في هذه الدول النافذة، فمن المفهوم أن يتولد في وسط المغتصبة حقوقهم عقلية تفكر بالاستثمار السياسي في الكوارث التي تحلّ بالناس على يد الجهات المغتصِبة في ردّها الإجرامي الرادع ضد الأهالي، عقب عمليات عسكرية مؤلمة للغاصبين. الفكرة هي عدم السكوت عن الحقوق المسلوبة وتوجيه الضربات إلى الغاصبين بقدر ما يتوفّر من وسائل قوة، بما يجعلهم يردّون بكارثة بشرية تدفع الدول الديمقراطية الكبرى، التي لها دور أساسي، في إدارة العالم، للتدخّل والبحث عن حلٍّ يكون فيه شيء من الإنصاف للضعفاء.
على هذا، تبدو المجزرة والكارثة الإنسانية وسيلة ردع في يد غاصبي الحقوق كوسيلة، وهي في يد الضعفاء المسلوبة حقوقهم وسيلة ضغطٍ على العالم. تكون حياة الضعفاء ودماؤهم وإنسانيتهم هنا سلاحا في يد أصحاب هذه العقلية الرافضة. الثمن الأساسي يدفعه الناس الضعفاء الذين يستهدفهم الغاصب القوي بوحشيةٍ لأنهم الوسط الاجتماعي أو “البيئة الحاضنة” للتشكيلات المسلحة التي تستهدفه. في المقابل، تدرك هذه التشكيلات أنها إذا كانت تستطيع إقلاق العدو، فإنها لا تستطيع هزيمته عسكرياً، ولكنها تستطيع استخدام المجازر والكوارث البشرية التي تسبّبها ردوده الوحشية لإحراج العالم الساكت، وربما المتواطئ، على ضياع حقوقهم، وإجباره على الاهتمام بقضيتهم.
هذا ما يفسر أن التنظيمات المسلحة التي تخوض هذه الصراعات العسكرية غير المتكافئة في عالم اليوم قليلة الاكتراث بأمان الناس الذين تنشط وسطهم. فهم مثلاً لا يبنون ملاجئ للناس. الأنفاق هي لحماية المقاتلين وليس المدنيين، فضلاً عن أنها من الأسرار العسكرية. ووفق منطق هذه التشكيلات، يشكل قتل المدنيين على يد العدو بذاته وسيلة ضغط على العالم. المهم هو حماية التنظيم العسكري. كلما ذهب العدو بعيداً في وحشيته الردعية زاد الضغط على الدول الكبرى كي تردع العدو وتبحث عن حلّ، كما لو أن المجزرة تجمع القاتل والقتيل. ففي المجزرة تلتقي العقليتان، عقلية الغاصب مرتكب الجريمة وعقلية الذين يريدون استخدام جريمة العدو ضده.
يتوافق مع هذا المنطق أن يخرًج قادة حماس كي “يطمئنوا” مجتمعهم المنكوب بعشرات آلاف القتلى والمفقودين والمصابين وبنسبة دمار تتجاوز نصف المساكن، بأن كتائب عزّ الدين القسام بخير. ومن هذا المنطق نفسه، ترى هذه التشكيلات في عجز العدو عن استئصالها نصراً، رغم الخسائر البشرية والمادّية التي تكبدتها مجتمعاتها، أو نسبة التشرّد والنزوح الناجمة عن الحرب.
لا يحتاج المرء إلى قراءة الرسائل الكثيرة التي تصل من غزّة، من الأهالي الذين يعيشون في أسوأ شروط الحياة، والمدرجين رغماً عنهم على لوائح الموت الممكن في كل لحظة، في حين تتحصّن قيادات الفصائل في أنفاق وأماكن بعيدة عن هذا الموت العشوائي الأعمى، كي يدرك أن حسابات الفصائل التي تواجه إسرائيل لا تشمل حماية الأهالي، إنْ من حيث تأمين ملاجئ لحماية المدنيين في أثناء القصف أو من حيث تأمين احتياطات استراتيجية من حاجات البقاء (الوقود والطعام والأدوية … ). ولا يتطلب الأمر تأملا كثيرا كي يدرك المرء سبب إحساس الأهالي هناك، بالقهر، من “مستريحي الخارج” الذين يطالبون الناس بالصمود، ويتحمّسون لمقاومة الفصائل ولفيديوهات إعلامها العسكري، فيما الموتُ والتشرّد والبرد والجوع والألم تفتك بمئات آلاف الغزّيين.
حين تغلق السبل أمام إحقاق الحقوق الصريحة، يصعب التنبؤ بما يمكن أن يُقدم عليه أهل الحق المسلوب، فقد يُقدمون على أعمال تضرّ بهم في المحصلة. قبل توجيه اللوم إليهم، ينبغي توجيه اللوم إلى من سلب حقوقهم، ثم أغلق السبل بالقوّة أمام إمكانية استعادتها، وجعل المجزرة وسيلته للردع وفرض القبول.
العربي الجديد
———————-
الأسد و”ممرّ ديفيد”/ أيمن الشوفي
02 ديسمبر 2023
يقتطع نيكولاس سبيكمان حيّزاً لا بأس به من انتباهنا، حين لا يُمهلنا وقتاً كثيراً لتفحّص ما تحدّث عنه حول مبالغة ماكيندر في تعظيم شأن المركز لدى قراءة الدول من مدخل “الجغرافيا السياسية”. سنقبل تحليل سبيكمان سريعاً عن الأهمية الاستثنائية للإطار على حساب تقليص أهمية المركز، فمن يُسيطر على الحوافّ أو الإطار سيسهل عليه ابتلاع المركز والسيطرة عليه.
تعود تلك المصادقة على كلامٍ في الجغرافيا السياسية إلى ما قبل نهاية الحرب العالمية الثانية، تمتلك من الحيويّة والتجدّد ما يجعلها قادرة على استئناف تأويل الفعل السياسي للقوى الدولية المهيمنة حالياً بما يستجد عليها من متغيّرات، ولعل الحديث عن “ممرّ ديفيد” وفق هذه المقاربة يستمدّ هذه الأيام نصيباً وافراً من التداول، ويجد في تحليل سبيكمان لأهمية الإطار ذريعة تجعلنا لا نشكّك كثيراً في إمكانية انبثاقه من التجريب النظري إلى التجريد الواقعي، وهو على أي حال شريطٌ حدودي بعرض 50 كيلو متراً يبدأ من القنيطرة في جنوب غرب سورية، مروراً بدرعا، فالسويداء، فقاعدة التنف العسكرية، وصولاً إلى الحسكة في أقصى الشمال الشرقي من البلاد، وفي هذا النطاق الجغرافي ثرواتٌ لا يُستهان بها من النفط والغاز والسيليكون.
تلك الجغرافيا التي يفضحُ الممرّ المزعوم اقتطاعها من سورية، تصيرُ ذخيرة ملائمة لإطلاقها بوجه ثبات المعطيات السياسية الراهنة في المشهد السوري، وكأنه ثبات يراوح حول درجة الصفر المئوية، قريباً من الانجماد وخصائصه، لا يزيد عن ذلك ولا ينقص، فالمرابطون على تخوم هذه الفرضية في “الجيوبولتيك” لا يناورون كثيراً بفحص فرضية الممر، بل ويجدون في مأساة غزّة ما يعززها، ذلك أنّ الحرب المسعورة على القطاع الفلسطيني المحاصر صادرت الاهتمام السياسي إلى هناك، لا من المنطقة العربية والشرق الأوسط فحسب، وإنما من العالم برمّته، حتى إنّ أخبار المعارك الدائرة على الجبهة الروسية الأوكرانية، تراجعت في نسبة ظهورها على وسائل الإعلام، وفي نسبة الاهتمام بمراقبتها أو متابعتها.
وأيضاً قد تتدفق إسرائيل خلال حربها على غزّة، أو بعد انتهائها، من الثقوب الممكنة في القنيطرة السورية، أو الجنوب اللبناني إلى سائر المنطقة، حينها ستبدو وكأنها تمتحن إمكانية صياغة ممرّ اسمه على اسم اتفاقية سلامٍ لا يحبها كلّ العرب وكل المصريين على أي حال. ثم إنّ ترويج ذاك القوس البري الملتفّ (ممرّ ديفيد) والمراد اقتطاعه من جنوب سورية وشرقها، سيمرُّ بكل تأكيد من دهليز انتهاء فترة صلاحية بشّار الأسد، بعدما كبّلته أخيراً مذكرة التوقيف الدولية بحقه، والصادرة عن القضاء الفرنسي، عقب عودته من المشاركة بأعمال القمّة العربية الإسلامية الاستثنائية التي انعقدت في الرياض، أخيراً، وهو بذلك صار منفياً في الداخل، وبالتحديد ضمن سورية المفيدة بالنسبة إليه وللإيرانيين والروس، وبالطبع، الجنوب السوري ليس من ضمنها، لذلك سيظل هناك وحيداً ومنبوذاً ومكروهاً من الجميع، يتحرّك مراوحاً بين دمشق واللاذقية، مروراً بحمص، إذ لا مسار لحركته بعد الآن سوى هذا المسار، لذلك وجدناه عاجزاً عن حضور قمة التغيّر المناخي التي انعقدت في دبي آخر يوم من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني، بالرغم من توجيه دعوة رسمية إليه بهذا الشأن، واكتفى مُتزّعم النظام السوري بإرسال رئيس وزرائه حسين عرنوس إلى تلك القمّة.
لكن هل يمكن للولايات المتحدة أن تستورد “ممر ديفيد” هذا، باعتباره بضاعة ذات قيمة استراتيجية، وجيوسياسية نفيسة؟ وكم ستبلغ كلفة استيراده من الفرضية إلى الوجود؟
أخيراً، اجتمع ضباطٌ أميركيون، مع قياداتٍ من قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وممثلين عن العشائر العربية في قاعدة العمر العسكرية التابعة للولايات المتحدة، والتي تحمل اسم حقل النفط المجاور لها في محافظة الحسكة السورية، وما تسرّب من ذاك الاجتماع إلى وسائل الإعلام كان جلّهُ يدور بشأن إمكانية تحقيق انسجامٍ وتآلفٍ وتنسيقٍ عسكري بين تلك العشائر وقوات “قسد” وجيش سورية الحرّة في قاعدة التنف العسكرية، بالإضافة إلى التنسيق مع الجنوب السوري، بطبيعة الحال، وإنْ صدقت صحّة هذه التسريبات، فالأمر يتّجه بالفعل إلى استدراج “ممرّ ديفيد” من كونه مجرّد استفاضة نظرية تحاكي نموذج الإطار لدى سبيكمان إلى تجسيد واقعي بنكهة تستمزج مكوّنات أثنية سورية متعدّدة، كالأكراد والعشائر والدروز، والدروزُ يخضعون لسلطة فصائل عديدة مسلحة ذات ولاءات مختلفة، ولعل آخرها ظهوراً كان “قوات التدخل السريع” التي يُقال إنها تأتمر من قاعدة التنف العسكرية مباشرة، ولعل انتفاضتهم ضد النظام السوري، بصيرورتها المتواصلة منذ ثلاثة أشهرٍ ونصف، والتي لم تنجز أي مكتسباتٍ واقعية براغماتية على الأرض، لكنها لا تتمالك نفسها من أن تكون مجرّد صوتٍ يزعج بشار الأسد، ويذكّره بأنه من باع إطار سورية الجنوبي الشرقي، لأجل أن يثبت للدول التي تواطأت على بقائه حتى الآن بأنه خيرُ خادمٍ لها.
وإنْ عدنا قليلاً إلى الوراء، إلى الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني) حين أطلَّ علينا يحيى الأسد، وهو ابن عمّ بشّار، متزعّماً النظام السوري، عقيدٌ خَدَمَ في اللواء 105، واستقال من العمل العسكري عام 2011، أطلَّ هكذا بلا مناسبة منطقية، وفي تسجيل مصوّر ليخبرنا كيف تآمرت زوجة حافظ الأسد وابنته الوحيدة بشرى مع زوجها المتوفّى آصف شوكت لكي يقتلوا حافظ الأسد بالتلاعب بأدويته. لكن حديثَ ذاك الضابط لم يأتِ ليفتح تحقيقاً في قضية وصفها بالجنائية، وإنما جاء لينبّه بشّار الأسد من مصيرٍ درامي يُنهي حياته، وقد يأتيه على عجالة من أيدي أقرب الناس إليه، أي استثارة العناصر السردية المُتخيّلة لتآمر أسرة في مكانها، وإمكانية تكرار هذه الفعلة في نسقٍ درامي مشابه. فهل يتكهن ذاك الضابط المنشقُّ بمصيرٍ مرتقب لبشار الأسد؟ على شاكلة سرديّته المتوارية عن المنطق، والتي تخصّ موت حافظ الأسد مقتولاً من أقرب الناس إليه، من دون تفنيد دوافع ذاك القتل، أو مجرّد الإنارة عليها من بعيد.
من الجائز هنا أن ينتهي مصير بشّار الأسد بالتصفية، أن نسمع بموته مقتولاً ذات صباحٍ قريب، وهذا واردٌ بمقدار الرغبة الدولية بإعادة تصفية سورية ضمن موسم تنزيلاتٍ طويل، ينتهي بفيدرالياتٍ لا تطيقُ المركزَ المتسلّط، مع خياطة معبرٍ طويل على إطار الثوب من جهته الجنوبية والشرقية، اسمُه “ممر ديفيد” قطعة قماشٍ فاخرة، ومستوردة سيجري ترقيع الثوب المهترئ بها، وستكون ملائمة أيضاً لكي يستعيرها حاكم دمشق والساحل السوري ليداري بها عورة حرف السين في نطقه حين يلفظه حرف ثاء، وحينها أيضاً قد يلوم غزّة الثائرة، ويوبّخها لأن امتداد الحرب منها إلى جوارها الميّت أصلاً أفقدهُ ما تبقّى من عرشه الزائف.
العربي الجديد
————————-
المناضل الاستعراضي/ بشير البكر
01 ديسمبر 2023
أنت لا تحبّ حركة حماس. وكنتَ تدرك أنها ستفشل، ولن تحقّق أي إنجاز عسكري أو سياسي من عملية 7 أكتوبر/ تشرين الأول. وتزيد على ذلك أنك لا تطيق الإسلام السياسي، وتعتبر أن انخراطه في الربيع العربي أدّى إلى كوارث في مصر وسورية وتونس. وقد كنتَ متنبها إلى ذلك منذ البداية، ولذلك وقفتَ ضدّه. وكي تؤكّد على أن الأحداث برهنت على صحّة وجهة نظرك، ترجع إلى التذكير بموقفك من الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003. يومها، أيّدت إسقاط الرئيس العراقي صدّام حسين، ووافقت مع الرئيس الأميركي جورج بوش على أن يوم سقوط بغداد هو محطة البداية على طريق الديمقراطية العراقية. ولذلك احتفلت بدخول “المارينز” عاصمة الرشيد، وشربت نخب الشكر لواشنطن، بدعوى أنها كلفت نفسها عناء جلب الديمقراطية للعراقيين.
هذه هي بعض نقاط مرافعتك التي تعدها مفحمة. تكتفي بهذا القدر من مديح الذات، ولا تريد أن تسترسل في سرد سيرتك النضالية. لا داعي لتذكير الآخرين بأنك قضيت قسطا غير يسير من شبابك في سجون الطاغية، الذي حبَسك وقسا عليك. ولم يأخذ في الاعتبار أنك كنت معاديا لخصومه الإسلاميين، على المسافة نفسها، ولم يفرج عنك إلا بعد أن أحسّ بأنه كسب الجولة، ولم يعد خائفا على نظامه. وللأمانة، أنتَ لم تتنازل عن الهدف، رغم الهدنة من طرفك. وحينما دقّت ساعة الصفر عام 2011، وهبّت رياح الربيع العربي، لم تتخلف. وكنت بين الذين هتفوا “الشعب يريد إسقاط النظام”، ولكن صوتك خفت تدريجيا، ولم يعد يسمعه أحد، إلا في بعض المناسبات، وأنت تصرّح من مكان إقامتك الجديد لاجئا في أميركا أو أوروبا أو كندا، لتدين حركة حماس، أو تسخر من بعض جماعاتٍ، ترفع الراية الإسلامية، بعد أن استولت على الثورة السورية، وحوّلتها إلى وسيلة للتكسب.
قد تكون نسيتَ بأنك صمتت، حينما تركت أميركا العراق، لتحكمه محاصصة الطوائف والفساد والمليشيات الموالية لإيران. وغضضت النظر عن الانقلاب ضد نتائج الانتخابات في مصر، لأنها جاءت بالإخوان المسلمين إلى الحكم. وغسلت يديك من الثورة التونسية، لأنها سمحت للإسلاميين بالمشاركة في الحكم. ورقصت طربا حين أقصاهم قيس سعيّد، ولم تتحرّج من منظر المصفّحات وهي تغلق البرلمان التونسي الذي كان أول مؤسّسة ديمقراطية عربية تولد من زخم احتجاجات الشارع، الذي أسقط حكم الدكتاتور زين العابدين بن علي. كما أنك لم يسبق لك أن سجّلت موقفا يستحقّ الاعتداد به من قضية الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وهو بتوصيف كل الخبراء استعمار استيطاني، وآخر نظام أبارتهايد في العالم. ويبدو أنك اكتفيت براحة البال، لأن رؤيتك كانت صائبة في تشخيص كل هذا الخراب منذ زمن بعيد، وأن دخولك السجن عدّة سنوات يعفيك من قراءة مآلات الأحداث. وعلى هذا، لستَ معنيا بالنتائج التي استقرّت عليها الأوضاع في العراق ومصر وتونس وسورية وفلسطين. ومع أنك أصبحت صاحب تجربة غنية، وبوسعك أن تقرأ ما بين سطور الأحداث، فإنك تصرّ على تكرار الأخطاء القاتلة. ولذا تتعاطى مع الحرب على غزّة أنها من أجل القضاء على “حماس”، ولا تتحرّج أبدا من أن تلتقي مع رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو على الهدف نفسه، وتصمت عن معاناة الأطفال، الذين يصبّ عليهم قنابل الفوسفور، ويقطع عنهم الحليب والماء والدواء والضوء.
ومهما يكن من أمر، تشكّل المنعطفات الكبيرة كشّافا، ليس لمعادن الأفراد فحسب، بل الأحزب والحركات السياسية. كما أنها تمتلك وحدها حق إصدار الحكم الصحيح، وتميّز بين الخطأ والصواب. ولهذا تنطوي صفحة، وتنفتح أخرى جديدة، ويمكثُ ما ينفع الناس، ويذهب الزبد بلا أسف.
العربي الجديد
———————————
حماس تفوز أخلاقياً… والحل الوحيد في فلسطين/ عمار ديوب
30 نوفمبر 2023
ما إن بدأت الحرب على غزّة، وأعلن قادة دولة العدو أهدافهم في اجتثاث حركة حماس، وعدم التفاوض معها، هادفين إلى تدمير غزّة، وتهجير أهلها إلى سيناء، حتى أعلنت “حماس” ضرورة إيقاف العدوان والبدء بالتفاوض بخصوص الأسرى لديها ولدى العدو.
تجاهل نتنياهو وعصابته ذلك، وشنّوا عدواناً همجياً ظلامياً على غزّة، وطاول القتل عشراتٍ من الأسرى الصهاينة، ورفضوا كل مبادرات التفاوض، ولكن تراكم الضغوط على تلك العصابة، من أهالي الأسرى، ومن الأميركان، ومن جهاتٍ دوليةٍ كثيرة، وشعور الجيش الإسرائيلي بضرورة إعادة التموضع وفشله في ما هَدفَ إليه، حتى وافق على الهدنة.
المجازر والدمار الذي قام به جيش دولة الاحتلال، والأكاذيب عن قتل “حماس” الأطفال من قبل، أَسقطَت كل السردية الصهيونية، لتعود الحكاية الأصلية، وأن فلسطين تحت استعمارٍ استيطانيٍّ، كولونيالي، يمارس جرائم الحرب والعقاب الجماعي والتمييز العنصري والإبادة الجماعية، وأن قطاع غزّة تحت الحصار منذ أكثر من 17 عاماً، ويحقّ لأهله كل أشكال المقاومة ليتحرّر من الاستعمار؛ والقضية على هذا النحو.
مع نجاح جهود التفاوض، أربعة أيام للهدنة، بدت “حماس” في غاية الدقّة والمرونة في التعامل مع الأسرى، بل ظهر الأخيرون وكأنّهم في زيارة لقطاع غزّة، وليسوا أسرى من أصله، وفعلاً تكرّرت مشاهد رفع الأيدي بالوداع والابتسامات لمقاتلي “حماس” بعد إيصالهم إلى الصليب الأحمر، أو للجهات التي تتسلمهم. أمّا في سجن عوفر في الضفة الغربية، فقد كان الجيش الصهيوني يخوض ما يشبه الحرب مع أهالي الأسرى والفلسطينيين، وتشدّدت قوات السجن ضد الأسرى منذ 7 أكتوبر، ومارست عليهم تشدّداً وتنكيلاً، كالذي أجرته ضد قطاع غزّة تقريباً، ومنع السجناء من أبسط حقوقهم المعيشية كالطعام والماء، وتعرّض كثيرون منهم للضرب، واستشهد ستة منهم في هذه الفترة، فكان طعامهم سيئاً وقليلاً، يقتصر على البيض صباحاً والخيار مساءً مع بعض الخبز، واكتظّت غرف الأسرى، وحُرموا الأغطية والأسرة اللازمة للنوم، وهناك من جُرّد من ملابسه وظلوا بملابسهم الداخلية. وصار التعامل في سجن عوفر من دون العودة إلى قوانين السجن، وسُحب التلفاز والمذياع وساعة اليد والملعقة وقشّاطة الحمام، والأوراق البيضاء والأقلام والكتب، وحتى المصحف الشريف، وتكرّر اقتحام قوات تابعة لإدارة السجن غرف الأسرى بشكلٍ شبه يوميّ، وضربهم بالعصي، وإطلاق القنابل المسيلة للدموع، ثم قنابل الأوكسجين خشية قتل أعداد كبيرة منهم. كذلك هُدّد أهالي الأسرى بعدم الاحتفاء بذويهم المفرج عنهم، واستُدعوا إلى الأجهزة الأمنية، واقتحمت منازلهم. والجدير ذكره أن عدد الموقوفين فقط بعد 7 أكتوبر زاد على الثلاثة آلاف في الضفة الغربية وأكثر من 215 شهيداً.
كرّرت حركة حماس، من دون توقّف، ضرورة إيقاف العدوان والتفاوض على الأسرى، ومن أجل سلامتهم؛ وهذا يشكّك آلياً بكل الرواية الصهيونية عن يوم 7 أكتوبر. وثانياً، جاء حديث الأسيرة الاسرائيلية المفرج عنها من دون مقابل، يوخبيد ليفشيتس، الإيجابي بخصوص تعامل “حماس” معها، ليشوّش على حكومة العصابة الحاكمة بأن في غزّة “حيوانات بشرية”، وتكرّر الأمر نفسه من كل السيدات اللواتي أطلق سراحهن؛ فقد أمّنوا لهنّ الأدوية والطعام والعناية الكاملة والملابس، ولم يتعرّضوا للضرب، أو الإهانة أو أيِّ شكلٍ من الإساءة، ولكنهم مُنعوا من الكلام حينما صاروا “أحراراً” في دولة العدو.
فازت “حماس” أخلاقياً بشكلٍ لا عودة عنه، ولم تَرفض أيّة مبادراتٍ إقليمية، من أجل التفاوض، في وقتٍ تماطل فيه عصابة تل أبيب. والآن، جرى التمديد للهدنة عدة أيامٍ، ولكنها محدّدة بالمدنيين، بينما التفاوض على العسكريين قد يكون الأصعب لاحقاً، وهو ما تخشاه دولة العدو بالتحديد، وتحاول تجاهله، والتأكيد أن التفاوض يخصّ المدنيين، حيث التفاوض على العسكريين لن يكون ممكناً بأقلّ من إخراج كل المعتقلين الفلسطينيين، وهذا ما ستعمل من أجله “حماس”، وهو ما ستتكثف الضغوط الدولية للوصول إليه.
مشكلة دولة العدو أن تمديد الهدن وصولاً إلى إيقاف العدوان سيؤدّي مباشرة إلى بقاء “حماس” والفصائل في غزّة، وذهاب نتنياهو إلى السجن، وإحالة أغلبيّة قيادات الجيش والأمن على المحاكم وسجنهم، وقد يتم إسقاط الحكومة بأكملها كذلك. وبالتالي، ستبدو “حماس”، المنتصرة في المعركة الخامسة ضد غزّة منذ الحصار عام 2007.
نجحت “حماس” في الاختبار الأخلاقي، بعد كل الحديث عن قتلها المدنيين، وزاد من ذلك التقارير التي أكّدت أن طائرات اسرائيلية هي التي قتلت أعداداً كبيرة من الذي كانوا في الأماكن التي هاجمتها “حماس” في 7 أكتوبر؛ إن عنايتها الفائقة بالأسرى، وتعامل دول العدو بأسوأ الطرق مع السجناء سيشجّع على بروز قوى يهودية أكبر وقوى عالمية، ورافضة بقوة استمرارية العدوان، ومن أجل إطلاق تنظيف السجون، وهو ما ستّتجه إليه الأمور، سواء رَفضت دولة العدوان وقامت بجولة جديدة من المقتلة للفلسطينيين والدمار أو مدّدت الهدنة، وصولاً إلى إيقاف العدوان.
الآن، على قادة دولة العدو أن ينزلوا عن الشجرة، ومعهم الإدارة الأميركية والحكومات الألمانية والبريطانية والفرنسية خصوصاً، وكل من أيّدّ العدوان و”اجتثاث حماس وغزّة”، والانسحاب الكامل ورفع الحصار، والاعتراف لأهل غزّة بالحقّ في إدارة شؤونهم، واختيار شكل الحكم المناسب لهم بمحض إرادتهم. أما “حماس” وبقية الفصائل، ومعها حركة فتح، فيقع عليهم البحث عن شكل النظام القادم، فهل سيظلون ضمن خيار الدولتين، أم سيفكّرون بخيار الدولة الواحدة، بعد أن لفظ خيار الدولتين أنفاسه منذ تأسّست سلطة أوسلو، وكانت أسوأ تجربة سياسية فلسطينية، فأكل الاستيطان الضفة الغربية وشُنّت خمس حروب على غزّة، وتشكلت سلطتان في قطاع غزّة والضفة، وبالتالي، إذ نجحت “حماس” أخلاقياً بالتعامل مع أزمة الأسرى، ورفضت قبول صفقة التهجير، ألا يجب أن تتجه كل القوى الفلسطينية للتعامل الأخلاقي مع الشعب الفلسطيني، والوصول إلى اتفاقٍ تاريخيٍّ ينهي حالة الانقسام، ويعترف بالآخر (فتح وحماس)، وينهي حالة التفكّك، ولا سيما أن كل هذه القوى والشعب الفلسطيني يواجه آخر وأسوأ استعمار كولونيالي في العالم، وقد بدا أن دولة العدو يمكن هزيمتها، عسكرياً، وديمغرافياً، وأخلاقياً، وطبعاً بعيداً عن الصفقات المقترحة، من قبيل العودة إلى خيار الدولتين أو دولة منزوعة السلاح أو الاتفاق على إرسال قواتٍ دوليةٍ إلى غزّة أو نظامٍ أمني في غزّة.
لقد غيّر “طوفان الأقصى” المعادلات الإقليمية والدولية تجاه القضية الفلسطينية، فهل تتغيّر المعادلات الفلسطينية الضيقة كذلك، وتستفيد من المتغيّرات، ويوضع خيار الدولة الواحدة على الطاولة، والتخلّي عن خيار الدولتين، بعد أن فشلت الأخيرة بشكل كامل؟
لا خيار سياسياً أكثر عقلانية، يحقّق التغيير الفعلي في هذه القضية، وينهي الاستعمار الاستيطاني الإجرامي “الغربي” في كل المناطق الفلسطينية “غزّة والضفة والـ48” والمنطقة، ولصالح الفلسطينيين واليهود، سوى الدولة الديمقراطية العلمانية الواحدة.
العربي الجديد
——————————
إسرائيل دولة حرب… ولا شيء آخر/ رانيا مصطفى
29 نوفمبر 2023
تتردّد آراءٌ أن عملية طوفان الأقصى ليست سوى تحرّشٍ غير مدروس من مليشيا مقاومة صغيرة بالكيان الصهيوني المتفوّق عسكرياً، وأنّ العدوان الإسرائيلي على غزّة هو للردّ على كتائب عز الدين القسّام، ولو لم تقم بهذه العملية لما كان الاعتداء، وأن على “حماس” الانسحاب من غزّة لإيقاف المجزرة. هذه الرؤية للحقيقة مقلوبة، وتتناسى أن حكومة نتنياهو، المشكّلة في 29 ديسمبر/ كانون الأول 2022، بعد انتخابات الكنيست، والتي تضم قادة أحزاب يمينية ويمينيّة متطرّفة، هي حكومة حرب، وجرى تصميمها لتقوم بهذه الحرب، بغرض تهجير أهالي القطاع، وكانت تنتظر ساعة الصفر؛ وما فعلته كتائب القسام مفاجأة جيش الاحتلال واستخباراته بعمليذة 7 أكتوبر، وإرباكه، وقلب النتيجة، بمعنى عدم تحقيق هدفها في إزاحة سكّان القطاع، أو جزء منهم، بل ما تحقّق عملياً أن وحشية العدوان الإسرائيلي أتت بتضامن شعبي عالمي، وأعادت طرح النقاش بشأن حقوق الفلسطينيين، بل وأسقطت كل الخيارات حول الحلول المرحلية ووهم حلّ الدولتين الذي يطرحه الغرب، رغم عدم واقعيته بالنسبة لإسرائيل ذاتها، بوصفها كيانا استيطانيا، ببنية ديمغرافية واقتصادية غير قادرة على البقاء من دون الاستمرار في التوسّع والسيطرة على كل فلسطين.
بات تهجير أهالي قطاع غزّة وإخضاعه حاجة ملحّة للكيان الصهيوني، وهي جزء من حاجته المستمرّة للتوسّع الاستيطاني (في الضفة) من جهة، ولتهجير أكبر عدد من الفلسطينيين (من القطاع) من جهة أخرى، لضمان استمراره. أي أن الحرب على قطاع غزّة لا يتحمّل مسؤوليتها نتنياهو وبن غفير وزملاؤهما في الحكومة فقط، بل هي قرار استراتيجي إسرائيلي، واختيرت لتنفيذه مجموعة من القادة المارقين، الخارجين عن القانون الإسرائيلي والمطلوبين للقضاء، وذوي طروحاتٍ متطرّفة تدعو إلى استخدام القوة ضدّ الفلسطينيين، وتعزيز الاستيطان، وإلى دولة لليهود، وفي مقدمهم رئيس الأمن القومي الإسرائيلي، إيتمار بن غفير، ووزير المالية والوزير الثاني في وزارة الدفاع، بتسلئيل سموتريتش، إضافة إلى زعيم حزب الليكود بنيامين نتنياهو وآخرين؛ وهؤلاء أوراق محروقة في دولة الاحتلال، وقد يُقدّمون كبش فداء للقضاء الدولي، لتحميلهم مسؤولية المجازر التي ارتُكبت، أخيرا، في قطاع غزّة، بعد أن تحقّق الحملة العسكرية غرضها بالنسبة لدولة إسرائيل.
من الأسباب العميقة التي فرضت على الكيان الصهيوني التخطيط لتهجير القطاع، إضافة إلى التوسّع ببناء المستوطنات في الضفة، ما هي مرتبطة باتفاقيات التطبيع مع العرب، التي تصبّ ضمن طموح قادة إسرائيل إلى جعلها دولة إقليمية في محيطٍ عربي، وتلتقي مع الرغبة الأميركية في تشكيل “ناتو عربي” تقودُه إسرائيل في مواجهة إيران. يصطدم تطور إسرائيل بشكل طبيعي إلى دولة إقليمية بقدراتها المحدودة، فهناك الأزمة الديمغرافية، وتراجع الهجرة إلى الكيان، والحاجة إلى اليد العاملة والسوق المحلية الكبيرة وأزمة المياه ونقص الأراضي الزراعية، والمواد الخام ومصادر الطاقة، وهذا يعني السيطرة على مزيد من الأراضي في الضفة الغربية، والتوسّع في بناء المستوطنات، وهو ما تكثّف في ظلّ حكومة نتنياهو منذ عام، وكذلك تهجير قطاع غزّة الذي يمثّل بالنسبة لها قنبلة ديمغرافية، وبالتالي مشكلة أمنية، وهو خيار الحرب الذي كانت تنوي القيام به في أي وقت، ظناً منها أن العرب باتوا مستسلمين للاحتلال المتفوّق عليهم عسكرياً، وقد أثبتت عملية 7 أكتوبر عكس ذلك. كانوا يريدون غزّة بحكومة خانعة لسلطة الاحتلال، وتسمح بإدماج اقتصادها ضمن الدورة الاقتصادية لدولة الاحتلال، في تركيبة معقّدة، تحقّق سيطرة طبقة رأسمالية يهودية، ويشكّل اليهود فيها الطبقة الوسطى الأوسع، واستغلال كامل للعرب في الشرائح الدنيا، على غرار ما يحصل في الضفة الغربية، إضافة إلى الحاجة إلى تأمين مشاريع الطرق التجارية من الهند وعبر العالم العربي وإسرائيل إلى أوروبا. بينما ذهب المتطرّفون في حكومة نتنياهو إلى خيار التهجير الكامل للعرب في القطاع، وطرح الاستغناء عن العرب في الضفة، وفي أراضي الـ48، انسجاماً مع طروحاتهم بدولة يهودية خالصة، طُرحت في 1920، وتم تغيير هذه الاستراتيجية، لأسبابٍ موضوعية تتعلق بالأزمة الديمغرافية للاحتلال، إلى نموذج يشبه دولة جنوب أفريقيا، أي أقلية وافدة مسيطرة تحكم الأغلبية الأصلية. أما خيارات نتنياهو البديلة فهي استقدام عمال آسيويين بديلا عن اليد العاملة العربية.
الحرب سمة لدولة الاحتلال الاستيطاني، بوصفها ضرورة بنيوية لاستمرار قيام الدولة، هذا يجعل اقتصادها اقتصاد حرب، فإضافة إلى موازنة الجيش الضخمة، هناك رأس مال ثابت وغير منتج لزوم بناء المستوطنات وتحسين البنية التحتية، وهذا يجعل الاقتصاد الإسرائيلي مأزوماً دوماً، والحل بمزيدٍ من التوسّع. وقد اقتضت هذه الاستراتيجية عسكرة المجتمع المدني؛ فنسبة القوات العاملة في الجيش والاحتياط كبيرة قياساً بعدد السكان، كما أن الضباط السابقين يتولّون الوزارات وإدارات الشركات وفي كل بنية الدولة. ورأينا أن استدعاء 360 ألف جندي احتياط في الحرب على غزّة تسبب في شللٍ في قطاعات حيوية مثل التكنولوجيا.
رعت إدارة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، الاتفاقات الإبراهيمية، فيما كان الرئيس بايدن ماضيا في إتمام اتفاقات التطبيع العربي، وقبول إسرائيل في المحيط العربي، من أجل سيطرتها على هذا المحيط، ليس بالوسائل السلمية، بل عبر تفوّقها العسكري النوعي. وإذا كان الاقتصاد الإسرائيلي ذا بنية هشّة، تتطلب التوسع الدائم والحرب، فإن الولايات المتحدة هي من يموّل هذه الحروب، بمساعدات عسكرية وتقنية متطوّرة، ومساعدات “إنسانية” لبناء المستوطنات للمهاجرين، وتسهيلات للقروض، وبالتالي، دولة الاحتلال مسنودة أميركياً، عسكرياً واقتصادياً. هذا يقودنا إلى الحديث عن دور الكيان الصهيوني كجزء من الاستراتيجية الأميركية للسيطرة على المنطقة. في السابق، كان ذلك ضد نفوذ الاتحاد السوفييتي، والآن ضد توسع النفوذ الصيني والروسي. وهذا يجعل إسرائيل قاعدة أميركية، ولقوات الانتشار السريع، وفيها مخازن الأسلحة الأميركية التي أنشأها البنتاغون، ويعمل بايدن الآن على إزالة القيود التي تحدّ من استخدام إسرائيل لهذه الأسلحة في الحرب على غزّة.
————————
إيران في ساعة الحقيقة/ علي العبدالله
29 نوفمبر 2023
يتضمّن موقف المرشد الأعلى في إيران، علي خامنئي، الرافض مشاركة بلاده في الحرب دعما لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) في تصدّيها للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة تأكيدا على أولوية المصالح الاستراتيجية للدولة الإيرانية. وهو ما سعى وزير الخارجية، حسين أمير عبد اللهيان، إلى شرحه وتوضيحه بصيغ وعبارات عديدة، ودافع عنه كل من رئيس البرلمان الأسبق والمنسق الأبرز لمواقف التيار المحافظ والمعروف بمدى قربه من المرشد الأعلى ودوائر القرار في الدولة العميقة ومنظومة السلطة، غلام رضا حداد عادل، ووزير الخارجية السابق، محمد جواد ظريف.
أخذت القيادة الإيرانية، بعد التهليل لعملية طوفان الأقصى والإشادة بحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، مسافة عن العملية بالقول “إنها لم تكن طرفا في التحضير للعملية أو تنفيذها”؛ ووسّعت المسافة تاليا بإعلانها “أن ما تقوم به حركات المقاومة لا يتم بتعليمات إيرانية بل بقرار ذاتي لهذه الحركات”. وأعلنت مرارا أنها ضد توسيع الحرب وتحويلها إلى حرب إقليمية، وهو ما أكّده أمين عام حزب الله اللبناني، حسن نصرالله، في خطابين له حدّد خلالهما دور الحزب في الحرب بدور المساند.
تعاطت القيادة الإيرانية مع فرصة وفرتها “حماس” لمحاربة إسرائيل بطي تهديداتها السابقة بـ “محو” إسرائيل و”تدمير” إسرائيل و”إزالة” إسرائيل من الوجود، وفق أقوال قادتها السياسيين والعسكريين، واكتفت بالتنديد بالعدوان الإسرائيلي وبالقصف الوحشي الذي استهدف المدنيين بقصف مساكنهم وتدميرها فوقهم وقصف البنى التحتية المدنية من المشافي إلى الأفران والأسواق ودور العبادة في قطاع غزّة واقتحامات الجيش الإسرائيلي والمستوطنين مدن الضفة الغربية وبلداتها ومخيّماتها وقتل الفلسطينيين وتدمير ممتلكاتهم وإتلاف حقولهم. تراجعت النبرة القوية والحاسمة وأفسحت المجال للغة المساومات وللعمل على حجز موقع في إدارة الأزمة عبر الانخراط في حركة دبلوماسية نشطة، بالموافقة على حلّ الدولتين الذي نصّ عليه بيان القمة العربية الإسلامية، والإعلان عن الاستعداد للتوسّط في حل مشكلة الأسرى والرهائن، والدعوة إلى التهدئة ووقف إطلاق النار في استثمار لمناخ الحرب وتعقيداته لكسر عزلتها الدولية، من جهة، وللحفاظ، من جهة أخرى، على المكاسب الجيوسياسية التي حقّقتها في العقدين الماضيين، وتثقيلها بمنع إسرائيل من تحقيق هدفها المعلن: القضاء على حركة حماس، بالضغط من أجل وقف إطلاق النار عبر التلويح بخطر توسّع الحرب وتمدّدها خارج قطاع غزّة على خلفية الغضب والاستفزاز في العالمين العربي والإسلامي الذي استثاره التوحّش الإسرائيلي ضد المدنيين الفلسطينيين، وما ترتب عليه من قيام حركات المقاومة بعمليات ضد أهداف إسرائيلية من جنوب لبنان نفّذها حزب الله، شنّ بين 7 أكتوبر/ تشرين الأول و14 نوفمبر/ تشرين الثاني ما يقرب من 170 هجوماً باستخدام أسلحة مضادّة للدبّابات ومدفعية وصواريخ ومسيّرات. وإطلاق حركة أنصار الله الحوثية مسيّرات وصواريخ باليستية وكروز من اليمن نحو منطقة إيلات واحتجازها سفينة شحن مالكها إسرائيلي، واستهداف مليشيات موالية لإيران قواعد أميركية في سورية والعراق باستخدام الصواريخ والقذائف والمسيّرات، ما يقرب من 77 هجوماً شملت 43 غارة على قواعد أميركية في سورية و34 غارة في العراق، واستهداف سفينة إسرائيلية بمسيّرة شاهد- 136 إيرانية الصنع في المحيط الهندي.
بقي الموقف الإيراني العازف عن المشاركة في الحرب، رغم عدم تحقيق هدفها المعلن: وقف إطلاق النار لمنع هزيمة “حماس”، حيث استمرّ القصف الإسرائيلي الوحشي مستهدفا البشر والحجر وتقدّم الهجوم البرّي في شمال قطاع غزّة؛ واستمرّ التأييد الأميركي للهجوم الإسرائيلي على القطاع مع رفضه وقف إطلاق النار حتى تحقيق هدف إسرائيل من الحرب بالقضاء على “حماس”.
ارتبط تغيّر الموقف الإيراني بتقديرات القيادة للفرص والمخاطر التي تنطوي عليها مشاركتها في الحرب، في ضوء الاصطفاف الغربي الشامل خلف إسرائيل وتبنّي روايتها عن الحرب وحقّها في الدفاع عن نفسها وحشده قوات كبيرة شرق المتوسط، لردع أي محاولة لدعم “حماس” بفتح جبهات أخرى، أرسلت الإدارة الأميركية حاملتي طائرات بـ 7500 جندي ومقاتلات إف- 16 وإف- 15 وإف- 35 وإي- 10 وأكثر من 1200 جندي من المارينز وغوّاصة نووية، وحاملة طائرات وغوّاصة نووية إلى الخليج العربي، وبطاريات باتريوت إلى الأردن والعراق والكويت والإمارات والسعودية ونظام ثاد إلى المنطقة، إلى جانب أكثر من 45000 جندي موجودين في المنطقة، ووضعت الأسلحة الأميركية المخزّنة في إسرائيل تحت تصرّف الجيش الإسرائيلي ومدّته بالذخائر الدقيقة وبصواريخ للقبّة الحديدية، بالإضافة إلى قطع بحرية بريطانية وفرنسية، ما جعل المشاركة الإيرانية الفعّالة في الحرب بالوكالة بقوات حركات المقاومة أو بحربٍ مباشرة بقوات إيرانية خطيرة في مستويين: مستوى ضرب حركات المقاومة، خصوصا حزب الله، ما يعني انهيار استراتيجية حماية الأمن القومي الإيراني القائمة على ردع أيّ عدوانٍ على الأرض الإيرانية، خصوصا الأميركي لتغيير النظام، بتهديد الأمن الإسرائيلي بقوى وكيلة وموارد عسكرية كبيرة نشرتها في دول الجوار المحيطة بإسرائيل. ومستوى استهداف الأرض الإيرانية بقصف البنى التحتية والاقتصادية والعسكرية، بما في ذلك النووية، وتحويل إيران إلى دولةٍ ضعيفةٍ ومهشّمة.
انسجم التوجّه الإيراني الجديد مع موقف الإدارة الأميركية من الحرب الإقليمية، مع تباين في الدوافع والأهداف، فواشنطن تتوجّس من انفجار حربٍ إقليمية، لأنها ستضطر للمشاركة فيها دعما لإسرائيل، وتبعاتها على المشهد الدولي واحتمال تحولها لمصلحة خصومها الصين وروسيا وترجيح كفّتيهما في التنافس معها، فهما تتطلعان إلى غرق الولايات المتحدة في حربٍ إقليمية تلحق بها خسائر، فتفقد جزءا من قوة ردعها وتضطرّها لتخفيف العداء لهما، في حين تتوجّس إيران من حرب إقليمية، لأنها قد تؤدّي إلى القضاء على حزب الله، أداتها واستثمارها الرئيس في ردع أي هجوم إسرائيلي أو أميركي على أراضيها، واستهداف بنىً تحتية نووية وعسكرية واقتصادية فيها، ما دفع الإدارة الأميركية إلى كبح جماح إسرائيل وضبط اندفاعها لمهاجمة حزب الله، وجعل تجنّب استفزاز الولايات المتحدة وجرّها إلى الحرب هدفا للقيادة الإيرانية، بالإعلان أنها لا تنوي المشاركة في الحرب، وتأكيد ذلك بإعلان سفير إيران ومندوبها الدائم لدى الأمم المتحدة، أمير سعيد إرافاني، في 7 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، أن بلاده لم تشارك قط في أي عملٍ أو هجومٍ ضد القوات الأميركية في سورية والعراق، والتزام حزب الله اللبناني بقواعد الاشتباك المعمول بها مع إسرائيل، ومعايرة المليشيات الموالية لإيران في سورية والعراق شدّة هجماتها وتوقيتها، بحيث تكون عند سقفٍ محدّدٍ لا يستدعي التصعيد والانتقام الأميركيين، وإعلان حزب الله التزامه بالهدنة المعلنة بين إسرائيل و”حماس”، مع أنه لم يكن طرفا في المفاوضات بشأنها، كما لم يُذكَر طرفا تشمله هذه الهدنة، ذلك لأن مواصلته القتال ستمنح إسرائيل المبرّر للهجوم عليه وتدمير قدراته القتالية واستهداف الضاحية الجنوبية في بيروت والبنى التحتية والاقتصادية في لبنان، ما سيدفع إلى تدخّل إيراني حماية للحزب، وإلى مواجهة أميركية إيرانية بالتالي.
غير أن التوافق الأميركي الإيراني على تجنّب التصعيد والحرب الإقليمية لم يلغ احتمال وقوعها في ضوء إعلان الرئيس الأميركي، بايدن، أن الهدف من عملية طوفان الأقصى كان ضرب مشروع ممرّ المتوسط، الذي اتفق عليه في قمة العشرين في الهند، مشروع لربط الهند بأوروبا عبر مسارين، بحري من الهند إلى السعودية والإمارات، وبرّي من السعودية والإمارات إلى ميناء أشدود في إسرائيل مرورا بالأردن، ما يعني أنها استهدفت المصالح الأميركية، في تلميحٍ إلى هدف إيراني روسي صيني، ما يعني أن واشنطن لن تقبل نتيجة للحرب الدائرة سوى هزيمة “حماس” وصياغة الإقليم وفق منظورها، بما في ذلك تنفيذ مشروع ممرّ المتوسط، وإصرارها، بالتالي، على دعم العدوان الإسرائيلي، بالإبقاء على الضوء الأخضر الأميركي، حتى تحقيق أهداف إسرائيل من الحرب، ما سيضع إيران أمام خيارين صعبين: الانزلاق نحو حربٍ شاملةٍ وخسارة قوتها الرادعة المتمثّلة في حزب الله والمليشيات العراقية، مع احتمال أن تطاول الحرب أراضيها وتلحق بها دمارا يزيد من معاناة الإيرانيين الحياتية، أو الاستسلام للضغوط الأميركية والتسليم بهزيمة “حماس”، ما يعني انهيار محور المقاومة وخسارة مكاسبه الجيوسياسية في الإقليم لمصلحة الولايات المتحدة وإسرائيل. ما سيرتّب انحسار نفوذها في الإقليم ودفعها إلى العودة إلى حدودها الطبيعية والالتزام بسياسة الدولة واستحقاقاتها.
العربي الجديد
————————-
هل تكون هدنة غزّة مدخل الحلّ؟/ عبد الباسط سيدا
28 نوفمبر 2023
تم التوصل إلى هدنة مؤقتة في الحرب الإسرائيلية على غزّة بفضل الوساطة القطرية النشطة ومشاركة مصرية أميركية؛ وهي الحرب التي استمرّت نحو 50 يوماً تحت شعار الانتقام من حركة حماس التي نفذت عملية 7 أكتوبر (طوفان الأقصى)، مع حليفتها حركة الجهاد الإسلامي. وما يُستنتج من المواقف المعلنة، محلياً وإقليميا ودولياً، وجود رغبة عامّة في إطالة أمد هذه الهدنة، وتعزيزها لتكون مدخلاً يؤدّي إلى حلّ سياسي يضع حداً للصراع المزمن المستمر بين الفلسطينيين والإسرائيليين منذ منذ وعد بلفور في 2 نوفمبر/ تشرين الثاني 1917 ، مروراً بقرار الأمم المتحدة التقسيم عام 1947، ومن ثم الإعلان عن قيام دولة إسرائيل عام 1948.
وضمن هذا السياق، هناك حديثٌ عام نسمعه من مسؤولي غالبية الدول، خصوصا من الأميركان، والغربيين عموما، بالإضافة إلى مسؤولين في عدّة دول عربية، وحتى من مسؤولين في كل من الصين وروسيا بشأن حلّ الدولتين، فهؤلاء يرون ضرورة العودة إلى حلّ الدولتين. وفي مقابل هذا التوافق الدولي على هذا الحلّ، لم تصل القوى الإسرائيلية المتطرفة المشاركة في حكومة نتنياهو بعد إلى مرحلة القناعة التامة بضرورة اعتماده، وهو الذي من شأنه تحاشي انفجار نزاعاتٍ مستقبليةٍ بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
أما أن يتم الاستمرار في مصادرة الأراضي، وتكون هناك مواظبة على بناء المستوطنات فوق أراضي الفلسطينيين، والتحرّش بهم، واستفزازهم وإهانتهم بمختلف الأساليب، منها: عدم احترام هويتهم الوطنية، والاعتداء على مقدّساتهم، بل والتشكيك في إنسايتهم، وإضعاف السلطة الوطنية الفلسطينية، وتشجيع واقع الانقسام الفلسطيني، وغير ذلك من خطوات سلبية؛ فهذا فحواه أنه لا توجد نيّة للحلّ، وإنما هناك حرص على تعطيل أيّ حلّ، وإيجاد الذرائع لتحميل الجانب الفلسطيني مسؤولية الإخفاق.
غير أن تأكيد مسؤولية الجانب الإسرائيلي في عهد الحكومات اليمينية المتشدّدة، خصوصا في ظل حكومة نتنياهو الحالية التي تعدّ من أكثر الحكومات تشدّداً وتطرّفاً، ورغبة في دفع العلاقات بين إسرائيل والفلسطينيين إلى الطريق المسدود؛ ليس معناه إعفاء الجانب الفلسطيني نفسه من قسطه في مسؤولية عملية الإخفاق، فالانقسام بين سلطتين، واحدة تعد في المنظور الدولي السلطة الشرعية تحكم الضفة الغربية من مقرّها في رام الله، والثانية هي التي تمتلك في منظور فلسطينيين كثيرين الشرعية الشعبية، وهي سلطة حركة حماس في قطاع غزّة، ولها امتدادات شعبية وحزبية في الضفة أيضاً. ولكل سلطة منهما علاقاتها الإقليمية المتباينة التي تؤثر على توجّهاتها وتحركاتها، وهي تحصل من خلال هذه العلاقات على أسباب البقاء والاستمرار ضمن الحدود الدنيا. وهناك قوى فلسطينية شعبية غير مشاركة في أيّ منهما؛ وقيادات نشطة، خصوصا في المنظمات المختلفة ومنها حركة فتح نفسها، تركت العمل الرسمي، أو أُبعدت عنه، لعدم قناعتها بسلامة ما يحصل. فهؤلاء قد وجدوا في ميدان العمل الجاد من أجل الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني في الداخل الوطني والمهاجر، وللأجيال المقبلة المجال الذي يجسّد طموحهم وأهدافهم. ولم تتمكن السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عبّاس من تجديد نفسها، بل أصبحت أكثر ترهلاً، وأقلّ قدرة على التحرّك واتخاذ المبادرات التي كان من شأنها فتح الآفاق أمام وحدة الموقف الفلسطيني، أو إحداث اختراقات سياسية تدفع باتجاه الحل.
وبذريعة عدم وجود خيارات أمامها، ارتأت حركة حماس الانخراط في “محور المقاومة والممانعة” مع إيران وحزب الله وسلطة آل الأسد والمليشيات العراقية، وهو المحور المسؤول عن زعزعة الأمن والاستقرار في سورية ولبنان والعراق واليمن. ورغم أنه يُسجل لـ”حماس” عدم مشاركتها في عمليات قتل السوريين وتشريدهم وتدمير مدنهم وبلداتهم، في حين أن الأطراف الأخرى في المحور المذكور فعلت ذلك، إلا أن تموضعها ضمن المحور المعني يصبّ في مصلحة هذا الأخير، من خلال محاولة النظام الإيراني، الذي يقود هذا المحور، التنصّل من تهمة الاستغلال المذهبي لتحقيق مشروعه التوسّع والتمدّد في دول الجوار ومجتمعاته، وتهديدها بالمسيّرات والصواريخ، وإحداث تغييرات بنيوية فيها. كما أن استمرار “حماس” في المحور المعني يُبعدها عن الدول العربية المتضرّرة من سياسات النظام الإيراني وممارساته، الأمر الذي يساهم، بهذه الصيغة أو تلك، في تعميق الشقاق الفلسطيني، ووضع مزيد من العراقيل أمام العمل الفلسطيني المشترك المطلوب، خصوصا ضمن صفوف الشباب وسائر المطالبين بالدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.
وما يطرح اليوم مجدّداً بخصوص موضوع حلّ الدولتين، لم يتجاوز بعد حدود التهدئة التسويفية التي تذكّرنا بالحيلة التي كان الفقراء يلجأون إليها لإقناع أطفالهم المطالبين بالملابس الجديدة استعداداً للعيد، إذ كانوا يقولون لهم إنهم وضعوا مساميرها في الماء. مع فارق أساسي يتشخّص في أن الدول التي تقترح حلّ الدولتين، وفي مقدّمتها الولايات المتحدة، تمتلك القدرة على التطبيق إذا أرادت، ولكنها لم تفعل شيئاً، بل كان الحديث عن هذا الحلّ بالنسبة إليها مجرّد وسيلة لتجاهل الممارسات الإسرائيلية التي استهدفت في الواقع العملي تفجير فكرة حلّ الدولتين، وإلغاءها؛ وكان اللجوء، في المقابل، إلى أسلوب التطبيع الثنائي مع الدول العربية، الأمر الذي ثبت فشله بعد كل ما حصل، وقد يحصل، في غزّة أو غيرها. وتبيّن بوضوح أن التطبيع مع الحكومات من دون الشعوب لن يحقّق استقراراً، ولا أمناً، ولا سلاماً، فقد ظهر جلياً أن موضوع التطبيع الثنائي مع عدة دول عربية كان مجرّد تغطية للممارسات الإسرائيلية التي استهدفت، في الواقع العملي، تفجير فكرة حلّ الدولتين، وتجاوزها نهائياً، والتفكير في فكرة تهجير الفلسطينيين إلى دول الجوار، وحتى أبعد من دول الجوار.
ينبغي أن يكون التطبيع الحقيقي المجدي في الحالة الإسرائيلية الفلسطينية مع الشعب الفلسطيني في الداخل، من خلال احترام خصوصية هذا الشعب وحقوقه، واعتماد الشكل الإداري المناسب لحل المشكلات، ووضع حد للانسدادات والاحتقانات، وتراكم الأحقاد. ومثل هذا التطبيع الداخلي لا يمكن في غياب شخصيات قيادية كاريزماتية في الجانبين تثق بذاتها، ويثق بها الناس. شخصيات تؤمن بضرورة التوصل إلى حل سلمي متوازن مستدام لمصلحة الجميع؛ وتكون مستعدّة لتحمّل النتائج. أما القيادات المتهمة بالفساد، أو التي تعاني من الضعف، أو المرتبطة بالمشاريع العابرة للحدود، فهي غير قادرة على التصدّي لهذه المهمّة بالغة الصعوبة والمعقدة جداً.
لقد أعادت الحرب الإسرائيلية على غزّة القضية الفلسطينية إلى الواجهة، وأحدثت هزّة عميقة في العلاقات الدولية، ووضعت الحكومات الغربية في مواجهاتٍ صارخةٍ مع شعوبها التي خرجت منها جموع كبيرة في مظاهرات واعتصامات وفعاليات كبرى، لتُعلن عدم اقتناعها بمواقف دولها التي امتنعت حتى عن رفع الصوت، والمطالبة بوقف قصف المدنيين، سيما الأطفال والنساء والمسنّين والمرضى الذين أصبحوا ضحايا عملية عقاب جماعي متوحّش رداً على عملية طوفان الأقصى.
وكشفت الحرب بوضوح حقيقة هشاشة النظام العربي الرسمي، وعجزه عن اتخاذ القرارات والمواقف الحاسمة التي كان من شأنها إضفاء قسط من التوازن على المعادلات المختلّة. وستكون مرحلة ما بعد الحرب أقسى وأشدّ ما لم تكن هناك خطوات جادّة على طريق الحلّ، ولكن هذه الخطوات لن تتمكّن من شقّ طريقها في ظل الواقع الحالي للحكومة الإسرائيلية والسلطة الفلسطينية وحركة حماس. فعلى الصعيد الإسرائيلي، هناك حاجة أكيدة لظهور قيادة معتدلة، ترى في موضوع الحلّ حاجة إسرائيلية، على عكس ما يعتمده راهناً نتنياهو الذي يرى في دفع الأمور نحو مزيد من التعقيد والتصعيد فرصة للبقاء والتهرّب من الاستحقاقات. وعلى الجانب الفلسطيني بشقّيه، السلطة الوطنية و”حماس”، هناك حاجة ماسّة إلى عمل جادّ للتوصل إلى وحدة الموقف، والتركيز على الأولويات الفلسطينيّة، وبالتنسيق مع الدول العربية التي تظلّ العمق الحيوي الاستراتيجي للشعب، وتقطع الطرق أمام اتخاذ القضية الفلسطينية أداة دعائية في مشاريع “محور المقاومة” التوسعية.
تتمثل الخطوة التالية في ضرورة عقد مؤتمر دولي إقليمي، هدفه التوصل إلى حلّ واقعي مقبول دائم، على أساس احترام الحقوق، للنزاع، واعتماد آليات واضحة، واتّخاذ خطوات ملموسة، تنفّذ ضمن مواعيد محددة لا تحتمل التسويف. وبطبيعة الحال، تبقى الولايات المتحدة القوة الأكثر قدرة على الدفع بهذا الاتجاه، بحكم قدرتها على التأثير في الموقف الإسرائيلي إذا أرادت، إلى جانب علاقاتها الجيدة مع دول الخليج ومصر والأردن والدول الإقليمية صاحبة الوزن، وينبغي أن يكون ذلك كله بالتنسيق والعمل المشترك مع الأوروبيين والقوى الدولية المؤثرة في هذا الملف. أما الاكتفاء بالدعوة إلى حلّ الدولتين من دون توفير الشروط الواقعية المطلوبة لتحقيقه، فهذا فحواه أننا لم نتجاوز بعد دائرة الوعود التخديرية التي لن تحقّق الأمن والاستقرار، ولن تؤدّي إلى السلام، بل سيكون هناك مزيد من الاضطراب الممهد لمزيدٍ من الحروب. وهنا قد يكون من المناسب أن نستعير من الإخوة المصريين عبارة “في المشمش”، للتعليق على مقترح يفتقر إلى مقوّمات القبول والتطبيق.
العربي الجديد
—————————-
==========================
القدس العربي
————————————
فلسطين وإسرائيل على المستوى الرمزي/ ثائر دوري
11 كانون الأول 2023
سُلط الضوء أثناء سلسلة الزلازل الأخيرة في سوريا وتركيا على جسر الحريف، الواقع قرب مصياف الواقعة غربي مدينة حماة السورية. ميزة هذا الجسر أنه بني قبل ألفي عام فوق الفالق السوري الافريقي الكبير «الوادي المتصدع» الممتد من افريقيا عبر البحرين الأحمر والميت، إلى سهل الغاب شمال غرب سوريا.
تقع الصفيحة الافريقية غرب هذا الجسر وتضم الجبال والساحل السوري، والصفيحة العربية شرقه، يقول الدكتور سلمان دياب الأخصائي في الجيوفيزياء :إن هذا الجسر مفصول في منتصفه إلى نصفين ويبتعد طرفا الجسر المفصولان سنوياً ابتعاداً تفاضلياً حوالي 1 سم وبحركة دورانية مع انزياح، بحيث أن المسافة وصلت إلى حوالي 18 مترا بين شفتي الجسر. ويضيف الدكتور سلمان: أن سبب الانفصال هو مرور الفالق الزلزالي السوري الافريقي الكبير من هذه النقطة، والاهتمام «بهذا الجسر كونه يعتبر المكان الوحيد على مسار هذا الفالق الذي يحمل نقطتين ثابتتين على الضفتين المتقابلتين للصفيحة الافريقية مع الصفيحة العربية.
وهاتان النقطتان تحملان الدليل المادي الملموس على تباعد هاتين الصفيحتين، ومثال دليل كهذا غير موجود في أي مكان بالعالم.. أهمية هذا الجسر أنه يجعلك ترى بالعين المجردة حركة خفية لباطن أعماق الأرض، لا يمكن أن تشعر بها إلا في حالات الزلازل. يجعلك ترى ما لا يُرى ويقدم دليلاً قاطعاً عما يجري في باطن الأرض، ما يجعله استثنائيا ودليلاً ملموساً على تباعد الصفيحتين.
إلى الجنوب من جسر الحريف بعدة مئات الكيلومترات وضمن جغرافية بلاد الشام، تقع جغرافية أخرى تؤدي وظيفة كاشفة لعلاقات مخفية، لكن من طبيعة سياسية، أعني فلسطين، خاصة أثناء الزلزال الأخير في غزة. لعبت القضية الفلسطينية على الدوام دوراً كاشفاً لطبيعة النظام الدولي، لكن ليس مثل هذه المرة، في العدوان الصهيوني على غزة تعرت طبيعة النظام الدولي القائم من أكثر من خمسمئة عام، فقد أظهر النظام العالمي الحاكم بنيته العميقة، في العادة ترى الجموع المظهر الخارجي وقلة من الأشخاص يتخصصون بدراسة البنية العميقة، لكن تظل هذه البنية موضع جدل لا يمكن الحسم بها. ظهر بشكل لا لبس فيه أن القوى المسيطرة في الغرب كتلة واحدة صماء لا تمايز في مواقفها، أتحدث هنا عن القوى المسيطرة وليس عن الشعوب، كما تبين جلياً أن إسرائيل ثابت من ثوابت النظام العالمي القائم، وأن تفكيكها يعني تفكيك النظام العالمي. كما أظهرت الحرب الأخيرة الطبيعة العنصرية للنظام القائم فليست كل الدماء سواء. هناك دماء إسرائيلية زرقاء ونبيلة، ونساء إسرائيليات وأطفال من النخب الأول، وفي المقابل هناك فلسطينيون أشرار لا فرق بين صغير وكبير سوى أن الطفل شرير صغير، والمرأة امرأة شريرة، فهم يستحقون الموت. وليكن موتهم ممجداً على يد الغربيين واستطالتهم الإسرائيلية، التي أعطت لنفسها تفويضاً أن تقرر باسم الرب، أو الحضارة، أو الخير، من يستحق الحياة ومن يستحق الموت وأن تنفذ ذلك. وهذا ما أطلق عليه الكاتب منير العكش «حق التضحية بالآخر»، الذي يتقاطع مع نظرية الخسائر الجانبية فلا بأس بقتل بعض الأبرياء أثناء التخلص من الأشرار، أو لنشر الحضارة أو لمكافحة الإرهاب، لكن هذا البعض قد يكون مخيماً كاملاً تلقى عليه أطنان من القنابل لقتل «إرهابي» واحد.
ثنائية إسرائيل/ فلسطين على المستوى الرمزي
أما الكشف الآخر فهو أن حكومات العالم انقسمت بين مؤيد بشكل تام، بل تعتبر الحرب شأناً يخصها، وهي الدول الغربية عامة، مع فروق مجهرية بين ألمانيا وفرنسا مثلاً، وكان المفاجئ انضمام الهند لهذا الموقف لأول مرة، لكن هذا مفهوم في ظل حكم المتطرفين الهندوس، وكراهيتهم العميقة للإسلام والمسلمين، وهي كراهية ليست ظرفية أو عابرة، إنما في صلب العقيدة الهندوسية، التي نمت برعاية بريطانية على أن الآخر، العدو، هو الإسلام وهذا أمر يحتاج إلى شرح يطول، لكن باختصار نقول، إن العقائد الهندوسية المعاصرة مقتبسة من نظرية المركزية الأوروبية، التي تقول إن العالم كان يعيش في ازدهار حضاري حتى هبت عاصفة هوجاء من الصحراء، وتعني العرب ودينهم الإسلام، فدمرت المراكز الحضارية الراقية، واستمر ظلام القرون الوسطى نحو عشرة قرون، قبل أن يشع النور من جديد على يد الغرب الحديث. أما التفصيل الهندي فيقول، إن هناك حضارة هندية راقية دمرها المسلمون قبل أن يُعاد اكتشافها، ومن ثم نهوضها على يد البريطانيين. انقسمت دول العالم بين مؤيد بشدة، أو معارض بخجل لما يجري، حتى الصين الحليف التاريخي للعرب كانت معارضتها خجولة رغم مشاكلها العميقة مع الولايات المتحدة، والمثير للدهشة أكثر، أن روسيا أيضاً كانت أشد خجلاً في المعارضة، رغم أنها تدخل في حرب حقيقية مع الغرب، وكانت هذه فرصتها لتخفيف الضغط الغربي عليها في جبهة أوكرانيا، ومن مصلحتها إعطاء بعض من التوازن للحرب، وتكبيد الغرب خسائر، كما تكبدها في أوكرانيا لكنها لم تفعل. خلاصة المواقف الحالية أن هناك من يصطف مع الكيان الصهيوني، من دون قيد أو شرط، فيصرخ مشجعاً أو مساهماً بشكل مباشر في الحرب. ومن ينتقد بخجل أو على استحياء، من دون أن يساهم بدفع غائلة العدوان عن شعب شبه أعزل يقاتل آلة الحرب الأكبر والأحدث في العالم، بأيد شبه عارية. ما تفسير ذلك؟ إذا كان موقف المؤيدين مثل الدول الغربية مفهوماً لأن إسرائيل جزء من هذه المنظومة الغربية، هي استطالة غربية في المشرق العربي. وقد سبق وشاهدنا قبل وعقب انهيار الاتحاد السوفييتي في تسعينيات القرن العشرين، كيف يبدأ التصالح مع الغرب عبر إسرائيل، على سبيل المثال دولة عظمى وذات تاريخ ثوري كالصين، طلبت ود الولايات المتحدة، عبر إقامة علاقة مع الكيان الصهيوني، وكذلك فعل الاتحاد السوفييتي وغيرهما، حتى إن أحد الأصدقاء يومها شّبه الكيان الصهيوني بشباك قطع تذاكر لدخول الولايات المتحدة. ما يحتاج إلى تفسير هو موقف النقاد الخجولين المتضررين من المنظومة الغربية، ومنهم عرب ومسلمون. بني النظام الدولي الحالي عقب نهاية الحرب العالمية الأولى على دول أحادية اللغة أو القومية أو الدين أو العشيرة، بعد تفكك الامبراطوريتين النمساوية ـ المجرية والعثمانية، التي كانت دولا متعددة الأعراق والقوميات والأديان، تركت لشعوبها ما يشبه الحكم الذاتي الثقافي، اللغوي، الديني. فلم تحاول أن توحد لغتها أو دينها أو قوميتها سوى ببعض التجاوزات هنا وهناك. تم ترسيم حدود قسرية قومية أو دينية أو لغوية، بين شعوب الأرض من أجل إنشاء دولة أحادية التكوين، وهذا أدى إلى فصل ديموغرافي حاد لا تحتمله الحياة، لأن التداخل بين الشعوب على الأرض كبير، سواء من الناحية القومية أو اللغوية أو الدينية. أدى هذا الترسيم القسري إلى خلق أقليات لغوية أو دينية أو قومية في كل مكان. أقليات لا مكان لها في السردية الأحادية السائدة في الدولة الأحادية، التي حددت هدفها وهو تذويب كل مخالف في بوتقة واحدة: لغوية، أو قومية، أو دينية، ومن يرفض أو يقاوم تم تجريده من كل حقوقه وحصاره ومنعه من التعبير. فنشأت لدينا ممارسات إسرائيلية في كل دولة من دول العالم، ممارسات تكبر أو تصغر، حسب ظروف كل دولة وحجم المشكلة التي تجابهها، وبالمقابل نشأت ملامح فلسطينية تقاوم التهجير والصهر والتذويب. في كل بلد من بلدان العالم المعاصر هناك فلسطينيون يدفعون عن أنفسهم التذويب والتهجير أحياناً. في كل دولة معاصرة، صغرت أم كبرت، هناك تلوث إسرائيلي بنسبة ما، قليلة أو كبيرة، ومقابل ذلك هناك ملامح فلسطينية تكبر وتصغر حسب ظروف كل دولة. وبالطبع فإن ذروة سنام الأسرلة /الفلسطنة يبقى في أرض فلسطين التاريخية، التي تعرض ويتعرض شعبها للإبادة الديموغرافية والتهجير والتذويب الديني والقومي واللغوي. وفي ضوء ذلك يمكن القول إنه لا يمكن لدولة معاصرة أن تمضي ضد إسرائيل إلى خط النهاية، لأنها على المستوى الرمزي تكون ضد نفسها. فإذا اجتمع الأمران: ثنائية أسرلة/ فلسطنة الموجودة في كل دول العالم مع حقيقة أن إسرائيل ثابت من ثوابت النظام الدولي والوقوف ضدها إلى النهاية، يعني خروجاً من النظام الدولي، ومن هي الدولة التي تريد ذلك؟ حتى الدول المحاصرة والخاضعة للعقوبات، من سادة النظام الدولي نراها تفاوضه لرفع هذه العقوبات. وماذا يعني رفع العقوبات غير إعادة الانتساب إلى نادي النظام الدولي القائم. فإذا اجتمع الأمران نحصل على تفسير للمعارضة الخجولة لإسرائيل.
إزالة إسرائيل يعني نظاماً دولياً آخر، كما أن زوال ثنائية أسرلة/ فلسطنة في مهدها الأساسي، يعني زوال هذه الثنائية في كل أنحاء العالم، وبالتالي نظام دولي آخر لا يقوم على دول أحادية.
كاتب سوري
القدس العربي
——————————-
السينما الإسرائيلية ومسوخ الصهيونية/ صبحي حديدي
11 كانون الأول 2023
لعل زائر موقع المهرجان السينمائي الإسرائيلي «أسبوع الفيلم اليهودي في القدس»، الذي سجّل هذه السنة دورته الـ 25، سوف يلاحظ أوّلاً خياراً في البرمجة لافتاً: تعديل العروض في ضوء ما جرى يوم 7 تشرين الأوّل (أكتوبر)، واستبعاد الأفلام المحتوية على مشاهد شديدة العنف، حسب تصريح مديرة المهرجان دانييلا ترجمان. وكأنّ حرب الإبادة التي تشنها دولة الاحتلال ضدّ المدنيين من أطفال ونساء وشيوخ قطاع غزّة لا تنتج العنف الأشدّ توحشاً وهمجية وبربرية، أو كأنّ تفاصيلها لا تُنقل حيّة ومباشرة على شاشات العالم بأسره.
البرمجة، في المقابل، تركز على مسائل الهوية اليهودية، وأفلام العداء للسامية، والثقافة والأدب اليهوديين، والهولوكوست؛ ولا مفاجأة هنا، خاصة وأن فيلم الافتتاح كان «حياة واحدة» للبريطاني جيمس هاوز، عن سيرة رجل الأعمال نيكولاس ونتون الذي نقل عدداً من الأطفال اليهود التشيك إلى بريطانيا وأنقذهم من الاقتياد إلى معسكرات الهولوكوست. موقع المهرجان لا يشير إلى أنّ سير أنتوني هوبكنز، الذي يلعب دور ونتون، سوف يكون حاضراً في القدس المحتلة.
غائبة أيضاً، كما يلوح حتى الساعة، المغنية والممثلة والمخرجة الأمريكية بربارة سترايساند، رغم أنها تتصدر لائحة تكريم الفنانين اليهود، تحت برمجة خاصة عنوانها «المرونة اليهودية» في كلّ الظروف والأزمنة، وعبر إعادة عرض فيلمها الشهير «هللو دوللي» في نسخة رقمية جديدة ومحسّنة. غياب يجوز لإدارة المهرجان أن تعتبره «خسارة فادحة»، تشاطرها في ذلك غالبية مجموعات الضغط اليهودية في الولايات المتحدة، بالنظر إلى أسهم سترايساند المرتفعة هذه الأيام تحديداً، بعد صدور مذكراتها «اسمي بربارة».
غائب كذلك، في ملاحظة هذه السطور وليس إدارة أسبوع الفيلم اليهودي، سينمائي إسرائيلي بارز وعالمي الشهرة يدعى عاموس غيتاي، صاحب التحفة السينمائية «كادوش»، 1999، التي تتناول محنة المرأة في المجتمع الإسرائيلي المتديّن؛ وثمة ملابسات وجيهة تبيح تفسير غيابه، أو لعلها ترجّح تغييبه ربما؛ ذلك لأنّ شريطه «أرض الميعاد»، 2004، قد يكون ـ ولعله سيظلّ حتى إشعار آخر طويل ـ الوثيقة السينمائية الإسرائيلية الأقسى ضدّ دولة الاحتلال، تلك «الواحة» التي لم يتوقّف التبشير الصهيوني وبعض استطالاته هنا وهناك في قلب الديمقراطيات الغربية عن تقديس أخلاقيات الحياة فيها. انطوت مرّة وإلى الأبد، يقول الفيلم، روح الـ»كيبوتز» التي تقلب الصحراء جنّة وارفة وينابيع من حليب وعسل؛ و»الصهيوني الصبّاري» نسبة إلى النبات الشوكي المقاوم، هو اليوم قوّاد مافيوزي يهرّب الرقيق الأبيض ويتاجر بالمهاجرات الباحثات عن عيش أفضل، ويسومهنّ الذلّ والهوان والعذاب، ويُشبع في أجسادهنّ أحطّ الرغائب الوحشية…
الأرجح أنّ مَن شاهد «أرض الميعاد» لن يجد في السطور السابقة أيّ تهويل أو مبالغة، بل لعلّ البعض سيجد تلطيفاً للصورة السوداء القاتمة التي رسمها غيتاي عن هذا القطاع في حياة دولة الاحتلال الراهنة؛ حيث تبدو أرض الميعاد وقد انقلبت إلى أقذر دار عهر، لأشدّ ما في العولمة من تجليات وحشية. وكانت صحيفة «لوموند» الفرنسية، وليس هذه السطور، هي التي اعتبرت أنّ أحد مشاهد الشريط يذكّر بفظائع أوشفتز والـ»هولوكوست»؛ مع فارق أنها هذه المرّة تجري بأيدي اليهود أنفسهم، أبناء وأحفاد الضحيّة السابقة. وليست «لوموند» ولا هذه السطور، وراء قرار غيتاي أن يطلق على دار البغاء في الشريط اسم… «أرض الميعاد».
الفيلم يروي حكاية نصف دزينة من الصبايا القادمات من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق (إستونيا، ليتوانيا، أوكرانيا…)، جرى تهريبهنّ إلى دولة الاحتلال بواسطة شبكات تنظمها مافيات روسية وإسرائيلية وأخرى وسيطة، عبر محطّات تبدأ من القاهرة وبور سعيد وصحراء سيناء ورام الله وإيلات، وتنتهي في حيفا. الصدمات تتعاقب في الشريط على هيئة مشاهد متلاحقة ذات إيقاع سريع لاهث، تحت وطأة كاميرا محمولة باليد أو على الكتف، تتعمّد خلق حسّ الريبورتاج والتوثيق أكثر من السرد أو بناء حبكة، بل تبدو أحياناً أشبه بالكاميرا الخفيّة.
حافز صحيفة «لوموند» إلى استعادة أوشفتز كان مشهد حمّام جماعي تخضع له الفتيات حال وصولهنّ إلى المنتجع العائم على البحر: ضمن إيقاع سريع ومشاهد ثقيلة الوطأة بالفعل يتمّ تجريد الفتيات من ثيابهنّ، ويجري رصفهنّ على منصّة معدنية تطلّ على البحر، ثم توجّه إليهنّ خراطيم مياه ضخمة؛ تماماً كما في غسل الماشية أو تطهير أجسادها بالمبيدات! ثمة أيضاً ذلك المشهد الجارح المزدوج: في مستوى أوّل، يقلّب أفراد المافيا ما بين أيديهم من بضاعة اللحم البشري؛ وفي مستوى ثان، تتداعى ذكريات ديانا الإستونية عن صلاة الأحد في موطنها، وذكريات روز الأوروبية عن ترتيل المزمور 221: «فرحتُ بالقائلين إلى بيت الربّ نذهب. نقف أرجلنا في أبوابك يا أورشليم. (…) ليسترحْ محبّوكِ. ليكنْ سلامٌ في أبراجك، راحةٌ في قصورك».
هذا شاهد من أهلها، قد يقول قائل يمتدح حرية التعبير في دولة الاحتلال؛ وهذه مساجلة صحيحة من حيث الشكل فقط، لأنها من حيث المضمون لا تسري إلا على «أهلها» من داخل البيت، حصرياً؛ الأمر الذي لا يحجب الحقّ في ردّها إلى سياقاتها الفعلية، آتية من قلب فاشية الكيان وكامنة في الباطن الأعمق من مسوخه وتشوهاته.
القدس العربي
————————–
من أجل العدالة/ خليل النعيمي
11 كانون الأول 2023
لا تُغمض عينيك عمّا ترى. أنظر. الوعي أهمّ من المعرفة. لا تبتذل المشهد الفجائعي الفلسطيني بآراء لا جدوى منها. إفهم المقصود من الدمار والخراب، والموت والفاجعة. هذا لا يحدث عبثاً. ليس ثمّة عبث في الواقع. ما تراه ليس مسرحية، إنه الموت الأحمر الذي يعانيه الفلسطينيون. يعانونه ظلماً، وبمعرفتنا نحن الذين نشاهدهم يعانون، ولا نفعل شيئاً. لا جدوى من الصمت، ولا من الانفعال المكبوت. لا من المعاضدة، ولا من التوتر الفارغ. لا من الانحياز، ولا من عدمه، أيضاً. المسألة أكبر من هذه المفهومات كلها. إنها مسألة الحق في الحرية والوجود. والموت العاصف الذي يلفّ الفلسطينيين لا تُواجِهه إلا الحياة، الحياة الواعية التي أدركتْ سبب وجودها وضرورته: المقاومة. وهو ما يفعله، اليوم، الفلسطينيون الأُباة، في وجه الاستعمار الصهيوني الاستيطاني الطامع في ابتلاع أرضهم، وإبادتهم، قبل أن يتفرّغ للجيران: قبائل العرب المسمّاة دُولاً، تلك التي لا تزال غائبة عن الوعي، بلْ هي دول صورية بلا دَوْر تاريخي يُذكَر. «قبائل اقتلْ جاري، لكن، دعْني أحيا، أحيا ولو بلا أمل في النجاة».
لا تَسْتسْهِل القِلّة، ولا تأمن إلى الكَثْرة. حال العالم العربي اليوم تشبه حال هنود أمريكا حينما غزاها الأوروبيون في أواخر القرن الخامس عشر. كان الغُزاة قِلّة في مواجهة قارة راسخة الحضارة، عديدة الأقوام: الإنْكا، المايا، الآزْتيكْ، لكي لا نذكر إلا القبائل العظمى منهم. بخبث لا مثيل له إلا خبثهم الآن مع قبائل العرب اللاّهية، فَرّق غُزاة أوروبا الدمويون بين الممالك الهندية إلى أن قضوا عليها جميعاً.
قضوا على الامبرطوريات التاريخية، واحدة بعد أخرى، مستغلّين الخلافات التافهة بين مكونات الهنود الذين لم يكونوا يعرفون ما هو الاستعمار، وبالخصوص في شكله الاستيطاني اللاإنساني، الذي نعرفه نحن الآن. نحن «هنود الشرق» الذين نعرف أكثر ممّا يعرف الناس، كلهم، مآسي الاستعمار وويلاته، لماذا نتفرّج خانعين على تدمير غزة، وإبادة سكانها، بقوة الحديد والنار، دون أن نحرّك ساكناً؟ هل هو الخوف؟ أم هو العمى، أم هو الجهل؟ أم هو الاستسلام الخائب لمن يريد أن يُبيد أهلنا، ونحسب أنه لن يؤذينا، كما حسب، قبلنا، الهنود الذين «كانوا أبرياء»؟ لكننا، نحن، لسنا أبرياء من دم أهلنا في غزة مهما تدبَّرْنا من أعذار ومهاترات. المقاومة لا دين لها. والسياسة بلا استراتيجية تاريخية عبث محض، حتى لو دَرّتْ مليارات الدولارات. النقود ليست وعْياً اجتماعياً، ولا هي حِكْمة، ولا هي حضارة حتى لو بَنتْ أبراجاً من زجاج، وإن كانت تساعد الحاكم على قهْر المحكومين، ويمكن لها إن تنشئ مهرجانات باذخة، وبرّاقة، لكن بلا مستقبل، أو إبداع.
والآن، ها هم الفلسطينيون يتعرضون لغزو استعماري بواسطة قوّة صهيونية «سبارطية» مدعومة من الغرب العتيق بمنطقه الحديث المفعم بالزيف، مرتكزة على مزاعم دينية واهية، واعتبارات أسطورية بلا يقين. ونحن نبدو لا مبالين، أو لسنا مُبالين بما فيه الكفاية. لا حول لنا، ولا قَوْل. وحده، فعل المقاومة الفلسطينية الشجاع، الذي هو فعل جسدي حيّ، وليس فكراً لاهوتياً ميتاً، يمنحنا بصيص أمل يتراءى لنا في نهاية النفق الذي تفرضه علينا همجية هذا الاستعمار الجديد اللامعقول. المقاومة، إذن، وليس الثروات الباذخة التي لا جدوى فيها دون حرية، هي هدفنا المجيد. ومع ذلك، ما نزال نتفَرّق صامتين، متابعين استسلامنا للكارثة التي ستجتاحنا، قريباً، بلا ريب، وربما، تُلقي بنا في مهاوي العدم.
وفي النهاية، إذا لم يكن انحيازنا للدفاع عن أهل غزة المظلومين حقّاً بسبب الانتماء الإنساني، والغيرة الأخلاقية، والوضع الجغرافي، فليكن من أجل العدالة.
كاتب سوري
القدس العربي
—————————–
جهاد القاعدين… أو «العجز» بوصفه ثقافة عربية/ محمد سامي الكيال
7 – ديسمبر – 2023
أدت دعوات مقاطعة المنتجات والشركات، التي من المُفترض أنها داعمة لإسرائيل، لكثير من الجدل في عدد من الدول العربية، بين من يحاولون البرهنة على فعالية تلك الدعوات؛ وآخرين، يسخرون من الفكرة بأكملها، في سياق الشرط الحالي للاقتصاد العالمي، وعجز كثير من البلدان العربية عن تأمين احتياجاتها المحلية. هذا الجدل أيديولوجي أولاً وأخيراً، بغض النظر عن مدى دقة حجج الطرفين، فموضوعه الأساسي ليس قدرة السوق العربي على التأثير في سياسات وانحيازات شركات عالمية، وإنما قدرة البشر في المنطقة على الفعل من الأساس، أو تغيير أي شيء. ربما ما يريد أنصار المقاطعة إثباته، أن الأفراد ليسوا عاجزين، وإنما بإمكانهم التضامن ولو «بأضعف الإيمان»؛ فيما يتهكّم ناقدوها على كل ذلك النوع من «الإيمان» ويحرصون على تذكير الناس بعجزهم.
يبدو «العجز» إذن سؤالاً مركزياً، منذ الهجوم الإسرائيلي على غزة. قبله بقليل ناصر كثيرون عملية «طوفان الأقصى» لأنها أشعرتهم بتجاوزه، وبكل الأحوال فهو ليس سؤالاً جديداً في تاريخ القضية الفلسطينية، إذ تربّت أجيال على ربط كل ما يتعلّق بمأساة الفلسطينيين بـ«التخاذل» العربي، لدرجة يمكن القول فيها إن مشاعر الغضب والعار، المرتبطة بالعجز، تأسيسية في الثقافة العربية المعاصرة، وتلعب دوراً شبيهاً بوظيفة شعور الذنب في عدد من الأديان العالمية، لكن هل العرب عاجزون فعلاً؟
إذا كان تعريف العجز هو عدم القدرة على الفعل، فالإجابة ستكون بالنفي بالتأكيد، فقد فعل سكان هذه المنطقة كثيراً من الأشياء عبر تاريخها الحديث: خاضوا حروباً؛ خرجوا بثورات ضد حكامهم؛ انضموا لحركات مقاومة وميليشيات؛ بل أرسلوا جهاديين إلى دول الجوار ومختلف أنحاء العالم. أما إذا كان المقصود هو عدم القدرة على تحقيق أهداف معينة، لظروف ما مُعرقلة، فربما كان الأفضل وصف الحالة بـ«الفشل» وليس العجز. وسواء استعملنا المفردة الأولى، أو الثانية فمن غير الواضح ما المطلوب، الذي يجعل الناس يغرقون بالمشاعر السلبية. هل المطلوب دخول حرب مع إسرائيل؟ إسقاط الأنظمة العربية القائمة «المتخاذلة»؟ إيصال المساعدات والعتاد الحربي إلى قطاع غزة رغماً عن الجيش الإسرائيلي؟ تدمير اقتصاديات الدول الداعمة للعدو؟ هل هذه أهداف، يمكن أن يشعر المرء بالعجز أو الفشل، بسبب عدم قدرته على تحقيقها؟
ربما كان الشعور بـ»العجز» أعقد مما يبدو عليه لأول وهلة، ولذلك قد يمكننا طرح أسئلة أخرى لمحاولة فهمه: لماذا يبدو شعوراً طاغياً، في منطقة تشهد كثيراً من الأفعال السياسية والعسكرية؟ وما الدور الذي يلعبه في ثقافة سكان المنطقة، وفهمهم لذاتهم والعالم؟
الحق كله
يُقال عادة إن الأفراد والجماعات يجب أن لا تطرح على نفسها إلا أهدافاً قابلة للتحقيق، ويدور الجدل حول معنى «الواقعية» و«العقلانية» في تحديد الأهداف، إذ يؤكد كثيرون فقر الطرح التقليدي، المدّعي لتلك الصفتين، الذي تنقلب عقلانيته وواقعيته إلى نقائضهما، بسبب تجاهله عوامل الخيال، والرغبة والمعتقد والإيمان. إلا أن كل هذا النقاش قد لا تكون له علاقة بشعور «العجز» العربي، فنحن هنا لا نتحدث عن حدود منطقيّة الأهداف، بل عن انعدامها من الأساس. يصعب رصد أي تحديد فعلي، على مستوى اللغة السياسية والقانونية، لما يريده فعلا كل أولئك العاجزون، ما لدينا فقط هو تعبيرات بلاغية عن بشاعة العالم، وحشية العدو، خيانة الحكّام، صعوبة الظروف. وهي أشياء قد لا تنتهي إلا في عالم مثالي، أو ربما في الجنة، وبالتالي فربما ما يريده ضحايا شعور العجز هو ما يعتبرونه الحق كله، كاملاً غير منقوص، ودون حتى تحديد معالم المراحل الوسيطة، للوصول إليه.
قد يمكن تفسير هذا النزوع بانعدام السياسة، بمعناها الكلاسيكي، في معظم الدول العربية، خاصة الأقرب لفلسطين، إذ لم يوجد كثير من القوى والتنظيمات النشيطة والراسخة، المعبّرة عن فئات اجتماعية فعليّة، تطرح برامج أو مطالب، وتعيّن لأنفسها أهدافاً، سواء كانت مطالب فئوية أو طموحاً للوصول للسلطة، وإدارة البلاد بأكملها. إلا أنه من الصعب تفسير الحالة بعوامل تتعلق بالسلبية والعطالة، مثل أن البشر لم «يتدرّبوا» على السياسة في بلدانهم، بل أيضاً بعوامل إيجابية و»منتجة» فنمط السلطة في تلك الدول لا يقوم فقط على المنع والقمع، وإنما مُنتِج أيضاً لأيديولوجيا مركزية عن «الحق الكامل» الذي تبني الأنظمة شرعيتها عليه، وتبرر ممارساتها على أساسه. يقوم على ذلك «الحق» جانب كبير من تعريفنا لذواتنا، وفهمنا لموقعنا من العالم، ففي مجتمعات تقوم روايتها السياسية المؤسِّسة على الإنكار المبدئي لتعددية وتضارب المصالح والرؤى والمعتقدات داخلها، لحساب قضية أكبر، يصبح الأفراد جزءاً من «أمة» أحادية الهوية والعقيدة، لديها حكاياتها الثابتة عن المظالم التاريخية، والأعداء والأصدقاء، كما أن المعارضات فيها لن تكون إلا مزاودة على «الحق» الذي عيّنته السلطة نفسها، واتهاماً لها بالعجز عن تحقيقه، فهي لم تحرر الأرض؛ لم تسترجع الأمجاد؛ لم تنظّم المجتمع وفق العقيدة الجوهرية؛ ولم تنتصر على الأعداء التاريخيين. ومن اللافت أن كل الأيديولوجيات التي مرّت على المنطقة، تأقلمت تماماً مع منظور «حق الأمة» هذا، ليس فقط الإسلام السياسي والقومية العربية، بل حتى اليسار الماركسي، واليوم «اليسار» الهوياتي، المتأثر ببعض مخرجات الأكاديميات الغربية، إذ لدينا من يشعرون بالعجز لأنهم لا يستطيعون، بوصفهم ضحايا «ماضٍ كولونيالي» تحرير فلسطين من البحر للنهر، نصرةً لـ»السكان الأصليين» ضد سياسات «الرجل الأبيض».
يشترط ذلك التعيين المتعالي للحق الكامل شعورَ العجز بالضرورة، فلا أحد يمكنه أن يطال المثال غير الموضّح بأهداف «دنيوية» إن صح التعبير، وبالتالي الجميع عاجزون دائماً، لكن المفارقة أن «العجز» هنا محرّك قوي للفعل، وليس منتجاً للسكون والخضوع، وفي كثير من الأحيان يكون الأداء الناتج عنه شديد العنف والقمعية.
استعصاء المساجين
سبق للمفكر الإيطالي أنطونيو نيغري التمييز بين نوعين من الاحتجاج: «التحطيم العمالي للآلات» و»استعصاء المساجين» وهو تمييز مُستلهم من تجربته السياسية في إيطاليا، التي أمضاها بين الحركات العمالية والمعتقلات، لكنه نافع في سياق تحليل سياسات العجز التي نعيشها. في الحالة الأولى يتمرّد عمال مُستَغلون على التنظيم التقني/السياسي المفروض عليهم، ويرفضون الخضوع لنمط العمل الانضباطي في المعامل الكبيرة، فيحطمون آلاته، والتنظيمات المرتبطة بها، عبر احتجاجات اجتماعية، تجبر مشغّليهم ومديريهم على اعتماد تقنيات جديدة، ما يساهم في إعادة استملاك «العمال الاجتماعيين» لموقعهم ضمن عمليات الإنتاج والتنظيم الاجتماعي. التمرّد هنا تعبير عن رغبة في الاستمرار الحيوي للبشر، ضد تنظيمات ساحقة لهم، ومحاولة لتحطيم جدران المؤسسات الانضباطية، غالباً ما يترافق بأحداث احتفالية، تصل إلى درجة «العربدة» و»الإباحية» من منظور السلطة. أما في حالة «استعصاء المساجين» فنحن أمام مجموعة من الأجساد المكدسّة في زنازين، غير منتجة، وغير عضوية في أي عملية اجتماعية، ومنفصلة عن أي تنوّع حياتي، يقوم أصحابها بافتعال الأذى فيها: يجرحون أنفسهم، ويمزّقون جلودهم وملابسهم، ويقومون بأفعال انتحارية، غير عابئين بنتائجها عليهم وعلى غيرهم، وينتهكون زملاءهم غير المشاركين في الاستعصاء. هذا التمرّد اليائس مدفوع بالعجز، وانعدام الأفق، وغياب الأهداف الفعلية، ويكرّس حالة السجن. تصبح الحياة نفسها عبئاً مؤلماً في حالة المستعصين، فلا يبقى أي غاية لهم إلا لفت أنظار سجّانيهم: هنالك أجساد تصرخ هنا! هل نحن «أمة» من المساجين؟
تحطيم الماكينة
يمكن القول إن كثيراً من أعضاء الجماعات الجهادية والميليشيات، بل النخب والناشطين أيضاً في العالم العربي، يبدون أشبه بـ»أبطال» الاستعصاءات، فهم يهددون دائماً بطوفان من الأجساد فاقدة الرشد، الممزقة والنازفة والانتحارية، وهذا التهديد لا يطال العدو فقط، وإنما مجتمعاتهم أيضاً. إلا أن «السجن» الفعلي الذي نعيش به، وينتج دائماً هذا النوع من الاستعصاء العاجز، ليس الظروف السياسية والاجتماعية السيئة بحد ذاتها، فكثير من المجتمعات عاشت ما هو أسوأ، ولم يكن خيارها «الاستعصاء».
قد يكون سجننا هو منظور «الحق» المعادي للسياسة والمجتمع، والمرتبط بتكوين أممنا ودولنا وثقافتنا الجماهيرية، وهو ما يحيطنا بجدران فكرية صلبة، تُشعرنا دائما بالعجز، وتدفعنا للتصرّف على أساسه. إذا أبعدنا مسألة فلسطين عن هذا المنظور، فربما سنكتشف أن الأفضل لها، ولأهلها من بشر فعليين، أي للفلسطينيين الواقعيين، وليس «رموز الأمة» الابتعاد عن الأفعال الانتحارية، المدمرة للمجتمعات، والتفكير بدلاً من ذلك بـ»الماكينات» التي تنتج اضطهادنا واستغلالنا، وربما «أمتنا» نفسها، والعمل على تحطيمها، بأسلوب يتيح متنفّساً أكبر لحيويتنا الحياتية والاجتماعية، بدلاً من تمزيق جلودنا نحن.
ربما فات الأوان، إذ يتعرّض الفلسطينيون لحرب إبادة، قد تنهي وجودهم السياسي في المنطقة، بوصفهم شعباً، لكن استمرار التفكير بمنطق «العجز» إياه لن يساعدهم، وربما سيؤدي لإبادة شعوب أخرى.
كاتب سوري
—————————-
حرب إسرائيل على غزة بوصفها تكثيفاً لحرب الأسد على سوريا/ بكر صدقي
6 – ديسمبر – 2023
القدس العربي
تشبه الحرب الإسرائيلية على غزة حرب نظام الأسد على سوريا في وجوه كثيرة، في همجيتهما وإطلاقيتهما وعدم اكتراث المعتديَين بالأعراف والقوانين الدولية والدعم المطلق لحلفائهما. بالمقابل امتدت الحرب الأسدية على سوريا لفترة أطول تعد بالسنوات، في حين أن الحرب الإسرائيلية لا يمكن أن تعد إلا بالأسابيع والأشهر، نعرف ذلك وإن لم تنته بعد. وجغرافياً شملت حرب الأسد على سوريا مساحة أوسع بكثير في مقابل مساحة غزة الصغيرة، حتى لو أضفنا إليها الضفة الغربية التي تتعرض بدورها لوحشية الجيش والمستوطنين الإسرائيليين، ولا يمر يوم واحد بدون سقوط قتلى فلسطينيين، وغالباً مدنيين.
العدد المهول من القتلى المدنيين هم المشترك الآخر في نتائج الحربين على كل من سوريا وغزة. وإذا كان عداد القتلى في غزة يعد بشكل يومي، فقد توقف عد القتلى في سوريا بعدما تجاوز نصف المليون، ولا يعرف أحد إذا كان هذا العدد قد تجاوز المليون أم لا. علينا عدم إهمال الفارق بين عدد القتلى بنسبتهم إلى عدد السكان الإجمالي، فبإدخال هذا العامل يتراجع الفارق بالنظر إلى أن عدد السكان في سوريا يبلغ نحو عشرة أضعاف عدد السكان في غزة، مع العلم أن الحرب على غزة لم تتوقف بعد.
المقارنة في الجانب السياسي تظهر أيضاً تشابهات واختلافات. تمكن نتنياهو من حشد رأي عام إسرائيلي كبير داعم لحربه، تجسد في حكومة الحرب التي شاركت فيها القوى المعارضة له أيضاً. وتمكن نظام الأسد من استمالة قطاع مهم من الفئات الاجتماعية التي دعمت حربه على غالبية السوريين. وخارجياً حاز نتنياهو على تأييد ودعم جميع الدول الغربية، وبعض الدول الأخرى، وصلا إلى مستويات غير مسبوقة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي والفلسطيني الإسرائيلي. وحاز نظام الأسد على دعم وتأييد دولتين من الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن إضافة إلى إيران، مقابل معارضة رخوة من دول إقليمية ودولية، تمكن بفضل كلا الدعم القوي والمعارضة الرخوة هذين من البقاء في السلطة. وسهّلت القوى الإسلامية التي تصدرت مشهد المعارضة منذ السنة الثانية من الثورة في سوريا مهمة النظام الأسدي في دفع المجتمع الدولي إلى القبول ببقائه حتى لو كان ذلك على مضض. بالمقابل سهّلت الهوية الإسلامية لحماس (والجهاد) مهمة إسرائيل في تسويغ حربها الوحشية على الفلسطينيين وكسب تعاطف الرأي العام العالمي، وبخاصة ممارسات مقاتلي الفصيلين في عملية طوفان الأقصى التي تضمنت قتلاً لعدد كبير من المدنيين في غلاف غزة.
بيد أن التشابه الأكبر بين الحالتين الفلسطينية والسورية إنما يكمن في استنقاع قضيتي الشعبين على مدى زمني كبير وفقدان الأمل بإيجاد حل منصف لهما حرباً أو بالسياسة. لقد ظهرت المقاومة الفلسطينية في أواخر الستينيات بعد فشل الأنظمة العربية في حربي 1948 و1967 في تحقيق أي انتصار على إسرائيل، ثم فشلت مرة أخرى في حرب 1973 التي جاءت مبادرة الرئيس المصري أنور السادات بالانفراد في حل سياسي أولويته استعادة الأراضي المصرية التي احتلتها إسرائيل في الحروب السابقة. سبقتها الحرب الأهلية في لبنان، وتبعتها الحرب الإسرائيلية على لبنان في العام 1982، ليشكلا معاً البيئة التي تنتقل فيها المقاومة الفلسطينية من هدف تحرير كامل التراب الفلسطيني إلى الموافقة على إقامة دولة فلسطينية على جزء منها.
لا الحروب ولا المقاومة المسلحة ولا انخراط منظمة التحرير الفلسطينية في عملية أوسلو حققا ولو شيئاً بسيطاً من حقوق الشعب الفلسطيني وتطلعاته إلى دولة مستقلة ذات سيادة. فإسرائيل المدعومة من حكومات الدول الغربية وبخاصة التزام واشنطن الثابت بتفوقها العسكري على مجموع الدول العربية المعنية بالصراع، تمكنت من الإفلات من أي التزام بمقتضيات قرارات مجلس الأمن الخاصة بالصراع العربي الإسرائيلي وكذا مقتضيات اتفاق السلام الموقع مع منظمة التحرير.
وهكذا وصلت الأمور إلى وضع لا يطاق في الأراضي الفلسطينية المفترض أنها تحت سلطة الفلسطينيين، وصولاً إلى طوفان الأقصى الذي كان، في وجه منه، بمثابة تذكير للعالم بالسجن الكبير الذي يعيش فيه الفلسطينيون سواء في غزة أو الضفة الغربية.
الصراع في سوريا، بالمقابل، تحول من ثورة تحررية قام بها شعب لم يعد يتحمل حالة الطوارئ التي تثقل عليه منذ فجر الثامن من آذار 1963 تاريخ الانقلاب العسكري الذي قام به ضباط البعث، واستفحلت هذه الحالة أكثر بعد العام 1980، حين فرض على السوريين نظام شبيه بالأنظمة الفاشية يقوده رجل مهووس بالسلطة، حافظ الأسد، أبّد نفسه حاكماً أوحد، وورّث الحكم لابنه حين اقترب أجله. ما فعله الأب في بين العامين 1980 و1982 في بعض المدن السورية من ارتكاب مجازر مهولة واعتقال عشرات آلاف البشر، كرره الابن بأحجام مضاعفة بعد اندلاع الثورة على نظامه في 2011، فهجّر نصف السكان ودمر نصف العمران واعتقل مئات الآلاف وقتل ما يقارب المليون من السوريين، ورهن مصير البلاد لقوى أجنبية.
تدخلت الجامعة العربية لإيجاد حل سياسي، منذ العام الأول للثورة، ثم انتقلت المهمة إلى مجلس الأمن، لكن الحل كان يبتعد أكثر وأكثر بدلاً من أن يقترب.
وهكذا استنقعت قضية السوريين كحال قضية الفلسطينيين، وتحولت عناصرها ومفرداتها هنا وهناك، من الهدف الأقصى إلى أهداف «أكثر واقعية» كما يقال، لكن الحل واصل الابتعاد كما السراب في صحراء.
كاتب سوري
القدس العربي
————————–
عن بعض ما قبل حرب غزة/ موفق نيربية
5 – ديسمبر – 2023
توعّدت حماس والجهاد الإسلامي إسرائيل بردّ قاس غير مسبوق منذ الصيف الماضي، إثر تكرار الاختراقات التي يقوم بها المتطرّفون والمستوطنون للمسجد الأقصى و»تدنيسه» كما جرى التعبير يومها. واعتقد البعض أن الردّ سيكون خلال أيام أو أسابيع معدودة، حين لم يتذكّر الكثيرون تلك التهديدات الصيفية الحارّة، واللافتة، رغم ذلك، ما يزال صعباً أن يحاول المرء النظر في الأسباب التي دفعت حماس إلى ذلك الهجوم.
قبل أي نقاش وجدل، لا بدّ من الإقرار بنجاح حماس القاطع بالتفوّق في مجال التكتّم على نواياها، والتفوّق في التخطيط والتنفيذ على الاستخبارات الإسرائيلية، وفي الاستعراض الباهر لإمكانية التلاعب بكلّ الإجراءات الأمنية الخارقة من جهة إسرائيل في منطقة الهجوم وغلاف غزة خصوصاً. لكنّ نشوة تلك النجاحات ينبغي ألّا تخفي ظلال المعاني الأخرى، رغم أن الوقت ما زال مبكّراً على ذلك. يبدو هذا الأمر مهماً بشكل إضافي بعد بدء ورود تسريبات عن أن الاستخبارات الإسرائيلية، استحوذت منذ عام على مخططاتٍ ذات صلة بما حدث بالفعل في السابع من أكتوبر.
لا يمكن أن يُقال إن عملية» طوفان الأقصى» جاءت من فراغ، فقد هيّأ لها تعثّر العملية السياسية، وتهلهل السلطة الوطنية، وانحطاط السياسة الإسرائيلية حتى لجوء نتنياهو إلى يمين متطرّف من خارج الزمان، للتحالف معه في تشكيل حكومته، هروباً للأمام من كلّ الإجراءات القانونية التي تهدده كشخص وكسياسي فاسد. تشكيلة الحكومة هيّأت لتلك القوى مناخاً متوتّراً، مكّنها من الاستفزاز واللجوء إلى سياسات وإجراءات وتصريحات من أقصى تعبيرات العنصرية، والخروج عن المنطق. هنا يمكن لمن أراد أن يعتبر إسرائيل في حالة ضعف يبرّر الهجوم، أن يجد فرصة له. لقد قامت حماس ورفاقها حتماً بالتحضير لمثل هذه العملية على مدى سنوات، بانتظار اللحظة المناسبة أو الحاسمة. وعلى الرغم من كلّ العون الإيراني المعلن، فقد اعتمدت في تصنيع الصواريخ والمسيّرات وغيرها على أعضائها، وعلى ورشاتها السرّية الخاصة، بعد تأمين» التكنولوجيا» والـ»المعرفة العملية».. يبقى أن حجم ساعات العمل الأكبر كان من حصة حماس وتخطيطها ونظام عملها. هذا مثار إعجاب تقني أيضاً.
في أسباب «طوفان الأقصى»، أو عملية السابع من أكتوبر، تحدثت حماس عن معاناة الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس وغزّة، وعن أعمال العنف التي يقوم بها المستوطنون وقادتهم في الحكومة، وعن إساءة معاملة الفلسطينيين من قبل قوى الأمن، وعن الأعداد الكبيرة من المعتقلين الذين ينبغي تحريرهم، كما حدث يوم جلعاد شاليط وحده، فكيف إذا أمكن احتجاز عدد كبير من الرهائن مدنيين وعسكريين، كما حدث بالفعل! والمشهد الخلفي كان عملياً «تدنيس» المسجد الأقصى، كما ورد أعلاه. لكنّ هنالك ما يدفع إلى التفكير أبعد من كلّ ذلك، رغم وجاهته، خصوصاً ما يتعلّق بمسار المسألة الفلسطينية – العربية ـ الإسرائيلية، والصراع على المكانة والدور القائد فلسطينيّاً، وما يتطلبه من تلبية للمتطلّبات الخارجية.
في عام 2010 قال خالد مشعل في معرض الجدل حول المصالحة الفلسطينية: «قلت إننا نوافق على دولة فلسطينية بحدود 67 مع تحقيق حق العودة للاجئين، وأن تكون هذه الدولة ذات سيادة، أما حل الدولتين فهو مرفوض لأن ذلك يعني اعترافا بإسرائيل، أما مبادرة السلام العربية فنحن متحفظون على ما تتضمنه من الاعتراف بإسرائيل، ومع ذلك فإننا لن نقف حجر عثرة أمام هذه المبادرة». وبقي جوهر موقف حماس بعد تحررّها النسبي من ميثاقها، هو أنه لا مانع مرحلياً من الموافقة على قيام دولة فلسطينية على حدود 1967، شرط عدم الاعتراف بإسرائيل. وبالطبع يضمن هذا الشرط الالتزام بجوهر الميثاق المذكور في الأوقات المناسبة. يلتقي هذا الموقف في الحقيقة مع الموقف الإيراني، ومع مواقف الكثير من العرب والمسلمين، الذين لا يرفضون حلّ الدولتين، بل يعلنون قبوله دائماً، وخصوصاً عندما تكون على الصفحات الأولى أخبار إسرائيلية مضادّة له.
يرى بعض الإيرانيين في إصرار بلادهم على المطالبة بإجراء استفتاء عام في الأراضي الفلسطينية، وتحفظها الدائم على حل الدولتين، تدخلا في شؤون الآخرين، إذ تساءل أستاذ العلوم السياسية صادق زيبا كلام في مناظرة عن الجهة التي فوضّت طهران بأن تكون «كاثوليكية أكثر من البابا» في القضية الفلسطينية، وطالب بالإجابة عن سؤال: من أوكل إلى طهران مهمة القضاء على إسرائيل، «الموت لإسرائيل… الموت لأمريكا» تتردّد أصداؤها يوميا هناك.
لكنّ واقع الأمر ببساطة أن الحكومة الإسرائيلية الحالية نفسها، نسفت حلّ الدولتين أو قاربت على إنجاز جنازته، فلماذا كلّ هذا التعب وتلك التضحيات لإسقاطه، وتحمّل مسؤولية ذلك أمام المجتمعين الإقليمي والدولي لاحقاً، عند خفوت ضجيج الحرب؟ وما زال المعنيون- نظرياً- يردّدون أهمية حلّ الدولتين رغم راديكالية هذه الحرب وآفاقها المفتوحة على تغيير واقع الحال، لا يصمت عن ذلك أحدٌ سوى الطرفين المتقاتلين مباشرة، اللذين تُسقط حربهما بالفعل احتمالات التسوية على ما درجت عليه الأطراف الأخرى، خصوصاً حين يرتبط حلّ الدولتين باتفاقات أبراهام، لفظياً على الأقل!
خلف ذلك بالتأكيد أشياء أخرى أيضاً، لعلّ أهمّها «السلطة»، كطموح بشري أولاً، ثمّ كفعل إيمان، لا يستغرب الإنسان توفّره إلى هذا الحدّ، أو ذاك لدى الطرفين. في لحظة مناسبة قد يكون ممكناً استنهاض براغماتية الإخوان القصوى من كمونها، وتحريض مثيلتها لدى الطرف الآخر، لكنّ ذلك يحتاج في الأعمّ الأغلب إلى تغيير جذري في بعض مكوّنات واقع الحال في الجهتين. حتى ذلك الحين، لا بدّ من النظر في «جهتنا» نحن أولاً. ابتدأ التنافس والصراع منذ وقت طويل بين حماس وفتح من داخل الإخوان المسلمين، حين ذهب عرفات ورفاقه باتّجاه القتال، وذهب الشيخ الياسين ورفاقه باتّجاه العمل الدعويّ والخيري لتهيئة المجتمع للتغيير المطلوب. أُعجِب الإسرائيليون يومها بالموقف الأخير ودعموه نظرياً، وغالباً عملياً أيضاً، حين اقتنعت فتح بجدوى العمل «السلمي» عندما لاحت إشارات الانتفاضة الأولى، وحققت نجاحات سياسية باهرة، بقيادة الإخواني السابق والقائد العسكري الأبرز في فتح أبو جهاد، تشكلت «حركة المقاومة الإسلامية – حماس» وابتدأت بحشد قواها وتعزيز تدريباتها وتأمين السلاح والذخيرة. كان الصعود أسهل لأن الطرف الآخر كان قد تعرّض لضربات عديدة، وابتدأ بالهبوط.. مع بحّة بصوته. الإسرائيليون لم يكونوا بعيدين على الإطلاق، واستسهلوا الاعتماد على تفريق صفوف خصومهم. كان عقد الألفية الأوّل حاسماً، ونجحت حماس في الانتخابات، ثمّ تمّ اختطاف نجاحها وتمييعه، ما سهّل تعزيز الخطّ المبدئي فيها، وهيمنت على غزة مباشرة. أصبحت طرفاً فلسطينياً ثانياً، قادراً على المنافسة. واستمرّ ذلك الصعود مع تدهور وضع وسمعة السلطة الفلسطينية، ومنظّمة التحرير وفتح، ما فتح أبواب الضفة الغربية بشكل أكثر اتساعاً نسبياً أمام الأكثر إقناعاً بجديّته وشبابه، بالتوازي مع صعود آخر لعصر نتنياهو الذي ساعد تطرّف سياساته مع حلفائه على إضفاء شرعية متزايدة لكفاحية مجاهدي حماس.
هذه ملاحظات ملتبسة وأولية بالتأكيد، وينبغي عدم الاستطراد أكثر هنا والآن، لأن مناظر الدم والخراب ما زالت تتكرّر أمامنا على الشاشة، وأمام الغزاويين على الأرض، ووحشية الردّ الإسرائيلي على «طوفان الأقصى» لا تُحتمل بكلّ المعايير. وما سبق هو تهويم سريع في وقت إغلاق تلك الشاشة، لا يكفي لإبعاد انطباع الصورة العميق في مؤخّرة الرأس.. وقف إطلاق النار يبقى المطلب المجدي حالياً!
كاتب سوري
القدس العربي
—————————
عبلة عوض بين نكبتين/ رياض معسعس
28 – نوفمبر – 2023
الفلسطينية عبلة عوض لم تتجاوز سنواتها الخمس عندما عاشت النكبة الأولى في العام 1948 عندما هاجمت عصابة إرهابية من عصابات الصهاينة منزلها وطردوها منه واحتلوه لتلجأ مع عائلتها وتسكن خيمة على تخوم غزة.
اليوم وقد تجاوزت الثمانين حولا تشهد نكبة ثانية في غزة لتعود وتسكن مرة أخرى خيمة مع ما تبقى من عائلتها بعد أن أجبرها صهاينة جيش الاحتلال اليوم على الهجرة إلى جنوب غزة مع مئات الألوف من الفلسطينيين الذين دمرت منازلهم وسويت بالأرض وقتل الآلاف منهم بقصف وحشي وبربري من قبل دولة الاحتلال.
واضطرت عبلة الهرب من مخيم جباليا للاجئين في شمال غزة بعد القصف الجوي الهمجي لدولة الاحتلال، ولجأت مع أعضاء مختلف الأجيال من عائلتها إلى مدينة الخيام في خان يونس، وما بين النكبة الأولى، والنكبة الثانية قضت حياتها بين الحروب والتشرد المرير والمصير المجهول.
نكبة العرب الأولى
الطفلة عبلة لم تع في نكبة العرب الأولى أنها ستفقد بيتها، وحيها، وأترابها، وأقاربها الذين تشردوا في بقاع متباعدة من الأراضي العربية المجاورة. عبلة في سنها لم تفهم لماذا تشردت، ولماذا يقتل الفلسطينيون، ولماذا تحتل أراضيهم.
قالوا لها في طريق التشرد: إنها مجرد بضعة من أيام ثم نعود، هكذا وعد زعماء العرب الأشاوس الذين خسرت جيوشهم الحرب على أبواب القدس مع عصابات الهاغانا والأورغون والشتيرن الصهيونية الإرهابية المدعومة من الجيش البريطاني المحتل.
رأت عبلة أمها تدس مفتاحا كبيرا في جيب فستانها المطرز، كان مفتاح بيتها الذي كانت تعتقد أنها ستعود إليه بعد عدة من أيام أخر، هذا المفتاح الذي علاه الصدأ منذ النكبة الأولى حملته عبلة اليوم ودسته في جيب فستانها في طريقها إلى خان يونس فهذا كل ما تبقى لها من ورثة أبيها، ولم تفقد الأمل يوما بالعودة إلى بيتها. عبلة ابنة السنوات الخمس لم تكن تعي أن بريطانيا وعدت الصهاينة بإنشاء “وطن قومي يهودي” في فلسطين، وأن أحدهم سيأتي يوما من أواسط أوروبا، أو من روسيا، أو من بلد بعيد وقريب ليحتل بيتها ويطردها مع أهلها، وتحمل مفتاحه معها أنى حلت في حلها وترحالها، وربما حمله أحد أبنائها من بعدها فهو مفتاح العودة التي لا بد منها مهما طال الزمن.
خان يونس
قالت عبلة وهي تفترش الأرض الرملية خارج خيمتها في خان يونس:” إن ما تشهده الآن يشبه ما حدث في النكبة التي شهدتها منذ خمس وسبعين سنة.
وأضافت “التنتين (الاثنتين) زي بعض،”أيه عملنا فيهم (ماذا صنعنا لهم) كل كام سنة يعملونا نكبات… متنا من الجوع، متنا من العطش، ما في حاجة ناكلها، أرحمونا… ليش (لماذا) بيعملوا فينا هيك طردونا من بلادنا وجينا ع غزة وين بيودونا؟ على البحر؟”
قالت عبلة وصوتها يتهدج بالبكاء “تعبت، والله ما أنا قادرة وأنا أحكي، تعبت ما قادرة والله زهقت يارب، والله زهقت يا رب من ها العيشة، زهقنا يارب، أرحمنا يا رب، التفتوا إلينا يا هاي الدول أرحمونا، جعانين… شردونا من دورنا، شردونا من بلادنا وودونا ع غزة”.
عبلة المستنجدة بزعماء العرب خاب ظنها كما خاب ظن الفلسطينيين، وكل الشعوب العربية بهؤلاء الزعماء الذين مارسوا وتمرسوا على الصمت، على مدار السنين الخمس والسبعين.
القمة العربية ــ الإسلامية
انعقاد القمة العربية ـ الإسلامية التي جمعت سبعا وخمسين دولة مؤخرا اعتقد البعض أنها ستخرج بقرار حازم جازم ضد الهجمة البربرية الصهيونية ونجدة إخوانهم الفلسطينيين، لكن سبعا وخمسين دولة لم تستطع أن تقدم شيئا سوى الصمت وبيان هزيل لم يقدم أو يؤخر مثقال ذرة في ميزان القوى الإقليمية والدولية، بل أن الهجمة البربرية لدولة الصهاينة ازدادت شراسة وإجراما وإيغالا بالدم الفلسطيني، حتى اللجنة المنبثقة عنه بدأت جولتها السياحية من بكين بتصريح لم يختلف عن بيان القمة.
عبلة الصبية شهدت جيش الاحتلال يجتاح غزة في حرب “نكسة” 67، وشهدت أيضا انسحابه منها بعد اتفاقية أوسلو (غزة أريحا أولا)، ولكن ها هو يعود ليقتل ويدمر من جديد في غزة والضفة وقوافل شهداء الفلسطينيين لا تنتهي، وها هم زعماء بني صهيون يطالبون بطرد الفلسطينيين من الضفة وغزة إلى مصر والأردن، وها هو الأردن ينشر جيشه على حدود الضفة ويهدد باندلاع حرب إذا ما قامت دولة الاحتلال بدفع الفلسطينيين للجوء إلى الأردن واعتبر أن هذه الجريمة تنقض اتفاقية وادي عربة.
فما فائدة الاتفاقيات مع الصهاينة الذين يضمرون مخططات أبعد من غزة، ومن الضفة ومن الأردن ومصر والسعودية وسوريا.
ما فائدة التطبيع إذن مع كيان “يتكتك” مرحليا، ويخطط استراتيجيا.
ماذا سيجني المطبعون من كيان لا يبحث سوى عن مصالحه الخاصة على حساب العرب ومستقبلهم وحياتهم أولا وأخيرا.
أليست حياة عبلة المريرة المشردة الجائعة المهانة تنطبق على ملايين الفلسطينيين والعرب.
لقد خدع هذا الكيان المصطنع شعوب العالم أنه ضحية الهولوكوست والمجازر في أوربا، وزعم أن الله وعده بأرض الأنبياء فلسطين التي ادعى أنها أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، وأنها كانت صحراء قفرا فحولها إلى جنة، وهل الله يعد أبا الأنبياء بأرض غير ذات أنس ولا زرع ولا ضرع؟
فكيف إذن وجد الشعب الفلسطيني، وضد من كانت عصابات الصهاينة الإرهابية تقاتل وتقتل، وتهجر؟
عملية “طوفان الأقصى” اليوم لم تكن طوفانا للأقصى فحسب، بل تحولت إلى طوفان عالمي قلبت الموازين والمفاهيم، ودحضت كل أكاذيب الصهيونية العالمية، أكنت تتفق مع حماس أم لا تتفق، لقد هبت شعوب العالم لنصرة فلسطين وإدانة البربرية والهمجية والجرائم ضد الإنسانية، لقد وعت هذه الشعوب من القطب الشمالي إلى القطب الجنوبي لأول مرة أن هذا الكيان هو كيان مصطنع ومغتصب وقاتل ومتمدد، وعنجهي، وأنه الدولة الوحيدة في العالم التي لا حدود لها معترف بها دوليا، وكشفت هذه العملية زيف الغرب “الديمقراطي المتحضر والحريص على حقوق الإنسان” ولا يذكر بمبادئه إلا وما يتطابق ومصالحه، وسياسة الوزنين والمعيارين، والميكيافلية، هي السياسة السائدة.
اليوم تكتب غزة العزة بدء تاريخ جديد لفلسطين، بل للعالم أجمع.
كاتب من سوريا
القدس العربي
——————-
الهاجس الفلسطيني: هل توجد «مسائل» في الثقافة السياسية العربية المعاصرة؟/ محمد سامي الكيال
30 – نوفمبر – 2023
يواجه استخدام اللغة العربية المعاصرة صعوبات كبيرة في ضبط المصطلحات والمفاهيم ودلالاتها، فالنسخة الحالية من العربية الكلاسيكية، بوصفها لغة كتابة وتعليم وإعلام، وحتى إنتاج أكاديمي، تطورّت بالتفاعل مع اللغات الأوروبية، عبر الترجمة أولاً، التي نقلت كثيراً من المفردات، من سياقها اللغوي والثقافي الأساسي، إلى اللسان والكلام العربي، وبالتالي فعندما نحتاج إلى ضبط معنى كثير من المفاهيم المستحدثة، التي نريد مناقشتها أو نقدها، فيجب أن نستخدم لهذا الغرض لغة أوروبية ما، بوصفها «ميتا لغة» أي لغة ورائية، تعمل على تحديد «حقيقة» أو «ماصدقية» العبارة التي نتداولها، وتساعدنا على فهم ما الذي نتحدّث عنه حقاً، فلا يضيع بين أخذ ورد، خاوٍ من أي معيار.
هذه الصعوبة، التي تحكم لغتنا، وبالتالي تفكيرنا، قد تكون لها انعكاسات سياسية مهمة، عندما نريد مناقشة موضوع بأهمية وتأثير «القضية الفلسطينية» التي تنبني عليها منظومات أيديولوجية وسلطوية وإعلامية كاملة في بلداننا. استخدام لفظ «قضية» حالياً مختلف عن استخداماته القديمة في المنطق والفقه الإسلامي مثلاً، وربما الأجدى، لفهم المقصود منه، الاستعانة بترجمته الإنكليزية الأكثر احتمالاً، وهي Cause، التي تعني، في استخدامها الاجتماعي والسياسي، مبدأً أو هدفاً يلتزم به المرء، ويكون مستعداً للدفاع عنه، وبالتالي يشير اللفظ إلى مجموعة مستقرة من الأفكار والرموز والعقائد المحددة بوضوح، والقادرة على التأثير العاطفي والوجداني في حاملها، الذي يلعب دور المحامي والمقاتل، للدفاع عن قضيته.
إلا أن أي «قضية» لا تنشأ وتتحدد بشكل طبيعي أو بديهي، فيجب أن تمرّ أولاً بمراحل تأسيسية، حتى تكتسب شكلها الفكري والوجداني الراسخ، ثم تمرّ بتطورات كثيرة، قد تغيّرها وتغيّر حامليها، وهنا يصبح مطروحاً إعادة النظر بكثير من مقولاتها وتحديداتها، وإعادة تأويلها بما يتناسب مع ما تغيّر في حياة البشر. هذا يعني نزع بديهيتها إن صح التعبير، ووضعها في سياق الظروف والقوى والمنظورات الثقافية التي شكّلتها تاريخياً، لكنّ هذا متعذّر في الثقافة العربية المعاصرة، ليس فقط في ما يتعلّق بالقضية الفلسطينية، بل تجاه أي قضية أخرى، مثل الروايات الرسمية عن نشأة الدول؛ ممارساتها وحروبها؛ التحرر الوطني؛ الهوية الجماعية؛ مصادر التشريع؛ قضايا الدين والعرف و«ثقافة المجتمع». تبدو الثقافة السياسية العربية المعاصرة مرهقة بقضاياها، وتتعامل مع كل ظواهرها بوصفها بديهيات، أو نتائج طبيعية لحقائق ثابتة. لماذا لا نملك إلا «القضايا»؟ بل لماذا لا نستطيع حتى تجاوز القضايا القديمة، وإنتاج أخرى جديدة؟
مشكلة الشفوية
قد يمكن تقديم إجابة تقليدية عن التساؤلات السابقة، وهي أن القضايا التأسيسية في المجتمعات العربية مستمرة لأنها لم تُحل بعد، فلا التحرر الوطني وصل لأهدافه، بإقامة «ديمقراطيات شعبية» غير تابعة للدول الاستعمارية؛ ولا النهضة والتنمية تحققتا؛ ولا فلسطين تحررت؛ ولا حتى «الأمة» وجدت مستقرها في الدول الوطنية القائمة، وبالتالي فإن طبقات وفئات متعددة، ستظل تحمل تلك القضايا، بسبب معاناتها من الأوضاع القائمة، وعلى رأسها الديكتاتوريات التابعة والاحتلال والتفاوت الاجتماعي. إلا أن هذه الإجابة ليست مقنعة على الإطلاق، لإن العجز عن الحل دافع أكبر لتجاوز القضايا، التي لم تنتج إلا الفشل. أليس من الممكن أن يكون السؤال المؤسِّس لـ»القضية» خاطئاً، ولا يؤدي لنتيجة؟
البحث عن الخطأ في العقل المنتج للقضايا الفاشلة قد يكون غير مفيد بدوره، إذ تفترض مقولة «العقل» وجود منطق أو بنية أو روح، مولّدة دائماً للأفكار والرؤى نفسها، ومن المستغرب ألا يتغيّر منطق أو بنية خلال عقود طويلة، أما «الروح» فيمكن أن تنصرف وتتلاشى، ولا يمكن مناقشة وجودها جدياً. يبقى إذن البحث في القوى الاجتماعية المتحرّكة، التي تنتج منطقاً معيناً، ضمن بنى، فيها تناقضاتها بالتأكيد. وربما كانت الأنظمة السياسية القائمة، سواء كانت دولاً أو أشباه دول أو حتى ميليشيات، ميداناً أكثر مناسبة للبحث عن إجابات، فـ»القضايا» المذكورة سابقاً هي قضاياها بالنهاية، تبني عليها روايتها الرسمية، وتؤكدها عبر أجهزتها العنيفة والأيديولوجية.
مع ذلك، فإن لوم الأنظمة لا يكفي، إذ يبقى سؤال: لماذا لم تطرح المعارضات، أو أي قوى اجتماعية مستقلة، روايات وقضايا بديلة؟ هنالك جواب نجده في أعمال عدد من المؤرخين الاجتماعيين لمنطقتنا، وهو أن نمط التحديث، ومنذ النصف الثاني من القرن الماضي، ربط دائماً قطاعات واسعة من السكان بأجهزة الدول، ومنع نشوء فئات اجتماعية مستقلة نسبياً عنها، بمصالحها وثقافتها وتنظيماتها؛ كما ساهم في إعادة إنتاج البنى الاجتماعية، الموصوفة بالتقليدية، مثل العشيرة والعائلة الأبوية والجماعة الريفية، في إطار علاقة اعتمادية على الدولة، وعبر عمليات مثل «التطييف» و«التفليح» ضمن شبكة من العلاقات المسمّاة بـ«الزبائنية».
يمكن انتقاد بعض مفاهيم هذا التأريخ الاجتماعي، لكنه ما يزال قادراً على تفسير كثير من ظواهر «اجترار» خطابات السلطة؛ وحقيقة أن ما تطرحه المعارضات ليس أكثر من مزاودة على الدولة، سواء في تحررها الوطني، أو نزعتها الاجتماعية أو إسلامها. لكن يبقى هناك جانب مهم لفهم هذه الحالة أكثر، قد يكون مرتبطاً بظواهر «التطييف» و«التفليح» و«الزبائنية» المذكورة أعلاه، وهو الشفوية، وليس المقصود بها أن كل الخطابات والمفاهيم و«المعارف» تنتقل شفوياً بالضرورة، لكن أن تطوّر اللغة العربية المعاصرة، في هذا الظرف التاريخي، أكسبها ضعفاً مفاهيمياً ودلالياً متأصّلاً إلى حد كبير، فسواء في الثقافة الاختصاصية أو الجماهيرية، نشهد فوضى في استخدام الألفاظ والمصطلحات، وضبط ترجماتها، بما أن أغلبها مترجمة، وبالتالي فكثير من المفاهيم، ذات الحمولة الدلالية والتاريخية الكبيرة، صارت تستخدم كزخارف في سياق بلاغة مُتناقلة، ولا مستند أو نص مرجعي، يمكن العودة إليه، لفهم ما تعنيه بالضبط، وما معايير صحتها وخطأها، فشلها ونجاحها، انتصاراتها وهزائمها؛ بل حتى الدلالات المحتملة لقيمها المتداولة، مثل «حرية» أو «كرامة» أو «عزة». ما يجعلها ذات طابع شفوي، حتى لو كانت مكتوبة، ويجعل معارفها أقرب لروايات متداولة بالتواتر. كيف يمكننا أن نراجع وننتقد قضايانا في ظرف سياسي واجتماعي ولغوي كهذا؟
مسألة فلسطينية؟
مرّت «القضية الفلسطينية» بكثير من التغيّرات، التي تجعل من إعادة النظر بمعظم مقولاتها أكثر من مجرّد ترف نظري، فبعد ممارسات الأنظمة الديكتاتورية، التي تبنّت «القضية»؛ وتعثّر مسارات الحرب والسلام؛ والانقسام الفلسطيني؛ و»الربيع العربي» وحروبه في سوريا واليمن وليبيا؛ والبروز المروّع للنزعتين الجهادية والميليشياوية، لم تعد تلك القضية متناسبة مع الواقع السياسي والاجتماعي لمعظم أهالي منطقتنا، رغم هذا تستمر، وتحتل موقعاً مركزياً في المخيّلة الأيديولوجية العربية، وتحرّك قطاعات واسعة من الناس.
ربما كان الأسلوب الأمثل للتعامل مع «القضية» في هذا الشرط، هو تحويلها إلى «مسألة» والمفردة الأخيرة قد تكون الترجمة الأفضل لـ«Question» بالإنكليزية أو «Frage» بالألمانية، وهي لاحقة أضيفت، في التقليد السياسي الأوروبي، إلى مواضيع شديدة الإشكالية، تفرض نفسها بقوة على كل تفكير عام، وتؤدي إلى نزاعات شديدة، وجدل محتدم؛ في محاولة لإنتاج إجابات وحلول ونظريات حولها، مع عدم تحويلها إلى مذهب متكامل، أو «قضية» مغلقة وراسخة لحامليها. من أهم أمثلة «المسائل» المسألة القومية Die nationale Frage وتفرّعاتها، التي كتب فيها عشرات المفكرين منذ القرن التاسع عشر؛ والمسألة اليهودية Judenfrage .
تحوّل فلسطين إلى «مسألة» يتيح إعادة طرح إشكالياتها، بما يتناسب مع الشرط الفلسطيني والعربي الحالي، ويساهم في تفكيك بنى القمع والتعصّب، التي تمنع إيجاد حلول وآليات فعليّة للتعامل معها، وهي بنى معادية في العمق للفلسطينيين والعرب. وربما من أولى علامات الاستفهام، التي تطرحها «المسألة الفلسطينية» هي لماذا يجد مئات ملايين البشر، ومن المغرب حتى إيران على الأقل، أنفسهم مضطرين للتفكير بفلسطين؟
الهاجس الفلسطيني
ربما كانت شفوية «القضية الفلسطينية» إحدى أهم أسباب تحوّلها إلى هاجس ضاغط على أذهان كثيرين في المنطقة، فهي حاضرة بقوة في التكوين الذهني للناس، بوصفها عبارات مكتسبة من عشرات الأجهزة الأيديولوجية، مثل التعليم والإعلام والمؤسسات الدينية؛ وفي الوقت نفسه لا تقدّم كثيراً من المفاهيم، العملية والنظرية المنضبطة، التي يمكن نقاشها والتعامل معها. قد يتعرّض المرء لقمع شديد بسبب «القضية» بل قد يعيش تحت ظل أنظمة وقوى سياسية تهدد سلامته الجسدية، في حال حاد عنها، لكنّه لا يعرف عنها فعليا إلا أنها حق كامل، يُشعره دوماً بالذنب، أو يدفعه للتمرّد العدمي. يجعل هذا «القضية» أقرب لتعويذة سحرية، تُتلى فتتغيّر أشياء كثيرة في الواقع والحياة اليومية، دون أي إمكانية للسيطرة الاجتماعية على مفاعيلها وآثارها.
بهذا المعنى فإن «القضية» صارت مرعبة ومتعالية بشدة على حياة البشر، وأحياناً قاتلة، وربما يجب إعادتها إلى الأرض، وجعلها متناً مكتوباً، يمكن التعاطي معه بعقلانية، وقد يساهم هذا بعقلنة الثقافة السياسية العربية بأكملها.
كاتب سوري
——————–
أين تطير العصافير بعد السماء الأخيرة؟… عن كيفية تغطية الحرب على غزة في الإعلام الألماني/ آية الأتاسي
28 – نوفمبر – 2023
بداية عليَّ أن أعترف بأنني لست هناك ولست هنا، فأنا أوجد حالياً في منطقة محايدة بعيدة، لكن كيف يكون القلب محايداً! الحرب تجري هناك، الدم هناك، والموت هناك، لكننا نستطيع في الزمن الرقمي الحديث، أن نتابع مشاهد القتل والدمار على الهواء مباشرة، وكأننا في فيلم رعب لا ينتهي. في هذه الحرب الجهنمية يقتل الأبرياء، والكثير الكثير من الأطفال، الذين تنقل الشاشات قصصهم، فنتخيلهم أولادنا ونجهش بالبكاء. هي الأم التي نجت ولم تنج.
اسمه يوسف، شعره كيرلي، أبيضاني وحلو، كل الأولاد حلوين في عيون أمهاتهم، لكن هل هناك أقسى من أن تكون اليوم أماً في غزة، تجمع أشلاء صغيرها الحلو بين الأنقاض. ماتوا جوعانين، تقول الأم التي لم تنته بعد من طهي كبدها كي تطعم صغارها، لكنهم ماتوا قبل موعد الغداء، وكم هو ثقيل حمل تلك الأكفان الصغيرة. إنه زمن الجنون، كبر الأولاد، ولم يكبروا. يمسك الصغير بسرير أمه المستلقية كأنها نائمة بينما المسعفون يجرونها بعيداً، يد الصغير لا تترك حافة السرير، ولا خيط يلوح في ذيل الثوب، ولا حياة تلوح في وجه الأم. يحرس الصغير موت أمه وكأنه أبوها، يا الله، كبر الأولاد ولم يكبروا.
«هذا أخي الصغير بكنزته الزرقاء، جيبوه الله يخليكم» لكن الطفل بالكنزة الزرقاء يصرخ: بدي ماما. أخته ذات الخمس سنوات تمسك يده، الطفلة لا تنبس بكلمة، لكننا نعرف أنها صارت أماً. «ماما نائمة فوق» ينظر الصغيران إلى الأعلى، بينما جسد الأم مسجى وروحها تدق باب السماء. يقال إن إكرام الميت هو دفنه، لكن في زمن العار لا يستطيع الأحياء دفن أمواتهم، وغزة التي كانت يوماً سجناً كبيراً مفتوحاً، تحولت اليوم إلى مقبرة جماعية، ترتع فيها الكلاب الجائعة، ويطير الذباب فوق الجثث المتعفنة، إنها الحرب القذرة تنقل لنا مباشرة، ونحن على أرائكنا المريحة، يصلنا لهاث المراسل، الذي يلتقط أنفاسه، وقد تكون تلك هي أنفاسه الأخيرة، ففي غزة يسقط المصور والمراسل والمسعف قرب الضحية. وعلى طريق الخروج تجر الأمهات أبنائهن ورائهن في طريق النكبة الجديدة. إنها الحكايات التي سمعناها في ما مضى شفهياً، واليوم نشاهدها بكل أبعادها الوحشية. هي حكايات وحكايات، تعيدني إلى حكاية أبو أحمد، اللاجئ الفلسطيني في مخيم اليرموك، الذي لم يكن يكثر الحديث عن طريق خروجه حافياً من حيفا. لكنه كان يلمس قدمه مكان الألم، المكان الذي اخترقته شوكة على طريق النزوح، واخترقت قلبه نكبة. صحيح أنني لم أر بيت أم إبراهيم، لكنني أعرف مفتاحه المعلق بسلسة فضية أكلها الصدأ، في صدر المرأة الفلسطينية الكهلة. ماتت أم إبراهيم في دمشق ودفن معها مفتاح البيت، فالبيت والقرية والبلاد سرقت ولم يبق إلا الحكاية يتوارثها الأبناء والأحفاد إلى ما لا نهاية.
قالت غولدا مائير يوماً: سينسى الأولاد، لكن الحقيقة إن إسرائيل لا تتوقف عن تذكير الأولاد بما عاشه أهلهم من إبادة وتهجير، كذلك لا يتوقف المستوطنون في الضفة الغربية عن تذكير أصحاب الأرض بما قاله محمود درويش.
لو يذكر الزيتون غارسه، لصار الزيت دمعاً.
ولعله اليوم صار دماً، فالدم يسد مسام الهواء، والسخام يلتصق بالوجوه الناجية، كما تلتصق المجازر بالذاكرة. الذاكرة التي يخافها الغزاة، لأن المنتصر هو من يكتب روايته، ويرث أرض الكلام. لكن الكلام يبدو مصادراً اليوم لصالح الرواية الإسرائيلية، والعالم أعور لا يرى إلا بعين واحدة. في فيلم «موسيقانا» للمخرج الفرنسي غودار، يخاطب درويش صحافية إسرائيلية، قائلاً:
شهرتنا تنبع من أنكم أعداءنا.
ولعل شهرة الفلسطينيين، أو لعنتهم تنبع من أنهم ضحايا للضحية المطلقة، ولا بد من التضحية بهم للتخلص من عقدة الذنب النازية، والتعويض عن وخز الضمير العالمي، سليل الحرب العالمية الثانية. سأسعى في الأسطر المقبلة إلى الابتعاد عن اللغة العاطفية ومجاز الشعر، وسأستعين بلغة العقل لفهم آلية عمل الإعلام الغربي، والألماني على وجه الخصوص.
محرقتكم نكبتنا
قد يتفهم المرء للوهلة الأولى الحذر الألماني في ما يتعلق بالمسألة اليهودية، بسبب ثقل تاريخ النازية، لكن حقيقة يستعصي على الفهم، أن مجرد نقد السياسة الإسرائيلية، قد يتحول إلى تهمة «معاداة السامية» في ألمانيا. مؤخراً شبه لي صديق سوري يعيش في ألمانيا، الوضع في سوريا الأسد في ثمانينيات القرن الماضي. أهلاً بك في دولة الأمن الألمانية الجديدة، حيث يولد عنصر أمن داخلي يراقب أفكارك. وبهذا المعنى لا صوت يعلو فوق صوت الرواية الإسرائيلية في الإعلام الألماني، وحتى الأصوات العربية القليلة الحاضرة في الإعلام، يطلب منها تقديم صك براءتها عبر إدانة حماس بادئ ذي بدء، ثم تبني الخطاب الرسمي الألماني، وقد يصل الأمر بالبعض إلى المزاودة، فلكي تكون عربياً أبيض، عليك أن تخلع جلدك كي نقبل بك بيننا. والحال هكذا قد لا يفاجئك كلام حسنين كاظم، الصحافي الألماني من أصول باكستانية، عن وجوب ترحيل اللاجئين المشكوك في «معاداتهم للسامية». وربما سيبدو عبثياً في هذه الأجواء، القول بأن معاداة سياسة الاحتلال لا علاقة لها بالسامية، وأن مقاومة الاحتلال حق تضمنه الشرائع الدولية، أضف إلى ذلك أن معاداة السامية مفهوم غربي بامتياز وجذوره متأصلة في الغرب. في هذا السياق يحضر صوت الصحافية الألمانية من أصول مغربية، سميرة الوسيل، ويجب أن لا يخدعك الاسم، فلا شيء في مواقف هذه السيدة يشي بأي مشاعر تضامنية مع الغزاويين. تكتب الوسيل في صحيفة «شبيغل» بقلق عن هاجس معاداة السامية ولا شيء سواه، أي بمعنى كيف تكون ملكياً أكثر من الملكيين، وربما لن يكون غريباً هنا أن تدعي لمياء خضور عضو مجلس الشعب عن حزب الخضر، إن معاداة السامية أصبحت في كل مكان، حتى لدى المهاجرين الجدد، أو ما يسمى «معاداة السامية المستوردة» بل ستذهب أبعد من هذا، وتقدم شهادة براءتها إلى حد وضع أبنائها في حضانة يهودية، وهنا يقتضي التنويه بأن خضور من أصول سورية.
أما دنيا حيالي المذيعة من أصول عراقية، والمعروف عنها دعمها للاجئين في ألمانيا، فستأخذها أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول إلى الضفة الأخرى، وستتحول إلى محقق جنائي مع السفير الفلسطيني في النمسا، حيث اتهمته خلال المقابلة بالكذب، بعد أن طالبته مراراً وتكراراً بإدانة إرهاب حماس، وحين طالبها السفير بالمقابل بإدانة إرهاب دولة إسرائيل، أجابت بأنها تتعامل فقط مع الوقائع، ولأنه في النهاية لا يصح إلا الصحيح، لم تستطع حيالي بعد فترة وجيزة من تلك المقابلة، إلا إدانة سياسة العقاب الجماعي التي تتبعها إسرائيل، وفقاً للوقائع دون شك. وغني عن القول إن الكثير من الصحافيين من أصول عربية في ألمانيا، يتعرضون لضغوطات كثيرة في جو ثقافي أحادي الصوت، وفي ظل شبه غياب للأصوات الفلسطينية، التي لا يتم دعوتها وفي حال تمت دعوتها تحجب مداخلتها، ولا تبث على الهواء، كما حدث مع المترجم والكاتب الفلسطيني عارف حجاج.
ولعل الفضيحة الكبرى هي التي وقعت في معرض فرانكفورت للكتاب، عندما حجبت الجائزة عن الكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي، وشنت حملة شعواء على الفيلسوف جيجيك بسبب وقوفه مع معاناة الفلسطينيين. وهكذا، في آخر المطاف لم يبق للحديث عن المعاناة الفلسطينية في وسائل الإعلام الألمانية، سوى عدد قليل من خبراء الشرق الأوسط، ألماني الجنسية وإنساني الانتماء، كحال الصحافية كريستين هيلبرغ، التي ظلت تمسك بيدها بوصلة الإنسانية، وقد حذرت هيلبرغ من شرخ عميق بدأ يصيب المجتمع الألماني، ودعت إلى التعاطف مع الضحايا بغض النظر عن انتمائهم، حتى لا يتحول الشرخ إلى هاوية سحيقة. وللمفارقة فإن الصوت الأكثر دفاعاً عن مشروعية الحق الفلسطيني في ألمانيا، هي الكاتبة اليهودية من أصول أمريكية ديبورا فيلدمان، التي تحولت إلى صوت الفلسطينيين الغائب في الإعلام الألماني، وقد صرحت مؤخراً بأنها تتحدث باسم الغائبين، الذين يملكون الحق في الكلام أكثر منها، لكنهم مغيبين خلف قناع الإرهاب، ورغم إصرار فيلدمان على تقديم نفسها كإنسانة بالدرجة الأولى، إلا أن يهوديتها شفعت لها بالحديث في التلفزيون الألماني، رغم كل المضايقات التي تتعرض لها.
وحسب قولها فإن ألمانيا اليوم بلد مثالي لليهود، لكن ليس ليهودية تنتقد سياسة إسرائيل، وقد رفضت فيلدمان بوجود سياق تاريخي واحد لتبرير عنف إسرائيل، وطالبت بدلاً من منع استخدام كلمة «لكن» عند الحديث عن «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها» بأنه يتوجب ربما إضافة حرف العطف «الواو» للحديث عن الواقع الفلسطيني المأساوي، ولهذا قد لا يبدو غريبا أن يتصدر اسم فيلدمان عريضة وقع عليها يهود ألمان، ودافعوا فيها عن حق الاختلاف وطالبوا بمنح الفلسطينيين الحق في الاحتجاج، ولعله يصح أن نستعيد هنا تصريح لرئيسة المفوضية الأوروبية فوندلاين، بأن الاعتداء على المستشفيات وقطع الماء والكهرباء، هو عمل إرهابي، مع وجود تفصيل صغير بأن فوندلاين لم تكن تتحدث حينها عن فلسطين، بل عن أوكرانيا.
خارج المكان
يمكن القول إن معاداة السامية في أوروبا اليوم، تحولت إلى معاداة الإسلام، أي إسلاموفوبيا، وكأن المصطلحين وجهان لتمييز عنصري واحد، يمارسه الرجل الأوروبي الأبيض ضد الآخر المختلف. وكأن أكباش الفداء، التي كانت يهودية في ما مضى، أصبحت اليوم إسلامية في أوروبا. وواقع الحال أن نقاط التقاطع بين اليهودية والإسلام كثيرة، ابتداءً بالجذور السامية للغتين العربية والعبرية، مروراً بتحريم لحم الخنزير، وختان الذكور، بل يمكن القول إن اليهود والمسلمين استطاعوا عبر التاريخ التعايش بسلام، حتى إن محاكم التفتيش الإسبانية في القرن الخامس عشر، هجرت من الأندلس اليهود والعرب على حد سواء، ولم يكن اليهود العرب يعانون من العداء، حتى اعلان قيام دولة إسرائيل في 1948. وقد روى آفي شلايم هذا في مذكراته، وهو يهودي من أصل عراقي، وقد غادر العراق طفلاً مع عائلته، وذهب إلى إسرائيل في سنة 1950، ولم يكن شلايم حينها يتحدث العبرية بل العربية باللكنة العراقية، وفي إسرائيل سيمضي شبابه، لكنه سيغادرها في 1967، عندما ستتحول الأرض الموعودة بنظره، إلى دولة احتلال مدججة بالسلاح والعنصرية. ولاحقاً سيصبح شلايم أستاذاً في جامعة أكسفورد، وسيشرف على رسالة الدكتوراه للمؤرخ الإسرائيلي أيلان بابه، حول التطهير العرقي الذي ارتكبته إسرائيل في 1948. وغني عن القول إن بابه بعدها سيتعرض للهجوم بسبب كشفه زيف السردية الإسرائيلية، وسيضطر أيضاً إلى مغادرة إسرائيل في نهاية المطاف. وقد شبه شلايم حياته بحياة الكاتب الفلسطيني إدوارد سعيد، فهي حياة خارج المكان. حيث عرف كلاهما المنفى، وتغيرت خريطتهما الشخصية إثر هزيمة 1967، كما تغيرت خريطة فلسطين والعالم.
اليوم في 2023 يعيد الزمن نفسه، وها نحن نشهد على الترانسفير الفلسطيني بنسخته الجديدة، كما شهد أجدادنا النكبة، وكما شهد أهلنا النكسة، لكن بعيداً عن الخرافات الإسرائيلية فالفلسطينيون لم يرموا اليهود في البحر، ولم يركبوا البحر بقوارب مثلما غادروا بيروت يوماً، فالبحر في غزة اليوم هو جدار آخر. اليوم يشرب الفلسطينيون في غزة ماء البحر المالح، ويكبسون الملح على الجرح، ويتابعون… بعضهم يقاتل، والبعض الآخر يتبع ظل أجداده سيراً على الأقدام أو تحليقاً نحو السماء.
أين تطير العصافير بعد السماء الأخيرة؟
أين تنام النباتات بعد الهواء الأخير
هنا سنموت، هنا في الممر الأخير.
هنا أو هنا سوف يغرس زيتونه دمنا.
كاتبة سورية
القدس العربي
————————
«حماس» والاحتلال الإسرائيلي: هدنة مع 90 قنبلة نووية؟/ صبحي حديدي
23 – نوفمبر – 2023
ربما كان جديراً بالتذكير، لمَن تنفعهم الذكرى في المقام الأوّل، أنّ «حركة المقاومة الإسلامية ـ حماس» توشك، حتى ساعة كتابة هذه السطور، على إبرام اتفاقية هدنة مؤقتة، إنسانية من حيث العنوان وعسكرية حربية من حيث المضمون؛ مع دولة الاحتلال الإسرائيلي: الجيش الرابع الأقوى عالمياً، الذي يواصل شنّ حرب همجية ضدّ المدنيين الفلسطينيين في سائر قطاع غزّة، وألقى أكثر من 25,000 طن من القنابل (حتى مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر) بما يعادل قنبلتَين نوويتَين بلا إشعاع، من الطراز الذي استخدمته الولايات المتحدة ضدّ اليابان في هيروشيما.
ليس هذا التفصيل عابراً، أو لا يتوجب أن يُنسى في أقلّ تقدير، إذا أخذ المرء بعين الاعتبار انعدام أيّ معيار للمقارنة بين دولة الاحتلال من حيث حجم الجيش ونوعية تسليحه وقدراته التدميرية برّاً وجوّاً وبحراً؛ مقابل حركة مسلحة لا تخفى إمكانياتها العسكرية، ولا يصحّ أن تُقارَب بمعزل عن حصار مطبق على القطاع يدوم منذ 16 سنة ونيف. على رأس معطيات هذا التفصيل حقيقة كبرى مفادها أن الكيان الصهيوني دولة نووية، تقول تقديرات «الحملة الدولية لإلغاء الأسلحة النووية» ICAN إنها تملك 90 قنبلة ذات رؤوس نووية (بالمقارنة مع 30 في كوريا الشمالية، 164 في الهند، 225 في بريطانيا، و290 في فرنسا…).
المناسبة الأحدث لاستذكار هذه الحقيقة كانت تصريح أميخاي إلياهو، وزير التراث الإسرائيلي، بأنّ الخيار النووي هو إحدى طرق تصفية «حماس» بالنظر إلى أنه «لا يوجد شيء اسمه أبرياء في غزّة»؛ وليس قرار بنيامين نتنياهو الاكتفاء بتجميد عضوية إلياهو في الحكومة سوى المؤشر الأوضح على مدى استخفاف دولة الاحتلال بفتح ملفات البرنامج النووي الإسرائيلي، أياً كانت الأصعدة. ذلك، أيضاً، لأنّ مناسبات أخرى سبق أن تناولت «السرّ المفضوح» إياه، بينها امتناع الاحتلال عن المصادقة على «اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية» والتصويت المنتظم ضدّ قرارات الجمعية العمومية للأمم المتحدة السنوية بصدد دعوة الأعضاء إلى التوقيع عليها والالتزام بها؛ وذلك رغم معطيات تفيد بأنّ الإنفاق الإسرائيلي على البرنامج النووي بلغ 1,2 مليار دولار أمريكي، وأنّ الاحتلال أجرى بالفعل اختباراً نووياً في جنوب أفريقيا سنة 1979 فوق المحيط بين أفريقيا والمنطقة القطبية الجنوبية.
مناسبة أقدم، ولعلها الأطرف، وقعت سنة 2004 حين كان المصري محمد البرادعي يشغل منصب المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية؛ وسمحت له دولة الاحتلال بإجراء «تفتيش» نووي، ولكن من ارتفاع عين الطير في حوّامة إسرائيلية حلّقت على هواها في أجواء صحراء النقب. وجه آخر لطرافة الواقعة تمثّل في تصريح البرادعي بأنه «يتفهم» مخاوف الاحتلال الأمنية والوجودية، وفي المقابل صبّ جام غضبه على إيران لأنها تباشر برنامجاً نووياً، ولم ينسَ التعريض بالعالِم الباكستاني عبد القادر خان الذي هرّب أسرار القنبلة النووية إلى 18 بلداً!
وسيرة البرنامج النووي الإيراني مناسبة دائمة، مفتوحة لأنها لا تكفّ عن التجدد والازدياد، لاستعادة سلسلة الأسئلة الشهيرة التي طرحها ذات يوم الصحافي الأمريكي شارلز ريز؛ فاتخذت هيئة أحجية متكاملة تكون مفردة دولة الاحتلال الإسرائيلي هي الإجابة الوحيدة عليها:
ـ من هي الدولة التي تنفرد عن جميع دول الشرق الأوسط في امتلاك الأسلحة النووية؟
ـ من هي الدولة التي ترفض التوقيع على الاتفاقيات الدولية لحظر انتاج الأسلحة النووية، بل وتحظر على المنظمات الدولية القيام بأي تفتيش على منشآتها النووية؟
ـ من هي الدولة التي احتلت عسكرياً أراضي دول مجاورة، وتواصل ذلك الاحتلال متحدية بذلك جميع قرارات مجلس الأمن الدولي المطالبة بإزالة آثار ذلك العدوان؟
ـ من هي الدولة التي ترفض تنفيذ عشرات قرارات مجلس الأمن الدولي، بل وتستخف بهذه القرارات وتلك الهيئة الدولية؟
ـ من هي الدولة التي استخدمت جاسوساً يُدعى جوناثان بولارد، لسرقة وثائق سرية أمريكية، ثم باعتها إلى الاتحاد السوفييتي؟ وهل هي الدولة ذاتها التي أنكرت الواقعة في البدء، ثم اعترفت بها ومنحت بولارد الجنسية الفخرية، بل ونظمت حملات ضغط واسعة لإجبار الرئيس الأمريكي لإصدار عفو يضمن إطلاق سراح الجاسوس، لأنه «بطل قومي» في نظر الدولة ذاتها؟
وأمّا إذا تجاسر ريز وذهب إلى طراز آخر من تطوير الأحجية ذاتها، فإنه لن يغفل عن طرح عشرات الأسئلة حول عشرات الممارسات العسكرية والأمنية والاستيطانية التي تدخل جميعها، ودون عناء وسجال، في مسمّيات الفاشية والأبارتيد والهمجية العارية والبربرية الصارخة. وأن يقصف الكيان المشافي والمخابز والمدارس وملاجئ الأونروا والمساجد، ثمّ يلفّق له أمثال جو بايدن وريشي سوناك وإمانويل ماكرون وأولاف شولتز أكاذيب وجود الأنفاق أو ذرائع الدفاع عن النفس؛ فهذا ليس أقلّ من جديد يُضاف إلى لائحة أسئلة ريز، حيث لا «دولة» على وجه البسيطة يمكن أن تتمتع بكلّ ذلك التواطؤ على جرائم الحرب، وتلك المقادير الصفيقة من تجميل المجازر.
تفصيل آخر جدير بالاقتباس هنا، لأنه يساهم في تسليط الضوء على فصول قديمة/ متجددة من تعاون الديمقراطيات الغربية مع دولة الاحتلال في بناء مفاعل ديمونة، الذي سوف ينتج البلوتونيوم اللازم لتصنيع القنبلة النووية. والرئيس الأمريكي بايدن، الذي يزعم أنّ استخبارات بلاده تعرف بوجود أنفاق لـ«حماس» أسفل مجمّع مستشفى الشفاء، يتناسى أنّ أجهزة بلاده الاستخبارية كانت أقرب إلى أطرش في الزفّة حين تعاونت دولة الاحتلال مع فرنسا لإطلاق البرنامج النووي الإسرائيلي، أواسط خمسينيات القرن المنصرم. وكان سلف بايدن، دوايت أيزنهاور، قد أصيب بالذهول حين وصل تقرير من السفير الأمريكي في دولة الاحتلال يتضمن معلومات عن مفاعل ديمونة، وتوجب أن يمتزج الذهول بالإهانة لاستخبارات القوّة العظمى حليفة الكيان الصهيوني؛ لأنّ المعلومات لم ترشح إلا عبر زلات لسان من رجل الأعمال الإسرائيلي دانييل كيمحي، الذي أفرط في احتساء الكحول خلال إحدى سهرات السفارة الأمريكية، فباح بالسرّ.
وأمّا انتهاج التضليل، حتى في أشدّ أنماطه هزالاً وافتضاحاً، فالتاريخ يسجّل أنّ دافيد بن غوريون سارع إلى امتصاص سخط أيزنهاور، وخَلَفه من بعده جوزيف كنيدي، فأعلن من سدّة الكنيست أنّ المفاعل يُبنى بالفعل، ولكن أغراضه سلمية فقط ويهدف إلى توليد الكهرباء والطاقة؛ وحين يكتمل، سوف تُفتح أبوابه أمام تفقّد الصحافة والعلماء من بلدان أخرى (الأمر الذي لم يحصل بالطبع، حتى من ارتفاع عين الطير في نموذج البرادعي). لاحقاً، في حزيران (يونيو) 1981، سوف تبادر دولة الاحتلال إلى قصف مفاعل تموز/ أوزيراك العراقي بطائرات الـF-16 أمريكية الصنع، رغم أنّ بروتوكول مبيعها يحصر استخدامها في الأغراض الدفاعية فقط؛ وهنا أيضاً تعيّن على الأطرش في الزفة أن يُمنع حتى من ابتلاع لسانه، وطُولب بالمشاركة في سرد الأكاذيب.
ويبقى أنّ مشاركة الولايات المتحدة في المفاوضات التي شهدتها الدوحة، لإتمام صفقة الهدنة الإنسانية وتبادل الرهائن الإسرائيليين والأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال؛ هو الوجهة الأخرى لانخراط واشنطن في الحرب الإسرائيلية على القطاع، سياسياً ودبلوماسياً ومالياً، وعن طريق ضخّ الأحدث في الصناعة العسكرية الأمريكية، فضلاً عن نشر حاملتين وغواصة نووية. وذاك مآل صريح يفيد بأنّ «حماس» إنما تعقد هدنة مع كيان نووي يمتلك 90 قنبلة نووية؛ ثمّ، ضمناً، مع قوّة عظمى نووية، تملك 5244 قنبلة نووية… سواء بسواء!
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
القدس العربي
——————-
عن ذهنية ألمانية: من ذَنْب الهولوكوست إلى ذَنَبية غزّة/ صبحي حديدي
في مثل هذه الأيام، ولكن قبل نحو عام وبصدد الاجتياح الروسي في أوكرانيا، كانت أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، قد غردت هكذا على تويتر: «قطع الكهرباء عن أوكرانيا جريمة حرب. الهجمات الروسية ضدّ البنية التحتية المدنية، خاصة الكهرباء، جرائم حرب. منع الرجال والنساء والأطفال من الماء، والكهرباء، والتدفئة في الشتاء المقبل، هذه أفعال إرهاب صريح. ويتوجب علينا أن نسميها هكذا».
ليست هكذا، في ناظر فون دير لاين، حين تمارس دولة الاحتلال هذه الانتهاكات، وأسوأ منها بكثير وأشدّ وحشية وهمجية، ضدّ المدنيين من أطفال ونساء وشيوخ في قطاع غزّة. أكثر من ذلك، فإنّ وزيرة الدفاع الألمانية الأسبق، والطبيبة التي أقسمت يمين أبقراط، زارت مستوطنات غلاف غزّة (من دون تكليف مباشر، أو حتى غير مباشر، من البرلمان الأوروبي الذي يفوّضها وتُحاسب أمامه) فأصغت بكلّ جوارحها إلى ضباط جيش استعماري استيطاني عنصري كانت ساعات قليلة فقط قد سبقت تصريح وزير دفاع ذلك الجيش بأنه يحارب «حيوانات بشرية»؛ متناسية (إذْ كيف لها أن تنسى !) مفردة «الجرذان» التي استخدمها الخطاب النازي في وصف اليهود.
صحيح، بالطبع، أنها لا تشغل أيّ موقع رسمي في الحكومة الألمانية الراهنة، ولكن يصعب في المقابل ألا تكون تصريحاتها ومواقفها، ثمّ مكاييلها المتغايرة المتقلبة بصدد الانتهاكات المتماثلة، مرآة صادقة تعكس ذهنية ألمانية عريضة الانتشار، لا تترسخ في نزوع الساسة القائمين على رأس السلطة أو السابقين منهم، فحسب؛ بل تشمل نطاقاً عريضاً من المسؤولين في حقول الاقتصاد والاجتماع والثقافة. هنا تُترجم عقدة الذنب الألمانية بصدد الهولوكوست إلى اصطفاف أعمى خلف دولة الاحتلال، وتبرير طراز جرائم الحرب الأسوأ من تلك التي صنع معظمها مأساة ملايين اليهود في ألمانيا وأوروبا خلال الحقبة النازية.
في وسع فون دير لاين أن تغلق، عن سابق عمد وتصميم، أدراج الذاكرة التي تذكّر بعشرات الوقائع حول الصلات التي ربطت بين عدد غير قليل من الصهاينة، فكراً وممارسة، من جهة أولى؛ ورجالات المشروع النازي ودولة الرايخ الثالث، فكراً وممارسة، من جهة ثانية. في محفوظات التاريخ، من جانبها، محال أن تُطمس وقائع مثل تعاون تيودور هرتزل مع أكثر الساسة والصحافيين والكتّاب عداءً صريحاً للسامية في فرنسا، وتوسيع دوائرها إلى ألمانيا. أو كسر الوعد الصهيوني بمقاطعة ألمانيا النازية والانتقال، على العكس، إلى «اتفاقية هافارا» سنة 1933 بين الرابطة الصهيونية الألمانية والمصرف الأنكلو – فلسطيني (تحت إدارة الوكالة اليهودية) والسلطات الاقتصادية في ألمانيا النازية. أو التعاون المباشر بين أجهزة الغستابو وبعض المنظمات والقيادات الصهيونية، لمقايضة سماح الألمان بالهجرة اليهودية إلى فلسطين، مقابل التواطؤ على هذا او ذاك من ملفات ترحيل يهود أوروبا إلى معسكرات الاعتقال.
فإذا شاء المرء طيّ صفحات الماضي والانتقال إلى الحاضر، ففي الوسع العودة إلى خطبة شمعون بيريس أمام البرلمان الألماني حين كان رئيساً للكيان، وكيف وُصفت بـ«التاريخية» لأسباب شتى، فعلية أو ملفقة؛ في طليعتها أنّ تلك الممارسة كانت الأولى من نوعها في تاريخ العلاقات الألمانية ـ الإسرائيلية. من جانب دولة الاحتلال في الواقع، لأنّ المستشارة الألمانية السابقة أنغلا ميركل تحدّثت من سدّة الكنيست الإسرائيلي، أواخر آذار (مارس) 2007؛ وسبقها إلى هذا الرئيس الألماني الأسبق يوهانس راو، سنة 2000، حين طلب العفو والمغفرة عن الجرائم التي ارتكبتها ألمانيا النازية بحقّ اليهود. لكنّ خطبة بيريس اعتُبرت «تاريخية» لسبب آخر، لغوي وثقافي صرف هذه المرّة، هو أنه تحدّث بالعبرية فلم ينسحب من قاعة البوندستاغ أيّ نائب ألماني، من باب الاحتجاج؛ كما فعلت حفنة نوّاب إسرائيليين رفضوا الإصغاء إلى ميركل باللغة الألمانية، وطالبوها باستخدام اللغة العبرية!
ورغم أنّ ميركل ذهبت في أقوالها إلى ما لم يتجاسر على الذهاب إليه أيّ صديق غربي لدولة الاحتلال، بمَنْ فيهم ساسة الولايات المتحدة الأمريكية، حين اعتبرت أنّ تهديد وجود إسرائيل يُعدّ تهديداً لوجود ألمانيا؛ فإنّ عضو الكنيست أرييه إلداد صرّح بأنّ «الألمانية كانت آخر لغة استمع إليها جدّي وجدّتي قبل مقتلهما، وأمر الإعدام صدر باللغة الألمانية، ولست مستعداً لسماعها داخل قاعة الكنيست». كذلك لم يشفع للمستشارة الألمانية أنها، خلال الزيارة ذاتها، ألحقت الإهانة تلو الإهانة بالفلسطينيين، شعباً وحكومة؛ وجعلت اجتماعها مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس يتمحور حول البند الأهمّ في نظرها: إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي الأسير جلعاد شاليت.
ولأنّ خطبته تلك كانت تصادف اليوم العالمي لاستذكار الهولوكوست، فقد شاء بيريس التشديد على ضرورة قيام الألمان بواجبهم في مطاردة جميع «المجرمين النازيين» الذين ما يزالون طلقاء، هنا وهناك في العالم؛ لأنّ الذكرى لا تخصّ الضحايا فحسب، بل يتوجب أن تكون «نذيراً» للعواقب المأساوية التي تنجم عن عدم التحرّك ضدّ ارتكاب الفظائع. وتقديم أولئك المجرمين إلى العدالة ليس فعل انتقام، في نظره، بل هو «درس تربوي» للأجيال الراهنة من الشباب: «كي يتذكروا، ولا ينسوا أبداً، أنّ عليهم معرفة ما جرى، وأن لا يساورهم، أبداً، أدنى شكّ بعدم وجود خيار آخر سوى السلام والمصالحة والحبّ»…
وانظروا مَنْ الناطق بهذه الدعوة، الرقيقة الحانية العطوفة: رئيس الدولة ذاتها التي كانت قد ارتكبت، قبل عام واحد فقط من تلك الخطبة، عشرات المجازر البربرية في قطاع غزّة، مستخدمة أسلحة دمار وحشية يندى لها جبين أشدّ عتاة النازية تعطشاً للدماء! ليس هذا فحسب، بل إنّ بيريس نفسه كان رئيس وزراء الكيان حين ارتكبت البربرية الإسرائيلية مجزرة بلدة قانا اللبنانية الجنوبية، سنة 1996؛ وأسفرت عن 106 شهداء مدنيين، بين شيخ وامرأة وطفل، و350 جريحاً، رغم أنّ الضحايا كانوا في ملجأ مدني رسمي تابع للأمم المتحدة.
فإذا انتقل المرء من الساسة إلى أفراد المجتمع المدني، فلعلّ ذاكرة فون دير لاين وأضرابها لا تملك إغفال حملة الترهيب الفكري والقانوني الشرسة التي قادها دانييل جوناه غولدهاغن ضدّ نورمان فنكلستين (المؤرخ، والأكاديمي الأمريكي المرموق، واليهودي سليل أسرة ناجية من المحرقة)؛ وضدّ روث بتينا بيرن (المؤرخة الكندية، والباحثة المسؤولة عن ملفات الجرائم بحقّ الإنسانية في وزارة العدل الكندية). وغولدهاغن، لمَنْ لا يعرفونه، مؤلف مجلد في 619 صفحة، عنوانه «جلاّدو هتلر المتطوّعون: الألمان العاديون والهولوكوست» تنهض أطروحته الوحيدة على هذا الجزم الرهيب القاطع: ألمانيا بأسرها، بلداً وشعباً وثقافة، مسؤولة عن الهولوكوست؛ و«الأمّة الألمانية هي الهولوكوست، ولولا هذه الأمّة لما كان الهولوكوست». وأمّا جريمة فنكلستين وبيرن فقد كانت تفنيد أطروحة غولدهاغن، على نحو علمي هادئ، وفي دورية فكرية رصينة هي «المجلة التاريخية» التي تصدر عن جامعة كامبرج؛ التي كانت قد اتصلت به كي يردّ، فاختار أن يفعل عن طريق مكتب محاماة!
ولعلها مفارقة مزدوجة الدلالة أنّ الأمريكي وليام غغليمو نيدرلاند (1904-1993) الذي كان رائداً في دراسة العواقب النفسية للناجين من الهولوكوست على صعيد الإحساس بالذنب، كان لاجئاً من أصل بروسي، وكان يهودي الديانة وابن حاخام. ولقد قُيّض له أن يتفحص، أيضاً، بعض أطوار انقلاب سليل الجلاد السابق إلى مذنب لاحق، أو… إلى ذَنَب يلهث خلف ضحية سابقة، انقلبت إلى مجرم حرب!
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
القدس العربي
—————————-
========================
المدن
————————
أبعد من أسوأ السيناريوهات/ بشير البكر
الإثنين 2023/12/11
حرب مفتوحة على مدار الوقت، من البر والبحر والجو. اسرائيل اعترفت بعد ستين يوماً، أنها رمت قطاع غزة بمئة ألف قذيفة مدفعية. هذا عدا عن الطيران والصواريخ بعيدة المدى والدبابات، والبوارج البحرية. وهو ما يفسر وقوع آلاف الضحايا من المدنيين، ومن تم احصاء عددهم أو دفنهم، أقل من الذين بقوا تحت الأنقاض، وفق شهادات من المشافي والدفاع المدني والأهالي. عائلات بأكملها بقيت تحت أنقاض منازلها. تدمير كلي للعمران والبنى التحتية.
البيوت والمشافي والمدارس والمساجد والكنائس، كلها خارجة عن الخدمة. قطع الماء والكهرباء والغذاء والدواء، محاصرة المدنيين. لا قوانين دولية أو إنسانية عند اسرائيل أصلاً. لها قانونها الخاص، تستخدم الأسلحة من دون رقابة وبلا حدود. صمت سياسي وإعلامي دولي. كل المؤسسات الدولية عاجزة عن التحرك أو اتخاذ موقف. لا أحد يتكلم بصوت عال سوى الأمين العام للأمم المتحدة، انطونيو غوتيريش. تموين كامل بالأسلحة من الولايات المتحدة. عمليات تهجير واسعة من شمالي قطاع غزة إلى الوسط، ثم نحو الجنوب، ولا أحد يعلم الوجهة المقبلة. ربما سيناء، التي ستصحبح مطلباً أمام وضع بلغ من الرداءة حداً لا يمكن حتى تخيله، في أسوأ سيناريوهات الرعب.
وُضعت هذه الحرب تحت بند حق اسرائيل في الدفاع عن النفس. ومنذ عملية السابع من اكتوبر الماضي، تم تسليح اسرئيل بهذا المبدأ، وتزويدها بكل ما تحتاج إلى تنفيذه، سياسياً واعلامياً ومادياً وعسكرياً. وتركت لها الأطراف الدولية الراعية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، أن تترجم هذا التفويض بالطريقة المناسبة، والتي تخدم مصالحها وأهدافها الراهنة والبعيدة. وعلى هذا الأساس، تحدث رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو، عن إعادة احتلال غزة، وتهجير جزء من سكانها، وتكلم صراحة عن ذلك، طالباً من مصر فتح معبر رفح من أجل تسهيل هذه المهمة.
لن يقف نتنياهو عند حدود رد الضربة بضربة. وطالما أنه يمتلك تفويضاً دولياً، وفي يده “سيف الحق” أو ما سمّاه هو “السيوف الحديدية”، فلن يفرط في هذه الفرصة، بل سيذهب بعيداً جداً، نحو ما قال عنه “تغيير الوضع الراهن”. وليست مصادفة أنه توعد “بتغيير منطقة الشرق الأوسط”، وهذا يعني استكمال مشروع التطبيع مع الدول العربية، وترك القضية الفلسطينية وراء الظهر، بلا حل، وإبقاء الفلسطينيين تحت واقع الاحتلال. وعلى هذا يتم رمي مسؤولية أهل غزة على مصر والعرب.
يريد نتنياهو تحقيق انتصار عسكري ساحق في غزة، وتتفق معه الولايات المتحدة، وأطراف دولية أخرى، وحتى عربية. الهدف الأول من وراء ذلك هو، استعادة هيبة الردع للجيش الاسرائيلي، التي فقدها يوم السابع من اكتوبر. أما الهدف الثاني فهو، تتويج هذا الجيش كقوة عسكرية وحيدة في الشرق الأوسط، في ظل استقالة الجيش المصري من دوره، وتحوله إلى الاستثمارات التجارية، ونهاية الجيشين السوري والعراقي. وهذه هي الضمانة الوحيدة من أجل تحويل التطبيع إلى مشروع بعيد المدى، من أجل الهيمنة على منطقة الشرق الأوسط. ولهذا منافع متبادلة لإسرائيل، والولايات المتحدة، ذات أبعاد اقتصادية وأمنية.
غزة هي الذريعة والضحية التي ستتحمل القسط الأكبر من الفاتورة. ورغم أن الفصائل الفلسطينية تقاوم ببسالة، فإن اسرائيل والولايات المتحدة تراهنان على وصول الموقف الميداني إلى مرحلة حرجة، تصبح فيها المبادرة بيد الجيش الاسرائيلي، الذي بدأ يتحدث عن أساليب مختلفة لتجريد المقاومة من ورقة القوة الرئيسة، وهي الأنفاق، من خلال استخدام قنابل أميركية ذات طاقة تدميرية هائلة. ونقلت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية عن مسؤول في الجيش الإسرائيلي، أنه يعمل على نزع قدرات حماس بطرق مختلفة، باستخدام أدوات عسكرية وتكنولوجية مختلفة. وأفادت الصحيفة بأنهم يدرسون فكرة غمر الأنفاق في قطاع غزة بمياه البحر. وذكر التقرير، أنه في منتصف تشرين الثاني الماضي تقريبا، أكمل الجيش الإسرائيلي وضع ما لا يقل عن خمس مضخات، على بعد ميل تقريباً، إلى الشمال من مخيم الشاطئ، يمكنها نقل آلاف الأمتار المكعبة من المياه في الساعة وإغراق الأنفاق في غضون أسابيع.
أسست اسرائيل بهذه الحرب، لحروب أخرى، ليس بينها، وبين الشعب الفلسطيني فقط. كما أن الوحشية التي خاضت بها هذا الحرب، تفتح المجال لمستوى من العنف، كان قد انتهى بعد الحرب العالمية الثانية، ورغم ضراوة حروب اميركا في فيتنام والعراق وضد داعش، فإن حرب اسرائيل في غزة فاقتها، من حيث تجاوز كل قوانين الحرب، وخرق المحرمات مثل قتل الاطفال وتدمير المشافي والمدارس ومحطات المياه، وأحد الأدلة على ذلك هو الإفراط في القصف. وقالت الصحيفة إنه استخدم من الذخيرة في غزة خلال أقل من شهرين، ما يفوق الكمية التي رماها الحلفاء على المدن الألمانية في الحرب العالمية الثانية.
المدن
——————–
نتنياهو والأسد بمكيال الغرب ومكيالنا/ عمر قدور
الثلاثاء 2023/12/05
لمناسبة حرب إسرائيل، المستمرة بوحشية على غزة، عاد بقوة انتقاد الغرب الذي هرعت حكوماته لمساندة الحكومة الإسرائيلية بلا أي قيد أو شرط، خاصة في الأيام الأولى للهجوم الإسرائيلي. ومع انتقاد الغرب عادت كليشيهات قديمة للتداول، منها أن “الغرب يكيل بمكيالين”، وبالمعنى ذاته يُستخدم تعبير “ازدواجية المعايير”، ليكون الغرب في الحالتين خبيثاً ماكراً تجاه العرب تحديداً. ثم، بما يعنيه استقراره في الأذهان لعقود، يرسّخ هذا الاستخدام فكرة ثبات الغرب في علاقته مع العرب.
في بقعة جغرافية غير بعيدة عن غزة أو تل أبيب، يحق للأسد أن يفرح بزملاء وأساتذة قدامى يرتكبون من المجازر ما يُنسي العالم أن عدد ما قتله من السوريين يقارب نصف سكان غزة. هو قبل يومين فقط أصدر بياناً يتهجم فيه على منظمة حظر الأسلحة الكيميائية التي أصدرت في نهاية الشهر الفائت قراراً يمنع تصدير بعض مكونات السلاح الكيماوي إليه، والإشارة هنا للتذكير بأن الأسد كان قد حظي بترخيص من أوباما “رئيس القوة الغربية الأعظم” باستخدام كافة الأسلحة ما عدا الكيماوي، ثم حظي بعد استخدامه باتفاقية تعفيه من المساءلة، ورغم ذلك لم يتقيّد بها أطلاقاً.
بالمقارنة بين نتنياهو والأسد، يمكن على الأقل لهواة هجاء الغرب الانتباه إلى كونه لا يكيل بمكيالين، ويتغاضى عن المجرم في الحالتين، وتقديم الدعم الأمريكي لإسرائيل مؤخراً له ما يوازيه أو يزيد بالدعم الروسي والإيراني للأسد، وبرضا ضمني من واشنطن. لكن كثر يتحاشون المقارنة، لأنهم يتمنون رؤية النخب الغربية الحاكمة تكيل على أهوائهم، ومنها صمتهم على مجازر الأسد.
لقد هجا سوريون أيضاً الغربَ لأنه لم يستخدم قدرته على إنقاذهم، خاصة لأنهم “كما حال مجمل شعوب الربيع العربي آنذاك” كانوا يتطلعون إلى سند غربي بحكم مثُل الحرية والديموقراطية التي يطالبون بها. لكن أملهم بالغرب خاب، وقد يكون ضرورياً فهم التدني الراهن لحساسية النخب الغربية الحاكمة إزاء العنف وقضايا الحريات والديموقراطية في العالم عموماً، بما أن الفهم أو سوء الفهم السابقين غير صالحين اليوم، إذا كان الأول منهما صالحاً قبل عشرات السنين.
لقد صادف إنشاء إسرائيل مع انتهاء الحرب العالمية الثانية وبدء الحرب الباردة، ومن المعلوم أن مؤسسيها ونخبتها كانوا بمعظمهم من اليهود الغربيين، وكان يُنظر إليها بمجملها كدولة غربية ديموقراطية في الشرق. أيامها كان الغرب يبدو كأنه يكيل بمكيالين، إذ تتوقف مطالباته بالحرية والديموقراطية عند العدوان الإسرائيلي على حقوق شعب بأكمله، وكانت إسرائيل الاستثناء الفاقع من تطبيق القرارات الدولية، مع التذكير بأن الأمم المتحدة قلّما اتخذت في تاريخها كله قرارات مُلزِمة، وحتى الفصل السابع يجيز استخدام القوة أما التنفيذ فقرار سيادي للقوى القادرة عليه.
لقد كان “نشر الديموقراطية” بمثابة أيديولوجية غربية في الحرب الباردة، وعطفاً على ذلك ظهرت قيم الحريات كأنها قيَم غربية، وكأنما الغرب يعتنقها كقيم تبشيرية. في الواقع كان “التبشير الديموقراطي” داخلياً على جبهتين؛ في أوروبا الغربية نفسها حيث لم تكن الحريات ولا الديموقراطيات متقدمة جداً قبل الثورة الطلابية التي انطلقت من فرنسا وأثّرت في أوروبا الغربية كلها نهاية الستينات، والجبهة الثانية هي أوروبا الشرقية التي كانت المستهدف الأساسي بالتبشير الديموقراطي.
لم تكن البلدان العربية مستهدفة بنشر الديموقراطية، وبلدان العالم بمعظمها لم تكن مستهدفة بذلك، هذا ما سيتضح مع سقوط جدار برلين عام 1989 وانهيار المعسكر السوفيتي والديكتاتوريات الحاكمة في أوروبا الشرقية. ربما كان الغرب “بسبب الانقسام العالمي والتنافس أثناء الحرب الباردة” أكثر استعداداً لدعم تطلعات ديموقراطية بعيداً عن أوروبا، وهو ما تراجع عنه بعد انتهائها. الغرب نفسه شهد تيارين، يمثّل تفاؤل الأول منهما فرانسيس فوكوياما الذي كتب قبيل سقوط جدار برلين مبشّراً بنهاية ليبرالية سعيدة للتاريخ، في حين سينشر صامويل هنتنغتون كتابه “صدام الحضارات” في مستهل النصف الثاني من التسعينات، ليُنذر بأن الاختلافات الثقافية ستكون في العقود اللاحقة المحرِّك الرئيسي للنزاعات بين البشر، وهذا ما نشهد جانباً منه على الأقل من قبل أنصار الصراع الحضاري بين المشرق العربي والغرب.
واحد من أوجه سوء الفهم الأصيل أو المتعمَّد عدم إدراك أن التبشير الديموقراطي كان يستهدف أوروبا الشرقية وقد حقق هدفه، وأن هذا التبشير فقط هو شأن سياسي غربي سابق، بينما سؤال الديموقراطية مُلْك للبشرية التي توالت على تطوير أفكار وأنظمة وأساليب حكم وقوانين وقواعد حروب.. إلخ. من الضروري تالياً الانتباه إلى أن التراجع الغربي عن التبشير الديموقراطي انعكس على الديموقراطية في دول الغرب نفسه، فصعدت تيارات اليمين المتطرف والشعبوي التي لا تكنّ تقديراً لجوهر الديموقراطية، وتريد تطبيق صراع الحضارات حتى بين مواطني بلدانها بالتمييز ضد ذوي الأصول المهاجرة.
في بلد مثل فرنسا، على سبيل المثال ليس إلا، فاز ماكرون بولايتين رئاسيتين على مرشّحة اليمين المتطرف، ونسبة كبيرة ممن اقترعوا له فعلوا ذلك بوصفه أهون الشرين. ماكرون يجيد اللعبة السياسية أكثر مما يكترث بجوهر الديموقراطية، وقد ظهر ذلك في مناسبات داخلية، أهمها تصلّبه في إقرار قانون جديد للتقاعد، رغم المظاهرات والإضرابات الواسعتين رفضاً له، ورغم أنه كان يستطيع الدخول في تسوية مرضية مع النقابات. لكن الخبر الجيد فرنسياً أن موقف ماكرون المندفع في تأييد نتنياهو قابله، بعد استيعاب صدمة هجوم حماس، تيار داعم لغزة وللفلسطينيين هو المستمر والأوسع، بينما لم تستقطب المظاهرة الوحيدة الداعمة لإسرائيل إلا عدداً محدوداً، وخلال الأسابيع المنقضية نفسها أصدر القضاء الفرنسي مذكرة توقيف بحق بشار الأسد.
على صعيد متصل، شهدنا مظاهرات غير مسبوقة دعماً للفلسطينيين في مدن أمريكية وأخرى في مدن إنكليزية، بخلاف السياسات الرسمية للبلدين، ومن المستغرب أن معظم الذين يهاجمون الغرب و”ازدواجية معاييره” يعتبرون تلك المظاهرات انتصاراً عليه في عقر داره. لعل واحداً من استحقاقات الأمس واليوم هو النظر في الغرب إلى مناصري غزة اليوم ومناصري الحريات والديموقراطية عموماً بوصفهم شركاء، أي من موقع الشراكة القيَمية. أكثر ما يسيء إلى هؤلاء الشركاء، وأفضل ما يُقدَّم اليوم لأسوأ القوى الغربية هو هجاء الغرب برمته من منطلق الصراع الحضاري، ثم تسوّل تدخّله للتقليل من وحشية نتنياهو حفاظاً على سمعة الغرب المذموم!
المدن
————————
مقالات عن غزة كتبها الذكاء الاصطناعي/ عمر قدور
السبت 2023/12/02
من المؤكد، حسبما يقول الكشفُ عن عدد من الوثائق الإسرائيلية، أن خطة هجوم حماس كانت قد تسرّبت إلى المخابرات العسكرية الإسرائيلية قبل أكثر من عام. وتنقل صحيفة نيويورك تايمز استناداً إلى تلك الأوساط أن وثيقةً لحماس من أربعين صفحة، تتحدث بالتفصيل عن هجوم شبيه لما حدث، سُرِّبت وجرى تداولها ضمن المخابرات والقيادات الإسرائيليتين باسم “جدار أريحا”. وقد صار متداولاً أن امرأة في جهاز الاستخبارات حذّرت بالعديد من الرسائل الالكترونية من أن سيناريو الهجوم جدّي، لكن تغلّب الرأيُ القائل أنه “سيناريو خيالي تماماً”، ثم كما هو معلوم حدث ما هو خيالي.
وكان ما يشبه التوصيف الأخير قد أخذ طريقه إلى اللغة العربية، معظم الأحيان من بوابة امتداح نجاح عملية طوفان الأقصى؛ على صعيد التنفيذ وقبله على صعيد التضليل الاستخباراتي والإتيان بسيناريو يبدو غير معقول. ثم، غالباً، توقف الأمر عند المديح الذي لم يرَ معظم أصحابه ضرورة لمجاراة ذلك الخيالي الذي صار واقعاً، أما الذين لهم موقف نقدي من العملية برمتها فكأنهم رأوا في موقفهم مبرراً لعدم تأمل أوجه مختلفة ذلك الخيالي، وإن كان مرفوضاً من قبَلهم.
كُتِب الكثير عن غزة، وسيُكتَب الكثير طالما بقي الحدث ساخناً. بعد أيام قليلة، كانت كافية لاستيعاب الصدمة الأولى، استهل جزء من الإعلام الإسرائيلي عملية كشف واكتشاف شجّعت قسماً من الإعلام الغربي على ذلك، بعدما طغى عليه في الأيام الأولى الطابع التعبوي المناصر لإسرائيل فقط وفقط. ومن المرجَّح أن الأخبار ستتوالى، وستتوالى المراجعات النقدية الإسرائيلية اللائقة “ولو نسبياً” بذلك “الخيالي” الذي حدث، في حين ستبقى غالبةً في الكتابات العربية تلك التي يكتبها الذكاء الاصطناعي كما هو الحال خلال قرابة شهرين انقضيا.
ما نعنيه بالمقالات التي كتبها عن غزة الذكاءُ الاصطناعي تلك المقالات الأمينة لأصحابها بلا زيادة أو نقصان على الإطلاق، بصرف النظر عن موقع أصحابها من الحدث وآرائهم المتباينة. فالذكاء الاصطناعي كما هو معلوم صار قادراً على صياغة نص بناء على قاعدة بيانات سابقة معطاة له، والتطور الذي أُدخِل عليه جعله قادراً على صياغة النص المطلوب منه بشكل جيد يستفيد من أسلوبية النصوص المعطاة له.
لدينا معيار واضح، يسهل تطبيقه، لمعرفة المقالات التي كتبها الذكاء الاصطناعي. إذ بوسعنا على الأقل تخيّل كتابات أي كاتب كقاعدة بيانات للذكاء الاصطناعي، ثم الطلب منه أن يكتب لنا مقالاً عن الحرب الحالية بناء عليها. معيار الذكاء الاصطناعي هنا، والذي به نفرّقه عن الذكاء الطبيعي، هو أن الذكاء الاصطناعي سيكتب لنا مقالاً لا جديد فيه على الإطلاق، رغم أنه مقال متقن بحيث يصعب تمييزه عن مقالات الكاتب الذي أدخلنا كتاباته كقاعدة بيانات.
يستطيع أيّ منا تخيّل نفسه في موقع ذلك الكاتب المفترض، ثم تخيّل نفسه في موقع الذكاء الاصطناعي الذي يأخذ في الحسبان مواقفه السابقة وطريقة صياغتها ليُنتِج نصاً مخلصاً لقناعات صاحبه، ولا عيب فيه سوى الإخلاص الشديد الذي يدل على عدم وجود أي جديد. في إبداء الرأي من الحرب الحالية حدث شيء مشابه، إذ قرأنا وسمعنا بوفرة آراء يُخلِص فيها كتّاب وناشطون لأنفسهم على نحو مذهل، وكأنهم حقاً ذلك الذكاء الاصطناعي.
وليس المقصود بما سبق ذمّ الإخلاص لتوجهات أو مبادئ عامة؛ المقصود هو الإخلاص لها كما هي تماماً، فلا تتطور إزاء حدث استثنائي. ومعيار الاستثنائي هنا عام لا ذاتي أو شخصي، ويستطيع الذين لا يرون في الحدث الحالي استثناء التنعّمَ بكونهم خارج هذا كله. نفترض، على سبيل المثال أن قلة الإخلاص “التي لا يعرفها الذكاء الاصطناعي” هي في أن يطوّر مناصرو الحق الفلسطيني أدواتهم فلا يكررون الكلام نفسه الذي كانوا يرددونه قبل السابع من أكتوبر، وأن يفعل الأمر ذاته آخرون لهم موقف نقدي، بل موقف نقدي صارم من حماس أو السلطة الفلسطينية. وتطوير المواقف لا يفترض الانتقال من ضفة لأخرى، على صعوبته أو سهولته، وإنما المقصود به أن تكتسب القناعات أفقاً أرحب مما سبق، وأن لا يستطيع الذكاء الاصطناعي التكهن بها تماماً.
على مستوى، ربما بدا مغايراً للوهلة الأولى، قدّم تعاطي المسؤولين الإسرائيليين مع وثيقة حماس المسرَّبة نموذجاً عن الذكاء الاصطناعي، فالذين انتصر رأيهم القائل أنه سيناريو خيالي فكّروا أيضاً بطريقة الذكاء الاصطناعي؛ وببيروقراطية قاعدة البيانات المسبقة. هذا جانب مما لا يريدون الاعتراف به، ورميهم المشكلة على حماس، والقول أن اجتثاثها هو الحل نابعٌ من طريقة التفكير ذاتها، الطريقة التي يتجنّب أصحابها إعادة النظر بقاعدة البيانات كلها، ومن ثم المخاطرة بالوصول إلى استنتاجات لا تريد النخبة الإسرائيلية الحاكمة التوصلَ إليها. والحق أن تفكير النخبة الإسرائيلية الحاكمة، تحدياً فيما يخص التعاطي مع الاستحقاق الفلسطيني، لا يختلف عن نمط تفكير سائد لدينا، وهو النمط الذي يركن إلى ما يألفه ويعتاد عليه، رغم مواجهته واقعاً مستجداً.
مشكلة هذه العقلية أنها لا تريد فهم دورة العنف الحالية بوصفها تعبيراً حاداً عن وضع استنفذ إمكانية استمراره، وأنّ طاقة العنف كانت كامنة والعنف الحالي ونوعيته والشعارات المرافقة له ليسوا أبناء غضب عابر، إذا كان لنا أن نصف أفعالاً جماعية منظّمة بالغضب. يستحق الثمن الباهظ للحرب “فيما يستحق” التعرّفَ على الواقع من قبل الذين يتحدثون فيها، ويستحق تالياً التفكير مع أصحاب الشأن، لا التفكير بدلاً عنهم أو الاستعلاء عليهم، ولعلنا لا نجانب الصواب في القول أن الذين يتمسكون بمسبقاتهم الفكرية يضمرون على الصعيد الأخلاقي احتقاراً للضحايا، بينما يضمرون احتقاراً معرفياً للواقع.
يستحق موضوع الذكاء الاصطناعي أن نأخذه معياراً لا في الموضوع الفلسطيني فحسب، وإنما لدى التفكير في العديد من مآزق بلداننا، خاصة تلك الواقعة تحت شبح حروبها الداخلية. هو تمرين يجدر بنا تعلّمه من أجل هذه الحرب ومن أجل مناسبات مقبلة، تمرين يخيفنا بموجبه أن نكون على العتبة ذاتها مع الذكاء الاصطناعي فيستطيع التفكير مثلنا بسبب تكاسلنا. ربما، على صعيد متصل، تكون شعوب المنطقة هي الأكثر تعرّضاً للتوبيخ لأنها تكرر أخطاءها، التوبيخ الذي يأتي بمعظمه ممن يرون أنفسهم معصومين عن التغيير!
المدن
——————-
مطار دمشق بوصفه نكتة سورية/ عمر قدور
الثلاثاء 2023/11/28
في الأسابيع الأخيرة راح سوريون، ليسوا من جهة المعارضة، يتندرون على عبارة “خروج مطار دمشق من الخدمة” التي تتكرر عقب القصف الإسرائيلي الذي صار بدوره خبراً معتاداً. أو بالأحرى لم يعد خبراً، وهذا مثار تندر الذين يقترحون اختصار العبارة والاكتفاء مثلاً بالقول “مطار دمشق” ليُفهَم المعنى تلقائياً. في السياق نفسه، بدأت عبارة “خروج المطار..” تنافس كطرفةٍ عبارة “الاحتفاظ بحق الرد”، والأخيرة هي التي يكررها مسؤولو وإعلام الأسد عقب الغارات الإسرائيلية على مختلف المواقع، ما لم يقرروا العودة إلى القول “بجدية مضحكة” أن قواته تردّ فعلاً على القصف الإسرائيلي باستهداف “عملاء إسرائيل” في أنحاء سوريا.
من أجواء التندر، مع التأكيد على أن مصدره ليس معارضاً، تنشر مثلاً صفحة “الجميلية الآن” على الفيسبوك إثر الغارات الإسرائيلية التي استهدفت مطاري دمشق والمزة يوم الأحد: (الأمهات اليوم: والله ما بجَوْزِك إلا لمتعهد إصلاح مطار دمشق الدولي. فهمانة؟). للصفحة المذكورة 183 ألف متابع، ومن طرائفها الأقدم نشرُها في أواخر حزيران 2020 تصريحاً لدكتورة في العلوم السياسية في جامعة دمشق تقول فيه: (أقول لإسرائيل: كِتْر القصف يقلل الهيبة). بينما جاء في منشور آخر ينضح بالأسى والحسرة حينئذ: (الآن يعود الطيار الإسرائيلي إلى بيته ليسكر، أو يمارس مع حبيبته الرذيلةَ، سالماً مطمئناً يشعر بالفخر لما فعله اليوم من إجرام وحشي شديد غير مسبوق).
لقصف مطار دمشق قبل يومين ميزة إضافية عن المرات السابقة؛ أنه أتى في فترة الهدنة المعلنة في الحرب على غزة. والهدنة كما هو معلوم شملت وقف التصعيد بين حزب الله وإسرائيل، وإن لم يُعلَن اتفاق خاص بينهما. أما مطار دمشق المسكين فلم يشفع له انتماؤه إلى المحور إياه، أو أن طهران “التي تستخدمه ممراً للأسلحة” لم تشأ تجنيبه موجة أخرى من القصف. وهذه المرة كأنما لم يسلم من السأم المصدرُ العسكري الذي نقلت عنه الخبر وكالة سانا، فاقتصر الخبر على خروج المطار من الخدمة، بينما كان المصدر سخياً في التعليق على غارات 12-10-2023 على النحو التالي: (إن هذا العدوان هو محاولة يائسة من العدو الإسرائيلي المجرم لتحويل الأنظار عن جرائمه التي يرتكبها في غزة، والخسائر الكبيرة التي يتعرض لها على يد المقاومة الفلسطينية، وهو جزء من النهج المستمر في دعم الجماعات الإرهابية المتطرفة التي يحاربها الجيش العربي السوري في شمال البلاد، والتي تشكل ذراعاً مسلحاً للكيان الإسرائيلي، وسيستمر الجيش العربي السوري بملاحقتها وضربها حتى تطهير البلاد منها).
بالمقارنة بين موجتَي القصف، لا يسع المصدر العسكري الإشارة في الأخيرة إلى غزة التي تشهد هدنة، إذ سيثير حينها تساؤلات عن استثنائه من الهدنة. يُضاف إلى ذلك أن التخلي عن الربط البلاغي بين الجبهات ينسجم أكثر مع سلطة الأسد الأقرب إلى السكون والسكوت، سواءً أتى نأيها عمّا يحدث طوعياً، أو أنه بطلب من “الحلفاء”. فالذي لا بد أن يلفت النظر بقوة هو أن الأسد ومسؤوليه لم يستغلوا الحدث الفلسطيني لإظهار رطانتهم المعتادة، ولولا كلمة الأسد في مؤتمر القمة العربية الطارئة لكان قد سجّل غياباً شبه تام عن حدث هو الأسخن في الجوار منذ عقود.
والأمر لا يتعلق بسخونة الحدث فقط، فاستثمار الأسد في الشأن الفلسطيني واحد من الأركان الأساسية الدائمة لسلطته كما ورثها من أبيه. وعدم قدرته على الاستثمار في الحدث الراهن يعني أن ركناً منها قد تقوّض إلى درجة تجعل التظاهر بعكس ذلك غير ممكن، والأسوأ “منظوراً إليه من هذه الجهة” أن حلفاءه لا يريدون ولو شكلياً إظهاره كشريك لهم، ما يعطي إشارات ليست لصالحه على صعيد موقعه ضمن الشراكة ككل.
خلال ما يقارب الشهرين ظهر الأسد مكتفياً بموقعه، قانعاً بالبقاء خارج اللعبة الإقليمية الكبرى. ذلك سهّل على البعض تفسير غيابه بوجود خلاف بينه وبين طهران، إذ يميل هو إلى عدم استثارة غضب إسرائيل التي فضّل مسؤولوها بالعديد من تصريحاتهم بقاءه في السلطة، ولا يريد تالياً أن يكون جزءاً من تصعيد ولو غير محسوب. هذا التفسير، بصرف النظر عن مدى صحته، ينطوي على انتهاء الاستثمار القديم عندما كانت تصريحات الأسد تجاه إسرائيل حامية، مع التفاهم ضمنياً على بقاء الجبهة باردة.
التفسير الذي يعفي الأسد تماماً مما يحدث هو اعتبار المطار ضمن الحصة الإيرانية، ومسؤولية الرد هي على طهران، ما يسهّل على أنصارها القول أنها ترد عبر ميليشياتها في أماكن أخرى. هناك أنصار سوريون لطهران يقولون هذا مواربة أو مباشرة، ولا يقصدون به إعفاء الأسد من الإحراج، بل إنهم يعززون “ربما بلا قصد” صورتَه كفاقد للسيادة على مرفق حيوي جداً. ليكون قد جُرِّد من دعامتَي المقاومة والسيادة، ولو أنهما أصلاً ومنذ زمن بعيد محضُ إنشاء ولغو.
في البداية كان كثير من السوريين يرى أن الحدث الفلسطيني الحالي قدّم خدمة للأسد، إذ على الأقل تحوّلت أنظار العالم عن جرائمه، ولا يُستبعد أن يستفيد في النهاية من صفقة يبرمها حلفاؤه مع واشنطن مقابل تخلّيهم عن حماس وعمّا يسمّونه حالياً “وحدة الجبهات”. في الواقع، ليس هناك أثر ملموس لاستفادة الأسد، فقواته التي تهاجم إدلب مثلاً تفعل ذلك على نحو شبه معتاد، وفي حده الأقصى قد يكون ضمن تفاهم ترعاه روسيا، ويسمح في شقه الآخر لأنقرة باستهداف قسد. في الغضون، لم يتوقف مسلسل العقوبات الأمريكية وآخرها يطال ماهر الأسد، وأصدر القضاء الفرنسي مذكرة توقيف بحق بشار الأسد نفسه.
ما رأيناه “بخلاف الافتراض الأخير” أن الحرب على غزة، وموقع الأسد منها، قد ساهما في إظهار تهافت سلطته، بدءاً من تهافت موقعها ضمن حسابات الحلفاء. وقد أظهر جميع الأطراف بوضوح تام أن هذه السلطة ليست مما يُحسب له أدنى حساب إقليمي، فهي مثلاً لم تتلقَّ أية اتصالات خارج المألوف منذ اندلعت الحرب، والقطيعة الغربية معها لا تبرر غياب الاتصالات إذ كان يمكن إجراؤها عبر وسطاء عرب يزورون دمشق في أوقات لا يكون فيها المطار خارج الخدمة، أو يزورونها حتى بالتنسيق مع تل أبيب كي لا تقصفه مؤقتاً. والإشارة هنا إلى التنسيق مع إسرائيل ليست على سبيل السخرية، فقبل أسابيع قصفت المطار حقاً مستبقة وصول وزير الخارجية الإيراني الذي توجّه إلى بيروت مكتفياً بزيارتها.
من المفهوم على نطاق واسع أن الذين يتندرون على المطار، وبينهم محسوبون على الموالاة، يستخدمونه كنايةً عن تهافت أعمق وأعمّ. ففي ظل الوضع المعيشي المتدهور لا يعتبر معظم السوريين مطار دمشق مرفقاً حيوياً يصعب الاستغناء عنه، بل هو بتكرار قصفه وخروجه من الخدمة يقدّم لهم مادة للتندر تفوق بأثرها وجودَه في الخدمة.
المدن
——————–
=========================
درج
—————————
“السكان الأصليون” في غزّة لا يموتون مصادفةً!/ عمّار المأمون – كاتب سوري
08.12.2023
نحن أمام أزمة بلاغية، فالفلسطينيون إذاً هم كلّ شيء إلا فلسطينيين، هم سكان أصليون، وعرب، وفي بعض الخطابات هم جهاديون وإسلامويون ومن دون دولة، وغيرها من الصفات، وكل واحد من هذه الخطابات يفترض وضعية إما ذات انتماء “أممي” أو “قومي”.
انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي، مقطع فيديو لشاب فلسطيني يرقص أمام الحرائق أثناء “مسيرات العودة” عام 2018. وفجأة، من دون معرفة السبب، تمت مُقارنة تمايله مع رقصات “السكان الأصليين” في الولايات المتحدة، أولئك الذين ارتُكبت إبادة جماعية بحقّهم، لترسيخ سلطة مستعمري العالم الجديد.
نشير إلى هذا الفيديو في محاولة لانتقاد مفهوم “السكان الأصليين” الذي يُلصق بالفلسطينيين، وبالطبع المفهوم ليس بجديد، تكفي قراءة قصيدة محمود درويش “خطبة الهندي الأحمر، ما قبل الأخيرة، أمام الرجل الأبيض-1992” كي تتّضح المقارنة.
لكن، يفترض مفهوم “السكان الأصليين” أن هذه الفئة من قاطني الأرض اختفت، وقلة قليلة منها بقيت لكنها “لم تعد مُهيمنة”، وما يربطهم مع أجدادهم الذين رحلوا شأن غامض، هل هو الدم؟ التقاليد؟ اللغة؟ الرقصات؟.
ترى بعض المقاربات السياسيّة أن الإبادة الأميركيّة حدث مؤسّس للسيادة، بصورة أدق، لديمقراطيّة الولايات المتحدة، في حين أن الديمقراطيّة اليونانيّة الكلاسيكيّة التي صُدّرت إلى أوروبا (ومستعمراتها لاحقاً)، تأسست على ظهور العبيد. نحن إذاً، أمام نموذجين للاستثناء يُشكل كلّ منهما سيادة فئة على أخرى.
تسعى الأقلية الأصلية، التي لا نعلم بدقة كم يجب أن يكون عدد أفرادها ليصنّفوا كـ”أصليين”، الى الحفاظ على إرثها الثقافي لا السياسي، وهذا ما حصل مع سكان أميركا الأصليين، وما يحصل مع الفلسطينيين في أنحاء العالم. المُنتج الثقافي “الأصلي” يكتسب قيمة زخرفيّة، هو موجود للإشارة إلى من رحلوا، ولم يبق منهم سوى حكايات، وهذا ما يلخّصه درويش بقوله: “لَمْ يَبْقَ مِنَّا سِوَى زِينَةٍ للْخرابِ”.
العبارة الشعريّة السابقة تُغذّي المنظمات المدنيّة التي تتوق الى الحفاظ على التراث “الأصلي”، الكلمة الأكثر بحثاً في معجم ويبستر هذا العام، لكن ما أن تشتعل الحرب في غزّة، حتى تتوقف هذه المنظمات عن تقديم الدعم، ربما لأن هؤلاء “الأصليين”، ما زالوا أحياء في غالبيتهم!.
يحيل لفظ “سكان أصليين” وتنويعاته إلى أن الإبادة اكتملت، ولم يعد هناك فلسطينيون على هذه الأرض، أو بصورة أدق، أرضهم. يعني أيضاً أنهم مُشرّدون في الشتات، يستعيدون تراثاً وحكايات ماضية. لكن هذا يخالف الحقيقة، إذ إننا لم نصل بعد إلى مرحلة ما بعد الاستعمار أو ما بعد الإبادة، الاثنان ما زالا قائمين ومستمرين، والأهم، الفلسطينيون أنفسهم، أي جيل “الأصل”، ما زال بعضهم حياً، ويذكر بدقة مرحلة ما قبل الاستعمار.
السكان الأصليون VS العرب
يركز الخطاب الإسرائيلي على كلمة “العرب”، و أن الفلسطينيين عرب مثل من هم حولهم، وكأن لا اختلافات بينهم، ولا نتحدث هنا عن بلاد الشام، ففي البلاغة الإسرائيلية رهان على العروبة نفسها من “المحيط إلى الخليج”.
كلا الخطابين إشكاليّان، العروبة تفني المكونات الثقافية والعرقية في المنطقة ضمن عبارة واحدة وليدة أنظمة قمعية “أمة عربية واحدة”، وتفرض أخوّة دَفَع ثمنها لعشرات السنين قمعاً وذلاً، سكان أصليون ومحليون ومؤيدون ومعارضون.
أما عبارة “السكان الأصليون” فهي بلاغة أنظمة ما بعد استعمار/ ما بعد إبادة، وترى أن ما تبقى من “السكان” لا يصلحون للحكم أو بصورة أدق، لا يصلحون للسيادة على كل الأرض التي “كانت” ملكهم، بل يتمتعون بنوع من الاستقلال الذاتي ضمن فراديسهم المسوّرة، كما حالة الأميركيين الأصليين، وفي حالة غزة، جحيمهم القسريّ.
بغض النظر إن كانت المقتلة بيروقراطيّة إدارية أو ذكيةّ تكنولوجيّة، تصنيف “السكان الأصليين” لا يعني سوى العنف، والتغني بالزينة والرقص والرموز و”نظام التمثيل” ونزع فئة من السكان من مفهوم الأقليّة الفاعلة نحو الأقلية التزيينية، إن صحّ مصطلح كهذا!.
نحن أمام أزمة بلاغية، فالفلسطينيون إذاً هم كلّ شيء إلا فلسطينيين، هم سكان أصليون، وعرب، وفي بعض الخطابات هم جهاديون وإسلامويون ومن دون دولة، وغيرها من الصفات، وكل واحد من هذه الخطابات يفترض وضعية إما ذات انتماء “أممي” أو “قومي”.
الأثر السياسي لـ”اتهام” الفلسطينيين بلاغياً، بأنهم سكان أصليون، يعني أننا في زمن الحكايات فقط، و”اتهامهم” بأنهم عرب، وهنا نركز على كلمة اتهام، يحيل إلى بلاغة التشريد والتهجير التي تتبناها إسرائيل والحقوق المنقوصة التي تتبناها الدول العربيّة، كلا الكلمتين إذاً ليستا إلا مصادرة للحق الفلسطيني.
نحو مقتلة جماعيّة ذكيّة
كشف تحقيق “مصنع اغتيالات جماعيّة” عن توظيف الذكاء الاصطناعي لاستهداف ساكني قطاع غزّة، الذين تحولوا إلى بيادق بشريّة “يأمرهم” الجيش الإسرائيلي بالتحرك بين “البلوكات”التي يفوق عددها الـ2700، وذلك لتفادي الموت، البلوكات ذاتها موجودة في الولايات المتحدة تحت اسم “محميات السكان الأصليين” تفصل بينها الأراضي الخاضعة للحكومة الفدراليّة.
اللافت في التحقيق السابق، هو عبارات مرعبة على لسان ضباط في الجيش الإسرائيلي والاستخبارات الإسرائيليّة، إحداها “لا يوجد ما يسمى حادث… هذه ليست صواريخ عشوائيّة. كل شيء مُتعمّد. نعرف بدقة مقدار الأضرار الجانبية في كل منزل”.
لا يمكن استخدام وصف “إبادة” كون المؤسسات التي تمتلك سلطة إطلاق هذا الوصف، شديدة الحيثية. والأهم، تعريف الإبادة، و الإبادة كجريمة ضد الإنسانيّة، تمّ تبنّيها بعد الحرب العالميّة الثانية، كجهد بيروقراطي وإداري للقتل بكميات كبيرة، ولا ينطبق على أي أحد هكذا صوّر أكوام الجثث وبثها لـ”العالم”!. لكن هذا لا يهم.
ما يهم أننا أمام ماكينة تدرك بدقّة من تقتل ومن لا تقتل، وكل من قتل كان محسوباً، لكننا لسنا أمام مواجهة، فلا يمتلك “الهدف” حقاً بالاستسلام، أو الدفاع عن النفس، أو حتى الخيانة والانضمام إلى الجانب المقابل، فلا اشتباك وجهاً لوجه، بمجرد صدور قائمة الأهداف (حوالى 250 هدف يومياً) فالموت محتم.
المقتلة الذكيّة إذاً تدشين لعصر جديد من القتل الجماعي، بدأ مع باراك أوباما، ملك الدرونات والضربات عن بعد، ثم درونات حرس الحدود الأوروبيّة وتقنيات التعرف على الوجه، والآن بلغ أوجه مع نظام Habsora لتوليد الأهداف، الكتاب المقدس إن أردنا ترجمة الكلمة، ذاك الذي كلامه لا ريب فيه، كل من يُذكر اسمه فيه، هدف لا بد من إصابته.
هذا التصميم على نسف السلالة وترسيخ صيغة “السكان الأصليين” لاختزال القدرة السياسيّة مقصود دوماً، وليس حادثاً أو ضرراً جانبياً، منذ عامين فقط، اكتُشفت في كندا مقابر لأكثر من ألف طفل من السكان الأصليين، أُخذوا من أهلهم نحو مدارس خاصة، كي “يبعدوا من ثقافتهم الأصليّة”، بصورة ما، للحد من تكاثر الأصليين، والحفاظ عليهم كأقليّة تزيينيّة لـ”الفئة المهيمنة”.
بغض النظر إن كانت المقتلة بيروقراطيّة إدارية أو ذكيةّ تكنولوجيّة، فئة السكان الأصليين لا تعني سوى العنف، والتغني بالزينة والرقص والرموز و”نظام التمثيل” ونزع فئة من السكان من مفهوم الأقليّة الفاعلة نحو الأقلية التزيينية، إن صحّ مصطلح كهذا!.
أي أصل نتحدث عنه؟
خطاب السكان الأصليين أيضاً يحوي غموضاً، أيّ أصل بدقة نتحدث عنه؟ أي في أي فترة زمنية بدقة؟ قبل 50 عاماً؟ قبل 100؟ قبل 2000 عام؟ هذا الأصل غامض ويدخلنا في دوامة مليئة بالمغالطات التاريخية والأساطير والقوى السحريّة، التي تتحول في النهاية إما إلى أساطير يوميّة خالية من المعنى السياسي أو نظريات عنصرية عن العرق، لكن قبول المصطلح يعني نوستالجيا لأرض ضاعت من دون عودة، لم يبق منها سوى رقصاتها.
بالعودة إلى الشاب الذي يرقص أمام النار، نحن أمام شكل من أشكال الدبكة كما هو واضح، وضرب الأرض تقليد قديم، إذ نضرب الأرض حتى تنبت زرعاً، التشابه والمحاكاة هنا لا علاقة لهما بالتقاليد ما قبل الإبراهيميّة، ربما هو محض مصادفة أو مخيلة تسلم بالموت الجماعي، والأهم، لا حديث عن الأصل هنا، ربما ما زال هذا الشاب حياً، كان يحاول ممارسة فعل سياسي حُرم منه.
المفارقة في مقاربة السكان الأصليين هذه هي ظهور بوسترات تصوّر فلسطينياً وأميركياً أصليين يرقصان، بعضها كان يحوي فتاةً بشعر مطلق، ثم تحولت إلى فتاة محجّبة، فأي أصل هنا يُحال له؟.
يشير سامي الكيال في مقال له، الى أن استخدام هذا اللفظ محاولة لـ”تصفية الذات السياسية للفلسطينيين” فـ”رد الفلسطينيين تماماً إلى هوية (سكان أصليين) ومن دون أي حديث عن إعادة بناء سياسي لهم، فلن يوصل إلا إلى التقاطع مع التفكير الإسرائيلي بإعطاء حكم ذاتي ما لـ(السكان المحليين) بعد إنهاء كل حديث عن حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني”، ونضيف هنا ما قاله نتانياهو بوضوح، إن اتفاق أبراهام يخرج الفلسطينيين من معادلة “القضية الفلسطينيّة”.
أزمة إعادة الإعمار
يُمنح السكان الأصليون في أميركا السيادة فوق الأرض التي يثبت أنها تعود لهم، وهم في غالبيتهم يقيمون فوقها كازينو، كون قوانين المقامرة لا تنطبق عليهم بصورة كليّة، كذلك يحتفظون بالمقابر القديمة، لما تحمله من قيمة جنائزيّة وتاريخيّة. بالطبع، يرى نقّاد هذا الشكل من “الاعتراف” أن تراكم المال لدى السكان الأصليين سيفقدهم ثقافتهم كونهم سيغادرون أرضهم ومحمياتهم، بالتالي سيفقدون “أصالتهم”. أي، هناك خياران، إما ابقوا معزولين في المحميات والمقابر والكازينوهات لتبقوا أصليين أو غادروها لتفقدوا هويتكم.
هناك تأكيدات من إسرائيل يرافقها ذكر لعدد من الدول العربيّة بأن غزّة بعد “تصفية حماس” سيعاد إعمارها، وقد تتحول إلى فردوس، أي بصورة ما، الدمار كله سيختفي لتظهر عوضاً عنه ناطحات سحاب، لن تستهدفها إسرائيل كما تفعل الآن مع الأبنية العالية، وغالب الظن، سيتم الحفاظ على المقابر، لكن السؤال، أين ستبنى بالضبط ناطحات السحاب؟ فوق مخيم جباليا؟ حول خان يونس؟.
هناك مفارقة لغويّة، وهي أن كلمة فردوس تعني الحديقةَ المسوّرة، مكاناً من نعيم، لا سياسة فيه، كل من في داخله يتمتع بهويّة نورانيّة مليئة بالملذات المتخيّلة، ويمنع أن يدخل إليه أحد، لكن ما أن يخرج منه أحدهم، حتى يفقد كل ما كان يمتلكه من مميزات، فهل نريد لغزّة أن تكون “فردوساً للسكان الأصليّين”؟.
درج
————————
============================
المجلة
————————-
غزة وجروحنا المفتوحة… والمنسية/ إبراهيم حميدي
10 ديسمبر 2023
الصورة قاتمة ومؤلمة في قطاع غزة. قتلى وجرحى ونازحون ومشردون. وتفشٍ للأمراض وخوف من مجاعة. كارثة متدحرجة، والمناطق الآمنة سراب. غزة تنضم إلى الجروح العربية المفتوحة والمنسية.
منذ هجوم “حماس” في 7 أكتوبر/تشرين الأول الذي قُتل فيه 1200 إسرائيلي، أسفر الهجوم الإسرائيلي عن مقتل أكثر من 17400 شخص، معظمهم من النساء والأطفال، في حين أن 22 مشفى من أصل 36 خرجت عن الخدمة.
مفاجأة 7 أكتوبر كشفت مخاطر أوهام الاكتفاء باحتواء الحرب. الحروب المجمدة تتفجر فجأة. إدارة الصراع ليست الوصفة الصحيحة لأزمات الشرق الأوسط. الحدود معرضة للاختراق والسدود مناعتها ليست أبدية.
سوريا مقسمة إلى ثلاث مناطق نفوذ تفصل بينها خطوط أشبه بالحدود بين الدول. في كل واحدة منها زعامات محلية وقواعد عسكرية وجيوش أجنبية. وليبيا مقسمة إلى منطقتين بينهما خطوط وحدود وآبار نفط وسدود مياه. والسودان فيه حرب مستعرة بدأت ترتسم فيها معالم جيوب السيطرة وجبهات القتال في “حرب الجنرالين”. هذه الدولة التي انضمت حديثا إلى قائمة الحروب الأهلية العربية، نسيها العالم. عادت إلى الأخبار على وقع كوارث ترتكبها “قوات الدعم السريع” في دارفور، ذلك الإقليم المحشور بين حرب وجنرالين.
في العراق، مناطق نفوذ وقواعد أجنبية وميليشيات تتحدى الحكومة ولا تأتمر بأمرها. ساحة للصراع والرسائل بين أميركا وإيران.
وفي لبنان، فراغ أو تصريف أعمال في معظم المؤسسات السيادية الكبرى، الرئاسة والمصرف المركزي والأمن والقضاء والحكومة والبرلمان، وهناك “حزب الله” الذي يسيطر على القرار. وكذلك في اليمن، حيث “الحوثيون” والتمرد على الشرعية لمصادرة القرار والجغرافيا.
أزمات سياسية وكوارث عسكرية. جروح مفتوحة. لا يعاينها “الأطباء” و”المسعفون” إلا عندما تداهمها كوارث طبيعية أكبر. زلزال أو فيضان أو حريق.
فجأة تذكر العالم سوريا عندما ضرب زلزال كارثي شمالها الغربي في فبراير/شباط الماضي. سوريا المنسية عادت فجأة إلى الواجهة. اتصالات ومناشدات ومساعدات وخطوات لم تحل مشكلة سوريا والسوريين. مشكلتها أعمق، وسرعان ما نسيها العالم وتركها مع جروحها ومعاناتها واحتلالاتها واعتلالاتها.
ليبيا، تذكرها العالم عندما غمرت كارثة الفيضان درنة في سبتمبر/أيلول الماضي. كارثة تذكر بكارثة. تبادلت الأطراف المتحاربة قذف المسؤولية. حكومة طرابلس وجيش بنغازي لم يقصرا بإعلان البراءة من دم الفيضان. ليبيا ما بعد “الأخ العقيد” القذافي، التي حصل فيها التغيير قبل أكثر من عقد وتنام على كنوز من الثروات تقف مشلولة أمام فيضان.
كذلك الحال في العراق، عندما استيقظ عراقيو ما بعد “القائد” صدام، على كارثة الزفاف في سبتمبر. عرس تحول إلى مأتم. أشلاء متناثرة في قاعة للأفراح. حريق أنسى السياسيين خلافاتهم لفترة قصيرة، لكن سرعان ما تبادلوا الاتهامات بالفساد والإهمال. وعادوا إلى عاداتهم وخلافاتهم. كارثة تطوي أخرى بانتظار أخرى. عاد العراق إلى نسيان لا تعكره سوى المكاسرات “الوطنية” بين السياسيين، والضربات والغارات بين الميليشيات الموالية لإيران والقوات الأميركية.
كوارث تذكر بأخرى. بدلا من أن تكون فرصة للبحث عن حلول لجذور الأزمات، تكون مناسبة لتبادل الاتهامات والتبرؤ من المسؤولية والنوم على المهدئات والسباحة في الجروح النازفة والإقامة في الانقسامات المفتوحة.
المهم أن لا يدخل قطاع غزة في ساحة النسيان. أن لا يعتاد الناس على أخبار القتلى والنازحين والمهجرين. كل أزمة تشكل فرصة. كل محنة هي منحة. لذلك، هناك ضرورة فلسطينية وعربية ملحة للتحرك وعدم الانتظار. التحرك نحو وقف النار وإدخال المساعدات والبحث في المسار السياسي والترتيبات المتعلقة بالأوضاع في قطاع غزة والضفة الغربية. هناك ضرورة بعدم الاكتفاء بصفقات وتفاهمات “احتوائية”.
أسوأ خيار أن تعود غزة المدمرة والمجروحة إلى النسيان والحصار. أخطر سيناريو أن يصبح أهلها نازحين أو لاجئين أو قتلى أو أرقاما منسية. يجب أن لا تصبح غزة خبرا عاديا أو مجرد خبر، وأن لا تنضم إلى قائمة الأزمات العربية المزمنة والمنسية. جروحنا عميقة لكن ذاكرة العالم قصيرة وهمومه كثيرة.
المجلة
——————-
سجننا الأخلاقي …نكبتنا المستمرة/ عالية منصور
10 ديسمبر 2023
على موقع “إكس” (تويتر سابقا) كتبت قبل أيام سؤالا: “ما رأيكم بشخص أرغم فلسطينيا على دفن شقيقه حيا؟”، والمقصود يحيى السنوار رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” في الداخل، السنوار الذي يلقبه مؤيدوه بـ”صائد العملاء”، والمعروف عنه هوسه الأمني، فمجرد الاشتباه بأحدهم كان كافيا بالنسبة للسنوار أن يحاكمه ميدانيا ويعدمه.
انهالت التعليقات من مختلف الدول العربية، من فلسطينيين ومصريين، أردنيين وسوريين ولبنانيين، الغالبية العظمى تثني على ما قام به “البطل” يحيى السنوار، ويتمنون لو أن في كل بلد هناك سنوار كسنوار فلسطين.
السنوار الذي تباهى يوما بأنه قتل مشتبها به بكلتا يديه بعد أن خنقه بكوفيته، أمضى 23 عاما في السجون الإسرائيلية. أتقن اللغة العبرية، وخرج في صفقة تبادل بين “حماس” وإسرائيل بعدما تمكنت الحركة في العام 2006 من أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، يومها شنت إسرائيل حربا على قطاع غزة وبعدما فشلت في تحرير شاليط، دخلت في مفاوضات مع “حماس” استمرت 5 سنوات، لتفرج الحركة في النهاية عن شاليط مقابل 1027 أسيرا فلسطينيا، كان أحدهم يحيى السنوار.
خرج السنوار من الأسر وتبوأ مناصب قيادية في “حماس”، فكان أول عسكري يتسلم منصب رئيس المكتب السياسي. لم يقتل السنوار فقط من شك مجرد شك في أنهم عملاء، بل أعدم من اختلف معهم سياسيا، فالقيادي في القسام محمود شتيوي، أعدم بتهمة “تجاوزات أخلاقية وسلوكية”. هذه التجاوزات قيل إنها تواصله مع “حماس” الخارج وتحديدا رئيس الحركة خالد مشعل، بينما ذكر القيادي في الحركة جهاد جعبري، في رسالة عنوانها “رسالة توبة”، أن شتيوي الذي كان يترأس خلية الأزمة التي شكلت لتقييم حرب عام 2014 خرج بتقرير أمني مهني ودقيق جدا أجاب من خلاله على مجموعة من التساؤلات التي كانت قائمة في صفوف قيادات وكوادر “القسام” وأجهزة “حماس” الأمنية والعسكرية.
القتل عادة عند السنوار، ليس قتل المحتل فقط ولكن قتل كل من يختلف معه أو يشك في ولائه، يفعل ذلك بسهولة، ولكن لم لا؟ أو كيف لا؟ فإن كان هناك من يفتخر ويتباهى بما يفعله وفعله السنوار، إن كان بين الشعوب العربية من يرى أن دفن مشتبه به حيا ليس بالأمر الجلل، بل ويحتفلون به ويتمنون أن يصل هذا الفعل إلى داخل أوطانهم، وطبعا يتمنون المصير نفسه لكل من يخالفهم الرأي. لا داعي للسؤال حينها عن المحاكمة والدليل، ما دام إرغام شقيق على دفن شقيقه حيا أمرا يدعو “للفخر”، ما دام أن الكوفية التي صارت رمزا للقضية الفلسطينية هي وسيلة إعدام وقتل، مجددا ليس المحتل بل المشتبه بهم، أو من يدري حقا ما هو خلاف من قتلوا بها مع السنوار.
منذ ظهور “داعش” وقبلها “القاعدة”، وجميع المتطرفين والإرهابيين تستروا بالإسلام والإسلام منهم براء، ونحن نقول إنهم لا يمثلون سوى أنفسهم. نحن ندين جرائم إسرائيل ونستنكرها ونعيب على الغرب عدم احترامه لحقوق الإنسان إن كان هذا الإنسان عربيا مسلما، ولكن نحن أيضا، أو كثير منا، يرفض أن يحترم حقوق الإنسان شريكه في الوطن، بعضنا يبرر قتل كل صاحب رأي مخالف. نتهمه مرة بالعمالة ومرة بالكفر. نهدر دمه غير آبهين لا بحقوق إنسان ولا بقيم نطالب الغرب فقط بأن يحترمها أثناء تعاطيه معنا.
المذبحة/المجزرة المستمرة منذ أكثر من شهرين في غزة، أي حرب إسرائيل الهمجية الانتقامية من شعب بأكمله، انتقاما لعملية عسكرية قادها السنوار ضد الاحتلال، وتخوين كل من عارضها وإهدار دمهم، إن دلت على شيء فإنما تدل على أن نكبتنا كبيرة، منذ النكبة الأولى واحتلال فلسطين عام 1948. نكبتنا أننا لا نتعلم من أغلاطنا الكثيرة بل ونصر على تكرارها. نكبتنا أننا لا نقبل النقد؛ فشعار “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة” يسيطر علينا منذ 75 عاما ومستمر. نكبتنا أننا نطالب الآخرين بفعل ما نرفض نحن فعله، نكبتنا أن عقلنا مغيب بإرادتنا، نكبتنا أننا ننزلق للتناقض من دون أن نشعر، ونقع في فخ تبرير الجريمة بناء على فاعلها أو الضحية منها، وهنا يصبح تبرير القتل أسوأ من القتل بحد ذاته، فجرائم إسرائيل لا يمكن أن تكون تبريرا لجرائم السنوار، وكذلك فإن جرائم السنوار لا يمكن أن تكون تبريرا لجرائم إسرائيل.
فهل سنستطيع أن نتجاوز سجننا الأخلاقي والفكري والعقائدي وأن نصبح قادرين على رؤية الحقيقة عارية، وأن نرى الجريمة فعلا قبيحا حتى ولو كان فاعلها شقيقنا مثلما نراها فعلا قبيحا عندما يكون ضحيتها شقيقنا، أم لم نتعلم من تجاربنا؟
يقول كارل ماركس: “التاريخ يعيد نفسه مرتين، المرة الأولى كمأساة والثانية كمهزلة”. ولكن في حالتنا فإن نكباتنا هي من تتكرر، مرة واثنتين وثلاثا، ولكن في كل مرة المأساة أكبر وأفظع.
——————————-
حرب غزة… تداعيات وخيارات/ إبراهيم حميدي
04 ديسمبر 2023
بعد مرور أسابيع على حرب إسرائيل في غزة، هناك ثلاث ملاحظات؛ الأولى، شن إسرائيل حربا انتقامية مجنونة على المدنيين في قطاع غزة، وصفقات لتبادل الأسرى بين إسرائيل و”حماس”. الثانية، عدم دخول طهران أو “حزب الله” في حرب شاملة دعما لـ”حماس”، والاكتفاء بالتحرش بأميركا أو إسرائيل ضمن “قواعد الاشتباك”. والثالثة، استمرار وجود خيارات عربية في النظر إلى المستقبل والدفع بحل عادل لقضية فلسطين.
لكن ماذا لو استمرّت الحرب وقتا طويلا رغم الهدن وصفقات التبادل؟ ما التداعيات الإقليمية السياسية والعسكرية، في منطقة الشرق الأوسط؟ ما مصير التسويات، و”الخطوط الحمراء”، و”قواعد الاشتباك”؟
قصة غلاف “المجلة” لشهر ديسمبر/كانون الأول، تتناول هذه التساؤلات… عدد أكتوبر/تشرين الأول الماضي، كان عن “مفاجأة 7 أكتوبر” التي باغتت “حماس” فيها إسرائيل. وعدد نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، كان عن منعكسات الحرب على القضية الفلسطينية والمعاناة الإنسانية والمخاوف من “نكبة ثانية”.
ومع استمرار الحرب، رغم الصفقات والوقفات والوساطات، فإن السؤال الأساسي: كيف سينعكس ذلك في الشرق الأوسط؟ خبراء وصحافيون يجاوبون على هذا السؤال في هذا العدد.
“مفاجأة 7 أكتوبر” أعقبتها مفاجأة ثانية لـ”حماس”؛ إيران لم تحرك وكلاءها وحلفاءها في الإقليم، كي تفتح حربا شاملة لإنقاذ “حماس”. أدى قيام أميركا بنشر حاملتي طائرات في الخليج والبحر الأبيض المتوسط، ونقل رسائل تحذيرية إلى طهران، وعقد تسويات صغيرة، إلى حصر “تضامن” إيران في “قواعد اللعبة”. كان هذا واضحا في لقاء “المرشد” الإيراني علي خامنئي مع رئيس المكتب السياسي لـ”حماس” إسماعيل هنية. فالأول عاتب الثاني على “عدم التنسيق”، ونقل إليه أن فصائل “محور الممانعة” في المنطقة “أبلغته” بحدود الرد. والثاني، برر عدم إبلاغه بموعد “7 أكتوبر” بـضرورة “مباغتة العدو”، ثم طلب تحركا عسكريا من “محور المقاومة”.
واقع الحال، إن التصعيد الإيراني المحسوب، في العراق ولبنان وسوريا واليمن، استهدف ممتلكات أميركية أو تصعيدا تصاعديا محسوبا في جنوب لبنان وشنّ ضربات رمزية أو استعراضية في ساحات أخرى، وقوبل إما بإبطال مفعول الهجمات وإما بـ”ضربات استباقية” إسرائيلية في سوريا. وكان رد أميركا في بعض الأحيان خارج “قواعد اللعبة” كما حصل في العراق، عندما قصفت- لأول مرة، منذ دخلت إدارة جو بايدن البيت الأبيض- ميليشيات مدعومة من إيران.
الانصياع لـ”قواعد الاشتباك” لأسابيع، كان واضحا. لكن استمرار الحرب وانتقالها إلى جنوب قطاع غزة وتلويح تل أبيب بـ”تفكيك البنية العسكرية لـحماس” عبر القصف أو الإبعاد، وتمسك بعض مسؤوليها بالتهجير من القطاع إلى مصر، ومن الضفة الغربية إلى الأردن، أمور تبقي الشرق الأوسط على رماد ساخن، خصوصا أن هذه المنطقة تستيقظ كل يوم على تصريح خرافي أو جنوني، من فريق حكومة بنيامين نتنياهو عن التهجير والتسليح أو “النووي”.
حرب غزة، أعادت الموضوع الفلسطيني إلى الواجهة، وطرحت أولويات عاجلة؛ وقف إطلاق النار ومعالجة الملف الإنساني المؤلم، وبند طويل الأمد يتعلق بإقامة الدولة الفلسطينية و”حل الدولتين”، الذي كان أساسيا في المفاوضات الأميركية- السعودية، التي تضمنت أيضا بنودا ثنائية استراتيجية واقتراح علاقات مع إسرائيل.
منعكسات هذه الحرب وصلت إلى ساحات أخرى مثل أوكرانيا، وحسابات كبرى تخص روسيا والصين، وانتخابات مفصلية في أميركا المنقسمة. هذه قد تؤخر البحث عن الشرق الأوسط الجديد، لكنها لن توقفه، بل إن الفعاليات والنشاطات السياسية والاقتصادية والثقافية في المنطقة تدل على التمسك بالنظرة الاستشرافية والالتزامات الطويلة وأهمية استقرار المنطقة، لأن بوصلتها وطنية وداخلية أساسا.
المجلة
————————–
نقل مباشر للجريمة/ عالية منصور
03 ديسمبر 2023
مئة يوم ونيف على انطلاق المظاهرات المطالبة بإسقاط نظام الأسد في محافظة السويداء، أكثر من 12 عاما على انطلاق الثورة السورية. الثورة التي انطلقت أيضا من الجنوب السوري بمظاهرات سلمية مطالبة بالحرية والإصلاح. وما كان من النظام السوري إلا أن رد عليها بالرصاص والاعتقال والتعذيب.
استمرت المظاهرات السلمية شهورا عديدة، وامتدت إلى معظم المدن والقرى السورية، كان النشاط المدني للشباب السوري يملأ ساحات سوريا، إضرابات واعتصامات، هتافات وأغانٍ، لكن نظام الأسد أصر من اللحظة الأولى لانطلاق المظاهرة الأولى أن ما يحصل هو مؤامرة تستهدف “سوريا الأسد” بسبب موقفها من القضية الفلسطينية، فالمتظاهرون ليسوا سوى عملاء وخونة أو إرهابيين من وجهة نظر النظام.
تلى المظاهرات بدء حالات الانشقاق عن الجيش السوري، رفض المنشقون إطلاق الرصاص وقتل المتظاهرين المطالبين بالحرية والعدالة للجميع. كانت بيانات الانشقاق تدعو عناصر الجيش للانشقاق عن نظام الأسد وحماية المتظاهرين، كبرت كرة النار، جلب النظام مرتزقة “حزب الله” من لبنان ومرتزقة أفغانا وعراقيين، أصبحت الميليشيات التابعة لإيران جنبا إلى جنب، بل أحيانا كثيرة في الصفوف الأولى، لقتل السوريين وتهجيرهم.
ارتكبت المجازر بحق المدنيين. بحق النساء والأطفال والشيوخ بالسلاح الأبيض. تم ذبح السوريين أمام عدسات الكاميرات. كان النظام يوثق جريمته وكأنه واثق من أن أحدا لن يحاسبه، وبعد آلاف الضحايا وملايين المهجرين انتقلت الثورة السورية إلى مرحلة السلاح، ومن السلاح لحماية المتظاهرين إلى السلاح لإسقاط النظام، ومن ثم إلى سلاح تحرير سوريا من المحتل الإيراني بداية، ولاحقا الإيراني والروسي. ومع فشل كل المسارات السياسية السلمية وعسكرة الثورة، ومع الخلافات بين داعمي الثورة، انتقل جزء كبير من السلاح من كونه سلاحا من أجل الثورة إلى سلاح في خدمة أهداف إقليمية ودولية. وهذا حديث طويل يجب أن يحكيه من عاش تفاصيله يوما ما. لأن ما حصل حينها وما نتج عنه من آثار نعيشها اليوم، هو ملك للسوريين، جميع السوريين.
خمسون يوما ونيف، على قيام “كتائب القسام”، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) بعملية “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، العملية التي برهنت على فشل الاستخبارات الإسرائيلية وشكلت صفعة لن تمحى بتاريخ إسرائيل. جاء الرد الإسرائيلي سريعا، حرب همجية على غزة، حرب أقل ما يقال عنها إنها إرهابية، وتحت ذريعة محاربة “حماس”، دمرت إسرائيل معظم غزة وسوتها بالأرض، قتلت عشرات آلاف المدنيين، آلاف الأطفال قضوا نتيجة إرهاب إسرائيل، حتى صار البعض يطلق عليها حرب إسرائيل على أطفال غزة، ملايين المهجرين داخل قطاع غزة، لم تنجو من همجية الحرب لا المستشفيات ولا مدارس النازحين، كل شيء متحرك أو ثابت هو هدف للجنون الإسرائيلي.
ولكن لا الجنون الإسرائيلي مستغرب ولا إرهاب إسرائيل وجرائمها ضد المدنيين بالأمر الجديد، فقط السذج أو الجاهلون هم من يتفاجأون اليوم من قدرة إسرائيل على القتل والتدمير، فقط هؤلاء من يصدمهم أن العالم وعلى رأسه الولايات المتحدة لن يتدخل ليمنع إسرائيل من الاستمرار بالتعبير عن غضبها من 7 أكتوبر/تشرين الأول، ومن ارتكاب المجازر بذريعة ما حصل في 7 أكتوبر.
يصر البعض على مقارنة مارس/آذار 2011 وانطلاق الثورة السورية بـ7 أكتوبر وعملية طوفان الأقصى، رغم أن الأمرين مختلفان بشكل شبه كامل، وإن كان الحق في الحرية والتحرر من العدو والاستبداد من الحقوق الأساسية للإنسان، أي إنسان، وإن كان لا شيء يشبه حجم الجرائم التي ترتكبها إسرائيل إلا حجم الجرائم التي ارتكبها بشار الأسد ومعه الميليشيات الإيرانية، ولا زالوا يرتكبونها حتى هذه اللحظة، وإن كان لا مفاضلة بين قاتل وقاتل، وإرهابي وآخر، وضحية وأخرى، ولكن من المؤكد أن صور المعتقلين الفلسطينيين يخرجون من سجون الاحتلال بصفقات التبادل شكلت غصة كبيرة للسوريين، فمعتقلوهم لم يخرجوا سوى جثث مشوهة من التعذيب ولم يتعرفوا عليهم إلا من خلال صور وفيديوهات مسربة.
وبالعودة إلى المقارنة، فثورة انطلقت بمظاهرات سلمية واستمرت لشهور عديدة لا يمكن مقارنتها بعملية عسكرية قام بها فصيل تابع لحكومة “حماس” في غزة، لا يمكن تحميل الشعب السوري الثائر مسؤولية ما حل بسوريا والسوريين لأنه طالب بالحرية والعدالة للجميع فردت “الدولة” التي من أول واجباتها حماية مواطنيها بقتلهم وتهجيرهم وتدمير سوريا وتاريخها ومستقبلها، بحكومة مسؤوليتها تأمين الحد الأدنى من الصمود لشعبها، تخلت عن كل مسؤولياتها وقامت بعمل عسكري وتركت المدنيين لمصيرهم.
اليوم نسمع الأصوات الآتية من غزة، نسمع أنينهم، ومع ذلك يصر بعض “المتحمسين والحمساويين” على تخوين كل صوت يحاول أن يعلو قليلا فوق صوت المعركة.
في الواقع، المقارنة الوحيدة التي يجب أن تحصل، والسؤال الذي يجب أن يطرح: هل حقق السلاح للفلسطينيين ما حققته انتفاضة الحجارة؟ وهل حقق السلاح للسوريين ما حققته حناجر المتظاهرين؟ وإن كان يبدو أن المتظاهرين في السويداء يعرفون إجابته، بينما لا أملك إجابة حاسمة حتى اللحظة عن هذا السؤال، ولكن الأكيد أنني أزداد قناعة كل يوم بأنه السؤال الأول الذي يجب أن يطرح، يطرح بجرأة وشفافية من قبل الجميع، دون تخوين وتهديد وتكفير.
————————–
لغز أردوغان/ رستم محمود
30 نوفمبر 2023
كيف لأي انتظام عقلي أن يجد توافقا منطقيا بين الموقف السياسي الخطابي التصعيدي للرئيس التركي رجب طيب أردوغان من حرب غزة، الذي وصل حد نعته لإسرائيل بـ”الدولة الإرهابية”، وبين رفض حزبه “العدالة والتنمية” تمرير مشروع قرار في البرلمان التركي، تقدم به حزب السعادة المعارض، يطالب بـ”تحديد محتوى وكمية البضائع المرسلة من تركيا إلى إسرائيل والبحث في تأثيراتها على الوضع في غزة”!
للمتابع السياسي المحترف أن يفسر ذلك بسياسات أردوغان البرغماتية الممزوجة مع حاجة تركيا الماسة إلى هكذا علاقة مع إسرائيل. لكن ذلك لا يمنع طرح سؤالين تفصيليين متعلقين بالحدث: كيف لمثل هذا التناقض البيّن أن ينطلي على ملايين الناس، من مؤيدي أردوغان في الداخل التركي، وأكثر منهم في العالمين العربي والإسلامي؟ ولماذا هذا الإصرار الملحمي من أردوغان نفسه في ممارسة التصعيد الخطابي ضد إسرائيل بهذه الطريقة، رغم معرفته الوثيقة بحاجة تركيا الملحة لإسرائيل، حسب التوازنات الإقليمية وأحوال الداخل التركي؟
في توسيع اللوحة قليلا، سيُكشف ببساطة أن ما ينتهجه أردوغان من سلوك سياسي، بكل ما فيه من تناقض، هو تمثيل لحالة عامة تسود منطقتنا منذ ثلاثة أرباع القرن، أنظمة حاكمة وأحزاب سياسية وميليشيات مسلحة وآيديولوجيات وجماعات عصبوية، تعتقد كل واحدة منها أن المسألة الفلسطينية تربة خصبة، تستطيع أن تأخذ منها ما تحتاجه، حسب مصالحها وحساباتها الخاصة، وتعيد استخدامها كأداة لتثبيت ما تعجز عن فعله ونيله دون هذا الاستخدام للقضية الفلسطينية.
كثيرون هم الرؤساء والانقلابيون العسكريون الذين بفعل استخدامهم للفلسطينيين وقضيتهم أرادوا أن يتحولوا إلى “زعماء تاريخيين”، ومارسوا أفعالا ميدانية مباشرة في سبيل ذلك، أسالوا دماء غزيرة وشيدوا أنظمة حديدية. وليس أقل منهم الأنظمة الحاكمة والتنظيمات المسلحة التي فرضت سطوتها الرعناء على مجتمعاتها، تحديدا على أفراد الجماعات الأهلية الأخرى ضمن بلدانها، بسبب ما بقيت تقول إنه “دفاع عن فلسطين”، والأكثر منهم هي الأنظمة الإقليمية التي أرادت التحول إلى إمبراطوريات عابرة للحدود، زارعة القلاقل والصراعات الطائفية في كل حدب، وممارسة لمهنة “هندسة الحروب الداخلية في البلدان الأخرى”، وللسبب نفسه.
لكن المثير للعجب أن المشترك الأعلى بين كل هؤلاء، كامن في كونهم لم يفعلوا شيئا للفلسطينيين وقضيهم، بدلالة الوقائع المباشرة على الأرض، منذ اندلاع القضية الفلسطينية وحتى الآن.
من هنا، يُطرح السؤال البديهي البسيط: ماذا استفاد الفلسطينيون من كل هذه “اللاعادية” التي تؤطر مسألتهم، أية مكاسب حقيقية نالوها جراء إخراج القضية الفلسطينية من كونها واحدة من تركات انهيار الإمبراطورية العثمانية قبل قرن، بكل ما خلفته من صراعات الورثة لاحقا، على الأرض والسيادة، مثل القضية الأرمنية ونظيرتها الكردية، ومثلها أخريات كثيرات. لتتحول من ذلك التحديد إلى مسألة وجودية مطلقة، مندرجة في عوالم المقدس وصراع الأديان وأبناء الأعراق القديمة والحكايات الكُبرى حول مصير العالم. قضية خارج التاريخ والتوازنات والعقلنة.
قدمت حرب غزة الأخيرة مثالا نموذجيا عما كان صحيحا طوال قرابة قرن، فأردوغان الذي يُعتبر من أهم الداعمين الإقليميين لحركة “حماس”، ومثله النظام السوري ونظيره الإيراني والميليشيات العراقية الموالية له، وإلى جانبهم “حزب الله” اللبناني والحوثيون في اليمن، قام كل واحد من هؤلاء بزيادة وتيرة سيطرتهم وسطوتهم على أوضاعهم الداخلية خلال أسابيع الحرب، حازوا أشكالا من الشرعية والعفة الوطنية والرأسمال النضالي، لكن دون أن يقدموا فعليا أي شيء لأهل غزة المنكوبين. خلا بعض الخطابات الرنانة، مثلما كانوا على الدوام.
وعلى العكس من ذلك تماما، يرى سكان غزة أنفسهم في مواجهة حقائق سياسية وحياتية واضحة: طلب الوقود ومياه الشرب والدواء من إسرائيل، آلية إعادة عشرات آلاف العمال الفلسطينيين إلى أعمالهم ضمن إسرائيل، تأمين شبكة التوافق الإقليمي معها لإيقاف الحرب وفتح المعابر، والتفكير الملح بما هو ممكن لإيجاد حلول سياسية ما للمسألة الفلسطينية بعمومها.
هذه التوجهات الواقعية، تطلب فعليا القطيعة الكلية مع ذلك الطيف من مستخدمي المسألة الفلسطينية، لكنها قطيعة مستحيلة قبل مواجهة الفلسطينيين أنفسهم لذواتهم وإعادة تعريفهم للمسألة؛ فهل هي قضية سياسية “عادية”، أيا كان سوء العدالة الذي بها، أم أنها “قضية مقدسة”، مطلقة وعابرة للتاريخ والمعاش، تعبر عن صراع الخير والشر، الإله والشيطان… إلخ؟
حسب التعريف الأول، ستتطلب القضية الفلسطينية حلولا سياسية موضوعية، ممكنة في قلب الحاضر وقابلة للاجتراح، وإن بمسارات متعرجة وحسب سياق زمني طويل.
لكنها حسب التعريف الثاني ستبقي الفلسطينيين ومسألتهم شبيهة بصاحب مهنة “السكرابخانة”، أي بائع قطع غيار السيارات المستعملة، الذي يملك عادة المئات من السيارات الخربة، التي يُخرج منها قطع غيار يمنحها ويبيعها لأصحاب سيارات أخرى، لإصلاحها وتجهيزها لتكون قابلة للاستخدام، لكنه لا يملك بحوزته أية سيارة صالحة للاستعمال.
المجلة
———————–
===========================
السفير العربي
————————————-
القطيعة/ نهلة الشهال
كيف يحدث هذا الانتكاس الى ما يشبه ما وقع قبل خمسة قرون؟ الى بربرية لا مثيل لها مذاك بهذه الطريقة الممنهجة، على الرغم من وقوع حروب وفظائع واضطهادات مرعبة باسم “الحداثة”، ما بين الإبادة الأولى تلك وهذه الجارية اليوم.
أخيراً نطق مسؤول كبير في السلطة الفلسطينية (حسبما وُصف!)، فقال ان سلطته مستعدة لكذا وكيت كحل لحكم غزة. كانوا قد صمتوا دهراً – شهرين من المذابح التي يقول خبراء أجانب في الحروب أن لا مثيل لها في التاريخ الحديث للعالم كله – ويا ليتهم أبقوا أفواههم مغلقة، عوض مدّ بساط أمام الثرثرة الامريكية والاسرائيلية، وهؤلاء هم من صنف القتلة المجانين، وبساط آخر لشهية بعض أو معظم الحكام العرب الذين فقدوا كل غِيرة، ولو قطرة منها، وباتوا في تواطؤ مرعب مع القتلة المجانين أو في عجز مخزٍ يستحق أن ينهي أصحابه حياتهم، أو يهربون الى مكان ناء ويختفون…
مقالات ذات صلة
بعض ما لا بد من قوله
ما عدد الضحايا الذي يشفي غليلكم؟
ماذا يا سادة؟ تعملون منذ سنوات عسساً وشرطة لدى اسرائيل ثم تتكلمون عن حلول “ممكنة” (بناء على “البرغماتية” وهي ربّكم الأعلى وكذلك مصدر ثرواتكم الطافحة)، وتتجاهلون أن هناك إبادة حصلت في غزة؟ جريمة ضد الانسانية؟ وتجرؤون على الكلام عن انتخابات “ديمقراطية” خلال سنة أو اثنتين… في ظل الاحتلال؟ ولعلمكم يا سادة، فهذه مرحلة انتهت، وانتهت معها سلطتكم التي لم تعد “ممكنة” حتى في ظل دعم اسرائيل لها. إلا أن ربيبتكم تل ابيب لم تعد أصلاً تريد دعمكم، بل هي تنتقل الى حسم الأمور وليس الى البحث عن تسويات بشأنها.
لا تدركون أن هناك قطيعة تاريخية واقعة كشفتها الحرب على غزة؟ وربما ستقع في ثناياها حرب قد تكون صغيرة أو كبيرة، متدرجة أو كلية، في الضفة الغربية نفسها، وربما يقع تدمير المسجد الاقصى لبناء الهيكل في مكانه؟ احزموا امتعتكم وانصرفوا قبل فوات الأوان عليكم، فالأمر لا يتعلق بحماس.
اليكم محاولة في استكشاف الأمر:
جرّب الامريكان في العراق، وهم من سلالة من أباد الشعوب الأصلية في أمريكا شمالها وجنوبها، ومعهم والى جانبهم اؤلئك الكولونياليون الخبثاء (البريطانيون)، القوانين الجديدة التي يرون أنها يجب ان تسود العالم. وكانوا ما زالوا بحاجة الى حجج، وهي في العراق كانت القضاء على “أسلحة الدمار الشامل” الوهمية، وعلى طموحات غير مشروعة لصدام حسين تهدد دولاً نفطية جارة لبلاده. دمروا العراق تماماً ولم يأبهوا لنتيجة جانبية للحدث وكانت تمهيد الطريق لسيطرة إيران عليه، ولا لضرر جانبي آخر هو ظهور “داعش”، بل لعلهم فكّروا بكيفية استثمارهما في مزيد من تأجيج الحروب.
واليوم، وبعد تلك ال”بروفا دوركسترا”، بدأوا بتصفية الفلسطينيين. وصرح الآن مسئول لديهم بأن الحرب على حزب الله لا بد أن تحدث في الاشهر المقبلة. أحفاد من أبادوا شعوباً بحيلها منذ خمسة قرون، يعودون الى الإبادة. ليس الى الاخضاع والاستغلال، بل الى الاجتثاث.
مقالات ذات صلة
الصراع المثير للجنون إزاء الكارثة في فلسطين/إسرائيل
من غزة المحاصرة والمُبادة، نداء للتحرير
كيف ولماذا؟ لأن هذا النمط من السلطة السائد اليوم في واشنطن ولندن وباريس وبرلين (خصوصاً) يمثّل رأسمالية مالية مقتلَعة الجذور من مجتمعاتها. تعمل في المضاربات المالية والعقارية على مستوى العالم، ويهمها البنك والبورصة والمضاربات الاستثمارية أكثر مما تهمها كل مصانع الكون التي أصبحت تحصيل حاصل أو التي باتت خاسرة بمقابل مصنع العالم الذي هو الصين. تهمها من المصانع تلك التي تنتج السلاح ومن التجارة من يبيع هذا السلاح، وتتقاتل فيما بينها من أجل الاستحواذ على صفقاته.
وتهتم طبعاً بالاستمرار بنهب ثروات موجودة في أنحاء مختلفة من العالم، خارج حدودها، كالنفط والغاز والمواد المنجمية الثمينة والنادرة كاليورانيوم والليثيوم وغيرهما.. وهذا كله، وليس أي انتاج مرتبط بالناس وبعملهم هو ما يراكِم أرباحها. لذا صار الناس حتى في تلك البلدان نفسها كميات فائضة عن الحاجة ولا لزوم لمعظمها. ولم تعد كل افكار وقيم “الحداثة” لها مكان في تلك المجتمعات نفسها، فيجري مثلاً تفكيك التعليم العام – الذي كان ركيزة للحداثة وبات بلا وظيفة، باعتبار حصر التعليم التقني (بلا فلسفة ولا آداب ولا علوم انسانية) بنخب قليلة تؤدي الغرض، ويجري انتهاك فصل السلطات – تلك الركيزة الكبرى – كل يوم، وعلاوة على الممارسة، باعتماد جهد هيكلي وقانوني لإلغاء ذلك الفصل. ويسود فساد مهول يُعامَل بخفة ويسر، ويسيطر رأس المال المالي على السلطة الرابعة (الإعلام) ويتحكم فيها.
فإذا كانت تلك هي حال مجتمعات البلدان “المتقدِّمة”، فكيف يُنظر الى مجتمعاتنا؟ تخيلوا الأمر! إنهم يرون فينا تماماً ما رأوه في السكان الاصليين الذين أسموهم الهنود الحمر، وكانوا قد قتلوا منهم مباشرة أو بالأوبئة وبالمجاعات أكثر من 50 مليون إنسان. وهؤلاء حضروا منذ أيام فأصدروا بياناً رائعاً ونظّموا تجمعاً في نيويورك للتضامن مع غزة وفلسطين، وقالوا أنهم يعرفون ما يجري لأنهم عاشوه قبل خمسة قرون. كما فعل أقرانهم من السكان الأصليين في استراليا.. وهو سر حساسية شعوب أمريكا اللاتينية المستنكِرة للإبادة الجارية للفلسطينيين.
كيف يحدث هذا الانتكاس الى ما يشبه ما وقع قبل خمسة قرون؟ الى بربرية لا مثيل لها مذاك بهذه الطريقة الممنهجة، على الرغم من وقوع حروب وفظائع واضطهادات مرعبة باسم “الحداثة” تلك، ما بين الإبادة الأولى وهذه الجارية اليوم.
مقالات ذات صلة
داخل معسكر الاعتقال الأكبر في العالم… وخارجه
الحرب على غزة درسٌ مكثّف في النفاق الغربي.. وهو درسٌ لنْ يُنسى
… لأننا بازاء رأسمالية نهّابة ومقتلَعة من أي جذور مجتمعية. ولأنها كذلك فهي متفلتة من أي قيد أو اعتبار. انظروا كيف يكرر بايدن براحة ضمير أن لا هدنة في أفق هذه المرحلة من الحرب الدائرة في جنوب غزة، بعدما كان قال في مرحلة الحرب الاولى أن لا خطوط حمر أمام اسرائيل، وهو يستمر في ارسال الأسلحة الفتاكة. لا أحد يقف في وجه ما يجري، لا من العرب ولا من العجم، ولا أحد يكترث بموت آلاف الناس مجدداً تحت القصف أو من الجوع والعطش. ولعل ادراك خصائص تلك الحال، وأنها تامة، هو ما فات حسابات حماس التي ظنت أنها بازاء عملية كبرى ولكن محكومة بما هو “معتاد”، تنتهي بعد أيام من القتل بالتفاوض وتبادل الاسرى…
هذه ليست سوى بداية تحوّل في العالم، سينتج قوانينه، وأساليبه وأفكاره. لقد وقعت “القطيعة”. وسنرى بعد أشهر أو سنوات إرهاصات لا يمكننا تخيلها من الآن… وستكون غزة هي العام الاول من عالم آخر هو بصدد التشكل والولادة.
—————————————-
بيان المثقفين العمانيين
70 مثقفاً عُمانياً ينددون بمجاز إسرائيل الوحشية ويناشدون العالم بالوقوف مع الحق الانساني، والدول المطبِّعة بانهاء التطبيع، ويطالبون السلطة الفلسطينية بالإنحياز الى الشعب الفلسطيني.
البيان
في زمن يبصر ويسمع العالمُ ما تشهده أرض فلسطين المحتلة من مجازر وحشيّة وإرهابية ممنهجة لإبادة الفلسطينيين على يد الاحتلال العنصري الإسرائيلي، بمشاركة للولايات الأمريكية المتحدة والمملكة البريطانية، ودعم رسمي من الجمهوريتين الألمانية والفرنسية، على مدى أكثر من شهرين حتى الآن، في مواصلة لسلسة جرائم كيان الاحتلال وعصاباته الصهيونية ضد شعب كاملٍ، منذ بداية القرن الماضي وإلى يومنا هذا في القرن الحادي والعشرين، لهذا علينا كمثقفين القيام بواجب الحق بالكلمة.
مقالات ذات صلة
القطيعة
بيان استقالة أحد كبار مسئولي الأمم المتحدة: إسرائيل هي المسؤولة عن جرائمها
لقد استمرأ النظام العنصري للاحتلال الإسرائيلي إراقة الدم الفلسطيني عبر 75 سنة من احتلاله العسكري الفاشي، حتى بات يقصف المدنيين الآمنين العزّل بأسلحة محرمة دوليًا بعد أن حاصرهم لأكثر من عقد ونصف، واستمرأ أسر الفلسطينيين وسجنهم، ويواصل اليوم إبادته الجماعية الممنهجة من قصف واستهداف المدنيين في غزة والضفة الغربية، مع استمرار تدميره المتعمد للبنى التحتية والخدميّة الأساسية والصحية والتعليمية، عدا استهدافه لأساتذة وأطباء وطواقم طبية والموظفين الأمميين، والمثقفين والفنانين والشعراء والصحفيين، وعائلاتهم، في غطرسة واحتقار للقوانين والأعراف الدولية، وفي ظل انعدام أدنى الروادع الأخلاقيّة والإنسانيّة.
نحن الموقعين أدناه، من كتاب وفنانين ومثقفين وإعلاميين عُمانيين، ندين بكافة أشكال الإدانة، هذه الجرائم كلها، مطالبين المثقفين العرب، وشرفاء الإنسانيّة، في جميع أنحاء العالم لينهضوا بواجبهم، في التعبئة والمواجهة الأخلاقية والثقافية العامة؛ للوقوف ضد الجرائم النكراء المشهودة.
كما ونتوجه إلى القادة والرؤساء، في الحكومة العُمانية أولًا، والحكومات الخليجية والعربية والإسلامية والعالمية، لتنهض بمسؤولياتها التاريخية وواجبها الملحّ إنسانيًا ودينيًا وعربيًا، أمام الضمير والشعوب والتاريخ، لإيقاف المجازر المستمرة بكل وسيلة ممكنة فورًا ودون إبطاء، والعمل جماعيًا بشكل عاجل على تمكين الفلسطينين وحمايتهم لنيل حقهم الكامل غير المنقوص في أرضهم، وإقامة دولتهم المستقلة وتقرير المصير.
ونطالب الحكومات العربية، التي وقعت اتفاقيات تطبيع وسلام مدانة، مع هذا النظام الإسرائيلي برعاية أمريكية، بإبطال الاتفاقيات والمعاهدات بما يترتب عليها فورًا، وقطع كل علاقة مع هذا الكيان الإرهابي المتطرف والعنصري الخارج عن القانون الدولي، وعن الملّة الإنسانية، فلا سلام مع كيان مجرم وآثم يرعى التطرف والإرهاب ويمارس الجريمة المنظمة والتطهير العرقي أمام أنظار العالم كل يوم.
وندعو الحكومة المصرية وقيادتها إلى فكّ الحصار فورًا عن الناس الذين يموتون ببطء جوعًا وعطشًا تحت النيران المستمرة، والقيام بفتح وتأمين معبر رفح كاملًا ودون أي إبطاء، وقطع التنسيق مع الكيان الصهيوني في هذا الشأن.
كما ونتوجه إلى قيادات السلطة الفلسطينية الحالية لتعلن انحيازها الكامل مع خيار المقاومة الشعبية وموت اتفاقيات السلام، وترتيباتها المنهارة، التي ساهمت بشكل مباشر، في هذا المأزق الخانق والمدمّر للشعب الفلسطيني، والتي أوصلتنا لهذه الكارثة.
وإننا لنتوخى من الفلسطينيين في الداخل وفي الشتات، وكل إنسان يقف مع الحق المشروع، القيام بواجبهم ومعارضتهم المستمرة والراسخة بكل الوسائل المتاحة لديهم لإيقاف هذه الوحشية.
مقالات ذات صلة
داخل معسكر الاعتقال الأكبر في العالم… وخارجه
لا ننسى أخيرًا أن نؤدي واجب التحية إلى الشعب الفلسطيني الصامد الذي أصبح هو نفسه أقصى الإنسانية، فالتحية للشعب الصابر وسط كل هذا التكالب الغربي والخذلان العربي والإسلامي، والتحية إلى شرفاء العالم وأحراره الذين وقفوا في كل مكان بما استطاعوا مع فلسطين وغزّة وأهلها، والتحية واجبة علينا إلى حركات المقاومة العربية المشروعة في فلسطين وخارجها على بسالتها وشجاعتها في مقاومة هذا الاحتلال وتكبيده الخسائر رغم قلة الإمكانيات والحصار.
يرحم الله الشهداء بواسع رحمته ويرعى قلوب الناس بأمنه، ويظل المقاومين بحمايته ويعيد الحق إلى أهله..
والله والوطن والإنسان من وراء القصد..
عُمان في 10/12/2023
الموقعون
سماء عيسى شاعر وكاتب
عبدالله حبيب شاعر وسينمائي
جوخة الحارثي كاتبة
عبدالله الريامي شاعر
صالح العامري شاعر
سعيد سلطان الهاشمي كاتب وروائي
سليمان المعمري روائي وإعلامي
حمود بن حمد الشكيلي روائي وناشر
إبراهيم بن سعيد شاعر وكاتب
ناصر صالح قاص
محمد عيد العريمي روائي
بشرى خلفان روائية
يعقوب بن محمد الحارثي محامي وعضو مجلس الشورى
عاصم الشيدي صحفي ورئيس تحرير صحيفة عمان
سعيد بن سيف المسكري أكاديمي وصحفي ورئيس تحرير مجلة الفلق
محمد عبدالكريم الشحي شاعر
خميس قلم شاعر
علي الرواحي كاتب وباحث
عبد يغوث شاعر وصحفي
طالب المعمري شاعر
محمد بن زايد الحبسي كاتب ومخرج
فاطمة الشيدي كاتبة وأكاديمية
سعيد الريامي طبيب ومترجم
يوسف الزدجالي شاعر
حمود العويدي قاص
أحمد السعدي شاعر
أحمد محمد الحجري قاص وباحث
سيف بن عدي المسكري باحث
ناصر بن سيف السعدي أكاديمي
سمية اليعقوبية إعلامية
علي المخمري شاعر
عوض اللويهي شاعر وباحث
سالم سالم المعمري شاعر
حمود سعود قاص
أحمد بن ناصر كاتب
ابتهاج الحارثي رسامة وكاتبة للأطفال
محمود علي كاتب
عائشة سليمان شاعرة ومحررة
اسحاق الخنجري شاعر
محمد خلفان الهنائي مؤلف ومخرج مسرحي
وليد النبهاني كاتب
الخطاب المزروعي، قاص وروائي
آمنة الربيع كاتبة مسرحية
لبيد العامري شاعر
مالك بن صالح المسلماني كاتب ومخرج مسرحي
حمد الصبحي صحفي
محمد العجمي باحث وروائي
حاتم اليافعي كاتب ومدون
أمامة مصطفى اللواتي، كاتبة أدب طفل وباحثة.
بسام أبوقصيدة، كاتب ومدون
أحمد بن علي المخيني، باحث وأكاديمي
أمل السعيدي إعلامية وكاتبة
محمد الشحري كاتب وروائي
سالم الرحبي كاتب وشاعر
زاهر المحروقي كاتب وإعلامي
زهران زاهر الصارمي كاتب
ليلى عبدالله كاتبة وشاعرة
علوي المشهور كاتب وباحث
تهاني الحوسني باحثة وأكاديمية
علاء الدين الدغيشي شاعر
سالم بن حمود بن محمد المسروري معلم
حمود الحجري شاعر
سعود عبدالله الزدجالي كاتب وباحث
يحيى الناعبي شاعر
فتحية الصقري شاعرة
يونس بن جميل النعماني كاتب وباحث
حسن مير فنان تشكيلي
——————————-
=========================
مواقع سورية
——————————
التلفزيون السوري الرسمي ينتصر في غزة/ المعتصم خلف
28 تشرين الثاني 2023
يبدأ مذيع قناة «الإخبارية السورية» الحكومية تغطيته الخاصة في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) بمصطلحات عامة، ويتحدّث إلى ضيفه الفلسطيني مدير العلاقات العربية في منظمة التحرير الفلسطينية في دمشق، الذي يتبنى وجهة نظر التلفزيون السوري مستطرداً بشأن عدم تفاجؤه بالعملية، مستذكراً تاريخاً نضالياً للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وحركة فتح، محاولاً أن يربط بشكل مباشر بين ما حدث في السابع من أكتوبر وبطولات حدثت وتحدث في الضفة الغربية.
لكن تطور الأحداث بعد ذلك سيطرح كثيراً من الأسئلة على النظام السوري، انعكست بعض أجوبتها في التغطية الإعلامية التي تبناها النظام عبر قنواته التلفزيونية الرسمية، وظهرت من خلال مزيج من المصطلحات والتعابير والانحياز والتضليل، في محاولات ممنهجة لاجترار بروباغندا لا ترى فلسطين، بل تخلق فلسطينَ تُناسبُ رهانات النظام الإقليمية والدولية.
حجب التفاصيل من المشهد
في الساعات الأولى لـ «طوفان الأقصى» رأينا مذيع «الإخبارية السورية» الحكومية يتناول الحدث مع غياب كامل لتسمية «حماس» أو «كتائب القسام»، لتكون التسمية البديلة هي «المقاومة»، المصطلح الذي يشمل في اللاوعي تحالفاً سياسياً عسكرياً يشمل محور الممانعة بشكل عام، وسوريا بشكل خاص، ليقطع المذيع الحديث باستمرار ويُشبّه عملية طوفان الأقصى بما فعله الجيش السوري في حرب تشرين التحريرية.
هذا الحجب التفصيلي للتسميات قدَّمَ للمتابع السوري صورة أكثر شمولية لحرب، لم تحدث حتى الآن، بين محور المقاومة والاحتلال الإسرائيلي، حتى بعد أن نفت إيران مشاركتها في معركة طوفان الأقصى، وبعد التأكيد على أن المعركة هي بين كتائب القسّام والاحتلال الإسرائيلي. صحيح أن لفظة «المقاومة» قد تُستخدم أيضاً للتأكيد على وجود فصائل أخرى غير القسّام في المعركة وعلى أن حماس حركة مقاومة، لكن الإعلام السوري يصرّ على استخدامها لوحدها، ولا تفسير لذلك سوى أنه يريد تجنّب الاعتراف بحركة حماس وجناحها العسكري كقوة فاعلة تقود المعركة في غزة، خاصة في اللحظات المفصلية مثل سريان الهدنة، التي فرضت عليهم ذكر الطرف الآخر في الهدنة، ليستخدم إعلام النظام السوري صورة الناطق الرسمي باسم حركة الجهاد الإسلامي، ويبث مقاطع من خطاب أمينها العام زياد نخالة المقرّب من إيران، مع التركيز على كلمة «مقاومة» فقط كونها تُجنّب المحللين السياسيين والمذيعين والمُراسل الذين يتصل من غزة نسبة «الفضل» لحماس بشكل مباشر، ما يساعد بالتالي على تعميم المديح وإناطة البطولة بمحور كامل.
لم يتجاوز النظام السوري عقدته مع حماس حتى وهي تخوض معركتها ضد الاحتلال، وكان بشار الأسد في آخر مقابلاته التلفزيونية مع سكاي نيوز الإماراتية قُبيل عملية السابع من أكتوبر قد هاجم قيادة حركة حماس، واتّهمها بالنفاق والغدر لأنها لم تتخذ موقف الفصائل الفلسطينية المؤيدة للنظام السوري، ولأنها حملت علم الثورة السورية أو «علم الاحتلال الفرنسي» كما يُسمّيه. اليوم، يقوم إعلام النظام السوري بحجب حماس وصولاً إلى مرحلة محوها من خطابه الإعلامي.
كما لم يشمل الحجب المصطلحات والمواقف فقط، بل حتى المعلومات الأساسية كأنَّ التغطية تتم في عالم موازٍ، فعندما كان الإعلام الغربي يتهم أبو عبيدة المتحدث باسم كتائب القسام «بالإرهاب»، والقنوات العربية تنقل تصريحاته وبياناته بشكل مستمر، استطاع الإعلام السوري أن يتفوق على نفسه وأن لا يراه على الإطلاق، ليقدم النظام السوري رؤيته للأحداث ليس كما تحدث بل كما يريد لمتابعه أن يتخيلها، ويتم محو الخطابات العسكرية الواردة من غزة، وتُخصَّصَ ساعات تحت مصطلح «بالمقارنة والمقاربة» لمدح التضليل الاستراتيجي في كلمة حسن نصرالله، وتحليل الغموض المقصود الذي استخدمه لكي لا يدرك الاحتلال نواياه.
أوضحت التغطية السياسية التحليلية للعدوان الإسرائيلي على غزة، ومنذ الأيام الأولى، أن إعلام النظام السوري غير قادر على تقديم تغطية منطقية بالحد الأدنى حتى في القضايا التي لطالما ادّعى تبنيها. وبالإضافة إلى تعديل التسميات والصياغات بما يناسب توجهات النظام، تراجعت البروباغندا التقليدية الذي كان النظام السوري يستخدمها بشأن أهمية وجوده في محور المقاومة، وبشأن الدور الرئيسي الذي يمثله في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، إذ تمّ محو اللغة الخطابية السورية المتوعدة للاحتلال والناقدة للعرب المتخاذلين، إذ يبدو أن تطبيع العلاقات مع دولة الإمارات فرض على المعدين والمحللين حجب لغة ذم العرب المتواطئين مع الاحتلال، لتغرق التحليلات في تكرار بديهيات وحشية الاحتلال.
في مثال يوضح هذا الجانب من الحجب، يمكننا العودة إلى يوم الأربعاء 11 تشرين الأول، بعد أربعة أيام على عملية طوفان الأقصى، عندما انتشر اسم سوريا على وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات العربية، بعد إطلاق قذائف من الجبهة السورية نحو الاحتلال الإسرائيلي سقطت في مناطق مفتوحة، بالتزامن مع عمليات قصف متبادل على الجبهة الجنوبية اللبنانية. لم يتردد الإعلام السوري من حذف الخبر من نشرات أخباره، في محاولة لتهميش الخبر وعدم إبرازه أمام الجمهور السوري.
وقد تكرَّرَت «مواقف» و«تحليلات» مشابهة على الهواء مباشرةً خلال بث التلفزيون السوري، ففي الأيام التي كان الناشطون في العواصم العربية يحتجون فيها أمام السفارات المصرية لفتح معبر رفح بين قطاع غزة ومصر، بعد مجزرة مستشفى المعمداني، وينددون بصمت الأنظمة العربية وحكامها، أثنى مذيع القناة السورية الحكومية على «تقدُّم» مواقف الأنظمة العربية وحُكامها المتضامنة مع غزة، ليضيف عضو القيادة القطرية لحزب البعث خلف المفتاح إلى هذا شكر مصر والسعودية على مواقفهما، ويؤكد على مواجهتهما لأميركا كما يفعل محور المقاومة، دون التطرق لحيثيات التطبيع العربي مع إسرائيل ونتائجه المباشرة على الإبادة الجماعية التي يتعرض لها أهالي قطاع غزة.
انفصام الحقيقة واستخلاص العبر
ثمة عرفٌ أو عادةٌ متكررة تفرض على مذيعي ومحللي إعلام النظام السوري استخلاص العبر من المشهد، ومع استمرار الإبادة الجماعية والاجتياح البري الإسرائيلي لقطاع غزة، لم يتردد المحللون على شاشات النظام السوري في تقديم تجربة سوريا في «الحرب على الإرهاب» مثالاً للانتصار، بل ويمكن الاستفادة منه لمواجهة قوى «التكبُّر» العالمية والمجتمع الدولي.
ضمن التغطية الخاصة التي يقدمها جلال إبراهيم على قناة الإخبارية السورية، لم يتردد ضيفه في دعوة العرب والفلسطينيين لتشكيل تحالفات مثل تلك التي نجحت من خلالها سوريا بقول «لا» لأميركا، لتكون تجربة سوريا في السنوات الأخيرة هي النموذج الذي يمكن أن يحرر العالم وفلسطين، خاصة أنها نجحت في مواجهة 80 دولة وشجعت الكثير من دول العالم على عدم الانصياع للغرب.
مع ذلك، لم تستطع غرف الأخبار أن تتجنب طرح أسئلة تنطبق على الواقع السوري، وذلك نتيجة التشابه بين كثير من ممارسات الاحتلال في فلسطين وممارسات النظام في سوريا. مثلاً: «ما الهدف من المجزرة؟». يبدو السؤال حقيقياً على التلفزيون السوري، ولم يذهب برنامج «استديو الحدث» الذي تقدمه ميشلين عازار على قناة الإخبارية السورية بعيداً جداً في الإجابة، إذ أجاب ضيفها مدير شبكة البوصلة الاعلامية أن الحكومة الإسرائيلية «العاجزة ضمن واقع اقتصادي صعب وهجرة مستمرة بسبب الوضع الأمني المعقد من مصلحتها أن تستمر الحرب، وبالتالي فإن فشلها هو الذي يدفعها لارتكاب المزيد من المجازر».
مع غياب أي مساحة نقدية متاحة أمام ضيوفه ومُحلليه، لم يتردد إعلام النظام السوري في استغلال أحداث الإبادة الجماعية في غزة، وذلك من خلال تبني خطاب تظلمي يُشبّه ما يمر به الفلسطينيون اليوم في المحافل الدولية بما مرّ به النظام السوري في «حربه على الإرهاب». يتحدث إعلام النظام عن الصمت العالمي على الجريمة التي يرى النظام نفسه ضحيتها، مستخدماً مقاربات ملتبسة تستغلّ الدم الفلسطيني بلا مبالاة، لإنتاج سردية يحاول دائماً أن يبدو ضحيتها وأن يحجب من خلالها ما ارتكبه من مجازر.
السلطة التي يريد العالم تغيير بوصلتها
بعد القمة العربية الإسلامية الاستثنائية في السعودية في 11 تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري، التي حضرها بشار الأسد، خصَّص الإعلام السوري الاستديوهات لتغطيات خاصة لمشاركته تلك، شرح فيها المقدمون والمحللون دور سوريا ورؤية المستقبل في عيون النظام السوري. وفي وقت تناول فيه الناشطون على وسائل التواصل الاجتماعي والمحللون على القنوات العربية مخرجات القمة، وتحدّث كثيرون منهم عن العجز الذي سيطر عليها والخيبة من بيانها الختامي الذي اعتمد صياغات خطابية تقوم على المناشدات والدعوات بينما تستمر الإبادة الجماعية في غزة، كانت الاستديوهات التحليلية في الإعلام السوري تحاول استعادة أمجاد ضائعة، وتتحدث عن ظهور استثنائي لرئيس النظام السوري بعد محاولة العالم حجب صوته.
بعد القمة مباشرةً، وأثناءها، قدمت «التغطية الخاصة» على قناة الإخبارية السورية المُحلّل السياسي محمد خير العكّام عضو مجلس الشعب، الذي حاول أن يرى دور سوريا في العالم!! لنرى إعلاماً غير مفهوم، يحاول أن يُقيّمَ المكانة السياسية لنظامها ويمدحه في سياق حرب إبادة جماعية ترتكب فيها جرائم حرب بحق الشعب الفلسطيني.
يرى العكّام أن «الحرب على سوريا» في السنوات السابقة كانت لإخفاء هذا الصوت، أي صوت بشار الأسد، لأنه القادر على توجيه البوصلة إلى مكانها الصحيح. بل ذهب أبعد من ذلك إلى القول إن الأسد هو «الرجل الوحيد» القادر على حل جذور المشكلة، وهو الذي استطاع بظهوره في هذه القمة دحض توقعات أميركا وإسرائيل بمحو هذا الصوت المؤثر، مؤكداً أن سوريا حوربت وسوف تُحارب لأنها لا تريد الجولان المحتل فقط بل تريد تحرير فلسطين.
ضمن مرحلة الترقب والمطالبات والمحاولات لإيقاف الإبادة الجماعية التي يتعرض لها أهالي قطاع غزة، لم يتنازل الإعلام السوري عن «نظرة بطولية» لا يرى فيها سوريا كجزء من العالم، بل يعتمد معالم خطابية وبلاغية تتحدّث عن تفوق النظام على نفسه وعلى العالم، من خلال حجب ما لا يناسبه من المشهد والاستغلال الممنهج للقضايا. أما الأهم فهو الضيوف المتنافسون لصالح ابتكار الصورة المنتصرة لنظام الأسد، وتكديس الخيال لدى المتابع من خلال ربط الحدث برواية انتصار سوريا على «الإرهاب»، ما يدفعهم لإهمال بعض الحقائق الجوهرية لأن الاعتراف بها قد يكون مخجلاً، مثل التطابق العملياتي على الأرض بين ما يقوم به جيش الاحتلال في غزة وما فعله جيش النظام في سوريا، أو تحليل حقيقة أن الاتصال الأول للنظام السوري بعد طوفان الأقصى كان مع دولة الإمارات، الأمر الذي مر مرور سريعاً لثوان في نشرات الأخبار، وتم حذفه تماماً من تحليلات السياسيين في الاستوديوهات السياسية، وهذا ليس غريباً على إعلام النظام السوري، الذي لطالما اعتمد لزوجة البلاغة والتحليل، التي ترتكز على صورة سوريا القوية التي كانت ضحية لقوى «الاستكبار» العالمي ولكنها انتصرت عليهم جميعاً!
—————————
=======================
موقع تلفزيون سوريا
————————
مقاومة مخططات مستقبل غزة بين القسّام والداعمين المفترضين/ محمد فواز
2023.12.11
تنفس الجميع الصعداء مع إعلان الهدنة في غزة وتوجهت الأنظار إلى ما بعدها وكثرت التحليلات التي غلب عليها طابع التمني بأن تستمر الهدنة ليتبعها وقف تام لإطلاق النار. لم يحدث ذلك بتاتا، بل تجدد الهجوم الإسرائيلي بعد دقائق من انتهاء الهدنة. بداية عبّر ذلك عن عدم اكتفاء الجانب الإسرائيلي بما وصل إليه حتى الآن وهو يريد تحقيق أهداف كبيرة حقيقية ملموسة لم يبلغ أي منها حتى الآن آخذا بعين الاعتبار أنه، وللمرة الأولى منذ سنوات، يكون له هذا الدعم الدولي الكبير فيريد استغلاله حتى الرمق الأخير.
على الرغم مما تسرّب عن خلاف أميركي-إسرائيلي حول المدة المتبقية المسموح بها، للعملية الإسرائيلية في غزة، وقول الجانب الأميركي إن إسرائيل لديها أسابيع لا أشهر، وما يحمله من وضع خط أحمر لعدم إطالة الحرب إلا أن هذا الخط نفسه يعني بذات الوقت بأن أميركا تشجع إسرائيل على رفع المستوى في غزة لتحقيق أكبر قدر من الأهداف بهذه المدة المحصورة. يفسر ذلك جانب من العملية البرية المستجدة على الجنوب والذي بدأت إسرائيل تروج لكون قادة حماس في الجنوب، وبالتالي ضرورة العملية لتحقيق هدف الوصول لقادة الحركة.
الأهداف الاسرائيلية
السؤال الذي لم يفارق المشهد بتاتا منذ بداية الحرب هو ما هي أهداف إسرائيل؟ هذه الأهداف تعتبر خطوطها العريضة متفق عليها لدى إسرائيل وداعميها إلا أن تشكيلها العملي يخضع لمتغيرات الزمان والمكان والقدرة. إن هدف القضاء على حماس، وهو أحد أبزر أهداف إسرائيل، تعاد صياغته بمختلف الأشكال، والتي كان آخرها التركيز على اغتيال قيادات حماس لدرجة التسمية “ولو كانوا في لبنان، قطر وتركيا”.
الهدف المتصل بالهدف الأول هو ضرب حماس عسكريا بحيث تسهل مهمة الهدف التالي إلا أن ضرب حماس عسكريا لم تستطع إسرائيل حتى الآن ترجمته فهي تفكر في ضخ المياه في الأنفاق وأحيانا تستعمل كل أنواع الذخائر الخارقة للأرض لإخراج الأنفاق عن العمل أو الوصول لمخازن صواريخ وأسلحة حماس دون أن يكون لديها أي يقين من أن ذلك سيعني حقيقة شل القسام، وهو ما أكده القسام بطريقة ظهوره في عملية التبادل الأخيرة.
إن محاولة شل حماس عسكريا لا تعتبر كافية لإسرائيل كذلك، بل إنها تفكر باليوم التالي للحرب وتحاول جاهدة أن يكون لها يد في الحكم السياسي في غزة حينها لكي تتأكد من ذبح حماس عسكريا وعدم خروج “حماسات” في مستقبل غزة، لدرجة رفض نتنياهو إمساك سلطة عباس بغزة كونه يعتبر هذا الحل غير كاف! من الأفكار المطروحة إسرائيليا والتي تدخل حيز محاولة التنفيذ هي تقطيع أوصال غزة، أو السيطرة على كيلومتر من أطراف غزة لمنع أي عملية برية ممكن أن تحدث في المستقبل.
أما الأهداف الاجتماعية الذي تعمل عليها إسرائيل والذي تعتبر أخطر حتى من السياسية والعسكرية فهي متشعبة وتبدأ بمحاولة إنهاء مقومات الحياة في شمال غزة وصولا إلى التهجير الكلي للغزاويين.
مقاومة الأهداف الإسرائيلية
إن هذه الخطط تحتاج مقاومتها لجانبين عسكري وسياسي، أما الجانب العسكري فحتى الآن يبرز صمود حركات المقاومة في غزة ولكن مع إمكانيات محدودة لا تستطيع رد العدوان، أو السيطرة ولكنها تستطيع إيلام الجيش الإسرائيلي وإيقاع الخسائر الكبيرة في صفوفه، وزعزعة ثقته بتحقيق أهدافه وتأخير عملياته بانتظار الجانب السياسي.
إذن فإن الجانب السياسي المستثمر للأداء العسكري واقعه أصعب بكثير كونه لا يكفيه الجهد الفلسطيني، بل يتعداه للعربي والدولي. إذا قلنا أن الجانب الدولي داعم لإسرائيل على الرغم من تراجعه التدريجي غير المؤثر حتى الآن يبقى لنا الجانب العربي ومحور المقاومة للتحليل.
بالنسبة لمحور المقاومة
إن حزب الله حسم خياره كمساند لغزة بما يعنيه ذلك بالاتجاهين الداعم من جهة والمحدود من جهة أخرى. أما موقف النظام السوري فلم يتغيّر منذ بداية العدوان على غزة وهو الصمت على الرغم من أن مطار دمشق على سبيل المثال قد تعرض للقصف 3 مرات على الأقل، إضافة لمجموعة أهداف أخرى حيث تبدو حسابات الأسد مختلفة حتى عن حزب الله، وهو من الواضح أنه يريد الانسحاب من الأضواء في الفترة الحالية ورفع مستوى التعمية عن مسؤوليته عن الواقع المأزوم في سوريا، إضافة لمحاولة إعادة تقديم أوراق اعتماد للغرب وإسرائيل بأن التعويل على الأسد في المرحلة المقبلة ممكن نظرا لموقفه “الإيجابي” من وجهة النظر الإسرائيلية.
بالنسبة للدول العربية
على الرغم من أن الدول العربية رفعت سقف التصريحات، إلا أن التحركات العملية لا تبدو مؤثرة بالشكل الذي يوقف مخططات أميركية-إسرائيلية حتى التهجير منها، أو الممارسات غير الإنسانية تجاه أهل غزة. إن المحاولات العربية للوقوف في وجه المخططات لم ترقَ للمستوى الرادع، وهو ما ظهر في حجم المساعدات الإنسانية المنخفض الذي يدخل إلى غزة عبر مصر حتى زمن الهدنة، والذي ينبئ بأن منع التهجير كذلك ليست بالمسألة المحسومة كون مستوى معارضتها غير كاف.
لذلك وأمام كل هذه المعطيات يبدو مستقبل غزة غامضا ويحتاج إلى تحركات سياسية وحتى شعبية عربية وعالمية توازي الحراك العسكري والصمود الشعبي في غزة، وهو ما لا يبدو متوفرا حتى الآن.
————————–
طلائع “طوفان الأقصى” تواكب الحلول الدولية في الشرق الأوسط/ صهيب جوهر
2023.12.10
ليس تفصيلاً قيام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بزيارة للسعودية والإمارات قبل أن يعود إلى موسكو ليستضيف بعد ساعات الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي. فمنذ إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف في حقه بتهمة ارتكاب جرائم حرب مطلع آذار الماضي وبوتين يغيب عن الاجتماعات الدولية، حتى لا يؤدي وجوده بحرج للدول المنظمة للقمم والمؤتمرات. وبالتالي، فإن أهمية زيارته الخليجية تكمن في توقيتها المتعلق بحرب غزة والنتائج المترتبة منها.
والواضح أن إدارة جو بايدن تراجعت حماستها للحرب الدائرة في غزة، قياساً إلى ما كان عليه موقفها غداة عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول. حينذاك ذهبت واشنطن بدعم إسرائيل بكل ما أوتيت من قوة في العمل العسكري الإسرائيلي، لا بل انخرطت فيه بنقل القوة العسكرية الضاربة للجيش الأميركي إلى المنطقة.
أما اليوم فعدا خروج الخلافات بين واشنطن وتل أبيب إلى العلن، فإن واشنطن عمدت إلى التلويح بإنزال عقوبات في حق مستوطنين إسرائيليين، وهي خطوة نادرة في تاريخ العلاقات الأميركية ـ الإسرائيلية، وعملت الإدارة الديموقراطية على تحويل قضية تبادل الأسرى بين الإسرائيليين وحماس إلى عملية سياسية تفتح الأفق أمام ترتيبات سياسية كبرى تعيد تحريك عجلة السياسة الإقليمية في الشرق الأوسط.
لكن الحسابات الإسرائيلية كانت مختلفة كلياً، حيث اندفع نتنياهو مع الأحزاب المتطرفة في استكمال مشروع “تهجير” الفلسطينيين من غزة والضفة مرة واحدة ونهائية إلى مصر والأردن وربما لبنان. وفي ذلك خطوة مسبوقة ستسمح لهم لاحقاً بالتعويض داخلياً عن كارثة عملية طوفان الأقصى وما نتج عنها من تلاشي الثقة بين الجيش والحكومة من جهة وبين الإسرائيليين من جهة أخرى.
وثمة اعتقاد أن وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن وخلال زيارته الأخيرة إلى إسرائيل، قال خلال مشاركته في اجتماع مجلس الحرب، إن واشنطن ترفض خطوات إسرائيل لتهجير الفلسطينيين. كذلك التمسك بضرورة وضع حدود زمنية لوقف المعركة، على أن لا يتجاوز هذا الموعد مهلة نهاية الـ2023. مع تأكيده منع استهداف فلسطينيي الضفة الغربية والـ48.
وتسرب عن الجلسة ما يؤكد أن بلينكن أزعَج ممثلي أحزاب اليمين المتطرف في مجلس الحرب، وذلك أن التقارير التي وردت إلى البيت الابيض أشارت إلى تركيز الوزير المتطرف بن غفير على الضفة الغربية حتى قبل غزة. وهو يعمل لاقتناص الفرصة لتوسيع حركة الاستيطان وتهجير الفلسطينيين. ولأجل ذلك عمدَ إلى توزيع السلاح على جميع المستوطنين في الضفة تحت عنوان “الدفاع عن النفس” فيما الحقيقة أنه يريد العمل على دفع الفلسطينيين إلى خارج الضفة باتجاه الأردن.
والأكيد أن نتنياهو رفض المطالبات الأميركية والعربية بتقييد عمل الأحزاب المتطرفة بذريعة أنه ليس في مصلحته التصادم مع هذه الأحزاب ما سيهدد ائتلافه الحكومي بالانفراط لصالح يائير لابيد، أما الحقيقة فإن نتنياهو أصبح متحالفاً في العمق مع هذه الأحزاب المتطرفة وبات قريباً إلى نمط تفكيرها وممارساتها الإجرامية.
لذلك باشرت إدارة بايدن في إظهار النقاط الخلافية مع الحكومة الإسرائيلية، تمهيدا لدفع تل أبيب إلى وقف الحرب مطلع الـ2024. وخاصة أن الديمقراطيين بدؤوا تلمس واقعهم الصعب بسبب الانتخابات الرئاسية، رؤية أخرى لجهة عدم إضاعة الوقت والذهاب لإنجاز ترتيبات عريضة على مستوى المنطقة بعد أن أنضَجت نار غزة شكل الترتيبات في الشرق الأوسط.
ويبدو واضحاً أن طهران أكثر حماسة لتوقيع الاتفاق النووي، خصوصاً أنّ الاستراتيجية التي عملت وفقها وحققت لها تقدما كبيرا على مستوى النفوذ في الإقليم عبر “محور المقاومة”، استهلكت حرب غزة كثيراً من عناصر قوته ما جعل عامل الوقت في غير مصلحته، وبالتالي أصبحت المصلحة للنظام الإيراني تقضي بوضع ما عُرف باستراتيجية الصبر جانباً، والذهاب إلى ترجمة المعادلة الميدانية بمعادلة سياسية حان وقت ترجمتها.
ووفق هذا التوقيت الحساس اختار بوتين لحظة عودته إلى المشهد الدولي من بوابة الشرق الأوسط التي حافظ فيها على حضوره النافذ من خلال قواعده العسكرية في سوريا. ويبدو أن الترتيبات على الساحة الدولية باتت تسمح له بهذه العودة، والمقصود هنا الأداء المعقد لإدارة بايدن بالملف الأوكراني.
وكان لافتاً الإعلان وبنحوٍ مفاجئ عن إلغاء الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلنسكي مشاركته المقررة لاجتماع مع مجلس الشيوخ الأميركي، والذي كان يهدف إلى تأمين حزمة مساعدات جديدة تعتبرها كييف أساسية وضرورية لاستكمال حربها العسكرية ضد الغزو الروسي. وظهرت تفسيرات في أن إلغاء زيلنسكي مشاركته هذه سببه معرفته بعدم قدرته على إقناع مجلس الشيوخ الأميركي بالتعاون مع مطالبه.
وبعد الهجوم العسكري الفاشل للجيش الأوكراني تراجعت المساعدات العسكرية الأميركية له بحجة أولوية دعم إسرائيل. وهو ما يعني ضمناً أنه لم يعد أمام زيلنسكي سوى البحث عن تسوية سياسية مع بوتين تقضي بالقبول ببعض مطالبه. وهذا ما وضع بوتين في وضع أفضل، جعله أكثر هدوءً في تعاطيه مع حرب غزة، وسمح له بالخروج من عزلته والقدوم إلى الخليج العربي للبحث عن دور بلاده.
وخلف لهب النار المتصاعد من غزة، كانت حركة تفاوض ناشطة تجري بين واشنطن وطهران عبر الوسيطين القطري والعماني، وهذه الحركة كانت قد أنتجت عدم توسع دائرة الحرب في المنطقة. وأيضاً التوازن المسموح به في جبهة لبنان. لكن ثمة من يعتقد أن الكواليس تمتلئ بمشاريع التسوية الإقليمية، والتي يجب أن تمهد للمؤتمر الدولي الذي سيعقب إعلان وقف إطلاق النار في قطاع غزة.
وخلال الأيام الماضية استقبل وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان نظيره العماني في طهران. وبعد الاجتماع أكد عبد اللهيان قرار بلاده بعدم توسيع دائرة الحرب. لكن كلامه حمل كثيراً من الغمز، وهو ما أوحى بأن مهمة وزير الخارجية العماني لها علاقة بالمشهد العريض في المنطقة.
فخلال المرحلة الأخيرة تصاعدت أعمال احتجاز السفن عند باب المندب والبحر الأحمر تحت عنوان مساندة غزة. وعلى رغم من إعلان الحوثيين مسؤوليتهم عن هذه العمليات وتهرب إيران منها، إلا أنه كان واضحاً للأميركيين أن طهران تقف خلفها. وعلى رغم من ذلك بقي الرد الأميركي تحت سقف مضبوط جداً.
فاختطاف السفن بعد اختيارها بدقة ومراقبة مسارها، ومن ثم تنفيذ عمليات الاحتجاز، إنما كل ذلك بحاجة إلى تدريبات عالية وتقنيات كبيرة غير متوافرة لدى الحوثيين بمفردهم. لذلك كان الاقتناع بأن الحرس الثوري يشرف مباشرة على هذه العمليات. وهي قد تكون رسائل جوابية ميدانية على مفاوضات تدور في الكواليس وتتعلق بمدى نفوذ إيران.
واشنطن اكتفت بتلقي الرسائل الميدانية الإيرانية والتي لا تحمل طابع الخطورة وتهدف إلى ترجمتها في كواليس التفاوض، لكن ذلك لم يمنع من ارتفاع الأصوات في لجنة الشؤون الخارجية في مجلسي النواب والشيوخ والتي انتقدت ما وصفته “التراخي” من جانب إدارة بايدن مع الحوثيين وإيران على حدّ سواء، والاستمرار في اتباع سياسة الاسترضاء، إلا أن هذا لا يعكس حال الإدارة المتمسكة بإنجاز تسوية في الشرق الأوسط قد حان وقتها.
ووسط الحملات الداخلية يتهم الجمهوريون وعلى رأسهم السيناتور تيد كروز إدارة بايدن بتعمد تجاهل التهرب الإيراني من العقوبات الأميركية، ويعملون لإعداد مشاريع قوانين تدفع الإدارة إلى تطبيق أقسى للعقوبات. حيث يعمل الجمهوريون على قطع الطريق أمام إدارة جو بايدن لإنجاز تسوية شرق أوسطية جديدة. وهذا هو التوقيت الذي وجد بوتين أنه مناسب للدخول إلى التحضيرات الجارية في المنطقة، خصوصا أن ظروف الحرب في أوكرانيا أصبحت أفضل، والتي قد تكون جزءاً من الصفقة الشاملة.
وسط هذه الصورة الشاملة فإن الملف اللبناني ليس بعيدا عنها، صحيح أن الأثمان المطروحة كبرى والتحولات المرتقبة متعاظمة، إلا أن لبنان معني خصوصا من بوابة الجنوب. فالحرب ستقفل على إخراج إيران من الساحة الفلسطينية واستعداد قطر ومصر لاحتضان الحضور السياسي لحركة حماس بصورتها الجديدة.
وفي جنوبي سوريا تبدلات مستمرة من خلال السويداء، وسعي الأتراك لاستعادة نفوذهم في حلب، لكن المكون في السويداء، وبالتالي في جنوبي سوريا، سيشكل عازلاً يمنع إيران من إنشاء خط تماس مع إسرائيل، فيما سيمنع الأتراك تقدماً للروس والميليشيات في الشمال السوري.
يبقى جنوب لبنان حيث يجري العمل على تطبيق القرار 1701 بفك الترابط العسكري بين إيران وإسرائيل، وهذه كانت بالضبط مهمة رئيس المخابرات الفرنسية برنار إيمييه في بيروت، والتي ستليها زيارات أخرى وضغوط أكبر لدول أخرى مع الحديث عن رغبة سعودية بالعودة للبنان، ولأن التفاوض في المنطقة الذي يطاول الخط التجاري البحري العالمي في باب المندب والبحر الأحمر، فلا بد من صنع أوراق في لبنان لمواجهة تطبيق القرار 1701.
من هنا برز إعلان حماس إطلاق “طلائع طوفان الأقصى”. فمن جهة يمكن للحركة استقطاب الشباب الفلسطيني المتحمس في المخيمات، ويأتي ذلك استكمالاً للهدف الذي جرت لأجله معارك مخيم “عين الحلوة” الصيف الفائت، ومن جهة أخرى يوجه رسالة إلى الساعين لتنفيذ القرار الدولي بأن البديل من الحضور المكثف لحزب الله في الجنوب، هو السني والفلسطيني وهذا ما يشكل تحدياً للجيش اللبناني الذي تعول عليه العواصم الغربية لإمساك الوضع في الجنوب إلى جانب قوات اليونيفيل بعد انتهاء الحرب.
ما طرحه مسؤول المخابرات الفرنسية في بيروت، ليس بعيداً عن طروحات أميركية جرى تقديمها سابقاً، سواء من قبل رئيس المخابرات الأميركية وليم بيرنز، حول إيجاد حل للحدود البرية بما فيها مزارع شبعا، أو من قبل المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين الذي يصر على إيجاد حل للحدود البرية.
وهنا لا بد من العودة إلى ما قاله آموس هوكشتاين في مؤتمر المنامة قبل نحو شهر، حول عدم التعرض بأي صاروخ لحقل كاريش في البحر، وهو الحقل الوحيد المستمر بالعمل، وعدم حصول أي ضربة في البحر هو دليل على نجاح المسار السياسي لاتفاق ترسيم الحدود البحرية، وهو ما سيتم البحث بمثله لتكريسه على الحدود البرية.
———————–
هل ينفذ الموساد تهديداته لحماس في تركيا؟/ سمير صالحة
2023.12.10
لا تستفيد إسرائيل من التجارب والدروس إلا بما يخدم مصالحها وحساباتها. قياداتها في الحكم تتمسك بتلميع صورتها الشعبية والحزبية حتى ولو كانت أرضية الصورة ملطخة بالأحمر.
أعلن رونين بار رئيس جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي عن توجيهات من الحكومة بملاحقة قادة حماس في كل مكان، في غزة والضفة الغربية ولبنان وتركيا وقطر. “قد يستغرق الأمر بضع سنوات، لكننا مصممون على تنفيذه”. ويردد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مؤكدا ما يقال، أنه وجّه تعليمات لجهاز الموساد بالتحرك ضد قادة حركة حماس في أي مكان من العالم.
بدل أن تشكر تل أبيب أنقرة على جهودها لمنع استهداف مواطنين إسرائيليين فوق الأراضي التركية كما فعلت أكثر من مرة، تريد اختراق الأراضي التركية وتعريض أمنها للخطر من خلال مطاردة قيادات حماس في المدن التركية ومحاولة اغتيالهم.
لن يكون صعبا على الموساد الإسرائيلي الذي يقف وراء تصفية المئات من الكوادر والقيادات السياسية المعادية لإسرائيل أو التي تهدد مصالحها في العالم، تنفيذ ما قيل في تل أبيب ونقل في بعض وسائل الإعلام الغربية حول سيناريو استهداف قيادات حماس في بعض المدن الشرق أوسطية التي تستقبلهم وبينها أنقرة. فللموساد الكثير من الخلايا الناشطة والنائمة في دول العالم “ويده تطال”، وعنده الخبرة اللازمة في الاغتيالات والتصفيات السياسية والأمنية التي لا يعلن عنها بسهولة. يقوم بمهام من هذا النوع دون تردد أو احترام لسيادة الدول واستقلاليتها وحتى في الدول الغربية التي تقيم مع تل أبيب علاقات دبلوماسية وسياسية بامتياز. المهم عنده هو فعل ما يريد تحت ذريعة الحرب على الإرهاب وأمن إسرائيل الذي هو فوق كل اعتبار.
ما الذي ستفعله أنقرة أمام سيناريو من هذا النوع؟
إما أنها ستستعد لهذا الاحتمال أمنيا ودبلوماسيا، وإما أنها ستطالب قيادات حماس بمغادرة أراضيها لإعطاء إسرائيل ما تريد، وإما أنها ستحذر حكومة “سفاح غزة” نتنياهو من أن ارتدادات تحرك بهذا الاتجاه سيكلفها باهظا وهذا ما فعلته القيادات التركية، توفير الحماية للاجئ أو مقيم أجنبي فوق أراضي الدول خصوصا الشخصيات السياسية والأمنية الأجنبية المعروفة والمعرضة أرواحها للخطر هي مسؤولية البلد المضيف، لكن التطاول بهذا الشكل يستحق الرد بشكل آخر أيضا.
نشر جهاز الاستخبارات التركي على الفور بياناً حذّر فيه إسرائيل من عواقب وخيمة ستواجهها في حال حاولت القيام بأعمال غير قانونية على أراضيها. لكن أردوغان يقول أكثر “ستدفع تل أبيب ثمنا باهظا إذا ما حاولت القيام بعمل من هذا النوع” لن تصبح إسرائيل قادرة على الاستقامة مجددا إذا ما فكرت في ذلك”.
الملفت هنا هو ما ذكره دولت بهشلي زعيم حزب الحركة القومية اليميني وشريك أردوغان في تحالف الجمهور حول أن متطوعي الذئاب الرمادية على استعداد لتنفيذ الأوامر. الرسالة هي لنتنياهو وروبين بار معا. لكن مضمونها غير واضح تماما. أين وكيف سيكون شكل الرد التركي على الموساد إذا ما تناول جرعة الحماقة التي تعتبرها تل أبيب جرعة شجاعة وقررت القيام بعمليات من هذا النوع ضد قيادات حماس داخل الأراضي التركية؟ وما هي الرسالة التي تريد تل أبيب إيصالها لأنقرة عبر المجاهرة بتهديدات من هذا النوع؟
إسرائيل تهدد لأنها غاضبة ولأكثر من سبب. فجهاز الاستخبارات التركي كشف في العام الحالي وحده عن 4 خلايا إسرائيلية ناشطة عبر عملاء أجانب وأتراك توكل إليهم مهام التجسس على المقيمين العرب والمسلمين والمواطنين الأتراك والمؤسسات الرسمية والخاصة. وأوقفت الأجهزة الأمنية العشرات من المتهمين الذين أدلوا باعترافات مفصلة حول طريقة اختيارهم وتجنيدهم وتواصلهم مع الموساد عبر أكثر من وسيلة. هناك حالة إحباط في صفوف الموساد بعد تفكيك خلية تجسس كبيرة جيشها قبل أشهر لجمع المعلومات حول المواطنين العرب في تركيا وخارجها ومن شأنها أن تضر بالأمن القومي التركي.
وهناك خيبة أمل إسرائيلية أخرى تم الكشف عنها قبل أسابيع بعد مشاركة الاستخبارات التركية في الكشف عن مخطط للموساد باختطاف مهندس برمجيات فلسطيني مسؤول عن اختراق القبة الحديدية وتعطيلها.
بين أهداف إسرائيل من خلال تمرير رسائل من هذا النوع لأنقرة:
الرد على التصعيد التركي ضد نتنياهو وتحميله مسؤولية ما يحدث في قطاع غزة وقرار أنقرة التحرك دوليا لمساءلته قضائيا وسياسيا عن الجرائم التي يرتكبها.
وإظهار تركيا أنها دولة غير آمنة للوافدين الأجانب.
وتهديد دول المنطقة التي تستقبل قيادات حماس مثل تركيا ولبنان وقطر بهدف إضعاف موقفها السياسي الداعم للشعب الفلسطيني في غزة.
وعرض عضلات من قبل الموساد بعد الضربات الكثيرة التي تلقاها من قبل جهاز الاستخبارات التركي في العامين الأخيرين، والكشف عن أكثر من خلية تم تجنيدها داخل الأراضي التركية.
والتغطية على الجرائم التي ترتكب ضد المدنيين في غزة ومحاولة حصر المسألة في مواجهة بين اسرائيل وحماس، وإغفال سقوط عشرات الآلاف من المدنيين الضحايا في القطاع.
ومحاولة الإمساك بورقة اللاعب الغربي الداعم لتل أبيب وتقديم المسألة على أنها مجرد حرب على مجموعات إرهابية هددت أمن إسرائيل، وهي تتواجد في عواصم لا بد من إجبارها على إسقاط ورقة هذه المجموعات.
قد تنشط أجهزة استخبارات دولة ما لاستهداف عناصر وشخصيات سياسية تعتبرها تهديدا لأمنها. لكن من النادر أن نرى رئيس وزراء مثل نتنياهو يشارك في التصعيد والتحدي بهذه العجرفة. يحاول نتنياهو تبرير ما يجري في غزة لتوسيع رقعة استهداف قيادات حماس ونقل المواجهة إلى الخارج. لكنه يختار بعناية الأماكن التي ينوي استهدافها في محاولة لتمرير رسائل سياسية وأمنية متعددة الجوانب.
يقول أردوغان لنتنياهو “سفاح غزة” إذا ما كنتم تملكون الشجاعة للقيام بعمل من هذا النوع فعليكم حساب نتائجه وارتداداته جيدا. أنتم تتحدثون عن تركيا هنا. لكن الأرشيف يقول إن الموساد الإسرائيلي نفذ أكثر من عملية اغتيال نجح في بعضها وفشل في البعض الآخر داخل الدول العربية والغربية على السواء. فلماذا سيتردد إذا كان قادرا على الوصول إلى قيادات بارزة في حماس تعيش في تركيا؟ ويقول الأرشيف أيضا أن الموساد جند العشرات من المواطنين الأتراك والعرب في السنوات الأخيرة داخل تركيا للقيام بعمليات تجسس متعددة الأهداف. فلماذا لن يستغل فرصة سانحة تمنح له عبر وكلاء للوصول إلى ما يريد؟
يذكر الإعلام التركي منذ أيام تل أبيب بما قدمه لها جهاز الاستخبارات التركي من خدمات باتجاه حماية السواح الإسرائيليين من عمليات استهداف، وشكر الموساد لأنقرة على ما فعلته. لكنه يذكر أكثر بأن تل أبيب هي التي عرضت على أنقرة تسهيل استقبال قيادات فلسطينية داخل أراضيها في إطار صفقة الإفراج عن الجندي غيلاد شاليت وشكرتها على الاستجابة لهذا الطلب الذي تحاول إسرائيل تجاهله اليوم والتلويح باستهداف الوافدين إلى تركيا.
إذا كانت الأنباء المتداولة حول التحضير لعملية غلاف غزة قد استمر لأكثر من عامين دون اكتشاف الاستخبارات الإسرائيلية لخطة كبيرة من هذا النوع، فهذا يعني أن الموساد كان يعرف بها وتجاهل ذلك بأوامر من نتنياهو، أو لم يكن على علم بالمخطط وهو سيتحمل جزءا كبيرا من المسؤولية. وهذا ربما ما يدفع بنتنياهو للتنسيق أكثر اليوم مع روبين بار رئيس جهاز الشاباك فهو الذي يهدد نيابة عن الموساد الذي اختار الصمت.
هل سيبقى نتنياهو لمنح الموساد الضوء الأخضر لتنفيذ عمليات ضد قيادات حماس في الخارج؟ وهل يسمح له الشركاء في الغرب بعملية انتحارية من هذا النوع؟
خيار نتنياهو مهم لكن المهم أيضا هو شكل وحدود الرد التركي إذا قررت تل أبيب المغامرة والمقامرة.
———————-
التضامن مع فلسطين.. من الآنية إلى الديمومة/ لمى قنوت
10/12/2023
مع دخول عدوان الاحتلال الاستيطاني الإحلالي شهره الثالث على قطاع غزة، ومواصلته ارتكاب جرائم الحرب والتطهير العرقي والإبادة الجماعية وتدمير البنية التحتية لجعل القطاع مكانًا غير قابل للحياة، من مستشفيات ومحاكم وآبار ومزارع وجامعات ومدارس ومحطات المياه والوقود وأحياء سكنية وأسواق وطرقات، نستطيع تلمس تغيرات رمزية في الرأي العام وأنماط حراكات قائمة على الوعي والمعرفة تتصاعد ضد فاشية تحالف غيلان السلاح والمال والسلطة بجميع مؤسساتها، وقرارهم العابر للحدود في قتل الشعب الفلسطيني في غزة وتصفية الحق الفلسطيني بتحرير أرضه وإقامة دولته.
ورغم أهمية هذه التغيرات الرمزية وتنامي الحراكات، فإن أثرها قد يكون محدودًا مؤقتًا وآنيًا بسبب تَرَكُز رأس المال وقوى الاحتكار العالمية، والأثر السياسي للترابط الوثيق بين التصنيع العسكري والنظام الاقتصادي النيوليبرالي، والسيطرة الاستعمارية، سواء بالاحتلال المباشر أو الاستعمار الجديد عبر التدخل والهيمنة السياسية والعسكرية والاقتصادية.
التحركات المناهضة للاحتلال وتسليحه
شهدنا منذ بداية العدوان على قطاع غزة حراكًا مناهضًا لتسليح الكيان الصهيوني، وهو واحد من أهم تحركات المقاومة السلمية المنتشرة عبر العالم، فمثلًا، تظاهر عمال نقابات وناشطون أمام مقار شركات تصنيع الأسلحة ومصانعها لعرقلة شحنات الأسلحة المتجهة إلى الكيان الصهيوني في كينت- المملكة المتحدة، وأغلق ناشطون من حركة فلسطين مصنع ليوناردو في أدنبره وفككوا معداته، وهو مصنع مسؤول عن تصنيع أنظمة الاستهداف بالليزر للطائرات المقاتلة التابعة للاحتلال، كما دعت نقابات عمال النقل البلجيكية أعضاءها إلى رفض تفريغ أو تحميل الأسلحة المتجهة إلى الكيان، وفي كندا نظم ناشطون نقابيون وقفات لإغلاق مداخل شركة الأسلحة “INKAS” الكندية التي تزود الكيان بالمعدات العسكرية، كما أغلق ناشطون محيط مقر شركة “برايثون” للأسلحة في جنوب كاليفورنيا، وقاموا بإغلاق الطرق المؤدية للمصنع بالحجارة والمتاريس، ومنعوا الموظفين من دخوله لساعات قبل الصدام مع الشرطة.
ورغم أهمية هذه التحركات فإنها تبقى رمزية في أثرها، فلكي تتحول إلى حركات اجتماعية قادرة على إحداث تغيير جذري هي بحاجة للناشطية الجادة والمستدامة ذات الرؤية السياسية الواضحة والأهداف المباشرة والمتوسطة والطويلة الأمد، التي تسعى لتفكيك الترابط الوثيق بين مصالح الصناعة العسكرية والبنى السياسية ذات المخططات الاستعمارية المباشرة وغير المباشرة، والمحرضة على النزاعات ونهب ثروات الشعوب في الجنوب العالمي والداعمة للدكتاتوريات المتواطئة مع أجندتها.
تصاعد حركات التضامن العالمية مع القضية الفلسطينية
أسهمت حركة التضامن الفردية والجماعية في جميع أنحاء العالم، سواء عبر المظاهرات وحملات المقاطعة الشعبية، أو دور الناشطين والناشطات في وسائل التواصل الاجتماعي، في تسليط الضوء على سياق القضية الفلسطينية ودعمها والضغط على حكومات دول الشمال العالمي لوقف العدوان على قطاع غزة. فعلى منصات وسائل التواصل الاجتماعي، تفوق نسبة المحتوى المؤيد لفلسطين المحتوى المؤيد لكيان الاحتلال، فمثلًا في 30 من تشرين الأول الماضي وما بعده، وبتكليف من مجلة “The Economist” البريطانية، أجرت إحدى الشركات دراسة مقارنة بين مستخدمي ومشاهدي المحتوى المتضامن مع فلسطين وبين المتضامن مع الاحتلال على منصة “تيك توك”، تبين فيها تفوق الأول بما يفوق عشرة أضعاف، الأمر الذي دفع بالمرشحة للرئاسة الأمريكية نيكي هيلي للمطالبة بحظر “تيك توك” إلى الأبد خلال مناظرة رئاسية للحزب “الجمهوري”، وأفادت بأن “كل شخص يشاهد (تيك توك) لمدة 30 دقيقة يوميًا يصبح معاديًا للسامية بنسبة 17% وأكثر تأييدًا لـ(حماس). نحن نعرف أن 50% من البالغين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و25 عامًا يعتقدون أن (حماس) لها ما يبرر ما فعلته مع إسرائيل، هذه هي المشكلة”.
لقد أسهمت حركات التضامن بنشر جرائم الاحتلال وأهمية الخيار الفردي والجماعي في مقاطعة الشركات الداعمة له، وأسهمت أصوات عديدة في نقد سياسات حكومات دول الشمال مثل الحكومة الأمريكية، واحتجت أصوات من مواطنيها، نساء ورجالًا، على تمويل العدوان على غزة من أموالهم كدافعي ضرائب، ورفضت أصوات أخرى تكميم أفواه من ينتقد سياسة الاحتلال، في حين أنهم ينتقدون سياسة حكومة بلدهم.
ومع ذلك فإن أكثرية الأمريكيين (77.4%) يعتبرون الكيان الصهيوني حليفًا، لكن 65% من الناخبين والناخبات مع وقف إطلاق النار الدائم في غزة.
على المدى المنظور، لن تؤثر هذه النسب على الدعم غير المشروط للاحتلال من قبل الحزبين “الجمهوري” و”الديمقراطي”، لكن الانتقادات الحادة لإدارة بايدن في صفوف الحزب “الديمقراطي” ستدخل في حساباته خلال الانتخابات الأمريكية في تشرين الثاني 2024، التي كان آخرها رسالة وُجهت له ولنائبته كاميلا هاريس من قبل أكثر من 40 متدربًا يعملون في البيت الأبيض ومكاتب فرعية تنفيذية أخرى، قائلين فيها إنهم لن يلتزموا “الصمت بعد الآن بشأن الإبادة الجماعية المستمرة للشعب الفلسطيني”، وهددوا بالتخلي عنه في الانتخابات المقبلة، وفي الشهر الماضي، تلقى بايدن أيضًا رسالة مماثلة من أكثر من 500 معين سياسي.
لقد دخل خطاب الإدارة الأمريكية مرحلة “الواقعية السياسية” بعد 60 يومًا من العدوان الصهيوني على غزة، وانتقل من “القضاء على (حماس) بشكل كامل” إلى أن “الحرب ستتوقف بعد تدمير قدرة (حماس) على تهديد إسرائيل” بفعل المعطيات على الأرض والضغط الشعبي في دول الشمال.
وعليه، يجب مواصلة زخم التحركات لوقف إطلاق النار الفوري والدائم ودعم النضال التحرري للشعب الفلسطيني.
——————-
الأولوية لإدانة إسرائيل في حربها على غزة/ عمر كوش
2023.12.09
وقَع سوريون كثر، بينهم ديمقراطيون ومعارضون لنظام الأسد، في حيرة حيال اتخاذ موقف من عملية “طوفان الأقصى” التي نفذتها حركة “حماس” في السابع من أكتوبر/ تشرين أول الماضي، وهي حيرة في الأساس لا تطال الموقف من العملية بحدّ ذاتها بقدر ما تطال الموقف من حركة حماس، التي وضعت نفسها في نفس محور الممانعة والمقاومة، الذي تقوده إيران، وتستخدمه أداة لتنفيذ مشروعها القومي التوسعي في المنطقة العربية، ويضم كلاً من نظام الأسد وحزب الله اللبناني والقوى السياسية والميليشياوية في العراق وميليشيات الحوثي في اليمن، حيث ينظر سوريون إلى أطراف هذا المحور من جهة وقوفها ضد ثورتهم وناسها، حيث إنها وقفت، وما تزال تقف، في صف نظام الأسد الذي يشن حرباً ضدهم منذ انطلاق ثورتهم في منتصف آذار مارس 2011.
صحيح أن قادة حماس في الخارج نأوا بأنفسهم في البداية، ولم يقبلوا بأن تساند حركتهم نظام الأسد في حربه، بل ودخلوا في خصام معه، لكن موقفهم من الثورة السورية لم يكن مبدئياً، بل جاء بما يتسق مع موقف حركات الإسلام السياسي التي ركبت على ظهر الثورات العربية، كي تصل إلى السلطة، لذلك سرعان ما تغير موقف حماس في السنوات الماضية، فأعادت وصل ما انقطع مع نظام الأسد، بل وعبّر بعض قادتها عن ندمه لحدوث قطيعة مع النظام، وذلك تماشياً مع تحول حماس إلى يافطة المقاومة والمانعة، فأغدق عليها نظام الملالي الإيراني المال والسلاح والخبرات.
يرجع موقف السوريين المطالبين بالديمقراطية من حماس إلى تصنيفها ضمن حركات الإسلام السياسي، ويبني معظمهم موقفه منها بالنظر إلى موقف هذه الحركات الرافض للديمقراطية، وبما فعلته تنظيمات وفصائل الإسلام السياسي في الثورة السورية وناسها، والتي كانت بعيدة كل البعد عن تطلعات السوريين ووعود ثورتهم، حيث أقامت ما يشبه إمارات أو دويلات تحت رايات إسلامية خادعة، وراحت تتحكم بحياة السوريون القاطنين في مناطق سيطرتها، وقدمت مثالاً للحوكمة البشعة والتسلطية، ومارست مختلف أصناف القمع على شاكلة نظام الأسد وسائر سلطات الأمر الواقع، التي فرضت نفسها على السوريين بقوة السلاح. كما أنهم يعتبرون أن دعم النظام الإيراني لحماس ولنظام الأسد وسواه، يدخل ضمن حسابات وتوظيفات المشروع التوسعي الإيراني في المنطقة والإقليم، الساعي إلى الهيمنة وبسط النفوذ على دولها وشعوبها، وليس من أجل ممانعة المشاريع الأميركية أو مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، حسبما يحاول تسويقه قادة محور الممانعة.
بالمقابل، هنالك سوريون ينظرون إلى حركة حماس بوصفها إحدى حركات التحرر الوطني، وأنها قامت بعمليتها العسكرية رداً على ممارسات الاحتلال الإسرائيلي وممارساته العنصرية، وراحوا يتغنون بإنجازات حماس. ولا يعدم الأمر أن سوريين كثر يرون أنه أياً كان الموقف من حركة حماس، سلباً أم إيجاباً، فإن الأولوية هي للتضامن مع الشعب الفلسطيني أولاً، والوقوف ضد الحرب الوحشية التي تشنها إسرائيل على أهالي غزة والضفة الغربية، وترتكب فيها جرائم إبادة جماعية. ومن هذا المنطلق أبدى أهالي السويداء وإدلب وسائر المناطق الخارجة عن النظام تضامناً لافتاً مع أهل غزة وناسها، واستنكروا بشدة في وقفاتهم ومظاهراتهم جرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل بحقهم، بل واعتبروا أن نظام الفصل العنصري الإسرائيلي لا يختلف كثيراً عن نظام الأسد الاستبدادي، وراحوا يبرزون الترابطات والتقاطعات بين القضيتين الفلسطينية والسورية، ويعقدون مقارنات بين ممارسات الاحتلال الاستيطاني الصهيوني ونظام الأسد الاستبدادي.
يتألم السوريون على سقوط آلاف الضحايا الفلسطينيين، الذين تزداد أعدادهم مع استمرار الحرب الوحشية الإسرائيلية، فضلاً عن عشرات ألوف الجرحى والمصابين والمعطوبين، وتدمير أكثر من مئة ألف مبنى سكني، ونزوح حوالي مليوني فلسطيني من مناطق عيشهم وسكنهم، لكنهم يتألمون أيضاً حين يشكر قادة حماس النظام الإيراني على دعمه، ويشكرون معه نظام الأسد وباقي أطراف محور الممانعة، في حين أن هذه الأطراف تستغل دماء وتضحيات الفلسطينيين في غزة، من خلال ادعاء مشاركتها في الحرب دفاعاً عن غزة، بينما هي في الحقيقة لا تخرج عن ضوابط الاشتباك التي لا تغير شيئاً من موازين القوى على الأرض، ولا في مجريات الحرب العدوانية على غزة، كأن يطلق الحوثيون مسيرة تضل طريقها وصواريخ بعيدة المدى تسقط وتنفجر في أماكن فارغة، فيما تقتصر مناوشات حزب الله اللبناني على منطقة محدودة في مناطق المواجهة لجبهة الجنوب اللبناني. والأهم هو أن النظام الإيراني نأى بنفسه، وعلى لسان مرشده الأعلى علي خامنئي، عن الحرب على غزة، مثلما فعل قبله، وكيله اللبناني، أمين عام حزب الله حسن نصر الله، وبالتالي انكشف زيف يافطة “وحدة الساحات”، التي طالما تبجح بها قادة أطراف محور الممانعة، وبات الفلسطينيون وحدهم من يدفع الثمن، وذلك على الرغم من أنه منذ اليوم الأول لعملية حماس، طالبت حماس بشكل مباشر أطراف محور الممانعة بالانخراط معها في الحرب، حيث دعا القائد العام لكتائب القسام الجناح العسكري للحركة، محمد الضيف، في رسالته الصوتية بعد العملية “الأخوة في المقاومة بلبنان وإيران واليمن والعراق وسوريا للالتحام مع المقاومة بفلسطين”، ولم يلق آذاناً صاغية من أحد منهم، ثم جدد أبو عبيدة، الناطق العسكري باسم كتائب القسام، دعوته لهم ولكافة “مجاهدي المنطقة أن يعتبروا هذه المعركة معركة فاصلة، وأن يهبّوا معنا”، لكن الجميع لم يكترث بدعوته، وبالتالي إن كان قادة حماس قد عولوا على شركائهم في محور المقاومة للانخراط معهم، فالحرب الإسرائيلية على غزة أثبتت أنهم مخطئون.
ما يبقى في ظل ما تقوم به إسرائيل من حرب إبادة وتهجير قسري في غزة، هو أن الأولوية للتضامن مع الشعب الفلسطيني، وإدانة الحرب الإسرائيلية عليه، والمطالبة بوقفها فوراً.
———————-
قراءتان هولنديتان في: “فلسطين حرة من النهر إلى البحر”!/ أحمد جاسم الحسين
2023.12.09
أعادتْ الحرب الإسرائيلية على غزة، الناجمة كسبب مباشر عن عملية طوفان الأقصى، تذكير العالم بالقضية الفلسطينية عامة، وبعث الحياة في أفكار وتفاصيل كثيرة لازمت القضية أحدها: فلسطين حرة من النهر إلى البحر!
قد يسأل سائل: وهل يستحق تذكير العالم بالقضية الفلسطينية هذه الآلاف من الضحايا!
في الإجابة يمكن القول: إن الإجابة عند إسرائيل والمجتمع الدولي الفاعل (أميركا وأوروبا) الذي يشارك في عملية القتل والتدمير العمراني والاجتماعي والحياتي بشكل مباشر أو غير مباشر.
وفي الإجابة كذلك: لا تحسب قضايا النضال والقضايا الوطنية بصيغة تجار “الشنطة”، بل هي سياق تاريخي، فيه فعل ورد فعل، وظلم وحصار وتجويع، وتضحية وإيمان، وعالم لا يبالي بمصير شعب بقيت قضيته وحقوقه معلقة عشرات السنوات.
الأمر أبعد، في هذه اللحظة، كما يرى متابعون كثيرون، من “حماس “ودعم إيران لها، والشماتة التي يبديها البعض بما يدعى بمحور المقاومة الذي ارتكبتْ أطراف منه أبشع الجرائم بحق السوريين مثلاً.
الأمر يتعلق أولاً وأخيراً بقضية شعب لا يلتفت أحد إلى حقوقه فيما قطار التطبيع يمر ويكافأ المحتل الذي يرفض الحلول التي تدعو إلى خيار حل الدولتيْن، أو حتى أن يكون المواطنون الفلسطينيون مواطنين بحقوق كاملة في إسرائيل كما ترى بعض السيناريوهات، وتغيب الحلول السلمية عن الخطاب الإسرائيلي، تحضر فقط لغة التدمير، فتتساءل: هل هذا خطاب دولة عضو في الأمم المتحدة؟
من ضمن الشعارات التي أحيتها الأحداث الجارية في غزة والعدوان الإسرائيلي عليها لكن بحمولات جديدة ودلالات إنسانية وأخلاقية، وليس بصفته شعاراً للاستهلاك أو شحن العامة أو المتاجرة بالقضية الفلسطينية كما تفعل إيران وبعض الأنظمة العربية، شعار (فلسطين حرة من النهر إلى البحر) إذ دفع أصحاب ذلك الموقف الأخلاقي الإنساني ثمن رفعه في العالم الغربي، منهم من أنهي عقد عمله، ومنهم من فقد تجارته ومنهم من حمِّل باتهامات عدة.
في هولندا وكجزء من الحراك العالمي الدائر حول تلك الأحداث هناك جانب قانوني صادر عن محكمة هولندية رأى أن الشعار لا يثير مشاعر إنكار حق إسرائيل في الوجود حالياً، وأنه من حق المتظاهرين رفعه، لكن المحكمة يمكن أن تغير رأيها أو يتقدم مدع جديد بطلب إلى محكمة أخرى ويتغير القرار.
في البرلمان الهولندي ثمة جانب آخر للموضوع، حيث أدى استعمال حزب “دينك” الذي يغلب عليه الطابع الإسلامي ومشاركة المنحدرين من جنسيات أخرى فيه، للشعار عبر ما قاله النائب “ستيفان فان بارلي” تحت قبة البرلمان قبل أسابيع إلى اعتراض رئيسة البرلمان متمنية ألا يعاد استعماله هناك، بل دفع ذلك إلى الدعوة إلى حظر استعماله. وقد صفقت النائبة عن حزب بيج 1 للشعار مرحبة به، تحت قبة البرلمان. فيما احتج نواب آخرون رأوا أن في استعمال الشعار مبالغة ومحاولة تحقيق مكاسب انتخابية من قبل حزب “دينك” الذي وضح أنه يقصد باستعمال الشعار أنه من حق الفلسطينيين العيش في مساواة وحرية، دون ضم بلادهم بشكل غير قانوني، عبر نظام فصل عنصري! وقد كان الحدث الغزاوي أحد أبرز الأحداث التي اشتغلت عليها الحملات الانتخابية للبرلمان الذي يبدو أنه لن ينجح في تمرير حكومة يمينية لا يزالون يختلفون على تفاصيل تفاصيلها.
عدد من المقالات الصحفية والتحقيقات والتقارير نشرت عن الشعار وفحواه في الأيام الأخيرة، تحاول شرح سياقاته التاريخية والمقصود به وتغير دلالاته.
لكن السؤال المهم الآن: لماذا تم إحياؤه الآن؟ وهو الذي يعاكس إرادات الدول، هل هناك أصوات من خلال الإعلام بات لها حضور ورؤيا مختلفة؟ أم أنه خيار عالمَيْ “زد وإكس”؟
حيث قدمت الحكومة الهولندية، التي لم تكترث بذلك الشعار، مساعدات ومعدات ومليارات لإسرائيل في هذه الحرب كما معظم الدول الأوروبية، إن علناً أو سراً.
فيما لا تزال، على الجانب الآخر، الحكومة الهولندية المستقيلة، تناقش فكرة استقبال مئة طفل فلسطيني لمدة سنة! لذلك يحتج متابعون بالقول: بتنا نحلم بأن نرفع شعارات ونتظاهر بحُرية فقط في أوروبا وأميركا فيما تذهب الملايين والأسلحة إلى إسرائيل!
تشكل إعادة إحياء الشعار (فلسطين حرة من النهر إلى البحر) هولندياً صرخة كبيرة من جهة من يؤمن بحق المظلومين في التعبير عن أنفسهم، ويدرك أولئك الصارخون أن الواقع لم يعد يسمح بهذا الحلم في الحق، وأن هناك اتفاقيات فلسطينية إسرائيلية وإقليمية ودولية تمنع ذلك، فيهرب كثيرون نحو تفسير للشعار يتمثل في أنه حق للشعب الفلسطيني في العيش مثلما هو حق للإسرائيليين!
كيف تستعيد هذه القضية حضورها ثانية كلما ظنت إسرائيل والمجتمع الدولي أنها صارت نسياً منسياً، وكيف يمكن أن تغيب الحقوق التاريخية للشعوب؟ وهل سينجم عن تلك الحرب فكرة إنضاج حل سياسي؟
فما يقف آخرون أوروبياً، محتجين ومستغربين، ليقولوا: هل يعقل من يوجد من يعيش بيننا ويؤمن بذلك الشعار؟ ويأخذون أقصى حد في تفسيره، في بواكير تشكله الأولى، حيث يقولون كان يعني: إلغاء وجود إسرائيل والدعوة إلى إزالتها وإعادة اليهود إلى بلدانهم الأم!
نحسب أن كلا التفسيرين لم يعد الواقع يسمح به، ولو أعيدت كل الحقوق التاريخية إلى أهلها لأعيد تشكيل العالم بصورة جديدة وهو ما لم يعد ممكناً من كل النواحي!
لكن من المهم كذلك القول: إن على العالم أن يساعد في إنتاج حل سياسي، وألا يبقى ملايين الفلسطينيين بلا حقوق أو وثائق أو أساسيات الحياة، وما القوة المتوحشة المستعملة من الطرف القوي عسكرياً ومناصرة المجتمع الدولي الفاعل له وتشجيعه، إلا نوع من الهروب من الحل النهائي بحجج واهية.
الجانب القانوني في هولندا حول الشعار يختلف عن النقاشات الاجتماعية، حيث يرى كثيرون أن إسرائيل لها كل الحق فيما تقوم به نظراً لشيطنة حماس إعلامياً والتوقيت الصعب الذي اختارته ووجود عدد من المدنيين في عملية طوفان الأقصى، والإخراج الغربي لما حدث، ومحاولة إظهار أن معركة إسرائيل هذه على الشعب الفلسطيني ما هي إلا جزء من محاربة التطرف الإسلامي الذي يهدد حياة البشر الطبيعيين، بل هو دفاع عن قيم العالم الغربي، خاصة أنه في هذه المرحلة هو القطب الفاعل الرئيس في معظم القضايا العالمية، لذلك يسوغ السرديات التي يريد كما رأينا في خطابات بايدن مثلاً بغض النظر عن صحتها أم لا!
الشخصية الهولندية، حتى إن مالت إلى هذه الجهة أو تلك، غالباً ما تترك الباب مفتوحاً للنقاش والحوار، محاولة منها للوفاء لتاريخها، حيث إنها تؤمن إبان عملها تاريخياً بدفن أجزاء من بحر الشمال لبناء البيوت عليه أن شخصاً واحداً لا يمكنه أن يعمل وحده، وأنه إبان مواسم فيضانات البحر نحو اليابسة حيث تقع معظم الأراضي الهولندية تحت مستوى سطح البحر، لا بد من تعاون الجميع لأن مياه البحر إن طافت ستغمر الجيمع. وهذا نمط حياة يسمى حياة التعاونيات الفلاحية وهو يسيطر على معظم نمط الحياة الهولندي، وسياسياً تقتضي الحياة الهولندية عدم انتصار حزب في قيادة البلاد لأن النظام الانتخابي يمنعه من ذلك مهما كان له مناصرون!
من أجل ذلك فإن الحوار مع الهولنديين المناصرين لإسرائيل غالباً ما يكون مجدياً، نظراً لطبيعة الشخصية خاصة إن كان بين يديك أدلة على ما تذهب إليه في النقاش والحوار، وغالباً ما يتفهم من تحاوره ويعود إلى رشده الإنساني إن رأى الصور وإحصاءات الضحايا!
لكن الأمر لا يعني أنه لا يوجد الكثير من المتعصبين، وأولئك لا حل لهم إلا بإشهار صوتك واختلافك في وجههم، ويلحظ أنه أولاً بأول بدأت تعود لغة العقل إلى النقاشات، بل هناك أصوات ترى أن الكثير من المستوطنين الإسرائيليين خطر وجودي على الجميع وهم لا يختلفون عن المتطرفين من الحركات الجهادية الإسلامية، كما يقال في عدد من النقاشات الحِجاجية!
شعار فلسطين حرة من النهر (نهر الأردن) إلى البحر (الأبيض المتوسط) دعوة إلى تحقيق العدالة وإلى اجتراح الحلول بدلاً من كون الحرب هي المخرج الوحيد. وهناك كثيرون يرون أن استعمال مصطلح “فلسطين حرة” كما قالت رئيس بلدية امستردام يكفي لأن استعمال “من النهر إلى البحر” قد يثير مشكلة أخرى، وهو السؤال ذاته الذي بقي دون إجابة عشرات السنوات: لماذا ساعد الغرب في إطار محاولته التكفير عن ذنوبه الهلوكوستية تجاه اليهود ببناء دولة يقوم جوهرها على الاحتلال واغتصاب حقوق الشعب الفلسطيني وقضم أراضيه؟
نابذو الغرب يردّون: من قام بالهولكوست، ها هو يسمح بعد عشرات السنين بهلوكوست جديد يتم بثه عبر شاشات الموبايل لحظة بلحظة!
الشعار في وجه من وجوه استعماله عربياً صرخة في وجه المطبعين بلا ثمن: يا أخي طبعوا لكن كونوا براغماتيين، إنْ سلمنا أن قضايا الشعوب يمكن أن يمر من أراضيها قطار البراغماتية!
والشعار يشير كذلك إلى أن هناك ظلماً ومظلومين، وأن هناك من يناصرهم ويعيد التذكير بحقوقهم، حتى لو بكلمته وصوته، وارتدائه للشماغ الفلسطيني كحالة رمزية تعبر عن الإيمان بحق المظلوم.
أما أنصار “التسكيت” بحجة الإنسانية تجاه اليهود فلا نعرف كيف يستقيم لهم ذلك؟ أم أن الأمر أمر تسويق جيد وآخر رديء، وفق حاجات السوق السياسي وسوق الضحايا العالمي!
أنْ تسكتَ عمَّا تؤمن به له ثمن، وأنْ تجهر برأيك؛ له ثمن كذلك. اختر أيّ الثمنين أقرب إليك، وتذكر أن العمر ماض، فقل كلمتك ولا تمض! يردّد مواطن هولندي من جذور سورية، بعد نقاش طويل مع جارته الهولندية!
———————
أين سوريا مما يجري؟!/ غسان ياسين
2023.12.08
كان الفلسطينيون ومعهم السوريون يمنون النفس بتوسع دائرة الحرب إلى خارج غزة لأن توسع دائرة المواجهة بغض النظر عن عدد المشاركين فيها ونوعيتها كانت ستساهم في تخفيف الضغط عن الفصائل الفلسطينية، وتقلل من حجم الإجرام الإسرائيلي، وبالنتيجة سيكون عدد الضحايا أقل بكثير.
لكن يبدو أن دول المنطقة غير مستعدة بعد للتضحية بمصالحها الضيقة لأجل المساهمة بوقف هذه المذبحة، وكشفت القمة العربية الإسلامية في السعودية التباينات الكبيرة بين مواقف الدول المشاركة في القمة، وأن كل دولة تنظر إلى ما يجري في فلسطين من زاوية مصالحها فقط من دون إدراك أن ما يحدث في غزة تداعيته حتماً لن تبقى في غزة.
سورياً؛ كان من الأفضل توسع الصراع لأنه يخلق ديناميات جديدة وربما تحالفات جديدة يعود من خلالها الشأن السوري ليكون حاضراً وفاعلاً، فالجغرافيا السورية تحفل بالفاعلين ممن لهم جيوش وقواعد عسكرية ونفوذ كبير، وأي صراع إقليمي جديد لا بد أن تكون هذه الجغرافية مسرحاً له، بالعموم أي حالة استقرار في المنطقة لا تفيد السوريين لأنها تشير إلى استقرار خدّاع وهمي، وأي اشتباك بين دول الإقليم سواء كان سياسيا أو عسكريا سيعود بالفائدة على الشأن السوري لأنه ببساطة ينسف سردية النظام وداعميه ومعهم قوى الثورات المضادة والتي تقول إن “سوريا الأسد” انتصرت!
مؤخراً كان هناك حراك سياسي نشط للمعارضة وعقدت عدة لقاءات مع الدول الفاعلة في الملف السوري، حيث عقدت هيئة التفاوض اجتماعها الدوري في جنيف وجرى خلاله عقد اجتماع مع مبعوثي الدول إلى سوريا شارك به كل من ممثلي الولايات المتحدة وقطر وتركيا ومصر وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وهولندا وسويسرا وشارك أيضا ممثل الاتحاد الأوروبي، وشاركت هيئة التفاوض أيضا بعدها في اجتماع اللجنة السياسية والأمنية لمجلس أوروبا. بدوره عقد الائتلاف اجتماعا مع بعثة الاتحاد الأوروبي إلى سوريا وتم خلال هذه الاجتماعات تقديم رؤية المعارضة للحل السياسي في سوريا، والتي أكدت فيها على تطبيق القرار الأممي ٢٢٥٤ بشكل حرفي.
يعقد في الدوحة يوم السبت المقبل منتدى الدوحة السنوي والذي يجمع قادة الرأي وصناع السياسات في العالم، وستكون سوريا حاضرة هذه السنة عبر جلسة خاصة لنقاش سبل الحل في سوريا يشارك بها كمتحدث رئيسي رئيس الائتلاف الوطني هادي البحرة، ويشارك فيها المبعوث الأممي الخاص إلى سوريا غير بيدرسن والممثلة الخاصة للملكة المتحدة آن سنو، ويديرها الباحث شارز ليستر.
تخصيص جلسة عن سوريا في نسخة هذا العام يشي بعودة قطرية للانخراط أكثر في الشأن السوري ومجرياته، سياسياً كان الموقف القطري صاحب السقف الأعلى لجهة رفض التطبيع مع نظام الأسد وقطر لم تتخلَّ عن دعم المعارضة، لكن في السنوات الأخيرة ونتيجة للمتغيرات ولظروف عدة منها ضغط معظم الدول العربية لأجل تعويم النظام ثم أعادت له مقعد سوريا في الجامعة العربية، بعد أن سحب منه في القمة العربية التي عقدت بالدوحة قبل عشر سنوات، وأيضا للمتغيرات التي حدثت في تركيا سواء الداخلية أو لجهة محاولات التطبيع مع نظام الأسد، هذه العوامل قللت من فاعلية الدور القطري.
عودة قطر صاحبة السقف الأعلى تجاه رفض الأسد لتكون فاعلة في الملف السوري إلى جانب تركيا سيكون لها أثر إيجابي كبير لجهة تقوية المعارضة، فالاستفراد التركي بمصير المعارضة في السنوات الأخيرة لم يجلب للمعارضة شيئا وبطبيعة الحال تركيا بحاجة إلى حلفاء عرب، ونتيجة للعلاقات التركية القطرية الخاصة والشراكة الاستراتيجية بينهما ستنعكس عودة قطر لتكون فاعلة مثل ما كانت قبل سنوات على وضع المعارضة سياسياً وخدمياً في الشمال الذي يعاني كثيرا نتيجة للفوضى الحالية، والتي صارت مشكلة لا يمكن تجاوزها، وهي بحاجة إلى جهود كبيرة من المعارضة والجانب التركي بطبيعة الحال، وأيضا وجود قطر مهم لجهة تمويل مشاريع بنية تحتية تساهم في تحسين واقع الشمال.
مع استمرار مظاهرات السويداء بذات الزخم وهي تقترب من شهرها الرابع، ومع إصرارها على أن يكون الحل السياسي ضمن القرار ٢٢٥٤ أي إن مطالب حراك السويداء هي ذاتها مطالب كل السوريين، ومع الاحتجاجات المتصاعدة في منطقة الجزيرة ومؤخراً في منبج ضد سياسات ميلشيات قسد، والتي تستهدف المدنيين ستكون هناك فرصة أمام المعارضة بمختلف مؤسساتها، لأجل شرح أفضل للواقع السوري، وأيضاً لاستجلاب دعم جديد لتقوية الداخل السوري، خصوصاً بعد فشل كل المسارات السياسة التي كان يُعول عليها، الحل السياسي النهائي يبدو اليوم مستحيلاً في ظل الظروف والمعطيات الحالية، روسيا التي ترتكب الجرائم اليوم في أوكرانيا بعد أن دكت مدن سوريا، وارتكبت المجازر فيها، تتحدث بكل صفاقة عن دعم أميركا للاحتلال وتدافع عن المجازر في فلسطين، في وقت تدعم فيه أميركا ومعها كل الغرب جرائم الاحتلال في فلسطين، لكنها في ذات الوقت تتحدث بصفاقة مماثلة لصفاقة روسيا عن جرائم الأخيرة في أوكرانيا!
كل هذه المعطيات تؤكد استحالة حدوث أي حل سياسي، وأن الوضع القائم في سوريا سيستمر لسنوات قادمة، ومن هنا تأتي أهمية تقوية جبهة المعارضة وأول خطوة يجب أن تبدأ من الشمال.. الحل يكمن في حل مشكلاتنا في الشمال.
——————
في خسارات الرهان على الأصدقاء/ منير الربيع
2023.12.08
تنقسم الجماعات الاجتماعية في القضايا السياسية أو المشاريع الثورية والنضالية إلى مجموعات متعددة. بعضها يبقى مناصراً للضعيف والمنكّل به والمهزوم والذي يتعرض دوماً للفوقية والاستقواء. وبعضها الآخر يذهب إلى مناصرة المنتصر أو الرابح أو الفاجر القادر على تقديم قوالب خطابية أو سياسية تبرز انتصار روايته المعنوية ورمزيتها. وبعض ثالث يفضل الانزواء والانتظار لتنجلي الصورة فيبني موقفه. أما البعض الرابع فهو من المحتكمين إلى هوامش الفراغ الذي يعيشه ويعانيه فتطفو لديه كل خفّة على شكل حقد تجاه كل المسحوقين. وهذه العناصر الأربعة أكثر من اختبرها السوريون والفلسطينيون.
في ميادين متعددة، وجد السوريون والفلسطينيون من يناصرهم لأحقية وعدالة قضاياهم. كما وجدوا من يستثمر قضاياهم من القوى الكبرى أو المؤثرة في إطار استخدامهم لمشاريع متعددة. وهم دوماً قد وجدوا من يناصر المنتصر عليهم كما حال مناصري النظام السوري الذي انتصر على شعبه، ومناصري إيران الذين يؤيدونها في مواجهة خصومها من دون مناصرة جدية أو حقيقية أو فعلية للقضية الفلسطينية أو حتى لحركة حماس. كما أن الشعبين السوري والفلسطيني اختبرا من تطفو لديه أحقاد التاريخ والنزعات الفوقية في مجانبة مناصرة قضاياهما والتعاطي معهما بعنصرية. وللمفارقة إن جانباً من هذا النموذج مورس تجاه الشعبين في لبنان، وهذا ما يبقى ثابتاً في الممارسة الإسرائيلية العنصرية تجاه القضية الفلسطينية أولاً والعرب ثانياً.
شاء القدر أن نكون في صفوف مناصرة الشعبين السوري والفلسطيني على مظلوميتهما وسحقهما بتآمر الأمم، خصوصاً عندما كان يتم وسم الشعب السوري الثائر بأنه إرهابي وينتمي إلى تنظيمات متطرفة كداعش أو النصرة. في حين كان الآخرون يعملون على التنكيل بهذا الشعب وتهجيره. في حين كّنا نحن نقول إن ممارسة العنف والاقتلاع والتهجير والقتل وبعدها التعاطي بعنصرية مع اللاجئين سيؤدي إلى إنتاج آلاف المقهورين بفعل التنكيل وهؤلاء سيكون خيارهم العنف أو التطرف. هذه المعادلة تتكرر اليوم مع الشعب الفلسطيني المقهور والمسحوق والمهجر من منازله في غزة. ومن كان يعترض على توصيفنا لوضع الشعب السوري، يستند إلى القراءة نفسها في توصيف واقع الشعب الفلسطيني.
مع بدايات الثورة السورية، واتساع رقعتها نشأ ما يسمى “أصدقاء الشعب السوري”. وهو الذي لم ينل من الصداقة أي دعم أو إسناد أو دفاع عن حقه بالوجود على قيد الحياة والاستمرار على أرضه وفي منزله، تخلى الأصدقاء والذين كان يقصد بهم الدول الداعمة للثورة السورية في مواجهة النظام. فشلت رهانات الشعب على من ناصره بقوة، وما بقي له سوى أحلام ضائعة وأصدقاء متعاطفين وعاجزين. الواقع نفسه يتكرر في قطاع غزة ومع الشعب الفلسطيني ككل. فقد خسر الشعب حلفاءه وأصدقاءه أمام آلة القتل الإسرائيلية، المستمرة في عمليات التجزير والتهجير. وكأن حماس تركت وحيدة، بلا أصدقاء ولا حلفاء، بعضهم يحملها مسؤولية ما جرى، وبعضهم الآخر يستند إلى أنها لم تنسق معه ولم تضعه في الأجواء. فيما الصحيح أن جميع الحلفاء يريدون تجنّب أن يلقوا المصير نفسه أو الدخول والانخراط في حرب ستكون آثارها سلبية عليهم، وهو ما ينطبق على جبهات مساندة أو حلفاء إقليميين، كما هو الحال بالنسبة إلى إيران التي تبرأت مما قامت به حماس، فسقط مبدأ وحدة الجبهات، وترك الفلسطينيون إلى مصيرهم.
سقط مبدأ وحدة الجبهات بمعناه الفعلي، وانتقل الفلسطينيون إلى حالة من تجزئة الجبهات، ففي أعقاب الهدنة التي سرت في غزة، استمرت العمليات الإسرائيلية في الضفة الغربية، وهذه التجزئة الأولية، وصولاً إلى تجزئة قطاع غزة شماله عن جنوبه وشرقه عن غربه. أما قوى المحور فلكل منها حساباتها، والتي كانت أخيراً في تصريح الخامنئي بأنه من غير الصحيح أن لدى إيران مشروعاً لرمي اليهود في البحر، وبالتالي التراجع عن مقولة إزالة إسرائيل بـسبع دقائق ونصف. إنها معادلة الصراع الأزلي، بين من يناصر قضية دعماً لها، ومن يناصرها كسباً لموقف وسعياً وراء ما هو أبعد.
—————–
سياسة كمّ الأفواه.. كيف انكشف زيف حرية التعبير في أوروبا؟/ وفاء علوش
2023.12.08
أن تكون عربياً فذلك يشكل لك نقمة لا في البلدان النامية فحسب، بل إنها قد تتبعك إلى أي مكان تشاء الذهاب إليه في دول العالم الحر، لأن الحرية هناك _وفق ما بدا_ تقتصر على جوانب معينة وبشروط محددة، ليس من بينها أن تكون عربياً أو مسلماً، ليصبح لزاماً عليك التقيد بضوابط الاندماج وتصبح بين ليلة وضحاها ملزماً بتطبيق أحكام ما يمليه عليك النظام السائد.
أما إذا كنت فلسطينياً فذلك وحده اليوم يكفي ليجعلك عرضة للترحيل والتهجير من طرف الدول التي منحتك _وفقاً لقوانينها حق اللجوء لأسباب إنسانية أو سياسية أو اجتماعية واقتصادية_.
لأنك وفقاً لحسابات اليوم أصبحت كائناً غير مرغوب بوجوده أو بسماع صوته في حال كنت ممن يدينون إسرائيل، أو كان رأيك أن من حق الفلسطينيين الدفاع عن أراضيهم في مواجهة أسلحة الاحتلال الهمجية.
قد تكون لاجئاً في دول أوروبا التي تصون دساتيرها المساواة بين أفرادها وتحفظ تشريعاتها الحقوق والحريات، فتتملك منك مشاعر الغضب، وتعتقد أن من حقك أن تعبر عن ذلك وفق آليات مشروعة تحمي الجميع وتضمن ممارسة حقوقهم بالتساوي، لكنك تكتشف أن ذلك محظور في حال كان غضبك انتصاراً لما يحدث في بلاد يموت فيها إخوتك وتهدم البيوت فوق رؤوسهم بأسلحة يسهم العالم أجمع في شرائها.
تمنع قوانين تلك البلاد عنك ممارسة حقوقك والتعبير عن مشاعرك، تسلبك حقك في الحزن على أهلك وتحظر تسمية موتاك بأنهم شهداء، لأنها تصورهم على أنهم قتلة ومجرمون وفقاً لسمات العالم المتحضر الذي يسعى بكل ما أوتي من قوة، كي يدحر الإرهاب ليحافظ على عالم يسوده الوئام ويعمه السلام.
في أواسط شهر نوفمبر/ تشرين الثاني المنصرم أوقفت الشرطة الفرنسية الناشطة الفلسطينية مريم أبو دقة، بعدما أعطى مجلس الدولة الضوء الأخضر لترحيلها على خلفية انتمائها إلى “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” التي تثير حفيظة إسرائيل والاتحاد الأوروبي بسبب تصنيفها منظمة إرهابية وفقاً للوائحهم.
على شهرتها لم تكن “أبو دقة” الوحيدة التي هُددت بالترحيل، لقد اعتقلت الشرطة المحلية في الدول الأوروبية أعداداً كثيرة من الفلسطينيين الذين مارسوا حقهم بالتظاهر، أو من العرب المؤيدين للقضية الفلسطينية الذين رفعوا شعارات تندد بعنف الاحتلال وتطالب بعودة الأراضي الفلسطينية، كذلك منعتهم من التجمعات وحولت بعضهم إلى المحاكم وهددتهم بالترحيل من جراء دعمهم للإرهاب الذي يمارس على الكيان الإسرائيلي.
الإرهاب الذي تقصده إسرائيل وغيرها هنا هو مجرد سرد الحقائق والمطالبة بوقف قتل المدنيين بحجج واهية وحروب مفتعلة، فالإرهاب مثلما يعرفه المجتمع الدولي هو أن تطالب بعودة الحق إلى أصحابه وترفض الاعتراف بالاحتلال، الإرهاب ومعاداة السامية تهمك الجاهزة بسبب رفضك الإذعان لاقتطاع الأرض، وتشويه تاريخها وإرثها الحضاري والديني.
لقد أصبح سرد رواية مختلفة عن رواية الاحتلال بحد ذاته تهمة قد تجعلك تواجه عقوبات وتهديدات ونبذاً وتضييقاً، وباتت معاداة السامية الورقة التي يرفعونها في وجه العالم لإثبات مظلوميتهم ونشر سرديتهم عن الأحداث في عالم معد مسبقاً لتصديق أنصاف الحقائق، ولا يضيره أن يكُذّب الصورة الحقيقية التي لا تشبه تلك التي يبرزها الاحتلال في تبريره هجماته العسكرية وفي روايته في المحافل الدولية أو في ترويجه ودعايته الكاذبة.
يعيد النظام العالمي اليوم تشكيل الرأي العام العالمي وفق ما يرى من زاويته الحادة، وتصبح التصنيفات الجديدة باباً آخر ينتج عنه الاصطفاف والتحزب، فإذا لم تكن معنا فأنت ضدنا لا محالة، عليك أن تلتمس العذر لإسرائيل في الدفاع عن نفسها أمام إرهاب المقاومة، وأن تدين منظمة حماس التي روّعت المدنيين الأبرياء من مواطني الاحتلال واختطفتهم وأسرتهم.
أنت فلسطيني إذن أو عربي؟ إن ذلك بحد ذاته أصبح يعد تهمة بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، عليك إذن التخفي أو التنكر بهيئة مواطن أوروبي يدين الإرهاب ويحزن على مواطني الكيان جراء الرعب الذي عاشوه منذ بداية طوفان الأقصى، وعليك أن تدرك أن حقوقك التي افترضتَ سلفاً أنك حصلت عليها بعد هروبك إلى بوابات العالم الحر لا تسمح لك بالتعاطف مع أبناء جلدتك.
منذ بدء الحرب على غزة غدت حرية التعبير والفكر التي تدعي الدول الأوروبية تبنيها، تبدو أوهى من خيط العنكبوت، وأصبحت قابلة للتفصيل والتكييف وفق مقاسات مختلفة بحيث تضم أشخاصاً وتنبذ آخرين، لكنها في الأحوال كلها تخوض اختباراً مفصلياً قد يؤثر على مستقبل البلاد في العقود القادمة.
لا منجى من الاستبداد إذن.. وإنما تختلف حلته وهيئته في كل بلد عن الآخر، ومن كذبوا علينا وسرقوا أحلامنا ونحن نلهث لنصنع عوالم ودولاً نستحق الحياة فيها بإنسانية، ما لبثوا أن أشهروا سيفهم في وجهنا في أول اختبار حقيقي لمصداقيتهم، فالحرية لديهم هي أن تشبههم فكراً وقولاً وعقلاً وأن تسير في مساراتهم، لا أن يكون لك فكر حر يتعارض مع النظام الذي وضعوه، أو أن تفكر في محاولة زعزعة الأسس التي عملوا على ترسيخها في مجتمعاتهم وبذلوا جهداً في بنائها، بتصويرهم الوقائع على خلاف ما هي عليه كي يضمنوا ألا يشبّ القطيع عن الطوق فينكشف زيف ادعائهم ونفاق توجهاتهم عند أول محك.
لماذا تخاف تلك الأنظمة من الصوت الآخر إلى هذه الدرجة؟؟ هو السؤال المفصلي ربما الذي يفسر حملة القمع والاعتقال وخنق الأصوات المناهضة لإسرائيل، ذلك أن هذه الأصوات بدأت تلاقي أذناً صاغية من المجتمع الأوروبي الذي انضم كثيرون فيه إلى حملات المقاطعة للمنتجات الاقتصادية التي تدعم الكيان على سبيل المثال، وهو أمر تدرك الدول المعنية مدى جديته وتأثيره في حال انتشر وتوسع، ذلك أن الكيان الذي يدعي طوباويته أمام أبناء شعبه ويخدعهم باسم الدين، لن يستطيع الاستمرار في حال عدم دوران العجلة الاقتصادية التي تدعمه ويحكمها أصحاب رؤوس الأموال ذوو المصالح المشتركة.
———————————
حرب الإبادة في غزّة، وانبعاث جيل جديد في الغرب/ طالب الدغيم
2023.12.08
“جو بايدن خائف، يُحاصَر أينما ذهب، لن يستريح.. لن يجد السلام. نَعده بألا سلام لصانعي الإبادة الجماعية”، بهذه العبارات حاصر مجموعة من الشّبان الأميركيين فندقاً ينزل به الرئيس الأميركي جو بايدن في مدينة دِنفر عاصمة ولاية كولورادو الأميركية منذ يومين. ورفع سكان أحد الأحياء الكبيرة في مدينة ليستر البريطانية الأعلام الفلسطينية تضامناً مع غزّة، واحتل طلاب في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا أحد المباني المهمة يوماً كاملاً، بعد أن وَجهت لهم إدارة المعهد رسالة بأن تظاهرهم لصالح فلسطين “تخريبي” و”فوضوي”، وتنوعت أشكال الرفض والاحتجاج الشبابي الغربي، رداً على مشاهد الموت الجماعي التي تظهر من فلسطين.
في الأيام الأولى التي أعقبت حدث 7 تشرين الأول/ أكتوبر “طوفان الأقصى”، طغت الرواية الإسرائيلية في الإعلام الغربي، بأن ما حصل “اعتداء إرهابي مرعب ضد مدنييها”، ولكن مع بدء العدوان الإسرائيلي على غزّة، والمسمى بـ”السكاكين الحديدية”، ودموية الرد ضد المدنيين العُزّل من الأطفال والنساء والعجائز، وتدمير المستشفيات، ومراكز إيواء النازحين، وضرب قوافل الإغاثة الإنسانية، ووصف الناس هناك بــ “الحيوانات البشرية”، بدأ يتشكل الاتجاه الأوسع في الرأي العام في الغرب، وانقلبت الموازين على المستوى الجماهيري، حتى تلاشت سرديات المحتلين وحُلفائهم، وبدأت تفقِد زخمها، وخاصة في أوساط الشباب الغربي.
في كتابه “مرآة الغرب المنكسرة” اعتبر الدكتور حسن أوريد، بأن الغرب تحولت فيه القيم إلى سلعة، وعلى هذا المنوال، وفي الآونة الأخيرة، ظهرت كــتابات نقدية غربية، استنطقت الحال كما في كتاب “ما بعد الإنسان The Posthuman” للكتابة الأسترالية الإيطالية روزي بريدوتي، والتي أثارت الجدل بعد نقاشاتها حول دور النخبة السياسية الغربية في الترويج للنظريات الرأسمالية التي وصفتها بـ”المتوحشة”، كنظرية ما بعد الحداثة، وما بعد الاستعمار، حتى ضيّعت قيمة الإنسان، ومكانته، وصار الشعار في الغرب: “أنا أتسوق، إذن أنا موجود”.
ولكن، مع تعاظم الأزمات الأخلاقية والاقتصادية المعيشية، وحالة التأزم السياسي في بعض دول الغرب، ظهرت بعض المبادرات الشبابية تبحث عن القيمة، وعن الأخلاق التاريخية، وعن مركزية الإنسان، وبُناه الاجتماعية، وروابطه الإنسانية، ونماذجه السلوكية، وأخذ الشباب الغربيون بكل أطيافهم وألوانهم، يخرجون عن صمتهم في حملات إعلامية ووقفات احتجاجية، وجاءت جرائم الإبادة المروعة في غزّة، لتحرك شباب الغرب ضد النخب واللوبيات، بعد أن كانوا لا يزالون مقتنعين، ولو جزئياً، بالرواية الإعلامية التي تخص إسرائيل في بلدانهم.
كشفت المظاهرات الضخمة التي شهدتها مدن غربية، مؤخرًا لأجل فلسطين، من واشنطن ونيويورك ولوس أنجلوس وبوسطن الأميركية، وصولاً إلى تورنتو الكندية، ولندن البريطانية، وبرلين الألمانية، وأمستردام الهولندية، وفي اسكتلندا وأوسلو ومدريد وسيدني وملبورن وروما عن حالة التحول في الرأي العام الشبابي تجاه الثقة بالنخب السياسية الغربية. وهكذا، بدأ يتشكل الزحف المعاند لهيمنة البروبوغندا الإعلامية انتصاراً للشعب الفلسطيني، وحين قوبل الحراك الشبابي ذاك باعتقال بعض منظمي الاحتجاجات كما في الولايات المتحدة الأميركية، وحظر بعض المظاهرات كما في فرنسا وألمانيا وبريطانيا وإيطاليا، في تناقض فاضح مع القيم الدستورية الغربية، زادت حدة الاحتجاجات الشبابية، ولم يعد الهدف الانتصار لقضية فلسطين فقط، وإنما خرجوا بالآلاف باحثين عن القيمة، وباحثين عن الغرب، وعن مكانة الأخلاق والإنسان فيه، بعد ما رأوا كيف تغيرت تلك المعايير والمبادئ الإنسانية بين ليلة وضحاها.
أسهم انحياز قنوات ومراكز إعلامية بارزة مثل CNN الأميركية، وBBC البريطانية، وفرانس 24 الفرنسية، بالإضافة لمراكز وصحف إعلامية، ومؤسسات أكاديمية وثقافية أميركية وأوروبية، لصالح الهجمات الإسرائيلية، في انكفاءٍ أوسع عنها كمصادر موثوقة للأخبار في نظر شباب الغرب، وأظهرت استطلاعات للرأي في بريطانيا، بعد عشرة أيام من بدء الحرب الإسرائيلية على غزّة، بأن نسبة تعاطف الشباب الجامعي مع الفلسطينيين يزيد عن أربعة أضعاف الشباب المتعاطفين مع إسرائيل.
وعوضت شرائح واسعة من الشباب الغربي مصادر معلوماتها، من وسائل الإعلام البديلة، والميديا النشطة، كبديل عن وسائل الإعلام التقليدية، التي دخلت في مأزق أخلاقي بشكل علني، وفشلت في تحقيق توازن في التغطية، حيث بدا أنها تحاول ترسيخ الرواية الإسرائيلية في وعي الجمهور الغربي، فمثلاً، تم تثبيت خبر “مقتل 1400 إسرائيلي في 7 أكتوبر” لمدة تزيد عن ثلاثة أسابيع من الحدث في الشريط الإخباري لقناة BBC البريطانية، في الوقت الذي تجاوزت فيه أعداد القتلى من المدنيين الفلسطينيين 10 آلاف قتيل، واستخدمت بي بي سي على حسابها في منصة إكس، وصف “موت فلسطينيين” و”مقتل إسرائيليين”؛ الأمر الذي أثار موجة انتقادات واتهامات، بتعمُّد القناة صناعة رواية منحازة لصالح إسرائيل.
وانتشر فيديو لقناة CNN، يَظهر فيه المخرج، وهو يُوجّه مراسلة الأخبار والمصور عبر الهاتف، بأن يَتظاهرا بأنهما تعرّضا لصواريخ “القسام” عندما يقول للمراسلة: “تلفتي حولك بطريقة تبدين فيها أنك مذعورة”، وهو التضليل الإعلامي نفسه الذي تبناه الرئيس الأميركي بايدن في أول أيام الحرب بقوله: “حماس تقطع رؤوس الأطفال”، واعتذر بعد فترة.
يشير الباحث الأميركي البارز، جون سميث، إلى أن هناك اعتقادًا شائعًا بين بعض النقاد حول أن الديمقراطية الغربية، قد تحولت إلى أداة للطبقة السياسية والاقتصادية الحاكمة. يقول سميث: “على الرغم من الأفكار الجميلة حول تمثيل الشعب والحكم الشامل، إلا أن هناك مستويات عالية من الفساد والتحيز في هذه النظم، تجعل بعض الناس يشككون في فعالية الديمقراطية”.
بدأ الشباب في الغرب، يفتش عن أسباب الانحياز السياسي والاقتصادي والإعلامي الرسمي، وراء الرواية المضللة التي تبثها إسرائيل، وحين بحثنا في الأمر، وجدنا أن أكثر الكلمات المفتاحية التي يبحث عنها في الغرب على محرك البحث غوغل “لوبي”، و”فساد”، و”توحش”، و”الحرية”، ومنها بحث بشكل واسع عن دور منظمة إيباك اليهودية الأميركية في صناعة القرار السياسي والعسكري والإعلامي الأميركي.
وإيباك التي تأسست في ستينات القرن الماضي، وعملت على تكثيف جهودها في الولايات المتحدة الأميركية لدعم إسرائيل، وبالرغم من أن نسبة اليهود في أميركا لا تتعدى 3 ٪ من الشعب الأميركي، غير أن دراسات وإحصائيات لنفوذهم تتحدث عن أن أكثر من 20% من أساتذة الجامعات الكبرى في أميركا هم من اليهود، وحوالي 60% من كُتاب ومنتجي أقوى الأفلام والمسلسلات الأميركية هم من اليهود، ناهيك عن الصحف والمجلات والقنوات الفضائية، وكبرى شركات النفط والسلاح والغذاء، حسب توثيق دراسات ليهود معروفين أمثال الكاتبين سيمور ليبست، وإيرل راب في كتابهما “اليهود والحال الأميركي الجديد”. كما تُصرح إيباك على موقعها الرسمي على الإنترنت أن مقابلاتها مع أعضاء الكونغرس الأميركي تتجاوز 2000 مقابلة سنويًا، تُقدّم من خلالها تقارير ودراسات استراتيجية عن الشرق الأوسط والعالم، ومدى إمكانية الاستفادة من الفرص المتاحة في كل منطقة لصالح الولايات المتحدة وإسرائيل، والتي تثمر بحوالي 100 تشريع وقانون في الكونغرس والبيت الأبيض لصالح إسرائيل سنويًا. ورغم معرفة الشعب الغاضب في أميركا، لقوة ونفوذ اللوبي اليهودي في مفاصل الحياة الاقتصادية والسياسية والأكاديمية، ولكنه خرج عن صمته في تحدٍ واضح عبّر عنه نشطاء وفنانون ورجال أعمال وجامعيون ومحامون في مناسبات كثيرة.
المواقف الشبابية الغربية الصارمة، وانخراط شرائح مجتمعية واسعة، وفي طليعتهم غاضبون من الجالية اليهودية في حركات تضامنية، دخلوا قاعات الكونغرس الأميركي للتنديد بالإبادة الجماعية في غزّة، ومقاطعة حملة تبرعات بولاية بوسطن للجيش الإسرائيلي، عكست تقدمًا جوهريًّا في حوار القيم، ورفض سياسة النخبة الغربية، وأدت بشكل أو بآخر، لتغير بعض المواقف الغربية، ففرنسا التي زار رئيسها ماكرون إسرائيل متضامنًا، وأرسل حاملة طائراته الهليوكبتر “ديكسمو” إلى شواطئ فلسطين داعمًا لردها، صوّتت إلى جانب إسبانيا لاحقًا بنعم على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي طالب بوقف إطلاق النار، ويُصرح بتعاون وثيق مع قطر لتجديد هدنة إنسانية أطول من الأولى، وتحولات الموقف الفرنسي جاء نتيجة التعاطف الشعبي الفرنسي الذي تصاعد لصالح الشعب الفلسطيني بنسبة لا تقل عن 47 ٪ بما يفوق نسبة المتعاطفين مع إسرائيل. وقاد الاحتجاج الشعبي في إسبانيا وبلجيكا، رئيسا وزراء الدولتين لعقد مؤتمر صحفي أمام معبر رفح، مطالبين بوقف الإبادة، وإدخال المساعدات الإنسانية. وأعلن رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو عن رفضه لاستهداف المدنيين، وقدم التعازي للعائلات الفلسطينية الكندية في البيوت والمساجد. وتمت إقالة وزيرة الداخلية البريطانية سويلا برافرمان من منصبها من قبل رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك، بعد الإدلاء بتعليقات مثيرة حول ليونة تعامل الشرطة اللندنية مع المسيرات المؤيدة للفلسطينيين في لندن، ووصفت تلك المسيرات بأنها “مسيرات كراهية”. وفي المقابل، أعلنت دول إسبانيا والدنمارك والنرويج وأستراليا وبلجيكا وجنوب أفريقيا والبرازيل، بأنها ستعترف بدولة فلسطينية مستقلة، كحل ينهي هذه المأساة الإنسانية في فلسطين.
أحدثت حرب غزة هزات حقيقية لدى الجيل الجديد في الغرب، وضربت سمعة الدول الغربية “الديمقراطية” نتيجة انحيازها إلى إسرائيل؛ الأمر الذي ألهب النقاش لدى الرأي العام الغربي والعالمي فيما يتعلق بالمعيار المزدوج الذي اعتمدته الحكومات الغربية، وميزت فيه بين الغزو الروسي على أوكرانيا، والإبادة الجماعية التي تمارسها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني، وهذا الاختلال، يُنبئ بربيع شبابي غربي في رحلة البحث عن المعنى، وإضعاف هيمنة النخبة الرأسمالية، واللوبيات الطاغية التي خلقت الأزمات السياسية والمالية والصحية في العالم.
————————
“وميض فيلا” إسرائيل المحمية أميركياً/ مالك داغستاني
2023.12.07
أكثر ما أثار استغراب المراقبين خلال الأسابيع الماضية، هو عندما فقد كثير من المسؤولين الغربيين حصافتهم وحججهم ومنطقهم، وهم يتحدثون عما تفعله إسرائيل خلال الشهرين الأخيرين في غزّة. وخاصة حين يتلعثمون بالإجابات، عندما يسألون عما يمكن وصفه بالإبادة الجماعية التي تطول المدنيين، والتهجير القسري، الذي بلغ حدّ مطالبة مصر، عبر قنوات خاصة، للسماح لسكان القطاع بالانتقال إلى شبه جزيرة سيناء المصرية، هرباً من الموت.
عدا الساسة والإعلاميين الذين لا يمتلكون حرية الموقف، بسبب عملهم في مؤسسات ذات توجهات محددة سلفاً، فإن العديد من المفكرين والمثقفين العالميين بمن فيهم اليهود، كانوا يسمون الأشياء بأسمائها فيصفون ما يجري على أنه جرائم ضد الإنسانية. ولكن ما الذي يجبر أولئك القادة والمسؤولين على وضع أنفسهم في تلك الخانة المحرجة؟ الجواب الأولي الذي يحضرني، هو الخوف على مستقبلهم السياسي، فيما لو شقّوا عصا الطاعة، لأميركا وللدوائر الداعمة لإسرائيل عبر العالم.
“خلال مؤتمر صحفي، أخبرني مسؤول كبير في وزارة الخارجية (الأميركية)، أنني إذا واصلت القول إن (حادثة فيلا) كانت بمثابة تجربة نووية، فسوف يدمّرون سمعتي”. الاقتباس السابق يعود إلى ليونارد فايس، عالم وخبير أميركي في منع الانتشار النووي. كان حينذاك، يعمل ضمن طاقم السيناتور الديموقراطي جون جلين. التقط القمر الصناعي الأميركي فيلا “Vela 6911” المختص بمراقبة النشاطات والتجارب النووية في 22 أيلول/سبتمبر 1979، صور وميضٍ، لما يُعتقد أنه تفجير نووي جنوب المحيط الأطلسي، وقدّر العلماء والمختصون في مجمّع الاستخبارات الأميركي أنها تجربة نووية إسرائيلية بمساعدة لوجستية من جنوب أفريقيا. ولكن ماذا حدث بعد ذلك؟
كان مجرد الحديث عن برنامج نووي إسرائيلي، يعتبر من المحرمات بين أفراد الطبقة السياسية في الولايات المتحدة. وأن الخوض في حديث بأن تلك التجربة كانت لاختبار قنبلة نووية إسرائيلية، سوف يقوض كل الإرث الدولي والأميركي، بشكل خاص، في التستر على مشروع تطوير سلاح نووي إسرائيلي. لهذا رفض البيت الأبيض نتائج تحقيقات المخابرات، وعمل على تشكيل لجنة خاصة من العلماء، تتبع البيت الأبيض مباشرة، لدراسة المعطيات وإشارات وصور القمر الصناعي فيلا.
ستتوصل اللجنة، التي دُعيَت “لجنة روينا” نسبةً إلى رئيسها جاك روينا الأستاذ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، سريعاً إلى أن الصور ليست لتفجير نووي، وربما كانت من تأثيرات “انعكاس محتمل لأشعة الشمس على نيزك صغير أو قطعة حطام فضائي مرّت قرب القمر الصناعي”. استمعت اللجنة إلى شهادات ووجهات نظر وزارتي الطاقة والدفاع المؤيدة للاعتقاد بوقوع حادث نووي. “حتى نتمكّن من تجاهلهم بأمان أكبر” هذا ما جاء في مذكرة للجنة نشرت بعد سنوات. كان هذا دليلا آخر على تسييس الأدلّة العلمية ضمن جهود تبرئة إسرائيل.
الأكثر غرابة أن أحد أهم أعضاء اللجنة، ريتشارد جاروين، وهو عالم مرموق قد وقّع على تقرير لجنة روينا، بالرغم من أنه كان في لجان الاستخبارات، وحينذاك، أي قبل شهر واحد، كان من أوائل المؤيدين لتفسير الوميض على أنه لتجربة نووية. تساءل كثيرون يومها ومازالوا حتى يومنا، لأي سببٍ، وكيف غيَّر جاروين حكمه بشأن صور فيلا؟
في مساء 21 شباط/فبراير 1980، بثت شبكة سي بي إس الأميركية، تقريراً حصرياً لمراسلها في تل أبيب “دان رافيف”، يقول فيه إن الشبكة علمت أن حادثة فيلا كانت اختباراً نووياً إسرائيلياً بالفعل. التقرير استشهد بمخطوط كتاب إسرائيلي، مُنِع من الطبع والنشر، بعنوان “لن ينجو منّا أحد: قصة القنبلة الذرية الإسرائيلية” للصحفيين إيلي تيشر وعامي دور أون.
بعد سنوات سيعلن رافيف أنه استند في تقريره إضافة للمخطوط، إلى مصدر سياسي إسرائيلي موثوق، هو عضو الكنيست إلياهو سبايزر، وهو من أكّد له إجراء التجربة النووية. كان رافيف قد بثَّ تقريره من روما للتهرب من الرقابة الإسرائيلية، ومع ذلك فقدَ أوراق اعتماده الصحفية في إسرائيل، بأمر مباشر من وزير الدفاع الإسرائيلي عازر وايزمان.
بعد تقرير لجنة روينا، وفي 27 شباط/ فبراير 1980، دوّن جيمي كارتر في مذكراته التي نشرت فيما بعد “لدينا اعتقاد متزايد بين علمائنا، بأن الإسرائيليين قاموا بالفعل بإجراء تفجير تجريبي نووي في المحيط، بالقرب من جنوب أفريقيا”. من جهتهِ، خلال تسعينيات القرن الماضي، صرّح الأدميرال ستانسفيلد تيرنر، المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية أنه لم يأخذ لجنة روينا على محمل الجدّ أبداً، وكان دائماً يؤيد “وجهة النظر السائدة بين محللي الوكالة، بأن الوميض المزدوج كان بمثابة تجربة نووية. على الأرجح أن إسرائيل هي من أجرتها” ولم يستفض الرجل في أية تفاصيل أخرى.
تشير شهادة مردخاي فعنونو، الفني النووي السابق في مفاعل ديمونا، التي أدلى بها لصحيفة صنداي تايمز خريف عام 1986، إلى أن إسرائيل تمتلك أسلحة نووية أكثر تقدماً مما توقّع الجميع. قدّر فعنونو حجم الترسانة النووية الإسرائيلية بأكثر من 100 قنبلة تعتمد البلاتينيوم. ستقبض الموساد على فعنونو، وتعيده إلى إسرائيل، وسيحكم عليه بالسجن لمدة 18 عاماً. ليطلق سراحه عام 2004، ولكن بقيود مشددة على حركته وتصريحاته. تدلل معلومات فعنونو أن أميركا مارست على الدوام ما يمكن وصفه بغسيل الأدلّة، إذا جاز لي اشتقاق التعبير من غسيل الأموال، لاعتبارات حماية إسرائيل في تجاوزاتها للقانون الدولي.
ستكشف جملة وردت في وثيقة أميركية مفرج عنها بعد عقود، دُوّنت خلال اجتماع لجنة تنسيق خاصة بحادثة فيلا حالة التعامي الأميركي المتعمَّد. وفقاً للمشاركين فإن هناك حالة إجماع على “أننا لا نعرف ماذا حدث، ويجب علينا أن نتحرك وفقاً لذلك فيما يتعلق بسياساتنا”. وهو ما يوضح الجهود المبذولة لتسييس حتى العلم. للأمانة كان كل العالم يعرف أن إسرائيل تطوِّر سلاحاً نووياً، ومع ذلك توجّب على الإدارات الأميركية المتعاقبة، العمل عامدةً بسياسة نعاميَّة، فتدفن رأسها في الرمال، وتدّعي دائماً أنها لا تعلم عن هكذا برنامج.
ولكن ماذا أريد من رواية تلك الحادثة وملابساتها، وما علاقتها بالجرائم التي ترتكب في غزّة اليوم؟ الحقيقة أردت القول إن هناك سياسة أميركية أصيلة وتاريخية وثابتة، للتعمية على انتهاكات إسرائيل وتجاوزاتها للقوانين الدولية، بما فيها تلك التي تتشدد الولايات المتحدة بها تجاه الدول الأخرى، كمنع انتشار الأسلحة النووية وحظر تجاربها. ولذا نلحظ اليوم كل هذا الاستنفار الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة عسكرياً وإعلامياً وسياسياً للتعمية عن النهج الإجرامي الإسرائيلي. مع انتشار عشرات آلاف الصور، ومعرفة الجميع أن جرائم ضد الإنسانية ترتكب كل لحظة، فإن الخارجية الأميركية تؤكد عل أنها لم ترَ “أيّ دليل على أن إسرائيل تقتل المدنيين عمداً”!
حسناً، ورغم ما سبق، لكن لماذا إسرائيل بالذات هي من تحظى بذاك الامتياز من الحصانة الأميركية والغربية عموماً، بمواجهة الأعراف والقوانين الدولية؟ إن أي دولة طبيعية لا تحتاج لمثل هذا، وخصوصاً حول حقها في “الدفاع عن وجودها”، الجملة الأكثر تكراراً في التصريحات الغربية بما يخص إسرائيل! نعم هذا صحيح، لولا أن هذا يشي بشكوك وأسئلة عالمية، بل وحتى ضمن المجتمع الإسرائيلي، حول هذا الحق. بل وهناك دائما ذاك التخوف حول استمرار إسرائيل في الوجود، كدولة احتلال.
الأكيد أكثر أن الجميع لديهم شكوك، حول أن إسرائيل تمتلك مواصفات دولة نشأت بصورة طبيعية، كباقي دول العالم، مما يؤمِّن لها كغيرها من الدول، استمرارها الطبيعي في الوجود تلقائياً. المتطرفون الإسرائيليون الذين يحكمون اليوم في تل أبيب، هم الأكثر بعداً عن فهم أنه إن كانت لإسرائيل فرصة في استمرار الوجود حقاً، فإنما عبر قبول المحيط العربي والفلسطيني على وجه الخصوص، بهذا الوجود. وعبر القبول بسلام ينهي الاحتلال ويحفظ للفلسطينيين أدنى حقوقهم التي تبقّت لهم بعد مآلات الصراع منذ عام 1948 وحتى اليوم، بإقامة دولة فلسطينية مستقله تعتمد حدود عام 1967. فلم يخبرنا التاريخ عن دولة استطاعت، مع احتمالات تبدل موازين القوى، الاستمرار في الحياة والوجود بدعمٍ خارجي، ضمن محيط يناصبها أشدّ العداء.
———————
قبل السلام.. بعد الحرب/ مرح البقاعي
2023.12.07
أصبحت الحرب الشعواء التي تديرها إسرائيل في غزة أمراً يثير قلق واشنطن وامتعاض الشارع الأميركي إلى جانب طيف واسع من ممثليه في الكونغرس ومجلس الشيوخ.
وغدا من الجلي أن إسرائيل لا تريد الإنصات إلى النصائح الأميركية في تجنّب الإيغال في القصف والتدمير وتعريض أرواح المدنيين الفلسطينيين الأبرياء للاستهداف اليومي قتلاً وتهجيراً وانتهاكاً.
الهدنة التي استمرت لأسبوع واحد انتهت بشكل درامي نتيجة خلاف لوجستي في قوائم الأسرى بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني، في حين عاد القصف المروّع لقطاع غزة ليهدد بسقوط مزيد من الضحايا المدنيين في ظل غياب أي احتمال لاستعادة هدوء مؤقت (إن لم نقل هدن) من أجل الإفراج عن مزيد من الأسرى والرهائن وكذا السماح بدخول المساعدات الإنسانية للقطاع.
لقد تسببت الحرب الإسرائيلية على غزة، المستعرة منذ ثمانية أسابيع تقريبا، والتي سبقت التهدئة، في دمار واسع النطاق، وشهدت مقتل أكثر من 14800 مدني في غزة وفقاً لوزارة الصحة الفلسطينية في الضفة الغربية، والتي تستمد بياناتها من السلطات الصحية التي تديرها حماس في القطاع.
لكن، ومع اندلاع الجولة الثانية من القتال، أوضحت الولايات المتحدة لإسرائيل أن حجم الدمار الذي سببته في الشمال لا ينبغي أن يتكرر، وأنه “في حال لم يتم حماية المدنيين من استهدافهم خلال العمليات القتالية، سيتحول الانتصار التكتيكي التي تعلن عنه تل أبيب متفاخرة، وبسرعة، إلى هزيمة استراتيجية لإسرائيل” وفق تصريح أخير لوزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن.
تصريح أوستن هذا جاء إثر نصائح متكررة من الرئيس بايدن ووزير خارجيته، أنتوني بليكن، خلال لقاءاتهما الشخصية مع رئيس حكومة إسرائيل، بنيامين نتنياهو، إلى جانب أعضاء مجلس الحرب الذي شكّله، نصائحهما بضرورة تجنّب إزهاق أرواح المدنيين. وقالها بلينكن بوضوح لا يقبل التأويل بأن “إسرائيل تستطيع أن تستكمل أهدافها العسكرية دون أن توقع ضحايا مدنيين”.
من الجلي أن الحرب في جنوبي القطاع قد تكون أشرس من الحرب في شماله. كما يعتقد العديد من أهالي الرهائن الإسرائيليين المحتجزين في قبضة حماس أن حكومة نتنياهو تقبل أن تضحي بهم خلال هجماتها على الجنوب، ولا تهتم لبقائهم أحياء. فالعودة إلى الهدن وتحرير الرهائن سيكلف نتنياهو ائتلافه الحاكم سياسياً كلفاً باهظة، ولا سيما إذا اضطرت أن تقبل بشروط حماس في تحديد قوائم الأسرى من الطرفين.
تفيد المعلومات القادمة من العاصمة القطرية الدوحة، أن المفاوضات مع الوسطاء القطريين والمصريين بشأن إطلاق سراح الرهائن مستمرة حتى بعد إعلان إسرائيل عن استئناف عملياتها، بينما تكثف الولايات المتحدة الآن ضغوطها على إسرائيل لتجنب سقوط ضحايا من المدنيين في الجولة القادمة من القتال.
وقد أوضح بلينكن خلال لقائه الأخير بنتنياهو على ضرورة وضع خطط حماية إنسانية، وتجنّب استهداف المستشفيات ومحطات الطاقة والمرافق.
نتنياهو وعد باتخاذ خطوات للتقليل من الخسائر بين سكان غزة العزل، لكن الجميع يشك بأنه سيكون جاداً في تنفيذ وعده، وهو الذي أوغل في الدم الفلسطيني دونما رادع ضميري أو إنساني ولا حتى أخلاقي، متجاوزاً كل الضغوط حيناً، والنصائح أحياناً، التي وُجّهت إليه من نظرائه في واشنطن
في حين أن الجميع ينتابه شك عميم في قابلية استجابة إسرائيل لنصائح الولايات المتحدة المتوالية، بدت قسوة الخطاب الأميركي واضحة في اللقاء الأخير بين الرجلين – بلينكن ونتنياهو- حيث كان وجههما متجهماً كما لم يظهرا من قبل!
أما إذا استجابت إسرائيل لتوجيهات واشنطن، فسيكون الأمر مؤشرا قويا للغاية على مدى التأثير الذي مازالت الولايات المتحدة قادرة على ممارسته على حكومة إسرائيل المتشددة الحالية.
فحكومة تل أبيب تدرك تماماً أنها إذا اتبعت النهج العسكري نفسه في جنوبي القطاع كما فعلت في الشمال، فقد يؤدي ذلك إلى خلاف مفتوح لا يحمد عقباه مع إدارة بايدن. ولأن قادة الحرب الإسرائيليين يريدون تجنب حدوث صدع كبير في العلاقة مع أميركا الداعمة باستمرار لهم، فهناك احتمال أنهم سيتخذون على الأقل بعض الخطوات للتخفيف من وطأة نهجهم العنفي في المرحلة المقبلة.
من نافلة القول، والعالم يراقب هذا المشهد الدموي الذي يدفع ثمنه ضحايا مدنيون لا حول لهم ولاقوة ولا مكان آمناً يتوجهون إليه بعد أن استنفد الجيش الإسرائيلي خريطة استهدافاته التي شملت المشافي وأماكن العبادة مسيحية كانت أم إسلامية والمدارس والملاجئ… أنه لا بد من أن يستمر الموقف العربي في زخمه لمنع أي محاولة للتهجير القصري بهدف اقتلاع أهل غزة من أرضهم وفصلهم عن سعيهم لحق مشروع في دولة مستقلة يعيشون فيها بكامل حقوق المواطنة والسيادة والاستقلال، وكذا لضرورة تواصل إدخال المساعدات الإغاثية للمكلومين من أهل غزة، وتخفيف معاناتهم بالقدر الأقصى، مع الاستمرار في المفاوضات التي تديرها الدوحة من أجل العودة إلى تنفيذ اتفاق الهدن وتبادل الأسرى واستعادة كل الرهائن، والانتهاء إلى وقف إطلاق نار كامل، والعودة المأمولة إلى طاولة أوسع من المفاوضات على حل الدولتين.
ولا بد لإسرائيل أن تعي، حكومة وشعباً، أن قيام دولة فلسطينية كاملة الحقوق والواجبات هو ضمان لأمن إسرائيل قبل أن يكون في مصلحة الفلسطينيين والعرب.
ولا بد أيضاً من الوعي العميق من طرفي النزاع بأن عملية السلام المنشود – التي أصبحت ملحّة إثر أحداث 7 أكتوبر وما تلاها – ستحتاج إلى تحولات عميقة في المجتمعين الإسرائيلي والفلسطيني يتفهّم فيها الطرفان المعاناة والأثمان البشرية الغالية التي تُدفع مع استمرار النزاع، ثم المضي قُدماً في الاعتراف الراسخ بالحق المتبادل للشعبين في العيش بأمن وسلام واستقرار.
السلام المستدام بين الطرفين الإسرائيلي والفلسيطيني سوف يتطلب أيضاً وجود زعماء سياسيين يتمتعون برؤية ثاقبة مستقبلية، وعلى استعداد للتفاوض بحسن نية وقابلية لإرساء قواعد عملية وراسخة للسلام.
فهل سيخرج الشعب الإسرائيلي حين تضع الحرب أوزارها في مظاهرات عارمة، تماماً كما فعل لحماية منظومته القضائية من اعتداء نتنياهو على استقلالها، حاثّاً دولته على المضي في حل الدولتين كملاذ أخير للأمن والتعايش مع أبناء عمومتهم الفلسطينيين؟
أتساءل!
————-
إسرائيل ووهم القوة/ عدنان علي
2023.12.07
لطالما روجت إسرائيل نفسها ككيان فريد في المنطقة والعالم من ناحية أنها “الجسم الديمقراطي” الوحيد في المنطقة و”المعجزة التكنولوجية” و”الواحة الحضارية” في صحاري الشرق الأوسط الجدباء، والأهم الدعاية المرتبطة بجيشها، الأقوى والذي يتمتع بأخلاقيات عالية بشكل لا يقارن مع الجيوش والمجموعات المسلحة في المنطقة والعالم.
ومنذ اليوم الأول، أسقطت حرب غزة كثيرا من هذه الفرضيات التي كانت تهيمن على عقول كثير من العرب، بمن فيهم النخب المثقفة، وتداعى في ساعات قليلة “الجيش الذي لا يقهر” أمام ثلة من المقاتلين المزودين بأسلحة خفيفة، ولكن بإيمان ثقيل بحقوقهم، وأحقيتهم في هذه الأرض، التي هي أرض آبائهم وأجدادهم.
وبعد صدمة 7 أكتوبر التي لا تزال دوائر الاحتلال الإسرائيلي تكتشف فصولها تباعا، جاء الغزو البري لقطاع غزة محملا بأهداف كبيرة لا تقل عن القضاء التام على حركة حماس، والمقاومة في غزة، وتحرير المختطفين، والتأسيس لحكم في القطاع لا يمكن معه إعادة إنتاج المقاومة ضد الاحتلال، وهي أهداف سرعان ما تبخرت الواحد تلو الآخر. وبعد أكثر من شهرين على الحرب التي كانت عبارة عن عمليات قتل صرفة للمدنيين وتدمير شامل لكل مقومات الحياة، أكثر منها مواجهة حقيقية مع مقاتلي المقاومة، ما زالت إسرائيل عاجزة عن الوصول إلى تحصينات المقاومة تحت الأرض، وما زالت تلك المقاومة تتمتع بقيادة موحدة وسيطرة على مجريات المعركة، وقدرة على إيقاع خسائر يومية بالغزاة، عبر الزحف إلى حشودهم والاشتباك معهم من المسافة صفر، بسبب تمنع جنود الاحتلال عن النزول من مدرعاتهم أو التقدم راجلين في أرض المعركة، تهربا من مواجهة مقاتلي المقاومة. ورأينا كيف أن قائد سرية إسرائيلي انسحب هو وجنوده من أرض المعركة بسبب غياب الدعم الجوي له لمدة نصف ساعة فقط، وهو دعم لا يقتصر بطبيعة الحال على الطيران الحربي، بل الطيران المسير الذي تعج به سماء غزة للمراقبة والقصف الفوري لأي هدف متحرك، فضلا عن المسيرات الأميركية والبريطانية التي تساهم في المراقبة، بحجة البحث عن الأسرى والمختطفين، لكنها تقدم ولا شك معلومات استخبارية عن تحركات مقاتلي المقاومة لجيش الاحتلال.
وجاءت عمليات تبادل الأسرى، لتكشف جانبا آخر من زيف أسطورة “التفوق الأخلاقي” الإسرائيلي. ومقابل المعاملة الطيبة التي تحدث عنها الأسرى الإسرائيليون من جانب مقاتلي المقاومة، أكد الأسرى الفلسطينيون المفرج عنهم من النساء والأطفال، تعرضهم لشتى أشكال التنكيل الجسدي والنفسي، بما في ذلك التجويع.
والواقع أن مبالغات إسرائيل المتعمدة في الترويج لقوتها العسكرية والمستندة إلى حروب سهلة كسبتها أمام جيوش أنظمة عربية غيرة معدة جيدا للحرب، و”تفوقها الحضاري” المستندة إلى مقارنات محقة مع الأنظمة العربية الباطشة بشعوبها، كان الهدف منها تصوير إسرائيل كنموذج يحتذى به، يستحق بناء شراكات معه، بما يعود بالخير على شعوب المنطقة، أي استدراج أقوى للتطبيع والرهان على إسرائيل كرافعة “حضارية” للمنطقة، وهو ما كان يجري بالفعل على قدم وساق قبل يوم 7 أكتوبر.
غير أن هذه الصورة تضررت كثيرا ولا شك، مع الانهيار السريع، وحالة الضياع، لجيش إسرائيل يوم 7 أكتوبر، ثم عملياته المتعثرة حتى الآن في قطاع غزة أمام مجموعات المقاومين الفلسطينيين الذين يملكون فقط أسلحة بسيطة ومحدودة العدد، وبلا أي تعويض عن الاستهلاك بسبب الحصار الخانق للقطاع، مقابل تماسك المقاومة إلى حد بعيد رغم القصف غير المسبوق على مناطقهم، والاصطفاف الغربي حول إسرائيل. كما انهارت أسطورة التفوق الأخلاقي مع الجرائم الموصوفة بحق المدنيين والحرب على المستشفيات والمرافق المدنية والأممية في قطاع غزة التي يرتكبها يوميا جيش الاحتلال.
إن إسرائيل التي ما زالت حتى اللحظة، وخاصة القوى المتطرفة التي تحكم اليوم، تؤمن بشكل راسخ، بأن قوتها العسكرية، وتحالفها مع الغرب، كفيل وحده بضمان تفوقها على العرب، وردعهم عن التفكير عن مجرد التفكير بمهاجمتها أو إظهار العداء لها، تتجاهل حقائق التاريخ بأن القوة مهما تعاظمت وتغولت، لا يمكن أن تكون ضمانة أبدية وحقيقية لتحقيق الأمن والسلام.
وبرغم الانتقادات التي قد توجه لعملية المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر من جانب البعض، من حيث أنها تسببت في تدمير هائل لقطاع غزة وخسائر كبيرة في أرواح المدنيين، لكن لا شك إن ما يجري قد أعاد إلى الواجهة بقوة القضية الفلسطينية، وجعل حتى الرئيس الأميركي يعترف بأن لا حل لهذا الصراع إلا بإقامة دولة مستقلة للشعب الفلسطيني. كما أن الرؤوس الحامية في إسرائيل، سوف تستوعب عاجلا أم آجلا، أن القوة وحدها، مهما تعاظمت، لا يمكنها جلب الأمن لإسرائيل، وسوف يخرج من بين الأنقاض في كل مرة، جيل جديد، يرفض هذا الاحتلال القائم على سلب الأرض وامتهان كرامة الفلسطيني، واستباحة دمه وأرضه وحقوقه.
وبطبيعة الحال، ما ينطبق على الاحتلال، ينسحب أيضا على الأنظمة الديكتاتورية المستبدة مثل نظام بشار الأسد، الذي يعتمد بدوره أساسا على القوة الغاشمة وحدها لمحاولة إخضاع شعبه، مع تجاهل مطالبه بالحرية والكرامة، حيث لا يمكن للقوة مهما تنوعت مصادرها، أن تكون الضمانة لدوام حكم ظالم، لأن الشعوب الحية، لا تخضع لمنطق القوة إلى الأبد.
———————–
كيف فشل العرب في مساعدة فلسطينيي غزة؟/ رضوان زيادة
2023.12.06
اجتمع في الرياض، يوم السبت 11 تشرين الثاني/نوفمبر، في قمة عربية وإسلامية استثنائية قادة الدول العربية والإسلامية بهدف تشكيل جبهة موحدة في إدانة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، والتي بدأت في 7 تشرين الأول/أكتوبر.
لكن هذه القمة التي أنتجت بيانا يدين الحرب الإسرائيلية على غزة فشلت في صياغة رؤية مشتركة لإنهاء الحرب ورسم أفق قابل للتحقيق يقوم على تصور حل الدولتين.
فالقمة المشتركة غير العادية لجامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي كانت في حد ذاتها غير مسبوقة. لجهة عودة القضية الفلسطينية إلى مركز الاهتمام العربي والإسلامي ولوقف حمام الدم الجاري في غزة بشكل يومي على يد الاحتلال الإسرائيلي.
لقد دان الزعماء العرب والمسلمون الأعمال “الهمجية” التي تقوم بها القوات الإسرائيلية في غزة، لكنهم رفضوا الموافقة على خطوات اقتصادية وسياسية عقابية ضد إسرائيل بسبب حربها ضد حماس. فقد سلطت نتائج القمة المشتركة لجامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي في العاصمة السعودية الضوء على الانقسامات الإقليمية حول كيفية الرد على الحرب حتى مع تزايد المخاوف من احتمال جر دول أخرى إليها.
لقد رفض الإعلان الختامي المزاعم الإسرائيلية بأنها تتصرف “دفاعا عن النفس” وطالب مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بتبني “قرار حاسم وملزم” لوقف “العدوان” الإسرائيلي. كما دعت إلى وقف مبيعات الأسلحة لإسرائيل ورفضت أي حل سياسي مستقبلي للصراع من شأنه أن يبقي غزة منفصلة عن الضفة الغربية التي تحتلها إسرائيل.
لكن القمة عقدت وفق مبدأ كل شيء أو لا شيء وهو مكمن الفشل في عقد القمة، حيث اعترضت دول عربية مثل الجزائر ولبنان وطالبتا باستخدام سلاح النفط كما حدث في عام 1973، وهو ما رفضته دول خليجية كما طالبت دول أخرى بقطع العلاقات مع إسرائيل فورا وهو ما رفضته دول مثل الإمارات والبحرين اللتين كانتا جزءا مما يسمى اتفاقيات إبراهيم التي طبعت العلاقات مع إسرائيل خلال رئاسة ترامب دون أي فائدة على الفلسطينيين، وإنما كانت اتفاقيات أشبه باتفاقيات عمل اقتصادية للحصول على تمويل ودعم أميركي وتحولت بعدها الإمارات إلى أشبه براعي رسمي لهذه الاتفاقيات التي تروج للتطبيع مع إسرائيل، وتحض دولا أخرى من مثل المغرب والسودان على السير بنفس الخطا.
لكن القمة فشلت في تقديم خطوات عملية يمكنها أن تساعد الفلسطينيين في غزة اليوم، فقد فشل العرب في تقديم خطوات عملية على الأقل في تخفيف آثار العدوان اليوم بشكل سريع وحاسم من مثل تنسيق المساعدات الطبية والإنسانية فضلا عن آليات سياسية من أجل الضغط على إسرائيل لوقف عدوانها، والضغط على الولايات المتحدة من أجل تغيير موقفها والمطالبة بوقف فوري لإطلاق النار، فضلا عن خطط عملية من أجل مساعدة النازحين الذين يفوق عددهم المليون أجبرتهم إسرائيل على النزوح من بيوتهم في الشمال إلى جنوبي غزة، وفشلوا في رفع قدرة المعابر على إدخال المساعدات بشكل يساعد الفلسطينيين في صمودهم في غزة.
المشكلة الرئيسية أن العرب اعتادوا أن يعتبروا قممهم بلا قيمة لأنها لا يصدر عنها شيء ذو قيمة، ولذلك يتعامل معها العالم والدول الرئيسية الكبرى على هذا الأساس، فقد فشل العرب في التنسيق في مواقفهم مع دول أميركا اللاتينية أو الدول الأوروبية التي دانت الحرب الإسرائيلية العشوائية على الفلسطينيين في غزة. والظهور بموقف عربي ودولي يمكن أن يشكل بديلا للموقف الأميركي – الأوروبي الداعم لإسرائيل بشكل مطلق.
السياسة كما يقال دوما فن الممكن لكنها بالنسبة للعرب لم تكن سوى فن اللاممكن حيث يكتفون بخطابات لا قيمة لها أو معنى على أرض الواقع، ولا تستجيب للرأي العام العربي الذي يطالب بخطوات عملية من أجل مساعدة الفلسطينيين في محنتهم وصمودهم الأسطوري ضد الاحتلال الإسرائيلي.
———————-
ماذا بعد الحرب على غزة؟/ رشا عمران
2023.12.05
سوف تنتهي الحرب علي غزة بعد حين قد يطول أو يقصر، لكنها ستنتهي، ليس فقط لأن منطق الأمور يقول إن الحروب مها طالت سوف تتوقف بصفقة ما أو بمفاوضات أو بحلول دبلوماسية، لكن أيضا لأن إسرائيل بدأت تستنفذ اقتصاديا بعد أن وصلت خسائرها إلي درجة غير مسبوقة من الانحدار والتراجع بسبب شح الموارد واضطرار الحكومة الإسرائيلية إلى الالتزام بكلفة التعويضات التي ستدفعها في الداخل الإسرائيلي للشركات والمواطنين الإسرائيليين من عائلات ضحايا الحرب أو المصابين، إضافة إلى إعادة تأهيل الاقتصاد والبنى العسكرية واللوجستية الأمنية واستعادة الحياة الطبيعية والسياحة وحركة الطيران وغير ذلك من كلف حرب كبيرة كالحرب التي شنتها علي غزة؛ طبعا مع الأخذ بعين الاعتبار تراجع دعم الرأي العام العالمي مع المظلومية اليهودية التي لطالما استخدمتها إسرائيل والحركة الصهيونية في نهجها التوسعي الاستيطاني، وتحول هذا الدعم إلى تضامن كامل مع القضية الفلسطينية بعد أن كشفت الحرب الحقائق واستطاع مناصرو القضية الفلسطينية تغيير المزاج العام العالمي نحوها باستخدام كل وسائل الميديا الحديثة؛ ما يعني أن الحكومات الغربية لن تستطيع مواصلة دعمها المادي والعسكري لإسرائيل كما فعلت بداية الحرب، ذلك أن الشعوب في الدول الغربية بدأت فعلا بمطالبة حكوماتها بوقف الدعم غير المشروط لإسرائيل، وما نراه من مظاهرات متواصلة في العالم دعما لفلسطين هو في الوقت نفسه اعتراض واضح وشديد اللهجة على سياسات الحكومات الغربية ومحاولات دؤوبة لمنعها من الاستمرار في تلك السياسات التمييزية الداعمة للاحتلال وللفصل العنصري ولحرب الإبادة ولقمع حرية الرأي، وهو، بحسب ما يرى كثير من الخبراء، سوف يجبر الحكومات الغربية، حتى أكثرها راديكالية في دعم إسرائيل، على التفكير في الخطوة القادمة وعلى التراجع عن وعودها بإبقاء الضوء الأخضر منارا لتكمل إسرائيل حرب الإبادة التي تشنها الآن.
كما أن استمرار الحرب طويلا سوف يعني تحولها في مناطق أخرى في قطاع غزة والقدس وأراضي 48 إلى حرب شوارع نتيجة الغضب الذي بدأ فعلا بالتفجر، وبدأ الفلسطينيون خارج غزة بعمليات أمنية ضد الإسرائيليين مرشحة للتزايد مع استمرار الحرب ما يعني المزيد من الضغط على حكومة نتنياهو وحزب الليكود الذي كان يرى في الحرب إنقاذا له لكن نتيجتها كانت المزيد من الغضب الداخلي تجاه الحكومة الإسرائيلية، خصوصا مع ظهور الحقائق حول مقتل المواطنين في الحفلة الموسيقية في 7 من أكتوبر، ومع تجاهل نتنياهو لأهمية حياة المختطفين، ومع وضع المختطفين أنفسهم بعد خروجهم من غزة إثر الهدنة. في المقابل لم يعد لدى أهل غزة ما يخسرونه أكثر مما خسروه حتى الآن سوى المزيد من الأرواح التي لطالما قدمها الفلسطينيون منذ النكبة ولم تتوقف تضحياتهم طوال تلك العقود الطويلة، وغزة تحديدا هي أصلا محاصرة، لم تهدأ حروب إسرائيل ضدها منذ سنين، ولم تتوقف محاولاتها لتهجير الفلسطينيين في محيط غزة وإفراغها من سكانها واقتطاعها لتصبح مستوطنات جديدة.
لم يعش الغزاويون منذ زمن حياة طبيعية، قد تكون هذه الحرب هي الأقسى والأعنف والأكثر ضراوة، لكنها أيضا قد تحمل معها حلاً طويل الأمد لحصارهم المستمر منذ عشرات السنين؛ فهذه الحرب لن تكون كسابقاتها، هذه الحرب سوف تحمل معها تغييرا ما، لا أحد حتى اللحظة يعرف ماذا سيكون أو ما الذي سيؤول إليه الوضع، فكل ما يقال هو مجرد تحليلات وتخمينات وربما أمنيات؛ المؤكد الوحيد أنه سوف يتبعها تغيير كبير في كل المنطقة، خصوصا في الدول المتاخمة لفلسطين المحتلة أو في الدول المشتبكة معها ومع الاحتلال في ملفات كثيرة.
ستنتهي الحرب يوما ما، لكن أين نحن العرب من كل ما يحدث وما دورنا في الحرب الآن أو بعد أن تنتهي؟ في الحقيقة فإن حال العرب لا يدعو لليأس وللصدمة فقط بل أيضا للخوف من القادم؛ ذلك أن النظام العربي الحاكم يبدو كأنه يساوم على الدم الفلسطيني وبمنتهى الوقاحة، إذ تمنع حكومات غالبية الدول العربية شعوبها من التظاهر تضامنا مع غزة، وتنتشر قوات الأمن العربية والتدخل السريع وحفظ النظام في الساحات والشوارع تحسبا لأي مظاهرة مفاجئة، ويعتقل رجال الأمن العرب المتظاهرين دعما للفلسطينيين، وبعض الدول المطبعة تعتقل من يضع الكوفية الفلسطينية علي كتفيه، وبعضها يعتقل من يكتب شيئا على وسائل التواصل الاجتماعي، هذا بالنسبة للنظام الحاكم، أما الشعوب العربية فأغلبها بسبب الأوضاع المتردية التي يعيش فيها لا يكترث لما يحدث في فلسطين، فما الذي سيجعله جائعا ومحروما من كل حقوقه الإنسانية وفاقدا لكل نقاط الأمل مهتما بما يحدث في فلسطين وهو الذي اعتاد طوال عقد كامل على كل أنواع الموت والجرائم؟ وللأسف فإن مآلات الربيع العربي وعودة المنظومة الاستبدادية الحاكمة بأشرس وأعنف حالاتها والانهيار الحاصل في البنية المجتمعية للمجتمع العربي وقتل أحلام التغيير وتحولها إلى أحلام بالهرب من هذه البلاد البائسة واللجوء إلى دول العالم الأول، كل ذلك جعل من الشعوب العربية معدومة الحيلة تجاه ما يحدث في فلسطين، ولا تملك شيئا لتفعله سوى التعبير عن الحزن والغضب على وسائل التواصل في الدول التي تتسامح مع هذا؛ وعلينا ألا نغفل هنا ملاحظة أساسية أن من يتعاطون مع الشأن الفلسطيني على وسائل التواصل هم إما ممن ينتمون إلى الشريحة المجتمعية المثقفة والمسيسة، أو الذين يتعاطون مع القضية الفلسطينية بوصفها قضية المسلمين والإسلام، لا بوصفها قضية العرب المركزية التي نشأت بسببها كل كوارث العرب منذ بدايات القرن الماضي.
وهاتان الشريحتان لا تملكان من الفعل أكثر من مساعدة المنكوبين والمهجرين إلى الجارة الوحيدة لغزة (مصر)، أو الدعوة للمقاطعة الاقتصادية للشركات والعلامات التجارية الداعمة لجيش الاحتلال أو استخدام وسائل التواصل المتاحة لإظهار الحقائق.
لكن لنعترف أيضا أن بين العرب من يدعم إسرائيل أكثر من كثير من اليهود حول العالم بذريعة أن حماس تنظيم (إرهابي)، وتطالعنا وسائل التواصل يوميا بعشرات الفيديوهات والتصريحات لعرب يخجل أحدنا أمام لغة الضاد التي تجمعنا بهم لفرط تهافتهم نحو العدو الإسرائيلي.
ضمن هذا المناخ المحبط ماذا سيكون مصير عشرات آلاف الفلسطينيين من ضحايا الحرب؟ سواد من المهجرين أو من الهاربين إلى مصر أو من الجرحى والمعاقين وهم أكثر مما يمكن لأحد أن يتخيل؟ ما مصير آلاف الأطفال الذين فقدوا عائلاتهم بأكملها وبقوا (مقطوعين من شجرة) كما يقال؟ وهو السؤال ذاته الذي لطالما تم طرحه في الحرب التي شنها النظام السوري ضد السوريين، لكن خلال سنوات الحرب الأولى كان المناخ السياسي العالمي والعربي ملائما لاستقبال السوريين ومرحبا بهم ومعينا لهم في تعافيهم من آثار الحرب، أما الآن فكلا النظامين العالمي والعربي رافض للفلسطينيين ويضيق عليهم منذ الآن، حتى حملات التعاطف الشعبية الحاصلة الآن سوف تتحول بعد حين، فيما لو حسمت الحرب بتهجير الفلسطينيين إلى الدول القريبة، إلى حملات مضادة ليس لأن الشعوب كارهة بل لأنها في ضيق اقتصادي وسياسي وأمني يجعلها تحمل اللاجئين الجدد مسؤولية الانهيارات الحاصلة، ولدى الشعوب تجارب سابقة ما زالت في الذاكرة القريبة.
لا وصف لحال العرب اليوم، لم يحدث كل هذا البؤس والانهيار والتشتت والشوفينية والعنصرية والاستلاب من قبل كما هو الآن؟ سوف تنتهي هذه الحرب وسوف تنتهي باقي الحروب، وقد يتم الاتفاق على حلول سياسية تعيد ترتيب المنطقة العربية، لكن من سيشفي الذاكرة الجمعية العربية من كل هذا الخراب الذي تحتزنه؟
——————
هل إخراج حماس من غزة يجلب الأمن لإسرائيل؟/ محمود علوش
2023.12.04
سعى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى إقناع القادة والمسؤولين الغربيين الذين زاروا تل أبيب منذ اندلاع الحرب بأن إسرائيل لا تمتلك خياراً آخر سوى مواصلة القتال من أجل القضاء على حركة حماس، أو بمعنى أدق، إنهاء وجود حماس والفصائل الأخرى في قطاع غزة، وبأن تحقيق هذا الهدف هو السبيل الوحيد الذي سيجلب الأمن لإسرائيل ويُساعدها على إعادة ترميم مفهوم الردع الذي تصدّع بقوة في السابع من أكتوبر. ومع أن نتنياهو حصر الأهداف المُعلنة للحرب في القضاء على حماس واستعادة الأسرى الإسرائيليين والعمل على أن لا تُشكل غزة بعد الآن مصدر تهديد أمني لإسرائيل، إلا أن الاستراتيجية الإسرائيلية في الحرب تتجاوز هذه الأهداف. من خلال القوة التدميرية الهائلة التي استخدمها الجيش الإسرائيلي في شمالي قطاع غزة خلال شهر ونصف من الحرب، والتي صُممت بشكل أساسي على جعل هذا الجزء غير قابل للحياة مرّة أخرى، يظهر بوضوح التهجير القسري للفلسطينيين كهدف رئيسي. ومن المرجح أن تسعى إسرائيل لتطبيق هذه الاستراتيجية أيضاً في جنوبي قطاع غزة في المرحلة التالية من الحرب. مع ذلك، فإن فكرة تفريغ قطاع غزة من سكانه تبدو غير قابلة للتحقيق. فمن جانب، يُفضل الفلسطينيون عموماً الصمود وحتى الموت على مغادرة غزة لأنّهم يُدركون أن المغادرة تعني ببساطة لا عودة في المستقبل. ومن جانب آخر، يُعارض المجتمع الدولي بشدة بما في ذلك الولايات المتحدة أي تهجير لسكان غزة.
إسرائيل تُدرك أن القضاء على وجود المقاومة في غزة (وهو هدف صعب التحقيق) من دون تفريغ القطاع من سكانه قد يُساعدها في تقليص حجم التهديد الذي تُشكله غزة عليها في المستقبل المنظور، إلاّ أن القطاع سيبقى بيئة حاضنة للمقاومة، وبالتالي، فإن المقاومة قادرة على إعادة إيجاد موطئ قدم قوي لها في القطاع في المستقبل. لذلك، يبدو نتنياهو واقعياً من منظور إسرائيلي في المطالبة بالسيطرة الأمنية الإسرائيلية على غزة بعد الحرب ورفض أي سيطرة للسلطة الفلسطينية عليها كبديل لحماس، لأن البيئة الاجتماعية في غزة حاضنة بشكل أكبر لحماس والفصائل المسلحة الأخرى بقدر أكبر مما هو عليه الوضع في الضفة الغربية المحتلة. وهذا الاعتقاد الإسرائيلي يفترض أن السلطة لن تكون قادرة على بسط سيطرتها الأمنية على غزة ومنع ظهور المقاومة المسلحة من جديد كما تفعل في الضفة. علاوة على ذلك، فإن أحد الأهداف الاستراتيجية الأساسية لنتنياهو في الحرب هو منع قيام سلطة فلسطينية موحدة في الضفة الغربية وغزة لأن ذلك سيقوض من قدرة إسرائيل على مواصلة رفض الانخراط في عملية سلام جديدة مع الفلسطينيين تُفضي إلى حل الدولتين. ولطالما قدم نتنياهو نفسه للإسرائيليين على أنه الزعيم الوحيد القادر على منع قيام دولة مستقلة للفلسطينيين.
وفق هذا المنظور الإسرائيلي المتطرف، فإنه يتعين على إسرائيل في هذه الحرب إنهاء وجود المقاومة في غزة وفرض التهجير القسري للفلسطينيين بشكل جزئي أو كامل بحكم الأمر الواقع، بالتوازي مع فرض السيطرة الأمنية الإسرائيلية على القطاع بعد الحرب. رغم ذلك، فإن فكرة القضاء تماماً على حالة المقاومة تبدو شبه مستحيلة من منظورين عسكري وديمغرافي. لقد مضى على الحرب ما يزيد على خمسين يوماً ولم تستطع القوة القتالية الهائلة التي يستخدمها الجيش الإسرائيلي أن تُنهي وجود المقاومة في شمالي قطاع غزة أو استهداف القادة العسكريين الكبار في حماس. ومن غير المرجح بأي حال أن تستطيع إسرائيل تحقيق هذا الهدف بوضوح مع أشهر إضافية أخرى من الحرب. إن مُجرد الترويج لفكرة أن إسرائيل قادرة على إخراج المقاومة من غزة وأن ذلك سيجلب الأمن لإسرائيل، علاوة على كونها محاولة لحرف أنظار الرأي العام العالمي عن المجازر البشعة التي يرتكبها الإسرائيليون بحق الفلسطينيين بذريعة البحث عن الأمن، تتناقض مع ثلاث حقائق لا يُمكن لنتنياهو تغييرها.
الحقيقة الأولى أن النضال الوطني الفلسطيني المسلح بكل أشكاله ضد الاحتلال هو نضال مشروع تكفله المواثيق والأعراف الدولية. يُمكن للغرب أن يُصنف حركة حماس كمنظمة إرهابية، لكنّ هذا التصنيف لا يُغير من واقع أن حماس هي مكون فلسطيني أساسي وأن أهدافها العريضة تتمثل في تحقيق التحرير الوطني من الاحتلال. حتى نتنياهو، الذي يسعى اليوم لفرض هذا التصور، كان يتعامل قبل السابع من أكتوبر مع حركة حماس كفصيل فلسطيني لا يُمكن التخلص منه ببساطة أو تجاهله في معادلة الصراع. علاوة على ذلك، فإن حماس لم تنشأ في الأصل كحركة تتبنى نهجاً راديكالياً تسعى لفرض أطروحات العنف بحد ذاته كغاية على غرار تنظيمي القاعدة وداعش بقدر ما أن النضال المسلح ضد الاحتلال حق مشروع كما في أي صراع لأصحاب الأرض مع المحتل. بهذا المعنى، فإن محاولة إسرائيل للجمع بين حماس وبين القاعدة وداعش من حيث الفكر الراديكالي لا يُغير من حقيقة اختلاف حماس الجذري عن القاعدة وداعش.
والحقيقة الثانية أن النضال الفلسطيني المسلح بدءاً من أول ظهور له كرد على جرائم التطهير العرقي التي مارستها الميليشيات الصهيونية بحق الفلسطينيين قبل إعلان دولة إسرائيل، وصولاً إلى حركة حماس، لم يكن سوى رد فعل مشروع وواجب وطني أيضاً للدفاع عن الأرض ومقاومة الاحتلال. بدلاً من جعل الأسئلة الجوهرية تتركز على ما إذا كان إخراج حماس من قطاع غزة سيجلب الأمن لإسرائيل، فإن التركيز على الأسباب الجوهرية التي أدت إلى انفجار حرب السابع من أكتوبر، وعلى رأسها انعدام الأمل لدى الفلسطينيين بالحصول على دولة بسبب السياسات الإسرائيلية هو السبيل الوحيد للبحث عن حل ليس فقط لإنهاء الحرب الراهنة بل أيضاً لحل جذري وشامل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
أما الحقيقة الثالثة فهي أن إسرائيل لم تجعل النضال المسلح للفلسطينيين مغامرة بقدر ما هو الأداة الوحيدة الأكثر فعالية التي يُمكنهم من خلالها أن يحافظوا على وجودهم وعلى قضيتهم من التصفية وأن يدفعوا إسرائيل والعالم إلى التعامل مع قضيتهم على أنها لا تزال قائمة وقادرة في التعبير عن نفسها بقوة. أوضح مثال على ذلك منظمة التحرير الفلسطينية التي قررت ترك النضال المسلح ضد إسرائيل مقابل وعود بالحصول على دولة. ماذا جرى منذ إبرام اتفاقية أوسلو؟ زادت إسرائيل من تغولها الاستيطاني في الضفة الغربية والقدس بشكل قوَض أي فرصة لقيام دولة فلسطينية. كما أن السلطة الفلسطينية تحولت إلى أداة وظيفية لإسرائيل لمساعدتها في السيطرة الأمنية على الضفة الغربية. وفي المقابل، لم يجلب التخلي عن خيار السلاح الدولة للفلسطينيين، كما لم يجلب خيار القوة الأمن لإسرائيل.
إن نظرة سريعة على الأسباب الجوهرية التي دفعت حماس إلى شن هجوم كبير على إسرائيل في السابع من أكتوبر تُجيب ببساطة على سؤال ما إذا كان إخراج حماس من غزة سيجلب الأمن لإسرائيل. على مدى سنوات من الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة، اعتقدت إسرائيل أن استراتيجية “جز العشب” في التعامل مع حالة المقاومة بالتوازي مع إغراء حماس بالتسهيلات المادية على غرار السماح بوصول الأموال إليها ومنح تراخيص للفلسطينيين للعمل في المستوطنات الإسرائيلية المجاورة، ستُساعدها في احتواء حركة حماس وجعلها أقل تهديداً لإسرائيل من خلال إقناعها بمزايا الحكم في غزة. لم تكن هذه الاستراتيجية ساذجة فحسب لأنها فشلت في منع اندلاع الحرب الراهنة فحسب، بل لأنها تعاملت أيضاً بشكل سطحي مع القضية الفلسطينية. قد تطمح إسرائيل إلى تكرار سيناريو إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت عام 1982 في غزة من خلال خوض حرب طويلة الأمد مع حماس لدفعها إلى الاستسلام والخروج من غزة. علاوة على أن هذا السيناريو غير قابل للتطبيق في غزة لأن مقاتلي حماس هم أصحاب الأرض على عكس وجود منظمة التحرير في لبنان ومستعدون للقتال حتى الموت، فإنه لن تكون هناك دولة مستعدة على الأرجح لاستضافة مقاتلي حماس على غرار حالة منظمة التحرير وتونس.
تلفزيون سوريا
————————————
الحرب على غزة وتراجع الثقة بجيش الاحتلال/ د. أسامة عثمان
2023.12.04
يشغل الجيشُ في دولة الاحتلال مكانةً رفيعة، لعلَّها الأعلى، كونه الموكولَ إليه حفظُ أمن إسرائيل، وشعبها، وسط مخاطر وجودية لا تنفكُّ تحيط بها.
ويُراد لهذا الجيش أنْ يبقى بعيدًا عن التشكيك؛ سواء في قدراته، أو في صِدقيَّته، وقد خُوِّل دورًا يتعدّى الحفاظَ على الأمن، إلى كونه صمام الأمان، وعامل الوحدة، والتوحيد، على قيمٍ وثقافةٍ مشتركة، ضرورية، لمواءمة المكوِّنات المتباينة، داخل المجتمع الإسرائيلي، كما ورد مثلًا، لا حصرًا، في دراسة لـ غادي آيزنكوت، (عضو المجلس الوزاري الحربي، ورئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق)، وغابي سيبوني، (وهو عقيد (احتياط) في “الجيش الإسرائيلي”، وزميل باحث أقدم في “معهد دراسات الأمن القومي”)، بعنوان” توجيهات لاستراتيجيات الأمن القومي الإسرائيلي” يعزوان فيها إلى الجيش، تحديدًا، بوصفه الجهاز الرئيسي، مهمة، (توحيد التيَّارات ضمن المجتمع الإسرائيلي).
هذه المهمة البالغة الأهمية، حيث الانقسام، أو التصدُّع، يهدّد بقاء دولة الاحتلال، (كما تجلّى في الأشهر الأخيرة، الفائتة، على خلفيَّة ما سُمِّيَ بالإصلاحات القضائية)، لم تُوكَل، بالأساس، إلى حزب معيّن، وليكن الحزب الذي يشغل الحكم والقرار، في الدولة، ولم توكل إلى مؤسسات الدولة المدنية، كمؤسسات التعليم، أو وزارة الثقافة، مثلًا، ولكنها أُنيطت، في الأساس، بالجيش، بوصفه الأقدر على تحقيقها.
ولذلك لا نستغرب أن تكون الحظوة في الزعامة، تاريخيًّا، من نصيب جنرالات الجيش، أو المنخرطين في أعمال عسكرية مؤثرة، حتى قبل قيام (الدولة) أمثال، مناحيم بيغين، ( مؤسس منظمة إرغون الصهيونية الإرهابية التي أُنشِئت قبل قيام الدولة) ثم موشيه دايان،( قائد سياسي، وقبل ذلك، عسكري، تولَّى رئاسةَ أركان الجيش، ساهمت رؤيته العسكرية في بلورة منهجية قوة الردع للجيش الإسرائيلي، كجيش هجومي ومبادِر)، وبعده إسحاق رابين، (من كبار قادة الهاجاناه، الحجر الأساس لدولة إسرائيل، والتي قتلت 360 فلسطينيًّا في دير ياسين، ومِن أشهر رجالات البالماخ المتفرِّعة عن الهاجناه”، ورئيس أركان في الجيش)، وإيهود باراك، خدم في الجيش، لفترة 35 سنة، ارتقى خلالها إلى أعلى منصب في الجيش، وهو “عميد”، كما حصل على شهادات في الشجاعة والأداء المميّز، وتولَّى منصب وزير الدفاع)، مقابل شعبية أقلّ، لزعماء لم يشتهروا بأدوار عسكرية كبيرة، أمثال شيمعون بيرز.
ولذلك لم يكن بعيدًا عن المبالغة وصْفُ دولة الاحتلال بأنها جيشٌ له دولة، أكثر ممّا هي دولة لها جيش، كما جاء في كتاب “جيش له دولة”: “إسرائيل ليست دولة لها جيش يحميها، بل إنَّ هناك جيشًا، وله دولة”، هكذا يصل المؤلفون (غبريئيل شيفر وآخرون) إلى القناعة الأساسية السائدة في الدولة”. ووفق عرضٍ للكتاب قدَّمه الدكتور عدنان أبو عامر، فإنَّ مفاهيم جديدة تقرَّرت في إسرائيل تقضي بأن يَمنح المجتمعُ هذا الجيشَ كلَّ ما أُوتي من قوة وإمكانات؛ لأن في ذلك حيلولة لـ “دمار المجتمع الإسرائيلي”، وقد جاء ذلك على ألسنة ساسة وعسكر، وكلُّها مَنحَت الجيشَ الإسرائيلي الأولويةَ المطلقة.
هذا الجيشُ الذي يختزل الدولةَ، بمجملها، يصبح التراجُع في مكانته والثقة به أمرًا بالغ الأهمية، فكيف إذا كان هذا يحدث، والجيش محتاجٌ إلى كل الدعم والتأييد، وهو يخوض حربًا وُصِفت بأنها وجودية، أو أنها حرب استقلال ثانية؟
مناسبة هذا الكلام ما بدأ يُثار، حتى قبل أن تعلن إسرائيل إنهاء عملياتها القتالية العدوانية على غزة، من انتقادات حادَّة للجيش وقادته؛ أنهم لم يعودوا جديرين بهذه الثقة، وأن النقد والتشكيك لم يعد كما هو المعتاد والمقبول، لم يعد مقصورًا على القادة السياسيين، وعلى رأسهم رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو المعروف عنه تلاعبه بالحقائق، حتى الكذب بشأنها، من أجل مصالحه الخاصة، الذاتية.
ويتمحور النقد والتشكيك في جانبين الجانب الأول في صدقية تقييمات قادة الجيش، وتقديراتهم، في أثناء الحرب، عن حجم الإنجازات التي تحققت. والجانب الثاني في كفاءة الجيش القتالية وكفاءة جنوده، ومن ذلك ما قاله
داني كشمارو، المذيع التلفزيوني، في القناة 12: “إنه لأمر مؤلم ومحزن أنْ نكتشف، اليوم، أنَّ قادة عزيزين جدًّا على قلوبنا في الجيش لم يقولوا لنا الحقيقة. قالوا إننا حطَّمنا (حماس) في الشمال، ويتضح أن المقاومة الصلبة التي تواجه الجيش، تأتي بالذات من الشمال. قالوا لنا إن غزة سقطت بأيدينا، ويتضح أن (حماس) ما زالت موجودة وقوية في قلب غزة. لا بل إنها توجه لنا صفعة مدوية، وتبين أنها احتفظت بالمخطوفين فيها أو نقلتهم إليها، وسارت بهم بالقرب من المواقع التي يحتلها الجيش الإسرائيلي». واختتم قوله بأنه «يوجد هنا أناس يجب أن يخجلوا”. بالطبع هذا المذيع لا يعكس وجهة نظر فردية، وإنما يجسِّد، بعلنيَّته، وجهةَ نظرِ تيَّارٍ له حضورُه في الجمهور الإسرائيلي.
والعاملان (صدقية تقديرات الجيش وكفاءتُه) متصلان، في علاقة تبادلية، إذ إن انخفاض الكفاءة، وضعف الأداء، قبل الحرب الراهنة، في أثناء عملية طوفان الأقصى، حين لم ينجح جيشُ الاحتلال في التصدِّي لهذا الهجوم، ولم ينجح في الحفاظ على قواعده، أو على معدَّاته، أو على أرواح المدنيِّين، وهنا تداولت وسائل إعلام إسرائيلية أخبارًا موثَّقة بشهادات إسرائيليين، وحتى جنود، وبعلامات وأدلَّة أخرى، عن تورُّط الجيش بقتل قسم كبير، نسبيًّا، من المدنيين الإسرائيليين، وحتى الجنود الذين احتجزهم عناصر من حركة حماس، أو المقاومة، في أثناء تلك الاختراقة الكبيرة، والصادمة، إلى بلدات غلاف غزة، في 7 أكتوبر، حيث صدرت، وَفْق تلك المصادر الإسرائيلية، إلى الجنود والطيَّارين، الأوامر بالإجهاز على الجميع، حتى لو كان بينهم إسرائيليون مدنيُّون أو جنود؛ عملًا ببرتوكول هانيبال، وهو يفضّل الجندي، قتيلًا، على أن يكون أسيرًا، في يد (العدوّ).
إذ أظهر تقرير لصحيفة “هآرتس”، أن مروحية عسكرية إسرائيلية أطلقت النار على إسرائيليين من المشاركين، في حفل نظم قرب “كيبوتس رعيم”، في غلاف قطاع غزة، في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
فهنا لم تظهر خيبة الأمل في الجيش في فشله في توقُّع الهجوم، أو في منعه، أو في التصدي له، بعد وقوعه، وإفشاله، بل ظهرت الخيبة في مساهمة الجيش في مضاعفة أعداد القتلى من الإسرائيليين، من المدنيين والجنود. وبذلك يكون الجيش وقع تحت التشكيك في أساس مهمته، وفي معنى وجوده، ووظيفته، إذ (مهمته الأولى)، كما ورد في موقع الجيش الإسرائيلي: “تشمل الدفاع عن سيادة إسرائيل ومواطنيها وحمايتهم، والحفاظ على الاستقرار والأمن، ومواجهة كل التحديات والتهديدات”.
كما يتعرَّض الجيش وقادته التساؤلات عن مدى الكفاءة القتالية، بعد توالي الأخبار عن حالة تمرُّد في فرقة كبيرة؛ من جرَّاء إقالة قائدين بتهمة “التراجع عن الاشتباك مع مقاتلي (حماس)، كما تُلقي أعدادُ القتلى والجرحى في صفوفه على قرار الاستمرار بالحرب، بالتوازي مع تأثير تلك الخسائر المؤلمة على دعم الشعب والمجتمع وقدرته على الصمود، في ضوء إعلان جيش الاحتلال، عن عدد المصابين بين العسكريين، خلال عملية التوغل البري في قطاع غزة، وذلك بعد أسابيع من رفضه الإعلان عن تلك الحصيلة، بحسب صحيفة هآرتس، وبحسب الصحيفة، فإن الجيش الإسرائيلي، وبناء على طلبها، أعلن عن إصابة نحو 1000 جندي وضابط من قواته منذ بداية العدوان على غزة، وبحسب بيان جيش الاحتلال، فإن بين الجرحى 202 إصابة بجروح خطيرة. يصاحب ذلك ما كشفته صحيفةُ يديعوت أحرونوت عن أكبر تمرُّد لجنود احتياطٍ عن الخدمة؛ إذ تخلَّف نحوُ ألفيْ جندي احتياط، في صفوف الجيش الإسرائيلي عن الخدمة العسكرية، خلال الحرب في غزة.
هذا الضعف الذي تبدّى في الجيش، على أهمية دوره، لا بدَّ أنْ ينعكس على هامش القرارات السياسية المقبلة، ويفاقم من أزمة إسرائيل.
———————
من يرحل أولا: نتنياهو أم الأسد؟/ سمير صالحة
2023.12.03
يعرف جيدا المسؤول عن تفجير الوضع على جبهات غزة وتأجيجها على هذا النحو، أنه استهدف مباشرة التحولات الإقليمية التي كانت قاب قوسين من حقبة سياسية جديدة في العلاقات العربية الإسرائيلية والتركية الإسرائيلية، وحيث كانت إدارة الرئيس الأميركي بايدن تسعى من خلالها التأسيس لتسهيل عودتها بقوة إلى المنطقة وقلب كثير من التوازنات. فمن له مصلحة في استهداف مصالحة هنا وعرقلة تطبيع هناك وتعريض مصالح أميركا على هذا النحو للخطر؟ وهل المسألة تتعلق بما فعلته مجموعات حماس فجر السابع من الشهر المنصرم داخل غلاف غزة فقط؟
مع اشتعال جبهات قطاع غزة في السابع من تشرين الأول المنصرم اتجهت الأنظار أيضا نحو النظام في دمشق وما سيفعله، وهل سيدخل في لعبة توسيع رقعة المعارك وفتح جبهة قتال مع إسرائيل؟ الإجابة السريعة كانت من خلال تساؤل: لم يفعل بشار الأسد ذلك بعدما أبلغه نتنياهو أن لا مشكلة لهم معه، وأن إسرائيل لا تعارض استرداد سيطرته على كامل الأراضي السورية، طالما هو يقبل “بحق تل أبيب في التحرك العسكري عند الضرورة لحماية حدودها وأمنها القومي مع سوريا، ويبتعد عن أي عمل عسكري ضد إسرائيل بعد انفجار الوضع في غزة، لأنه سيعرض نظامه للخطر”.
التقت كثير من التحليلات وتقديرات الموقف والتصريحات عند الرغبة الإسرائيلية ببقاء بشار الأسد ونظامه على رأس الحكم في سوريا لاعتبارات جيوستراتيجية، تتعلق بالبدائل المطروحة. رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو كان بين أبرز المدافعين عن هذه الفكرة التي تقوم على استمرار “الاستقرار” السائد منذ 5 عقود على الحدود السورية نتيجة سياسات الأسد الأب والابن. “نأخذ ما نريد دون أي اعتراض لتبقوا في أماكنكم”. المشكلة إذا هي ليست برحيل نتنياهو بل بتبديل إسرائيل لسياساتها السورية، فهل ما زالت تل أبيب قادرة اليوم على مواصلة هذه السياسة وفرض نفسها على المشهد السوري بعد ما جرى في غزة؟ وهل ما زالت إسرائيل تعبر عن الرأي الذي يتجنب سيناريو إزاحة الأسد، لأن الطريق ستفتح أمام علبة “الباندورا” التي ستقود إلى ما هو ليس في مصلحتها سوريا وإقليميا؟ تل أبيب محقة ربما هنا، فرغم كل التحرشات بالجناح الإيراني في سوريا تجنب هو الرد واكتفى بتوجيه الرسائل المهادنة المحسوبة بدقة. فلماذا بناء معادلة معقدة صعبة ومحاولة توحيد خطين متوازيين لا يلتقيان: دمج رحيل الأسد بمغادرة نتنياهو لمنصبه في الحكم؟ وهل ستقبل واشنطن بمقايضة سياسية من هذا النوع دون ربطها بأكثر من ملف استراتيجي بطابع سياسي وأمني واقتصادي يخدم مصالحها ويعطيها ما تريد؟ وهل انتهت المدة الزمنية التي أشارت إليها واشنطن قبل عقد حول أن الأوضاع في سوريا ستستمر لعشر سنوات أخرى؟ وهل تراجعت معادلة ضرب الجهادي بالمتطرف والراديكالي بالمتشدد ليخسروا معا في سوريا؟
عقب عملية “طوفان الأقصى” وجد نتنياهو نفسه في صدر الانتقادات الداخلية والخارجية، وبات يواجه دعوات سياسية وحزبية من قلب إسرائيل بضرورة التنحي والمغادرة نتيجة الفشل الذي يتحمل مسؤوليته في التعامل مع ما جرى في غزة. الأنظار تتجه نحو بيني غانتس البديل والمنافس الأقوى لنتياهو على مقعد رئاسة الوزراء اليوم بحسب كثير من استطلاعات الرأي الإسرائيلية، التي تقول إنه في حال إجراء انتخابات مبكرة سيضاعف حزب الوحدة الوطنية بزعامة غانتس مقاعده من 12 إلى 43 في حين سيتراجع الليكود من 32 إلى 18 مقعدا.
ما قد ينقذ نتنياهو من الوقوع في مطب سياسي حزبي داخلي من هذا النوع، هو اختراع ذريعة أمنية وسياسية عاجلة تمنحه فرصة القيام بهجوم عسكري واسع وكاسح ضد قوات النظام ومحاولة إضعاف إيران وروسيا هناك وخلط الأوراق على حسابهما لصالح واشنطن وبعض العواصم الإقليمية. خطوة بهذا الاتجاه ستسهل إزاحة الأسد والتقريب من جديد بين تل أبيب والعديد من العواصم العربية والإقليمية الغاضبة حيال ما فعله نتنياهو في غزة.
نتياهو قد يضحي برهانه على بشار الأسد في المرحلة المقبلة للاحتفاظ بموقعه الحزبي والسياسي. لكنه قد يقحم تل أبيب بمغامرة أكبر إذا ما شعر أن مفعول المنشط الأميركي له في الأسابيع الأخيرة قد انتهى. لكن العقبة هي هل يسمح له الداخل الإسرائيلي بالإقدام على مغامرة بهذا الاتجاه غير مضمونة النتائج؟
منح الأسد واشنطن فرصة إزالته عن الحكم أكثر من مرة، لكنها فرطت بها لصالح مناورات تبادل الخدمات مع طهران وموسكو في ملفات ثنائية وإقليمية. أسلوب نتنياهو في حرب غزة اليوم يقدم لها فرصة مماثلة باتجاه صناعة سياسة أميركية مغايرة في التعامل مع الملف الفلسطيني ودفعه نحو مسار الحلحلة. كما أن مقايضة إزاحة الأسد في سوريا مقابل التضحية بنتنياهو قد ترضي العديد من الأطراف وتمنح الإدارة الأميركية فرصة جديدة لإطلاق سياسة شرق أوسطية مغايرة على خط دمشق – تل أبيب يطالبها بها العديد من الشركاء والحلفاء. لكن إدارة بايدن تريد حصد أكثر من هدية وجائزة محلية وإقليمية لدعم سيناريو صعب من هذا النوع سيكون مكلفا نتيجة ردود الفعل الروسية والإيرانية والصينية. هي تتطلع صوب خطة سلام إسرائيلية سورية ربما يعقبها اتفاقية سلام مع لبنان بعدما عرقلت دمشق المحاولة عام 1983. فهل تسهل لها موسكو وبكين هذه المهمة؟
صحيح أن هناك كثيرا من النقاط التي تقرب بين الأسد ونتنياهو في التعامل مع مشاهد وأحداث داخلية وخارجية بينها القدرة على المناورة واللعب على الحبال والاستفادة من التناقضات للبقاء على كرسي الحكم. لكن الصحيح أيضا أن نتنياهو وحكوماته لا علاقة لهما بإطالة عمر الأسد في السلطة. ما فعله رئيس الوزراء الإسرائيلي تم بقرار أميركي بحت. حماية الأسد من السقوط تقف خلفها في العلن موسكو وطهران وبكين ربما. لكن من يقف خلفها بعيدا عن الأضواء هو الجانب الأميركي الذي عول على مقايضات يجريها مع روسيا وإيران في ملفات ثنائية وإقليمية تبقي الأمور على ما هي عليه في سوريا والجوار، وتمنح تل أبيب فرص التوغل السياسي والأمني في المنطقة. سقوط الأسد لن يعني بالضرورة سقوط نتنياهو والعكس صحيح رغم أنه خيار يرضي كثيرين. القرار هنا هو أميركي قبل أن يكون سوريا أو إسرائيليا.
سياسة أميركا في المنطقة أمام امتحان لا يقل أهمية عن امتحان نتنياهو في إسرائيل.
كيف ستكون عملية تحليل وتفسير ما يقوله رئيس لجنة الاستخبارات في الكونغرس الأميركي مارك وورنر حول أن إسرائيل فقدت التعاطف الشعبي الدولي معها؟ المعني هنا هو نتنياهو قبل غيره. فهل الهدف هو مساعدته أميركيا على استرداد ما فقده من تأييد خارجي، أم استغلال الفرصة لإزاحته واستبداله بمن يفتح الطريق أمام سياسة إقليمية جديدة؟
بقدر ما هناك من تحرك إسرائيلي محلي لإزاحة نتنياهو ومحاكمته وتحميله مسؤولية ما جرى في قطاع غزة، هناك تحرك دولي جديد باتجاه تفعيل إنشاء محكمة دولية خاصة تحاكم الأسد وأعوانه على جرائم ضد الإنسانية ومجازر واستخدام الأسلحة المحظورة دوليا لسنوات طويلة ضد الشعب السوري. حرب غزة قد تكون فرصة للتخلص منهما معا لكنها ليست وسيلة، فواشنطن لن تبدل في مواقفها وسياستها الإسرائيلية حيال الملف الفلسطيني. تستطيع إدارة بايدن لو أرادت استبدال نتنياهو اليميني المتشدد بنتياهو آخر أكثر اعتدالا، لكن ذلك قد يكون أكثر ما يمكن أن تفعله في هذه الآونة بعيدا عن نقاشات إزاحة الأسد.
كثر هم من يعولون على “بشارة” الربط بين الأسد ونتنياهو طبعا. لكن الظروف والمعطيات تقول إن سيناريو الحل السوري – السوري بدعم عربي – إسلامي هو الفرصة الممكنة والأقرب اليوم، لإبعاد الأسد بدلا من انتظار ما ستقوله وتفعله تل أبيب وواشنطن.
———————-
الغزاويات تحت النار/ لمى قنوت
03/12/2023
مع سياق حملة الـ16 يومًا من النشاط لمناهضة العنف القائم على النوع الاجتماعي، وهي حملة سنوية عالمية تبدأ من 25 من تشرين الثاني، في اليوم العالمي للقضاء على العنف ضد النساء، وتنتهي في يوم حقوق الإنسان، 10 من كانون الأول، والمتزامنة مع اليوم الدولي للتضامن مع الشعب الفلسطيني الموافق في 29 من تشرين الثاني، الذي أقرته الأمم المتحدة منذ عام 1979، يغيب تناول آثار العنف ضد الفلسطينيات والتضامن معهن بعد عدوان الكيان الصهيوني على غزة في الكثير من الحملات التي أطلقتها أغلب المنظمات النسوية أو منظمات المجتمع المدني المدافعة عن حقوق النساء والممولة من حكومات دول الشمال العالمي التي دعمت الكيان الصهيوني في عدوانه على غزة.
ذلك يقودنا إلى أثر الأنجزة والتمويل على استقلالية هذه المنظمات واغترابها عن القضايا المحقة والعادلة والتضامن مع الفلسطينيات بتنوعاتهن اللواتي يمارس الاحتلال عليهن وعلى أجسادهن عنفًا بنيويًا ممنهجًا للتحكم والسيطرة على أجسادهن من خلال نزع وكالتهن عن أجسادهن وحرمانهن من حرية القرار والاختيار والتحكم بقدراتهن الإنجابية، والذي هو نهج مركزي في جريمة الإبادة الجماعية.
العنف الإنجابي ضد النساء خلال العدوان على غزة
في ظل الحرمان القسري من كل أساسيات الحياة، والتدمير المتواصل، وقتل الفلسطينيين، نساء ورجالًا، والتشريد قسري لما يقارب 1.6 مليون شخص أصبحوا الآن نازحين داخليًا، والاكتظاظ السكاني في المراكز التي فتحتها “أونروا”، على سبيل المثال، التي فاقت سعتها أربعة أضعاف طاقتها، برزت أخطار تتعلق بالصحة والسلامة. تفتقر 690 ألف امرأة وفتاة في غزة إلى مستلزمات النظافة الشخصية والمياه والخصوصية بشكل عام وفي أثناء فترة الدورة الشهرية، ما اضطر الكثير منهن إلى تناول أدوية لتأخير الحيض، دون استشارة طبية، بسبب التهجير القسري والتشرد من مكان إلى آخر، وعدم توفر فوط الحيض ذات الاستعمال الواحد أو صعوبة غسل الفوط القماشية والملابس الداخلية بمياه نظيفة، إضافة إلى معوقات الوصول إلى دورات المياه العامة الصالحة للاستخدام بسبب خط الانتظار الطويل أو بُعدها عن مراكز الإيواء أو صعوبة تنظيفها.
إن بعض أنواع هذه الأدوية وعدم توفر المياه الصالحة للاستخدام والمراحيض النظيفة بشكل دائم يزيد من نسبة التهابات المسالك البولية عند الإناث بفعل التركيب الفيزيولوجي لأجسادهن، إذ تُعد الإناث عرضة لهذا النوع من الالتهابات بما يصل إلى 30 مرة أكثر من الذكور.
منذ بداية العدوان على غزة، أدى الهلع والخوف إلى حالات ولادة مبكرة وإجهاض عند العديد من الحوامل وانقطاع حليب المرضعات، وقُدِّر نحو 50 ألف امرأة حامل تعيش في ظروف قاسية، منهن 5500 امرأة كان متوقعًا أن تلد خلال شهر من تاريخ 20 من تشرين الثاني.
وأُجبرت أكثر من 180 امرأة يوميًا على الولادة في ظروف غير إنسانية ومهينة وخطيرة، دون ماء أو كهرباء للحواضن أو المستلزمات الطبية أو مسكنات للألم أو تخدير للعمليات القيصرية القسرية، بدل الولادة الطبيعية. أما بعض الحوامل اللواتي تعرضن لنزيف في الأشهر الأخيرة من الحمل، فقد اضطر الأطباء إلى استئصال الأرحام لوقف النزيف حفاظًا على حياتهن بسبب نقص أكياس الدم الكافية، لكن ذلك أدى إلى موت بعضهن، مثل نور التي توجهت إلى مستشفى “العودة” في شمالي غزة، وأخبرها الطبيب الذي كان يعمل على ضوء الكشافات بسبب انقطاع الكهرباء بأنه سيجرى لها عملية ولادة قيصرية دون تخدير، وأعطتها الممرضة قطعة قماش معقمة لتضعها في فمها وتعض عليها لتخفف الألم. ومع آلامها الشديدة وهلعها وهي ترى بطنها مفتوحًا، خرج الوليد من أحشائها لكنها أصيبت بنزيف حاد، قرر الطبيب على إثره استئصال رحمها حفاظًا على حياتها وخاط جرحها وقطع الحبل السري دون مطهرات، لكن الصباح لم يطلع على نور التي توفيت في اليوم التالي.
بقيت مستشفى “العودة” وحدها تقدم خدمات الولادة في شمالي غزة وغزة الوسطى بعدما أخرج الاحتلال بقية المستشفيات عن الخدمة، وكان الأطباء يجمعون جميع حالات الولادة في غرفة واحدة لتوفير الكهرباء قبل أن تخرج المستشفى عن الخدمة، بعد أن أُجريت فيها 1352عملية ولادة طبيعية، و511 ولادة قيصرية، 150 امرأة أصبن بنزف حاد، و6% من إجمالي عمليات الولادة خضعت لاستئصال رحم منذ بداية العدوان على غزة وحتى تاريخ 23 من تشرين الثاني. الفرق الطبية كانت تعمل تحت الضغط الشديد بسبب القصف المتواصل ونقص الوقود والمواد الطبية ولجوء النساء اللواتي يرأسن أسرهن وأطفالهن إلى أروقة المستشفيات للاحتماء فيها وإنقاذ عائلاتهن.
الدور الرعائي
يتميز مجتمع قطاع غزة بقرب أهله من بعضهم بفعل الثقافة المحلية، والكثافة السكانية في بقعة جغرافية صغيرة، والإدراك الجمعي العميق لحجم الظلم الواقع عليهم، نساء ورجالًا، الأمر الذي خلق شبكات تكافل اجتماعي ودعم متبادل بشكل عضوي وقاعدي. غالبًا ما يقع الدور الرعائي على عاتق نساء وفتيات الأسرة النواة في ظل المنظومة الأبوية، والذي يشمل تحضير الطعام والتنظيف والعناية بالأطفال والمرضى وكبار السن وذوي وذوات الإعاقة. وسواء اختارت الغزاويات القيام بهذا الدور بأنفسهن أم أجبرن عليه بفعل التقسيم النمطي للأدوار الاجتماعية أو بسبب موت أو أسر أو تشرد أو إصابة الشريك أو عدم وجود شخص آخر في العائلة قادر على القيام به، فإن عبئه ازداد وطأة اليوم بفعل العدوان والتشرد القسري والإبادة الجماعية التي قطّعت الصلات العائلية الممتدة وتسببت بتآكل شبكات الدعم المجتمعي.
فمثلًا، أدى القصف الوحشي للسكان والأعيان المدنية وشح الموارد إلى العودة للأساليب البدائية في تحضير الطعام، أو اختراع وسائل جديدة مثل استعمال “التنكة” كفرن، أو تحضير خبز الطابون/التنور دون الطابون، وهي طرق تستهلك جهدًا ووقتًا أطول مقارنة مع شراء الخبز من الفرن في الحالة العادية، كما أن الكثير من النساء خلال العدوان يخبزن ويطبخن لعائلاتهن ولعوائل أخرى مهجرة طواعية. انعكست ندرة توفر الطعام على الأمن الغذائي لسكان القطاع عمومًا، وعلى الأمهات خصوصًا إما بسبب عدم تعافي أجسادهن من استنزاف الحمل للعناصر الغذائية المتوفرة في الجسد، وإما لأنهن غالبًا ما يتركن حصتهن من الطعام لأولادهن وبناتهن، وهو الأمر الذي يؤثر على إفراز الحليب عند المرضعات منهن فيلجأن إلى الحليب المجفف إن توفر، ويضطررن إلى خلطه بأي مياه متاحة. وفي حال كانت المياه غير صالحة للشرب، فإنها تسبب إصابة الكثير من الرضع والأطفال بالأمراض والأوبئة ما يزيد من أعباء الرعاية والقهر النفسي والإنهاك الجسدي للناجيات من قصف الاحتلال والأسر.
——————
هل ستسهم خطوط الغاز في تطبيع العلاقات بين النظام مع إسرائيل وتركيا؟/ حسن الشاغل
2023.12.02
في النظام الدولي تتغير خريطة العلاقات بين الدول بسرعة غير متوقعة، وذلك عندما تتلاقى مصالحهم حول قضية أو حدث معين أو مشروع اقتصادي أو سياسي، وتهرع الفواعل الدولية بكل مستوياتها لتحقيق المكاسب والمحافظة عليها بما يتلاءم مع تموضعها الدولي المرتبط بحدث أو مشروع ما. في هذه المقالة نحن في صدد مناقشة مشروع يتوقع أن يكون له مكتسبات لعدد من الأطراف الدولية، حيث يقوم المشروع على سعي إسرائيل منذ سنوات لإقناع دول الاتحاد الأوروبي بجدوى بناء خط أنابيب للغاز ينطلق من السواحل الإسرائيلية إلى السواحل اليونانية عبر مياه البحر المتوسط، إلا أن الأوروبيين لم يوافقوا بعد على فكرة المشروع لأنه لا يحقق الجدوى الاقتصادية بسبب كلفة بنائه التي قد تتجاوز 7 مليارات يورو، إضافة إلى بعض الصعوبات الفنية والسياسية التي قد تعرقل بناءه. وحتى يومنا هذا تعمل إسرائيل جاهدة لإيجاد طرق ومشاريع بديلة لإيصال غازها إلى المحطات الأوروبية. ونناقش في سطور هذه المقالة سيناريو بحث إسرائيل عن خط أنابيب بديل للخط العابر للبحر المتوسط ويكون ذا جدوى اقتصادية ويحقق الشروط الفنية والسياسية والاقتصادية، ونفترض أن الغاز الإسرائيلي سيعبر الأراضي السورية وسيحمل معه صفقات سياسية واقتصادية بين النظام السوري مع إسرائيل وتركيا. وتستند مقاربة هذه المقالة على محددين رئيسين الأول اتفاقية ترسيم الحدود المائية بين إسرائيل ولبنان، والثاني المنفعة المتبادلة التي ستحققها الأطراف. وتجدر الإشارة هنا إلى أن سيناريو هذه المقالة يتوقع تنفيذه على المدى المتوسط وليس بالوقت الحالي، لأن الظروف الحالية في منطقة الشرق الأوسط لم تتهيأ بعد لاسيما بين دول عبور خط الأنابيب.
وقع لبنان وإسرائيل بعد سنوات من المفاوضات والضمانات الأميركية اتفاقية ترسيم الحدود المائية، واتفق الطرفان على أن يكون حقل كاريش البحري تحت السيطرة الإسرائيلية، وحقل قانا تحت السيطرة اللبنانية، مقابل أن تحصل إسرائيل على حصة من الإيرادات المستقبلية لحقل قانا من شركة “توتال” الايطالية التي ستتولى استخراج الغاز المحتمل منه. الكثير من القانونيين والسياسيين يرون في هذه الاتفاقية اعترافاً لبنانياً بإسرائيل، لأن بيروت اعترفت ووقعت على حق إسرائيل بالحدود المائية وبحقل كاريش. فمن الناحية الاقتصادية قد يحقق الطرفين فوائد اقتصادية إذا ما اكتشف الغاز بكميات جيدة في الحقول المذكورة والتي يتطلب العمل عليها مدة زمنية قد تستمر لخمس سنوات. والأهم من الفوائد الاقتصادية حصول حالة من الاختراق في العلاقات بين إسرائيل ولبنان، ومن المهم التنويه إلى أن حزب الله حافظ على الاتفاق الموقع مع إسرائيل بعد عملية طوفان الاقصى، وهذا يؤكد على أهمية الاتفاق الجيواستراتيجي للأطراف الموقعة والضامنة، كما سيكون هذا الاتفاق بمثابة بوابة وشرعية للنظام السوري لبدء عملية تطبيع محتملة ومشابهة على المستوى الاقتصادي من جانب تدفق الغاز الإسرائيلي عبر الأراضي السورية.
وبالحديث عن خطط ومشاريع خطوط أنابيب الغاز المتوفرة لدى إسرائيل فهي تقف أمام مشروعين للوصول إلى الأسواق الاوروبية:
المشروع الأول، استخدام خط الغاز العربي الذي يربط بين مصر والأردن وينتهي عند مدينة حمص السورية، وإذا تمت عملية إكمال بناء خط الأنابيب من الممكن أن يصل للحدود التركية ستتمكن حينها إسرائيل من تصدير الغاز عبر الخط العربي القريب جداً من حدودها، إلا أن هذا الطريق يحمل عقبات أمنية وسياسية في الوقت الحالي تتمثل بعدم وجود استقرار في سوريا وانتشار الميليشيات المسلحة بشكل واسع النطاق، ولابد أيضاً أن يمر من مناطق سيطرة المعارضة السورية، بالإضافة إلى الاتفاق على صيغة معينة لعمل المشروع والمكاسب التي سيحققها الأطراف.
المشروع الثاني، عبر البحر المتوسط ويتجاوز المرور من المياه الإقليمية السورية، حيث من الممكن أن تؤسس إسرائيل بمساندة الشركات الأوروبية للطاقة مشروع خط أنابيب ينطلق من مراكز الإنتاج الإسرائيلي ويعبر المياه الإقليمية اللبنانية متوجها إلى تركيا عبر جزيرة قبرص الرومية والتركية. توجه الإسرائيليين نحو هذا الطريق في الوقت الحالي قد يبدو بعيداً بسبب الكلفة التي قد لا تتناسب مع حجم إنتاج إسرائيل من الغاز في الوقت الحالي، أما في حال ظهور اكتشافات جديدة فيصبح المشروع ذا جدوى اقتصادية. كما يعتبر هذا المشروع مكلفا بالمقارنة مع خط الغاز العربي الذي يعتبر جزء كبير منه مكتملاً، إلا أنه ما زال يواجه تحديات أمنية وسياسية وهذه التحديات ليست صعبة المنال على دول العبور.
يحقق المشروع بالصيغة الأولى عوائد سياسية واقتصادية للعديد من الدول، وبالنسبة لإسرائيل فإنها ستجد الطريق لتصدير وتدفق غازها إلى السوق الأوروبية وبجدوى اقتصادية تناسب احتياطاتها الحالية من الغاز لأن مشروع خط الأنابيب سيكون غير مكلف مالياً، وقد يكون من السهل تلبية المطالب الفنية المتعلقة بالتفاهمات مع النظام السوري. تركيا سترحب بالمشروع لأنها ترغب فعلياً بأن تكون مركزاً وسوقاً دولياً لإعادة تصدير الغاز، فهي ستحقق من ذلك إيرادات مالية ليست بالقليلة، وستعزز من موقعها في الخريطة الجيوسياسية لدى دول الاتحاد الأوروبي باعتبارها الجسر الذي يوصل موارد الطاقة لهم.
النظام السوري الذي لم يخرج من جحره طوال العملية العسكرية التي تلت عملية طوفان الاقصى بعدم إبدائه أي سلوك سياسي أو عسكري ضد إسرائيل على الرغم من استهداف الأخيرة مطاري حلب ودمشق عدة مرات في الفترة ذاتها، وفي هذا الصدد تبادلت أنباء في الأوساط السياسية أن الإمارات هي من أشارت على النظام لاتباع هذا السلوك ليحقق فيما بعد بعض المكاسب السياسية والاقتصادية.
وبالعودة إلى مساهمة خطوط أنابيب الغاز في تطبيع النظام للعلاقات مع إسرائيل وتركيا، فعند الاقتناع بتطبيق الإسرائيليين المشروع الأول ستكون هناك صفقة بين النظام السوري مع إسرائيل وتركيا ولا يمكن التنبؤ بمجريات هذه الصفقة بدقة إذا تم هذا المشروع، لكن على أقل تقدير من الناحية السياسية سيعتبر الاتفاق مع إسرائيل بمثابة تطبيع للعلاقات والذي يشبه ما حصل مع لبنان، كما سيكون هذا المشروع بوابة لعودة العلاقات بين النظام وتركيا وهذا لا يعني انحلال الخلافات الأمنية بين الطرفين التي قد تبقى عالقة ويستمر العمل عليها إلى جانب الروس، وسيحقق النظام دعماً أكبر لإعادة تعويمه دولياً عبر إسرائيل وتركيا، فضلا عن المكاسب الاقتصادية من إيرادات مرور الغاز من الأراضي السورية، وقد يحصل النظام على غاز بكلفة منخفضة.
الروس الذين من المفترض أن يحاربوا ويعرقلوا كل مشاريع الغاز الواصلة إلى أوروبا إلا أنهم قد يتغاضون عن هذا المشروع بشكل أو بآخر، أولاً، لأن إتمام هذا المشروع قد يخفف من الضغط الإسرائيلي على دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية لبناء خط أنابيب شرق المتوسط والذي يعني بناؤه دخول منتجين للغاز إلى جانب اسرائيل وقد تكون بعض الدول الخليجية مثل الإمارات التي وقعت على مذكرة تفاهم الطريق الهندي الأوروبي الذي يمر من الإمارات والسعودية وإسرائيل، وقد يحمل هذا المشروع في أروقته مشاريع خطوط أنابيب الغاز، وبهذا السيناريو تتأثر المصالح الروسية في سوق الطاقة الأوروبية سلباً. ثانياً، إن إنتاج إسرائيل من الغاز لا يشكل خطراً على الصادرات الروسية إلى السوق الأوروبية لأنها قليلة مقارنة بدول مثل الجزائر وقطر والولايات المتحدة الأميركية وأستراليا.
في هذه المقالة لا أُرجِع عملية تطبيع النظام السوري للعلاقات مع إسرائيل وتركيا من جانب مشاريع خطوط أنابيب الغاز بل هي أحد العوامل الرئيسية التي قد تسهم في عملية التطبيع. ولا بد من التنويه إلى صعوبة نجاح تصدير الغاز الإسرائيلي عبر خط الغاز العربي في الوقت الحالي بل يحتاج إلى بعض الترتيبات السياسية والتقنية، فما زال الخط بحاجة إلى عملية اكتمال بنائه من سوريا إلى تركيا، كما أن خريطة تقاسم مراكز السيطرة والنفوذ في سوريا قد تلعب دوراً في عملية النجاح، والأمر لا يتوقف فقط على موافقة النظام بل أيضاً على الإيرانيين، وأيضا تعاطي المعارضة السورية مع هذا الموضوع غير واضح بعد إلا أن تركيا سيكون لها الدور الأبرز في الشمال السوري.
————————-
حماس الدولية وإيران المحاصرة والأسد المهدد/ شادي علاء الدين
2023.12.01
مع نجاح حماس في فرض هدنة مع إسرائيل وتبادل الأسرى المدنيين، تتكشف خريطة الدول المساهمة في إنجاح هذه الصفقة والعمل على استمرارها والتي تشمل الولايات المتحدة وقطر ومصر بشكل مباشر والصين وروسيا وفرنسا بشكل غير مباشر، ما يعني أن حركة حماس انتزعت لنفسها موقعا يضعها في قلب المشهد الدولي.
لم يكن لأطراف الممانعة من إيران وحزب الله ونظام الأسد أي علاقة في تحقيق إنجاز تبادل الرهائن والهدنة، وتاليا فإن أدوارهم ومواقعهم في الساحة الدولية تميل إلى التقلص والانحلال والانحصار في حدود إقليمية ضيقة. العالم بدأ يقرأ لحظة ما بعد غزة بوصفها مسارا للحل السياسي الذي لا يمكن معه إلغاء حماس بل محاولة التفاهم مع التغييرات التي أطلقتها عمليتها، والتي من شأنها تمكين مشروع مصالحة فلسطينية تفرض على العالم مقاربة جديدة تنظر إلى حق الفلسطينيين في العدالة بوصفه ضمانة لأمن العالم واستقراره، وتأمين سيولة الاقتصاد وحركة التجارة والمصالح.
لا ينطبق الأمر نفسه على إيران وأذرعها ولا على نظام الأسد. مراقبة الحركة الإيرانية البائسة واليائسة في المنطقة تكشف مدى فقدها القدرة على التحكم بالورقة الفلسطينية، وفي الاستثمار في صورة المقاومة بشكل عام. احتل الناطق باسم كتائب القسام “أبو عبيدة” المشهد الميداني وأحال أصبع حسن نصر الله المتوعّد إلى التقاعد الإلزامي، ومعه كل الخطابات الإيرانية حول إزالة إسرائيل من الوجود.
أفرزت ساحة غزة مشهدا إيرانيا مختلفا لناحية الحرص على خلع ثوب الثورة التي تقوم على تصدير الجهاد والمقاتلين، وارتداء ثوب الدولة التي تحاول التحدث بلسان المصالح والحسابات. التصريحات التي خرجت في العلن لكبار القيادات الإيرانية من المرشد الأعلى علي خامنئي، إلى وزير الخارجية حسين أميرعبد اللهيان وغيرهم من الشخصيات تفصح عن نزوع واحد موحد يرمي إلى تجنب خوض الحرب مع إسرائيل وأميركا بأي شكل من الأشكال، ولو أدى هذا الأمر إلى خسارة الأذرع وضربها في العراق واليمن وسوريا ولبنان.
هذا الانكفاء يشكل ضربة كبيرة للمكانة والموقع في الحاضر وفي المستقبل المنشود؛ لأن الخرائط الجديدة التي ترسم انطلاقا من غزة وما بعدها لن تعطي وزنا ونفوذا لمن لم يكن مشاركا في المعركة، أو مساهما في خلق المسار السياسي الذي يفضي إلى إنهائها عبر مسار سلام عادل. إيران تريد المشاركة الوهمية في المعركة بتحريك حزب الله في لبنان من خلال عمليات تتخذ توصيفات متحايلة من قبيل المساندة والتضامن وما إلى ذلك، وتطلق الحوثيين في اليمن لخطف السفن والتأثير على مسارات التجارة الدولية. الردود التي تتلقاها تتجاوز التحذير إلى الضرب المؤذي، ففي لبنان اغتالت إسرائيل خمسة عناصر من فرقة الرضوان وهي قوات النخبة في حزب الله وكان من بينهم عباس رعد ابن رئيس كتلة الحزب في البرلمان اللبناني محمد رعد، وقصفت أميركا مواقع قيادية لإيران في سوريا موقعة بها خسائر بالغة وعززت حضورها البحري في المنطقة لدرجة باتت قادرة على شن هجمات حاسمة ومؤثرة بشكل مباشر.
الأسد يستغل الانشغال بغزة للانقضاض على إدلب وارتكاب مجازر فيها واستكمال حربه على السوريين من دون القدرة على فرض واقع نهائي وحاسم. حرب غزة كشفت الارتباط الكبير بينه وبين إسرائيل ووضعته في العلنية الفاقعة لدرجة أن صحيفة يديعوت أحرونوت نقلت تحذيرا ساقه الفرنسيون لحزب الله يقول إن ثمن دخوله الجدّي في الحرب سيكون ضرب دمشق وإسقاط الأسد. يعني ذلك أن مشروع محاربة الثورة السورية وإجهاض محاولات التغيير في لبنان كان قبل كل شيء مشروعا إسرائيليا جندت الممانعات كل قواها لإجهاضه في إطار يتناغم مباشرة مع المصالح الإسرائيلية.
انفجار الحدث الغزاوي الذي لم يكن للممانعات أي شراكة في إنتاجه بات يهدد الانتظام السابق الذي رسم حدود التفاهمات والعلاقة بين أطرافها وبين إسرائيل، بحيث راحت تهدد بنسفه وكأنها تطالبها بدور داعم حتى يصار إلى إعادة ترسيمها، ما تقوم به في كل الميادين يلعب دور سحب الشرعية عن النضال الفلسطيني في الداخل ولا يؤدي إلى تخفيف الضغط بقدر ما يسهم في إطالة أمد المجزرة والمساهمة في شرعنتها.
ويضاف إلى هذا البعد الحرص الروسي على الاستثمار في الكباش مع الأميركيين عبر حرب غزة، إذ إنه وبعد أيام من اندلاع الحرب بدأت تروج معلومات حول دعم استخباري وتقني روسي لحماس كان له الأثر الأكبر في تمكينها من القيام بعمليتها المفاجئة والضخمة بنجاح، ومع استمرار الحرب بدا التفاهم الروسي الإسرائيلي يتفكك وصولا إلى الانفجار. المواقف الروسية المعارضة لإسرائيل في مجلس الأمن وفي المحافل الدولية لافتة وتؤسس لنوع من العدائية غير المسبوقة بين الطرفين بعد أن كانت علاقتهما مثالية. من هنا يرجح أن يسفر هذا الخلاف مع عودة الحرب التي ستكون أعنف وأكثر شراسة ودموية، عن ضرب إسرائيل للاستثمار الروسي الأبرز في المنطقة وهو بشار الأسد ونظامه.
التضارب الإسرائيلي الروسي يضع الأسد في موقع حرج وخصوصا أن أميركا التي ما زالت حتى اللحظة ترفض فتح معركة كبرى مع إيران تشارك إسرائيل في موقفها المعادي له. من هنا قد تجد حكومة نتنياهو فيه فرصة لتحقيق مشروع جر الأميركيين إلى فتح معركة مباشرة ضد إيران وأذرعها.
المسؤولية المباشرة عن عمليات القرصنة واختطاف السفن وتهديد حركة الملاحة التجارية العالمية التي يقوم بها الحوثيون تنسب إلى إيران، ما قد يدفع الأميركيين للتدخل المباشر والعملي أكثر من عنوان الدفاع عن إسرائيل، وذلك لأن الموضوع بات متصلا بالأمن الأميركي الاستراتيجي.
الموقع الذي صنعته حماس لنفسها عبر معركة طوفان الأقصى يجعلها محركة للسياسات ومنتجة للمواقع، وقد أبدت مرونة لافتة في التعاطي مع المسارات السياسية وأعلنت عن استعدادها لتسييل معركتها في إطار فلسطيني جامع، ما جعل من الاستثمارات الممانعة في المعركة صعبة أو غير ممكنة إلا تحت السقوف التي وضعتها حماس وهو ما لا يتناسب مع مشاريع إيران وبشار الأسد.
يمكن لحماس التي تخوض معركتها في الداخل انتزاع موقع عربي ودولي، إضافة إلى أن ما نالته من شرعية فلسطينية وتعاطف شعبي عالمي انصب في صالح ترسيخ عنوان الحق الفلسطيني كرمز لفكرة الحرية والعدالة في كل العالم، في حين أن إيران التي تقاعست عن خوض المعركة الكبرى ستخوض معارك التفاوض من دون امتلاكها لأوراق قوة وضغط وسيكون أقصى طموحها الحفاظ على نظامها، ما سيخرجها من معادلات التأثير الدولي ليحولها إلى قوة إقليمية منزوعة الأنياب، بينما سيكون الأسد خاضعا للكباشات بين الروس والإسرائيليين والأميركيين، حيث ستتكاثر الاستهدافات المباشرة واضعة إياه في موقع العجز عن صناعة أي موقع إلا ما كان صوريا بامتياز.
تلفزيون سوريا
—————————–
العالم إذ يبحث عن “1701” في غزة/ صهيب جوهر
2023.11.28
بعد ساعات قليلة من وصول الموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكشتاين إلى تل أبيب، وصل وزير الخارجية الإيرانية حسين أمير عبد اللهيان إلى بيروت في مهمة متشابهة. وهو ما التقى عليه الرجلان بلغتين فارسية وأميركية، في إشارتهما ومعهما الناطق باسم البيت الأبيض إلى “تحقيق الأمن في المنطقة وعدم توسيع رقعة الحرب”. وكل ذلك من أجل أن تنسحب “هدنة غزة” على جنوبي لبنان وعدم السماح بامتدادها إلى سوريا.
ومن هذا التماهي المرحلي بين الطرفين تنصح أطراف سياسية عربية بقراءة ما يجري انطلاقا من نظرية تقول إنه وعند إجراء أي مقارنة بين ما يجري في غزة وما شهدته ساحات المواجهة المماثلة، وتحديداً عند استعراضها لتاريخ المواجهات الإسرائيلية ـ الفلسطينية وحتى العربية وما رافقها وصولاً إلى عملية “طوفان الأقصى” التي قلبت كثيراً من الأدوار والأحجام وغيرت من مجرى وشكل الحروب التقليدية ونهاياتها بين الأطراف المتنازعة منذ أكثر منذ سبعة عقود من الزمن.
لذا ينظر المراقبون والمهتمون إلى الواقع الجديد، الذي تعددت فيه القوى والأطراف التي لعبت أدوارها على الساحات المختلفة الفلسطينية منها والإسرائيلية والإقليمية والدولية، في ظل غياب الرجال الكبار في المحافل الدولية الكبرى، التي كانت قادرة على حسم كثير من كل أشكال النزاعات السابقة بطريقة ملتبسة أبقت الزغل في كثير من المواجهات تحت الجروح إلى أن انفجرت في وقت لاحق، لتتحول نزيفاً قاتلاً.
ذلك أنه لم يعد هناك من هو قادر على حسم أي معركة من طرف واحد لتكون له الغلبة بشكل كامل على كل الصعد السياسية والميدانية، باستثناء العامل الأخلاقي والقيمي والذي خسرت به دول العالم منذ عقود وليس آخرها السكوت المدوي على جرائم مماثلة ارتكبها بشار الأسد بحق السوريين.
والدليل إلى هذه المؤشرات الدالة إلى ما بلغته التطورات الأخيرة، يكمن في سقوط معظم الأهداف المعلنة وغير المعلنة لعملية “السيوف الحديدية” التي أرادت منها إسرائيل التعمية على هزيمتها الفعلية في عبور طوفان الأقصى، في غلاف غزة والنزوح غير المسبوق الذي شهده الجليل الأعلى وعموم المدن الإسرائيلية التي تحولت للمرة الأولى منذ قيام الكيان الصهيوني العنصري إلى مسرح للعمليات العسكرية بعدما كانت تقتصر على أراضي غزة والضفة وأريحا والدول المحيطة بها.
كذلك لا تكمن القراءة المطلوبة لما تم التوصل إليه من هدنة إنسانية بدأ تطبيقها منذ يومين، فيما كان لافتاً حجم الوساطات والجهود التي بُذلت توصلاً إلى هذه المرحلة، رغم الخلاف بين اعتبارها محطة تقليدية لا بد منها للتخفيف قدر الإمكان من التحولات الكبرى في الرأي العام الدولي تجاه ما ارتكبته إسرائيل من جرائم ومجازر غير مسبوقة لتستأنف من بعدها العمليات العسكرية وربما بطريقة أكثر عنفاً وتوسعاً. وهي جهود جندت لها مختلف الطاقات الدبلوماسية وتحديداً القطريين والمصريين ومن خلفهم لجنة عربية وإسلامية جالت على دول العالم، ومن تحتها في الكواليس السرية جملة من التهديدات بقرارات يمكن اتخاذها جبراً وإلزاماً إن تمادت إسرائيل بارتكابها للجرائم، ومن خلفها الدول والحكومات الداعمة لها.
ولذلك لم تخف الحكومات التي بدأت تعيد النظر في مواقفها مما جرى من شعورها بالحرج الكبير تجاه مواقفها من الوضع في الأيام الأولى من الحرب، نتيجة ما تم تسويقه بطرق استفزت العرب والمسلمين وأحرجت قادتهم، وخاصة مواقف أعقبت ما جرى في مستوطنات غلاف القطاع، من دون أن يحول ذلك دون إهداء إسرائيل أكثر من مهلة إضافية لتنفيذ ما تمنته وتعهدت به. فقد كانت ترغب في أن ترى ما يرضي إجرامها المطلق وسعيها إلى استعادة أي من الأسرى العسكريين والمدنيين من جنسيات إسرائيلية وأخرى من حاملي جنسيات أجنبية مختلفة، إرضاءً للحكومات المعنية بفقدانهم في تلك العملية الواسعة والمفاجئة.
ولما غاب الأمل في إمكان أن تستعيد إسرائيل بأي طريقة ما فقدته من ثقة مواطنيها وحلفائها الدوليين، تغيرت المعادلات وبدأ البحث عما يعاكس ما اتخذ من مواقف. فاستخدمت كل الطاقات لترميم ما أصاب صورة وهيبة جيشها ومؤسساتها ومخابراتها من نكسات. فهي كانت قبل ذلك، تتباهى بأنها تحصي حراك وأنفاس الفلسطينيين ودول المنطقة لحظة بلحظة قبل انكشافها بالطريقة التي شهدتها الساعات الأولى للعملية والتي قادها محمد ضيف وجنوده في كتائب القسام والذين يعيشون أسفل حصار دولي في تاريخ البشرية.
وعند الدخول في تفاصيل تلك المرحلة وما شهدته من محاولات فاشلة وأخرى هزيلة لم تحقق أهدافها، توجهت الأنظار إلى تدارك مظاهر الفشل التي عبرت عنها المحاولات التي خاضتها الولايات المتحدة الأميركية، فرنسا، روسيا، الصين في مجلس الأمن لترتيب “هدنة إنسانية”.
فهي أعقبت مساعي خالية من أي إنجاز، تمثلت بتعطيل مشروع “القمة الرباعية” الأميركية ـ الأردنية – المصرية والفلسطينية التي ألغتها الأردن عشية موعدها بسبب مجزرة المعمداني والتي بررها بايدن، وكذلك سقوط التجربة المصرية في “قمة القاهرة للسلام” وفشل الحاضرين من إصدار بيان ختامي، إلى أن جاء مسلسل القمم التي نظمتها السعودية فانقلبت الصورة في القمة الاستثنائية العربية ـ الإسلامية التي جمعت رؤساء وملوك وأمراء 57 دولة لتدق ناقوس الخطر من إمكان سقوط التفاهمات السابقة بين إسرائيل والدول العربية والتي تسابقت إلى تطبيع محموم مع كل أشكال القتل بين نتنياهو والأسد، كذلك ما حكي عن استخدام البعض لفكرة المس بعلاقاتها مع إدارة بايدن.
وكان لافتاً التنسيق بين الجهود المصرية القطرية والأميركية التي توحدت في جهد استثنائي غير مسبوق مع اتصالات يومية بين بايدن وقادة قطر ومصر، ما أدى لتراجع دور البدلات العسكرية، لتعطي فرصة للمعالجات السياسية والإنسانية. في ظل الأدوار المخفية التي لعبتها دول أخرى كالصين وروسيا عبر الضغط على طهران. وهو ما ترجمه وزير خارجيتها حسين أمير عبد اللهيان بزيارته الخاصة والاستثنائية لبيروت بعد ساعات قليلة من وصول هوكشتاين إلى تل أبيب مع دعوة شبه مشتركة للجم الحرب ووقف أي مشروع لتوسيعها في اتجاه لبنان وسوريا.
وما زاد من الاقتناع أن هوكشتاين وعبد اللهيان لعبا كل على ساحته الدور عينه، وخصوصاً عندما توجه الوزير الإيراني مباشرة من بيروت إلى قطر، حيث تدور اتصالات فاعلة لإرساء التفاهمات الإسرائيلية – الفلسطينية، وهو ما أوحى بوجود تفاهمات أميركية ـ إيرانية محتملة كانت تجري فصولها بالتوازي مع جهود ضبط الوضع على الجبهة اللبنانية كما اليمنية، في انتظار ما قد تنتجه مساعي تمديد الهدنة لتتحول مسلسلاً يؤدي إلى التهدئة تمهيداً للبحث في اليوم الأول للقطاع بعد الحرب.
ويدل الإصرار على التهدئة بين الإيرانيين والأميركيين على تقاطع في القراءات والأهداف، لا سيما بعد المفاوضات غير المباشرة في مسقط والدوحة وغايتها تكريس الهدوء ومنع توسع الصراع.
وحدها الحكومة الإسرائيلية هي التي تريد استمرار القتال. ولكن الضغط الأميركي سيتزايد في المرحلة المقبلة في سبيل منع ذلك، والذهاب إلى تشكيل حكومة إسرائيلية جديدة، في حين البحث جار عن مشروع يشبه القرار 1701 والذي جرى العمل عليه بعد الحرب اللبنانية مع إسرائيل في 2006، وثمة مجموعة من الحلول التي تُتكتب وتناقش مع حماس وإسرائيل عنوانها الرئيسي شكل المرحلة المقبلة في غزة، وخاصة أنه لا يمكن العودة إلى ما كان عليه الوضع قبل 7 أكتوبر.
وحماس السياسة والعسكر باتت مقتنعة بأنها لن تحكم القطاع بنفس الطريقة وقد تضطر إلى تسليم الدولة فوق الأرض لحكومة تكنوقراط، فيما تترك الإدارة تحت الأرض لمشروع المقاومة المستمر والذي لن يتوقف، لذا فإن الرئيس التركي والذي استبق كل النقاشات للحديث عن الجسم الأمني المنوي تشكيله، لكن بفوارق عديدة أهمها أن الدول المشاركة لن تطأ غزة إلا بموافقة حماس.
والواقع الجديد يحتاج إلى منازلة أكبر بالدم والنار لإرساء الشروط والشروط المضادة، ناهيك عن استدعاء الأطراف الأخرى لتشكيل الواقع السياسي الجديد بعيداً عن سلطة أبو مازن.
——————————
===========================
==================
تحديث 27 تشرين الثاني 2023
===================
العربي الجديد
———————————
معركة المفاهيم والدلالات في مواجهة العدوان على غزّة/ حيّان جابر
27 نوفمبر 2023
يشنّ الاحتلال الصهيوني عدوانًا مكثفًا ومتصاعدًا على كامل شعب فلسطين الأصلي وأرضه منذ السابع من الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول)، في سياق عدوانه واعتدائه المستمرّ منذ عام 1948، إذ يطاول قطاع غزّة اليوم القسم الأكبر من جرائم الاحتلال وإرهابه، في جرائم موصوفة لا يمكن دحضها، من تطهيرٍ عرقيٍ وعقابٍ جماعيٍ وتهجيرٍ قسريٍ مستمرٍ وممنهجٍ، أفضى ويفضي إلى قتل آلاف الأطفال وآلاف النساء والرجال من المدنيين، منهم أطباء ومسعفون وصحافيون وموظفو الوكالات الدولية؛ خصوصًا وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا)، إذ أسفر إرهاب الاحتلال الحالي عن قتله قرابة 11 ألف مدني فلسطيني منذ 7 أكتوبر، قرابة نصفهم من الأطفال.
لم يقتصر عدوان الاحتلال الراهن على جرائمه الموصوفة هذه، بل امتدّت إلى معركة الرواية التي حاول من خلالها إدانة المقاومة الفلسطينية، وحقّ الفلسطينيين في مواجهة الاحتلال، عبر وصمها بالإرهاب، وهو ما فشل فيه إلى حدٍ كبيرٍ، رغم الدعم الأميركي والبريطاني الرسميين المطلقين، وهو ما قد تتكشّف نتائجه في المستقبل القريب، إذ تصاعد الدعم الشعبي العالمي لفلسطين وقضيّتها، ولحقوق شعبها الأصلي تسارعًا لم يكن في حسبان الاحتلال وداعميه، رغم التقيدات والإدانات الدولية، ورغم محاولة تجريم دعم القضية الفلسطينية والحقوق الفلسطينية.
ويخوض الاحتلال وداعموه معركةً أخرى لا تقلّ أهمّيةً وخطورةً عن المعركتين السابقتين، وهي معركة المفاهيم والدلالات، في محاولةٍ منهم لتقويض ركائز القضية الفلسطينية، والحدّ من تداعيات هزيمة الاحتلال المتسارعة أخيرا. وحرب المفاهيم والدلالات واسعةٌ وممتدةٌ ومتفرعةٌ إلى فروعٍ عديدةٍ، سوف تتناول المطالعة بعض فروعها.
المدني والأعزل والعسكري
أدّت عملية طوفان الأقصى إلى أسر مستوطنين وجنود إسرائيليين، وهو ما سوّقه الاحتلال أنّه اختطافٌ، ونجح إلى حدٍّ بعيدٍ في وصفهم بالرهائن. بدايةً، علينا التمييز بين الأعزل والمدني، فالأعزل هو أيّ شخصٍ لا يحمل سلاحًا في مكانٍ وزمانٍ محدّدين، وهو ما ينطبق على قسمٍ من الأسرى المستوطنين، في حين أنّ المدني، وفق تعريف المصطلحات السياسية، هو كلّ شخصٍ لا ينتمي بصفةٍ دائمةٍ أو مؤقتةٍ إلى هيئةٍ عسكريةٍ، كما عرّفه القانون الإنساني الدولي عام 1977، وفق تعديله لاتّفاقية جنيف الثالثة عام 1949، “هو أي فردٍ ليس عضوًا في إحدى المجموعات التالية: القوات المسلحة النظامية…، المليشيات أو فرق المتطوّعين التي تشكّل جزءًا من هذه القوات المسلّحة…، المجموعات ووحدات المنظمة…”. ويظهر هذا الاقتباس المختصر أنّ أيّ جزءٍ يرفد القوات المسلحة بعناصر مقاتلةٍ دائمةٍ أو غير دائمةٍ لا يعدّ مدنيًا، وهو ما ينطبق على عناصر جيش الاحتياط الصهيوني. وعليه، يتطلّب توصيف المدني في حالة الاحتلال الصهيوني الذي يستند إلى مبدأ جيش الشعب، أو الجيش الشعبي، تدقيقا كثيرا، فجيش الاحتلال، وفق ما هو وارد على صفحته الإلكترونية الرسمية، هو “الشعب يبني الجيش والجيش يبني الشعب”، ثم يضيف بما يخصّ جيش الاحتياط “يشكل جنود الاحتياط، الذين يتم تجنيدهم بموجب القانون، جل قوّة جيش الدفاع”. وعليه، فجيش الاحتياط، بجميع منتسبيه، جزءٌ من جيش الاحتلال، وهو ما ينفي عنهم صفة المدنية، من دون أن ينفي صفة الأعزل في حالة عدم استخدامهم للسلاح في لحظةٍ ومكانٍ محددين.
وجديرٌ بالذكر أنّ الاحتلال يتبع نظام التجنيد الإجباري لكلّ ذكرٍ وأنثى؛ باستثناء العرب يزيد عمره (وعمرها) عن 18 عامًا، 24 شهرًا للإناث، و32 شهرًا للذكور. كما يفرض الاحتلال على كلّ ذكرٍ أنهى مدة تجنيده الإلزامي المشاركة في تدريباتٍ خاصّةٍ سنويةٍ يجريها جيش الاحتلال في الوحدة أو الكتيبة التي شارك فيها حتى يبلغ 50 عامًا، وتكون الخدمة مدفوعة الأجر من الدولة وفق راتب عمله. وعليه، كلّ ذكرٍ لم يبلغ الـ 50 عاما هو من جنود جيش الاحتلال غير الدائمين.
بناء عليه، ينحصر وصف المدني هنا في الأطفال الأصغر من عمر التجنيد الإلزامي، أي الذين لم يبلغوا الثامنة عشرة، وفي الإناث ممّن أنهينا خدمتهن الإلزامية، ومن الذكور ممن تجاوزوا الخمسين، باستثناء حالات تُعفى من الخدمة الإلزامية ومن خدمة الاحتياط.
على الطرف الآخر؛ نجد في ما يتعلق بالأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال قصورًا في عرض الحقائق المتعلقة بهم، التي استعرضت بعضًا منها فرانشيسكا ألبانيز، مقرّرة الأمم المتّحدة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأراضي المحتلة منذ 1967، في تقريرها الذي قدّمته أمام مجلس حقوق الإنسان في 10/7/2023، الذي نصّ على “تعرّض الفلسطينيين للاحتجاز الطويل بسبب التعبير عن آرائهم، والتجمّع، وإلقاء الخطب السياسية غير المصرّح بها، أو حتّى مجرّد محاولة القيام بذلك. وفي نهاية المطاف، يُحرمون من وضعهم مدنّيين محميين. وغالباً ما يُفترض أنّ الفلسطينيين مذنبون من دون أدلةٍ، ويُقبض عليهم من دون أوامر توقيف، ويُحتجزون من دون توجيه تهم أو محاكمة ويعاملون بوحشية في الحجز الإسرائيلي”. كما أضافت أن السجن الجماعي الذي يتعرّض له الفلسطينيون “يخدم غرض قمع المعارضة السلمية للاحتلال، وحماية الجيش الإسرائيلي والمستوطنين. وفي نهاية المطاف، تسهيل التعدّي الاستيطاني الاستعماري”. ثم تقول إن القوة القائمة بالاحتلال تصوّر الفلسطينيين على أنهم تهديدٌ جماعيٌ “لتجرّدهم من صفتهم المدنية”. وعليه، معظم؛ إن لم نقل جميع، الأسرى الفلسطينيين داخل سجون الاحتلال، بل وخارجها، مدنيون، يعمل الاحتلال على أخذهم رهائن وأسرى، لمنعهم من مجابهة احتلاله وممارساته الإجرامية المستمرّة بحقّ شعب فلسطين وأرضها.
بناءً عليه؛ الواضح أنّ الاحتلال هو القوّة المعتدية على المدنيين الفلسطينيين تاريخيًا، عبر اختطافهم وإيداعهم في سجونه العديدة، أو عبر تطبيق نظام المعازل والحصار اللاإنساني بحقّ التجمّعات الفلسطينية في القدس والضفّة الغربية وقطاع غزّة، وهي جريمةٌ مستمرةٌ منذ بداية الاحتلال. لذا على أيّ مطالب تدعو إلى إطلاق سراح المدنيين والعزل أن تشمل إلزام الاحتلال إنهاء سجنه الفلسطينيين داخل المدن والبلدات الفلسطينية، بما يشمل قطاع غزّة، إلى جانب تحرير آلاف الأسرى الفلسطينيين المحتجزين داخل سجونه وزنازينه الرسمية وغير الرسمية.
كما أوضح الناطق باسم كتائب عز الدين القسام؛ أبو عبيدة، في كلمته في 16/10/2023، عن الملابسات التي أدّت إلى اعتقال بعض الأشخاص من حملة جنسياتٍ أخرى، والمتمثلة في صعوبة التدقيق في هوياتهم في أثناء احتجازهم في 7 أكتوبر، نظرًا إلى طبيعة العملية العسكرية وحيثياتها. كما أعلن عن عزم الحركة إطلاق سراحهم في أول فرصةٍ ممكنةٍ، إذ إنّ عدوان الاحتلال هو العائق الذي يؤخّر إطلاق سراحهم، إذ وصفهم أبو عبيدة بالمحتجزين أو الضيوف، في إشارةٍ إلى طبيعة تعامل كتائب القسام معهم إلى حين إطلاق سراحهم. وهنا أيضًا لا بدّ من التمييز بين المحتجَز والأسير، وعدم الانسياق خلف محاولات الاحتلال طمس الفروق بين المحتجَزين والأسرى من جنوده ومستوطنيه العزّل منهم والمسلحين.
الحصار والإبادة عبر التجويع
فرض الاحتلال الصهيوني حصارًا غير إنساني مستمرًا على قطاع غزّة منذ نحو 17 عامًا، ثم انتقل الاحتلال من حصاره هذا إلى جريمةٍ إضافيةٍ، إبادة سكان فلسطين الأصليين المقيمين داخل القطاع بطرقٍ مباشرةٍ سريعةٍ؛ عبر القصف المنهجي والمستمرّ والمستعر، وغير مباشرةٍ، عبر قطع الماء والكهرباء والغذاء والمستلزمات الطبية والوقود، وهي جريمةٌ ممنهجةٌ إضافيةٌ تضاف إلى جريمة الحصار، إذ يعني منع الحاجات الرئيسية من دخول قطاع غزّة، وبكل وضوحٍ، عزم الاحتلال على قتل كلّ المقيمين في قطاع غزّة؛ ممن لم تقتلهم قنابله، ببطءٍ شديدٍ عبر تجويعهم.
هنا تجدر الإشارة إلى أنّ إرغام المجتمع الدولي الاحتلال على السماح لبضع قوافل إنسانيةٍ بدخول قطاع غزّة يوميًا منذ 21/10/2023، لا يعدّ تراجعًا عن جريمة الاحتلال في إبادة المقيمين في القطاع عبر تجويعهم، وإفقادهم أدنى مستلزمات الحفاظ على حياتهم، بل تندرج في سياق إطالة مدّة تعذيب المقيمين في قطاع غزّة، وإطالة معاناتهم، فمجمل تلك المساعدات ليست سوى فتات لن يحدث فرقًا لميلوني شخص يقيمون في القطاع، كما وصفها المفوض العامّ لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطين (أونروا)، فيليب لازاريني.
ويتعمّد الاحتلال تعطيل حركة إدخال المساعدات؛ الشحيحة أصلاً، إلى قطاع غزّة عبر إلزامه المركبات التي تنقلها بنقل حمولاتها من معبر رفح إلى معبر العوجا، حيث يتحفّظ الاحتلال عليها لمددٍ مختلفةٍ، تصل في أحيانٍ كثيرةٍ إلى أكثر من 24 ساعة، بذريعة تفتيشها، ومن ثم يعيدها إلى معبر رفح بغرض إدخالها إلى القطاع المحاصر. بذلك يؤخّر الاحتلال دخول المساعدات، وهو ما تكشفه الفروق الشاسعة بين أرقام قوافل المساعدات التي عبرت معبر رفح، وأعداد المساعدات التي استملتها الجهات المعنيّة داخل قطاع غزّة.
ثانيها؛ يتحكّم الاحتلال في نوعية المساعدات المقدمة لقطاع غزّة، بما يخدم جريمته الموصوفة دوليًا بالعقاب الجماعي والإبادة الجماعية والقتل الممنهج والبطيء، عبر منعه إدخال شتّى المواد الغذائية والطبية والمياه الصالحة للشرب والوقود. إذ يتحكّم الاحتلال بنوعية المساعدات وكمّيتها عبر تهديده الدائم بقصف أي قافلة لا يُشرف على محتوياتها، إذ يطبق إشرافه هذا وفق آليتين منفصلتين ومتكاملتين: الأولى، التنسيق مع المنظمّات الدولية والطرف المصري بشأن كلّ قافلة من قوافل المساعدات. وثانيها، عبر جنوده وموظّفيه الذين يفتشون كلّ قافلةٍ بعد وصولها إلى المعبر التي يتحكم به، قبل دخولها إلى قطاع غزّة المحاصر، حيث يعيثون فسادًا بها، ويصادرون ما يشاؤون منها، بعيدًا عن الرقابة الدولية والإعلامية، إذ لم تصدر الجهات الدولية المشرفة على عملية إدخال المساعدات تقارير تُثبت استلام قطاع غزّة كامل حمولة قوافل المساعدات التي خرجت من معبر رفح بعد تفتيش الاحتلال لها.
مسؤولية الاحتلال الكاملة
يحاول الاحتلال التنصّل من مسؤوليته الكاملة عن قطاع غزّة تحت ذريعة فك الارتباط الأحادي الجانب مع قطاع غزّة عام 2005، لكن هناك فرقا كبيرا بين فك الارتباط وإنهاء الاحتلال، إذ لم يعن فكّ الارتباط إنهاء الاحتلال بتاتًا، نظرًا إلى تحكم الاحتلال بكامل تفاصيل قطاع غزّة الحياتية، من حركة السلع والبشر، ومن التحكّم بحدود القطاع بما فيها البحرية، وصولاً إلى انتهاكات الاحتلال المتكرّرة داخل القطاع، وأهمّها فرضه منطقةً عازلةً على مسافة 1500 مترٍ من السياج الفاصل بين القطاع والمناطق التي يسيطر عليها الاحتلال، إذ تشكّل المنطقة العازلة 15% من مجمل مساحة القطاع، و35% من مجمل مساحة أراضي القطاع الزراعية.
إلى جانب ذلك، يتحكّم الاحتلال بمجمل بنية القطاع الخدمية من قطاع الكهرباء والاتصالات والمياه، إلى جانب تحكّمه بالمنظومة المالية، عبر التحكّم بحركة الأموال من القطاع وإليه. ويفنّد ذلك كله مزاعم الاحتلال بعدم احتلاله القطاع، وبالتالي، يفنّد مزاعمه وتنصّله من مسؤوليته الكاملة عنه، التي ردّدها معظم قادة الاحتلال العسكريين والسياسيين في الأيّام الأخيرة. كما تجدُر الإشارة إلى أن كلّ المنظمات الدولية والأممية بما فيها هيئات الأمم المتّحدة ومجلس الأمن تعتبر قطاع غزّة جزءًا من الأراضي الفلسطينية المحتلة، ويعتبر الاحتلال القوة القائمة بالاحتلال حتّى في قطاع غزّة، ويحمّله كامل المسؤولية عن أوضاع القطاع وسكانه تمامًا، كما يتحمل في سائر الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهو ما يرد دوريًا في جميع البيانات الصادرة عن مفوض الأمم المتّحدة السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك، بشأن الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومنها تقريره المقدّم في الدورة الـ 52 لمجلس حقوق الإنسان، الذي دان الاحتلال لانتهاكاته المتعدّدة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومنها سياسات العقاب الجماعي، وفي مقدّمها الحصار اللاإنساني لقطاع غزّة.
من هنا؛ يعتقد الكاتب أنّ هناك ضرورة للتأكيد على مسؤولية الاحتلال الكاملة عن ظروف القطاع وأحوال قاطنيه، وبالتالي مسؤوليته عن تأمين احتياجات القطاع وقاطنيه من الغذاء والماء والوقود والمستلزمات الطبية بجميع حيثياتها. وهذا لا يتناقض مع قدرة مصر على إفشال جرائم الاحتلال، عبر رفض التعاون معه وفتح معبر رفح من دون العودة إلى الاحتلال.
فتح معبر رفح من دون التنسيق مع الاحتلال فعلٌ مقاومٌ، فالاحتلال لا يملك قانونيًا أيّ سيادةٍ على الأراضي المحتلة، لكن عليه التزامات عدة على اعتبارها سلطة قائمة بالاحتلال، وهو ما يشمل حركة المعابر، بما فيها معبر رفح. وبالتالي، وفي خضم حرصنا على كسر الحصار اللاإنساني لقطاع غزّة ولمجمل الأراضي الفلسطينية الأخرى، يجب ألا ننساق خلف مزاعم الاحتلال، ونساهم في تنصّله من مسؤولياته الكاملة بوصفها سلطة قائمة بالاحتلال على مجمل الأراضي الفلسطينية، وفي مقدمتها قطاع غزّة المحاصر منذ 17 عامًا. وعليه وفي سياق الضغط الشعبي والسياسي على النظام في مصر، علينا أن نحذر من الانسياق خلف خطاب الاحتلال الساعي إلى التملص من مسؤولياته سلطةً قائمة بالاحتلال. من هنا، نعتبر كسر مصر الحصار اللاإنساني الذي يفرضه الاحتلال في قطاع غزّة واجبا أخلاقيا وإنسانيا أولاً، وهو فعلٌ مقاومٌ تحرريٌ ثانيًا.
من هنا، وكون كسر الحصار فعلا إنسانيا وأخلاقيا ومقاوما وتحرريا، يعتقد الكاتب أن علينا الضغط المتواصل من أجل فرضه، وعلى دول الإقليم والعالم المساهمة في كسره، عبر الدعوة إلى تشكيل قوافل مساعدات إنسانية أممية تشارك فيها معظم دول الإقليم؛ يفضل جميعها، والعالم تحت إشرافٍ أمميٍ ودوليٍ لمحتوياتها، وتحت أعين الوسائل الإعلامية الإقليمية والعالمية وتغطياتها، من لحظة عبورها معبر رفح إلى حين وصولها إلى مجمل قطاع غزّة، بما فيها المناطق الشمالية منه، يقودها متطوّعون من كل العالم، وهو أمرٌ قابلٌ للتحقيق إن امتلك النظام الإقليم والدولي الإرادة الكاملة لتنفيذه، خصوصًا الدول التي تدين إرهاب الاحتلال وجرائمه المتواصلة، خصوصًا الحالية، وفي مقدمها جرائمه في قطاع غزّة، من الصين وصولاً إلى بوليفيا وكولومبيا وتشيلي، ومرورًا بتركيا وإيران ومعظم دول المنطقة العربية.
أولويّة استعادة الحقوق الفلسطينية
كثرت الدعوات الدولية لعقد مؤتمرٍ لحلّ القضية الفلسطينية في أعقاب عملية “طوفان الأقصى”، دعواتٌ كثيرةٌ أميركيةٌ وفرنسيةٌ وتركيةٌ وعربيةٌ وفلسطينيةٌ، انساق معظمها خلف الدعاية الأميركية المضللة والمتشعبة، التي تشمل جوانب كثيرةٍ منها إعادة العمل على تهميش الحقوق الفلسطينية لصالح الدعوة المتكررة لحلٍ مستحيلٍ غير قابلٍ للتحقيق وغير عادلٍ، يتمثّل في الترويج المتكرر لما يسمّى “حلّ الدولتين”.
ينطلق بعض هذه الدعوات من نيات صادقةٍ تجاه فلسطين وقضيتها وشعبها، لكنها دعواتٌ متسرعةٌ دفعها إجرام الاحتلال اللامحدود إلى التمسّك بخيطٍ رفيعٍ من الأمل الذي قد ينهي، أو يحد من هذه الجرائم، لكنها غفلت؛ بمعظمها، عن حيثيات القضية الفلسطينية وتفاصيلها، كما غفلت عن المعطيات والحقائق الميدانية، التي أكدت معظم التقارير الدولية مسؤولية الاحتلال عن تقويض حلّ الدولتين وشبه استحالة تطبيقه.
لكن وبعيدًا عن ممارسات الاحتلال التي تقوض وقوضت حلّ الدولتين، علينا الالتفات إلى الحقوق الفلسطينية بدلًا من الانغماس في طبيعة الحل، فالأولويّة لاستعادة كامل الحقوق الفلسطينية: حقّ العودة، وحقّ تقرير المصير، وحقّ التحرّر من الاحتلال الصهيوني الإحلالي والكولونيالي، والحقّ في التحرّر من نظام الفصل العنصري الصهيوني، والحقّ في فكّ الحصار وإنهاؤه كليًا ونهائيًا، والحقّ في إقامة الدولة الفلسطينية. هذه هي الأولويّات، بغض النظر عن اسم الحل، وطبيعته، والذي لن يحققه حلّ الدولتين.
من هنا، يجب التركيز على استعادة الحقوق الفلسطينية، بدلاً من اللهاث خلف سرابٍ أميركيٍ وصهيونيٍ تحت عنوانٍ خادعٍ اسمُه حلّ الدولتين. الصادم هنا أن هناك بعض الأصوات الدولية والفلسطينية التي بذلت جهودًا كبيرةً في السنوات الأخيرة من أجل فضح جرائم الاحتلال، ومن أجل التمسك بأولويّة استعادة جميع الحقوق الفلسطينية، ومن أجل فضح زيف حلّ الدولتين، والكشف عن استحالة تطبيقه ميدانيًا، بفعل ممارسات الاحتلال وجرائمه اليومية في أرض فلسطين، انساق قسمٌ منها في الآونة الأخيرة خلف الدعوة الأميركية لعقد مؤتمرٍ دولي لتطبيق حل الدولتين، على اعتباره الحلّ الوحيد للقضية الفلسطينية!
خاتمة
تعتبر معركة المفاهيم والدلالات من المعارك المهمة في فضح الرواية الصهيونية وفي التأكيد على الرواية الفلسطينية التاريخية، وعلى الحقوق الفلسطينية، كما تمثل الحجر الأساس في تعزيز الحركة العالمية الداعمة والمتضامنة مع شعب فلسطين وقضيته، وفي تعزيز المقاطعة الأكاديمية والاقتصادية، وفي فضح الاحتلال ومحاصرته دوليًا.
————————————–
هل امتلك العرب زمام القضية الفلسطينيّة؟/ غازي دحمان
27 نوفمبر 2023
كشف التوصّل إلى اتفاق الهدنة في قطاع غزّة بين إسرائيل وحركة حماس عن دور عربي مهم قامت به قطر ومصر، والأردن بدرجةٍ ما، بعد أن ساد اعتقاد أن العرب لن يكونوا مؤثرين في تطورات الصراع في فلسطين، نتيجة هيمنة إيران وتأثيرها على المقاومة.
وكثيرا ما كان العامل الإيراني مقلقا لدى قطاعات عربية كبيرة، إلى درجة أن بعضهم توقّع أن انتصار “حماس” سيتبعه تغوّل إيراني في المنطقة على حساب شعبي سورية والعراق، كما أن هزيمتها ستعني هزيمة للشخصية العربية ولقيمة الإنسان العربي، حيث ستسود الرواية الصهيونية عن الصراع التي يتحوّل العربي بموجبها إلى مجرّد جبان وغادر وغير قادر على خوض الحروب العصرية.
سيصبّ انتصار “حماس” في الرصيد العربي، وإذا كانت قطر ثم مصر والأردن، قد لعبت أدورا مؤثرة في غضون هذه الحرب، فإن هذه الأطراف تحمل تفويضا عربيا عاما، مع اختلاف على تفاصيل بسيطة، والأهم أنها تريح رأيا عاما عربيا يرى إدارة هذه الأطراف الثلاثة للمفاوضات الجارية مع أميركا وإسرائيل، والمخرجات الناتجة عن هذه المفاوضات والمتمثلة، حتى اللحظة، باتفاق الهدنة وإدخال المواد الإغاثية لغزّة، ومن ثم إمكانية البناء على هذا الاتفاق.
ثمّة فارق كبير بين أن يمسك العرب بزمام الأمور ويديروا المسارات الفلسطينية في المرحلة المقبلة وأن تكون أطراف خارجية، وتحديدا إيران هي الفاعل الأساسي، إذ ليس خافيا أن إيران تدير مشروعا كبيرا في المنطقة لخدمة أهدافها الجيوسياسية، وهو ما بات يدركه الجميع في المنطقة، في حين أن للجانب العربي اعتبارات مختلفة، كما أن قضية فلسطين مندمجة بشكل لا فكاك منه في المصالح والأمن العربيين، ما يجعل أي تحرّك عربي غير مسبوغ بأهداف ومشاريع باستثناء تحقيق المصلحة العربية العليا.
هذا التحوّل والتغيّر في الأدوار، لصالح الطرف العربي، على حساب إيران، التي حاولت عبر تكتيكات معينة فرض نفسها مرجعيةً وحيدة، من خلال إثبات أنها الطرف الخارجي الوحيد المساند غزّة وأهلها، رغم محدودية تأثير أفعالها، كسرته بهدوء الدبلوماسية العربية التي تملك أوراقا عديدة أكثر فعالية في العلاقات مع الغرب، تمكّنها من ردع إسرائيل وإجبار واشنطن على سماع صوتها.
لا يعني هذا أن الحراك التفاوضي العربي سيشكّل انقلابا على أدوار الفاعلين في الموضوع الفلسطيني، بمعنى إقصاء “حماس” وتحويل فعالية السلطة الفلسطينية، بتركيبتها الحالية، هذا أمر لم يعُد مطروحا، في ظلّ طرح موازٍ يتمثّل بإمكانية إيجاد صيغة في المرحلة المقبلة تدعم الوحدة الوطنية الفلسطينية، وهو أمر بات مطلوبا اليوم لتخطّي تداعيات نتائج الحرب المدمّرة التي شنّتها إسرائيل على قطاع غزةّ، وما سيتبعها من مشاريع إعادة الإعمار والبحث عن حلول سياسية مستدامة للقضية الفلسطينية.
في أثناء الحرب، جرى طرح خيارات عديدة يمكن للأطراف العربية التعامل بها لمناصرة غزّة، من ضمنها كان استخدام سلاح النفط والغاز، مثلما حصل في حرب أكتوبر (1973) للضغط على الفاعلين الدوليين لإجبار إسرائيل على وقف الحرب، لكن هذا الخيار لم يحقّق إجماعا عربيا انطلاقا من تأثير هذا الخيار على العرب أنفسهم في تمويلهم للمشاريع التنموية، والأهم من ذلك تغيّر خريطة المستهلكين للطاقة العربية، حيث باتت آسيا، وليست أميركا، هي المستهلك الأساسي، كما أن أوروبا، ورغم أنها تعتمد على النفط والغاز العربي، إلا أن فعاليتها الدبلوماسية منخفضة إلى حد بعيد، لذا توجب البحث عن خيارات وأوراق ضغط أخرى.
انطلاقا من هذا المعطى، كان على العرب أن يجدوا أوراقا مؤثّرة وفاعلة في إدارتهم التفاوض، واستفادوا من عاملين مهمين: الأول، حاجة الإدارة الأميركية للتوصل إلى شكل من تخفيف حدّة المعارك، والبحث عن فرصة تظهر من خلالها مدى فعاليتها، بما يصبّ في رصيدها في الانتخابات المقبلة، ورغبتها في عدم التورّط في حربٍ إقليمية موسّعة، وكذلك الاحتفاظ بمصالحها في العالم العربي، بعد أن لفت دبلوماسيون وخبراء استراتيجيون عديدون إلى أن الاستمرار بالظهور بمظهر الداعم المطلق لإسرائيل ستنتج عنه تداعياتٌ خطيرة، من ضمنها خسارة التأثير في العالم العربي لجيل أو أكثر.
العامل الثاني، التلويح بورقة اتفاقيات السلام والتطبيع مع إسرائيل، وقد بدا ذلك من خلال الانزعاج الذي أبدته دول عربية مطبّعة أو التي في طريقها إلى التطبيع مع إسرائيل من مواقف حكومة نتنياهو، وتعرّضها لضغوط شعبية، تدفعها إلى إعادة النظر في عملية التطبيع برمّتها، وخصوصا الأردن الذي صعّد مواقفه بطريقة ملحوظة، فضلا عن موقف السعودية الذي بات أقلّ اندفاعا للتطبيع في ظل هذه الظروف.
مؤكّد أن الحرب لم تنته بعد، ومن المحتمل أن تتجدّد لاعتبارات إسرائيلية داخلية، فالمعلوم أن الحكومات المتطرّفة، مثل الحكومة الإسرائيلية الحالية، تعطي الأهمية والأولوية لاستمرار تركيبتها وتوازناتها الداخلية خوفا من السقوط. لكن، رغم صدور تقديراتٍ عن مؤسّسات رصينة (ستانفورد) بإمكانية تجدّد الحرب بشكل أكثرٍ شراسة، حيث تسمح الهدنة لأطرافها، إسرائيل و”حماس”، بإعادة ترتيب أوضاعهما والتمركز بشكل صحيح، بالإضافة إلى ترميم القدرات وبناء تقديرات مواقف تُناسب الواقع الحالي، يجب ألا تتوقّف الجهود العربية، والمؤمّل البناء على الهدنة بالتعاون مع الطرف الأميركي لتحقيق وقف نهائي للحرب، لما فيه من مصلحة للجميع.
————————————
مهمّة حزب الله/ فاطمة ياسين
26 نوفمبر 2023
تفاعل حزب الله سريعا مع أحداث 7 أكتوبر، فما إن شنت إسرائيل أول غاراتها على غزّة حتى بادر في فجر اليوم التالي إلى إطلاق مجموعة قذائفَ صاروخية على مزارع شبعا، المنطقة التي يعتبرها أراضي لبنانية تحتلها إسرائيل، فردّت الأخيرة بقصف مناطق حدودية وقرى تساند الحزب تقع على تخوم الحد الفاصل بين فلسطين المحتلة ولبنان. وبدا هذا التدخل السريع من حزب الله مدروسا بعناية، فالحزب يقصف مناطق يعتبرها لبنانية، ولا يرغب بالانغماس في الحرب التي بدأت مع وصول أخبار الهجوم الحمساوي غير المسبوق على غلاف غزّة. لم يتوقّف مسلسل التراشق المتبادل بين حزب الله وإسرائيل عند هذه الحدود، فقد استمرّ يوميا ومتواترا، وبشدّات مختلفة ترتفع وتنخفض، مع المحافظة على منطق الردّ والردّ المقابل بقوى نارّية شبه متعادلة، من دون أن يبدأ أي من الطرفين تصعيدا عنيفا يجرّ الطرف المقابل إلى مواجهةٍ أكبر تشترك فيها قوات ضخمة، أو نيران كثيفة تستمر فترات طويلة، وقد سقط قتلى من الطرفين جنودا ومدنيين. ولم يتأثر الموقف كثيرا مع تفاقم الوضع في غزّة، فقد دخلت القوات الإسرائيلية إلى القطاع، وتمركزت بأعداد كبيرة في الشمال، واستطاعت السيطرة على مستشفى الشفاء، لكن الحدود حافظت على زخم معتدل في القتال.
يمتلك حزب الله في سيرته الذاتية تاريخ تصادم مع إسرائيل، كان آخرها وأكثرها عنفا في العام 2006، في مواجهة شاملة نتجت عن حادث حدودي أصغر بكثير من حوادث 7 أكتوبر وهجوم حماس الكبير، فقد هاجم حزب الله وقتها عربتين إسرائيليتين وقتل ثلاثة جنود وأسر اثنين، أطلقت بعدها إسرائيل هجوما شاملا استمر 34 يوما انتهى بقرار مجلس الأمن 1701، الذي وضع ترتيبات لوجود حزب الله في الجنوب، وأفسح المجال للجيش اللبناني، ولكن سيطرة حزب الله على الحدود عادت تدريجيا على حساب الجيش اللبناني. أما المواجهات المباشرة بين الحزب وإسرائيل فتقلصت إلى أقصى حد، وقد كانت جهود حزب الله في الداخل أكثر وضوحا، خصوصا وأن الجيش السوري كان قد انسحب من لبنان قبل ذلك بعام، وظهر بوضوح نفوذ حزب الله السياسي بديلا عن السوريين، حيث أصبحت كلمته هي الراجحة في عمليات تشكيل الحكومات وانتخاب الرؤساء. وبسبب مواقف حزب الله تعطل تشكيل حكومات وترشيح رؤساء. والآن يعيش لبنان من دون رئيس جمهورية، وفي ظل حكومة تصريف أعمال، وفق شلل واضح للقدرات السياسية للبنان، ما يعود إلى حجم حزب الله الكبير في الشارع السياسي.
تأسّس حزب الله في ظروف الحرب الأهلية اللبنانية، وضمن مشروع إيران الواسع للمنطقة، حيث استفادت إيران من رخاوة الوضع في لبنان، واستثمرت في التعاون السوري لإنشاء الحزب ورعايته، ليكون ذراعا عسكريا وسياسيا في الداخل اللبناني. ولعب دوره هذا طوال الفترة الفاصلة منذ تشكيله، وبدا مناورا بارعا في التعامل مع إسرائيل، فاستطاع أن يحافظ على توازنٍ غير معلن ترتفع فيه درجة المواجهة وتنخفض بشكل مدروس ومبرمج، بحيث لا يفقد حزب الله موقعه السياسي والعسكري المميز في الداخل اللبناني. وقد أوجدت الحرب السورية دورا إضافيا له في الداخل السوري أدّاه بمهارة، استفاد منها أخيرا بتوسيع جبهته مع إسرائيل، لتشمل مناطق من الجنوب السوري بمساندة إيرانية. ومن المستبعد بعد هذا التاريخ الحافل أن يغامر بذلك كله في سبيل حرب تجري في غزّة ليست في صالحه. وتراشقه اليومي سواء ارتفعت حدّته أو انخفضت لن يرقى إلى مستوى مواجهة شاملة يفقد فيها الحزب نفسه، ويفقد موقعا متميّزا لمؤسّسيه، فما زال بحاجة لموقعه في الداخل، وهو الهدف الأساسي لتأسيسه، ولا يبدو من نية لتغييره أو تمديده الآن، ولا في أي فترة مقبلة.
—————————–
عن واقع المرأة في الحرب على غزّة/ سوسن جميل حسن
25 نوفمبر 2023
حملة “اتّحدوا” الأممية هي 16 يومًا من النشاط لمناهضة الـ”عنف ضد المرأة والفتاة”، ابتداءً من 25 نوفمبر/ تشرين الثاني وانتهاء بيوم 10ديسمبر/ كانون الأول، وهو اليوم الذي يُحتفى فيه باليوم العالمي لحقوق الإنسان.
لافتٌ ومثيرٌ هذا الإشهار، فهو يشير إلى مدّة حدّاها عنوانان كبيران، وارتباطهما بعضهما ببعض يجعل من الحياة المرتقبة وردية في ذهن القارئ، خصوصا لجهة حقوق الإنسان، المنتهكة بالنسبة للمواطن العربي بشكل عام، والمواطن الفلسطيني بشكل خاص، والمرأة بشكل أكثر خصوصية، فالمرأة هي أيضًا “إنسان”، بينما حقوقها منتقصةٌ حتى في أزهى حالاتها الاجتماعية في أي بلدٍ من البلدان التي يحمي دستورها وقوانينها مواطنيها قولًا بالتأكيد، وفعلًا إلى درجة كبيرة، حيث توجد دول مؤسسات وقوانين، فكيف بواقع المرأة الفلسطينية اليوم في غزّة، التي تعاني من الأساس في فترة الحصار الممتدّة؟
وتحت عنوان حقائق وأرقام، جاءت هذه الإحصاءات: تُقتل خمس نساء أو فتيات في كل ساعة على يد أحد أفراد أسرهن. تعيش 86% من النساء والفتيات في بلدان لا توجد فيها أنظمة حماية قانونية من العنف القائم على النوع الاجتماعي. وهذا يدلّ على أن الأمم المتحدة تركّز في أنشطتها هذه على العنف الممارس ضد المرأة في أوقات السلم تحديدًا، خصوصا ذلك العنف المرتبط بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية لدى الشعوب، والموقع الذي تشغله المرأة في هذه المجتمعات، بينما تضيع حقوق المرأة، وتنزاح هويتها البيولوجية والنفسية إلى الهامش في أوقات الحروب. وفي الواقع، فإنها تدفع الفاتورة الأبهظ في الحروب، ولدينا اليوم مثال صارخ في الحرب التي تشنّها إسرائيل على قطاع غزّة، وفي الحملة التي تقوم بها بكل أشكال العنف على مناطق الضفة الغربية ومخيّماتها. وممّن شملهنّ إعلان القضاء على العنف ضد المرأة، الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1993، في تعريف العنف ضد المرأة: المهاجرات واللاجئات، ونساء الشعوب الأصلية.
مرّت المرأة الفلسطينية التي هي من “الشعوب الأصلية”، منذ النكبة وإعلان قيام دولة الاحتلال في 1948، مرارًا في طور “التهجير” و” اللجوء” ضمن أرضها، وخارجها، وعانت من وطأة الحروب على طول مسيرة الآلام الممتدّة هذه. وعندما نتابع هذا السعير غير المسبوق للعنف والجريمة الجماعية في قطاع غزّة، تنهض أسئلة كثيرة بشأن واقع المرأة فيها، بين حدّي العمر من الولادة حتى الشيخوخة، وكيف تمارس عليها الحرب جبروتها والعنف في أعتى أشكاله، لكونها امرأة، من دون الالتفات إلى هذه الخصوصية.
تعاني الفتاة، منذ شهورها الأولى، من نتائج انعدام الظروف الصحية والحياتية، فهي معرّضة، بسبب انعدام المياه وسبل العناية بالنظافة الجسدية والإسهالات المتفشية، من التهاب الطرق البولية، وهذا شائع لدى الفتيات أكثر من الذكور، كذلك الإصابة بالفطريات. سوء التغذية ونقصها، انطلاقًا من شحّ حليب الأطفال، وشحّ الإرضاع بسبب تأثر المرضعات بظروف الحرب أو إصابتهن أو موتهن، ثم نقص الغذاء في المراحل التالية من أعمارهن، وما ينجم عنه من فقر الدم المزمن، وما يؤدي إلى اضطراب في النمو الجسدي والروحي والذهني، وتأخّر البلوغ، بالإضافة إلى الحالة النفسية وتأثيرها على البلوغ، إن كان بلوغًا باكرًا أو متأخرًا. حرمانها من اللعب، وأهميته في التطور الروحي والحركي، وحرمانها من فرص التعليم، ما يزيد مستقبلًا من تبعيتها وحبسها في الصورة النمطية للمرأة في مجتمعات هي في الأساس لا تحظى فيها المرأة بالتكافؤ المطلوب بينها وبين الرجل.
وفي عمر المراهقة، عدا التأثيرات التي تتشارك فيها مع الفتيات الصغيرات من الناحيتين الصحية والغذائية وغيرهما، هناك تأثير الحرب وما تسبّبه، عدا الإصابات الجسدية، من خوفٍ وقلق، وانعدام القدرة على الحلم والخيال والطموح، زيادة على الخجل وعدم القدرة على التعامل مع الجسد، في مرحلة انتقالية بالغة الحساسية بين الطفولة والبلوغ.
المرأة في حاجاتها الخاصة التي تتطلبها فيزيولوجية جسدها دوريا كل شهر، وما يترتب على هذه الفترات الدورية من تدبير وعناية صحية لدى نساءٍ نشأن على مراعاة خصوصية الجسد الأنثوي التي تتطلب نوعًا من السرّية الحميمة تفرض إنجاز هذه الأمور بطريقة فائقة التكتّم والخجل، فكيف تتدبر أمرها، بينما أبسط الحاجات غير متوفرة من فوط صحية أو حمامات أو دورات مياه، وعدم توفّر إمكانية الاغتسال؟ عدا الهبوط النفسي وما يرافق هذه الفترات الفيزيولوجية الدورية من اضطرابات مزاجية وعاطفية، زيادة على الألم، بينما تكون مرهونة في كل لحظة للرحيل السريع، أو القلق والتوتّر في انتظار الموت، أو الحزن على الفقد.
المرأة الحامل، ولا بد من الإشارة إلى وجود خمسين ألف حالة حمل بين نساء غزّة عند بداية الحرب الحالية، متوقّع أن تلد شريحة كبيرة منهن في هذا الشهر، منهن من وضعن، منهنّ من استشهدن، ومن هؤلاء من استشهدن ونجا مواليدهن، ومنهن من يرزحن تحت خوف إضافي من لحظة ولادة في غير موعدها تحت القصف وفي خضمّ الموت، وخروج ثلثي المستشفيات من الخدمة، وندرة وسائل الوصول إليها بسبب كل ما يرافق هذه الحرب. ما يلفت النظر في هذه المناسبة، ومن خلال إصرار الشعب الفلسطيني على الحياة، هناك بعض الناشطين في القطاع الصحي، خصوصا الأطباء، على “يوتيوب”، يقدّمون شرحًا فيه توعية بالولادة وإرشادات، فيما لو حصلت للمرأة، وهي وحيدة من دون معين، وكيف تواجه حالتها، في محاولةٍ للتخفيف من الخوف الذي يرقى إلى الذعر من الوقوع في حالةٍ كهذه، ألا يحيلنا هذا الوضع إلى بدايات النوع البشري والفطرة الأولى، ونحن في عصر الثورة الرقمية وحقوق الإنسان؟
بالإضافة إلى الحالة النفسية وسوء التغذية والقلق والخوف، خصوصا من حالات ولادة كهذه وما فيها من انتهاك لحرمة الجسد، يؤثّر هذا كله على نمو الجنين في الرحم، واحتمال ولادة أجنّة ناقصي الوزن أو خدج، يحتاجون إلى رعاية ودعم في حواضن آلية، كل العالم شاهد ما يحصل للخدج في هذه الحرب. ثم المرأة النفساء المعرّضة في الأحوال العادية لاختلاطات أو أمراض عديدة، فيما لو حرمت من الرعاية والحياة الصحية، فكيف في ظروف الحرب، وما تسبّبه من انتهاك لكيانها ولأمومتها؟ الأم الفلسطينية تطعن في أمومتها بشتى الطرق. كذلك النساء المسنات وغالبيتهن ممن هُجّرن ونزحن أكثر من مرّة، كما حال الفلسطينيين منذ 75 عامًا، وهنّ الآن في مرحلة أمراض العمر الذي لم يكن كالأعمار التي تعيشها النساء في الحالة الطبيعية، وهي من حقّهن، كما تحتاج المرأة المسنّة إلى المساندة والدعم في هذه الظروف التي ترمي بالأفراد إلى الجحيم في كل لحظة، أو إلى طريق النزوح، حيث لا مأمن أيضًا، بينما ذاكرتها تنهمر عليها بتغريبةٍ بدأت منذ عقود ولم تنتهِ؟
إذا كانت هذه المقالة أضاءت على بعض الزوايا الخاصة بما تخلفه الحرب من انتهاك للمرأة الفلسطينية وأشكال كثيرة من العنف بحقّها، فهناك أيضًا زوايا ستكشفها الأيام مستقبلًا، عما تكون قد خلفته الأسلحة التي استخدمت في الحرب من تأثيرات مستقبلية على جسد المرأة لناحية أجهزتها الأنثوية، وخصوبتها. المرأة الفلسطينية في بؤرة جحيم العنف، تهديد العنف ماثل في وجهها منذ صرختها الأولى حتى صراخها الأخير وهي تفقد أبناءها، تفقد زوجها وتصبح مسؤولة عن أولادها الباقين، تفقد ذويها وتصبح يتيمة وحيدة في مواجهة الخوف والقتل وانتهاك حرمتها، جسديًّا ونفسيًّا.
ألا تستحقّ من العالم، ومن الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومن الجمعيات المدافعة عن حقوق المرأة، والجماعات والمنظمات والمؤسّسات النسوية، وجمعية حقوق الإنسان، وغيرها وغيرها، الالتفات إلى واقعها والدفاع عنها في وجه العنف المتخلّق أشكالًا لا تحصى بحقّها، خصوصًا أن غالبية من حصدتهم الحرب الجبارة الوحشية هذه من النساء والأطفال، مع أنهم لا يحملون السلاح؟
—————————–
“بقاء” في محاولة فعل أيّ شيء/ رشا عمران
25 نوفمبر 2023
نادراً ما يحدُث أن يقيم فنان تشكيلي معرضاً فنياً تفاعلياً يشارك فيه أشخاصٌ من مختلف الأعمار، سواء في فترة التحضير للمعرض، أو في وقت عرضه في صالة العرض المخصّصة، ويكون له تأثير كبير على الجمهور في الوقت نفسه، بحيث إنك تتجوّل في المعرض، وأنت تمسك قلبك بين يديك، خشية أن يسقط فوق الحطام المتناثر على أرض الصالة. معرض “بقاء” للتشكيلية والخزّافة المصرية، هبة حلمي، المقام حالياً في قاعة الباب، التابعة لقطاع الفنون التشكيلية في دار الأوبرا المصرية، فعل هذا بنا تماماً.
سوف تدخُل من باب القاعة، لتواجهك أكفانٌ بيضاء طويلة معلّقة من السقف وممتدّة حتى الأرض، مكتوبٌ عليها بخطوط مختلفة آلاف الأسماء، وفي قلب الأكفان مربّعات بيضاء صغيرة خيطت إلى الكفن الأبيض بخيوط سوداء، مكتوب فيها بخطّ هبة حلمي اسم واحدة من العوائل التي فقدت العدد الأكبر من أطفالها في غزّة ومحاطة بآلاف الأسماء المفردة؛ سوف تمشي في القاعة، لترى مزيداً منها، قبل أن يأخذك الطريق نحو مساحة مغلقة بأكفان بيضاء، خالية من الأسماء، تضم آلافاً من قطع الجصّ الناشف المتكسر المدموغ كله بدمغة حنظلة (الرمز الفلسطيني الأشهر)، وبكثير من الأسماء التي كان لها قبل أقلّ من شهر أجساد وأحلام وروائح، لولا أن فتكت بها سفالة هذا العالم، وحوّلتها إلى أسماء مجرّدة. عليك هنا أن تمشي بحذرٍ بين الجص المتكسر، بين هذا الدمار الذي تراه بأمّ عينيك، عليك أن تحرص على ألا تتباهى بقوّة قدميك، فتدهس أنت أيضاً ما سيتبقّى من هذا الدمار. عليك ألا تنسى ذلك، كي لا تصبح شريكاً في الجريمة بنسيانك أو بلامبالاتك؛ ستتُرك هدا المربّع المدمّر، لتجد نفسك أمام باب القاعة من جديد، لكنك، قبل خروجك، سترى كفناً آخر، وبجانبه أقلام متنوّعة. ستتناول منها قلماً، وتكتب ما يخطُر لك وأنت تخرُج من التجربة، مشحوناً بالحزن والغضب والذاكرة.
نعم، الأسماء المكتوبة على الأكفان البيضاء هي أسماء الأطفال الذين سقطوا في غزّة خلال الشهر الماضي، بسلاح الاحتلال الإسرائيلي والعالم الأبيض والتواطؤ العربي. أما المعرض الذي كان مقرّراً أن تقيمه هبة حلمي قبل 7 أكتوبر، وتعرض فيه جديد أعمالها في فنّي الخط والخزف، فهي لم تستطع إكماله، وأخبرت إدارة القاعة بأنها سوف تلغي مشاركتها أو تقدّم ما يمكنه أن يساند الفلسطينيين في حرب الإبادة التي يتعرّضون لها؛ فكان معرض بقاء “بقاء الحياة، القضية العادلة، المقاومة، بقاء الشعب العنيد، بقاء غزة حرّة والشهداء أحياء”، كما تقول هبة في تقديمها المعرض الذي ليس سوى إحدى محاولاتنا المحدودة للحفاظ على الحكاية حاضرة دائماً، كي لا يطويها النسيان، كما لو أن هبة حلمي هنا تعيد الحكاية كل يوم لمن يزور قاعة الباب، كما لو أن اسم القاعة (الباب) هو المدخل إلى الذاكرة التي يريد عدوّنا طمسها بكل تفاصيلها، وتحويلها إلى ترابٍ ناشفٍ لا يمكن إعادة تجميعه. ولكن لدى هبة حلمي في مشروع “بقاء” اقتراح آخر، أن تكون المشاركة الجماعية هي الماء الذي يُضاف إلى التراب، كي نتمكّن من إعادة تشكيله، كي نجعله عجينةً نعيد من خلالها تأسيس ذاكرةٍ جمعيةٍ ننقلها إلى أولادنا وينقلونها إلى أولادهم، فلا ينسى أحد من سلالاتنا ما حدث على هذا “الكوكب الوحشي”.
تقول هبة إنها، في أثناء التحضير للمعرض في بيتها، فوجئت بأصدقائها يُحضرون أطفالهم وأطفال أقاربهم ليدوّنوا أسماء أطفال غزّة على القماش الأبيض؛ “كان الأطفال يسألون عما يحدُث هناك، ويستمعون بدهشة. كانت الدهشة تتحوّل إلى دمعةٍ محبوسةٍ في عيونهم الطفلة. كانوا متفاعلين مع المشروع بدرجةٍ مدهشةٍ في الوقت الذي عجز به كثيرون من الكبار عن كتابة أي شيءٍ على القماش الأبيض”. تقول هبة حلمي لي وأنا أتجوّل معها في القاعة، نمشي بين الأسماء والأنقاض: “كنتُ أريد أن أفعل أي شيء، أن أتشارك هذا الغضب مع الآخرين”. شعرتُ أيضاً كما لو أن هذا المعرض ليس سوى محاولة لقول شيءٍ ما وسط هذا العجز الذي نعيشه جميعاً، محاولة للقول لأهل غزّة إننا معهم، ونشعر بهم ونحفظ أسماءهم، ونردّد حكايتهم/ حكايتنا التي ورثناها عن هزائم متلاحقةٍ لم يبق من أملٍ في طيّها سوى هذا الصمود النادر الذي فيهم، والذي استطاع أن يفتل رأس الكرة الأرضية ليحدّق بهم وحدهم.
—————————
ممكنات البناء على الهدنة/ عمر كوش
24 نوفمبر 2023
أسئلة عديدة تُطرح بعد إعلان الدوحة التوصل إلى اتفاق على تنفيذ هدنة إنسانية يتم فيها تبادل محتجزين مدنيين لدى حركة حماس مع أسرى نساء وأطفال لدى إسرائيل، تطاول ممكنات البناء عليه، بهدف تحويله إلى اتفاق شامل لتبادل عموم الأسرى لدى الطرفين، وصولاً إلى وقف إطلاق نار دائم، بما يفضي إلى إنهاء حرب الإبادة والتدمير التي تشنها إسرائيل على قطاع غزّة بعد عملية 7 أكتوبر (طوفان الأقصى) التي نفذتها كتائب الأقصى (حماس) وسرايا القدس (الجهاد الإسلامي).
يدعم ممكنات البناء على هذه الهدنة أن الدوحة لم تكن وحدها الطرف الوسيط بين إسرائيل و”حماس”، فإلى جانب القاهرة، كانت الإدارة الأميركية حاضرة في مختلف تفاصيل الصفقة، ومارست ضغوطاً على رئيس حكومة الحرب الإسرائيلية، نتنياهو، بغية التوصل إلى هدنة إنسانية. وبالتالي، سيغري نجاح الصفقة اللاعبين الإقليميين والدوليين الذين ساهموا في إتمامها للمضي أكثر في وساطتهم بهدف التوصل إلى صفقة أكبر.
لا أحد يستطيع الجزم بعدم إمكانية حدوث خروق خلال عملية تنفيذ الصفقة، التي تتطلب على الأقل وقف كل أشكال الحرب أربعة أيام، خصوصا في ما يتعلق بوقف العمليات الاستخباراتية الإسرائيلية، وإدخال كمّيات كافية من مواد الإغاثة الإنسانية والمواد الغذائية والمحروقات التي ينتظرها سكّان غزة، وهم بأمسّ الحاجة إليها، فضلاً عن معالجة الجرحى والمصابين وتأهيل (وتشغيل) المستشفيات التي استهدفتها المقاتلات الإسرائيلية.
في المقابل، مع تنفيذ تبادل المحتجزين المدنيين وفق ما تنص عليه الصفقة (قد تعترضها بعض الصعوبات) من الممكن التكهن باحتمالات حدوث تغيرات في الحرب، بما يعني دخولها مرحلة جديدة أقلّ حدّة، وعلى الأرجح من دون أن يعني هذا التحوّل وقف الحرب نهائياً، خصوصا وأن لها أبعاداً كثيرة، وهناك متشدّدين يمينيين في حكومة الحرب الإسرائيلية لا يريدون إيقافها، ويطالبون بألا تُفضي الهدنة الإنسانية إلى تبريد ساحات القتال، والتأثير على معنويات جنود جيش الاحتلال ونفسياتهم، بما يفقد التوغل البرّي الإسرائيلي في قطاع غزّة زخمه، وينظرون إلى الصفقة بوصفها عملية اضطرارية، ولا مناص من دفع ثمنها، لكنها باتت أمراً مفروغا منه. لذا، الترقّب سيد الموقف، بانتظار كيفية تطبيق بنود الصفقة، في ظل تزايد التساؤلات بشأن كيفية تأثيرها على الحرب الإسرائيلية واستئنافها، بالنظر إلى إمكانية نشوء ديناميكيات مختلفة، من شأنها أن تعرقل استئناف القتال، مثل عمليات المدّ والجزر، وربما المناورة والمماطلة بغرض عرقلة عودة عمليات الحرب، وخصوصا إذا ازدادت الضغوط الدولية على إسرائيل.
ثمّة من يتفاءل كثيراً ويذهب، بلغة التحليل، إلى أن نجاح صفقة التبادل سيشكّل بداية لنهاية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة، فيما ثمّة تعويلٌ على أنه إذا دخلت طواقم صحافية أجنبية، وكشفت أعداد القتلى الفلسطينيين وحجم الدمار الذي لحق بالقطاع، فسيزيد ذلك الضغوط على ساسة إسرائيل من أجل إيقاف حربهم، إضافة إلى أن الدعم الغربي قد يتراجع بعد استعادة إسرائيل محتجزيها المدنيين، لكن واقع الحال يظهر أن ساسة إسرائيل وجنرالاتها سيمضون في حربهم على أهالي غزّة، بغية تحويل كل مناطق شمالي القطاع، وخصوصا مدينة غزّة، إلى منطقة مدمّرة، وبلا مقوّمات للحياة، ولن يسمحوا بعودة ساكنيها ضمن مخطّط التهجير القسري الذي اتّبعوه، لأنهم عملياً يسعون إلى إزالة غزّة من الوجود، فضلاً عن أن حربهم مرشّحة للامتداد إلى الضفة الغربية، في إطار سعي حكام إسرائيل إلى تهجير قسم من سكّانها إلى الأردن، بغية تنفيذ مخططاتهم القديمة التي يحلمون بتحقيقها.
وتثير موافقة حكّام إسرائيل، وكلهم من أصحاب الرؤوس الحامية، على الصفقة التي تتضمّن وقف إطلاق النار أربعة أيام وتبادل المحتجزين، تساؤلات بشأن موافقتهم عليها بعد 46 يوماً من الحرب، فقد كانوا يرفضونها طوال هذه المدّة، ويشترطون إفراج “حماس” عن المحتجزين قبل كل شيء، لكنهم في النهاية قبلوا بها، الأمر الذي يشي بتغيّر أهداف حربهم، وتغير أولوياتها من القضاء على “حماس” أولاً، إلى استعادة المحتجزين في صفقة مع الحركة نفسها. وتجد الإجابة على هذه التساؤلات في عدة عوامل أفرزت ضغوطا داخل إسرائيل وخارجها، أبرزها تزايد الضغوط الشعبية من ذوي المحتجزين على نتنياهو وحكومته، وذلك بعد أن عجزت الآلة العسكرية التدميرية الإسرائيلية عن استعادة أيٍّ منهم طوال أكثر من شهر ونصف الشهر، حيث أوهمت حكومة الحرب أن الحملة البرّية لجيشها ستُفضي إلى القضاء على حركة حماس والإفراج عن المحتجزين، وطالبتهم بالصبر، وبمنحها مزيدا من الوقت، فيما ظهر العكس تماماً لأهالي المحتجزين، إذ أودت عمليات القصف التدميري العشوائي الإسرائيلي بحياة عديدين منهم، بدلاً من إنقاذهم. لذلك اضطرّ حكام إسرائيل لقبول الصفقة، كي لا تتحوّل قضية المحتجزين إلى عامل تأزيم للوعي الإسرائيلي، ويهزّ ثقة الإسرائيليين بهم، ويضرب عرض الحائط بسمعة الدولة العبرية التي طالما أرادت تصوير نفسها المدافع الشرس عن حياة اليهود داخل إسرائيل وخارجها. ولذلك انبرى عدّة جنرالات، وساسة إسرائيليون في الدفاع عن الصفقة، واعتبارها “قراراً صائباً وشجاعاً”.
أخيراً، يشير إبرام صفقة تبادل المحتجزين والهدنة إلى أن حكّام إسرائيل يخوضون حرباً من دون أي أفق سياسي، وكل ما يريدونه استعادة قوة الردع التي افتقدتها إسرائيل في 7 أكتوبر، وذلك كي يعودوا إلى التفكير مجدّداً في كيفية إلغاء الشعب الفلسطيني ومحوه.
——————————
غزّة حرّية وبس/ بشير البكر
24 نوفمبر 2023
تتطوّع غزّة، بين وقت وآخر، لتعليم الجميع بعض الدروس البسيطة. ورغم أنها أساسية جدّا، لا أحد يريد أن يتعلم منها. ترفض إسرائيل أن تستوعب أن عهد الاستعمار انتهى. أما العرب، فإنهم لا يملكون القابلية الكافية للتضحية من أجل الحرّية. ومع أن الدروس مجّانية، فهي عالية الكلفة، لأنها تتوالد من الحروب المتوالية على هذا الكيان الصغير. ويصرّ الجميع على أن يديروا ظهورهم للمكان وأهله، ليدفع هؤلاء ضريبة الحرية عالية، أكثر من أي شعبٍ على الأرض. وفي حساب إسرائيل، حياة الغزّاوي أرخص من حياة أي كائنٍ آخر، لأنها محسوبة بما تسمح به من حرية فوق الأمتار القليلة، التي يعيش عليها كل مواطن وُلد هناك، وبعدد الأطنان من المتفجّرات التي ترميها في كل حرب. وكلما كبر حلم أهل القطاع تقلّصت مساحة السجن. وكلما ازداد الحصار، ارتفع منسوب الأمل بالخلاص من الاحتلال، واستمرّ فتيل النار بالاشتعال، وولدت أجيالٌ جديدة غير قابلة للهزيمة، لديها إرادة لا تقهر، وأكثر إصرارا من الآباء والأجداد، على تقويض الأساطير والخرافات التي بنتها إسرائيل بالقوّة المسلحة.
تقتل إسرائيل في كل حرب آلافا من أهل غزّة. وتنسحب إلى المستوطنات وهي مطمئنة إلى أنها قضت على خطر هؤلاء، الذين لا يتركونها تُغمض عيونها وترتاح إلى حلم ابتلاع فلسطين. تمارس، في كل جولة، الكمّية القصوى من العنف والتدمير. ما هو فوق طاقة التحمّل بكثير، كي تجرّد أهل غزّة من حقوقهم في مياه نظيفة، وزراعةٍ خاليةٍ من السموم، ووصولٍ آمن إلى البحر. وتحصرهم داخل جدران هذا السجن المستطيل، الذي توكل للسلطات المصرية مفاتيح بوابته الجنوبية. ولو كان في مقدور هذه المستعمرة الغربية المدلّلة أن تقطع الأوكسجين عن غزّة، لما تردّدت عن فعل ذلك. هي التي لم تفكّر لحظة في عواقب إبادة آلاف الأطفال، وتدمير بيوت هؤلاء الفقراء، التي بنوها بتعبهم وشقائهم. وبعد أسبوعين من الحرب، تبيّن، من القدر الهائل للأسلحة التدميرية التي استخدمتها إسرائيل، أن القسم الأكبر من شمال قطاع غزّة لم يعد صالحا للسكن، وتحوّل إلى مقبرة كبيرة، مرشّحة لتوليد الأوبئة. وهذا أمرٌ اعترف به المسؤولون الإسرائيليون، الذين برّروا السماح بإدخل كميّاتٍ محدودة من الوقود، بأنه من أجل منع هذه الكارثة الصحية من أن تصل إلى جنودهم. وهم بهذا يعترفون بارتكاب جرائم حربٍ غير مسبوقة، ويسجّلون على أنفسهم تمييزا عنصريا مفضوحا.
يتّصف قادة اسرائيل بقدرٍ لا يُضاهى من جنون القوة. لذلك يجرّبون في كل حربٍ كل ما يملكون منها، ويطلبون من الولايات المتحدة المزيد. ولا تبخل عليهم واشنطن، حتى بقنابل الفوسفور التي تحرق التراب، وتحوّله إلى رماد. لكن أرض غزّة عنيدة، تستعيد خضرتها من جديد، وتعطي أهلها الإحساس بالقوة والشجاعة والتضحية، وتجدّد فيهم طاقة المقاومة. وفي كل حربٍ يتعهّد الإسرائيليون بأنها ستكون الأخيرة، وأنهم سيبيدون حركة حماس، ويغيّرون وضع غزّة كليا. ثم سرعان ما تعاود رفع رأسها، لتخرج من تحت الركام أقوى. ومع ذلك، لا يريد قادة إسرائيل تعلّم الدرس. وبدلا من ذلك، يرجعون إلى الدوران في حلقة مفرغة. وقد لا تكون هذه الجولة حاسمة، لكن غزّة لم تتكبّد هذه الأثمان، وتتحمّل كل هذا الألم، كي تعود إلى نقطة الصفر، وخصوصا أنه، إلى جانب الصمود والتضحيات الكبيرة، تبلور رأي عام عالمي، على نحوٍ لم يسبق له مثيل. للمرّة الأولى، يشهد العالم هذا الزخم مع الحرّية لفلسطين، وفي مواجهة الابارتهايد الإسرائيلي. ولذا، تشكّل الهدنة فرصة للتأمل. وكما في كل حرب، حينما تصمت المدافع تدقّ ساعة الحساب.
————————
عن انعكاسات الحرب على الكُرد في سورية والعراق/ شفان إبراهيم
24 نوفمبر 2023
تسبّبت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة وأهله بخلط الأوراق وزيادة تعقيد المشهد، وإشعال فتيل أزمة إقليمية ودولية. ومن الواضح أن إسرائيل ترغب بتوجيه ضربة قاصمة لحركة حماس، وتقول المعطيات إنها لن تكون كسابق الحروب، قصقصة للأجنحة أو توجيه ضرباتٍ موجعة، بل ثمّة رغبة إن لم تكن بإزالة حركة حماس، فهي شل قدراتها العسكرية إلى أبعد حد ممكن، وبما يُفقدها حركيّتها العسكرية والأمنية والسياسية في عموم فلسطين والمنطقة، ربما لعقود بعيدة، خصوصا مع فشل روسيا في ترجمة المشروع الذي صاغته في مجلس الأمن ووقف إطلاق النار، رغم حصوله على تسعة أصوات من 15.
ورغم ضعف فرص توسيع دائرة الصراع، لا مؤشّرات لتوقف حدّيته أو تداعيات الحرب ونتائجها في المدّة الطويلة المقبلة ضمن قطاع غزّة وعموم فلسطين، من حيث تدمير البنية التحتية، ومئات الآلاف من المُهجّرين عدا المفقودين، ومن فقد حياته خصوصا من المدنيين، والآثار النفسية والاجتماعية على القواعد الاجتماعية. وإذا كانت تلك النتائج مخصّصة لأهالي غزّة وفلسطين، فإن سورية والعراق لن تكونا في منأى عن دائرة الصراع إذا اتّسع رحاها، أو طاول القصف الجوي القواعد العسكرية الدولية على أراضيها، بسبب وجود الفصائل والتشكيلات العسكرية الإيرانية في كلتا الدولتين، والداعمة لحركة حماس. علماً أن خروج الحرب من إطار محلي إلى إقليمي سيعني مزيدا من التهديدات على أمن التحالف الدولي نفسه ومصالحه في سورية والعراق، وستكونان من أكثر المناطق المشمولة بالتأثيرات المباشرة للحرب، خصوصا إقليم كردستان العراق، بحكم وجود قواعد أميركية في الإقليم، واحتمال تعرّضها لمزيد من القصف الصاروخي من الفصائل الإيرانية، إضافة إلى الاصطفاف السياسي لبعض الجهات الكردستانية ذات التواصل مع إيران، أو التي لها علاقات دعم متبادل معها، وستجد نفسها أمام قاعدة “ردّ الدين” لها أمام أيَّ تأثير أو خطر عسكري على أماكن القوات الإيرانية، عدا عن دفعها فاتورة اصطفافها مع إيران، فالأخيرة تمتلك أدوات تدخّل كبيرة ومفاعيل مباشرة للتأثير على القرار السياسي لكردستان، عبر أكثر من حزب سياسي تملك فاعلية مديدة في إحداث عراقيل أمام مزيدٍ من تطور الإقليم وتطبيق المواد الدستورية أو قضية الميزانية وتصدير النفط إلى تركيا. والأخطر أن بعض تلك الأطراف السياسية تمتلك أذرعا عسكرية مدرّبة ومموّلة، ولا يمكن تجاهلها بسهولة. في المقابل، الاحتمال الأرجح أن تجني أطراف كردستانية تقف في الضفة المقابلة لذلك المحور سياسياً وعسكرياً ثماراً طال انتظارها.
تجعل المخاوف على مصالح التحالف الدولي وقواعده القوات الأميركية في حالة تأهب واستعداد مستمرّ، خشية أن يشمل الاستهداف مزيدا من المصالح الغربية والأميركية في سورية والعراق، وحيرة القوات الأميركية أمام سيولة المشكلات بين كردستان والعراق المركز، وتكرار النخب السياسية العراقية تصرّفاتٍ وسلوكياتٍ من شأنها تقويض أمن الإقليم وحدوده وصلاحياته، سواء عبر تسييس المحكمة الدستورية أو إيقاف حصّة الإقليم من الميزانية، وحقّه في تصدير النفط، وقضية المناطق الكردستانية خارج الإقليم والمعروفة بمناطق المادة 140، يجعل من الوجود الأميركي صمّام أمان لإيقاع علاقة الإقليم مع العراق. كما أن كُرد سورية وشمال شرق البلاد ليسوا بعيدين عن نتائج الحرب على غزة وتأثيراتها وإفرازاتها، بسبب كثافة القواعد الأميركية والتحالف الدولي، خصوصا عبر خطوط التماسّ مع القوات السورية والإيرانية، لذا سيدفع كُل طرف فاتورة موقعه واصطفافه.
ستجعل تلك المخاطر على المصالح الدولية والقواعد العسكرية للتحالف الدولي ومصالحها الاستراتيجية من الوجود الأميركي في المنطقة ذات بعد استراتيجي طويل المدى، وستحتاج لمزيد من الحلفاء والأصدقاء وزيادة الدعم لها، لضمان حماية أمنها القومي الاستراتيجي ومصالحها في الشرق الأوسط. وربما لن تجد في عموم العراق أفضل من إقليم كردستان وقوتها العسكرية (البشمركة) حلفاء يُؤتمن لهم، وممارسة أقصى درجات الضغط العميق على السليمانية للإسراع بتوحيد جميع القطاعات العسكرية في الإقليم ومركزية القرار العسكري. ولن يكون مسموحاً للأحزاب المتحكّمة بالقرار في السليمانية بمزيدٍ من الرضوخ والتعامل مع حكومة المركز، إذا كانت موالية لطهران، وستجد السليمانية نفسَها محاصرة ما بين علاقاتها مع إيران، وموقع الاصطفاف في بغداد، والواجب القومي مع أربيل.
وبخصوص حماية قواعد التحالف الدولي في شمال شرق سورية، فإن الإدارة الأميركية قد تسعى إلى زيادة الدعم الدولي المشروط لقوات سوريا الديمقراطية. ووفقاً لذلك، تدور في مخيال النُخب المقرّبة والمحسوبة على الإدارة الذاتية إمكانية تزويد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بمضادّات صواريخ ونظام دفاع جوي لصد هجمات المسيّرات الإيرانية، وهو أمرٌ في غاية الصعوبة؛ فيمكن لقوات التحالف القيام بتلك المهام، إضافة إلى عدم رغبة التحالف وأميركا بإزعاج الجانب التركي، أو استفزازه بهذا الفعل، لكن من الممكن جدّاً حماية إقليم كردستان بنظام دفاع جوي، ولو لم يكن كما يرغب به الكرد.
في المقابل، فإن تكرار هجمات القوات الإيرانية “الخجولة”، خصوصا عبر المسّيرات ضد قواعد التحالف الدولي في سورية والعراق، رُبما تكون إحدى وسائل إيصال الرسائل الدبلوماسية والرغبة بعدم توسعة رقعة الحرب، والحصول على مرونة في تعامل الغرب معها، وهو ما بدا عبر تصريحات مسؤولين دبلوماسيين إيرانيين، إذا لم تهاجم إسرائيل إيران، فإن بلادهم لن تتدخّل في الصراع. ومساعي طهران لعدم فرض عقوبات جديدة عليها بتهمة دعمها عملية طوفان الأقصى. وستؤثّر هذه العقوبات، في حال فرضها، على أيَّ حليفٍ لإيران، ولن تكون بعض الأطراف الكردستانية ذات الصلة بعيدة عنها. وصحيحٌ أن احتمال توسيع رقعة الحرب المباشرة بين واشنطن وطهران ضئيل، لكن دائرة احتمالات الحرب “بالوكالة” تتوسّع في المنطقة عموما، وسورية والعراق خصوصا. وحينها ستكون التأثيرات المباشرة على كردستان العراق والمنطقة الكردية في سورية وشمال شرق سورية واضحة جداً، وستجد الأطراف الكردية المقرّبة من محور إيران، أكثر من محور أميركا، نفسها، مرّة أخرى، في ساحة مُحاصرة، خصوصا الأحزاب الإسلامية الكردستانية، المقرّبة من الإسلام السياسي، والمدافعة عنه.
الواضح أن الحرب على غزّة ستفرز واقعا جيواستراتيجيا جديدا، مع مزيد من الاحتياطات الأميركية والغربية للحفاظ على مصالحهم الاستراتيجية، وهو ما يقود حتما إلى تغيرات في السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط، ومنها زيادة الدعم والاستقرار في إقليم كردستان، يرافقه مزيد من الضغط على الإدارة الذاتية لتغيير سلوكياتها تجاه معارضيها والشروع بإصلاحات سياسية حقيقية، ليس أقلها الانتقال إلى مرحلة تفاوضية جديدة، وخصوصا أن الكُرد وعموم السوريين لم يتعافوا بعد من تأثيرات الحرب ضد “داعش”، ومن الأزمة الاقتصادية والجوع الكافر الذي يفتك بالمنطقة، واستمرار مخاطر تدخّل تركي جديد. وسيتسبّب أي تغيير، وتحوّل في قواعد الاشتباك الحالية ضمن جغرافية غزّة إلى حرب إقليمية، بمزيد من خلط الأوراق. وربما يساهمان، استهداف المسّيرات الإيرانية قواعد التحالف الدولي وانشغال الأخيرة بالتركيز على التصدّي لتلك الهجمات، في إعادة نشاط مسلحي تنظيم داعش في شمال شرق سورية ومناطق من العراق ولو جزئيا، إضافة إلى انتعاش حركة المعارضين والرافضين وجود قوات سوريا الديمقراطية في دير الزور، خصوصا المناطق المتاخمة لنهر الفرات، حيث توجد قوات حكومية سورية وإيرانية. ومع زيادة منسوب مشاعر الحقد والكراهية للقواعد الاجتماعية العربية ضد أميركا وإسرائيل بسبب الحرب على غزّة، فإن دعم التحالف الدولي “قسد” سيشكّل حافزا نفسيا جديدا لسلوكيات معارضة بحدّية جديدة. إضافة إلى أن توسيع رقعة الحرب خارج غزّة وتفرّغ التحالف الدولي لها في أماكن وجود قواعدها، ومنها الشمال الشرقي لسورية، رُبما يمنح تركيا فرصة استغلال الوضع لمزيدٍ من الضغط، سواء عبر رفع منسوب التهديدات، أو الطائرات المسيّرة، أو القصف الصاروخي، وإن كان التدخّل البرّي مستبعدا في تلك الحالة.
ووفقاً لتطور الأحداث وزيادة الاتصالات بين تركيا وإيران ودفاعهما عن “حماس”، قد تشهد القضية الكردية صعوداً جديداً، وخصوصا أن الوضع الداخلي لإسرائيل لا يسمح بإنهاء العملية العسكرية من دون “انتصار” للتغطية على ما تعرّض له أمنها القومي، واعتقال الجنود الإسرائيليين، عدا عن الفساد الداخلي للحكومة. لذا تسعى جاهدة لإلحاق الضرر الكبير بحركة حماس، وربما يقود ذلك إلى دخول بعض الأحزاب الكردستانية المقرّبة أو ذات العلاقات مع إيران في نفقٍ مظلم، وخصوصا إن العراق ساحة مصالح وتواصل وخلفية اقتصادية لإيران، وبالتالي، فتح الطريق أمام الضغط على باقي أذرع إيران في سورية والعراق.
——————————-
غزّة في ثورة السوريين: التضامن العابر للأجيال/ محمد الأشمر
23 نوفمبر 2023
يتحدّث السوريون دائما إن القضية الفلسطينية قضيتهم وامتداد لانتمائهم ونضالهم العربي والإسلامي، على عكس ما يتبنّاه نظام الأسد وحزب الله وايران، وما يسمّى محور الممانعة عن دوره في محاربة إسرائيل. تتحدّث النخب السورية دائماً إن تاريخ القضية الفلسطينية في سورية جوهري في كيان المجتمع السوري، وفي إرث القادة والمقاومين السوريين الذين شاركوا في محاربة الاحتلالين الفرنسي والبريطاني، والعصابات التي مارست التطهير العرقي ضد الفلسطينيين منذ مطلع القرن العشرين. ففي أوائل 1930، أصبحت دمشق المقرّ الرئيسي والعملياتي للجنة المركزية للجهاد الوطني في فلسطين، والتي كانت الهيئة السياسية والتنظيمية الاسمية للثورة العربية في فلسطين، والتي انضوى تحتها عديدون من قادة الثورة في دمشق وعموم سورية، ومنهم فوزي القاوقجي وسعيد العاص ومحمد الأشمر. وكانت إحدى أهم مهامهم دعم الثورة عسكرياً ولوجستياً ومالياً، والقبض على المتعاونين مع القوات والعصابات الأجنبية في سورية وفلسطين. ولم تكن المشاركة هنا محصورة في القيادات الشامية أو الإسلامية، بل كانت ما تسمّى “المفرزة الشاميّة الدمشقية” بقيادة فوزي القاوقجي ومحمد الأشمر تقاتل إلى جانب المفرزتين الدرزيّة والعراقيّة. وكان معهم نخبة المجتمع السوري، أمثال الصحافي ومؤرّخ تاريخ الثورات العربية، منير الريّس، بالإضافة إلى وئام وهاب قائد كتيبة جبل العرب، والتي شاركت أيضاً في معارك 1948.
ومنذ بدايات الثورة السورية في 2011، ظلت فلسطين، وغزة تحديداً، حاضرة في مظاهرات السوريين وهتافاتهم ولافتاتهم ضد نظام بشّار الأسد. وتعكس مظاهرات السوريين منذ عامها الأول عمق الوعي تجاه القضية الفلسطينية وارتباطه بها، والتي كانت جلية في الجغرافيا السورية من ريف دمشق ودرعا جنوباً إلى حلب والرقّة والحسكة شمالاً، ومررواً بحمص وريفها، والتي دائماً ما أكدت على وحدة النضال الفلسطيني والسوري ضد الاحتلال والاستبداد، وعلى أن القاتل فيهما واحد، وإن تحدّث بلسانين، ليعكس السوريون بتضامنهم أن جروحهم وتهجيرهم وحصارهم ودمار بيوتهم لا تشغلهم عن مشاركة الفلسطينيين آلامهم وآمالهم.
كان لصمود غزّة في العدوان الإسرائيلي عليها في العام 2012 حضورًا بارزًا في مظاهرات السوريين في مناطق عديدة، في ريف دمشق (القابون مثلا)، وريف حمص (الوعر)، وحلب (مساكن هنانو)، وشمال سورية في الحسكة (عامودا). وتضاعف زخم هذه المظاهرات والتضامن أكثر وضوحاً في أغلب المناطق السورية خلال العدوان الإسرائيلي على غزّة في 2014، وخصوصاً مع ازدياد سرديات نظام الأسد عن خيانة حركة حماس، وعن دفاعه عن مركزيته في محور المقاومة والصراع ضد الاحتلال الإسرائيلي. لقد تظاهر مئات في مناطق حلب وريف دمشق، بما فيها دوما المحاصرة، تضامناً مع غزّة في 2014 خلال العدوان الإسرائيلي ضد موقف نظام الأسد من المقاومة الفلسطينية، واتهامه فصائلها بنكران الجميل، لأنها رفضت التحالف معه ضد ثورة السوريين. وعلى الطرف المقابل، وبالروح والتضامن نفسيهما، كان أهل غزّة دائماً ما يتظاهرون تنديدا بالحصار والمجازر التي يتعرّض لها السوريون، وخصوصاً في أثناء حصار بابا عمرو في حمص ودوما في ريف دمشق ومجازر روسيا والنظام السوري في حلب وشمال سورية.
وخلال الحرب الراهنة في غزّة، ومع استمرار الاحتجاجات في السويداء بشكل شبه يومي في ساحاتها، يتضامن المحتجّون منذ بداية العدوان الإسرائيلي مع ضحايا غزّة، إلى جانب تضامنهم مع مناطق الشمال السوري في الحملة الشرسة التي تشنّها قوات الأسد وروسيا على إدلب وريفها. بالإضافة إلى المظاهرات التي تتضامن مع غزّة في المناطق المنكوبة في إدلب وريفها، وكل من درعا في جنوب البلاد والرقّة في شمال سورية.
والجانب الأهم في هذه المظاهرات في بلدات السويداء ودرعا وإدلب والشمال السوري أنها، وعبر هذه السنوات، أصبحت هي المنصّة والمنبر المركزي الذي يعبّر فيه السوريون عن رأيهم بمختلف انتماءاتهم وتياراتهم ومناطقهم، ولكنها أيضاً تجمع بينهم في القضايا المصيرية والمركزية بموقفهم تجاه نظام الأسد والقضية الفلسطينية ومطالبهم بالتغيير السياسي. وأحد أهم الشعارات الذائعة بين السوريين أن “الدم السوري والفلسطيني واحد”، وأن “من باع سورية لن يدافع عن غزة”، و”بشّار لنتنياهو: انتقم لي من حماس لأنني مشغول في ذبح الناس”، و”قسماً بربّ العزّة، بعد سورية على غزّة”، بالإضافة إلى الكاريكاتوريات التي تظهر بشّار الأسد صبيا عند إسرائيل وحكومة نتنياهو. ويمثل هذا عمق الوعي لدى السوريين، ويدحض ادّعاء نظام الأسد عن دعمه المقاومة الفلسطينية وخطابه ضد حركة حماس وخيانتها ونكرانها الجميل الذي قدّمه نظامه لها، وارتباط القضية الفلسطينية بقضية السوريين المتمثلة برفع الظلم والكرامة والحرية والعدالة.
من الناحية السياسية، يمكن فهم هذا التضامن مقطعا من نضال السوريين الشامل ضد القمع والاستبداد وارتباطهم بامتدادهم العربي، ومظهرا من الصراع العربي الإسرائيلي العابر للحدود والعابر للأجيال. حيث يركز السوريون على الحاجة إلى التغيير السياسي والتحوّل نحو نظام يحقق العدالة ويحترم حقوق الإنسان. ويُظهر دعم القضية الفلسطينية مشهدا من ثورة السوريين ضد الظلم والتمييز في مختلف المستويات.
وفي المناطق الثائرة عليه، في السويداء ودرعا، مضى النظام السوري في محاولات الدخول على خط شقّ صفوف المتظاهرين، تحت ستار التضامن مع أهالي غزّة، عبر محاولة إخراج مظاهرات مندّدة بالعدوان الإسرائيلي من الموالين له، لتكون بمثابة لبنةٍ على طريق إيجاد شارع مؤيد في مقابل الشارع المعارض له. ومع فشل هذه المحاولات، خرجت بعض المظاهرات تحت شعار التضامن مع غزّة. ومع احتدام العدوان والجرائم في غزّة، أوقف النظام جميع المظاهرات ومنعها، خوفاً من تطوّرها إلى مظاهرات مناوئة للنظام في ظلّ الحملة الهمجية على مناطق إدلب ومخيمات النازحين في شمال سورية.
—————————–
غرائب تحليلات أصحاب الوسائد العريضة/ أحمد عمر
23 نوفمبر 2023
تحليلاتٌ كثيرة مجرّد تمارين ذهنية. يقول سياسي مصري معروف، تختفي عيناه عندما يتحدّث، فلا تستطيع أن تعرف صدقه من كذبه: إنَّ هناك شبهة في أنَّ ثمة علاقة بين نتنياهو والسنوار، وإنَّ طوفان الأقصى عملية متفق عليها بينهما”. وهو تحليلٌ طريفٌ يتفق مصادفة مع هتافات المظاهرات في تل أبيب: “بيبي” هو خماس! وكان الخُلد المنتوف قد حثّ السيسي على المساومة على ثمنٍ جيّد لاستقبال النازحين من غزّة؛ وهو حصة من ماء النيل الذي فقده في القمار السياسي. السيسي عطشان يا صبايا دلوه ع السبيل، وقبله قال محلّلون: إنّ علامة “البزنس” أنّ الحكومة الإسرائيلية صرفت أموالًا كثيرة لحكومة حماس، يقصدون أن بيبي حمساوي، وليس فتحاويًا ولا زملكاويًا!
ويقول سياسي سوري معارض (كان قد زار إسرائيل) مبشرًا بسقوط حركو حماس: إنَّ إسرائيل ستنتصر على حماس، وتحارب بروبوتات تحمل جرارًا من الغاز، تحقنها في الأنفاق، فتموت كل كتائب القسام بالسكتة القلبية والزهايمر والتحليلات السياسية، وقد انتظرنا نبوءته التي استقاها من إعجابه الشديد بإسرائيل وديمقراطيتها وأفلام الخيال غير العلمي، وما زلنا.
ويقول تحليل سياسي ثالث، محذرًا العرب من أنَّ إصرار إسرائيل على احتلال مشفى الشفاء هو لإبعاد الشبهة عن مخطّط آخر مجهول على طريقة: بصّ العصفورة. ويقول محلّل رابع مأخوذ بفيلم “المحفظة معايا” أو “عقلي فوق الشجرة”: سبب غضب حكومة إسرائيل ليس طوفان الأقصى وكسر هيبة الجيش الذي لا يُقهر، ولا أسر جنرالات، إنما هو من استيلاء كتائب القسّام على هارد ديسك، يحتوي أسرارًا كبيرة، هذه فلاشة (رياض) الشعيبي السوري، أيها السادة.
ويقول محلّل سياسي سوري يدرّس العلوم السياسية في جامعات دمشق، له لثغة، مبرّرًا سبب برودة دمشق تجاه طوفان الأقصى: إنّ إسرائيل تستفزّ دمشق يوميًا لجرّها إلى معركة في توقيتها هي، وليس في توقيت الأسد، فساعته رمليةٌ فيها حصى كثير، النظام السوري يعمل حسب أوقات الدوام الرسمية والعطل الأسبوعية. ويقول خالد العبّود، نائب المربعات والأشكال الهندسية والمنحرفة في مجلس الشعب، أفصح المحلّلين السياسيين السوريين لسانًا وأكثرهم غرورًا: إنّ حماس من الإخوان المسلمين، وإنها متآمرة مع إسرائيل. ويقول رفيق نصر الله (شركة محور المقاومة المحدودة): إنّ حماس “بطيشها السياسي والعسكري” قد أفسدت عملية كبيرة كان يخطّط لها محور المقاومة باجتياح الجليل”! أما روبسبير الثورة المصرية وائل غنيم، فيقول وهو يعمّر الجوزة: إنّ (إسماعيل) هنّية قد انتقل بأهله إلى قطر، وترك شعبه تحت القصف والنار.
ومن أمثال هؤلاء محللون غربيون يذكّروننا كل ساعة حوار أنَّ إسرائيل منتخبة (حماس أيضًا منتخبة، ولها برلمان)، والمنتخب يحقّ له القصف بالفوسفور والكلور والنووي! وكانت إسرائيل سفيرة الديمقراطية الغربية إلى العرب قد فجّرت برلمان غزّة، حتى تحتفظ بلقب الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، فلا يجتمع في فلسطين المحتلة برلمانان!
وظهر محلل سياسي باقعة، ليقول إنه يتوقع تحالفًا بين حماس وأميركا لمواجهة الصين، بعد أن أثبتت حماس كفاءتها، وانكشف خوار إسرائيل وعوارها، وغرض التحالف بينهما حماية قناة السويس، وإن أميركا ستغيّر “الفتوة”!
وأريد أن أهمس في أُذن القارئ، إني أتابع الأخبار على مدار الساعة من غير مخدّر، وإني عجبتُ مثل جميع الناس من أمرٍ وجبَ ألا يفوتني؛ أنّ إسرائيل قد شابهت أخواتها الأنظمة العربية، القذة بالقذة، وكانت تحرص على أن تسبقها بخطوةٍ أو خطوتين، حتى يقال انظروا إن إسرائيل لم ترتكب جرائم مثل هذه الجرائم، فهي تُحسن الأقنعة واستخدام أدوات التجميل السياسي. ووجدتُ محلّلا شهيرا من محور المقاومة، وهو أعرضهم وسادا، يقول إن “حماس” لم تُحرز نجاحها في عملية طوفان الأقصى المدويّة إلا بعد المصالحة مع دمشق. أما صاحب هذه السطور، فوجد أنّ بشّار الأسد كان يحترم دستوره أكثر من احترام أميركا أوتار آلة القانون الدولي الموسيقية، وإن بشّارا جمع برلمانه وغيّر الدستور حتى يستطيع أن يقفز من فوقه من غير عصا زان، أما أميركا، فهي ترقص على ألحان القانون التي تعزفها حكومة إسرائيل، المنتخبة بالفوسفور المضيء.
—————————-
الإنسانيّة إذ تمشي على قدميها والسياسة على رأسها!/ حسان الأسود
22 نوفمبر 2023
لماذا نشهد هذا التباين الواضح بين الشعوب والحكومات في العالم، عندما يتعلّق الأمر بقضايا سياسية وإنسانية واضحة مثل الإبادة التي يتعرّض لها الفلسطينيون، خصوصا في غزّة؟ فهل متطلبات الحكم منفصلة إلى هذا الحدّ عن إرادة الشعوب؟ وإنْ كان يصلح هذا تفسيرًا للواقع في دول مثل الصين وروسيا ومصر والسعودية … فكيف يمكن فهمُه عندما يحصل في دولٍ مثل بريطانيا العظمى وفرنسا وألمانيا؟ وكيف لنا أن نميّز بين إرادة الناخبين الحقيقيّة التي تظهر شعوريًا من خلال الاصطفاف غالبًا مع القضايا المُحقّة على الصعيد الدولي، ومُخرجاتها التي تتجلّى عادة بانتخاب السياسيين الذين يعارضون هذه الإرادة في سلوكهم السياسي ومواقفهم الدولية؟
في حالة من التعاطف الكبير والمستمرّ، شهدنا شوارع لندن مكتظّة بمئات آلاف المتظاهرين المطالبين بوقف الحرب على غزّة، بينما صوّت النوّاب في البرلمان بغالبية 293 صوتًا ضدّ مقترح وقف الحرب، فيما أيّدته أقلية لم تصل إلى نصف عدد الرافضين، هي 125 صوتًا، فيما امتنع 180 عن التصويت. من الطبيعي ألا يتظاهر كل البشر في الشوارع، حتى في الدول الأكثر ديمقراطية، كما أنّ من الطبيعي ألا يشارك كل المواطنين في الانتخابات، فهذه ظواهر مألوفة في السياسة. لكنّ الضمير الحيّ للناس يظهر في تفاعلهم مع الأحداث الإنسانيّة الكبرى، وهذا يُعبّر عنه من خلال قلّة قد تصل إلى نصف مليون إنسان كما حصل في لندن، وقد لا تبلغ مائة شخص كما حصل في وارسو. ما يحدّد هذا الضمير ليس فقط ديمقراطية الدولة من عدمها، بل سلسلة طويلة من الأسباب التي يعود بعضُها إلى فاعلية المجتمع المدني في بلدٍ ما مقارنة بغيره، وبعضها الآخر إلى تاريخية العلاقة أو خصوصيّتها بالحدث المعني، وغيرها يعود إلى الأولويات التي ترتبها الشعوب لنفسها…. وتتعدّد الأسباب.
يفتح هذا التساؤل نافذة واسعة لمزيد من إشارات التعجّب والاستفهام، عندما نأخذ التعبيرات الشعبية والسياسية الرسميّة العربية والإسلامية، لحدثٍ طاغٍ عالميًا من لحمٍ ودمٍ ودموعٍ وآلامٍ لا تُعدّ ولا تُحصى، مثل الحرب على غزّة وأهلها. هل انعدم الوزن النوعي لكلّ الدول العربيّة والإسلاميّة مجتمعة لهذه الدرجة حتى عجزت عن اتخاذ إجراءات حقيقية بوجه إسرائيل وأميركا وأوروبا لوقف الإبادة في غزّة؟
يمكن بكل تأكيد فهم التأثير الكبير لمجموعات الضغط المؤيّدة لإسرائيل في الولايات المتحدة وفي فرنسا وألمانيا، ويمكن أيضًا فهم ديناميات الصراع بين الأحزاب في هذه الدول، وسعي كلٍ منها إلى الاحتفاظ بالسلطة أو للنجاح في الانتخابات المقبلة للفوز بها. ولكن، ما هو السرّ في نقص الفاعليّة الفاجع لدى حكومات الدول العربية والإسلامية، رغم عدم وجود تأثير يذكر لمجموعات الضغط هذه في بلدانهم؟
والسؤال المناقض لما سبق كلّه، والذي يمكن طرحه عن وجود فرق حقيقي بين البلدان الديمقراطية وتلك غير المصنّفة كذلك، إن كانت النتيجة واحدة في الأزمات العاصفة مثل الحرب الحالية على غزّة؟ وهل يمكن قياس تعاطف شعبٍ ما فقط من خلال أدوات التعبير الجماهيرية، مثل الاحتجاجات والتظاهرات والوقفات في الشوارع، أم هناك مقاييس أخرى غير ملحوظة، لكنّها تؤثّر بلا شك في المشهد؟
تقدحُ زنادَ الفكر خاطرةٌ لطالما كانت تجول في الأذهان، وتتمثّل في البحثِ عن أسباب الحرب الشرسة التي شنّتها الأنظمة العربية والإقليمية بمشاركة دوليةٍ متفاوتةٍ على ربيع الشعوب العربية، وتبدو الإجابة المباشرة أقرب إلى اللسان منها إلى الأذهان، فالاستحقاق الراهن في غزّة هو المفتاح، فهل كان حال غزّة الآن ما هو عليه لو انتصرت الثورة المصريّة وأنتجت حكمًا يمثّل المصريين حقيقة؟ وهل كانت إسرائيل ستعربدُ بكلّ صلفٍ ووقاحة فيما لو كانت سورية على درب الحريّة، وهل كان العراقُ العظيم سيصمت، إلا من جعجعة مليشيات إيران السخيفة على حدود الأردن، لو كانت ناصية أمره بيد شعبه الأشمّ؟
أسئلةٌ تجرّ أسئلة، وإجاباتٌ تتوارى بين سطور الممكن والمستحيل، وشعورٌ بالمرارة لا يمكن كبته ولا نفثه، فهو إن بقي حبيس الأنفس حرقها، وهو إن خرج من الصدور فجّرها. حالُنا يصعبُ على الحجر، وضمائرنا تمزّقها رياحُ القهر والقمع والإذلال. وهل ثمّة خذلانٌ أكبر بعد هذا الرقص والطرب على مرمى قوسٍ من حريق غزّة المستعر؟ وهل كُتب علينا أن نجترّ التاريخ بانكساراته وحرائقه من مذبحة أهل بغداد ومكتبتها إلى مذبحة غزّة والضفّة على يد المغول والتتار في كل العصور؟ يبدو أنّ الحال سيبقى على ما هو عليه ما دامت الإنسانيّة تمشي على رجليها في بعض الأماكن، بينما تسير السياسة على رأسها، وهذه الأخيرة هي ما يصنع هذا المزيج الفريد العجيب الغريب من شواء اللحم والدم المقدّسين مع الدمار والألم العميمين، على مذبح التاريخ الذي ما فتئ يعيد ذاته ممسوخًا في كل مرّة عن مسخٍ متكررٍ، وباقٍ ويتمدّد.
—————————
في ضرورة تقديم رواية فلسطينية لـ7 أكتوبر/ مروان قبلان
22 نوفمبر 2023
مع تخفيض إسرائيل عدد قتلاها في هجوم 7 أكتوبر من 1400 إلى 1200 (قد تخفّضها لاحقا أكثر) بذريعة أنها اكتشفت بعد أكثر من خمسة أسابيع على عملية طوفان الأقصى أنه من بين القتلى تم إحصاء مائتي شخص من المهاجمين لم يمكن التعرّف إليهم حينها بسبب تفحّم الجثث، أخذت تتكشّف تفاصيل أكثر عن أحداث 7 أكتوبر، والتي استخدمتها إسرائيل لشنّ حملة دعائية عالمية كبرى، لتحقيق أهداف استراتيجية عجزت عن تحقيقها على مدى عقود، أهمها إطلاق عملية إبادة ممنهجة بحقّ الشعب الفلسطيني، تمهيدا لتنفيذ مخطّط تهجير (ترانسفير) عمره عقود، يتم فيه إنهاء “وضعية النزاع” على الأرض، وطي صفحة الصراع على فلسطين مرّة واحدة وإلى الأبد. والواقع أن كثيرا من تفاصيل ما جرى يوم 7 أكتوبر كانت متوفرة منذ الأيام الأولى للعملية، لكن الجميع، بمن فيهم حركة حماس، كانوا مأخوذين بالنجاح الذي حقّقه المقاتل الفلسطيني في إسقاط الأسطورة التي نسجتها إسرائيل عن قدراتها الأمنية والعسكرية، ومفاجئين بالانهيار السريع للجيش والأجهزة الأمنية الإسرائيلية، في أول حرب فلسطينية خالصة ضد إسرائيل، تخطيطا وتنفيذا.
كنّا نعرف مثلا أن عددا كبيرا من المدنيين الـ364 الذين سقطوا ذلك اليوم، في حفل نوفا، الذي كان يقام بالقرب من مستوطنة رعيم، قتلوا بنيران الجيش الإسرائيلي، وأن جزءا آخر سقط أيضا بنيران القوات الخاصّة الإسرائيلية في أثناء قتالٍ دار داخل مستوطنات محيط غزّة، وأن حالة فوضى سادت في الأثناء، حين فقدت “حماس” قدرتها على السيطرة على تدفّق الناس العاديين من غزّة عبر الفتحات التي أحدثها الهجوم في الجدار العازل، فقرروا اجتيازه إلى الجانب الآخر لاغتنام فرصة التعرّف إلى ما ظلوا يرونها أرض أجدادهم، وهؤلاء هم من أخذوا أكثر المدنيين أسرى، بمن فيهم بعض كبار السن والأطفال، من دون أدنى وعي بخطورة ما يفعلونه على قضيتهم.
أعادت صحيفة هآرتس، السبت الماضي، نشر تفاصيل ما جرى يوم 7 أكتوبر، وكانت وسائل إعلام أميركية قد نشرت شيئا منها أيضا، وفيها أنه مع بلوغ أنباء الهجوم الذي بدأته “حماس” في السادسة من صباح 7 أكتوبر، سادت حالة من الذهول بين قادة المؤسّستين العسكرية والأمنية الإسرائيليتين. ولم يتم، نتيجة ذلك، اتخاذ أي إجراء حتى العاشرة والنصف صباحا، حين بدأت طائرات الأباتشي بالتجهّز للتدخّل، ووصلت المجموعة الأولى منها إلى موقع الحدث في الثانية عشرة ظهرا، وبدأت إطلاق صواريخ “هيل فاير” على المهاجمين المتحصّنين داخل المستوطنات، ما أدّى إلى دمار كبير وسقوط عدد من القتلى الإسرائيليين إلى جانب مقاتلين فلسطينيين، لأن الأوامر كانت تقتضي بمنع وقوع أسرى في يد فصائل المقاومة الفلسطينية، وهو ما يفسّر صور الدمار الذي لحق بالمستوطنات، وكذلك احتراق جثت أعداد كبيرة من المدنيين المشاركين في حفل نوفا، بحيث تعسّر التعرّف إليهم.
استغلت إسرائيل الحدث “الكارثة” لبناء سردية مفادها أنها وقعت ضحية هجمة بربرية تشبه تلك التي تعرضت لها الولايات المتحدة في 11 سبتمبر/ أيلول 2001 وأن حماس ليست سوى النسخة الفلسطينية لتنظيم داعش، ويجب، من ثم، استئصالها. وتمثل الجانب الآخر للرواية الإسرائيلية في محاولة وضع ما جرى يوم 7 أكتوبر في سياق المحرقة (الهولوكوست)، عبر نشر صور بشعة للقتلى من المدنيين، الذين قتلت إسرائيل في الواقع عددا كبيرا منهم، منعا، كما ذكرنا، لوقوعهم في الأسر. وفي غياب سردية فلسطينية لما جرى، حصلت إسرائيل على كم هائل من التعاطف والتبريرات للجرائم التي كانت على وشك أن ترتكبها في قطاع غزّة. فقط في الأيام الأخيرة، بدأ الجانب الفلسطيني (حماس والسلطة على السواء) بتقديم رواية غير مكتملة لما جرى يوم 7 أكتوبر، لكن هذا حدث بعدما بدأت الصحافة الإسرائيلية تتناول الموضوع بطريقةٍ نقدية.
كان مهمّا، منذ البداية، تقديم سردية فلسطينية لما جرى في ذلك اليوم، بدلا من ترك إسرائيل تستفرد بصياغة الرأي العام العالمي عبر السردية الكاذبة التي قدّمتها عن ذبح أطفال واغتصاب نساء، دفع الشعب الفلسطيني ثمنها غاليا، فالرأي العام العالمي، الأميركي خصوصا، يبدو الوحيد القادر اليوم على وقف المذبحة التي ترتكبها إسرائيل في غزّة.
————————-
خُدّج غزّة… هل فهمنا الدرس؟/ غازي دحمان
21 نوفمبر 2023
هزمتنا غزّة، بخدّجها وأطفالها ونسائها، وبكاء رجالها وهم يودّعون أحبتهم، وهم يتوسّلون الأطباء إنقاذ أطفالهم. سحقتنا غزة بشرا وأذلتنا عربا، بتوحّش زعران إسرائيل وموت ضمير العالم. هل يُعقل أن ترسانة القوانين الدولية، وهذا الكم الهائل من التنظير الأخلاقي العالمي، لم يستطع إنقاذ خُدّج غزّة، ولا يوفر قطرة ماء لأطفالها العطشى؟
ولكن حرب غزّة، أيضا، حوّلت مفاهيم ومسلّمات وقيم إلى مجرّد غبار، فقدت تماسكها ومنطقها، بعدما كشفت أنها بالأصل لم تكن قد تجاوزت مرحلة الخداج، رغم ادّعاء الخبرة البشرية المديدة في إدارة الأزمات، ودرجة التحضّر والتنظيم التي وصلت إليها البشرية وتحميها من الانزلاق إلى السلوك الهمجي، وتردع كل من يحاول التصرّف بخلاف ذلك، كل ما سبق لم يكن سوى عدّة تنظيرية كشفتها حمم قنابل إسرائيل على جسد غزّة.
لعل أول ضحايا حرب غزّة هو المجتمع الدولي، ذلك أن هذا المصطلح لم يعد له وزن، لا واقعي ولا أخلاقي، ما دام لم يمتلك القدرة على إنقاذ أكثر من مليونين من البشر يجري التنكيل بهم تحت نظره وسمعه، وكان يُحكى في السابق عن عجز المجتمع الدولي عندما يجري الحديث عن فشل التوصل إلى حلّ للقضية الفلسطينية، رغم وجود قرارات واضحة وصريحة عن مجلس الأمن، تحدّد شكل الحل وطبيعته، لكننا اليوم أمام حالةٍ أكبر من العجز، بل حالة موات فعلي ومعلن، صحيحٌ أن شوارع كثيرة في العالم شهدت مسيرات شعبية غاضبة على حفلة الجنون الإسرائيلية، لكن هذا رأي عام، أما المجتمع الدولي فهو نادي الحكومات والدول.
العالم العربي هو الضحية الثانية الذي آن أوان تأبينه، وقد ثبت، بالملموس والمؤكّد، أنه قد خرج من دائرة الفعالية منذ زمن بعيد، وما يوجد اليوم ليس سوى دول ناطقة بالعربية لكل منها مشاريعها المنفصلة وتوجّهاتها المختلفة. أما ما يُقال عن سياساتٍ وتوجّهاتٍ عربية، فهي لا تعدو أن تكون قوالب إعلامية ليس لها ما يوازيها من أفعال وسلوكيات على أرض الواقع. لو كان هناك فعلا عالم عربي لما استطاع الصهاينة التنمّر عليه جهارا نهارا، ولو كان هناك عالم عربي من المحيط إلى الخليج لضغطت واشنطن بكل قوتها على إسرائيل، أقلّه لتحييد المدنيين عن الحرب الشعواء التي تشنّها على غزّة، أو حتى لحماية المستشفيات، وعدم انتظار حكومة نتنياهو، التي يشكو الإسرائيليون أنفسهم من تطرّفها، حتى تأتي بالدليل القاطع على وجود قيادات “حماس” داخل المستشفيات.
ربما من الصعب معرفة النتائج النهائية للحرب في غزّة، وطبيعة المشهد والمُخرجات التي ستؤول إليها هذه الحرب، لكن الأكيد أن هناك تحوّلا خطيرا في موازين القوى على الصعيد الإقليمي لصالح إسرائيل وأميركا، بعدما تم التسليم لهما بإدارة الحرب على هواهما، كما أن هناك مشهدا جديدا للقضية الفلسطينية يجري العمل على إخراجه، بناءً على معطيات الواقعين العربي والدولي الراهنين، فهذه فرصةٌ مثاليةٌ لإعادة تركيب الموضوع الفلسطيني وإعادة تعريفه بناء على المؤثرات الإسرائيلية والأميركية الجديدة، بوصفهما اللاعبين الأكثر قدرة في الوقت الحالي على التأثير والفعالية.
وسيتم رسم أدوار الأطراف الأخرى وحدودها ومدى فعاليتها بناء على حجم تجاوبها مع التحوّلات التي سيصنعها الطرف المذكور، الذي لديه القدرة الكبيرة على دمج خططه ومشاريعه في سياق هندسات إقليمية ودولية يجري العمل عليها، وخصوصا أن المنطقة في المرحلة الحالية تقع تحت تأثيرات مشاريع جيوسياسية ضخمة، تنخرط فيها أطراف إقليمية عديدة، ولهذه المشاريع عدّتها القيمية وتفضيلاتها الاقتصادية وما تعد به من طموحاتٍ تصل الى حد القبض على عنق التجارة الدولية، عبر التحكّم بممرّاتها وسياقاتها. وبالتالي، تصبح حرب غزّة مادة قابلة للنظر إليها من زاوية الأثمان المحتملة لمشاريع كبيرة.
وستحتاج الشعوب العربية بعد غزّة إلى عيادة نفسية لتساعدها على التخفّف من أحمال الحزن والذلّ والإحساس بانعدام الوزن والضعف الهائل، فكيف سيتم جبر خواطرها، هل ستلحظ السياسات التي سيتم تصميمها، والتي تأتي تحت عنوان “اليوم التالي لغزة بعد الحرب”، هذا البعد؟ بمعنى هل سيصار إلى اقتراح مبادرات ومسارات جديدة للحلّ على شاكلة اتفاقيات السلام في تسعينيات القرن الماضي في الشرق الأوسط على خلفية الحرب في العراق، أم أن الأمر لن يصل إلى هذا الحد، وسيتم إسناد مهمة جبر خواطر الشعوب للأنظمة السياسية، والتي يمكن أن تقاربها بسياسات أكثر تشدّدا وقمعا، على اعتبار أن الشعوب العربية لا يليق بها التدليل والتدليع؟
المؤكّد أن حرب غزّة حملت إجابات لأسئلة طرحتها جروح مفتوحة على مدار عقد مضى، شهد سحق أحلام الملايين وطموحاتهم، بل وقتل الملايين وتشريدهم، عن الضمير العالمي وأخلاق السياسة، والأهم من ذلك كله عن المخارج من هذه الانسدادات الرهيبة التي وصلت إليها الأمور، وعن عالم يتغنّى صباحا بتحضّره ويتوافق في المساء مع طغاة الأرض بذريعة الواقعية طوْرا والمصالح دائما. آن لنا الخروج من حالة الخداج السياسي، ونتعلم من الدرس العسكري الذي يقول إن الوقوف في مدى رماية الدبّابة انتحار مجاني، والأفضل دائما استخدام الزوايا العمياء والخواصر الرخوة، سواء كان الخصم مستبدّا داخليا أو عدوّا خارجيا.
————————
في غياب قسم أبقراط/ سوسن جميل حسن
21 نوفمبر 2023
عندما ردّدتُ، كغيري من الأطباء المقبلين على تحمّل مسؤولية الأداء المهني والضمير عند انتسابي إلى نقابة الأطباء في سورية، خلف نقيب الأطباء القسم الطبي المستوحى من قسم أبقراط، كنت مغمورة في موج من المشاعر الرهيفة، المشاعر فائقة الرومانسية والفروسية، كيف لا وأنا مُقدمة على أداء دور لصيق بكل القيم والمبادئ الإنسانية؟ دور يجعل مني، بشكل تلقائي، فوق كل النزعات، ما عدا النزعة نحو صوْن الحياة الإنسانية وحمايتها في كل تجلياتها؟
أزعم إن هذه المشاعر قد انتابت غالبية من أقبلوا على هذه المهنة، في كل العالم، ربما في لحظتها لا يمتلك الطبيب المقدم على هذه المهنة النظرة الشاملة إلى كل ما يمكن أن تضعه الظروف فيه من اختبارات المواقف والسلوك والأداء، وإلى ما يمكن أن تفعل الأيام وما يحدث في نفسه من اشتباك بين القيم والانتماءات والعقائد والفلسفات، قد تؤثّر على ذاكرة تلك اللحظة الرومانسية فائقة النبل والقيم السامية. لكن الرهان على الضمير في الدرجة الأولى.
يتعرّض الطبيب في كل لحظة من مسيرته المهنية إلى اختبارات كثيرة، إنما أكثرها شدّة وعمقًا تلك التي تواكب ظروف النزاعات، بكل أشكالها، وهنا يكمن التحدي الأكبر، انتصار النفس على ذاتها والرجوع إلى ذاكرة القَسم الأول، قَسم جدّنا أبقراط الذي عُدّ أبا الطب، وأشهر أطباء عصره، لكن الفجيعة الكبرى تكمن في تجرّد الطبيب من هذه الذاكرة ونكرانها إذا ما انصاع إلى إرثٍ ثقافيٍّ أو عقيدة تجعله في خندق آخر، يواجه شرف هذه المهنة الذي أسّس له أبقراط منذ آلاف السنين، كي يكون الطبيب حارسًا أمينًا على القيم التي تصون الحياة الإنسانية. هذا ما يجري في غزّة اليوم مدعومًا، ويا للعار، بإصرار أطباء يعدّون بالعشرات، وربما أكثر، على قصف المستشفيات في غزّة، ودعم ما تقوم به إسرائيل من إجرام يرقى إلى الإبادة.
أصدرت منظمة الصحة العالمية بعد الحرب العالمية الثانية، في 1948، ما عُرف ببيان جنيف لأخلاقيات ممارسة المهنة الطبّية، وكان قد سبقه ميثاق نورمبيرغ لعام 1947، والذي يتعلق بأخلاقيات مهنة الطب، سيما التجارب العلمية على البشر، بعد الجرائم من هذا النوع التي ارتكبتها النازية حينها. وجرى تعديل البيان مرّات ليواكب التطوّرات والتغيّرات التي طرأت على العالم، وصارت هناك قوانين ناظمة، بالإضافة إلى القواعد الدولية في مجال الأخلاقيات الطبية، ترمي إلى تحقيق هدفين يكملان بعضهما بعضًا: حماية المريض من سوء السلوك من الطبيب وأيضًا حماية الطبيب من الضغوط الاجتماعية والسياسية.
في حالات النزاع، تنص اتفاقيات جنيف على وجوب حماية الجرحى والمرضى دون تمييز، وبما يتفق مع قواعد أخلاقيات مهنة الطب. وهذا الشرط في صلب القانون الدولي الإنساني. كذلك يجب احترام وحماية أفراد الخدمات الطبية المدنيين، ويجب تقديم كل المساعدة الممكنة لهم لأداء واجباتهم. تنصّ القاعدتان 25 و28 من دراسة القانون الإنساني العرفي على الالتزام باحترام أفراد الخدمات الطبّية وحمايتهم في كل الظروف، وكذلك الوحدات والخدمات الطبية. لكن ما يحصل في غزّة، ومنذ الأيام الأولى للحرب، هو نسف لكل القوانين الدولية والإنسانية والأخلاقية، وحرب المستشفيات أحد أهدافها المعلنة بلا مواربة، إذ لم تتوقّف إسرائيل عن استهدافها بشتّى الطرق المتاحة لها، على الملأ، من دون الاكتراث بالرفض الشعبي الذي يتنامى وتزداد رقعته في كل بقاع الأرض، حتى إنها وضعت بعض الأنظمة الداعمة لها بلا قيود في مواقف محرجة أمام الرأي العام لديها، فهي استهدفت الطواقم الصحية والطبية، عدا استهدافها المدنيين ولحقتهم إلى المشافي، وهم جرحى ومصابون وغير قادرين على الحركة، ومهدّدون بالموت الذي لم توفر أسبابه عليهم، عندما قطعت الكهرباء والوقود والأدوية والإنترنت وكل أسباب العناية الطبية بهم وصوْن حيواتهم، “لا يجوز مطالبة أفراد الخدمات الطبية بإعطاء أي شخص الأولوية في أدائهم لواجباتهم إلا على أسس طبية” (البروتوكول 2 المادة 9-2)”. فأي ألم يسبّبه اتخاذ قرار الأولوية لدى الطبيب في مشافي غزّة، وكل من بين أيديهم أمانة توضع في مقدمة الأولويات، وهم مكبّلو الأيدي؟
وصل القتل إلى الخدّج في حواضنهم. فمن أيّ تربةٍ عجنت ضمائر القادة الغربيين الداعمين وحشية إسرائيل بلا قيود، فلا يهزّهم مشهد هؤلاء الخدّج وهم يُنقلون على أحضان الأفراد العاملين في القطاع الصحّي في مشفى الشفاء بعد أن توقف عن العمل، ملفوفين بشراشف غرف العمليات فحسب، مفصولين عن الأجهزة الطبية التي تعزّز حياتهم في الحواضن حتى يصبحوا قادرين على العيش؟ بل منهم، على ما تظهره الكاميرات، مصابون بعد أن انتشلوا من تحت القصف، وماتت أمهاتهم في لحظات الولادة بسبب القصف الوحشي؟ ومنهم من ما زالت أنابيب التغذية الفموية أو الدموية معلقة بأجسادهم النحيلة. منهم من يبكون، وهذا دليل حياة تعاند بقوة، ومنهم من ناست أصواتهم وحركاتهم يعاندون الموت، كيف لا تتأثّر ضمائر هؤلاء “الكبار” دعاة الديمقراطية وحقوق الإنسان، بمنظرٍ كهذا؟ هل هؤلاء الخدّج إرهابيون؟ أم الكارثة الكبرى والعار بحقّ الإنسانية أن يسمعوا حكاية العماليق على لسان قائد الحرب والسياسة الإسرائيلية رئيس الحكومة الأكثر تطرّفًا ووحشية، بنيامين نتنياهو، ويسكتوا عليها، فيصير مشهد الخدّج، وقبله أطفال غزّة الذي قتلوا أو بترت أطرافهم، مشهدًا عاديًّا تشرعنه القضية الكبرى: حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها. هذا الاتكاء على الأساطير التوراتية التي تشدّ عصب الشعب اليهودي في إسرائيل كلما ارتخى قليلًا يشير إلى تشابك النزعة القومية بالنزعة الدينية في أقصى تطرّفهما وعنصريتهما، ما يدفع إلى مزيد من الإجرام والوحشية.
قصف المستشفيات والمنشآت الصحية ومحاولة إخراج أكبر عدد منها من الخدمة رسالة واضحة لا تحتمل التشكيك فيها، أن ما ترمي إليه إسرائيل هو الإبادة وقتل أكبر عدد ممكن من سكان قطاع غزة، وإن رؤية المواليد الخدّج كالعصافير التي لم ينبت زغبها، تفتح فمها طلبًا للماء والغذاء، حقّها في الحياة، لهو صفعة على خدّ الضمير العالمي، الذي يحتاج، على ما بدا من سلوك قادة العالم الداعم لإسرائيل بشكل مطلق، صدمة كهربائية أكثر مما يحتاج صفعة على خدّه الخالي من الدماء.
إذا كان هذا الاختراق الفاجر لكل الشرعة الإنسانية والمواثيق والقوانين الدولية مقبولًا عند البعض، أو قابلًا للنقاش، كيف يمكن قبول انحياز بعض الأطبّاء في إسرائيل بدعوتهم إلى قصف المستشفيات، وهم من يفترض أنهم أقسموا يمين شرف المهنة، وأنهم عاشوا لحظات من الإثارة النبيلة وطغيان مشاعر إنسانية على وجدانهم عندما أقسموا متذكّرين نبل أعظم الأطباء في عصره؟ كيف نفهم موقف العالم المتحضّر الداعي إلى الديمقراطية والعدالة الإنسانية، عندما استبشرنا خيرًا بمحاكمة أطباء عذّبوا مصابين من أبناء الشعب السوري ممن تظاهروا في وجه الظلم، ولم يدينوا عشرات الأطباء الذين وقّعوا عريضة الدعوة إلى القتل الجماعي لمرضى المستشفيات في غزّة وأجهزتها الصحية والعاملين فيها؟ أي ازدواجية في الضمير هذه؟ أم إن إسرائيل هي الابنة المدلّلة للغرب بماضيه الاستعماري، ويحقّ لها ما لا يحقّ لغيرها في الدفاع عن وجودها، بينما الشعب الفلسطيني لا يرقى إلى مستوى البشر، فتصبح إبادة بواكير الحياة لديه أمرًا مشروعًا في استراتيجية المستقبل، ونزع الخدّج من حواضنهم أمرًا يتطلّبه هذا الحقّ في الدفاع عن النفس؟ لو عاد أبقراط إلى الحياة، أما كان حاكَم دعاة القتل والإبادة على انتهاكهم قسمه وادّعائهم أنه عتبة دخولهم هذه المهنة النبيلة؟
———————
المقتلة الفلسطينية خبراً غير عاجل/ سميرة المسالمة
20 نوفمبر 2023
يصحّ القول في أخبار الحرب العدوانية التي تشنها إسرائيل على غزّة، رغم بشاعتها، وقسوتها، وهمجيتها، إنها مكرّرة عن اليوم الأول التي أعلنت فيه حكومة نتنياهو عمليتها الانتقامية ضد أحداث عملية حركة حماس يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول، وحوّلتها من ردّة فعل إلى حرب إبادة، هدفها المعلن قتل من تستطيع قتلهم من الشعب الفلسطيني، تحت سقوف منازلهم، وفي المشافي، وبين جدران المدارس، وأمام منافذ الأفران وفي الأسواق، من شيوخ ونساء ورجال، وعلى وجه الخصوص، الأطفال، الذين تخشى دولة الاحتلال من طفولتهم “المستيقظة” على أعمالها الإجرامية بحقّ أرضهم وأهاليهم.
عادة ما ترصد الأخبار العاجلة أحداثاً جديدة في طبيعتها ونتائجها، لكن ما يحدُث في غزّة هو استمرار لحالة العدوان التي لم تتوقف على مدار الأسابيع السبعة الماضية. وبوتيرتها المتصاعدة على وقع الصمت الذي ساد العالم، وأخرس أصوات كثيرين من المنادين في الدول الغربية بحقوق الإنسان، يمكن تسميتها حرب الإبادة الحديثة، والتي أفرزت أنواعا من تبريرات الغرب المحدثة لجرائم الحروب، وذلك بتسمية ما تفعله إسرائيل من عملية اقتلاع للشعب الفلسطيني من أرضه، بل قتله، وتدمير مدنه ومسحها من الوجود، “عملية دفاع عن النفس” لا تطاول فاعلها العقوبات، ولا يجرّم باستخدامه كل أنواع أسلحته، حتى المحرّمة دولياً.
ليس خبراً عاجلاً استهداف إسرائيل مزيدا من المدارس، وقتل من فيها من اللاجئين والأطفال، وإحالة المباني إلى أرضٍ محروقة، فربما العاجل الذي في الخبر أسماء الضحايا الجدد، المضافة إلى السابقين، فحيث يمكن استخدام الخبر نفسه، والتفاصيل والأوصاف نفسها على كل عدوان يومي ومتكرّر، لنعلم أن الجديد في الأمر أسماء الضحايا وأجسادهم، وقوافل الأهالي المنكوبين، فكل مكانٍ يقصفه جيش الاحتلال يحمل الأهداف والنتائج نفسها، ما يعني أنه لا يوجد جديد أو مفاجئ في الخبر، وهو يؤكّد منهجية العدوان، وقدرته على تعطيل عمل المؤسّسات المحلية والعربية، والمنظّمات العالمية، وصولاً إلى مجلس الأمن، وتجميد صلاحياته وواجباته تجاه حماية حياة الفلسطينيين ووقف العدوان عليه.
لا خبر يتصدّر اليوم على أخبار الحرب الإسرائيلية الوحشية على غزّة، هكذا ماتت أخبار العالم، لم تبق أولوية أوروبا الحرب التي تجاور حدودها، لم تعد حرب الرئيس الروسي على أوكرانيا، أو جولة الرئيس الأوكراني تثير مشاعر الأميركيين، ولا أحاسيس الأوروبيين. ولم يعد من أهمية للدم السوري الذي يُراق في إدلب، وما حولها، ومشاهد اللاجئين في الخيام. ولم تعد على قائمة الاهتمام قضية آلاف المرّحلين قسراً على الطرقات. وكذلك لم تعُد الأولوية لوقف تدهور الوضع في اليمن والعراق ولبنان، فأولوية الغرب اليوم دعم حرب إسرائيل على الفلسطينيين، وتأمين مستلزماتها على الصّعد كافة، في خطوةٍ تعاكس جهود أي عمل إنساني لوقف الحرب، وتجنيب المدنيين مخاطرها الآنية واللاحقة، والتي تعني استعادة مشهد اضطهاد الشعوب على أساس مرجعيّتها القومية، أو الدينية، أو العرقية، مع اختلاف المسمّيات والأماكن والمواقع، ومع إمكانية توسّع تلك الحرب، وامتدادها أبعد من غزّة إلى ما بعد جوارها.
في هذا الوضع المهول، يمكن طرح مسألتين: الأولى، تحويل الحرب، أو جرائم القتل على بشاعتها، ودمويتها، إلى مجرّد مشهد متكرّر ليصبح أمراً عاديا ضمن يوميات الفلسطينيين. أي أن إسرائيل، ومعها داعموها، يقصدون هذا الفعل اليومي طريقةً لجعله حالة روتينية، يمكن التعايش معها، والتقليل من حساسيّتها، تماماً كالوجع المزمن، فهذا ما يحصل عندما يتزايد الألم، و”يتعضّى”، فإذا به يصبح جزءا من الجسم، أو عضوا فيه، أو جزءا من الحالة، بحسب علم النفس وسلوكيات البشر. المسألة الثانية، اللافتة للانتباه هنا، أن مشاهد القتل الإسرائيلية للفلسطينيين، في الأفران والمستشفيات والمدارس والجوامع وعلى الطرقات، ومشاهد حصار المناطق وتجويعها، وتدمير البيوت والممتلكات، وتحوّل الناس إلى لاجئين هائمين على وجوههم، سبق أن اعتاد العالم على مثلها في الصراع السوري، الذي استمر منذ عام 2011 ولا يزال يستهلك حياة السوريين، إذ تم تشريد أكثر من عشرة ملايين من السوريين، ووصل عدّاد الأمم المتحدة إلى أكثر من نصف مليون، ثم توقف العدّ، نعم لم يعُد عدد الضحايا خبرا عاجلا تلوّنه الفضائيات بالأحمر كدم ضحايانا.
إذاً العالم، وضمنه العالم العربي، شهد مقتلتين في آن معا، ربما لا تختلف تفاصيلهما كثيراً، فإسرائيل التي تقصف المدارس في غزّة على مدار الأسابيع الماضية، تعلم ان هناك من سبقها إلى ذلك بتدمير نحو أربعة آلاف مدرسة بين تدمير كامل أو جزئي، كما حصل في سورية على سبيل المثال، فكما كان تصرّف المجتمع الدولي في المقتلة الأولى، فإنه لم ولن يتصرّف بأفضل من ذلك في المقتلة الثانية. وهذا بديهي، فالمجتمع الدولي الذي رأينا تسامحه مع ما فعله النظام السوري في شعبه، على الرغم من التأييد الكبير الذي حظيت به ثورة الشعب السوري، وعشرات القرارات الأممية التي دانت نظام الأسد ولم تنفّذ. وعلى هذا القياس، لا يمكن أن نتوقع من النظام الدولي أن يكون أقلّ محاباة أو تسامحاً مع إسرائيل “مدلّلة” الولايات المتحدة والغرب عموماً.
في المثالين، المؤلمين، أو النكبتين، ثمّة تخلّ من العالم عن قيمه الإنسانية، التي تتعلق باعتبار قيم الحرية والمساواة والعدالة والكرامة، بمثابة قيم عالمية. وربما ثمّة التخلّي نفسه من النظام العربي الذي استعاد نظام الأسد إلى حضنه، من دون الالتفات إلى المأساة السورية، والعمل على إنهائها، ولعله لن يتأخّر لاحقاً من متابعة سيره الحثيث إلى التطبيع مع إسرائيل، وهو حتماً ليس خبرا عاجلا.
——————————
الاستبداد في سورية والإبادة في غزّة/ عمار ديوب
20 نوفمبر 2023
أهدر الاستبداد قيمة فلسطين لدى السوريين؛ لقد جعل منها أداة أيديولوجية بامتياز (كذب)، وقبل ذاك، سحق المجتمع سياسياً، ونهبه اقتصادياً، وأفقر أكثريّته، وبدا للمجتمع أن كلّ مشكلاته السابقة بسبب القضية المركزية، أي فلسطين، وعدا فلسطين، فالقومية والاشتراكية كذب بكذب.
يقود هذا المنطق إلى القول: فلتظل دولة الاحتلال إذاً، ولتُعط للفلسطينيين دولة إلى جانبها؛ الوعي العام، المُبتلى بالديكتاتورية، لا يتابع التسلسل الواقعي أو المنطقي للأحداث، وحساسيته النقدية ضعيفة للغاية؛ تعنيه قضاياه الخاصة فقط. وبالتالي، يُحمِّلُ أصحاب الحقّ مسؤولية الكارثة التي هم فيها. وهنا لا بد أن نتذكّر المقولة التي كان يعمّمها النظام عبر خطابه غير العلني: لقد باعوا أرضهم، وأتوا لمنافسة السوريين على مواردهم! نتيجة ذلك كله، ورغم كارثيّة العدوان على غزّة لم يتحرّك السوريون ضدّه، واقتصر الأمر على بعض المظاهرات في المناطق الخارجة عن سلطة النظام، ولافتات في السويداء. وأمّا مناطق النظام، فقد صمتت كما النظام عمّا يحدُث في غزّة، واعتقل بعض الذين حاولوا التظاهر من الفلسطينيين السوريين، وهو ما يسمح بالقول إن ادّعاءات النظام، دفاعاً عن القضية المركزية، كانت وما زالت أداةً لتأبيد السلطة والنهب، وورقة سياسية للتفاوض مع أميركا وإسرائيل، وللسماح له بالاستمرارية بالحكم.
تعقّدت أحوال السوريين بعد 2011، والآن. هم، مقسّمون في أربع سوريات، النظام، و”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، وهيئة تحرير الشام، والفصائل، عدا عن المنافي، وأُغرِقُوا في القضايا المحلية، وقبل ذلك، عانوا الأمرّيْن، بالعقد الأخير: اعتقالات وقتل وتهجير وحصار وتجويع وتدمير لمنازلهم وغيره كثير، كما يحدُث في غزّة تماماً، وبالتالي، ولأنّهم ضحايا، يخشون أيّ تضحية جديدة، وإن عبر تظاهرة، وأوضاعهم في غاية السوء، اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً. وبالطبع، ثقافة وتعليماً. وهنا، نتساءل: هل أبقى الاستبداد شيئاً من دمشق كقلبٍ للعروبة، وهل تعامل بالفعل مع دمشق كذلك، منذ الحركة التصحيحية؟
أهدر الاستبداد كل القيم الأخلاقية والسياسية والوطنية والقومية، فبدا السوريون غير قادرين على تشكيل مرجعياتٍ لهم في هذه القضايا. ولهذا تعالى التشكيك المعرفي والسياسي بوجود هوية واحدة، ولا سيما العربيّة واستُبدِلت بالسورية أو الإسلامية أو بالمواطنة، وهناك الهويات ما قبل الوطنية. وبغضّ النظر عن مبالغات المتشائمين، تراجعت المشتركات بين السوريين بشكلٍ حادّ. وبالتالي، من الطبيعي أن تتراجع مكانة فلسطين وحقّ أهل غزّة بالمقاومة في تصوّراتهم، رغم عدالة القضية لكل من يمتلك عقلاً أو عينين أو قلباً. لم يحرّك الرفض العالمي للعدوان على غزّة السوريين، واكتفوا بالمراقبة الضعيفة لكل ما يحدُث، ولم يدفعهم الألم على أهوال غزّة إلى إبداء الاحتجاجات القوية.
استعادة السوريين دورهم الوطني أو القومي لم يعد ممكناً قبل استعادة المشاريع الوطنية والقومية، وعلى أسسٍ تَحترم شعور الأفراد بحقوقهم الخاصّة والعامة. تجاربهم سلبية للغاية مع الاستبداد الذي استَغلّ قضية فلسطين، ولن يندفعوا نحو تأييد القضايا العادلة أو قيم التحرّر من دون أن تتحقق قيم الحرية والكرامة في بلادهم، والانتقال إلى الدولة المنصفة، والعادلة، كدولة ديمقراطية.
انقسم العرب في العقود الأخيرة إلى محورين؛ المقاومة والاعتدال. وابتعدت بعض الدول عن ذلك التصنيف، ولكن المحورين لم يتقبلا ذلك، وهذا ما عزّز الانقسام العربي! لقد شكّل تصدّر محور المقاومة للقضية الفلسطينية، مثالاً سلبياً للغاية، سيما بعد اصطفاف حزب الله بالتحديد إلى جانب النظام السوري، ووقوف بعض القوى الفلسطينية معه، وبالشراكة مع إيران، فبدا للسوريين أن كل الفلسطينيين مع النظام، ومحور المقاومة ضدّهم. وبالتالي، لماذا ينصرون فلسطين؟
من مشكلات السوريين، أنهم لم يتكاشفوا، ولم يعبّروا عمّا حدث، منذ عقودٍ، ولا في العقد الأخير ونيّف. هم لم يمتلكوا معرفة موضوعية بواقعهم، ولا بما جرى بدقة في تلك العقود سيما بعد الثورة؛ فمثلاً لم تقف حركة حماس مع النظام السوري منذ 2011 وهو لم يغفر لها ذلك، وما زال على موقفه رغم المصالحة معه! بينما سلطة رام الله هي من وقفت معه، وكذلك، وقفت معه فصائل مرفوضة من الأغلبية الفلسطينية في سورية وقبل الثورة. وأيضاً، احتمى ثوار سوريون كثيرون في المخيّمات الفلسطينية في دمشق ودرعا وسواهما. ولم يغفر النظام بدوره للمخيّمات تأييدها الثورة، فدمّرها وهجّر أهلها، كما فعل مع بقية المدن السورية الثائرة.
أوهام بعض السوريين إن علينا الاكتفاء بالوضع السوري، وهو في غاية البؤس، ونُسقط من تحليلنا من اصطفّ مع دولة الاحتلال أو تبنّى خطابها؛ إن لسورية أرضاً محتلّة وهي الجولان، ودولة الاحتلال لا ترى فلسطين (وبالطبع الجولان) إلّا أرضاً عربية، وهي محقّة بذلك، ولهذا عملت، وبكل السبل، على فصل الأنظمة العربية عن القضية الفلسطينية، وتهميش حقوق الفلسطينيين، التاريخية وما بعد “أوسلو”، وهذا هو بالتحديد ما كان سبباً لكل أشكال المقاومة الفلسطينية، ومنها عملية طوفان الأقصى، فهل كانت فلسطين سبباً لمأساة السوريين؟
انقسمت الفئات المثقّفة السورية بين عينة صغيرة تناصر فلسطين وغزّة، وهي بدورها منقسمة بين فئةٍ صمتت إزاء النظام، عقودا، وصرخت بأعلى الصوت واغزّاه، وبين فئة، رفضت الاستبداد والاحتلال معاً وعانت الأمرّين؛ وهناك فئة انساقت وراء موقفٍ رثٍ للغاية، يرى المشكلة في حركة حماس وعلاقتها بإيران، ولا يرى الاحتلال والحصار ونظام الأبارتهايد، ولا يرى الاصطفاف الأميركي الأوروبي دعماً لدولة الاحتلال، ولا يشغل باله كيفية مواجهة العدوان وكل الإجرام الذي يفعله بغزّة أو بالضفّة الغربية أو بالقدس؛ كل تفكيره ضد “حماس” (الإسلاموفوبيا)، وهو يتلاقى مع رؤية بعض الدول العربية التي لم تُوقف اتفاقيات التطبيع مع دولة الكيان، وعرقلت أيّة مواقف جادّة لإيقاف العدوان. وهناك من السوريين من صَمَت عمّا يحدث، وصمت آخرون طوال السنوات السابقة إزاء استبداد النظام. وبالتأكيد، ليس الصمت موقفا حياديّا، بل هو، وبعد كل الدمار والتهجير والقتل، انحيازٌ للقتلة، وصاحبه بذلك قليل الأخلاق والضمير. وهذا بخلاف الناس العاديين، فهؤلاء لديهم أسر وتفكير بسيط والخوف والرعب من الاستبداد، وهذا قد يفسّر لنا صمتهم ويعذُرهم، وبالتأكيد من العقلانية بمكان رفض فكرة أنّهم عبيد؛ إن أفعال البشر، ومواقفهم، أعقد من أن تصنَف وتنمذج لسببٍ واحد فقط.
تغيير الوعي السائد، والتخلّص من اعتبار فلسطين وغزّة هي سبب مشكلات السوريين، نحو وعي قومي وإنساني بعدالتها، كما تفعل كل شعوب العالم وبعض الشعوب العربية، يتطلب، من دون شك، انتقال سورية إلى نظامٍ ديمقراطي، وبحث الموقف من دولة الاحتلال، والعودة إلى نقاش قضية استعادة الجولان، وحينها ستتشكّل المرجعيات القومية والوطنية والأخلاقية من جديد، وبالتأكيد ستسقط الكثير من الأفكار الانعزالية الخاصة بالهوية.
نعم، لقد دمّر الاستبداد كل المشتركات بين السوريين وبينهم ومع العرب، ومنها الموقف القومي تجاه فلسطين وغزّة بالطبع، ولم تستطع المعارضة استبدالها بمشتركاتٍ جديدة، وهذا حديثٌ آخر.
——————————-
وقف إطلاق النار/ فاطمة ياسين
19 نوفمبر 2023
بعد 43 يوما من القصف المركّز على قطاع غزّة، مال جزء كبير من الرأي العام العالمي لصالح الشعب الفلسطيني، فقد تسبّبت كثافة القصف بآلاف القتلى والمشرّدين، وهدمت مدنا بأكملها، ما نقل التعاطف إلى الجانب الفلسطيني، وأصبحت المظاهرات الكثيفة تجوب شوارع العواصم في العالم ترفع شعارات إنسانية بالدرجة الأولى. ورغم التعاطف الشعبي، لم تتغير وجهات النظر لدى الدول الرئيسية وأعضاء مجلس الأمن الغربيين من العملية العسكرية التي تقوم بها إسرائيل، فبالدرجة الأولى “تناضل” الولايات المتحدة ضد أي حديثٍ عن وقف إطلاق النار، وسبق لها أن أحبطت مع شركائها عدّة مشروعات قرارات بهذا الخصوص، وبذلك تتبنّى الولايات المتحدة موقف إسرائيل بشكل كامل. ورغم أن حديث مسؤولي السياسة في أميركا مليء بتلميحاتٍ وتصريحاتٍ أحيانا عن حقوق المدنيين وضرورة تحييدهم من عمليات القصف، ولكن من دون تقديم أي مقترح لحلّ المفارقة بين دوام القصف على أحياء المدنيين وحمايتهم في الوقت نفسه. ولتبرير موقفها، اقترحت الولايات المتحدة وقفا متقطّعا لإطلاق النار عدّة ساعات يوميا، وتقول إن هذه المدّة تتيح توصيل المساعدات الإنسانية، وتتيح عمليات الإجلاء التي تقوم بها إسرائيل في شمال غزّة. لا يقدّم تبنّي مثل هذا القرار، وحتى تطبيقه، أي حمايةٍ للمدنيين، فالقصف سيعود على الأماكن نفسها، والحصيلة الإنسانية لهذا الهجوم مروّعة، وهي واحدة، في حال استمرّ القصف أو توقف عدّة ساعات يوميا.
ترفُض إسرائيل بشدة وقفا لإطلاق النار من أي نوع، وعارضت طلباتٍ أميركية عديدة جاءت عبر وزير الخارجية الأميركي، بلينكن، وعبر الرئيس بايدن، لأنها لا تعرف ماذا ستفعل في اللحظة التالية لمثل هذا التوقف. وكانت القيادتان، السياسية والشعبية في إسرائيل، قد أعلنتا الحرب، وأعلنتا أهدافهما الخاصة التي كان أولها تدمير حركة حماس وتفكيكها واستعادة من تم نقله إلى قطاع غزّة من الإسرائيليين خلال عملية 7 أكتوبر. لم يصبح متاحا فك شيفرة تنظيم حماس في غزّة، وتدري إسرائيل أن صعوبة كبرى تواجهها في هذا الخصوص، ولذلك تطلب وقتا كثيرا. وقد تردّدت، مرّات، على ألسنة مسؤولين إسرائيليين عبارة إن الحرب طويلة. لذلك يبدو وقف إطلاق النار في مثل هذا الظرف مخيفا للطبقة السياسية الحالية، أو ما اصطلح على تسميتها الحكومة الأكثر تطرّفا في إسرائيل، فقد برهنت أحداث 7 أكتوبر عن فشل أمني ذريع لهذه الحكومة، ووقف إطلاق النار من دون تحقيق أي هدف سيبرهن فشلا عسكريا كبيرا لها، وسيتيح الوقت اللازم لقادة المعارضة الذي انضمّ بعضهم إلى الحكومة، ولم يتوقفوا لحظة عن انتقادها، للانقضاض عليها وإسقاطها، وسيكون إسقاط نتنياهو تحصيلا لحاصل.
تتمسّك حكومة إسرائيل بإطالة الحرب، لأن في ذلك إطالة لعمرها في سدّة الحكم، وتمديدا لنتنياهو في قيادة الحكومة. وليس هدف التباطؤ في العمليات البرّية عسكريا فقط، فله هدف سياسي في الوقت ذاته، هو إيجاد مزيد من الوقت للحكومة، للوصول إلى ما يمكن أن يُعدّ انتصارا لها، وتقف الولايات المتحدة معها بقوة، رغم أن إدارة بايدن كانت على خلافٍ علنيًّ مع حكومة نتنياهو، إلى أن جاء هجوم 7 أكتوبر بوابةً لإعادة العلاقات الحميمة بين الطرفين. تدرك إدارة بايدن أنها في موقف حرج عندما تدعم إسرائيل بهذا الشكل، لجسامة الثمن الإنساني الذي يتم دفعه، وهي تستعد للدخول في العام الانتخابي، وبايدن يحضّر نفسه لفترة ثانية. وتريد هذه الإدارة أن تهدئ من مشاعر الجمهور باقتراح الهدن المتقطعة والسماح ببعض الإعانات بالدخول بين حين وآخر. ورغم التطابق الظاهر في مواقف إسرائيل والإدارة الأميركية من “حماس”، فإن أسلوب العلاج يختلف بينهما، كلٌّ وفق مصالحه الداخلية، ما يرشّح الحرب للاستمرار، سواء بوقفات متقطّعة للنار أو دونها، وثمن كليهما باهظ جدّا.
———————————
بشّار الأسد سائحاً بين الرياض وباريس وغزّة/ أيمن الشوفي
19 نوفمبر 2023
تكلّم بشار الأسد في القمّة العربية الإسلامية المشتركة، وغير العادية، في الرياض يوم 11 نوفمبر/ تشرين الثاني، بما فيه من استباحةِ غزّة الشيءَ الكثير، وبما يضاهي أصلاً استباحةَ إسرائيل القطاع المحاصر والمنكوب، وقبل أن يقرأ كلمته، كان قادة وزعماء قد غادروا قاعة الاجتماعات، ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، والرئيس التركي رجب طيّب أردوغان، وملك الأردن عبد الله الثاني، والرئيس الفلسطيني محمود عبّاس، والرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وكأن ذلك التدبير “السياسيّ” كان مقصوداً ومدروساً، أنْ يتركوا بشّار الأسد وحيداً، منبوذاً كفزّاعة لم يعد يكترث لوجودها أحدٌ، ليتحدّث بوجهٍ متصلب الدلالات في آخر ربع ساعة من الجلسة الأولى، قبل أن يُدرك تماماً حجمه السياسي الضئيل، حين توّجه المجتمعون لالتقاط صورة تذكارية، فظهر بشّار يسير بمفرده من دون أن يتبادل الحديثَ معه أيٌّ من الزعماء أو القادة العرب والمسلمين.
ثمّ استطاع رأس النظام السوري أن يرميَ غزّة، ومن الرياض، بكلّ الحقد الذي يأكلُ قلبه، ومنشأه على أيّ حال جاء من الترحيب السعودي الفاتر به، على عكس ما حدث في القمّة العربية في مايو/ أيار الماضي في جدّة، ثم من القسطِ الوافر لتجاهل باقي الزعماء والقادة وجودَه هناك، وكأن الدعوة التي جاءته لحضور القمّة، كان هدفها فقط توجيه صفعةٍ مؤلمة إليه، تُعيده إلى حجمه السياسي الطبيعي، رئيس نظام فاشلٍ وفاقدٍ للشرعية والسيادة الوطنيّة. وإن حضرت غزّة في كلمته، فقد أحضرها معهُ ليبرّر كلّ صمته الفاجر حيال ما يحدُث في القطاع المصلوب منذ أكثر من شهرين، وكأن العالم حائرٌ في موقفه ذاك، ويُعاتبه، ويطالبه بتفسيرٍ جدّي لمأزق صمته الطويل، فكلُّ ما قاله إن العدوان الراهن على غزّة مجرّد حدثٍ في سياق طويل يعود إلى 75 عاماً، كأنما يبرّر فيه. وبهذا الإيماء المتحرّك لفداحة الموت والفناء الفلسطيّني، اعتيادُه على هذا الإرث المشهدّي العام لحرب مكرّرة، لا جديد فيها ليغريه على الحديث.
إذاً، أعادت قمّة الرياض بشّارَ الأسد إلى ضآلة وزنه المعلوم، والتي كان عليها قبل قمّة جدّة، وتلك مدّةٌ سديدةٌ أفادت العرب لحصاد مردودٍ من اليقين يكفيهم لغسل أيديهم من حدوث أيّ تغيير محتمل في سلوك النظام السوري ورئيسه تجاه الملفّات الداخلية أو الإقليمية أو حتى الدولية، لكن مثل هذا اليقين تطلّب من المبادرة العربية (خطوة مقابل خطوة) أن تجسَّ نبض نظام بشار الأسد مراراً فقط لكي تتأكّد من أنه فارق الحياة من النواحي السياسية على الأقلّ. لذلك نجد كيف أنّ بشار الأسد وصل إلى الرياض، وغادرها كأنه المطرودُ منها، فيما تُواصل المعاول والمجارف التي تحرّكها عضلاتٌ منهكة النبش في دير البلح وسط قطاع غزّة، آملةً أن تلمس أصوات أحياء هناك تحت ركام الإسمنت المهشّم، فتذكّرنا دير البلح على الفور بباب عمرو في حمص خلال شتاء العام 2012، لنسترجع على الفور كل أركان مشهد التنكيل المُحوّلِ ببراعةٍ بين زمنين، بين قيادتين حكيمتين، إحداهما في دمشق والأخرى في تل أبيب، تلفّقان لنا الشعارات باذخةِ المعاني بلا استحياء، ثم تُكيلان لنا الموت الأعمى من كلّ الجهات.
لكن، هل يحقُّ لرأس نظام دمشق التفوّه بتلك النصائح التي ترجّلت من كلمته في قمّة الرياض؟ وتلقين “النُصح المُقاوم” لغيره من الزعماء والقادة العرب والمسلمين؟ وهو الذي جعل من سورية غزّة مترامية الأطراف، فطلاقةُ الموت التي تُحاور بها إسرائيل فلسطينيي القطاع والضفة الغربية، هي ذاتها الطلاقةُ التي حَاوَرَ بها بشّار الأسد كلَّ السوريين، ولم يتلعثم بها يوماً طوال الاثني عشر عاماً الماضية.
ثمَّ، وبعد عودة بشّار من قمّة الرياض، توجّب عليه استقبال نبأ إصدار القضاء الفرنسي مذكرة اعتقال دولية بحقة، وثلاثةٍ من أركان حكمه، بمن فيهم شقيقه ماهر، قائد الفرقة الرابعة، بتهم التواطؤ في جرائم حرب ضدّ الإنسانية من خلال استخدام الأسلحة الكيميائية المحظورة دولياً بحقّ مدنيين في الغوطة الشرقية، ومعضّمية الشام في ريف دمشق، في صيف العام 2013، الأمر الذي نجم عنه مقتل أكثر من ألف شخص في حينها.
ولعل توقيت صدور مذكرة الاعتقال الدولية تلك جاء مهماً للغاية، ولا يمكن تناوله حدثا منفصلا عن الجانب المرئي لإعادة عزل رئيس النظام السوري مجدّداً، لا سيما أنه جاء بعد قمّة الرياض التي انتقدت عجرفة بشّار الأسد بلباقةٍ وتهذيب شديديْن، سواء بتأخير كلمته إلى ثلثِ الساعةِ الأخير من الجلسة الافتتاحية لأعمالها، أم من خلال المكان الذي تَقَرّر أن يجلس فيه هناك، أو الموقع المحدّد له بين القادة والزعماء في أثناء التقاط الصورة التذكارية للحاضرين في القمّة. كما أنّ الموعد الذي جاء فيه صدور مذكّرة الاعتقال تلك كان مفيداً لأجل إيقاظ ذاكرة زعيم النظام السوري من نومها المديد، المفترض أن تكون أمينةَ الحفظِ لسجلّ بهيجٍ من صورِ تقتيل السوريين وتهجيرهم، وبعثرة بلادهم ذات اليمين وذات الشمال، فيكون حديث بشّار الأسد عن فظائع العدوان الإسرائيلي على غزّة هو مجرّد تفنيدٍ غير منصفٍ لمنهجية إجرام، يمتلكها أصلاً صاحب الحديث نفسه، بل ويمتلك ما هو أبشعُ منها.
وربما يكون دور بشّار الأسد قد شارفَ على الانتهاء في سورية، وهو الذي كان بارّاً له إلى حدّ لا يوصف، منذ ابتدع مسيرة التدمير والتهجير، حين دمّر تباعاً المحافظات السورية الثائرة عليه منذ العام 2011 وهجّر سكّانها، مروراً بابتكاره مسيرة البيع والتأجير، حين خاض غمار ملذّات بيع البلاد لحليفيه الإيراني والروسيّ، وصولاً إلى مصادقته على مسيرة التقسيم، وهي مسيرةٌ لم تنتهِ بعد، ما زالت فصولُها تُحاك الواحدَ تلو الآخر، وما الحرب على غزّة إلا مقدّمة لأحد تلك الفصول، وربما لأكثرها أهمية، وما انتفاضة السويداء الحالية سوى محاكاة لنموذج المحافظة الصغيرة المتمرّدة على المركز الحاكم، والتي تُركت على سجيّتها من غير أن تُكمّم أو تُجابه لا أمنيّاً ولا عسكرياً طوال ثلاثة الأشهر الماضية.
هكذا قُمعت سورية، ثم بيعت، ثم تجزّأت، وتلك سيرةٌ قديمة يأتي أولها من منتصف شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من العام 1970، حين وصل حافظ الأسد إلى حكمها بانقلاب عسكريّ أبيض، ويكتمل سردها منذ توريث بشّار الأسد السلطة عام 2000، وتلك سيرةٌ مفضوحةٌ لعائلة باعت فقبضت فبقيت.
——————————-
في تأثير حرب غزّة على بايدن انتخابياً/ رضوان زيادة
18 نوفمبر 2023
اتخذ الرئيس الأميركي، بايدن، منذ اليوم الأول للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة موقفا مؤيدا بشكل مطلق، وهو القائل “إنك لا تحتاج أن تكون يهوديا كي تكون صهيونياً”، و”إذا لم تكن إسرائيل موجودة، فإننا بحاجة إلى اختراعها”، مردّدا حرفيا الرواية الإسرائيلية في ولادة دولة إسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني.
ومع تصاعد القصف الإسرائيلي، ثم الاجتياح البرّي لغزّة، ظهر حجم الكارثة التي ستخلفها إسرائيل في حربها على المدنيين والبنية التحتية، حيث سوّيت أحياء بأكملها بالأرض، وتضاعف عدد الشهداء الفلسطينيين المدنيين إلى أكثر من 12 ألفاً، فبدأت أسئلة كثيرة داخل دوائر الحزب الديمقراطي بشأن موقف بايدن، ولا سيما أن الرأي العام الأميركي يبدو متغيّرا إلى حد بعيد في عدم دعمه هذه العملية العسكرية الإسرائيلية. فقد حذّر الديمقراطيون في ميشيغن البيت الأبيض من أن تعامل الرئيس مع الحرب قد يكلفه ما يكفي من الدعم داخل المجتمع العربي الأميركي للتأثير في نتيجة انتخابات عام 2024 في ولايةٍ يكاد يكون من المؤكّد أنه لا يستطيع تحمّل خسارتها، في محاولته إعادة انتخابه، ولا سيما أن الأرقام متقاربة بشكل كبير بينه وبين الرئيس السابق ترامب، بل أعطى استطلاع للرأي، أخيرا، ترامب تقدّما على بايدن في خمس ولايات متأرجحة، منها ميشيغن. وقد دفع هذا الوضع البيت الأبيض إلى مناقشة سبل تخفيف التوترات مع بعض الديمقراطيين البارزين في الولاية، بما في ذلك عديدون ممن انتقدوا الرئيس بشدة بشأن الحرب على غزّة.
كانت ميشيغن عنصرا حاسما في ما يسمّى الجدار الأزرق للولايات في وجه الولايات الحمراء المقصود بها التي قد تصوّت لصالح المرشّح الجمهوري. ويضم هذا الجدار الأزرق ميشيغن وويسكونسن وبنسلفانيا، وإذا خسر بايدن أيا منها من المحتمل أن يخسر المعركة إلى البيت الأبيض في 2024، فقد ساعدته ميشيغن على الفوز في عام 2020. ومنذ ذلك الحين، شعر الديمقراطيون بثقة أكبر بشأن مكانتهم فيها، خصوصا بعد أن حقّقت الحاكمة غريتشن ويتمر فوزًا ساحقًا بإعادة انتخابها بعشر نقاط في العام الماضي، فسيكون للحرب على غزّة تأثير كبير ربما أكثر استدامة بالنسبة للرئيس بايدن. وفي عام 2020، دعم الناخبون المسلمون بايدن على المستوى الوطني على ترامب بنسبة 64% إلى 35%، وفقًا لوكالة قوت كاست.
تضم ميشيغن أكبر تجمع للأميركيين العرب في البلاد، وأكثر من 310.000 نسمة من أصول شرق أوسطية أو شمال أفريقية. وتعهد كثيرون في الولاية بالتكاتف ضد حملة إعادة انتخاب بايدن ما لم يدعُ إلى وقف إطلاق النار. ولكن بايدن يبدو متردّدا كثيرا في القيام بذلك، مؤكّدا حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها بعد هجوم 7 أكتوبر، وألقى ظلالا من الشك على تقديرات وزارة الصحة في غزة بشأن عدد الفلسطينيين الذين قتلتهم القوات الإسرائيلية.
وقد اجتمع ما يقرب من 30 من القادة والناشطين العرب الأميركيين في ضاحية ديربورن في ديترويت في 16 الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول) لمناقشة رد إدارة بايدن على الحرب. وأعلنوا البدء بتشكيل لجنة عمل سياسية ستقاطع المرشّحين الديمقراطيين الذين لم يتحدّثوا علناً ضد العملية الإسرائيلية داخل غزّة، وهو ما وصل صداه إلى واشنطن، حيث اجتمع مسؤولون في البيت الأبيض مع قادة الجالية في ميشيغن، في محاولة لكسب الصوت العربي والمسلم في الولاية.
يشعر أميركيون عرب بأنهم قد لا يدعمون مرشّحًا جمهوريًا مثل ترامب، إلا أنهم سيتركون الجزء العلوي من البطاقة فارغًا. فاز ترامب بولاية ميشيغن بفارق يزيد قليلاً عن عشرة آلاف صوت في عام 2016، واختار عشرات الآلاف من ناخبي ميشيغن عدم التصويت في السباق الرئاسي في ذلك العام.
كان الغضب من ردّ فعل الديمقراطيين على الحرب واضحًا بالكامل، فقد خرجت المظاهرات المطالبة بوقف إطلاق النار في كل أنحاء الولاية، وخصوصا في مقاطعة وين التي بدأت تشهد اعتصامات شبه يومية، وقد ساعدت المجتمعات الإسلامية الكبيرة في مقاطعة واين بايدن على استعادة الولاية لصالح الديمقراطيين في 2020 بفارق 154 ألف صوت تقريبًا. وتمتّع بايدن بميزة 3 إلى 1 تقريبًا في ديربورن، حيث ما يقرب من نصف سكان المدينة (110 آلاف نسمة هم من أصل عربي). وقد ردّد زعماء الجالية هناك صراحة إن إدارة بايدن والديمقراطيين الذين يتفقون مع موقفه بشأن الحرب لا يستحقون أصواتنا العام المقبل في الانتخابات. وقد بدأ الحزب الديمقراطي في الولاية أيضًا إجراء مناقشات داخلية، وتواصل بشأن كيفية تخفيف التوترات السياسية مع المجتمع العربي الأميركي والعمل على توحيد جميع الدوائر الانتخابية الديمقراطية. ولكن من الصعب تصور سيناريو لبايدن للفوز بإعادة انتخابه لا يشمل ميشيغن. وقد حقق الجمهوريون مكاسب كبيرة في فلوريدا وأوهايو، وكلاهما كانا يعتبران من الولايات المتأرجحة الحاسمة حتى وقت قريب.
… هل يخسر بايدن في انتخابات عام 2024 بسبب موقفه من الحرب على غزّة، من المبكّر جدا الحسم بذلك، لكن مؤشّرات أولية تفيد بأن ذلك محتمل إلى حد بعيد.
—————————–
السلطة الفلسطينية عاجزة أم متواطئة؟/ حيّان جابر
18 نوفمبر 2023
تفرض تطوّرات الساحة الفلسطينية سؤالًا دوريًا بشأن دور ما تعرف بالسلطة الوطنية الفلسطينية، إذ تدور النقاشات عادةً بين وصفها بالعاجزة، نتيجة طبيعتها التي فرضها اتّفاق أوسلو أولاً، وبحكم ارتباط مصالح قيادتها مع استمرار الأوضاع الراهنة في فلسطين، وبين من يتهم السلطة بالتواطؤ المباشر مع الاحتلال. والتواطؤ هنا تعبيرٌ مجمّلٌ ومخففٌ بديلٌ عن اتهامها بالخيانة العظمى، نظرًا إلى ثقل التعبير الأخير، وصعوبة تداوله إعلاميًا، ليس إلّا.
بناء عليه، لا بدّ من التمعن في دور السلطة الراهن، خصوصًا بعد عملية طوفان الأقصى، وبعد العدوان الصهيوني الهمجي والشرس على كلّ ما هو فلسطيني، أرضًا وشعبًا، في الأراضي المحتلة عام 1948، وفي الضفّة الغربية، والقدس ضمنيًا، وفي قطاع غزّة المحاصر منذ أكثر من 17 عامًا. إذ انحصر دور السلطة في هذه المرحلة؛ كما جرت العادة، في: تصريحاتٍ سياسيةٍ تدين ممارسات الاحتلال، وتحمّله مسؤولية تدهور الأوضاع الأمنية في الأراضي المحتلة، وتحديدًا في الضفّة الغربية، إلى جانب دعوةٍ متكررةٍ لعقد مؤتمرٍ دوليٍ لحلّ القضية الفلسطينية، وفق رؤية الدولتين، وآخرها طلب الحماية الدولية لشعب فلسطين وأرضها، ويمكن إضافة طلب إدخال المساعدات العاجلة إلى قطاع غزّة.
يمثّل ذلك مجمل دور السلطة راهنًا وماضيًا، ما دفع معظم الفلسطينيين إلى وصفها بالسلطة العاجزة عن القيام بأيّ دورٍ حقيقيٍ وملموسٍ. ولكن هل هذا الوصف صحيحٌ؟ الجزم بافتقاد السلطة الناتجة من اتّفاق أوسلو المشؤوم للقدرة على المبادرةٍ إلى فعلٍ حقيقيٍ هو تبرئةٌ غير مقصودةٍ لها، إذ يمكن للسلطة أن تلعب أدوارًا حقيقيةً، بل ومقاومةً إن أرادت، فعلى صعيد النضال السياسي؛ يمكن للسلطة أن تنتهج استراتيجيةً سياسيةً مقاومةً واضحة المعالم، عبر ثلاثة مساراتٍ متوازيةٍ: أولها رفض تقسيم الأراضي الفلسطينية جغرافيًا، وهو ما يعني رفض الفصل بين عدوان الاحتلال على غزّة وعلى القدس والضفّة الغربية، بل وحتّى على فلسطينيي الداخل المحتل، ما يعنى أنّ جرائم الاحتلال المتواصلة على المدنيين الفلسطينيين منذ بداياته، سيّما التي نفذتها حكومته الراهنة هي إرهابٌ موصوفٌ ومستمرٌّ على مجمل شعب فلسطين، بغض النظر عن مكان وقعها، وهو ما يقود إلى رفض وتفنيد محاولات الاحتلال جعل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول نقطة ابتداء تمحو ما قبلها، وتشرع ما بعدها.
المسار الثاني هو قطع العلاقات مع جميع القوى الدولية والإقليمية المشاركة في جرائم الاحتلال، عبر تبريرها، أو حمايته، أو تمويله، أو عبر تسليح الاحتلال ومستوطنيه، وهو ما يعني قطع مجمل العلاقات مع أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا. وهنا علينا التأكيد على عدم جدوى اللقاءات السياسية التي عقدتها السلطة مع أي من ممثلي تلك الدول، بل على العكس كانت معظم؛ إن لم نقل كلّ، تلك اللقاءات بمثابة إداناتٍ خفيةٍ لحقّ الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال، وأحيانًا لحقّه في الحياة، والتحرّر وتقرير المصير وإقامة دولته الفلسطينية المستقلة. بناء عليه، يمثل قطع العلاقات الفوري أداةً سياسيةً غير ضارةٍ، إن لم نقل إنّها نافعةٌ، وينحصر ضررها في الجانب الاقتصادي، بحكم اعتماد السلطة على أموال المانحين الدوليين، وخصوصًا أميركا، وهو ثمنٌ بسيطٌ قياسًا لحجم الجرائم الصهيونية المرتكبة بحقّ الكلّ الفلسطيني، فضلاً عن قدرة السلطة والمجتمع الفلسطيني على تجاوز تلك الآثار السلبية بوسائل عديدةٍ يمكن الخوض فيها لاحقًا.
ثالث المسارات قيادة السلطة الحراك الدولي المناصر للحقوق الفلسطينية، والقيادة هنا تعني الضغط والتأثير والتوجيه، إذ على السلطة العمل على صناعة حلفٍ دوليٍ عابر للقارّات موحّدٍ وحاسمٍ بكلّ ما يتعلق بالشأن الفلسطيني، يقطع العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية مع الاحتلال، ولما لا مع داعميه أيضًا، إلى جانب سعيه إلى كسر حصار شعب فلسطين عمليًا في كلٍّ من قطاع غزّة والضفّة الغربية وفي الداخل المحتل، عبر آلياتٍ عمليةٍ ميدانيةٍ ذات طابعٍ دوليٍ، مثل قوافل مساعداتٍ إنسانيةٍ برّيةٍ وبحريةٍ وجويةٍ فدائية الطابع، أي لا تنتظر موافقة الاحتلال، ولا تنسق معه أصلاً، في محاكاةٍ عمليةٍ لما تسميه أميركا بالجسر الجوي مع الاحتلال، وتجدر الإشارة هنا إلى رغبة آلاف المتطوّعين الفلسطينيين والإقليميين والدوليين في المشاركة في هذا الجسر البري والجوي والبحري، رغم خطر قصفه صهيونيًا.
على المستوى الميداني؛ تملك السلطة أيضًا القدرة على أداء دورٍ مقاومٍ حقيقيٍ في مناطق وجودها، بل وحتّى خارجها، ولهذا الدور مستويان، سلمي وعنيف، يتمثل الأول في تسيير السلطة قوافل وجسرا بشريا فلسطينيا لكسر الحصار، لكن تجب الإشارة هنا إلى أن تسيير ذلك يتطلّب مشاركة السلطة قيادتها ميدانيًا، عبر المشاركة أعلى المستويات القيادية السلطوية، من رئيسها؛ الذي لا يدع مناسبةً إلّا ويؤكّد فيها على دعمه المقاومة السلمية، إلى حكومتها، مرورًا بمختلف مستوياتها القيادية السياسية والأمنية والاقتصادية.
أما المستوى العنيف؛ الذي تتجنبه السلطة كثيرًا فيتمثّل في إعلانها رفع الجهوزية الأمنية، ومطالبة الأجهزة الأمنية الاستعداد للتصدّي لإرهاب مستوطني الاحتلال وجيشه، في كلّ أماكن وجودها، والعمل على كسر تقسيم الضفّة الغربية إلى معازل وكانتونات منفصلةٍ. وهنا يجب التذكير بتصريح رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، قبل بضعة أيّامٍ عن رفضه تسلم سلطة رام الله زمام السلطة في قطاع غزّة، في حال نجاح الاحتلال في إقصاء حركة حماس عن قطاع غزّة والقضاء عليها، وذلك على الرغم من تصريح السلطة إنّها مستعدةٌ لتسلم مسؤولية قطاع غزّة في إطار حلٍّ سياسيٍ شاملٍ. مع العلم أنّ تصريح السلطة هذا، في الوقت الراهن، يمثل خطأً كبيرًا جدًا، إذ كان عليها التأكيد على رفض العدوان الصهيوني، وعلى رفض التصريحات الصهيونية والدولية التي تتناول هوية السلطة وطبيعتها في قطاع غزّة، وعلى أنّ الشعب الفلسطيني هو صاحب الحقّ الوحيد في اختيار سلطته وحكومته على كامل الأراضي الفلسطينية، ومنها قطاع غزّة، من دون أيّ إضافةٍ.
أخيرًا وليس آخرًا؛ على السلطة أن تلعب دورًا قياديًا على المستوى القانوني الساعي إلى محاكمة جميع قادة الاحتلال السياسيين والعسكريين والأمنيين، إلى جانب إعلامييه وقادته الاجتماعيين الذين دعوا جيش الاحتلال إلى محو غزّة، وقتل الفلسطينيين، وتهجيرهم قسرًا، فضلاً عن محاكمة داعمي الاحتلال عسكريًا وسياسيًا وإعلاميًا واقتصاديًا، وهو ما يشمل دولًا كبرى، في مقدمتها أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، ومؤسّسات إعلاميةٌ ضخمة مثل CNN و الـ BBC، إلى جانب علاماتٍ تجاريةٍ عالميةٍ مثل ماكدونالدز وستاربكس، إلى جانب مصانع الأسلحة والمعدات الثقيلة، التي يستخدمها منتجاتها جيش الاحتلال، وهو ما يشمل دعوة دول العالم إلى تمويل هذه المحاكمات في كلّ مكانٍ متاحٍ، وبمشاركةٍ واسعةٍ من كلّ الحقوقيين والمحامين حول العالم، من المعنيين بهذه القضية العادلة والإنسانية.
من ذلك كله؛ تملك السلطة أدواتٍ يمكن أن تستخدمها إن أرادت، لكنها تمتنع عن استخدام أيٍّ منها، وهو ما يجعلها متواطئةً؛ بالحدّ الأدنى، مع الاحتلال وداعميه، كما ينفي عنها صفة العاجزة. كما يؤكّد مجددًا على أنّ تحرير فلسطين يتناقض كليًّا مع هوية هذه السلطة، ومع دورها الوظيفي الأمني.
————————–
يسمحون لنا أن نشتم إسرائيل والديمقراطية/ رشا عمران
18 نوفمبر 2023
ذهب رئيس الوزراء الكندي، جاستين ترودو، قبل يومين، لتناول وجبة العشاء في أحد المطاعم، حين اجتمع عليه بعض مناصري القضية الفلسطينية واتهموه بالقتل، لأنه يقف في صفّ إسرائيل، ولا يلقي بالا إلى المجازر اليومية التي يُحدثها الاحتلال الإسرائيلي. لم يفعل ترودو شيئا سوى أنه انسحب من المكان بهدوء، ولم تعتقل الشرطة أحدا سوى رجل لكم أحد مرافقي ترودو لأنه حدّق به بغضب. أفرج عن الرجل لاحقا، ومضى الأمر بسلام. … تخيّلوا لو حدث هذا في دولة عربية، لو اعترض بعض الغاضبين طريق أي مسؤول عربي، ماذا كان سيحدُث؟ هذا لو افترضنا جدلا أن هناك مسؤولاً عربياً في منصب كبير يقبل أن يذهب، بشكل طبيعي، إلى مطعم ما من دون أن يمنع البشر العاديين من دخول المطعم، ومن دون أن يحاط هو والمطعم والشارع الذي يقع فيه المطعم بعدد كبير من قوات الحماية ورجال الأمن والشرطة.
في حادثة دالّة أخرى، وجّه سفراء وعاملون في السلك الدبلوماسي الفرنسي رسالة احتجاج مشتركة إلى قصر الإليزيه، وإلى الرئيس ماكرون، يستهجنون فيها الموقف الفرنسي الرسمي من القضية الفلسطينية، ويعتبرونه انحيازا، لا يتناسب مع قيم الجمهورية الفرنسية، لإسرائيل التي ترتكب مجازر يومية بحقّ الشعب الفلسطيني. أيضا لم يعاقب أحدٌ هؤلاء، لا بالسجن ولا بالفصل من السلك الدبلوماسي. ونشرت الرسالة وكالة الأنباء الفرنسية، ووزّعتها على وكالات الأنباء العالمية. تخيلوا أيضا ماذا سيحدُث لو وجّه سفير عربي رسالة مشابهة، يحتجّ فيها على موقف نظامه من قضية فلسطين؛ أظنّكم توافقون أن أحدا لا يتجرّأ على مجرد التفكير بهذا، قد يفعلها إن خرج هو وعائلته كلها خارج البلد أولا، وآمّن على حياته وحياة عائلته من الانتقام.
عُزلت في بريطانيا وزيرة الداخلية من منصبها، لأنها طلبت من الشرطة البريطانية قمع المتظاهرين المؤيدين لفلسطين. وردّا عليها خرج ألفا شرطي بريطاني بلباسهم الرسمي في مظاهرة يحملون فيها الأعلام الفلسطينية. لم يكن أمام رئيس الوزراء البريطاني (المؤيّد لإسرائيل)، ريشي سوناك، سوى اتخاذ هذا القرار، كي يخفّف الغضب الشعبي البريطاني غير المسبوق من المجازر الإسرائيلية. كما أن خلافا حادّا حصل في مجلس العموم حول ما على ملك البلاد قوله في خطابه المنتظر المتعلق بغزّة. …، علينا أن نحلم بمواقف كهذه في بلادنا، قبل أن نشتم ديمقراطية الغرب.
في أميركا استقال نواب ودبلوماسيون وموظفون كبار في البيت الأبيض والكونغرس، احتجاجا على الدعم الأميركي المشين لجرائم إسرائيل. وانقسمت الأحزاب في مواقف أعضائها، وحصلت نقاشات طويلة وخلافات حادّة بسبب الموقف من غزّة جعلت حتى الصهيوني بلينكن يتراجع عن موقفه قليلا.
لم يُبد أي مسؤول عربي موقفا مغايرا لموقف نظامه من الحرب، لا يتجرّأ أي فنان أو مثقف أو مسؤول أو مواطن على الدعوة إلى التظاهر أو الاحتجاج، ولن يتجرأ المواطنون العاديون على فعل هذا، ذلك أن المصير المباشر لمن يفعل ذلك الاعتقال أو الاختفاء. ونحن، كما يقول التاريخ والجغرافية، أهل الضحايا وآباؤهم وأمهاتهم وإخوتهم. بينما لا تتوقف المظاهرات في بلاد العالم، حتى في أشد الدول راديكالية في دعمها إسرائيل؛ ذلك أن للشعوب رأيها المعترض على الرأي الرسمي لحكوماتها وأنظمتها الحاكمة، ومهما تمادت هذه الحكومات في محاولات قمعها الأصوات الداعمة فلسطين، ثمّة عتبات سوف تمنعها من التمادي في القمع، ثمّة ذاكرة جمعية تشكّلت على احترام حقّ حرية الرأي واعتبار المساس به إهانة واعتداء مباشرا لن تسكت عنه هذه الشعوب.
لم يستطع النظام العالمي الحاكم فرض رأيه على شعوبه، ولن يستطيع فرض جرائم إسرائيل بوصفها دفاعا عن النفس، ولن تمرّ هذه الأحداث بسلام، ثمّة ما يتغيّر في العالم، يتغيّر لصالح الحقّ والحقيقة، لصالح الضحايا، ضد الظلم والقتل واستعراض القوة والإجرام. وبينما تعجز حكومات الغرب عن فرض رأيها على شعوبها تسمح لنا حكوماتنا العربية بأن نشتم إسرائيل شرط أن نشتم الديمقراطية.
—————————-
القتل للفلسطينيين والتضامن مع اليهود/ راتب شعبو
17 نوفمبر 2023
في وقت تستمر الحرب الإسرائيلية على غزة منذ السابع من الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول)، من دون أي احترام للقانون الدولي والإنساني، فتُقصف المشافي والمدارس والبيوت ويُهجر الناس بمئات الآلاف من أماكن سكنهم ثم تُقصف جموع المهاجرين، حتى بات من الصعب إحصاء عدد الضحايا، ويقتل الأطفال الفلسطينيون بمعدّل طفل كل عشر دقائق، بحسب تصريح المدير العام لمنظمة الصحة العالمية أمام مجلس الأمن، ويمنع إيصال المساعدات الإنسانية … إلخ، نقول في هذا الوقت، تشتد في أوروبا محاربة العداء للسامية وتعلو نبرة التضامن الغربي مع دولة إسرائيل ومع اليهود، وكأن الحرب الدائرة والقصف والموت اليومي الغزير يطاول اليهود لا الفلسطينيين. وفي الوقت نفسه، تُرفض إشارات التضامن مع الفلسطينيين الواقعين تحت قصف رهيب مستمر، وقد تكلف إشارة التضامن صاحبها الاستجواب بتهمة العداء للسامية، أو الطرد من العمل.
في فرنسا مثلاً، خرجت في 12 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، بدعوة من رئيسة الجمعية الوطنية ورئيس مجلس الشيوخ، مسيرة لمحاربة العداء للسامية، شارك فيها طيف واسع من اليمين واليسار، من ضمنهم رئيسا جمهورية سابقان، ورئيسة الحكومة الحالية ومسؤولون حكوميون حاليون وسابقون ومنتخَبون وزعماء سياسيون. وهذه مفارقة صريحة، أن يخرج معظم الجسد الرسمي الفرنسي (عبّر الرئيس عن مساندته التامة لكنه قرّر في اللحظة الأخيرة عدم المشاركة) للتضامن مع اليهود، احتجاجاً على ممارسات عدائية يغلب عليها الطابع الرمزي (وهي تستوجب الإدانة والمواجهة) من دون التضامن مع الفلسطينيين الذين يتعرّضون لجرائم حربٍ مستمرّة.
تبدو هذه في عيوننا مفارقة صارخة، وهي كذلك، ولكنها ليست مفارقة في العين الأوروبية. ذلك أن لبروز مظاهر العداء للسامية في أوروبا أصداء بعيدة تولّد لدى الأوروبيين قلقاً أكثر بكثير مما تولده وحشية إسرائيل وجرائمها ضد الفلسطينيين، مهما بلغت. فهذه الجرائم تجري على أرض بعيدة، كما أنها تستهدف ذاك الصنف من البشر الذين يحملون “ثقافة” أخرى، وخرج من بينهم من يستهدف أوروبا نفسها بعملياتٍ إرهابية. صادفت في اليوم التالي للمسيرة التضامنية المذكورة، الذكرى الثامنة لمذبحة مسرح باتكلان التي وقعت ضمن سلسلة هجمات تعرّضت لها باريس في 13 نوفمبر 2015، وتبنّاها تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش). لم يكن مفاجئاً أن الإعلام الإسرائيلي سعى منذ البداية إلى المماثلة بين حركة حماس و”داعش”، وكأنه لا وجود للقضية الفلسطينية التي باسمها، وليس باسم المرجعية الإسلامية، فازت “حماس” في الانتخابات التشريعية 2006. من السهل أن يستجيب الأوروبي لهذا الإعلام، وأن يحذف القضية الفلسطينية من المعادلة، وأن يجد نفسه، بالتالي، في المعسكر الاسرائيلي من الصراع. هذا ما يريد التشديد عليه نتنياهو، حين يقول، في ردّ غاضب على الرئيس الفرنسي الذي طالب بوقف إطلاق النار، “ما فعلته حماس في غزّة ستكرّره في باريس ونيويورك”.
تمّت الدعوة إلى المسيرة تحت عنوان “الجمهورية في خطر وركائزها مهدّدة”، ما يشير إلى أن مصدر قلق المشاركين مستقل عما يجري في غزّة من إجرام، وفي هذا ما ينمّ عن فشل المسؤولين الفرنسيين في رؤية الترابط بين ما يقلقهم (تنامي الأفعال المعادية للسامية) وما يحلّ بغيرهم من ظلم فادح ومن قتل وتهجير. واضحٌ للعين المجرّدة أن استمرار الاحتلال والوحشية الاسرائيلية في تعاملها مع الفلسطينيين أنهم بشر أقل، على ما صرح، من دون خجل، أكثر من مسؤول اسرائيلي، هو السبب وراء التزايد الحادّ في الممارسات المعادية للسامية في فرنسا (تجاوزت 1200 اعتداء منذ 7 أكتوبر، حسب تصريح وزير الداخلية الفرنسي) التي تضم حوالي نصف مليون يهودي، وتعتبر ثالث دولة من حيث عدد اليهود فيها.
لقد تغيّرت بيئة (ومضمون) ما يسمى العداء للسامية بين الأمس واليوم، ففي حين كان هذا العداء يعبّر عن تيار سياسي أوروبي من طبيعة عنصرية، بات يغلب عليه اليوم نزوع غير أوروبي تحمله عناصر غير منتظمة يحرّكها دافع سياسي، هو التضامن مع فلسطين، وإن كان هذا الشكل من التضامن تائها وفاقدا الصواب وذا مردود سيئ على الفلسطينيين. لكن يبقى أن غالبية من يدخلون في خانة اللاسامية اليوم هم من الساميين أصلاً وليسوا من الآريين، بعد أن صارت اليهودية مسألةً شرق أوسطية أكثر منها أوروبية.
ومما يشير إلى هذا التحوّل المشار إليه أن اليمين المتطرّف في فرنسا (التجمّع الوطني، الاسم الجديد للجبهة الوطنية) المعروف بعدائه للسامية، والذي سبق أن دين مؤسسه أمام القضاء بتهمة العنصرية والعداء للسامية، شارك في المسيرة. كما يذهب في الاتجاه نفسه، قول الرئيس الفرنسي ماكرون في 2019 في عشاء مع قادة يهود، “إن معاداة الصهيونية من أشكال معادة السامية”، وفي هذا جمع متنافر بين المعاداة على أرضية سياسية والمعاداة على أرضية عرقية.
يقول ما سبق إن مناهضة معاداة السامية في فرنسا، وفي مجمل أوروبا الغربية، تتحوّل أكثر فأكثر إلى غطاء لدعم عدوانية إسرائيل، وقبول الوقائع التي تصنعها على الأرض على حساب حقوق أصحاب الأرض، وعلى الضد من قرارات الشرعية الدولية. في المقابل، خرجت مسيرات تضامن مع الفلسطينيين في مدن فرنسية كثيرة، رغم التضييق الرسمي المباشر (رفض إعطاء تصريح) أو غير المباشر (مضايقات من البوليس وفرض غرامات). وتعرّضت مسيرات تضامن عديدة مع فلسطين لعنف الشرطة باستخدام غاز الدموع ورشّاشات الماء … إلخ. بين مسيرة رسمية منظّمة يشارك فيها المسؤولون وتواكبها وسائل الإعلام، ومسيرات شعبية تتعرّض للعنف والتضييق من الشرطة، فارق واضح، يقول إن الاستقطاب السياسي الذي تشهده فرنسا داخلي، جاهز لاستقبال “الصراع المستورد” الذي تكلّم عنه ماكرون.
——————–
غزّة وحكاية الثور الأبيض/ بشير البكر
17 نوفمبر 2023
حينما يتضامن العربي مع أهل غزّة، إنما يؤدّي واجبا أخلاقيا قبل كل شيء، لكنه، في الوقت ذاته، يدافع عن نفسه من مصيرٍ مشابه لما يتعرّض له الفلسطينيون من إبادة. ومن لا يدرك هذه المعادلة يجب أن يقرأ قصة الثور الأبيض، التي تردّدت عند بعض مواجهات خاضها العرب. ولكن لا أحد تعلم منها، أو عمل بالحكمة المستقاة منها، في حين أن دراسة ما حصل للعرب من نكسات تحيل إلى قرائن تندرج في نسق فلسفة الحكاية الشعبية، وما يمكن اشتقاقُه من قواعد تنطبق على كل من يمكن أن تعميه الأنانية، ويشلّه الخوف، وتبلد المشاعر والأحاسيس، عن رؤية الخطر القادم إليه، عندما يفتك بشقيقه، وبدلا من أن يدرك أن الكارثة لن توفّره، يدفن رأسه في الرمل.
حينما تم ضرب العراق عام 1991 كان واضحا أن المسألة تتجاوز إجبار الرئيس العراقي حينذاك، صدّام حسين، على الانسحاب من الكويت، وتعويض الدولة الكويتية وشعبها، عما ألحقه بهم قراره الأحمق غزو البلد الشقيق والجار. ومن دون شك، ساعدت مكابرة الرئيس العراقي الفارغة، ورفضه الانسحاب من الكويت من دون حرب، في تشكيل التحالف الدولي العربي ضدّه، غير أن أطرافا أجنبية وعربية، كانت لها مصلحة في توجيه ضربة عسكرية قوية لهذا البلد، بهدف إخراجه من المعادلات الإقليمية، فيما يخصّ أمن الخليج، والصراع العربي الاسرائيلي. وفي حين أن الولايات المتحدة هي التي نهضت، فعليا، بمهمّة تدمير العراق، فإن دولا أخرى، إقليمية على وجه الخصوص، لم تقصّر في ذلك، ومن بينها عربية جارة لصيقة، كان بقاء العراق، يساعدها على مستوى مواجهة التحدّيات الاستراتيجية بعيدة المدى، لكنها غلّبت الحسابات الضيقة الأنانية، وشاركت في تدمير قوة بلد عربي، وهو ما سبّب خللا، ما يزال العرب يدفعون فواتيره في الخليج، نتيجة تنامي قوة إيران، ذات الأطماع التي تتجاوز حدودها.
الحرب على غزّة ذات أهداف وتداعيات أبعد من القضاء على حركة حماس، وهذا شأنٌ يبدو محسوما بالنسبة لإسرائيل، وشريكتها الأساسية في الحرب، الولايات المتحدة. ويعد تهجير قسم من الشعب الفلسطيني من القطاع والضفة الغربية أحد أهداف هذه الحرب. وهو في كل الأحوال، لن يكون فوريا، بل سيتأخّر كي ينقشع غبار المعارك، وفي حال حسمت إسرائيل المعركة، لن يكون في وسع أحد أن يقف في وجه المخطّط، الذي سيفرضه المنتصرون بالقوة، ولن يمنعه الذين لم يقفوا في وجه الحرب. ومن يراقب النقاش العلني الذي يدور في وسائل الإعلام، في بعض بلدان أوروبا، يلمس مقدار التحريض على العرب والمسلمين في الغرب من جهة، وداخل بلدانهم من جهة أخرى، وهو يحيل إلى الأجواء المتوتّرة التي غطّت سماء الولايات المتحدة عام 2001، بعد هجمات 11 سبتمبر، وعلى نحو خاص إشهار أطروحة “حرب الحضارات”، التي جاء بها صموئيل هنتنغتون، وقادت إلى توليد ثقافة كراهية، عكست نفسها في أعمال عدائية، وممارسات عنصرية ضد العرب والمسلمين على المستوى العالمي.
من الواضح أن الموجة الجديدة سوف تكون أشد عنفا من تلك التي ولدتها هجمات 11 سبتمبر، لأن الهدف منها سيتركز على تمكين إسرائيل من تحقيق اختراق كبير داخل العالم العربي، لم تتمكّن من تحقيقه من خلال اتفاقات السلام والتطبيع معها، التي عقدتها منذ “كامب ديفيد”. ويجري التلويح من أوساط أميركية وأوروبية أن المسألة هذه المرّة لن تكون اختيارية، بل إجبارية، وبالقوة، وبتمويلٍ من العرب أنفسهم، وهذا ما يفسّر محاولات بعض الدول العربية التبرّؤ من قضية فلسطين، عسى أن يجنّبها ذلك حساب ما تسمّيه واشنطن “اليوم التالي”.
————————–
غزّة والعرب ومصير الشرق الأوسط/ برهان غليون
16 نوفمبر 2023
بعد ستة أسابيع من حرب الإبادة الجماعية والدمار الشامل في قطاع غزّة، أصبح من الواضح اليوم أن إسرائيل لن تستطيع أن تربح الحرب الدائرة، وأنها بدل أن تنال من إرادة المقاومة بتكبيد الشعب الفلسطيني خسائر فادحة في الأرواح والعُمران والممتلكات، تزيد من تصميم قادتها على مواصلة القتال، وتمنحها فرصة أكبر لتأكيد قوتها والتفاف الأحرار حولها، ليس في فلسطين المحتلة فحسب، وإنما أيضا في كل أنحاء العالم. وتبدو إسرائيل، في نظر معظم المراقبين، الآن أكثر من أي وقت آخر، مغروزة في رمال غزّة العميقة، لا تعرف كيف تتقدّم فيها ولا كيف تخرج منها.
نفق الحرب: تشير كل المعلومات إلى أن إسرائيل بدل أن تدخل في أنفاق غزّة قد دخلت في النفق الذي دخلت فيه من قبلُ جميع المشاريع الاستعمارية، فبعد أن أغلقت عليها القوانين العنصرية والتمحور الصهيوني على الذات أي فرصة لإقامة دولة واحدة تجمع العرب واليهود تحت قبّة الديمقراطية والمواطنة الواحدة، على الطريقة التي حُلّت بها أزمة نظام الأبرتهايد في جنوب أفريقيا، قوّضت سيطرة اليمين المتطرّف على حكوماتها المتعاقبة خيار الدولتين، وكان عربون ذلك الاغتيال المزدوج لراعييه الحقيقيين، ياسر عرفات وإسحق رابين. وبقضائها على هذا الخيار الأخير، وتبنّيها سياسة الفصل العنصري الذي كان أبرز تجسيده حصار غزّة وتحويلها إلى “غيتو مغلق” على سكّانه، سدّت تل أبيب على نفسها جميع الأبواب، لتجد نفسها اليوم من دون خيارات سوى “التطهير العرقي”، ومن ثم الحرب المستمرّة لإلغاء الشعب الفلسطيني من الوجود سياسيا، وإذا أمكن فيزيائيا.
والحال، عوض أن تضعف هذه السياسة الإبادية بالمعنى العميق للكلمة هذا الشعب، وتخرجه من الصورة، كما طمح اليمين المتطرّف الإسرائيلي، حثّته على العمل والاجتهاد، لتأكيد وجوده كما لم يحصل من قبل. وهذا ما جاءت لتبرزه في 7 أكتوبر عملية “طوفان الأقصى” التي نزلت نزول الصاعقة على هذه السياسة العنصرية، ووضعت إسرائيل من جديد في مواجهة أزمتها التكوينية، أي وجود شعب في الأرض التي طالما أكدت لنفسها وللعالم أنها من دون شعب، وذلك بعد أن اعتقدت أنها في طريقها لتحقيق هذا الحلم بتوقيع حكومات عربية عديدة اتفاقيات التطبيع والتعاون معها. من هنا، لم تنظر الحكومة الإسرائيلية، وربما أغلبية رأيها العام، إلى ما حصل في “7 أكتوبر” أنه ليس إخفاقا عسكريا وأمنيا فحسب، وإنما رأت فيه أيضا تهديدا وجوديا أعاد إسرائيل إلى يوم إعلان وجودها. من هنا، لم تعد حرب غزّة الحالية في نظرها مجرّد ردٍّ على “طوفان الأقصى” يعيد إلى “جيش الدفاع” هيبته وردعيّته، وإنما هو “حرب استقلال” ثانية. وقد أدرك الفلسطينيون مغزى هذا الإعلان، ونظروا إليه عن حقّ تهديدا بنكبة ثانية، أي بتهجير جديد مماثل للتهجير الأول الذي قامت عليه إسرائيل الراهنة.
هذا هو مضمون الحرب التي تدور رحاها على أرض غزّة، والتي تعني المشرق والشرق الأوسط بأكمله. ولا تُخفي إسرائيل أنها تخوض حرب إبادة شاملة، وأنه لم يعد أمامها، بعد تحرّرها من حلّ الدولتين ورفضها الدولة الديمقراطية الواحدة، سوى خيار واحد، هو الهرب إلى الأمام واستغلال هذه الفرصة لتحقيق الهدف الاستراتيجي الذي سعت إليه خلال العقود الطويلة السابقة على مراحل، أعني ترحيل الفلسطينيين ودفعهم إلى النزوح إلى الدول المجاورة مرّة واحدة وإلى الأبد. وبديل ذلك يعني الاعتراف بالهزيمة التاريخية والاستعداد لتفكيك منظومة الأبارتهايد والتطهير العرقي، والبحث عمّا كان يسمّيه ياسر عرفات، لتخفيف الصدمة على الإسرائيليين، سلام الشجعان، بينما كان يتعامل مع عصابة قتلة.
من هنا، لم يكن ترحيل الفلسطينيين من غزّة والضفة الغربية هدفا راهنا وجدّيا للسياسة الإسرائيلية في أي وقت كما هو اليوم. وهذا ما يفسّر طبيعة الحرب وتركيزها على تدمير غزّة بالكامل، وتجاوز كل المحرّمات، وعدم الالتفات إلى أي صوت غير صوت التصفية. وهو ما فهمته الولايات المتحدة وأكثر الدول الغربية الشريكة لإسرائيل في قطع الطريق على أي إنجاز فلسطيني يضعف إسرائيل، ويمسّ بوظيفتها الردعية الاستراتيجية إزاء الدول والحكومات العربية. وسيبقى هذا الترحيل والتطهير العرقي هدف الحرب، سواء نجحت إسرائيل في تدمير حركة حماس، وهو هدف بعيد المنال كما تشير إلى ذلك ستة أسابيع من الحرب وتخبّط الاستراتيجية الإسرائيلية، أو أخفقت فيه. بل يمكن أن يدفعها فشلها العسكري في تحقيق هذا الهدف إلى الهرب مباشرة نحو هدفها الرئيسي في إجلاء الفلسطينيين من غزّة، ليكون بمثابة إنجاز بديل حاسم، تقدّمه لرأيها العام الذي ينتظر تحقيقه منذ عقود مقابل هزيمتها العسكرية.
في بؤس الرد العربي … في هذه الحالة، سوف يتحوّل محور الجهد الإسرائيلي بالضرورة من القتال ضد “حماس” إلى الضغط، بجميع الوسائل، بما فيها العسكرية، على العرب لإكراههم على قبول الأمر الواقع الجديد، واستقبال الفلسطينيين على أراضيهم وتحرير إسرائيل من “عبء” القضية الفلسطينية ورمي مسؤولية معالجتها على العرب وحدهم. والواقع أن التحرّر من المسؤولية في استمرار المأساة برميها على العرب كان دائما أحد محاور النزاع العربي الإسرائيلي. وكان مطلب تل أبيب غسل الدول العربية يدها من القضية الفلسطينية، وترك إسرائيل تتصرّف بحرية. وهذا ما عنته أيضا، في أحد أبعادها الرئيسة، اتفاقات التطبيع التي زعزعتها عملية طوفان الأقصى. لكن مسار الحرب الراهنة سوف يقلب المعادلة تماما، فلم يعُد المطلوب أن يتخلى العرب عن دعم الفلسطينيين بأي شكل، وإنما أن ينخرطوا مع إسرائيل في تصفية القضية الفلسطينية وعلى حسابهم، حتى يمكن لإسرائيل أن تحظى بالسلام والاستقرار وتوسيع الاستيطان في الأراضي الجديدة، وتحويل إسرائيل إلى دولة عنصرية صافية، وتعزيز قوتها العسكرية والأمنية.
ليس من الصحيح القول، كما يتردّد الآن بين بعض المراقبين العرب، أن إسرائيل لا تملك تصوّرا لما بعد الحرب في غزّة. من لا يملك مثل هذا التصوّر هم الحكومات العربية التي تعتقد أنها بإعلانها عدم قبولها تهجير الفلسطينيين من غزّة والضفة الغربية إلى مصر والأردن قد قطعوا الطريق على إسرائيل وعلى الغرب المتمسّك بها قاعدة حربية مركزية أساسية لامبرطوريته العالمية لتحقيق هذا الهدف. ربما خدّرتهم العودة إلى الحديث عن حلّ الدولتين مستحيل التحقيق، والحال عكس ذلك تماما، فليس لإسرائيل وشركائها بديل آخر عن انهيار الحلم الصهيوني الغربي إلا رمي الفلسطينيين على العرب وتحرير إسرائيل من أزمتها الداخلية العميقة، إن لم يقبلوا بتفكّكها وزوالها القريبين. ولا يعني تراجع واشنطن عن ترحيل سكّان غزّة إلى سيناء بعد مناقشته جدّيا مع مصر أنها لن تعود إليه لتجنيب إسرائيل هزيمة تاريخية أمام الفلسطينيين، وبالتالي العرب، وتحميل هؤلاء، أي الطرف الأضعف في المعادلة، مسؤولية إيجاد حل للاجئين الجدد، واعتبار رفض العرب القبول بذلك بمثابة تعبير عن استمرار العداء لإسرائيل ورفض التطبيع الموعود معها، فليس لحديث الرئيس بايدن، السطحي والعابر، ومعه الجوقة الغربية المخادعة، عن هذا الحلّ أيّ قيمة، ولا يرتبط بأيّ التزام. وهو مستحيل طالما بقيت إسرائيل دولة عنصرية وقاعدة متقدّمة للنفوذ الأميركي والغربي وعصا غليظة تستخدمها مع الحكومات العربية والشرق أوسطية وإجبارها على السير وراءها وحسب مصالحها وإرادتها. وسوف يعود الحديث عن تعقيد المشكلة واستحالة تفكيك المستوطنات، بل وإطلاق موجة جديدة منها تحت رعاية هذه الدول نفسها، حالما تضع الحرب أوزارها، ويبرز حجم الخسائر الهائلة والدمار الشامل المادي والمعنوي الذي لا يمكن تعويضه، فالتماهي بين واشنطن وتل أبيب يتجاوز الأيديولوجية وعلاقة الصهيونية المسيحية بالصهيونية اليهودية، ويرتبط بالمصالح الاستراتيجية المتبادلة التي يمثلها التحالف أو وحدة الحال الأميركية الإسرائيلية. ترى المؤسّسة الأميركية المسيطرة في مشروع إسرائيل أو الدولة اليهودية تجسيدا حيا ومستمرا لـ”ملحمة” قيام أميركا البيضاء على أنقاض أميركا الهندية، كما ترى في العرب هنودا من مخلّفات القرون الوسطى، وحجر عثرة أمام قيام إسرائيل المتحضّرة والمتقدّمة حامية القيم الغربية المدنية والانسانية. أما إسرائيل، فترى في الولايات المتحدة النموذج والمثال لإرادة السيطرة والقوة الذي نجح من خلاله المهاجرون البيض الأميركيون في انتزاع الأرض وإقامة دولة أصبحت تتحكّم في العالم، كما تريد إسرائيل شريكتها أن تتحكّم في المنطقة، فهي دولة كانت وسوف تبقى استثنائية صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة في شؤون المنطقة تماما، كما ترى أميركا نفسها الدولة الاستثنائية التي تقود العالم، وتفرض إرادتها على الدول الأخرى. وكلاهما يعتقد أن هذه السيطرة ليست حقّا مكتسبا بحكم التفوق في القوة، وهو ما يستدعي الاستثمار الدائم والمتزايد في تطوير وسائل التفوق والقوة، فحسب وإنما ضرورة حتمية لبسط النظام والانسجام بين دول هزيلة وناقصة السيادة لا تملك أي مؤهّل للمشاركة في القرارات الدولية أو حتى قيادة نفسها بنفسها.
من هنا، تنظر الدول الغربية إلى هزيمة إسرائيل أو خسارتها الحرب في المشرق والشرق الأوسط خسارة لها أيضا في العالم وتهديدا لنفوذها. وبصرف النظر عما يقال في الأحاديث والخطابات الدعائية، تعتقد واشنطن، تماما كما تعتقد تل أبيب، أن الحرب على “حماس” ما هي في الحقيقة إلا حرب على العرب، كما تعتقد أن عدم تعاون العرب في القضاء على “حماس”، وبالتالي القبول بترحيل الفلسطينيين واستقبالهم لديها يعكس عداءهم لها وتمرّدهم عليها، ولا يساهم في تحقيق السلام، بل هو رفض له تماما، كرفض التطبيع المجّاني مع إسرائيل.
حتى لا يتحوّل انتصار المقاومة الفلسطينية إلى هزيمة عربية… لقد خسر العرب جولة مهمة في الصراع الدائر، بتركهم غزّة تحارب وحدها وبأجساد أطفالها ونسائها وشيوخها في معركة تستهدفهم بالدرجة الأولى، فالحرب ليست غزّية ولا فلسطينية، وإنما هي قبل ذلك حربٌ على تقرير مصير الشرق الأوسط وتقليص هامش مبادرة دوله لعقود طويلة مقبلة. ربما كان السبب في هذا التراخي مبالغتهم في حجم نفوذهم الدولي وضخامة المصالح التي تجمعهم مع الدول الغربية، وفي مقدمها الولايات المتحدة، في مرحلة تحوّلات كبرى وإعادة صياغة للنظام العالمي. وربما كان خوف أكثر حكوماتهم على استقرارها واعتمادها في وجودها على هذه الدول، لا على تأييد شعوبها. فبدل أن يخلوا بأنفسهم ويناقشوا، قادة سياسيين وعسكريين، خطّة عملية للتأثير في مجرى هذه الحرب بشكل أو بآخر، ولمواجهة إسقاطاتها الراهنة والقادمة، حتى يجنّبوا دولهم وشعوبهم عواقبها، سعوا إلى تعويم مسؤولياتهم المباشرة في مؤتمرٍ فضفاض، لا يجدي نفعا كثيرا، لـ57 دولة إسلامية ليس لأكثرها أي مصالح في الانخراط في هذه المواجهة العربية الإسرائيلية، ولا قيمة تُذكر في هذه المسألة لأصوات معظمهم في الأمم المتحدة، ولا حتى لهذه المنظمة ذاتها التي عجزت عن إصدار قرار بوقف النار لم تعترض عليه سوى ثلاث دول: الولايات المتحدة وكندا وإسرائيل.
ما بدر عن المؤتمر العربي الإسلامي أخيرا لمواجهة حرب غزّة وفلسطين، وما تُبرزه أحاديث الزعماء العرب لا يظهر إدراكا عميقا لحجم التحدّي الذي يواجه دولهم في المستقبل القريب، بالرغم من الانجاز الاستثنائي للفصائل الفلسطينية والانهيار المعنوي والسياسي والأخلاقي لإسرائيل وسياسة التواطؤ الأميركية أيضا مع انتهاك القوانين الدولية والحقوق الإنسانية. ويخطئ الحكّام العرب إذا اعتقدوا أن واشنطن حسّاسة لحجّة حتمية حل القضية الفلسطينية لضمان الأمن والاستقرار في المنطقة أو للحفاظ على مصالحها الاستراتيجية الكبرى فيها، فالعكس هو الصحيح. لا تأخذ إسرائيل قيمتها وتتمتع بالدعم اللامحدود من الدول الغربية إلا لأنها تهدّد الأمن وتزعزع الاستقرار في هذا الشرق الأوسط، حتى تستطيع واشنطن أن تصطاد بسهولة في مائه العكر، وتحتفظ بهذه المصالح ضد إرادة شعوبها.
هُزمت إسرائيل في “طوفان الأقصى” وسوف تهزم في معركتها ضد فصائل المقاومة. لكن نجاح الفصائل الفلسطينية لا يعني بالضرورة وتلقائيا تسجيل نصر للعرب تجاه إسرائيل، فمن دون موقف واضح واستعداد لكل الاحتمالات لمنع تنفيذ إسرائيل والولايات المتحدة نكبة جديدة فلسطينية لقاء خسارتها الحرب، يمكن أن يتحوّلوا هم إلى كبش فداء للهزيمة الإسرائيلية التي ستكون منكرة بكل المعاني، ولا يمكن أن تغطّي عليها في نظر رأيها العام سوى هزيمة للعرب المتّهمين، على كل الأحوال ومهما كانت خياراتهم وسياساتهم، بالتواطؤ مع “حماس” وفلسطين ورعاية الإرهاب والعداء للسامية، ما داموا لم يقبلوا التسليم بالأمر الواقع والتطبيع المجاني مع تل أبيب والتعاون معها في تصفية القضية الفلسطينية. وسوف تدفع هزيمة إسرائيل أمام الفصائل إلى إلقاء مسؤولية حلّ هذه القضية على الدول العربية والضغط عليها، للتعاون من أجل القضاء على “حماس”، وبالتالي إلى نقل الحرب الداخلية في إسرائيل/ فلسطين إلى حرب عربية عربية.
ما هي خيارات العرب، وبشكل خاص الدول المحيطة بإسرائيل، والمهدّدة بأن تحمل عن تل أبيب عبء هزيمتها العسكرية والاستراتيجية التي تلوح في الأفق، وأن تحتوي عواقبها الوخيمة؟ ليس هناك ألف طريقة لمواجهة العدوان في أي زمان ومكان. الأساسي هو الاستعداد لمواجهة المخاطر القادمة، وذلك بوعي حقيقة التحدّي والإعداد لمواجهته، وهو ما يستدعي تنظيم القوى وتوحيد الإرادة والعمل المشترك ووضع خطة واستراتيجية لدراسة جميع الاحتمالات ومواجهتها. المهم أن ندرك أن من المستحيل أن يسود الأمن والاستقرار في المنطقة، ما لم تقيّد أيدي إسرائيل وتقلص أطماعها وتجهض مشاريعها الاستيطانية والتوسّعية. ومن الصعب أن يحصل ذلك إذا لم ينجح العرب في إظهار وحدتهم وقوة إرادتهم واستعدادهم للتضحية دفاعا عن حقوقهم، أي ما لم يُظهروا إرادة حقيقية في مواجهة العدوان، ووضوحا أكبر للأهداف، وتنسيقا أعمق للجهود، واستعدادا أقوى للدفاع عن مصالحهم، وفي مقدمها عدم التسليم بوجود نظام للفصل العنصري والعدوان الدائم في أرضهم ومنطقتهم. وهذا ما لا يمكن تحقيقه من دون اتّخاذ موقف قوي يفرض على إسرائيل والولايات المتحدة، والدول الأخرى المعنية بالأوضاع المشرقية وبمصالحها في المنطقة، أن تتحمّل مسؤولياتها، وتدفع ثمن خياراتها وسياساتها العدوانية. ومثل هذا الموقف لا يؤخذ بالبيانات ولا يُحسب بطولها، وإنما بما يتبعها من فعل. فقط الإرسال الفوري لقوافل المعونات والأدوية والمياه والوقود إلى غزّة المحاصرة، وتحمّل المسؤولية الجماعية عنها وخوض معركة فكّ الحصار الإنساني عن شعب غزّة ما كان سيجعل من اجتماع 57 دولة إسلامية حدثا، ويحول هذا التجمّع إلى قوة يُحسب لها حساب.
قال زهير: ومن يغترر يحسب عدوا صديقه/ ومن لا يكرم نفسَه لا يكرم.
—————————-
الحروب الإسرائيلية ضد السياسة/ سمير الزبن
16 نوفمبر 2023
الحرب صراع مسلح للوصول إلى حل سياسي لمشكلات سياسية لم يتم حلها بالأدوات السياسية، لذلك يستخدم السلاح من أجل أن يصل المنتصر إلى نتيجة سياسية يفرضها على المهزوم. وبالتالي، أي حرب تستهدف الوصول إلى تسوية سياسية. هذا ليس حال الحروب الإسرائيلية، فهي حروبٌ مضادّة للتسوية، وتخوضها من أجل فرض وقائع تجعل النتائج السابقة للحرب ملغاة وغير صالحة للتسوية بعدها. ولا تختلف الحرب الإسرائيلية الحالية على قطاع غزّة عن حروب إسرائيل الرئيسية السابقة، بمحاولة فرض واقعٍ جديدٍ يناسب السلوك التاريخي لإسرائيل بحروبها ضد أي تسويةٍ قابلة للتطبيق، لأنها لا تناسبها.
لم تكتفِ إسرائيل في حرب العام 1948 التي أسست دولتها بانتصارها، وهذا ما تهدف إليه كل حرب، لاستكمال مشروعها، كان لا بد من طرد الفلسطينيين من ديارهم لتأسيس “الدولة اليهودية” في فلسطين، لأن كثافة فلسطينية عربية في فلسطين تفوق عددياً اليهود المنتصرين في الحرب تمنع تحقّقها، لا يكفي النصر وحده لتأسس هذه الدولة التي سيكون أغلبها من غير اليهود. وبذلك، لا يمكن اعتبارها دولة يهودية، كما تعرّف إسرائيل نفسها. وإذا كانت كل حربٍ تنتج مشكلة لاجئين بسبب المخاطر التي تشكلها الحرب، والتي تدفع المدنيين إلى الفرار من أماكنهم، إلا أن التهجير الذي جرى في فلسطين لم يكن من عوارض الصدام المسلح، بل كان عملية تطهير عرقي استمرّت في أثناء الحرب وبعدها. كما أن اللاجئين، باعتبارهم من عوارض الحرب، لم يُسمح لهم، بعد انتهاء الحرب، بالعودة إلى ديارهم، كما نصّ قرار الأمم المتحدة 194 القاضي بعودتهم إلى ديارهم. والقصة معروفة برفض إسرائيل إعادة أي لاجئ فلسطيني، حتى أن فلسطينيين موجودين في بلادهم اعتبرتهم إسرائيل غائبين، وهؤلاء الذين بقوا في أرضهم مُنعوا من السكن في بيوتهم التي يملكونها. حالة من التناقض المؤلم والساخر أن يكون الفلسطيني موجوداً جسدياً في وطنه، وغائباً في منطق القانون الإسرائيلي الذي لا يريد أن يراه على أرض فلسطين التي احتلها، وألغى وجودَهم ووجودها.
بقي الصراع على الأراضي التي احتلّتها إسرائيل في 1948 حتى وقوع حرب 1967، التي احتلّت إسرائيل خلالها ما تبقّى من الأراضي الفلسطينية، كما احتلت سيناء من مصر ومرتفعات الجولان من سورية. فرضت نتائج الحرب وقائع جديدة، وسرعان ما ضمّت إسرائيل القدس الشرقية بتوسيع حدود المدينة، وبدأت مشروعها الاستيطاني في الأراضي الفلسطينية المحتلة. جاءت نتائج الحرب بالنسبة لإسرائيل بوصفها تجاوزاً للواقع الذي كان قائماً قبلها، ونقلت المطالب من الأراضي التي احتلت في 1948 إلى الأراضي التي احتلّت في 1967، والتي باتت أساس كل تسوية جاءت بعد ذلك، من اتفاقات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، وصولاً إلى اتفاقات وادي عربة مع الأردن. وبقيت المشكلة مع الأراضي الفلسطينية المحتلة التي اعتبرتها إسرائيل أراضيها، وأخذت تقضمها عبر نشر عشرات المستوطنات في الأراضي الفلسطينية. أما مع الفلسطينيين، فقد وقّعت إسرائيل اتفاق أوسلو الانتقالي، كان جوهره الخلاص من التجمّعات السكّانية الفلسطينية ومنح السلطات عليها لسلطة الحكم الذاتي الفلسطيني التي تم الاتفاق على إنشائها، وهي ما عرف بمناطق (أ) والتي لم تتجاوز 8% من الضفة الغربية، والمناطق (ب) و(ج) التي بقيت تحت السيطرة الإسرائيلية. ولم تستطع إسرائيل الوصول إلى حلّ نهائي مع الفلسطينيين، وبقي الوضع عالقاً في الحلّ الانتقالي الذي أخذ يتآكل بعد ما يقارب ربع قرن من موعده المحدد.
لقد تم تجاوز الواقع القائم قبل حرب العام 1967 بفرض وقائع جديدة، باتت الأساس المكون للتسويات السياسية التي جاءت بناء على وقائعها. والمسار الوحيد الذي استعصى على هذه النتائج هو المسار الفلسطيني، فإسرائيل تتعامل مع هذه الأراضي بوصفها أرض إسرائيل، وما يزعجها وجود الفلسطينيين عليها. ماتت عملية التسوية السياسية على المسار الفلسطيني. وأصبح من الواضح أن الإسرائيليين غير قادرين على الوصول إلى هذه التسوية، وهو ما دفعهم مع الحكومات اليمينية التي حكمت إسرائيل في السنوات المنصرمة، إلى توقيع اتفاقات أبراهام للتطبيع مع دول عربية، متجاوزين أي تسويةٍ مع الفلسطينيين.
مع حربها الجديدة على الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة، تجد إسرائيل الفرصة مواتية لإيجاد وقائع جديدة، تتجاوز الواقع الذي فرضته حرب 1967 التي قامت كل محاولات التسوية في المنطقة على أساس معطياتها في العقود المنصرمة. وعندما يعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو “حرب الاستقلال الثانية” على الفلسطينيين، هو يعني كما فسّرها وزراءه، نكبة ثانية، يجب إيقاعها بالفلسطينيين. والنكبة الثانية تعني فرض وقائع جديدة خلال هذه الحرب، تجعل أي تسويةٍ مع الفلسطينيين مسألة تجاوزها الزمن، بإيجاد مشكلة فلسطينية كبيرة تجعل العالم ينشغل فيها سنوات طويلة، وأي مطالبة بحقوقٍ فلسطينيةٍ لن تكون مسموعة في إسرائيل التي أصابها جنون التطرّف، وهو ما سيمنع أي تسويةٍ خلال وقت طويل بعد هذه الحرب. والكلام الذي تقوله الإدارة الأميركية عن رفضها احتلالا إسرائيليا جديدا لقطاع عزّة، في الوقت الذي توافق فيه على ما تقوله إسرائيل بأن القطاع بعد الحرب سيكون من دون حركة حماس، فكيف يمكن القضاء على “حماس” من دون تجريف السكّان في قطاع غزّة؟! وهو التجريف الذي بدأ من شمال القطاع مع عمليه التدمير الممنهج لمدينة غزّة من خلال قصفٍ عنيفٍ لا مبرّر عسكرياً له سوى هدم مزيد من المباني وجعلها غير صالحة للسكن.
منحت الولايات المتحدة إسرائيل الإذن بإيقاع نكبة جديدة بالفلسطينيتين، وحكومة اليمين الغاضبة والمجروحة التي تشعر بالعار من هجوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول، جاهزة لإيقاع هذه النكبة بالفلسطينيين، وما الغموض والتصريحات الإسرائيلية المتناقضة عن قطاع غزّة ما بعد الحرب سوى تمويه على الجريمة التي تسعى إلى ارتكابها بحقّ الفلسطينيين.
———————————
الفلسفة في يومها العالمي وقولها في الحرب/ عمر كوش
16 نوفمبر 2023
يصادف اليوم، 16 من نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، الذكرى السنوية لليوم العالمي للفلسفة، الذي بات مناسبة لطرح أسئلةٍ لا تقف عند الفلسفة ومكانتها وعلاقتها بالعالم، وهموم المشتغلين فيها وعليها، بل، تمتدّ لتطاول أسئلة الراهن والواقع المعيش، فالفلسفة التي كانت في ما مضى ملكة العلوم توزّعت من خلال حقل واسع وخصب على اشتغالاتٍ فكريةٍ عديدة ومختلفة، من غير أن تهمل دورها في الانشغال بالشأن العام، وفي كل ما يتّصل بوقائع حياة الناس.
ويأتي يوم الفلسفة العالمي هذا العام في ظل انشغال العالم بالحرب الإسرائيلية على غزّة، التي تُرتكب فيها جرائم ضد الإنسانية، وخصوصا الإبادة الجماعية، التي تودي بحياة عديدٍ من الشيوخ والأطفال والنساء، ويرمي ساسة إسرائيل من وراء قصف آلتهم العسكرية التدميرية، التي تطاول بشكل عشوائي المناطق السكنية في غزّة، إلى إجبار أهلها على الهجرة القسرية.
لم يصمت حيال هذه الجرائم فلاسفة كثر من أمثال السلوفيني سلافوي جيجك والألمانية سوزان بيمان والإيطالي جورجو أغامبين والأميركية جوديت بتلر والكاميروني أشيل مبمبي وغيرهم، فقد ذهب جيجك إلى التذكير بالمبادئ التي نهضت عليها حكومة اليمين المتطرّف برئاسة بنيامين نتنياهو في إسرائيل، وتعطي “للشعب اليهودي حقّا حصريا وغير قابل للتصرّف في جميع أجزاء أرض إسرائيل. وستعمل الحكومة على تعزيز الاستيطان وتطويره، في الجليل والنقب والجولان ويهودا والسامرة (الضفة الغربية)”. أما جورجو أغامبين، الذي اجترح مفهوم حالة الاستثناء والإنسان المستباح أو الإنسان الحرام، وفضح في فلسفته سياسات الأنظمة الحديثة في الإحياء والإماتة، فقد كتب مقالاً مقتضباً بعنوان “صمت غزّة”، لكنه معبّر جداً، سَخر فيه من لامبالاة وصمت المجتمع الدولي حيال ما يحدث في غزة، من خلال التركيز على المفارقة التي تجمع بين فعل الإنصات لألم النباتات، مقابل التجاهل القصدي واللامبالاة حيال الألم الإنساني لأهالي غزّة، حيث كتب “أعلن علماء من كلّية علوم النبات في جامعة تل أبيب، أخيرا، أنهم سجّلوا بميكروفونات خاصة حسّاسة بالموجات فوق الصوتية صرخات الألم التي تُصدرها النباتات عند قطعها أو عندما تفتقر إلى الماء. أما في غزّة فلا توجد ميكروفونات!”. ورفضت جوديث بتلر “تحريف الانتقاد المشروع والضروري للظلم الذي تمارسه إسرائيل ضد الفلسطينيين، وتحويله إلى تهمة معاداة السامية”، واعتبرت أن ما تقوم به إسرائيل حرب إبادة. وقالت إنها ملتزمة بوصفها مثقفة بإشادة “تمييز واضح، لفهم تاريخ معاناة الفلسطينيين ومقاومتهم في ظل القمع الاستعماري، المتمثل بالتهجير القسري، وسرقة الأراضي، والاعتقال التعسّفي، والتعذيب داخل السجون، والتفجيرات، والمضايقات والقتل. وهو ليس صراعاً بين طرفين، بل شكل من السلب العنيف الذي يعود تاريخه إلى عام 1948، إن لم يكن قبل ذلك، ولا يشكّل نكبة جديدة، بل استمراراً لنكبةٍ لم تتوقّف أبدا بالنسبة لملايين البشر”. ولم تكتف بتلر بالإدانة الشاملة للشر، بل سارت على خطى الفيلسوفة الألمانية حنة أرندت، بضرورة فهم تاريخه وسياقه وحيثياته، واعتبرت أن العنف الدامي، من غير الإقرار بعدالة حقيقية، يتمتع فيها الشعب الفلسطيني بحقه في تقرير مصيره، وتضع حداً للآلة الجهنمية الصهيونية، سيبقى قائماً. والأهم أن بتلر تعتبر الحرب من ناحية مفهومية غير مفصولة عن الحرب بوصفها واقعاً مادياً، وكلاهما يستدعي زيادة منسوب قلق الاستباحة عند المجموعات الـمستهدَفة، مقارنة بالاعتراف بقلق الاستباحة بوصفها مشتركاً إنسانياً، لذلك يخطّ اختلاف قلق الاستباحة حدّاً يفصل بين الحيوات التي لا يُؤسى عليها للمستهدفين وحيوات الآخرين الـمأسوف عليها، وعندها تظهر الرغبة في الإماتة قبل القيام بالقتل. وهو ما يظهره الاحتلال الإسرائيلي، حيث لا تعتبر إسرائيل، ومعها الولايات المتحدة، الفلسطينيين “شعباً”، الأمر الذي يفسّر عدم إظهار مسؤولين فيهما أي تعاطفٍ أو اهتمام بالعدد الهائل من الأطفال الذين يقتلون في غزّة، فالإسرائيليون يمتلكون سلطة إماتة (قتل) الطفل الفلسطيني في غزّة، ويحاولون إقناع العالم بأن أطفال غزّة ليسوا حقيقة أحياء، إنما جرى تحويلهم بالفعل إلى قطع من الدروع، والحديد، والـمعادن. وهو ما تفعله أغلب وسائل الإعلام في الغرب من خلال إبراز أطر مفاهيمية وبصرية لتحويل حياة الفلسطينيين إلى لا حياة، كي يصبح حينها لا موقف لدى العالم سوى أن يعدّ الـموتى واحداً تلو الآخر، بينما تجعل وسائل الإعلام نفسها من حيوات الإسرائيليين وحدها حيوات للحياة، ويجب الدفاع عنها بجميع الأثمان.
في المقابل، أصدرت مجموعة من أساتذة الفلسفة في عدة جامعات في أميركا الشمالية وأميركا اللاتينية وأوروبا بياناً بعنوان “فلسفة لأجل فلسطين”، وقّع عليه أكثر من مائتي فيلسوف، عبّروا فيه “وبشكلٍ لا لبس فيه” عن تضامنهم “مع الشعب الفلسطيني وإدانة المذبحة المستمرّة والمتصاعدة التي ترتكبها إسرائيل في غزّة، وبدعم كامل، مالي ومادي وإيديولوجي، من حكوماتنا”. ولم يدّع هؤلاء الفلاسفة امتلاكهم أي سلطة فريدة، أخلاقية أو فكرية أو سوى ذلك، بوصفهم فلاسفة، إنما أصدروا بيانهم انسجاماً مع ما تقتضيه الفلسفة مواقف نقدية للشر، والانتصار لحقوق الإنسان، ورفض ومواجهة الممارسات والنزعات الإقصائية تاريخياً، والوقوف بشكلٍ مباشر مع المظالم. لذلك دعوا زملاءهم في الفلسفة إلى الانضمام إليهم للتضامن مع فلسطين، والنضال ضد الفصل العنصري والاحتلال، بغية التغلّب على التواطؤ والصمت الأكاديمي والسياسي، وإدانة جرائم الإبادة التي ترتكبها إسرائيل بحقّ الفلسطينيين.
لا يمكن للفلاسفة إدارة ظهورهم لما يجري من حرب إبادة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، لأن قيم الفلسفة التي ينهلون منها متشبعة بإرث الإنسانية والأنوار، على الرغم من تعرّضها لحملة تافهة ممن فقدوا البوصلة الحقيقية للصراع الدائر، وتعاموا عن حقيقة أن الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي نهض على فكرة تفوّق القوّة العسكريّة الإسرائيليّة، التي أنتجت مقولاتٍ تدعو إلى معاقبة الفلسطينيين، ومنها ولدت فكرة محو غزّة مثلاً. وتصدُر هذه الفكرة عن خطابٍ فوقي، يفترض أن أي وجود فلسطيني في فلسطين التاريخية ليس أكثر من هبةٍ تقدّمها إسرائيل لهم، بما يتطابق مع مفهوم “سلطة الإحياء والإماتة” (Necropolitics) التي اجترحها الفيلسوف أشيل مبمبي، لوصف ممارسات العقلية الاستعمارية لإسرائيل.
————————
حرب غير متناظرة/ علي العبدالله
15 نوفمبر 2023
أدّى الهجوم السريع والصاعق الذي نفذته كتائب عزالدين القسّام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي تحت عنوان “طوفان الأقصى” إلى ردود فعل محلية وإقليمية ودولية، عسكرية وسياسية وإعلامية، وصدور مواقف مؤيدة للهجوم وأخرى شاجبة له. وقد ترتّب على الهجوم:
أولا، إعلان الحكومة الإسرائيلية أن ما حصل تهديد وجودي يستدعي ردّا ساحقا، ونشوء إجماع إسرائيلي على الذهاب إلى الحرب لتحقيق هدف رئيس: الانتقام لمقتل العسكريين والمدنيين، والقضاء على حركة حماس وتحرير الأسرى والرهائن الإسرائيليين لديها، واستعادة قوة الردع الإسرائيلي، وتشكيل حكومة وحدة وطنية بانضمام زعيم حزب أزرق أبيض، بني غانتس، إلى الائتلاف الحكومي القائم، والتحاق جنرالات سابقين بهيئة الأركان، وإطلاق عملية “السيوف الحديدية”، بعد حشد خمس فرق عسكرية على حدود قطاع غزّة، مئات الدبابات وناقلات الجند ومدافع الميدان من عياراتٍ عديدة، وعشرات الطائرات، قاذفات ومسيّرات، وعشرات القطع البحرية.
ثانيا، إعلان الرئيس الأميركي، جوزيف بايدن، دعمه المطلق إسرائيل وحقها في الدفاع عن نفسها، وحشد قوة بحرية، حاملتي طائرات ومدمّرات وفرقاطات وغوّاصة نووية، وقوات جوية، عشرات الطائرات القاذفة والمقاتلة من طرازات متعدّدة، وقوات خاصة، في شرق المتوسط لردع أي جهةٍ يمكن أن تتحرّك لدعم حركة حماس، وتوجّهه إلى إسرائيل واجتماعه إلى رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، ووزير دفاعه، يوآف غالانت، وهيئة الأركان والمجلس الوزاري المُصغر، “الكابينت” الحربي، والاتفاق معهم على خط سير المواجهة وحدودها وعلى حزمة مساعدات عسكرية، صواريخ للقبّة الحديدية وقذائف ذكيّة وذخائر متنوّعة للدبابات ومدافع الميدان، ومالية.
ثالثا، تبنّي الغرب الرسمي الرواية الإسرائيلية، واصطفافه خلفها في “حقّها” بالدفاع عن نفسها، وتزويدها بأسلحة وذخائر متنوعة وإرسال مدمّرتين بريطانيتين وأخرى فرنسية إلى شرق المتوسط، ومنع التظاهرات المؤيدة للفلسطينيين في المدن الأوروبية، الذي تراجعت عنه تحت ضغوط شعبية.
رابعا، نشوة قيادة حركة حماس بنصرها الكبير، وتحرّكها المتسّرع للحصول على مكاسب سياسية بإعلانها قبول حل سياسي شامل، على قاعدة حلّ الدولتين واستعدادها للإفراج عن الأسرى مقابل إفراج إسرائيل عن الأسرى الفلسطينيين. وتحريك أنصارها في الضفة الغربية للتظاهر ضد السلطة الفلسطينية، والعمل على قطع الطريق على أي دورٍ يمكن أن تلعبه في غزّة بعد انتهاء الحرب، بالحديث عن سلطة قادمة على ظهر دبّابة أميركية، وعن رفض حكومة فيشي في القطاع، وهذه تعني حكومة عميلة للاحتلال، مثل حكومة فيشي الفرنسية التي تعاونت مع المحتل الألماني، للإيحاء أنها باتت الممثل الحقيقي للشعب الفلسطيني، ما يعني أن يكون التفاوض معها حصريا.
خامسا، نفي إيران علاقتها بالهجوم الحمساوي، وتنصّلها من أفعال مليشيات موالية لها هاجمت مواقع عسكرية أميركية في سورية والعراق، وإطلاق حركة أنصار الله، الشهيرة بالحوثيين، صواريخ بالستية وكروز وطائرات مسيّرة على إسرائيل، ومشاغلة حزب الله اللبناني القوات الإسرائيلية على الحدود الشمالية، لتخفيف الضغط عن غزّة، بدعوى أن هذه الفصائل سيدة نفسها وتتحرّك بقرارات ذاتية.
سادسا، عدم تفعيل “وحدة الساحات”، حيث لم تهاجم قوى محور الممانعة إسرائيل في التوقيت نفسه الذي شنّت فيه كتائب القسّام هجومها، وجاءت مساهماتها التالية في حدّها الأدنى.
سابعا، انفجار النزعة الشعبوية بين الكتّاب والفاعلين السياسيين والمدنيين الفلسطينيين والعرب، حيث تواترت عمليات استبدال خرائط فلسطين والكوفية الفلسطينية بالصورة القديمة على الصفحات على “فيسبوك” ومنصتي إكس وتلغرام؛ وترويج فيديوهات وهاشتاغات داعمة لحركة حماس ونشرها على نطاق واسع، ومهاجمة الأنظمة العربية لوقوفها صامتة أمام المجازر، والعودة إلى صفحات التاريخ والسرديات المتداولة عن اليهود وغدرهم وجبنهم في الحروب وتآمرهم على البلاد التي يعيشون فيها، واعتبارهم ذلك بمثابة مشاركة في المعركة.
ثامنا، ميل المحللين العسكريين والسياسيين الفلسطينيين والعرب إلى مسايرة عواطف الجماهير العربية ومشاعرها وتطلعاتها ومراعاة هذه العواطف والمشاعر في تحليلاتهم بإخفاء الوقائع الميدانية وإطلاق أحكام وتقديرات تجزم بأن نتيجة الحرب لصالح “حماس”.
تاسعا، عدم تحضير “حماس” الغزّيين للمعركة، وعدم أخذ احتياطات إدارية وعملية من حكومة القطاع لتأمين احتياجاتهم من الغذاء والدواء والطحين والوقود للمشافي والأفران، وتوجّهها إلى الاستغاثة ودعوة الدول العربية والإسلامية والأمم المتحدة للقيام بدور في تأمين هذه الاحتياجات.
10- تعاظم التظاهرات الشعبية المؤيدة للفلسطينيين في معظم الدول ردّا على القصف الوحشي وقتل المدنيين، وخصوصا الأطفال والنساء، والدعوات إلى وقف الحرب وحماية المدنيين.
بدأ الانتقام الإسرائيلي بقصفٍ جوّي كثيف وواسع، باعتماد سياسة الأرض المحروقة، استهدف المباني السكنية والمدارس والأسواق والأفران والمشافي، لدفع الفلسطينيين إلى النزوح خارج القطاع، وتحقيق هدفه الثاني من حملته الجوية: تفريغ القطاع من سكّانه. وعمل، في الوقت نفسه، على حشد قواته البرّية، الدبابات والمدرّعات والجرّافات ومدافع الميدان، استعدادا للهجوم البرّي الذي بدأ يوم 27 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
لم تسر الأمور كما أراد الرئيس الأميركي بايدن، فقد اصطدمت محاولته تأجيل الهجوم البرّي ووضع حدّ زمني وجغرافي للهجوم الإسرائيلي بهدف نتنياهو الخاص: إنقاذ مستقبله السياسي وترميم صورته عبر التشدّد في المواقف، وتركه المجال مفتوحا لقادة الجيش لفعل ما يرونه مناسبا لمحو الانطباع المُخزي عن المؤسّستين العسكرية والأمنية الذي تركه الهجوم الحمساوي الصاعق والمدمّر. وقد تجلّى ذلك بوضوح في إصراره على الهجوم البرّي الشامل واحتلال قطاع غزّة ورفضه دعوات أميركية وأممية لتنفيذ هدنٍ إنسانية لإدخال مساعداتٍ غذائيةٍ ودوائيةٍ ووقود للقطاع، خصوصا إدخال الوقود إلى المشافي، وتحرّكه سياسيا ودبلوماسيا للضغط على مصر للقبول بفتح معبر رفح واستقبال الغزّيين في مخيماتٍ في سيناء، ثم توطينهم في المدن الجديدة مقابل تعويضاتٍ ماليةٍ سخية، وإلغاء ديون البنك الدولي عليها. وقد زادت صور الضحايا والدمار واستهداف المشافي والمدنيين على الطرقات من حرج الإدارة الأميركية، خصوصا وقد خرجت تظاهرات شعبية حاشدة في مدن رئيسة في الولايات المتحدة نظم بعضها وقادها يهود أميركيون، ما دفعها إلى إعلان مواقف جديدة، مثل رفض احتلال غزّة مجددا وتهجير الفلسطينيين منها، وضغطت على إسرائيل لقبول إدخال المساعدات الإغاثية ووقف إطلاق نار أربع ساعات يوميا، وقيام وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، بجولات مكوكية لاحتواء ردود الأفعال العربية والإسلامية الغاضبة ومنع توسّع الحرب ومحاولته حرف تركيز العالم على الوحشية الإسرائيلية وقتل المدنيين بالآلاف، بطرح أفكار عن إدارة غزّة بعد القضاء على “حماس” على الحراك الدبلوماسي العربي والدولي، وزاد الطين بلة بدء حدوث تململ أوروبي من السلوك الإسرائيلي وانطلاق دعوات أوروبية إلى هدن إنسانية، ووقف تسليح إسرائيل، انفردت نائبة رئيس الوزراء البلجيكي، بيترا دي سوتر، بالمطالبة بفرض عقوباتٍ على إسرائيل، وتسريع إدخال مساعدات إنسانية وبكميات كافية.
لم ينجح بلينكن في تسويق مقاربته الداعية إلى البحث في وضع غزّة بعد انتهاء الحرب، ولا في تسويق فكرته قيام دول عربية بتأدية دور أمني في غزّة بعد انتهاء الحرب وفتح معبر رفح لخروج الغزّيين إلى سيناء، حيث كان الرفض المصري والأردني جازما وقاطعا، فقد لخّصت الخارجية الأميركية نتائج جولته بقولها “إن كل الأمور قيد البحث”، بينما رأى فيها محلّلون أميركيون “فشلا مذلا”. وقد زاد ضعف النتائج التي حقّقها الهجوم البرّي الإسرائيلي الموقف الأميركي تعقيدا ودقّة، لأن إطالة أمد الحرب ستثير مزيدا من المشكلات، بسبب صور الضحايا والدمار، وبسبب تصاعد الغضب الشعبي العربي والإسلامي، وانعكاسه على مواقف الدول العربية والإسلامية، وما قد ينجُم عنه من تبعات وقرارات، وزيادة احتمال توسّع الحرب وتحوّلها إلى حرب إقليمية تفتعلها إسرائيل باستدراج حزب الله اللبناني لمواجهة مفتوحة لقطع الطريق على احتمال مطالبتها بوقف إطلاق النار والذهاب إلى تسوية سياسية مع الفلسطينيين، ما سيضع بايدن أمام خيارين صعبين: فرض وقف إطلاق نار يصبّ في صالح “حماس” وإيران أو الانخراط في الحرب والغرق في مستنقع حرب غير متناظرة طويلة الأمد، سبق وعاشته في أفغانستان والعراق، ودفعت فيه أثمانا بشرية ومالية باهظة. وهو ما تتمنّاه إسرائيل، لأنه سيجعل الخيارات الأميركية النهائية متطابقة مع خياراتها، بغضّ النظر عن حساباتها الكونية وحسابات إسرائيل الإقليمية، ما قد يمنح خصومها في الصين وروسيا وإيران فرصا لتسجيل نقاط جيوسياسية وجيواستراتيجية على حسابها.
لم تنته الحرب ولن تنتهي في وقت قصير، فالفجوة الواسعة في توازن القوى والطاقة الناريّة والقرب الجغرافي وسهولة إمداد القوات الإسرائيلية بالتعزيزات والذخائر تحدّ من تأثيرهما المساحة الضيقة والكثافة السكانية والعمرانية وركام الدمار ووجود الأنفاق وقدرة كتائب القسّام على الحركة والهجوم المباغت، فإسرائيل تعاني من نقاط ضعف كبيرة، تتجلى في غياب استراتيجية واضحة، فالانتقام ليس استراتيجية، وعدم امتلاكها استراتيجية خروج، ووجود خلافاتٍ داخل مجلسها العسكري والسياسي، ومأزقها الاقتصادي الناجم عن سحب حوالى 350 ألفا من سوق العمل بدعوتهم إلى الاحتياط، ما حمّل الميزانية خسارة يومية حوالى 300 مليون دولار، وخروج تظاهرات كبيرة في تل أبيب تطالب بوقف الحرب وإعادة الأسرى والرهائن. وصمود المقاومة وبقاء قدراتها القتالية البرّية قوية وفاعلة وبقاء شبكة أنفاقها في معظمها سليمة وآمنة، لن ينجح في إخفاء نقاط ضعفها وسوء تقدير قياداتها السياسية والعسكرية بدءا بعدم تحضيرها المجتمع الغزّي للحرب، وتجاهلها احتياجات المواطنين الأمنية والصحية والغذائية، وتجاهل هذه القيادات السياسية، عكسه أبو عبيدة في تصريحه يوم 11 نوفمبر/ تشرين الثاني، عندما وصف الإسرائيليين بـ “أنذل وأنجس من أنجبت البشرية” وبـ”أخوة القردة والخنازير”، وهذه ليست لغة السياسة وكسب الرأي العام الدولي وتعاطفه، وتلميحه إلى الخذلان من دون تحديد من خذله، ما يكشف عن سوء تقدير وخلل في الحسابات. وقد جعل تحوّل المواجهة إلى مواجهةٍ صفريةٍ الطرفين أكثر إصرارا على رفع التحدّي وتحقيق هدفهما من الحرب بفرض الاستسلام على الطرف الآخر أو مواجهة الدمار والموت، فالحرب غير المتناظرة تخضع لقاعدة وضعها سيئ الصيت، هنري كيسنجر، يقول: “ينهزم الجيش إذا لم ينتصر، وتنتصر المقاومة إذا لم تنهزم”.
————————–
حرب غزة وحسابات الربح والخسارة/ رانيا مصطفى
15 نوفمبر 2023
تغيَّر الهدف الإسرائيلي المعلن من العملية العسكرية في غزّة مراراً، مع تخبّط حكومة نتنياهو، ورغبتها في إطالة أمد الحرب بحثاً عن إنجازات تخفّف وطأة النقمة الداخلية على زعيم اليمين المتطرّف، بعد أن أدرك انتهاء مسيرته السياسية. أخيرا، الهدف هو تقسيم القطاع والسيطرة على نصفه الشمالي ومدينة غزّة وتهجير السكان إلى نصفه الجنوبي. قبل ذلك قالوا بتهجير سكّان غزّة إلى الدول المجاورة، والقضاء الكلي على حركة حماس. مضى قرابة الأربعين يوماً على بدء العدوان الإسرائيلي الوحشي، ولم يتمكّن جيش الاحتلال من القضاء على حركتي حماس والجهاد الإسلامي، رغم كل الدعم المادي والعسكري والسياسي الذي يتلقّاه من أميركا والغرب. وبالتالي، تراجعت فكرة إمكانية معاقبة “حماس” على تجرؤها على عملية 7 أكتوبر، فيما أُسقِط حالياً الطرح بتهجير أهالي غزّة خارج فلسطين، بسبب رفض شعبي داخلي في القطاع، وإدراك الناس أهمية الصمود رغم كل القتل والتدمير الذي يلحق بهم، وكذلك الرفض العربي، المصري والأردني خصوصا، للفكرة، تجنّباً لالتزاماتٍ ومسؤولياتٍ ستلحق بالحكومات إذا قبلت باتفاق للتهجير. لن يحلّ مخطّط تقسيم القطاع، وإفراغ نصفه الشمالي، المشكلة “الأمنية” بالنسبة لإسرائيل، لأن المقاومة باقية، وأثبتت في 7 أكتوبر أنها تملك قدرات متطوّرة من حيث التدريب والتخطيط والمعلومات. إذاً عملياً، ليس بمقدور حكومة نتنياهو تحقيق انتصار إسرائيلي استراتيجي، يحقّق الأمان للمستوطنين، بل لقرار الحرب العدمية على غزّة نتائج عكسية على إسرائيل وستمتدّ آثارها سنوات.
كشفت عملية طوفان الأقصى نقاط ضعف عسكرية واستخباراتية لدى الكيان الصهيوني، ومدى تأثير الخلافات الداخلية، وتولّي حكومة نتنياهو بما تضمّه من مسؤولين خارجين عن القانون الإسرائيلي، أو بلا خبرة سياسية، تدفعهم عقلية موغلة في التطرّف والعدمية، تجاه الفلسطينيين، سواء في غزّة أو في الضفة الغربية، عدا عن الانتهاكات تجاه المصلين في الأقصى. يضاف إلى ذلك ارتفاع عدد القتلى الإسرائيليين منذ 7 أكتوبر (يفوق الـ1500)، وهو غير مسبوق، وهناك مشكلة تحرير الأسرى والرهائن الذي ما زالوا محتجزين. أحدث ذلك كله جدالاً حادّاً داخل المجتمع الإسرائيلي، وصوّب نحو فشل سياسات اليمين المتطرّف، حيث انخفضت شعبية نتنياهو إلى الحضيض، وهي أصلاً كانت في تراجع مع نية حكومة نتنياهو إجراء تعديلاتٍ قضائية تحول إسرائيل إلى ديكتاتورية. وهناك عودة داخل المجتمع الإسرائيلي إلى نقاش الطروحات اليسارية بإعطاء الفلسطينيين استقلالاً على جزء من أراضيهم وفق “أوسلو”، أو مبادرة السلام العربية في 2002؛ وقد نشهد في المستقبل القريب صعوداً لليسار الإسرائيلي.
أياً كانت نتيجة الحرب، سيكون هناك عرقلة كاملة لاتفاقات التطبيع في المدى المنظور؛ حيث كانت السعودية على وشك توقيع اتفاق تطبيع مع الكيان الإسرائيلي قبيل عملية 7 أكتوبر. فهي، بوصفها دولة وازنة في الخليج العربي، ولها طموحات تنموية ومشاريع تتعلق بتنويع مصادر الطاقة، كانت قد مضت في مداولات غير مباشرة للتطبيع مع إسرائيل، مقابل اهتمام أميركي أكبر بأمنها وتسليحها، وحينها ظنّت أن الشعوب العربية في حالة استكانة. تغير الظرف العربي، ولم تعد المملكة قادرة على تجاهل الانتهاكات التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني، وعليها العودة إلى مبادرة ولي العهد في حينه، عبدالله بن عبد العزيز في بيروت 2002، شرطا أساسيا للتطبيع العربي مع الكيان الإسرائيلي.
يُضاف إلى هذا أن الرواية الغربية عن مظلومية إسرائيل وحقها في الدفاع عن نفسها من “إرهاب” حركات المقاومة، وهي رواية صهيونية بامتياز، لم تعد تعمل بعد الأيام الأولى للحملة العسكرية الإسرائيلية على غزّة، والتي استهدفت المدنيين والمرافق الحيوية، وخصوصا المشافي، وأمام مرأى العالم، وقد أوقعت الإعلام الغربي في حرج، خصوصا مع تقارير لمنظمة الصحة العالمية تقول إن “طفلاً يقتل كل عشر دقائق في غزّة”، واضطرت عدة حكومات إلى تغيير مواقفها، وإدانة العدوان الإسرائيلي على القطاع، وذلك بتأثير تظاهرات تضامن عالمية، خصوصا التي تقودها حركات يهودية، ترفض الاعتداء على غزة والفلسطينيين، جزء منهم يرى، ومن موقع عقلاني، أن هذا الاعتداء وسياسات الاستيطان يضران بمستقبل إسرائيل، وجزء آخر متشدّد، كحركة ناطوري كارتا، لا تعترف بدولة إسرائيل بالأصل.
في الحديث عن حسابات الربح والخسارة، استغلّت إيران، المأزومة اقتصادياً، والتي لم تكن على علم بعملية طوفان الأقصى وفق خطاب أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، استغلّت العدوان، ورقة تفاوض، مع الأميركان، وأعلنت على لسان نصر الله انتهاء فكرة توحيد ساحات المقاومة، وتخليها عن دعم حركة حماس في معركتها في غزّة، في توافق مع الرغبة الأميركية بحصر المعركة في غزّة، وتحجيم “حماس”، وقد استقدمت بارجتين إلى المتوسّط لهذا الغرض. وتزعّمت روسيا دعم المقاومة الفلسطينية سياسياً على الأقل، لربط المعركة في غزّة بمعركتها ضد الغرب في أوكرانيا؛ لكنها لا تستطيع أن تأخذ مكان إيران في تقديم الدعم العسكري، خصوصا أن علاقات قوية تربطها بإسرائيل.
خلاصة القول إن صمود أهالي غزّة، وآلامهم وتضحياتهم، جزء من نضال الشعب الفلسطيني أجل حقوقه واستقلاله، وضد الانتهاكات الإسرائيلية. وفي السياق والتوقيت، هناك تحرّكات في الضفة الغربية ذات طابع مدني، وهناك قتل واعتقال من الاحتلال أو من السلطة الفلسطينية. ولن تتوقّف حركات المقاومة ما دام هناك احتلال وانتهاكات وسياسات استيطانية، وهذا يعيد القضية الفلسطينية إلى الواجهة. ولكن لدى الشعوب العربية، وليس لدى الحكومات.
—————————-
قبل اليوم التالي لحرب غزّة/ مروان قبلان
15 نوفمبر 2023
لن يكون من قبيل المبالغة القول إن نتائج حرب غزّة 2023 سوف ترسم صورة المنطقة ومستقبلها لعقود عديدة مقبلة، وأن أهميتها لن تقلّ فعليًا عن أحداث كبرى غيرت وجه المنطقة والعالم، مثل هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001، والغزو الأميركي للعراق 2003، وثورات الربيع العربي 2011. عندما غزَت الولايات المتحدة العراق، انهار النظام الإقليمي الذي كان قائما على موازين قوى دقيقة بين إيران وإسرائيل والعرب، حيث تمكّنت إيران من تعزيز نفوذها بقوّة مستفيدة من الأخطاء الأميركية في المنطقة ونكبة العرب في العراق. كذلك إسرائيل استفادت بشدّة من انهيار العراق وخروجه من ميزان القوى العربي – الإسرائيلي، وكان هذا ثاني إنجاز تحقّقه بهذا الاتجاه بعد خروج مصر باتفاقية كامب ديفيد (1978)، ثم اتفاقية السلام (1979). أثرت ثورات الربيع العربي أيضا في موازين القوى الإقليمية في أكثر من اتّجاه، فمن جهةٍ، أخرجت ثالث قوة عربية رئيسة (سورية) من موازين القوى مع إسرائيل، وصارت سورية، بسبب سوء إدارة نظامها الأزمة فيها، ساحة مستباحة تتقاتل فيها إيران وإسرائيل، بعد أن كانت فاعلا رئيسا في قضايا المنطقة. من جهة ثانية، ونتيجة فشل الثورات وانهيار دور الجمهوريات العربية (سورية والعراق ومصر وليبيا واليمن والسودان)، صارت دول الخليج العربية صاحبة النفوذ والتأثير الأكبر في المنطقة العربية، وهي عملية بدأت، على أي حال، منذ الصعود الكبير في أسعار النفط عام 1973، واستمرّت على مراحل مع انهيار أدوار القوى المركزية العربية (مصر، ثم العراق، وأخيرا سورية).
سوف تكون لحرب غزّة، على الأرجح، تأثيرات عميقة مماثلة ليس من السهل حصرها، فهي وإن كانت أول حرب فلسطينية – إسرائيلية، بمعنى الحرب، حيث يكتفي العرب بدور المتفرّج، إلا أن تداعياتها سوف تطاول المنطقة والعالم، ربما. سوف يبدأ التغيير من إسرائيل، حيث يتوقّع أن تسقط حكومة بنيامين نتنياهو في اليوم الأول بعد انتهاء الحرب وتأخذ معها كل معسكر اليمين. وإن كان هذا لن يؤدّي إلى إحياء دور اليسار الصهيوني، الذي انهار تماما، فهو سيصبّ، على الأرجح، في مصلحة يمين الوسط. وسوف تتم إقالة أغلب قادة الجيش (بمن فيهم رئيس الأركان، وقائدا المنطقة الجنوبية وسلاح الجو)، وقادة كل الأجهزة الأمنية (المخابرات العسكرية “أمان” والمخابرات العامة “الشاباك” والمخابرات الداخلية “الشين بيت”، وربما أيضا رئيس الموساد)، باعتبارهم مسؤولين مباشرة عن “كارثة” 7 أكتوبر/ تشرين الأول. سوف تؤثّر الحرب بشدّة أيضا في المجتمع الإسرائيلي وتوجّهاته، نحو الاقتناع بأن لا حلّ أمنيا للصراع مع الفلسطينيين، أو نحو مزيد من التطرّف.
سوف يطاول التأثير حتمًا السلطة الفلسطينية، وحركة حماس، ومجمل الوضع الفلسطيني (وهذا من المبكّر تناوله). سوف تؤدّي الحرب، أيضا، على الأرجح إلى خسارة الرئيس الأميركي بايدن الانتخابات المقبلة، فالعرب والمسلمون، ونسبة لا بأس بها من الأفارقة، الذين يكثر وجودهم في الولايات المتأرجحة التي فاز بها بايدن بصعوبة عام 2020، مثل جورجيا، وويسكنسون، وبنسلفانيا، وميتشغان، لن يصوّتوا له، على الأرجح، بسبب موقفه اللاأخلاقي واللاإنساني من الحرب على غزّة. ومثلما أدّت الحرب إلى اسقاط وزيرة داخلية بريطانيا، ذات التوجهات العنصرية، سويلا برافرمان، يرجّح أن تتسبب في سقوط آخرين في دول أوروبية أخرى، مع بروز مواقف رسمية أوروبية أكثر توازنا، في المقابل (أيرلندا، وإسبانيا، وهولندا، والنرويج، وبلجيكا، وغيرها).
كشفت حرب غزّة، بسفور، عن تحالف اليمين القومي الهندوسي الحاكم في الهند (حيث جاءت أكثر الحملات المعادية للفلسطينيين) مع قوى اليمين الإسرائيلي، وسيكون لنتائج الحرب تأثير كبير بهذا المعنى على مشروع المعبر الاقتصادي الهندي – الشرق أوسطي – الإسرائيلي الذي جرى إطلاقه في قمّة الـ20 في نيودلهي، في سبتمبر/ أيلول الماضي. قد تعطّل حرب غزّة المشروع وقد تدفع به إلى الأمام، وهذا يعني وجود مصلحة حقيقية للصين وتركيا وإيران في فشل الحرب الإسرائيلية على غزّة، لأن البلدان الثلاثة تعدّ الأكثر تضرّرا من مشروع المعبر الاقتصادي، إلى جانب مصر طبعا. بالمطلق، ومهما كانت نتيجة حرب غزّة سوف تكون لها تداعيات كبيرة على مسار التطبيع بين العرب وإسرائيل، والأهم أنها أسقطت كل الأوهام عن إمكانية تهميش القضية الفلسطينية أو تجاوزها لدى محاولة ترتيب أوضاع المنطقة.
——————————-
نصف انتصار ونصف هزيمة/ أحمد رحّال
13 نوفمبر 2023
سيبقى يوم 7 أكتوبر/ تشرين الثاني 2023 محفوراً في ذاكرة الإسرائيليين لأوقات بعيدة، نظراً إلى الصدمة والفجيعة المزدوجة التي شعر بها سكان إسرائيل، مع انكشاف حقيقة الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر، وانهيار معادلة الردع، وتلاشي عامل الخوف، تلك المسلّمات التي عاشت فترة طويلة، لكنها تكسّرت جميعها تحت أقدام عناصر كتائب عز الدين القسام في غلاف غزة، أو عبر الفاجعة الأكبر التي تمثلت في جملة أخطاء ارتكبتها مؤسّسات إسرائيلية عسكرية وأمنية، وأهمها الخطأ الفادح في سوء التقدير الذي ارتكبته أجهزة الاستخبارات العسكرية التي ظنّت أن ما يحصل من تحرّكات في محيط غلاف غزة ما هو إلا تدريب ليلي للجيش الإسرائيلي، ولا داعي لإيقاظ رئيس الوزراء نتنياهو من أجله، وتلك خطيئة كبرى لا تحصل في أصغر جيوش العالم وأقلها من حيث الخبرة والمعرفة. وتمثل الخطأ الآخر في توقّف عمل (وقبل عام) الوحدة 8200 في الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية والمتخصصة في مراقبة الاتصالات، واعتبار أن الجهد المبذول في مراقبة اتصالات حركتي حماس والجهاد الإسلامي مضيعة للجهد. والخطأ الثالث توجّه جنرالين إسرائيليين إلى الكنيست (البرلمان)، بعد الكشف عن وثائق سرّية تؤكد أن الاضطرابات السياسية الداخلية والصراع السياسي الحاصل بين أحزاب المعارضة على السلطة قد يستغله الأعداء في الهجوم على إسرائيل، لكن الموعد المعطى في الكنيست للجنرالين لم يحضره سوى عضوين من أعضاء الكنيست. الخطأ الرابع في تقدير الاستخبارات العسكرية ومجلس الأمن القومي تهديد “حماس” لإسرائيل، وقد أكّد الأخير أن “حماس” غير مهتمّة حالياً بالهجوم على إسرائيل، وأن التهديد الأخطر قادم من إيران وحزب الله فقط.
وارتكبت واشنطن خطأ فظيعا، كان يمكنه منع تعرّض غلاف غزّة للهجوم، عندما توقفت الاستخبارات الأميركية وأجهزة استطلاعها ورصدها عن جمع المعلومات الاستطلاعية عن حركة حماس وخططها وتحركاتها وتوقّفها عن التجسّس على اتصالاتها، بعد أن اعتبرت أن إسرائيل تقوم بتلك المهمة.
اليوم، ومع انقضاء خمسة أسابيع على بدء الحرب المدمّرة على قطاع غزة، يمكن القول إن جيش الاحتلال نجح في المرحلة الأولى من خطّة الهجوم التي تضمنت “استعادة زمام المبادرة والتحشيد والتمهيد الناري”، وانتقل إلى المرحلة الثانية “الاقتحام والتثبيت”، عبر الهجوم من ثلاثة محاور: الأول، من حاجز إيرز باتجاه بيت حانون في أقصى الشمال الشرقي من قطاع غزة. والثاني، عبر الاقتحام من محور العطاطرة – بيت لاهيا في أقصى الشمال الغربي. والثالث والأخطر الاقتحام عبر مستوطنة ناحل عوز غرباً باتجاه طريق صلاح الدين، ثم طريق الرشيد على الساحل، لقطع القسم الشمالي من قطاع غزة وفصله، وهو يضم (مدينة غزة، جباليا، بيت حانون، بيت لاهيا) عن القسم الجنوبي من القطاع.
عسكرياً، يمكن القول إن تلك المرحلة نجحت، وإن استغرقت أكثر من المعدّلات الزمنية في المعايير العسكرية، لكنها استطاعت، عبر حوالي أربعة ألوية دبابات تتقدّمها الجرافات وتغطيها رمايات مدفعية وصاروخية من البرّ والبحر والجو، إحكام الحصار على الحوافّ الخارجية للقسم الشمالي من قطاع غزّة، بعد أن تقصدت أن تكون نقاط الانطلاق بالاقتحام تبدأ من مناطق زراعية خالية، وخصوصا جنوب شرق مدينة غزة وجنوب حي الزيتون، تحاشياً من الاصطدام مع عناصر كتائب عز الدين القسام وسرايا القدس التي لا تستطيع القتال في المناطق المكشوفة حتى في وجود الأنفاق، نظراً إلى المراقبة والاستطلاع والتدقيق التي تقوم بها عشرات طائرات الاستطلاع من المسيّرات التي تغطّي سماء مسرح الأعمال القتالية على كامل أرض قطاع غزّة.
نصف الانتصار الإسرائيلي تحقق عبر قتل المدنيين بتمهيد ناري استمر 20 يوماً، ودمّر، وفق صور للأقمار الصناعية، ما بين 35 – 40% من البنى السكنية والعمرانية للمدن الفلسطينية، وتسبب في استشهاد 11 ألف فلسطيني، جلهم من النساء والأطفال، عدا عن أضعاف هذا الرقم من الجرحى والمصابين، وعملية الحصار وفصل الجزء الشمالي الذي تم بتمهيد وصبيب ناري وفق سياسة “الأرض المحروقة” أو “السجّادة” يعكس مدى الخوف الذي يشعر به عناصر الجيش الإسرائيلي لمحاولة إنهاء أي حركة في أثناء تقدمهم داخل القطاع، خوفاً من المواجهة وعمليات الاشتباك المباشر والقريب التي غالباً ما تُحسم لمصلحة المدافعين من أهل الأرض. وزيادة في إجراءات الحماية المصحوبة بالخوف، اخترقت الدبابات الإسرائيلية، وعبر محاور الاقتحام الثلاثة من خلال مناطق زراعية.
ومع البدء بعمليات التوغل لتنفيذ المهمة الثانية من المرحلة الثانية، وهي “التثبيت”، ومع الوصول إلى الكتل البيتونية والمناطق السكنية، بدأت ملامح الفشل تظهر على مفردات أداء الجيش الإسرائيلي، وباتت طلبات الدعم الجوي والدعم الصاروخي من قادة كتائب الدبابات تتوالى على غرف عمليات القوى الجوية الإسرائيلية، بعد أن استطاعت فصائل غزّة، من خلال فرض مرحلة الاشتباك الصفري، وعبر الأداء المميز لقذائف “الياسين 105″، وهي قذيفة طوّرها الجناح العسكري لحركة حماس عن قذيفة “آر بي جي 7″ لتصبح قذيفة ترادفية (مزدوجة التفجير)، استطاعت قهر دبابات المير كافا الإسرائيلية التي صُنعت لمواجهة أي قذيفة مضادة للدروع، وما لحق بالمير كافا انتقل إلى عربة الـ”نمر” الإسرائيلية التي بلغت كلفتها حوالي ثلاثة ملايين دولار، وتحمل تصفيح ودرع المير كافا نفسهما، لكن قذيفة واحدة من “الياسين 105” اصطادت إحدى عربات “النمر” الإسرائيلية، فقتلت 11 جندياً، ما دفع رئاسة أركان الجيش لفتح تحقيق في الحادثة.
ومع تلك المواجهات، وجدنا أن هناك تراجعا لمحاور الاقتحام أو ثباتا في بعض المواقع وعدم قدرة على متابعة التقدم لإعلان السيطرة وإنهاء المرحلة الثانية من خطّة الحرب للانتقال إلى المرحلة الثالثة والأهم، والتي تتضمّن مرحلة تدمير الأنفاق ما تحت غزة وبسط السيطرة على ما فوق الأرض وتحتها، ثم انتظار القرار السياسي بالمتابعة جنوباً أو الاكتفاء بما تحقق، وهذا ما دفع الجيش الإسرائيلي إلى ارتكاب المجازر بحقّ سكان أحياء المدن، وجعل مدارس “أونروا” والمشافي أهدافا لحمم الجيش الإسرائيلي وقنابله وصواريخه، بجريمة تنتهك كل أعراف القانون الدولي وقوانين الحرب ومبادئهما.
السقف المرتفع للأهداف الذي وضعته القيادات السياسية والعسكرية في إسرائيل ألزمها بمهام ضخمة، تتبدى حاليا صعوبة في تحقيقها، ومحاولة إرضاء الشارع الإسرائيلي الغاضب، ما أحرج تلك القيادات بالتراجع عنها، وإن باتت التصريحات تتضمن تلك المفردات، فقول رئيس الوزراء، نتنياهو، إن الحرب قد تستمر لأشهر، يعني أنه يضع الإسرائيليين أمام احتمالين، إما القبول بما تحقق والانسحاب بدون إنجازات، نظراً إلى المفاجآت غير المتوقعة التي ظهرت في ميادين القتال، أو الاستعداد لتضحيات كبيرة والانتظار، وهذا ما أكد عليه رئيس أركان الجيش، هرتسي هليفي، عندما خاطب الإسرائيليين قائلاً: “الحرب تحتاج إنجازات، والإنجازات تحتاج تضحيات، والتضحيات تحتاج أثمانا عليكم الاستعداد لدفعها”.
اليوم ومع الأعداد المعلنة والمخفية للخسائر البشرية بين ضباط الجيش الإسرائيلي وجنوده، ومع تصريحات كتائب القسام عن تدمير 166 آلية ودبابة لإسرائيل، ومع خسائر اقتصادية إسرائيلية ضخمة، إن كان عبر كلفة الحرب (35 ألف طن من الذخائر ألقيت على قطاع غزة منذ بدء الحرب)، أو عبر نصف مليار دولار خسارة يومية في الاقتصاد الإسرائيلي نتيجة توقف المعامل وعجلة الاقتصاد وذهاب العمّال إلى ساحات الحرب، وأيضاً ضغط أهالي الأسرى لدى حركتي حماس والجهاد الإسلامي، مع تزايد الضغط السياسي والدبلوماسي الذي بدأ يتصاعد من معظم الدول التي بدأت الحقائق تتكشّف لها، وتدرك أن تلك الحرب ليست حرب دفاع عن النفس كما روّجت إسرائيل، بل هي حرب لقتل المدنيين وتهجيرهم، فهل تستطيع إسرائيل المتابعة، أم تكتفي بنصف انتصار ونصف هزيمة؟
———————————-
فلسطين مقياساً لإنسانيتنا وأخلاقنا/ مالك ونوس
13 نوفمبر 2023
لا تكمن الخطورة على الشعب الفلسطيني في الهجوم الغربي عليه، حين اكتشف هذا الغرب أن ثمّة روحاً ما تزال تنبض في هذا الشعب، وأن ثمّة قدرة باقية لديه على اتخاذ القرار والفعل والتأثير، على الرغم من الحصار والتجويع والإبادة الصامتة، تلك القدرة التي برزت من خلال عملية طوفان الأقصى المكينة والكاشفة، بل تكمن الخطورة أيضاً في ذلك الخطاب الغربي الشاذ الذي ردّ فيه على ذلك الاكتشاف، بقرار يبدو أنه يهدف إلى استباق الزمن، من أجل محو كل ما يمتّ لفلسطين من عقول أبنائه وأبناء الشعوب الأخرى وقلوبهم. وهذه حقيقة لم يكن لكثيرين أن يصدّقوها إلا بعدما شهدوا ما اتّخذته حكومات هذا الغرب من قراراتٍ يمكن تصنيفها مكارثية، تتضمّن منع التعاطف مع الضحايا في غزّة، وتجريم تداول كل ما يشير إلى الشعب الفلسطيني وفلسطين من رموز، كالأعلام والكوفيات والأثواب والخرائط، وغيرها من الرموز، وملاحقة أصحابها وطردهم من أعمالهم وجامعاتهم.
وفي هذه الممارسة، يريد الغرب تجريد شعوبه من الإنسانية، وربما من الأخلاق التي تدفع كثيرين إلى التعاطف مع الضحية. وليس أدلّ على مدى ضراوة هجوم الإسرائيليين وداعميهم في الغرب على القيم الإنسانية والأخلاقية سوى قول يوآف غالانت “نحن نحارب حيواناتٍ بشرية”، والتي تلقّاها الغرب وتماهى معها، حين رفضت أغلب دوله وقف إطلاق النار في غزّة، وبرّرت جرائم الاحتلال ومجازره بحقّ أهل غزّة بعبارة “حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها”. وتزداد الخطورة على الشعوب عامة مع ازدياد انتشار أفكار اليمين المتطرّف والشعبوية في الغرب الأميركي والأوروبي الذي لا يرى في الموقف الأخلاقي لشعوبه من القضية الفلسطينية والتعاطف معها سوى خطوة تندرج في سياق الاعتراض على سياسات هذا اليمين وعلى الزعماء الشعبويين الجدد، تلك السياسات التي تصبّ، في النهاية، في صالح نُخَب الليبرالية المتوحّشة التي تتحسّس الخطورة من أي فعل احتجاجي، وتعمل على الانقضاض عليه وعلى أصحابه.
ربما كان الصحافي الإيطالي الراحل، وعضو حركة التضامن الدولية مع الشعب الفلسطيني، فيتوريو أريغوني، أكثر مَن لمَس محاولات إسرائيل والغرب نزع صفة البشرية والإنسانية عن الفلسطينيين من أجل استسهال استهدافهم وقتلهم، فلا يؤدّي ذلك إلى إثارة ردة فعل مستنكرة ومندّدة. لذلك استجاب للنزعة الإنسانية الكبيرة التي في داخله، وعاد إلى غزّة، حين كانت طائرات الاحتلال الإسرائيلي تمطر القطاع بقنابلها، في أثناء حرب “الرصاص المصبوب”، سنة 2008، على متن قارب، جالباً معه، هو وأصدقاؤه، مساعداتٍ إنسانيةً وطبية لمساعدة أهل القطاع على مواجهة تلك الحرب والبقاء على قيد الحياة. وقد رأى أريغوني من الأهوال والجرائم ما يجعل كل من يقف مع المحتل أو حتى يشتري منتجاته، متورّطاً في تلك الجرائم. ولم ينسَ الساكت عنها، من الناس العاديين، الذي صنفه فاقد لأي حس إنساني وأخلاقي. لذلك كتب يومياته عن تلك الحرب من داخل القطاع ونشرها بشكل شبه يومي على صفحات صحيفة إل مانافيستو الإيطالية، ثم جمعها في كتاب أطلق عليه عنواناً هو: “غزة: حافظوا على إنسانيتكم”. يومها حدّد أريغوني مدى إنسانية البشر بمدى تعاطفهم مع قضية الشعب الفلسطيني ومعارضتهم الحرب الإسرائيلية عليه. لذلك حين كان يذيِّل مقالاته اليومية بعبارة “حافظوا على إنسانيتكم”، لم يكن يتوقع أن يُكتب ذلك الشعار على اللافتات التي رُفعت خلال المظاهرات التي عمّت أوروبا احتجاجاً على الحرب الإسرائيلية على غزّة، غير أن الحس الإنساني ارتبط بالأخلاقي لدى كثيرين رأوا أن السكوت عن تلك الجرائم هو مشاركة في الجريمة.
لو بقي أريغوني حياً لكنا شاهدناه الآن يتنقل بين أحياء غزّة في سيارة إسعاف لينقذ من يمكن إنقاذه، كما كان يفعل أثناء حرب الرصاص المصبوب، إلا أن الفارق اليوم أنه ربما كان سينهار بسبب الفظائع التي كان سيشهد عليها، وبسبب جرائم قصف المستشفيات وتدميرها فوق رؤوس المرضى والنازحين، وبسبب المجازر التي يرتكبها الإسرائيليون على مدار الساعة. وربما لن يصدّق أنهم بشر أولئك الذين يتلهُّون بعمليات الإبادة الجماعية وتصيُّد الأطفال الفلسطينيين والنساء في منازلهم وعلى الطرقات وقرب الأفران، أو حتى وهم فارّون. وربما سيكون عاجزاً عن توثيق الجرائم الإسرائيلية وأعمال القصف في يومياته ليرسلها للنشر في الصحيفة الإيطالية، أو غيرها من الصحف، لأنه لن يجد الوقت بين مجزرةٍ ومجزرةٍ لكي يسجلها، أو ربما لأن مخيلته لن تسعفه في تذكّر كل ما حدث وكل ما يحدُث، بعد رؤيته المشاهد التي ستنعدم الكلمات التي تستطيع وصفها.
ولكن لماذا التعويل على الأخلاق والقيم الأخلاقية التي تحدّد سلوك البشر من أجل رصد مدى إنسانية البشر، والتي تفرض عليهم الوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني الذي تقتل دولة الاحتلال أبناءه وتدمّر مساكنه ومشافيه في الحرب التي ما تزال تشنها عليه من أكثر من شهر، وترفض وقفها أو تنفيذ هدنٍ إنسانية خلالها، حتى تتمكّن من تدمير قطاع غزّة على رؤوس جميع من فيه وتهجير من نجا منهم، وفق ما صرّح قادة الكيان عن نياتهم صراحة؟ يتعلق الأمر بمدى المحافظة على الأخلاق لدى هذه الجماعة أو تلك من الجماعات البشرية، ومدى منعتها في وجه التحلّل الأخلاقي والانتقائية الأخلاقية التي شهدنا أكثر صورها تقززا لدى النخب الحاكمة في الغرب الأوروبي والأميركي من ورثة الاستعمار القديم. هؤلاء وغيرهم من السياسيين والمحازبين الذين تبيّن للجميع المدى الكبير الذي تتأثر به قيمهم ومعاييرهم الأخلاقية جرّاء المخزون الثقافي والديني والموقف السياسي، ووقوعهم فريسة التعصّب والعنصرية التي تفرضها عليهم تلك المؤثرات. لذلك كان الموقف المتناقض، لدى فئة ليست قليلة ممن تعاطفوا مع ضحايا الهولوكوست، والذين ناصروا الشعب الأوكراني للصمود في وجه الغزو الروسي وتقليل آثاره على أبنائه، ودعواتهم إلى تجريم القادة الروس لانتهاكاتهم خلال الحرب، وفي الوقت نفسه، أعلنوا عداءهم للشعب الفلسطيني وهو الضحية للحرب الإسرائيلية عليه.
ماذا يمكننا تصنيف قادة الغرب ونخبه السياسية التي ترفض وقف إطلاق النار في غزّة، لكي تعطي الإسرائيليين الفرصة والوقت الأكبر لتدمير ما تبقّى من القطاع، والذي ربما لا يتجاوز 25% من بنائه وأرضه التي جرفتها آلياتهم وقصفتها طائراتهم وصواريخهم؟ وماذا يمكن تصنيف الأوامر التي يتلقّاها إعلامه من أجل التحيز لدولة الاحتلال وعدم الإشارة إلى الفلسطينيين وعمليات القتل بحقّهم سوى أنها رد على هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، وعلى صواريخ تنجح في اختراق القبّة الحديدية؟ هؤلاء لا يمكن التعويل على قيم أخلاقية تمنعهم من رؤية الجهة التي تكمن فيها الضحية. هؤلاء لا يمكن التعامل معهم سوى بالمظاهرات التي تحدَّت منع كل إشارة إلى فلسطين، وهدّدت بتجريم صاحبها. تلك المظاهرات التي خرج أصحابها لكي يحافظوا على إنسانيتهم التي تحاول نخبهم الحاكمة تجريدهم منها، بانتظار أن تتدحرج تلك المظاهرات وتبتّ بعلاقة الشعوب بنخبها بتاً تكون إرادتها هي عامل الفصل فيه.
——————–
ما دور بشّار الأسد؟/ فاطمة ياسين
12 نوفمبر 2023
شكّلت القضية الفلسطينية إحدى ركائز نظام البعث في سورية، يعتاش عليها ويتغذّى. وقد أطلق مواقف ذات سقف مرتفع يتجاوز، أحيانا، ما تطالب به الفصائل الفلسطينية نفسها. وكانت وسائل الإعلام الرسمية السورية لا تفتأ تكرّر عناوين القضية وحقوق الشعب الفلسطيني. وقد ساعد في ذلك وجود سورية الإقليمي قرب مكان الحدث، ما جعل نظامها مشاركا إجباريا في سيناريوهات الحلّ، وجزءا من ركائز السلام أو الحرب. ومن هذا المنطلق، أراد أن يمارس وصاية على منظمة التحرير التي عدّتها القمّة العربية في الرباط عام 1974 الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. بالدبلوماسية أحيانا وبالقوة أحيانا أخرى، أراد النظام في سورية أن تكون له الكلمة الفصل في قرارات المنظمة وسياساتها. ونجح أحيانا وفشل في أكثر الأوقات، فقد كانت قيادة المنظمّة تعطيه ما تريد وتمنع عنه ما ترغب. وقد فطن إلى هذه السياسية، فلجأ إلى الخداع للإيقاع بقادة المنظمة، بزرع الشقاق بينهم كما حدث بعد حرب لبنان عام 1982، حين شجّع قادة في حركة فتح على الانشقاق وتأسيس “فتح الانتفاضة”. وكان قد ساهم سابقا في تخليق منظمّات فلسطينية قدّم لها الدعم والسلاح، ووضع على رأسها قادة من صناعته، وحاول أن يجد لها جبهة واسعة ضمن مؤسّسات العمل الفلسطيني، كمنظمة قوات العاصفة، ثم مارس أساليب عديدة مع القائد التاريخي لمنظمة التحرير ياسر عرفات الذي عانى من علاقات سيئة وغير مستقرّة مع النظام طوال فترة حكم حافظ الأسد.
نشط النظام بالدرجة ذاتها على الجبهة اللبنانية، فمارس وصاية برعاية إيرانية على لبنان، وامتلك ذراعا طويلة في هذا الجانب، ثم قصُرت ذراعه قليلا بعد اغتيال رفيق الحريري وخروج الجيش السوري من لبنان، لكنه خلال ذلك الوقت ضبط إيقاع حركة حزب الله في الجنوب، فصعَّد وهدّأ بالمقدار الكافي، ليصنّف ضمن المجموعة المعادية لإسرائيل بشدّة، والواقفة إلى جانب الحقوق العربية.
أظهر النظام نفسه بقوّة في الحرب بين إسرائيل وحزب الله عام 2006، أي بعد عام من اغتيال الحريري. وقد خرج بشّار الأسد، عقب نهاية الحرب، في خطابه الذي وصف فيه قادة عربا بأنصاف الرجال، وقد كلفه هذا الخطاب عدّة سنوات من الدبلوماسية التي تستجدي إصلاح علاقاته المتدهورة مع قادة خليجيين، لكنه أراد بذلك الخطاب التصادمي أن يسجّل موقفا متقدّما ضد إسرائيل، وإلى جانب حزب الله الذي تلقّى لوما واسعا لافتعاله تلك الحرب، في وقت كان لبنان يعاني اقتصاديا بشدّة. تبنّى النظام مواقف أرادها أن تكون متطرّفة، وأراد أن يقبض على الفصائل المعادية لإسرائيل ويسيطر على أنشطتها، من دون أن يضطرّ إلى تحريك جبهته الخاصة، المناسبة أكثر لشنّ هجماتٍ على إسرائيل، وفضّل أن يخوض معاركه بأسلحة غيره وأرض الآخرين، حتى عندما كان في أوج قوته وحضوره الإقليميين.
أصابت الثورة استقرار النظام السوري بشكل بليغ، فغيّر في عقائده واستراتيجياته، وفي موقفه التقليدي من منظمات العمل ضد إسرائيل، وحتى موقفه المعروف من إسرائيل، ولجأ في حربه على الشعب إلى حزب الله، فسلمه جبهات قتال كاملة، خصوصا في حمص والجنوب السوري. وأجل حزب الله بدوره معركته المعلنة مع إسرائيل لصالح معاركه في الداخل السوري، حتى جاء تصريح الأسد قبل أشهر، مع قناة سكاي نيوز عربية، لافتا ضد حركة حماس، إحدى منظمّات المواجَهة مع إسرائيل، عندما وصف موقف قادتها بالغادر. وقد أصبح واضحا أن النظام منصرفٌ أكثر لتثبيت نفسه بأي ثمن. وبدا جليا أن مواقفه من إسرائيل كانت للسبب نفسه. والآن بينما تشتعل غزّة ومهدّدة بأن تتحوّل إلى ركام. بالكاد يظهر خبر مندّد على صفحات النظام. ويبدو أن هناك تفهّما كبيرا من حلفاء الأسد، في إيران وغيرها، لتقديم سلامة عرشه على أي شيء.
—————————–
جبهة في غزّة تمتدحها جبهة في الجنوب السوري/ أيمن الشوفي
11 نوفمبر 2023
سرعان ما تراجع وزير التراث الإسرائيلي، عميحاي إلياهو، عن تصريحه المُغرق بإثارة الجدل، حين دعا الحكومتة التي ينتسب إليها إلى إلقاء قنبلة ذريّة على قطاع غزّة، أراد في وقتٍ لاحق لكلامه ذاك أن يشذّب من درجة حرارته قليلاً، فاعتبر أن ما قاله جاء من باب الاستعارة والمجاز ليس إلا! ولكن إسرائيل تريد بالفعل إتلاف وجود غزّة في الحيّز المكاني، تريد محوها من أوصاف خريطة فلسطين، تريدها جزءاً غير ضار من التراث الفلسطيني المسافر في تغريبته القصوى، بالرغم من أن تصريح إلياهو جُوبهَ بسحابة استنكار ترامت أطرافها على مساحة واسعة من ألسنة وزراء في حكومة الكيان الإسرائيلي. غير أن الجانب الهستيري في تصريح وزير التراث مرتبطٌ على نحوٍ وثيق بعجز جيش الاحتلال على صياغة مفردات نصرٍ عسكري بعد اجتياح القطاع بريّاً، وفشله في حسم المعركة على الأرض، بعد كل القتل الذي أوقده في القطاع المنكوب، حيث تجاوز عدد من فارق الحياة هناك عشرة آلاف فلسطيني، أكثر من ثلثهم أطفالٌ ونساء، إضافةً إلى أكثر من 24 ألف جريح، وتلك أرقامٌ نازفة بحق، جرى تحصيلها خلال شهر واحد، وهي مربكة إن لاحقناها من دلالات فهمها، ذلك أن شهراً إضافياً على استرسال جيش الاحتلال بتصفيّة قطاع غزّة سيضاعف أرقام الموت هناك بالحدّ الأدنى، عدا عن تنامي نسبة النزوح، حيث بات أكثر من ثلثيّ سكان قطاع غزّة يعيشون نزوحاً قسريّاً بعيداً عن أماكن سكنهم، بعدما استطردت إسرائيل كثيراً في توثيق غزّة مكانا غير صالح للحياة، أو البقاء فيه، هكذا يُمنهجون الترحيل، ويدفعون الناس هناك دفعاً باتجاهه.
أما العملية العسكرية الإسرائيلية، فتبدو طويلة، لا ضفاف لها لتجعلها مرئية، حتى وإن صرّح نتنياهو بأن نهايتها مرتبطةٌ بإطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين المحتجزين لدى حركة حماس، لكننا نجد، في المقابل، رهاناً مضادّاً تشتغل عليه الحركة، وغيرها من تنظيمات دخلت عملية طوفان الأقصى من بابه الواسع مثل سرايا القدس، الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، إذ بدا محمد الهندي نائب أمينها العام في تصريح له متأكداً من حتمية رضوخ إسرائيل لعملية تبادلٍ للأسرى، وربما يشفع لمثل هذا التفاؤل ما أصاب الاجتياح البريّ الإسرائيلي غزّة من ارتباك وتوعّك جاءاها من حرب الأنفاق والشوارع واللذيْن تورّط بهما جيش الاحتلال، عدا عن خسائره غير المتوقّعة جرّاء استخدام المقاومة الفلسطينيّة هناك مضادّات الدروع في مواجهاتها البريّة مع “الميركافا”.
ثم إن إسرائيل لا تستسيغ مرارة المشهد الذي يعاندها في غزّة، مذاقه يُشعرها بمزيدٍ من العار أمام المجتمع الإسرائيلي بصورةٍ خاصة، وهي، وإن تذوقت ذلك، فهذا يجعلها حريصةً على عدم الانخراط بحرب أوسع مع النفوذ الإيراني في الجنوب اللبناني، والجنوب السوري، تريد تلك الحرب بإصرار، لكنها تؤجل خوضها إلى حين، أقلّه أنْ تطمئن على حسم معركتها في غزة، وهذا الذي يطول أكثر مما ينبغي، ويتخطّى حساباتها كلّ يوم.
أما في جبهة الجنوب السوري، فلا يتلكّأ الوجود الإيراني هناك في فرض سطوته على الجميع، سواء في ريف درعا الغربي، أم في القنيطرة المتعبة من إقامته فيها، وكأنها أرضُه الموعودة، والتي باتت إيران تحتلّها بالكامل، حيث تزرع داخلها تحصينات جديدة كل يوم، وتنتظرها لتنبت، ولأجل ذلك اخترعت ما يسمّى الحرس الثوري السوري، على غرار ما يسمّى الحرس الثوري الإيراني، وجعلته مرتبطاً تنظيمياً به.
يريد حزب الله اللبناني، مُقنّعاً بالنفوذ الإيراني الجَلِفْ، أن يجعل القنيطرة السورية قاعدةً عسكرية كبيرة يراوغ من خلالها، ويدير منها معاركه المحتملة، وأيضاً ليبتزَّ سياسياً إسرائيل، نظراً إلى أنها محافظة سورية حدوديّة مع دولة الكيان. وأخيرا، نظّمت المليشيات الإيرانية التي تحتلّ القنيطرة السورية حملة اعتقالات واسعة، شملت أكثر من 30 ضابطاً في أجهزة الأمن السورية، من بينهم رئيس فرع سعسع، لأنهم من المرتبطين بعلاقات وثيقة مع الجانب الروسي. تريد إيران القنيطرةَ بمن فيها خالصي الولاء لها، وكأنها تتحدث عن أرضٍ إيرانية، لا عن أرضٍ سوريّة تحتلها.
وتدير إيران المُتحذلقة باحتلالها الساذج للقنيطرة السورية ظهرها إلى الاحتضان الاجتماعي لها في الجنوب السوري، وكأنه أمرٌ لا يعنيها إلى هذا الحدّ، فتبدو عاريةً من مكانها ذاك، عاريةً أكثر ممّا ينبغي، وكلّما ابتعدنا شرقاً باتجاه درعا، والسويداء ازدادت النقمة والعداء الاجتماعي على الاحتلال الإيراني، ليصل أشدّه في السويداء، التي رفعت انتفاضتُها القائمةُ حتى الآن الكثيرَ من الشعارات المعادية لوجود المليشيات الإيرانية على الأراضي السورية، وبهذا لن تزيح معركة إسرائيل المقبلة مع الوجود الإيراني في الجنوب السوري عن محافظة القنيطرة، وقد تمتد بأحسن الأحوال إلى أجزاء من الريف الغربي لمحافظة درعا، ولن تجد المليشيات الإيرانية، ومن يدعمها من مليشيات سوريّة مأجورة أيّ عمقٍ استراتيجيّ قد تلجأ إليه في الجنوب السوري إن قرّرت طهران فتح جبهة حربٍ مع إسرائيل من هناك، بل سيكون ريف دمشق وجهتهم الوحيدة والمتاحة حالما يضطرّون إلى إجراء انسحابات تكتيكيّة، أو إجبارية، لا يهم.
أخيرا، قصفت إسرائيل موقعين للرادار السوري في السويداء، أحدهما في تلّ قليب، والآخر في تلّ المسيح، وهذه ليست المرّة الأولى التي تقصف إسرائيل هذين الموقعين بالتحديد، وهما وإن كانا نظرياً يتبعان لجيش النظام السوري، لكنهما وعملياً يقعان تحت الإشراف الإيراني المباشر، أي تحت سلطةِ وصايته، بالرغم من أن إيران لا تمتلك وجوداً عسكرياً ملحوظاً ومرئيّاً داخل السويداء، أو حتى داخل ريفها، لكن هذا لا يمنع من أن يكون بعضُه موجوداً ومدسوساً، ولو بصورةٍ غير فصيحةٍ أو باديةٍ للعيان.
ولأن النظام السوري برأسه الأحمق وأطرافه المشلولة قد تنازلوا مراراً عن ثروات البلاد وسيادتها لإيران وروسيا، نجد كيف أن بشّار الأسد ونظامه لا ينطقون إن قصفت إسرائيل غزّة، أو السويداء، إذ الأمر سيان، فالعقود الإيرانية والروسية لاستثمار السيادة السورية لا تقلّ مدّتها عن 50 عاماً، وخلال كلّ تلك السنوات المقبلة سيكون بمقدور بشّار الأسد أن يناورَ النومَ بالنوم مثل بِطْريقٍ لا يتناسل، أو أن يظلّ فاقداً لحواسّه وسيادتها كأيّ أبلهٍ مطرودٍ من مواخير مدينةٍ تنبذه، يكمل سيرة اختفائه المتعجرفة كأنه سمسار عقارات مفلس ومريض، فيما يقتسم الغرباءُ البلادَ، ويعيشون فيها حروبهم الصغيرة والكبيرة، أو يوشكون، من دون أن يأبه أحدٌ منهم بذاكرة من بقوا من قاطنيها متفرّجاً، مثلما لا يأبه أحدٌ الآن بذاكرة الفلسطينيين الناجين من المقبرة، حين قرّرت غزّة أن تعيش كل صنوف حربها الكبرى، والتي لن تتكرّر إطلاقاً.
—————————
“لا أحد حرٌّ حتى يتحرّر الجميع”/ رشا عمران
11 نوفمبر 2023
صدر، قبل أيام، بيان مهم جدا صاغته مجموعة من المثقفين اليهود في أميركا (كتّاب وموسيقيين ومغنين وممثّلين ومخرجين وصحافيين وأكاديميين)، وقع عليه آلاف من اليهود في العالم، وحمل شكل رسالة موجهة إلى المجتمع الدولي والعالم وإسرائيل، ويتحدّث عن نقطة مهمة جدا، وهي سعي إسرائيل، ومعها المجتمع الدولي، إلى تحويل أي انتقاد لإسرائيل إلى معاداة للسامية، معتبرين ذلك نوعا من التكتيك الخطابي الذي يحمي إسرائيل من المساءلة عن جرائمها، ويعطي التبرير لأميركا لإنفاق ملايين الدولارات لدعم الجيش الإسرائيلي المحتل وإنكار السيادة الفلسطينية واعتبار مقاومة الاحتلال فعلا إرهابيا واقعا تحت بند معاداة السامية، ويتم من خلاله قمع كل انتقاد لما تفعله إسرائيل، ما يضع حرية التعبير في أميركا والعالم في مكان خطر جدا. ويتحدّث البيان أيضا عن أن معاداة السامية تحوّلت إلى مظلوميةٍ، يتم الاستثمار بها لتبرير المشروع الصهيوني المخالف أساسا للتعاليم اليهودية التي يراها كاتبو الرسالة تقوم على فكرة إصلاح العالم ونقد السلطة والتشكيك بها والدفاع عن المظلومين ضد الظالم. ومن هذه النقطة، يرى كاتبو البيان أن واجب كل يهودي اليوم دعم الفلسطينيين في الحرب الظالمة التي تشنها دولة الاحتلال، والتنبيه إلى خطورة ما يحدُث، والدعوة والضغط لوقف الحرب فورا.
تتحدّث الرسالة الطويلة أيضا عن الآلية التي جرى بها في الذاكرة الجمعية الشعبية الخلط بين اليهودي والإسرائيلي الصهيوني، ما سهل على إسرائيل كل اعتداءاتها وجرائمها ضد الشعب الفلسطيني، ومنحها الذرائع لتكون دولة فصل عنصري، ينظر كل من يؤيدها إلى الفلسطينيين والعرب والمسلمين بوصفهم مشتبها بهم أو إرهابيين، من دون الأخذ بالاعتبار كتلة العنف الرهيبة التي مورست ضدهم عبر عقود بسبب المشروع الصهيوني.
تتحدّث هذه الرسالة الطويلة عن مواضيع، مثل المشروع الصهيوني والاحتلال ومعنى أن تكون يهوديا، وعن العرب وعن السلام العالمي وعن حرية التعبير وعن القمع، بمنطق علمي وثقافي وإنساني وسياسي جاد في وقته تماما. وعرّى حقيقة ما يحدُث، ووضع النقاط على الحروف من حيث المسؤولية القانونية والسياسية والإنسانية، من دون أي التباس أو خلط بين الضحية والجلاد. وربما يجب القول إن إحدى الصحف الأميركية لم توافق على نشر الرسالة خشية عواقب جرأتها، فتم تداولها على مواقع التواصل الاجتماعي، ليسارع إلى التوقيع عليها آلاف اليهود في العالم.
ليست هذه الرسالة التضامن الدولي الوحيد مع فلسطين في الحرب الجارية على قطاع غزّة، ذلك أنه رغم محاولات النظام الحاكم في العالم الأول اتّخاذ كل الإجراءات التي تمنع أي نوع من التضامن مع غزّة (منع مظاهرات واعتقالات وتسريح من العمل ومحاكمات وترحيل وتهديد بسحب الجنسية)، إلا أن شعوب هذا العالم لا تتوقّف عن التعبير عن التضامن، إذ شهدت مدن عديدة في الغرب مظاهرات حاشدة وضخمة رفعت فيها الأعلام الفلسطينية رغم قرارات بعض الدول منع هذا، وعلت فيها هتافات ضد إسرائيل، رغم اتهامات معاداة السامية. ولم يتوقف النشطاء في العالم لحظة واحدة في كل مناسبة أو اجتماع دولي عن الحضور ورفع العلم الفلسطيني والتنديد بجرائم إسرائيل بكل الطرق الممكنة. وتعجّ أيضا وسائل التواصل بفيديوهات لمشاهير “السوشال ميديا” في العالم تندد بالاحتلال أو تسخر منه. كما أن كثيرين من مثقفي العالم وأهم نجومه أعلنوا تضامنهم مع فلسطين وتنديدهم بالحرب، واعتبار نتنياهو والنظام العالمي المؤيد له مجرمي حرب ويجب محاكمتهم.
أعادت الحرب الوحشية على غزّة الاعتبار للقضية الفلسطينية بعد وقت طويل من تجاهلها أو تناسيها؛ وفضحت حقيقة النظام العالمي الحاكم وآلياته ونظم تفكيره؛ فإذا كان التضامن مع غزة ضد الحرب المحرّك الأول لهذا النشاط الشعبي والنخبوي العالمي، فثمّة سببٌ مضاف أيضا لذلك، وهو التمرّد على محاولات قمع حرية التعبير ورفض الهيمنة السلطوية على الشعوب، والاحتجاج الصارخ على التكتيك المستخدم لفرض الاستبداد في مجتمعاتٍ لطالما كانت تتباهى بحريتها.
في إعلانها تضامنها مع غزّة، تقول الممثلة اليسارية المشهورة سوزان ساراندون: “ليس من الضروري أن تكون فلسطينيا حتى تهتم بما يحدُث في غزة، أنا أقف مع فلسطين، إذ لا أحد حرٌّ حتى يتحرّر الجميع”. أفكر وأنا أقرأ ما قالته ساراندون وغيرها من نجوم العالم ومثقفيه، وأرى المظاهرات، بكيف يمكن أن نجعل كثيرين من العرب، لا الشعوب فقط، بل أيضا النخب الثقافية والفنية، يفهمون فعلا ماذا تعني مفردة الحرية.
————————–
نصر الله… المشكلة في الإخراج/ غازي دحمان
10 نوفمبر 2023
يدرك من يعرف أبجديات السياسة الإيرانية في المنطقة أن انخراط حزب الله في الحرب ضد إسرائيل في غضون العدوان الجاري على قطاع غزة أمرٌ دونه المستحيل، فالحزب لم يخيّب توقعات أحد، بقدر ما أن الآخرين وضعوا توقعاتٍ لا تنسجم مع المعطيات الراهنة، ولا مع توازنات القوى وأوزان اللاعبين المنخرطين بها، ومسارات المشاريع الجيوسياسية في المنطقة.
أما الحديث عن وحدة الساحات، التي جرى الاتّكاء عليها لتوقّع أن حزب الله سينخرط على أساسها في الحرب، فإن تنفيذها يتطلب شروطا وتكتيكاتٍ مختلفة، لا يتوفر شيءٌ منها في اللحظة الراهنة، بعد أن خطفت حركة حماس عنصر المفاجأة، وجرّدت الحزب من أهم ورقة يلعب بها. وفي الأصل، لم تكن ثمّة مؤشّرات على أن الحزب سيعمل، في الوقت القريب، وحتى البعيد، على تفعيل هذه الورقة بقدر رغبته في استخدامها ورقة تفاوضيةً يجني من ورائها أرباحا استراتيجية مهمةً في تقديره وتقدير إيران.
يشكل عامل المفاجأة في الحروب اللامتماثلة العنصر الأهم في اللعبة لدى الفواعل الذين تقتصر هياكل قوتهم العسكرية على عناصر محدودة، مثل الصواريخ أو المسيّرات وكتائب نخبة صغيرة، إذ بعد المفاجأة يحصل توازنُ في القوى، وفي مرحلة لاحقة سيطرة الطرف الذي يملك إمكانات أكبر، وستجرى المراهنة على تدخّل قوى إقليمية ودولية لوقف إطلاق النار. صحيح أن لدى الحزب صواريخ ومسيّرات كثيرة، لكنها تبقى قوّة نظرية، يصعب تفعيلها بكامل طاقتها في ظروف الحرب، فكما أن منظومات إسرائيل ستتعرّض لخسائر، وستخرج آلياتٍ عديدة من حسابات القوّة، كذلك سيخرج جزء كبير من قدرات الحزب الصاروخية قبل تشغيلها.
كان واضحا بتأكيد نصر الله أن حماس اتخذت قرار عملية طوفان الأقصى وحدها، ولم تخبر أحداً، أن الحزب لم يجهّز أوضاعه للانخراط في هذه الحرب التي تتطلّب تجهيزاتٍ لوجستيةٍ وعملانيةٍ ونفسية. ولكن ماذا لو أن “حماس” أخبرته بالفعل، فما الذي كان سيفعله؟ الحزب مرتاح في قواعد الاشتباك الراهنة، ويعتبرها إنجازا مهما، ولا يرغب في تغيير المعادلات، بالإضافة إلى أن عنصر الاضطرار المتمثل بالطغيان الإسرائيلي على الفلسطينيين وحصار غزّة لا يعاني منه حزب الله، الذي يعرف أن مثل هذه المبادرة في الهجوم على إسرائيل تعني الانتحار، إن لم يكن تحطيم جمهورية الحزب التي تمتدّ من لبنان إلى سورية واليمن والعراق، من المؤكّد أن هذا المعطى، وليس سواه، هو ما دفع “حماس” إلى عدم إخبار الحزب بأمر العملية.
كما أن تأكيد نصر الله انخراط الحزب في الحرب ينطوي على رسالة واضحة، إلى حركة حماس والجمهور العربي الذي كان ينتظر تحرّكا منه كبيرا لنجدة “حماس”، بأن هذه هي حدود قدرة الحزب وإمكاناته في الوقت الراهن، رغم أن نصر الله بالغ في تقدير مساهمة الحزب في إضعاف فعالية الهجوم الإسرائيلي على غزّة عبر إشغاله قوات النخبة وثلث قوّة إسرائيل، ذلك أن جبهة غزة لا تحتمل إدخال كامل القوّة العسكرية فيها لصغرها، وهذه القوات مخصّصة لردع الأطراف الإقليمية من المشاركة في الحرب، وهي نجحت في تحقيق هذا الهدف.
لقد انطوى خطاب نصر الله على لغةٍ دفاعية، هدفها منع أخذ حزب الله في الطريق، إذ يكشف حجم الاستعداد والاستنفار الإسرائيلي أن هدف هذه القوات تشغيل أكثر من جبهة، كما أن المتطرّفين الإسرائيليين يعتقدون أنهم أمام فرصة الدعم الأميركي اللامحدود لتريحهم من تهديد حزب الله سنوات طويلة، إن لم يكن إلى الأبد. لذلك يتمثل أحد أهم أهداف الحزب حاليا في الحفاظ على المعادلات التي كانت قائمة قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول، في ظل خطابٍ إسرائيليٍّ يقول بتغيير الشرق الأوسط بمعادلاته وتوازناته، الأمر الذي سيجعل ايران وحزب الله في مكانة متدنية، ويضيّع كل مكاسبهما الإستراتيجية التي تحقّقت طوال العقد الماضي.
يُدخلنا هذا إلى باب الاعتبارات التي يأخذها حزب الله في الحسبان، لتشكّل محدّدا قويا لحدود مشاركته في الحرب الحالية، في مقدمها الوضع الداخلي للبنان الذي لا يحتمل الانخراط في الحرب، جرّاء الأوضاع الاقتصادية بالدرجة الاولى، بالإضافة إلى إدراك حزب الله استحالة الحصول على دعم عربي في هذه المرحلة لإعادة ما قد تدمّره الحرب، بالإضافة إلى صعوبة ترميم قوة الحزب في الظروف الراهنة، في ظل وضع شبكته اللوجستية تحت مجهر المراقبة الإسرائيلي والأميركي، كما أن ضعف الحزب سيجعل قدرته على تأمين هذه الشبكة ضمن مستوياتٍ منخفضة جدا، وقد أثبتت حرب أوكرانيا أن الإمداد ودوامه عاملان مهمّان في حسم المعركة والصمود.
طبيعيٌّ أن يقول نصر الله إنه يبقي على كل الاحتمالات مفتوحة، فخبرته التفاوضية في الصراع، ورؤيته للموقف الأميركي غير الراغب بالدفع تجاه حربٍ إقليمية، تجعلانه يدرك أن مثل هذا الكلام لن يغيّر مسارات الحرب. ولو قال كلاما مختلفا، لأعلن مسبقا قبوله بالتشكيل الإسرائيلي الجديد للصراع… المشكلة في خطاب نصر الله أن ترويجه كان مخالفا لمضامينه، فمثل هذا الموقف كان يحتاج صورة مختلفة، أي أن المشكلة في الإخراج التي غالبا ما كان حزب الله بارعا فيها.
————————–
غزّة لا تحجب حرب الأسد على إدلب/ عمر كوش
10 نوفمبر 2023
لا تزال إسرائيل ماضية في ارتكاب أبشع المجازر في حرب الإبادة الجماعية التي تشنّها ضد الفلسطينيين في قطاع غزّة، حيث تتواصل فصولها وسط اهتمام عالمي كبير من معظم ساسة العالم والمنظمات الأممية والدولية، وانخراط أميركي وغربي في دعم إسرائيل بشكلٍ مطلق، ومحاولة تبرير جرائمها بحجّة الرد على عملية طوفان الأقصى التي قامت بها حركة حماس في السابع من الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول)
اللافت أنه في ظل الانشغال العربي والدولي بهذه الحرب الوحشية، وخروج تظاهراتٍ شعبيةٍ حاشدة في مختلف بلدان العالم، والبلدان العربية منها، فإن نظام بشار الأسد لم يسمح بخروج أي تظاهرة تضامن مع أهل غزّة في سورية، بل وفرض على الفصائل الفلسطينية حصولها على “موافقة أمنية” مسبقة قبل تنظيم أي فعالية تضامنية، واستخدمها من أجل رفض كل الطلبات المقدّمة من جميع الجهات الفلسطينية. وعلى الرغم من تشدّقه بمقولة وحدة ساحات المقاومة، اتّبع النظام سياسة الابتعاد عن الأحداث وعدم الانخراط بما يجري، ما عدا إطلاق بعض المليشيات قذائف على إقليم الجولان المحتل، ولم تصدُر منه سوى تصريحات خجولة بعد مجزرة المستشفى المعمداني، وصف فيها الاستهداف بأنه إحدى أبشع المجازر ضد الإنسانية، متناسياً عمليات القصف الوحشية التي قامت بها قوات النظام والقوات الروسية، ودمّرت خلالها عشرات المستشفيات والمراكز الصحية في مناطق سيطرة المعارضة، خلال الحرب المستمرّة التي يشنّها على غالبية السوريين منذ 2011.
أفضى تواصل فصول الحرب الإسرائيلية على أهالي قطاع غزّة إلى التغطية على أحداث كثيرة في العالم، وخصوصا الوضع في سورية، حيث تشهد منطقة السويداء منذ عدة أشهر حراكاً شعبياً يومياً، يطالب بإسقاط النظام، وتحقيق الانتقال السياسي وفق قرار مجلس الأمن 2254، ومنطقة إدلب وجوارها في ريفي محافظتي حلب واللاذقية، التي لم يتوقّف نظام الأسد، ومعه القوات الروسية والمليشيات الإيرانية، عن استهدافها، عبر شنّ هجماتٍ شبه يوميةٍ عليها، ازدادت وتيرتها منذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزّة، مستغلاً الانشغال الدولي بهذه الحرب من أجل التغطية على حربه عليها، بغرض قتل مزيد من السوريين وتشريدهم، وقضم منطقة “خفض التصعيد الرابعة”، تحقيقاً لمسعاه في فرض سيطرته على إدلب وجوارها، وخصوصا منطقة جبل الزاوية وسهل الغاب ومدينتي أريحا وجسر الشغور.
يتّبع نظام الأسد هجماتٍ ممنهجة ومتعمدة، غرضها قتل الحياة في ما تبقى من مناطق خارج سيطرته في الشمال الغربي من سورية، بغية تدمير جميع المرافق الحيوية فيها، الأمر الذي يهدّد بموجة نزوح غير مسبوقة منذ عام 2011، خصوصا أن هذه المناطق تضمّ تجمعاً كبيراً للنازحين داخلياً والمهجّرين قسرياً من مناطق سيطرة النظام السوري، الذين نزحوا إليها على إثر حملات عسكرية سابقة، شنّها على مناطق سيطرة الفصائل المعارضة، ويبلغ عدد سكانها، وفقاً لإحصاءات الأمم المتحدة، 4.5 ملايين شخص، بينهم 2.9 مليون من المهجّرين والنازحين، ونحو مليونين منهم يعيشون في المخيمات. ولذلك باتت هذه المناطق مصدراً للخوف والموت، وهي تتميز بوضع إنساني مأساوي، حيث لا مكان فيها آمناً، وتستهدف قوات النظام والقوات الروسية المراكز الصحية والمدارس، والجوامع، والأسواق، والأفران، ومراكز تابعة للدفاع المدني، وفرق الإسعاف، ومخيّمات للنازحين، ومرافق عامة. ولذلك جرى تعليق العمل في العيادات غير الإسعافية، وعُلق أيضاً الدوام المدرسي، واضطرّ مدنيون كثر إلى مغادرة المدن والبلدات وتجمّعاتها، وساروا نحو المناطق الزراعية الخالية، وبقي بعضهم في العراء.
المستغرب أن تصعيد نظام الأسد لم يقابله أي تحرّك تركي، بل ساد الصمت حيال الهجمات المستمرّة منذ ما يقارب أربعة أسابيع على مناطق إدلب وما حولها، بالرغم من وجود قوات ونقاط عسكرية تركية في الشمال السوري، ومن كون تركيا ضامناً لمناطق خفض التصعيد إلى جانب روسيا وإيران، وحتى وسائل الإعلام التركية لا تتحدّث عن ارتكابات النظام والقوات الروسية، ربما يعود الأمر إلى ما حاولت تركيا تسويقه عن أن مناطق الشمال باتت آمنة، من أجل إعادة أكثر من مليون لاجئ سوري إليها.
إذاً، ما يحدُث في غزة من قتل وتدمير وتهجير يحدث أيضاً في الشمال السوري، وبالتالي، لا حاجة لتأكيد الترابط بين الحربين، الإسرائيلية على غزّة والأسدية على إدلب، فضلاً عن أن الروابط عميقة بين القضيتين الفلسطينية والسورية، خصوصا في ما يتعلق بأساس الممارسات والسياسات بين الاحتلال والاستبداد، الهادفة إلى القتل والتدمير، والسيطرة على الأرض وتهجير ساكنيها قسرا. وهو أمر لا يخفيه ساسة الاحتلال الإسرائيلي، إذ تحدّث وزير الطاقة يسرائيل كاتس (مثلا) عن العمل على تهجير أهالي قطاع غزّة إلى سيناء، وربط بعضهم ذلك بأن تبني لهم إسرائيل مدن لجوء مؤقتة، واستشهد باللاجئين السوريين في تركيا، التي استقبلت أعداداً كبيرة من اللاجئين السوريين. غير أن شراسة استهداف نظام الأسد إدلب ومناطق الشمال الغربي في سورية بالتزامن مع حرب الإبادة الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني، وتشابه السياسات والممارسات، تشي بأن قضايا الخلاص من الطغيان والتحرّر من الاحتلال لا تفترق بعضها عن بعض، وأن دم الضحايا واحد، وكذلك فإن حقّ الناس في الحياة والعيش بحرية وكرامة لا يمكن تجزئته.
يبدو أن نظام الأسد استفاد من الحرب على غزّة، واستغلها من أجل حجب حربه على إدلب وجوارها، والتغطية على حراك أهالي السويداء، وقد كان التضامن الذي أظهره أهالي إدلب والسويداء مع أهالي غزّة معبّراً جداً، وله أكثر من دلالة، فقد واظب المحتجّون في السويداء والمتظاهرون في إدلب على رفع العلم الفلسطيني، ولافتات تضامنٍ مع أهالي غزّة، على الرغم من انشغال ساسة الدول والحكومات بالمصائب والمجازر التي تخلفها الحرب الإسرائيلية على غزّة. لذا على المجتمع الدولي ألا يغفل عن جميع جرائم الحرب، وألا يدّخر وسعاً من أجل إيقافها، سواء في غزّة أم في إدلب.
المأمول سورياً ألا يعني الوقوف ضد الحرب الإسرائيلية على غزّة عدم تسليط الضوء على حرب نظام الأسد على إدلب، والسعي إلى وقف الحرب عليها أيضاً، وحثّ قوى المجتمع الدولي من أجل إيجاد حلّ سياسي للقضية السورية، وفق القرارات الأممية، وخصوصا قرار مجلس الأمن 2254.
———————————
ممرّ الماراثون من بيروت 1982 إلى غزّة 2023/ بشير البكر
10 نوفمبر 2023
تتقاطع الحرب الإسرائيلية الحالية على قطاع غزّة مع الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 في الأهداف، لجهة تصفية المقاومة الفلسطينية. ويبقى أن أكثر أوجه التشابه يظهر في عدم التكافؤ بين جيش جرّار تسانده الولايات المتحدة وأوروبا، مسلح بأحدث أنواع الأسلحة الأميركية، في مواجهة عدة آلاف من المقاتلين الفلسطينيين لا يمتلكون سوى الأسلحة الفردية ومضادّات الدروع وصواريخ محلية الصنع، يتحرّكون على مساحة محدودة، محاصرة من البرّ والبحر والجو، وتصل إليها النيران الإسرائيلية من الجهات كافة. وفي الحاليْن، يخمّن من لا يعرف الجغرافية جيدا أن الحرب تدور على جبهة طويلة، في حين أنها تحدُث على حدود مدينةٍ مكتظّة بالسكان. وفي بيروت، بقي جيش وزير الحرب الإسرائيلي أرئيل شارون حينذاك قرابة ثلاثة أشهر، ولم يتمكّن من دخول المدينة إلا بعد مغادرة قائد المعركة ياسر عرفات في 30 اغسطس/ آب 1982. والحال يتكرّر في غزّة التي تحشد إسرائيل لدخولها نخبة كبيرة من جيشها، ولكنها لم تحقّق تقدّما بعد مرور أكثر من شهر، مع أنها ارتكبت سلسلة من المجازر في حقّ المدنيين، حولت فيها أحياء من غزّة إلى مقابر للأطفال، على حد وصف الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس.
في الحالين، لا يستسلم الفلسطينيون. لا يرفعون الراية البيضاء. يدافعون ببسالةٍ ملحمية. يقدّمون الشهداء، قافلة تلو الأخرى. وفي شهادة لأحد جنرالات إسرائيل، الذي قاتل في أكثر من حرب ضد الفلسطينيين، يقول “نقتلهم، لكنهم يعودون ليقاتلونا في المعركة الثانية”. ولم يجد تفسيرا لهذه المعجزة، لأنها عصية على عقل المستوطن، الذي جاء من بعيد ليسلب أرض الفلسطيني وبيته، ويعمل على تزوير التاريخ. ورغم كل الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني، لم تتعلم من الدروس ويتطور وعيها، ليفهم سبب المقاومة من جانب الفلسطينيين. ولم تكلف نفسها البحث في السر الذي يجعل الأبناء لا يقلون عن الآباء إصرارا على استرجاع الحقوق.
تضع إسرائيل اليوم هدفا رئيسيا للحرب هو القضاء على حركة حماس. وتبحث إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن بترتيبات الوضع في غزة ما بعد حكم حركة حماس. ما أشبه اليوم بالبارحة. في 1982 كان هدف رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن طرد منظمة التحرير من لبنان، وساندته في ذلك إدارة الرئيس الأميركي دونالد ريغان. ووظفت واشنطن ثقلها لتوزيع مقاتلي المنظمّة على عدة بلدان عربية، كي تنهي كل تهديد محتملٍ لإسرائيل وينام المستوطن بهدوء في بيت الفلاح الفلسطيني. ولكن المفاجأة جاءت من داخل فلسطين في الانتفاضة الأولى عام 1987، التي أحيت القضية الفلسطينية. وبالتالي لن تكون نتائج الجولة الحالية في غزّة سوى ولادة مستحيل فلسطيني جديد، أقوى من المستحيلات السابقة، التي شكلت معجزة الفلسطيني المقاوم منذ عام 1948. قاوم التخلي عن هويته، ويتحوّل إلى لاجئ، وتصبح قضيته فائض قيمة لمشكلات الشرق الأوسط، بل باتت القضية المركزية، وستبقى. ومع كل حربٍ جديدةٍ يولد جيل فلسطيني في ممرّ الماراثون، ينقل الراية إلى الجيل الذي يليه.
وكما هو الحال في كل حرب، تتكرّر المقاربة ذاتها في الحفاظ على أمن إسرائيل، ولا سبيل إلى ذلك سوى التخلّص من الفلسطينيين، بالقتل والتهجير. وفي هذه الحرب، كانت الوقاحة الإسرائيلية والأميركية والأوروبية أكبر منها في بقية الحروب السابقة، حيث جرى طرح تهجير أهل غزّة إلى سيناء، وأهالي بعض مخيّمات الضفة الغربية إلى الأردن. ومن هنا، ستكون فاتورة البقاء على أرض الوطن عالية جدا، وستُصبح العنوان الرئيسي للصراع في المرحلة المقبلة، في ظل استنفار إسرائيلي ودعم غربي بلا حدود، من أجل ضمّ ما بقي من أرض فلسطين.
——————————
عن الموقف المصري من غزّة/ حسين عبد العزيز
09 نوفمبر 2023
يحيّرنا الموقف المصري من الحروب الإسرائيلية المتكرّرة على الفلسطينيين أهالي قطاع غزّة على مدار السنوات العشر الماضية، فلا هو موقف براغماتي يمارس السياسة في إطار فن الممكن بوصفه مهارة سياسية، يقدّم تنازلات هنا أو هناك للحصول على أفضل النتائج وفق معادلة موازين القوى القائمة على المستويين الإقليمي والدولي، ولا هو موقف محايد (وإن كان ذلك مرفوضا) يحافظ على المصالح الإسرائيلية بقدر ما يحافظ على المصالح الفلسطينية.
يندهش المرء حين يسمع أصواتا تدافع عن موقف النظام المصري مما يجري في قطاع غزّة، فمطلب النظام بوقف العدوان الإسرائيلي، والفتح الجزئي لمعبر رفح، يُنظر لهما قوة وصلابة تدعمان غزّة، ثم يزداد التهليل للنظام لدى بعضهم عندما يرفض الرئيس عبد الفتاح السيسي الاستجابة لمطالب إسرائيلية ـ أميركية بتهجير أهالي القطاع إلى سيناء، للحيلولة دون خسارة غزّة أرضا فلسطينية لصالح الإسرائيليين، كما جرى ويجري في مناطق أخرى من فلسطين. قد لا تكون هذه الأصوات مثار استغرابٍ لدى بعضهم في ظل حالة الانهيار التي تعيشها الأمة العربية، وحالة الذلّة التي تعيشها معظم الأنظمة العربية، غير أن الحالتين المصرية والإماراتية، وحالة النظام السوري، تستدعي التوقّف.
تتعلق المسألة، بالنسبة للنظام المصري، فقط بوقف عملية الإبادة الجماعية بحقّ أهالي قطاع غزّة. وبهذا، يستوي الموقف المصري مع أي موقف دولي آخر غير معني بالقضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني على المستوى السياسي، وإنْ لا يستويان على المستوى الأخلاقي، فمواقف بعض الدول في أميركا اللاتينية وآسيا وأفريقيا المندّدة بالحرب الإسرائيلية أخلاقية، في حين أن الموقف المصري غير أخلاقي حين يجري الاكتفاء بالتنديد في العدوان الإسرائيلي، فقضية فلسطين والشعب الفلسطيني ترتبط وجوديا بالشعب العربي، وخصوصا مصر، ليس فقط بسبب تماسّها الجغرافي، بل أيضا باعتبارها أقوى دولة عربية، وما هو مطلوب منها لا يتساوى مع ما هو مطلوب من البحرين أو موريتانيا أو الجزائر أو كولومبيا أو الهند… إلخ.
وإذا ما ابتعدنا عن الموقف المصري المندّد بالحرب الإسرائيلية، مثل مواقف دول كثيرة، بعيدة وغير معنية مباشرة بالقضية الفلسطينية، سنرى الموقف المصري على حقيقته: لم يعارض الرئيس عبد الفتاح السيسي مبدأ تهجير الفلسطينيين من غزّة، فقد اقترح، في تصريحه، في المؤتمر الصحافي مع المستشار الألماني أولاف شولتز، تهجيرهم إلى النقب، حتى تتمكن إسرائيل من تصفية المقاومة في غزّة، ثم إعادتهم، إذا شاءت، في وقت لاحق إلى القطاع، بما يتناسب مع المصلحة الأمنية الإسرائيلية. وهذا يعني أن القيادة المصرية لا تمانع بتهجير أهالي غزّة إلى صحراء النقب إذا كان الهدف تصفية المقاومة الفلسطينية، غير أن هذا الموقف ينتقل إلى معارضة فكرة التهجير إذا ارتبطت بسيناء، أي نقل الفلسطينيين إلى سيناء وفق المطلب الإسرائيلي ـ الأميركي، لأن عملية نقل الفلسطينيين إلى سيناء تعني، وفق القيادة المصرية، فتح جبهة مقاومة في الأراضي المصرية، وهذا خطّ أحمر، حيث لا يُسمح بأن تشكل الأرض المصرية تهديدا لإسرائيل.
ثم سرعان ما انتبهت القيادة المصرية إلى خطأ هذا الذي صدر عنها، فعدّلت خطابها بالقول إن تهجير الفلسطينيين إلى خارج فلسطين يعني لاحقا تهجير أهالي الضفة الغربية إلى الأردن، بما يؤدّي إلى تصفية القضية الفلسطينية.
أكثر من ذلك، نقف مذهولين أمام حالة العجز المصرية في ممارسة سيادتها على معبر رفح الذي يربط مصر بغزّة فقط، بعيدا عن إسرائيل، حيث يتوقف دخول المساعدات إلى قطاع غزّة وإخراج جرحى من القطاع إلى مصر على موافقة إسرائيل. ويزداد ذهولنا حين نطالع بيانا للمتحدّث باسم وزارة الخارجية المصرية أحمد أبو زيد يقول إن مصر ليست مسؤولة عن إغلاق معبر رفح بينها وبين قطاع غزّة، وإنما إسرائيل التي تعرقل عملية نقل المساعدات إلى القطاع، بـ”مشكلاتٍ لوجستية رئيسية فرضها الجانب الإسرائيلي”. وذلك بتشدّدٍ كبيرٍ منه “في إجراءات التفتيش، بل ورفض دخول العديد من المساعدات، لاعتباراتٍ سياسيةٍ وادّعاءاتٍ أمنيةٍ مختلفة”. لا يمكن تفسير الموقف المصري هذا إلا ضمن رؤية محدّدة مسبقا بجعل مصر جزءا من المنظومة الاستراتيجية الإسرائيلية من جهة، والقضاء على أي حركة أو جهة ترتبط بالإخوان المسلمين من جهة أخرى، وهو مسار بدأ بوضوح شديد منذ تسلم السيسي السلطة.
مرّت السياسة المصرية تجاه القضية الفلسطينية بثلاث مراحل: الأولى منذ اتفاقية كامب ديفيد وحتى ثورة يناير/ كانون الثاني عام 2011، وقد هيمن فيها موقف مصري محايد من الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، لكن هذا الحياد تحول إلى حياد سلبي بالنسبة للفلسطينيين في ظل اختلال موازين القوى لصالح إسرائيل، فلم تستطع مصر إجبار إسرائيل على وقف الاستيطان وإنهاء الحصار على غزّة والانخراط في عملية سلام حقيقية، كما لم تجد حرجا في أن تعلن وزيرة الخارجية السابقة تسيفي ليفني، عام 2009، الحرب على غزة من قلب القاهرة، حين تعهدت بتغيير الأوضاع في غزة. ولم تدم المرحلة الثانية سوى مدة قليلة، وهي مدة حكم الرئيس الراحل محمد مرسي، وفي هذه المرحلة انتقلت مصر بشكل واضح وعلني إلى دعم غزّة، ضاربة عرض الحائط بعلاقة مصر بإسرائيل والولايات المتحدة. أما المرحلة الثالثة، فقد بدأت عام 2014، في تحالف مصري ـ إسرائيلي لم تعرفه المرحلة الأولى من العلاقة بين الجانبين.
—————————
جرائم إبادة أمام عيون العالم/ سوسن جميل حسن
08 نوفمبر 2023
الإبادة الجماعية هي التدمير المتعمّد والمنهجي لمجموعة من الناس، بسبب عرقهم أو جنسيتهم أو دينهم أو أصلهم. ظهر المصطلح أول مرّة لوصف فظائع الهولوكوست في الحرب العالمية الثانية، ففي عام 1943، صاغه المحامي اليهودي – البولندي رافائيل ليمكين لوصف القتل المنهجي لليهود في ألمانيا النازية. وكان قد فقد جميع أفراد عائلته باستثناء شقيقه في “الهولوكوست”، ما مهّد الطريق لاعتماد اتفاقية الأمم المتحدة للإبادة الجماعية في 1948، والتي دخلت حيز التنفيذ في 1951.
تعرّف المادة الثانية من الاتفاقية الإبادة الجماعية بأنها أي فعلٍ “يُرتكب بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعةٍ على أسسٍ قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية”. وفي التفاصيل، قتل أعضاء من الجماعة يعني إبادة جماعية، وإلحاق أذىً جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة هو إبادة، وإخضاع الجماعة، عمدًا، لظروفٍ معيشيةٍ يُراد بها تدميرها المادي كليًّا أو جزئيًّا، وفرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة، كلّها مشمولة بهذا التعريف.
على مرأى العالم كله، أنظمة وشعوبًا، تقوم إسرائيل بشكل منهجي وموصوف بكل هذه الفظاعات، وتتفنّن في أدائها وابتكار طرق جديدة في أشكال الإبادة، بادّعاء تحقيق هدفها الأساس المعلن من الحرب: القضاء على حركة حماس، متّبعة كل ما يخطر في البال وما لا يخطر، من دون رادع، ومنها قصف المستشفيات التي تئنّ ببناها التحتية ومستلزماتها الطبّية وكوادرها الصحية، وتجاهد، في الحد الأدنى هذا، من أجل القيام بواجبها الموجودة من أجله، ومواجهة الموت الذي ترميه إسرائيل من البرّ والجو والبحر على رؤوس الفلسطينيين. وجديد ما استخدمته إسرائيل لإقناع العالم بحقها في قصف المستشفيات التي يلوذ بحماها أيضًا الفارّون من تدمير بيوتهم فوق رؤوسهم، وإحداث مقابر جماعية تحت ركامها، أن تنشر مشاهد مصوّرة من السماء تقول فيها إنها فتحات أنفاقٍ تستخدمها “حماس” تحت المستشفيات، علمًا أن الجنود كانوا في محيط مستشفى حمد بن خليفة، الذي تعود الصور من السماء إليه. وكان في وسعهم التقاط صور أرضية أكثر وضوحًا وإقناعًا للرأي العام، فيما لو كان ادّعاؤها صحيحًا، فلماذا لا ترسل الأمم المتحدة لجانًا لتقصّي الواقع والحقيقة، كما طالب متحدّث إعلامي باسم “حماس”، موضحًا، بتصريح الشركة التي أشرفت على الإنشاء، أنه فتحة لتخزين الوقود؟ لماذا لم يصوّروا ما في داخل هذه الفتحة؟ وقالت إن هناك محطّات لإطلاق صواريخ من حماس، ولم تصوّر عن قرب، والجيش موجود بقرب المكان، فهل يمكن أن تكون منصّات إطلاق بهذا السفور والانكشاف؟ لم يعد خافيًا، بالنسبة إلى متابعي الحرب الإسرائيلية على غزّة، أن ما ترمي إليه إسرائيل هو الترحيل (ترانسفير) بحقّ الفلسطينيين، فهي تقطع الاتصالات بالمطلق، كي لا يطّلع العالم على ممارساتها، وكي تقطّع أوصال المناطق في غزّة، وتقضي على أكبر مساحة من الحياة.
تتحدّث السلطات الإسرائيلية منذ فترة عن أنفاق تحت المستشفيات لتبرير استهدافها إياها، لذلك قسّمت قطاع غزّة بين الشمال والجنوب، وللضغط على المدنيين لأجل الهروب باتجاه الجنوب، فالمستشفيات تؤوي آلافًا من الهاربين، ومن لا يرحل إلى الجنوب قد يُدفَن تحت ركام منزله المدمّر، وبذلك تسيطر على المكان وتكون قد أنجزت الخطوة الأولى في هدف الترحيل (الترانسفير).
يعدّ تيودور هرتزل مؤسّس الصهيونية السياسية، فهو من شكّل المنظمة الصهيونية وشجّع اليهود على الهجرة إلى فلسطين، ساعياً إلى تشكيل دولة يهودية. صحيحٌ أنه مات في العام 1904، قبل أن يتنعّم بتحقيق حلمه ومشروعه، إلا أنه معروف بأنه مُلهم اليهود في إقامة دولتهم. مع تأسيس فكرته وقبل إعلان قيام الدولة الموعودة، بدأ مشروع ترحيل الفلسطينيين واستمرّ، مدعومًا بمنع عودة اللاجئين الفلسطينيين، وهو الحقّ الذي كفلته المواثيق الدولية، وما زال المشروع حيويًّا وأوليًّا بالنسبة إلى إسرائيل، يندرج ضمنه العمل الدائم على قضم أراضي الضفة الغربية وإقامة مستوطنات يهودية، مع تنامي العداء والعنصرية تجاه الفلسطينيين، عدا التضييق عليهم في القدس لدفعهم إلى الرحيل. وبالتزامن مع الحرب على غزّة، تتكثف عمليات إسرائيل العسكرية في مدن الضفة الغربية ومخيماتها، والقتل والاعتقال، عدا عن ممارسات السلطات الإسرائيلية بحقّ فلسطينيي الداخل الإسرائيلي، أو عرب 1948، من هدم لمنازلهم وعدم إعطائهم تصاريح البناء، وإهمال قرى عديدة لناحية البنى التحتية.
ما تقوم به إسرائيل من إجرام مفضوح بمنتهى الفجور هو إبادة جماعية، ولا يمكن الاستخفاف بتصريح وزير التراث الإسرائيلي عميحاي إلياهو بأن استخدام القنبلة النووية في غزّة قد يكون احتمالًا ممكنًا، وبأن للحرب أثمانًا، ما يؤكّد أن أمر الرهائن الإسرائيليين لدى “حماس” ليس قضية أساسية، بل إن الهدف أبعد من هذا بكثير، وإلّا ما معنى تهافت العالم الغربي من أجل ضمان أمن إسرائيل؟ ما معنى أن تسارع الولايات المتحدة بإرسال ترسانتها الحربية، حاملتي طائرات، وأخيرًا حاملة صواريخ برؤوس نووية إلى مقابل غزّة؟ هل تحتمل غزّة، هذه البقعة الجغرافية الصغيرة التي لا تساوي حيًّا في المدن الكبيرة، كل هذا السلاح الفتاك المتطوّر؟ هل قدرات “حماس” العسكرية تعادل هذا الزخم العسكري؟ أم أن الأمر أكبر من هذا بكثير؟ ما الذي تخطّط له أميركا وحليفتها إسرائيل، التي لا تستجيب حتى للفت النظر الخجول من الغرب إلى تخفيف الحصار والتقليل من استهداف المدنيين، بل تطلب من الأمين العام للأمم المتحدة أن يستقيل، كونه لا يعيش في العصر؟.
الواضح أن إسرائيل تقوم بإصرار بكل ما يحقّق الإبادة الجماعية، وتسعى إلى ترحيل الفلسطينيين، ولم توارب في هذا الشأن، إذ أعلنت باكرًا رغبتها في ترحيل سكّان غزة إلى سيناء، وسكان الضفة الغربية إلى الأردن. وتطرح أخيرًا، في التحضير لما بعد الحرب على غزّة، بالتفاهم مع أميركا، كما جاء على لسان وزير الخارجية بلينكن في اجتماع له مع الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس، أن تكون السلطة الفلسطينية “حارسة أمن إسرائيل” في غزّة بعد الانتهاء من الحرب، إذا ما بقي فلسطينيون هناك، في إعلان واضح لما ترمي إليه مستقبلًا، وهو “مسخ” فكرة قيام دولة فلسطينية في الضفة الغربية وغزّة، وفق ما أقرته القوانين الدولية.
الحقيقة الواضحة أن ما يجري في غزّة هو إبادة جماعية، تقول فاليري غابارد، خبيرة القانون الدولي في لاهاي، في مقابلة مع DW. “في الحياة اليومية، يستخدم ناس كثيرون مصطلح الإبادة الجماعية بشكلٍ فضفاضٍ للغاية، للإشارة إلى أكبر الجرائم وأخطرها، لأنه يبدو بطريقة ما أسوأ بكثير من جرائم الحرب أو الجرائم ضد الإنسانية”. وتوضح “لكن التعريف، في السياق القانوني، دقيقٌ للغاية وغير فضفاض. تحديد الإبادة الجماعية لا يتعلق بالأرقام. المعيار الأكثر أهمية نية الإبادة الجسدية لمجموعة ما”. ويقول أستاذ القانون الدولي في جامعتي ميدلسكس لندن وليدن، ويليام شاباس: “المشكلة في إثبات نية الإبادة الجماعية أن من غير المرجّح أن يقدّم مرتكبو الجريمة اعترافاً مباشراً في المحكمة. ومن هنا، على المحاكم أن تستنتج النيّة من سلوك المشتبه بارتكابهم الجرائم، والاعتماد على الأدلّة الظرفية”، فهل ما تصوّره الكاميرات ويشاهده العالم بحاجة إلى إثبات نيةٍ خلف ما تمارسه إسرائيل من جرائم إبادة؟ وما يُخطّط للفلسطينيين ألا يعدّ “ترانسفير” تدريجيًّا.
من المثير للتأمّل أن من ابتكر مصطلح الإبادة الجماعية يهودي تعرّضت أسرته للإبادة، ومن ابتكر مصطلح “ترانسفير” يهودي أيضًا، هو موشي هس، صاحب فكرة إعادة انبعاث الأمة اليهودية.
—————————-
أيديولوجيتان تحترفان البُكاءَ/ مضر رياض الدبس
08 نوفمبر 2023
كان في الجزائر، في فترة الاستعمار، شرطيٌ جلادٌ فرنسي مختصٌ بتعذيب الجزائريين الوطنيين. وبسبب كثرة عمليات التعذيب التي ينفذها، وشدّة العنف الذي يمارسه على المُعَذَّبين؛ أُصيب هذا الجلادُ باضطراباتٍ نفسيةٍ وسلوكية، وصار عدوانيًا بصورة كبيرة وصلت إلى حد ضرب زوجته بعنفٍ شديد لأسبابٍ تافهة، حتى إنه بدأ يضرب طفلَه الرضيع. عندها استشار طبيبًا نفسيًا ليعالجه، ويساعده في ضبط سلوكه، وكان الطبيبُ هو فرانز فانون، الذي روى هذه القصة لاحقًا في كتابه “معذّبو الأرض”. المهم، أدرك الجلادُ، بعد مدّة من بداية العلاج، أن نوعية العمل الذي يقوم به سببُ اضطراباته النفسية والسلوكية كلها، وبما أنه غيرُ قادرٍ على الاستقالة من العمل، ولأن نوعية العمل لن تتغيّر بالمدى المنظور، طلب من طبيبه النفسي، بصورة مباشرة، أن يساعده في أن يُعذّب الجزائريين الوطنيين من دون أن يُصاب بأي وخزةٍ في الضمير، ومن دون اضطرابٍٍ في السلوك، أي كما قال: “أن يعذّبهم بهدوءٍ ورِباطة جأشٍ كاملة”! (with complete equanimity).
في العمق، لجأ الجلادُ إلى علم الطب النفسي كي يساعده في إنجاز عملية تعذيب الوطنيين بدمٍ بارد، حوَّل بكاءه إلى صنعةٍ، صارت مثل صنعته وحرفته في إبكاء الآخرين، الأمر الذي يحصل بسلاسةٍ في فلسطين وسورية في هذه الأيام، من دون الحاجة لا إلى علوم الطب النفسي، ولا أي علمٍ آخر. إذا فكّرنا في طلب الجلاد الفرنسي نجد أنه يطلب “تسويغًا أخلاقيًا للجريمة”، أي إنه يحتاج إلى أن يؤهّل نفسه أخلاقيًا للإرهاب. ويريد، ثانيًا، أن يستمر في التعذيب، وفي الوقت نفسه، أن يحتمل فعلَ التعذيب من دون تأثيرٍ في توازنه بوصفه إنسانًا، لا يزال له في الدنيا من يحبهم ويحبونه، مثل زوجته وأطفاله. عند الجلاد حاجةٌ إلى حماية ذاته من إجرامها، من الأثر العكسي لعملٍ لا يريد أن يتوقف عن القيام به. إنها الحاجة إلى تثبيط ضميرٍ يحاول أن يصحي متجاهلًا حسابات الذات المعقدة. ولن يجد هذا الجلاد طلبه عند طبيبٍ نفسي بطبيعة الحال، ولكن صرنا نعرف اليوم، مثلًا، أن ثمة طريقًا إلى التعذيب برباطة جأشٍ وهدوءٍ، موجودٌ في سرديات مُسوِّغة، تتغطّى بحقيقةٍ مُحرَّفةٍ بصورةٍ مخاتلة أو بتاريخٍ مؤولٍ بصورةٍ أيديولوجية. ويثبت الشرق الأوسط الراهن أن هذا النوع من التثبيط الشامل للضمير موجودٌ بوفرةٍ في السرديات العقائدية القادرة على تحرير الغرائز العدوانية من منظومة المراقبة التي يمليها الضمير، أي تحرير السلوك من مرجعياته الإنسانية، تمهيدًا لبناء فكرة العدو بوصفه “حيوانًا في صورة بشر”، كما قال وزير الدفاع الإسرائيلي، غالانت، أخيرًا. صناعة الوحشية تجعل العنفَ موضوعًا تافهًا بمقدار ما صار عاديًا في غزّة أمام حكومات العالم كله، حيث أقصت إسرائيل الفلسطينيين من الإنسانية دفعةٍ واحدة؛ فصار الفلسطيني أمام العالم كله آخرَ فائضًا عن الحاجة. إسرائيل ومنتفعاتها كلهم، وإيران ومنتفعاتها أيضًا (مثل نظام الأسد)، لا يعملون إلا بوساطة القتل. أما الذي يسمّونه سياسة فيصبّ كله في أمرٍ واحدٍ لا يوجد غيره، هو تحويل التعطّش إلى القتل، والانتقام والثأر الذي تغذّيه الأساطير، إلى مسائلَ ذات طابع سياسي ومن ثم وجودي.
لا تختلف إسرائيل في فلسطين عن الجلاد الفرنسي الذي كان في الجزائر إلا في أن الجلاد كان ساذجًا بما يكفي لكي يأمل تسويغَ جريمته عند طبيب، فيما إسرائيل تُسوِّغ جريمتها عند التاريخ، وعند أمراض الإنسان الغربي الأخير؛ فالفرق أن الجلاد الفرنسي طلب المساعدة عند الطبيب ولم يجدها، ولكن إسرائيل وجدت المساعدة عند المريض: أي عند الإنسان الغربي الأخير حفيد جلاد الجزائريين. وهذا في العمق توصيفٌ للفرق بين الاستعمارين، القديم والإسرائيلي الجديد الوريث الأوحد. تساعد هذه المقارنة بين إسرائيل وفكرة الجلاد المريض بوصفه مُحتلًا يُعذِّب السكان الأصليين ويقتلهم، في بناء مدخل لفهم مسوّغات إسرائيل مجازرها في غزّة، ومن ثم سلوك جهازها السياسي والدبلوماسي بوصفه فاعلًا لتحقيق هدفٍ واحد: تسويغٌ أخلاقي عالمي للقتل والدمار الشامل.
هذا مدخل مهمٌ للتفكير في خيارات الساكن الأصلي، أي المعذَّب الفلسطيني أمام هذه المصيبة الكارثية التي لا بد من مواجهتها. وإذا اتفقنا أن ثمّة آلية تعمل لدى إسرائيل لحماية الذات من إجرامها، مثل ما كان يعمل الجلاد الفرنسي المريض في الجزائر على تعطيل الأثر العكسي لإجرامه، كي لا يرتدّ عليه وعلى عائلته؛ فإننا نفترض أن العمل على تعطيل هذه الآلية قد ينتج منه تدمير إسرائيل ذاتها. ولهذا الطرح ما يشجّع على التفكير فيه في سلوك إسرائيل في السنوات الأخيرة. يعني ذلك، أيضًا، أن منهج مواجهة السردية الإسرائيلية بسردية مثلها تعاكسها في الاتجاه، مثل تعريف الصراع بثنائية اليهودي والإسلامي، يحرم الفلسطيني من فوائد مقاربة الصراع بين محتلٍّ جلادٍ مجرم، وسكانٍ أصليين (natives)؛ فالمقاربة الأخيرة قد تفتح أبوابًا للعمل السياسي يجعل الجهاز المناعي الإسرائيلي يهاجم ذاتَه، وهذا من أفضل السيناريوهات بالنسبة للفلسطينيين؛ فالمجرم عدوّ ذاته قبل أن يصبح عدوّ الأخرين، ولكن ينبغي العمل على تحريك هذه العداوة.
بطبيعة الحال، لا تكتمل هذه المقاربة في نصٍّ صحافي، وتحتاج إلى مؤسّساتٍ تصمّمها، وتخطّط لها، ثم تنفذها بدقة عالية. وتحتاج إلى عقلٍ بارد، وبعض الزمن، وكثير العقل والانفتاح، والقدرة على بناء الخطاب، ورسم السلوك مرحليًا واستراتيجيًا، تحتاج إلى “عقلٍ على صهوة جواد” (بتعبير هيغل). وهذه مؤهلاتٌ، للأسف، لا تتوافر لدى القوى الفلسطينية الكلاسيكية الراهنة جميعها، لا حركة فتح ولا “حماس”. ولكنها بطبيعة الحال تتوافر لدى الفلسطينيين العاديين، ولدى الرأي العام العالمي الذي عبّر عن ذاته بوضوح في عواصم مختلفة في الأيام القليلة الماضية التي تلت مجازر إسرائيل في قطاع غزّة.
ثمة، إذًا، نوعٌ من السياسة يؤدّي إلى قتل الجلاد بسلاح حقده، ولكننا لم نمتلك بعد هذا النوع، ولا يزال غيابه يمنح التراكيب الأيديولوجية فرصةً تلو الأخرى لصناعة اللاسياسة، ومن ثم الحضور في المأتم الذي لا ينتهي. إسرائيل كائنةٌ في الألم، إذا زال ألمُ الفلسطينيين تجوع فتموت، وإذا زال ألمُها، يزول ألم الفلسطينيين؛ فتموت. وهي في ذلك مثل الجلاد الفرنسي المريض الذي كان في الجزائر: إذا ترك التعذيب يزول ألمه لكنَّه يفقد عمله، الذي لا يتقن غيره، ويجوع. إسرائيل، مثله، تقتات بالإيلام وكائنةٌ في الألم؛ ومثلها، أيضًا، إيران: أيديولوجيتان تحترفان البكاء.
—————————-
خمس معطيات هامة عن 7 أكتوبر/ مروان قبلان
08 نوفمبر 2023
كما في كل شأن، تختلف تقييمات الناس بشأن ما جرى يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 في غزّة، عندما أطلقت حركة حماس، أو بصورة أدقّ جناحها العسكري، عملية طوفان الأقصى، نظرا إلى الطريقة الهمجية التي ردّت بها إسرائيل عليها. ولكن بغض النظر عن اختلاف هذه التقييمات، والمرتبط أكثرها باستهداف مدنيين في ذلك اليوم، واقتياد بعضهم إلى الأسر، والنقاش حول أثر ذلك على الرأي العام العالمي، أسفرت العملية، والحرب الإسرائيلية على غزّة، عن جملة معطيات نحتاج إلى الوقوف على الأثر الذي يتوقّع أن تتركه على المنطقة والعالم، نذكر بعضها لمامًا هنا:
المعطى الأول، كسر هيبة الجيش الإسرائيلي، وتمريغ سمعة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، وهي التي نُسجت أساطير حولها، وحول قدراتها “الكلية الخارقة”. صحيحٌ أن هذه ليست المرّة الأولى التي تفشل فيها المؤسّسة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية أمام العرب (حصل هذا في حرب 1973)، لكن الفارق أن الجهة التي قامت بالفعل هنا حركة مقاومة محاصَرة، بإمكانات محدودة، أثبتت ببساطة أن هزيمة اسرائيل ممكنة، وأن المسألة هي “مسألة إرادات” وليست “مسألة إيرادات” أو موارد. ومهما فعلت إسرائيل، لن تنجح، على الأرجح، في استعادة هيبة الردع التي خسرتها، والواقع أن ردّة فعلها تدلّ على عظم مُصابها.
المعطى الثاني: تجاوز الشعور بالهزيمة إسرائيل إلى جزءٍ من العالم الغربي الذي شعر أن من كُسِرَ يوم 7 أكتوبر ليس الجيش الإسرائيلي، أو الأجهزة الأمنية الإسرائيلية فحسب، بل السلاح الغربي، والتكنولوجيا الغربية، والفكر الاستراتيجي الغربي، فإسرائيل، في نهاية المطاف، هي جزء من الغرب، ومن بِنيته الفكرية والثقافية والقيمية. لهذا شعر جزءٌ منه أن المُصاب يوم 7 أكتوبر كان مُصابَه، والصدمة كانت صدمته، إذ كيف يمكن لبضع مئاتٍ من المقاتلين العرب “المحدودين”، الذين لم يحضروا المدارس العسكرية الغربية، أن يخطّطوا ويمارسوا هذا النوع من التضليل الاستراتيجي الباهر، ويفعلوا ما فعلوه بالكيان الذي صنعه الغرب على صورته في المنطقة.
المعطى الثالث، بمقدار ما شكلت “طوفان الأقصى” صدمة في بعض عواصم الغرب، فقد تحوّلت الى قصة إلهام في مناطق أخرى في العالم، تُثبت قدرة المظلوم على مقاومة الظلم والعدوان. ورغم الموت والألم، نشأت في الفضاء العالمي أسطورة جديدة تحكي قصّة الصمود الفلسطيني في غزّة أمام آلة الحرب الإسرائيلية الجبّارة، لتمحو كل معاني قصة “داود وجالوت” التي حاولت إسرائيل تمثلّها عبر تاريخ صراعها مع العرب، بأنها الدولة الصغيرة الصامدة في وجه العملاق العربي الكبير، إنما الخائر والضعيف.
المعطى الرابع: أثبتت الحرب الإسرائيلية على غزّة أن العالم لا ينقسم وفق خطوط حضارية أو ثقافية أو دينية، كما يحاول بعضهم أن يروّج، بل وفق خطوط ترتبط بالأخلاق والقيم الإنسانية وقضايا العدالة والتحرّر، وتخترق هذه الانقسامات الحضارات والثقافات والأديان، فهناك بعض العرب يرغبون أن تنجح إسرائيل في كسر إرادة غزّة، في حين يناضل بعض اليهود من أجل وقف المجازر التي ترتكبها إسرائيل بحقّ أهل غزّة. بهذا المعنى، تعدّ خسارة إسرائيل عظيمة هنا، إذ إنها لم تخسر التعاطف العابر الذي أحرزته عشيّة هجوم 7 أكتوبر، بل تحوّلت إلى رمزٍ للقهر والعدوان، إلى قاتل أطفال، في وقتٍ تحوّلت فيه فلسطين إلى قضية ضمير عالمي.
المعطى الخامس: بمقدار ما كشفت الحرب الإسرائيلية على غزّة مقدار النفاق والتناقض في الخطاب والسلوك الرسمي للحكومات الغربية التي ردّت، بطرقٍ متفاوتة، على عدوان روسيا على أوكرانيا في مقابل عدوان إسرائيل على غزّة، بمقدار ما كشفت أيضا حجم النفاق لدى حكومات المنطقة. والواقع أن الفلسطينيين لم يكونوا ينتظرون الكثير من الحكومات العربية التي اختار جزءٌ منها التطبيع مع إسرائيل بمعزلٍ عن قضية فلسطين، لكن سلوكي تركيا وإيران، جاءا صادميْن لبعض من عوّل عليهما، وخصوصا أن هاتين الدولتين حاولتا تقديم نفسيهما في مراحل مختلفة من المنافحين عن القضية الفلسطينية، ولطالما انتقدتا سلوك الدول العربية في التعاطي معها.
هناك تداعيات أخرى عميقة لهجمات 7 أكتوبر، ذات طابع استراتيجي عالمي، أشار إليها الرئيس الأميركي جو بايدن في إطار الصراع مع روسيا والصين، لكن هذا حديث آخر.
———————–
خطاب نصر الله ونهاية وحدة الساحات/ عمار ديوب
07 نوفمبر 2023
انتظر المؤيدون والرافضون خطاب أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، وسمعوه يوم الجمعة الماضي (4/11/2023)، فالحزب قوّة لبنانية وإقليمية وازنة. وعدا ذلك، إنه يتموضع في إطار السياسات الإيرانية في المنطقة، وحتى في الموقف من الكيان الصهيوني. كانت الاستراتيجيات في المنطقة، قبل عملية طوفان الأقصى، تقوم على تطبيع أغلبية الدول العربية، وتَبنِّي محور “المقاومة” استراتيجية وحدة الساحات، وانفتاح تركيا على دولة الاحتلال.
بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول، وخطاب نصر الله، وعتب قادة من حركة حماس على حزب الله، لم يتغيّر الموقف العربي؛ فبعد شهرٍ من حربٍ الإبادة على غزّة لم يعلن أحد من الدول العربية المطبعة مع إسرائيل قطع العلاقات، ولم تتفعّل وحدة الساحات. ورغم قول نصر الله إنهّم في حزب الله دخلوا الحرب في اليوم التالي لعملية طوفان الأقصى، 8 أكتوبر، فاستطاعوا تحييد نسبٍ معينة من قوات الكيان، وأكّد أن معركة غزّة فلسطينية بامتياز، وليس في الأفق الانتقال من حرب المناوشات على الحدود اللبنانية إلى حرب وحدة الساحات، أوضح نصر الله أن الانتصار على الكيان يتم بالنقاط وليس دفعة واحدة. وهذا تأكيدٌ إضافي على أن استراتيجية وحدة الساحات لن تتفعّل، ما يتلاقى مع رغبة أغلبية اللبنانيين في عدم دخول الحرب، ومع الموقف الإيراني بعدم دفع الحرب لتصبح إقليمية، وتحذير الولايات المتحدة والكيان من خطورة ذلك، وهذا يتطابق مع موقفٍ أميركي يحذّر من الحرب الإقليمية.
المشكلة في المواقف المتطابقة أعلاه، الأميركية والإيرانية وحزب الله، بل وكل الدول العربية في أنّها لا تقترن بموقفٍ جازم بضرورة إيقاف إطلاق النار والعدوان على غزّة. وبالتالي، تَستغلّ دولة الكيان مواقفهم تلك للاستمرار في حرب الإبادة على غزّة، أرضاً وبشراً، ولا سيما أن هناك رفضا فلسطينيا وعربيا للتهجير إلى مصر.
يقول التفكير العقلاني قبل الخطاب إن نصر الله لن يأتي بجديدٍ عن المناوشات، ولا سيما أنَّ سياساته تنطلق من الاستراتيجية الإيرانية، والتي تشهد تقارباً مع السياسات الأميركية في المنطقة، منذ غزو الولايات المتحدة أفغانستان والعراق، والصمت عن وجود حزب الله في لبنان، والصمت عن تدخّل الأخير الواسع في المقتلة السورية بعد 2011، واستمرار الموقف ذاته رغم تشكيل الأميركان حلفا دوليّا ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في سورية عام 2014. ويؤكّد تزامن وجود المليشيات الإيرانية وحزب الله في سورية مع القواعد الأميركية في سورية عدم وجود تناقضاتٍ حقيقيةٍ بين أميركا وإيران، وأن هناك طرقا لإدارة الخلافات، وليس عبر الحرب بين الدولتين. بعد عملية 7 أكتوبر، سبحت بوارج أميركية إلى شواطئ المتوسّط، ومعها بوارج غربية، ومع ذلك، ظلت مواقف هذه الدول تؤكّد عدم الانجرار إلى حربٍ إقليمية.
إذاً، لم تكن سياسة وحدة الساحات قبل 7 أكتوبر سوى أداة أيديولوجية للردّ على استراتيجية التطبيع العربية. لقد تخلّى نصر الله عنها في المناوشات وفي الخطاب، في تفسيرنا، مدّعيّاً أن قرارات كل أشكال المقاومة خاصة بتلك الأشكال، وما فعلته “حماس” كان أمّراً مستقلاً بها؛ وإذ كنّا لا نرفض ذلك بما يخصّ “حماس”، فإن قرارات بقية المقاومات المرتبطة بإيران ليس كذلك، بل هي تعمل وتحارب بقرارٍ كاملٍ من إيران، ومناوشات حزب الله، والحشد الشعبي والحوثيين في العراق وسورية واليمن ليست أكثر من أوراق بيد الإدارة الإيرانية، ومن أجل التفاوض مع الإدارة الأميركية على كل شؤون المنطقة، ومنّها غزّة، ومستقبل القضية الفلسطينية؛ ووزير الخارجية الإيراني يتنقل في العالم وكأنَّ فلسطين قضية إيرانية!
ضعف السياسة العربية، وتبنّي عدة دول التطبيع، وعدم إيقاف اتفاقياتها مع الكيان، هو ما يُفسح المجال لإيران للتدخّل بقضية فلسطين وقضية غزة الآن، وهو ما يتيح للدول الغربية الاستمرار بسياسات التأييد الكامل للكيان منذ 7 أكتوبر؛ وقد كرّر وزير الخارجية الأميركي، بلينكن، في عمّان، بعد اجتماعه مع خمسة وزراء خارجية عرب، رفضه إيقاف العدوان ووقف إطلاق النار، وكرّر الهجوم على حركة حماس وتحميلها مسؤولية ما يجري في غزّة، وكأنّ المشكلة “حماس”، وليس دولة الاحتلال.
يوضح وصول البوارج الغربية بشكلٍ دقيق هشاشة دولة الكيان، والتأثير القوي لعملية طوفان الأقصى، وكذلك وفود الحجّ الغربية إلى تل أبيب، ولا سيما الأميركية. الملفت هنا أن الولايات المتحدة لم تعد داعمة للعدوان، بل هي مشاركة، دبلوماسياً في مجلس الأمن وهيئات الأمم المتحدة، وعسكرياً في التخطيط لكيفية التخلّص من “حماس” والمشاركة المباشرة في الحرب، وهذا جديد نوعي في السياسة الأميركية، واقتصادياً، وسواه. لا شيء قبالة ذلك يتحقّق عربياً أو إيرانياً، ومناوشات حزب الله وقصف القواعد الأميركية في هذه الدولة أو تلك، ليس أكثر من رسائلٍ بحصر الحرب في غزّة من جهة إيران. الحصيلة هنا أن غزّة تركت لمواجهة العدوان بمفردها بكل معنى الكلمة.
الغموض التي قال به السيد حسن نصر الله، أو أن الخيارات كلّها على الطاولة، لا تعدو أكثر من تهديدات إضافية لإسرائيل بألّا توسّع الحرب إلى لبنان، وكذلك تذكير أميركا بهزيمتها في لبنان، وانسحاب المارينز عام 1983. وأيضاً، إن حزب الله أعدّ العدّة لتلك البوارج في عرض البحر. وحديث نصر الله عن انتصار بالنقاط وليس بوحدة الساحات رسالة دقيقة لجهة توافق مواقف الحزب مع إيران في منع الحرب الإقليمية، وهو موقف كل الدول العربية، بل والغربية أيضا.
ليست الحرب الإقليمية نزهة، وليس الكاتب من دعاة الحروب، ولكنّ حرب الإبادة على غزّة مستمرة. والقصد أن هناك ضرورة للتحشيد الدولي والإقليمي من أجل إيقاف العدوان؛ وهذا ما كان يجب التأكيد عليه في عمّان مع الوزير الأميركي، ورفض إجراء أيّ نقاشات معه قبل تحقيق ذلك، وإيقاف اتفاقيات التطبيع حاسم في ذلك. صحيح أن الوزراء العرب رفضوا نقاش اليوم التالي بعد “القضاء على حماس”، وهذا جيد، ولكن الضرورة تقتضي رفض أيّ حوارات معه سوى إيقاف العدوان، وكذلك بخصوص مصير “حماس”؛ فللحركة قيادة، وهي من يجب النقاش معها، كما تمَّ مع قيادة حركة طالبان مثلاً، قبل جلاء القوات الأميركية من أفغانستان.
مع عدم تفعيل وحدة الساحات، وعكس سعي حزب الله إلى الاستقرار ورفض الحرب الإقليمية، ترفض دولة الكيان السلام وحلّ الدولتين، وتستمر في سياساتها العدوانية والاستيطانية ضد قطاع غزّة والضفة الغربية وفلسطينيي 48. وبالتالي، فوّت حزب الله على نفسه فرصة مثالية لوحدة الساحات، وإعلان الحرب الشاملة، وهذا ما كان سيخفّف عن غزة، ويجبر أميركا وحلفها على إيقاف العدوان، وإيجاد مخرجٍ لحركة حماس ذاتها ويحافظ عليها، والأمر ذاته يخصّ الدول العربية، فلو اتخذت موقفاً صلباً وأنهت اتفاقيات التطبيع، فإن هذا كان سيُعلي من شأنها مع الكيان مستقبلاً. وهنا لا بد من السؤال: هل من ضماناتٍ أميركيةٍ بألّا تفكر إسرائيل بالحرب ضد حزب الله في المستقبل بعد الوصول إلى تسويةٍ ما بخصوص غزّة؟
اهتزت دولة الاحتلال كثيراً، وأصبحت مسنودة كليّا من الإدارة الأميركية، بينما لم تَستغل ذلك إيران أو الدول العربية ولا حتى حزب الله، وكان في مقدورهم أن يناوروا، كما أوضحت السطور أعلاه، ولا سيما أن هناك أطرافاً دولية، كالصين وروسيا، تعلن ضرورة إيقاف العدوان، وهذا ما كانت ستفكّر به الإدارة الأميركية والاتحاد الأوروبي مليّاً.
يا لبؤس المواقف العربية والإقليمية من القضية الفلسطينية، ويا لبؤس أنظمة هذه الدول.
————————-
ألا يخجل الغرب من كل هذه العنصرية؟/ حسان الأسود
07 نوفمبر 2023
لم يكن التعامل السياسي والإعلامي الغربي مع الحرب الدائرة على الشعب الفلسطيني في غزّة مفاجئًا، بل هو امتداد طبيعي لما بدأته بريطانيا قبل مائة عام ونيّف، عندما أصدرت وعدها المشؤوم بإقامة وطنٍ قومي لليهود على أرض فلسطين، ثم لما طبّقه المجتمع الدولي بتفانٍ شديد بعد الحرب العالمية الثانية. ومن يعُدْ إلى التاريخ ير، بوضوح، أنّ هذا الإصرار على دعم الإسرائيليين مهما ارتكبوا من جرائم وفظاعات بحقّ السكان الأصليين الفلسطينيين، ليس أكثر من تعميةٍ على سبب المشكلة الأساسية الكامنة في اضطهادهم لليهود عبر التاريخ، فلم يعرف التاريخ الحديث اضطهادًا لليهود كما فعل الأوروبيون ذاتهم، فالمحرقة أوروبية وليست آسيوية، وهي غربية وليست شرقية، وهي ليست إسلامية، فمن أين تأتي الوقاحة هذه لتعميد اليهود ضحايا في بلادنا وهم كانوا ضحايا أوروبا؟ ومن أين تأتي الفصاحة هذه لاختراع ما تسمّى “الثقافة اليهودية – المسيحية الأوروبية”، بعد أن أحرق الأوروبيون “المسيحيون” اليهود أحياءً في أفران الغاز؟ وكيف للعالم أن ينسى من شرّد اليهود من أوروبا ونقلهم إلى فلسطين؟
عند المقارنة بين قضيتين شبه متماثلتين، كالحرب الروسية على أوكرانيا والأوكرانيين والحرب الإسرائيلية على غزّة والفلسطينيين، يمكن للحصيف رؤية الانحياز على حقيقته، والعنصرية على أشدّها، فالحكّام والقادة الروس محتلون معتدون ومجرمو حرب، وهذا صحيح، وتمّ بسرعة شبه قياسية إحالة ملف جرائمهم في أوكرانيا إلى المحكمة الجنائية الدولية وأحيل الرئيس الروسي، بوتين، ذاته إليها، في سابقة هي الأولى من نوعها بحقّ رئيس دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن، بينما الساسة الإسرائيليون وضباط الجيش والأمن والشرطة ضحايا أبرياء مدنيون، وما يفعلونه في فلسطين منذ 75 سنة هو مجرّد مزاحٍ مع أهل البلد وسكّانها الأصليين، وبالتالي، لا مجال لمساءلتهم على ظرافتهم وخفّة دمهم! يبدو أنّ عقدة الغرب مقابل الشرق لا يمكن أن تزول بمجرّد ادّعاء تمثّل حقوق الإنسان وقيم الديمقراطية، ولا يمكن أن تزول عقدة التفوّق العرقي لمجرّد تطوّر العلوم ونفيها هذه الأسس المغلوطة للبناء والأطر النظرية للتفكير.
في مقارنة سريعة وبسيطة لا تحتاج كثير تحقيق، يمكن للمرء أن يكتشف مدى سطحيّة القيم الإنسانية التي ترفع شعاراتها الدول الديمقراطية الغربية، فالواضح من هذا الاصطفاف الرهيب خلف الأوكرانيين، وهم على حقّ في قضيتهم، وخلف الإسرائيليين وهم يضربون عرض الحائط بكل القرارات الدولية وقوانين الحرب وحقوق الإنسان، أنّ العوار لا يصيب السياسة والإعلام فقط، بل يصيب الفكر الغربي كلّه، فكيف لعاقلٍ أن يقدّم كل الدعم السياسي والمادي لجيشٍ يعلن قادته أنّهم ماضون في قتل المدنيين وتدمير الأعيان المدنية المحمية بموجب القانون الدولي من مدارس ومشافٍ وجامعات ودور عبادة، ويقطع مياه الشرب والكهرباء عن مليوني إنسان محاصرين منذ 16 عامًا، إن لم يكن منفصمًا عما يعلنه من قيمٍ ومبادئ؟
الموضوع أكبر من اصطفاف سياسي إذن، إنّه انحيازٌ عنصري لا يخفي نفسه، وهو لا يعود إلى مجرّد خلاف في أنظمة الحكم أو مستويات التقدم الاقتصادي أو الثقافي أو الحضاري كما يحلو لهم تسميته، بل هو تكريس لكره دفين لليهود ذاتهم ومحاولة لإظهار العكس من خلال آليات الدفاع النفسية الجماعية الواعية وغير الواعية. عندما يصدّر الغرب “المسيحي” الديمقراطي الليبرالي مشكلة الوجود اليهودي من أوروبا إلى فلسطين والعالمين، العربي والإسلامي، فإنّه يحاول أن يريح ضميره الذي أنهكه إرث مئات السنين من اضطهاد اليهود والذي تكلل بالهولوكوست. ليس ثمّة مبرّر، إذن، لهذا التعاطف الفاقع والزائد عن الحد واللزوم إلا الخروج من معضلة الشعور العميق بالذنب. أمّا تحويل الضحية القديمة، ضحية اضطهادهم هم ذاتهم، إلى جانٍ مرتكبٍ أفظع الجرائم ضد الإنسانية، فما هو إلا شيطنة الضحيّة ذاتها لإغراقها في سلوك الإجرام، ما يعني، من حيث النتيجة، نقل عبء تحمّل المسؤولية عن كاهل مضطهدها الأساسي إلى كاهل جهةٍ أخرى، هي للمصادفة ضحيّة جديدة لا ذنب لها ولا ناقة في الصراع الساسي ولا جمل.
ماذا يعني أن يهبّ رؤساء دولٍ مثل الولايات المتحدة لتبنّي رواياتٍ مغلوطةٍ عن قتل الأطفال الإسرائيليين وقطع رؤوسهم وسبي النساء من مقاتلي حركة حماس من دون تدقيق أو تمحيص؟ وماذا يعني أن تمنع الشرطة الألمانية الناس من محاولة التضامن مع أهل غزّة المدنيين لا مع المقاتلين من “حماس” وغيرها؟ وماذا يعني أن يهرع وزراء خارجية كثير من هذه الدول لزيارة تل أبيب، حاملين العهود بتقديم السلاح والذخائر؟ ماذا يعني مقابل هذا ألا يدين أيّ منهم قتل المدنيين وتهديم أحياء سكنية كاملة فوق رؤوس ساكنيها؟ ماذا يعني إصرارُهم على حق إسرائيل بقطع المياه والكهرباء عن المدنيين في غزّة ومنعهم وصول المساعدات الإنسانية من خلال تأييدهم في قصفهم معبر رفح وغيره من المعابر؟
ليست المسألة قيمًا ديمقراطيةً وحرياتٍ وحقوقَ إنسان، فلهذه تصنيفات مختلفة كما يبدو، فأن تكون أوروبيًا أو مطرودًا عبر الهولوكوست الأوروبي فهذا يعني أنك تستحقّ التصنيف في خانة المستفيدين من هذه البضاعة، أما أن تكون عربيًا أو مسلمًا فهذا يعني أنّك درجة ثانية، أو حتى صنفٌ آخر لا تنطبق عليه مواصفات مستحقي التنعّم بهذه المنتجات الغربية الأوروبية! ورغم أنّ غالبية الشعوب الغربية تعرف الحقيقة، ولا تقبل هذا السلوك التمييزي الجائر والمفضوح، إلا أنّه على ما يبدو لا فرق بين حكام الشرق والغرب إلا في مستويات الإسفاف في استخدام القيم والمبادئ لمسح أحذيتهم بها، فماذا فعلت الديمقراطية وحقوق الإنسان لتمنع هؤلاء الحكّام من عنصريّتهم المقيتة ومغالاتهم بها، ومتى سيخجل الغرب من عنصريّته ويترك التشدّق علينا بالحكم والمواعظ؟
—————————
هل الحرب الإسرائيلية وليدة الطوفان حقّاً؟/ سميرة المسالمة
06 نوفمبر 2023
كشفت الحرب العدوانية التي تشنّها إسرائيل على غزّة منذ أربعة أسابيع، عن معطيات جديدة في مفهوم الصراع مع إسرائيل، أنه صراع محدود بالتعاطف الشعبي العربي غير المُلزم للأنظمة الحاكمة وقوى الأمر الواقع، وهي بالقدر الذي يمكن وصفها حرباً وحشيةً غير مسبوقة، تلزم الإنسانية جميعها بالوقوف في وجهها، والحدّ من تفاعلاتها الآنية والمستقبلية، ليس فقط داخل دائرة الصراع المحدّدة اليوم في غزّة، وأهلها، لتشمل كل الأراضي الفلسطينية وما حولها من دول عربية، فإنها، في الوقت نفسه، أماطت اللثام عما سمّي محور المقاومة، الذي بقي معللاً وجوده المسلح وأحكامه العرفية المقيدة لحريات شعوبه في هذه الدول (سورية وإيران ولبنان) بقضية فلسطين ونضاله من أجل تحرير القدس، وأن لا صوت يعلو على صوت المعركة ضد إسرائيل.
يمكن القول إن توقيت الحرب الإسرائيلية الشاملة على غزّة، والدعم الأميركي والغربي اللامحدود لها، وسرعة وصول كل مستلزمات المعركة من كل حدب وصوب إلى إسرائيل، لا يمكن أن يكون حصل مصادفة، أو أنه وليد عملية عسكرية مباغتة لحركة حماس، بغضّ النظر عن فكرة معارضتها أو تأييدها أو المراهنة على نتائجها فلسطينياً. ما يعني أن مجمل ما يحدُث في المنطقة يخضع لنظرية إعادة تشكيل الشرق الأوسط وفق مفهوم أميركي – إسرائيلي سابق على عملية طوفان الأقصى، التي وظفتها إسرائيل ذريعةً لحربٍ شرسة، تغيّر من خلالها الواقع الجغرافي والديمغرافي والسياسي تحت عنوان الدفاع عن النفس. ففي ظل وحدانية المعارك الداخلية التي خاضتها، ولا تزال تخوضها، قوى “محور المقاومة” ضد التحرّكات الشعبية المطالبة بالحرّيات وحقوق المواطنة، والحدّ من تغوّل الأجهزة الأمنية عليها، في كل من سورية وإيران أو العراق واليمن ولبنان، سواء بتدخّل إيران المباشر، أو عبر أذرعها “المليشياوية” المحمولة على حواضن طائفية، وتصاعد الغضب الشعبي اللبناني ضد مليشيا حزب الله وسلاحه المنفلت من قوانين الدولة اللبنانية، والانفلات الأمني المرافق للانهيارات الاقتصادية لهذه الدول، وسباق السرعة الذي تخوضه دولٌ كثيرةٌ في الوصول إلى عملية تطبيع مع إسرائيل، وازدحام الوجود العسكري في المنطقة، المؤيّد لصناعة خريطة محدثة لشرق أوسط جديد، تبدو الحرب كأنها جاءت في التوقيت والمكان المناسبيْن والمحدّدين إسرائيلياً، والمتوافقيْن مع ظروف المنطقة كاملة. فهذه الحرب، وإن بدَت نتائجها المباشرة في حجم الخسائر الفلسطينية الباهظة، من أرواح ودمار مدن، ومحاولة إعادة تشريد الشعب الفلسطيني من غزّة إلى مناطق مختلفة، فإنها أيضاً، بنتائجها اللاحقة والمتمدّدة، تباعاً من محور المقاومة نفسه كشفت عن:
أولاً، إخلاء إيران مسؤوليتها عن أي شراكة مع “حماس” في عمليتها “طوفان الأقصى”، على الرغم من أنها اعتادت، على الدوام، تأكيد دعمها لها، في كل تفاصيل وجودها المقاوم لإسرائيل، فيما خلا هذه العملية، تمهيداً لإخلاء مسؤوليّتها عن حجم نتائجها وهولها على الفلسطينيين، وعلى القضية الفلسطينية برمّتها، بل وعلى عكس ما تقوم به القوى المساندة لإسرائيل، والتي رفضت قرار وقف إطلاق النار تأييدا للحرب، أكّدت إيران على المطالبة به، بما يعني أنها لا تريد خوض الحرب ضد إسرائيل في “توقيت فلسطيني” على الرغم من أنه التوقيت الذي أحدث ما قال عنه الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، الأربعاء الماضي (29/10/2023) في حديثه لقناة الجزيرة: “عملية طوفان الأقصى حققت انتصاراً أولياً، تبعه انتصارٌ آخر، وهو الفشل الإسرائيلي في اجتياح غزة برّياً”.
وثانياً، تخلّي حزب الله عن مهمته التي أعلن عنها مراراً وتكراراً، وهي مقاومته للاحتلال الإسرائيلي عبر وحدة الساحات، التي يتشارك بها مع “حماس”، وهو ما أكده الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، في خطابه يوم الجمعة (3/11/ 2023)، معتبراً أن مشاركته في الحرب مشروطة بأمرين: أولهما، تطوّر الأحداث في غزّة، التي تؤدّي إلى إضعاف المقاومة، ما يعني أن المقاومة التي أصيبت حاضنتها بمقتل ما يزيد عن عشرة آلاف فلسطيني، وتشريد نصف سكّان غزّة، وكل هذا الدمار الذي يحيط بها الآن ليس في عداد خسائر “حماس”، ولا تتأثر قوة “حماس” به، ما يعني أنّ تدخّل نصر الله مشروط بإعلان “حماس” ضعفها أو هزيمتها، ليكون هو منقذُها في آخر لحظة.
ثاني الأمريْن سلوك إسرائيل تجاه لبنان، أي أن حزب الله يأخذ على عاتقه مهمّة جيش لبنان، وتناقض هذه المهمة أن لبنان دولة ذات سيادة، حيث تدافع عن الدول جيوشها وليس مليشيات مسلحة، وتابعة لدول أخرى، لا يملّ شعب لبنان في معظمه من المطالبة بتسليم سلاح حزب الله وإنهاء وجوده المسلح من حياتهم. أي في المحصلة تُركت غزّة لمصيرها، وعلى الشعب الفلسطيني أن يقاوم بأجساده التي تتلقى رصاص وصواريخ إسرائيل.
ثالثاً، غاب صوت سورية، دولة “الصمود والمقاومة”، عن الحدث الفلسطيني. صحيحٌ أن إسرائيل قد تبرّر ذلك بانشغال الرئيس السوري بحربه ضد معارضيه، إلا أن للنظام السوري حسابات أخرى من هذا الصمت، الذي بدا واضحاً على المستويين، الشعبي والرسمي، وهو القول إنّ زمام الأمور لا تزال بيد النظام، من حيث القدرة على لجم الشعب حتى بمؤازرة قضيته الفلسطينية، وأنه أيضاً طرف في خارطة الشرق الأوسط الجديد حين توزيع الغنائم، وردّ الجميل.
في المحصلة، يمكن القول، بكل ألم، إن غزّة تركت وحيدة، ويراها داعمو “حماس” من محور “المقاومة” قبل غيرهم، قابلة لتوظيف معركتها في ملفاتهم على حساب الشعب الفلسطيني ومعاناته.
————————-
نعم… إنها حرب وجود/ مالك ونوس
06 نوفمبر 2023
حرب وجود، وصراع وجود. عبارتان لازمتا الصراع العربي الإسرائيلي منذ سبعة عقود. وإذ غابت العبارتان عن الاستخدام في الخطابات السياسية والتحليل السياسي لأهل المنطقة العربية، في السنوات الأخيرة، بفعل تراجع وزن النضال العربي والفلسطيني لصالح التقدم المضطرد للمشروع الصهيوني في فلسطين والمنطقة، إلا أن معركة طوفان الأقصى، التي انطلقت في الـ7 من الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول)، وردّة فعل الغرب غير المسبوقة عليها، ثم شكل الحرب الجديدة التي تشنّها دولة الاحتلال الإسرائيلي، بدعم من الغرب، على قطاع غزّة، دفعت جميعها كثيرين إلى استنتاج أن هذه الحرب باتت حرب وجودٍ بحق.
ومن سخريات القدر أن الطرف القوي في هذه المعركة، دولة الاحتلال، هو أول من قدّر أن المرحلة الحالية، والحرب الدائرة على أرض غزّة وعلى أهلها، هي حرب وجود. فقد قال وزير الحرب الإسرائيلي يوآف غالانت، بعد أيام من عملية طوفان الأقصى والحرب التي شنّها جيش الاحتلال على غزّة: “نخوض حرباً وجودية”. ولو قالها عربي أو فلسطيني لصنّف كثيرون كلامه في إطار اللغة الخشبية. ولكن لدى النظر إلى كلام غالانت، وما تبع عملية طوفان الأقصى من تهافت قوى الاستعمار القديم على دولة الاحتلال، واستقدام الأساطيل الحربية الغربية وحاملات الطائرات لحمايتها، يشير إلى أن كلام غالانت ليس سوى تحذير أطلقه هو، بينما العرب هم أكثر من يجب أن يتمعّن فيه.
لماذا صنّف الإسرائيليون هذه الحرب حرباً وجودية، على الرغم من أنهم شنّوا قبلها حروباً كثيرة ودورية على العرب والفلسطينيين؟ لم يكونوا ليصنّفوها حرباً وجودية لو لم يتأكدوا أن من ظنوهم قد فقدوا أي أملٍ وباتوا عاجزين عن أخذ زمام المبادرة في الصراع القائم، قد أصبحوا قادرين على الفعل والمبادرة، وليس على ردّ الفعل كما عهدوهم طوال السنوات والعقود السابقة. وكانت مبادرتهم من القوة إلى درجة أنهم فاجأوا الجميع بعملية طوفان الأقصى العسكرية التي نفّذوها بدقةٍ ودرايةٍ وكفاءةٍ غير متوقعة خلف خطوط العدو. ولم يكونوا ليقولوا ذلك سوى بسبب الرمزية التي تمثلها عملية اختراق المقاومين الفلسطينيين حدود قطاع غزّة، ويتوغلوا في الأراضي الفلسطينية التي تحتلها دولة الاحتلال لأول مرةٍ من 70 سنة، وتقيم عليها مستوطناتٍ يشغلها إسرائيليون، ويدمّروا آلياتهم ويدكّوا مواقعهم العسكرية، ويمرّغوا أنوف قادتها وأفرادها بالتراب ويكسروا هيبتهم، ويغنموا أسلحةً وأسراراً عسكرية وأرشيفاً وتسجيلات، ويتمكّنوا من أسر جنود ومدنيين، ويعودوا بهم إلى القطاع سالمين، مسجّلين انتصارات على الجيش الذي يقدّم نفسه الأقوى في المنطقة، والذي لا يُقهر. لقد رأوا أنها عملية من الخطورة إلى درجة أنها تحاكي معركة التحرير الكبيرة المأمولة، والتي يحلم العرب بخوضها لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي أرض فلسطين التاريخية، وطرد اليهود منها إلى الأبد، تحقيقاً للحلم القديم: “فلسطين من النهر إلى البحر”.
ولم يتألم الإسرائيليون وحدهم من معركة طوفان الأقصى، بل شعر بالألم قادة دول غربية كانت، حتى وقتٍ قريب، تردّد أنها تخلت عن إرثها الاستعماري، وأنها تحترم إرادة الدول المستَعمرة في تقرير مصيرها. لكن ردّة فعلها أثبتت أنها لا تزال تنظر إلى أي عملية تحرّر وطني أنها تهديد من الشعوب المستَعمرة للدول التي كانت يوماً تفرض سيطرتها واستعمارها مباشرة عليها على أنه تهديدٌ وجودي، على الرغم من أن الواقع يُظهر أنها لا تزال تفرض عليها استعماراً جديداً بأشكالٍ شتّى، بعضها واضح وبعضها مستتر. ولنا على هذا الأمر مثالٌ في فرنسا التي لا تزال تنظر إلى الدول الأفريقية المستقلة أنها مستعمرات تابعة لها. ولنا في جولات رئيسها، إيمانويل ماكرون، على بعض الدول التي كانت تحت احتلال بلاده، ومنها لبنان والمغرب، وتجوّله في مناطق لبنانية بعد انفجار مرفأ بيروت سنة 2020، ورغبته بزيارة مناطق زلزال المغرب قبل أشهر، من دون دعوةٍ رسمية، دليل على أنها ممارسة استعمارية موصوفة. ومن هذا المنطلق، يبدو أن هذا الغرب وقادته أيضاً قد رأوا في معركة طوفان الأقصى، والحرب التي شنّتها دولة الاحتلال على غزّة، إثر تلك المعركة، حرباً وجودية. ولذلك تقاطر قادة الغرب، بالتتالي، إلى دولة الاحتلال للتضامن مع قادتها، والاستماع منهم إلى الرواية الإسرائيلية التي تبنّوها من دون أن يتبيّنوا صحّتها، وتعهّدوا بتقديم الأسلحة وكل ما يلزم للإسرائيليين للانتصار في هذه الحرب، بغضّ النظر عما تسبّبه أسلحتهم من مجازر ارتكبت وسترتكب بحق المدنيين الفلسطينيين.
ولم تصل الحرب الوجودية إلى مرحلة متقدّمة الآن فقط، بل يمكن القول إنها قد أخذت المنحى الجدّي الذي لا رجعة عنه لتصفية القضية الفلسطينية، قبل حوالي أربع سنوات، مع صفقة القرن التي كانت بمثابة التحدّي الأكبر الذي واجه هذه القضية يومها، والذي كان واضحاً أنه يهدف إلى تصفيتها. وقد جاءت تلك الصفقة ثمرة تحالف اليمين المتطرّف الإسرائيلي مع اليمين الشعبوي الأميركي ممثلاً بالرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، الذي أخذ على عاتقه أمر الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الكيان، والاعتراف بضمّها مرتفعات الجولان السورية، إضافة إلى إسقاط حقّ العودة الذي يعدّ من أهم القضايا التي يجب البتّ فيها لدى حل القضية الفلسطينية. وكان المحور الأخطر في تلك الصفقة تلازمها مع تمرير اتفاقات أبراهام للتطبيع بين دولة الاحتلال وبعض الدول العربية، والذي إن لم يضرّ الفلسطينيين، فإنه قد ضخَّ دماءً جديدة في عروق هذا الكيان، عبر تخفيف مخاوفه عن طريق تحييد دول أخرى وإخراجها من حلقة الصراع بين الإسرائيليين والعرب.
ومن الواضح أن قادة العدو لم يقيموا وزناً لأصدقائهم العرب، وللمواقف التي قد يتّخذونها تجاه دولة الاحتلال، قبل أن يشنّوا هذه الحرب، وبعدما شنّوها وارتكبوا المجازر خلالها. وبناءً على هذا الواقع، ليس مستبعداً أن يستهدفوا هذه الدول، إن أبدت معارضة مقرونة بدعم تقدّمه لأهالي غزّة، ويصنفوها دولاً معادية. وقد وصل بهم الاستهتار بالعرب إلى درجة أنهم لم يفكّروا بمواقف حلفائهم العرب، أو ردّات فعلهم، عند طرحهم خطّة تهجير سكان غزة إلى سيناء إلى الأبد، وضم قطاع غزّة إلى دولة الاحتلال، وتهجير أهالي الضفة إلى الأردن، وكأنهم على ثقةٍ بأن أي معارضة لهذه الخطط لن يُقدم عليها قادة هذين البلدين. نعم إنها حرب وجودية بالنسبة للإسرائيليين، وقد أكّد ذلك رئيس حكومتهم نتنياهو قبل أيام، حين قال: “كان هنالك فشل كبير، وبعد الحرب على الجميع أن يقدم إجابات، لكن الأولوية الآن لإنقاذ الدولة”، فهو هاجس الخوف من نهاية “إسرائيل”، ذلك الذي دفع قادتها إلى شنّ الحرب لإنقاذها من الزوال. كما أنها حرب وجودية بالنسبة للعرب والفلسطينيين. فماذا أعدّ العرب لهذه الحرب، التي قال عنها غالانت بعد عشرين يوماً من قصف غزة وقتل سبعة آلاف من أبنائها: “هذه حربٌ طويلة، حربٌ لا خيار فيها، إما نحن أو هم”؟
——————————
ردّ عربي واهن على عدوان إسرائيلي سافر/ لؤي صافي
05 نوفمبر 2023
يقف العالم مذهولا أمام حجم الموت والدمار الذي تخلّفه آلة القتل الإسرائيلية المدعومة ماليا ودبلوماسيا وسياسيا من دول التحالف الغربي. بعد مرور قرابة شهر على مشاهد العدوان الوحشي الذي يقتل يوميا مئات المدنيين ويهدم آلاف المنازل، لم يتحرّك العالم لوقف المجازر، ولم تتحرّك الدول العربية للجم الجنون الإسرائيلي، ولم نسمع سوى دعوات خجولة لم تصل إلى صانع القرار الإسرائيلي ولم تلق آذانا صاغية. تجلّت الاحتجاجات الغاضبة الوحيدة في تظاهرات شعبية انطلقت من بعض العواصم العربية، وتردّدت أصداؤها في مسيراتٍ عمّت مدن الشرق والغرب. ما زاد من حدّة الألم الذي أججته مشاهد القتل والدمار في غزّة، تصريحاتٌ أدلى بها رؤساء عرب بدت متفهمةً أهداف حملة الدمار الإسرائيلية، كتلك التي سمعناها من الرئيس المصري الذي اقترح تهجير المدنيين من غزّة إلى صحراء النقب، بدلا من إبعادهم إلى صحراء سيناء، إلى حين انتهاء الدولة الصهيونية من تدمير غزة “وتصفية المقاومة الفلسطينية”.
الموقف الرسمي العربي تجاه مأساة غزّة غير مستغرب، خصوصا من دول شكلت يوما طوق مواجهة أمام الكيان الصهيوني، بعد عقود من التغيّرات التي مرّت بها هذه الدول وانتهت إلى تغوّل الدولة الأمنية فيها على المجتمع المدني، سعيا إلى كمّ الأفواه الحرّة الداعية إلى مجتمع العدالة والحقوق، وتحوّلت في أثنائها مهام الجيوش من مواجهة العدو الخارجي إلى قمع المطالب الشعبية الداعية إلى إنهاء الفساد المستشري وبناء دولة المساءلة والقانون. ومع تتابع اتفاقيات السلام مع دولة الاحتلال، تحوّلت جيوش عربية من مهامّ حماية الوطن إلى عمليات قمع المواطنين، ومنافسة أصحاب الأعمال، كما تحويل المجالس النيابية من منابر لإبراز حاجات المواطنين والدفاع عن حقوقهم ومصالحهم إلى غرف لترويج صوت السلطة وتبرير تجاوزاتها وزلّاتها. من المؤسف القول إن الموقف العربي الواهن يعكس حالة الانقسامات والتشرذم العربية، بعد أن عجزت الحكومات العربية عن بناء مشاريع تعاون وشراكة بيْنية، واكتفت بمؤتمرات جامعة الدول العربية وجهودها الخطابية، التي لم تتجاوز خلال نصف قرن مرحلة إصدار بياناتٍ ختاميةٍ بنكهة خطابية، ولم تقدّم عملا عربيا مشتركا أو تحقق شراكة سياسية أو اقتصادية أو صناعية لبناء القدرات والتعاطي مع التحدّيات الدولية التي تواجه الشعوب العربية.
نحن، إذاً، أمام مشهد عربي مؤلم يظهر تحرّكا في الاتجاه المعاكس لحركة التنسيق والتعاون، نحو مزيد من التشظي والانقسام والتباعد بين أصحاب الهم المشترك، ومزيد من التطبيع مع الدولة العنصرية القابعة على صدر الشعب الفلسطيني الأبي، والمهدّدة لأمن المجتمعات العربية وقدرتها على التحرّر وبناء قواها الذاتية. وهذا التناقض بين المصالح العربية المشتركة والتحالفات السياسية الخارجية من مظاهر عجز المنظومة العربية عن اتخاذ مواقف عملية مشتركة، يمكن أن تساهم في الحد من التوسع المستمر للدولة العبرية، والتصدي لجرائم الحرب التي تمارسها كل يوم على الأرض الفلسطينية.
من السهل طبعا عند تحليل أسباب العجز العربي الاكتفاء بوضع المسؤولية كاملة على القيادات الرسمية العربية، وإخراج الشارع العربي الواسع الذي تجاوز عدد أفراده هذا العام 460 مليونا، وهو عدد يكافئ سكان الولايات المتحدة وروسيا مجتمعين. نعم، على الشارع العربي، بمثقفيه وتجّاره وإدارييه وإعلامييه ومربّيه، تحمّل مسؤولياته واستشعار دوره في تكريس الضعف الذي أصاب حكوماته وعدم الاكتفاء بتحميل النظام الرسمي وحده مسؤوليات ما يجري. فالقيادات الرسمية التي تحكُم دول المواجهة لم تأتِ إلى دائرة الحكم من خارج الوطن، بل تلقّت قيمها وفلسفة حياتها من محيطها العربي من خلال الأسرة والمدرسة والإعلام، وتلقّت توجيهاتها السلوكية ورؤيتها الوجودية من الدروس والمواعظ التي تلتقطها أسبوعيا من منابرها الثقافية والدينية.
السؤال الذي يجب أن يطرح هنا: لماذا عجز المجتمع العربي عن توليد حراك اجتماعي يدفع الشباب إلى البحث العلمي والإنتاج الصناعي والمساهمة في بناء المؤسّسات المجتمعية التي تحوّل القيم الإنسانية، قيم التعاون والتكافل والإبداع والدفاع عن الحقوق ومواجهة الظلم والفساد، إلى حالة اجتماعية معيشة؟ ولماذا تحوّلت تركيا، على سبيل المثال، خلال عقدين، من دولة عاجزة عن سداد ديونها المتراكمة للبنك الدولي إلى دولة صناعية وتجارية تنافس في قدراتها الإنتاجية الدول الصناعية المتقدّمة، لتنضمّ في وفترة وجيزة إلى قائمة الدول العشر الأكثر ثراء، في حين تعجز الدول العربية عن تحفيز الإنتاج والابتكار، وتكتفي بالاعتماد الكامل على المنتجات المستوردة والأفكار والخطط المترجمة؟ يتحمّل النظام السياسي الرسمي المسؤولية الأولى في الإجابة عن هذا السؤال، ولكن رب الأسرة والمربّي والمعلم والأستاذ الجامعي والكاتب والإعلامي والواعظ والفنان يتحمّلون مسؤولية أساسية في إعداد أجيال من المثقفين والسياسيين لا يرون إلا المجد الشخصي والمصلحة الفردية في كل عملٍ يمارسونه أو مهمّة يرتبطون بها، ولو كان هذا العمل خدمة الوطن وصون مصالح أبنائه.
نعم ما يجري في غزّة اليوم مأساة بكل ما للكلمة من معنى. ولكن لنكن صادقين مع أنفسنا، ولنقل بصراحة إن المأساة ليست مأساة غزّاوية أو فلسطينية وحسب، ولكنها عربية في المقام الأول، فلولا الوهن العربي لما تمكّنت القيادة الصهيونية من تجاهل مواقف القادة العرب في مؤتمر السلام الذي عقد أخيرا في القاهرة، ودعا إلى وقف القصف والتدمير في غزّة. ولولا التراخي العربي لما تجاهل الغرب الثقل السكاني للمجتمعات العربية التي تقارب خمسمئة مليونا، والتي تنتشر على مساحةٍ تزيد على مساحة الولايات المتحدة أو مساحة الصين. وهذا يقودنا إلى السؤال الأصعب: هل ستدفع صدمة غزّة الأنظمة العربية والشارع العربي إلى استشعار مسؤولياتها الأخلاقية والإنسانية والوجودية، وإعادة النظر في خططتها وأولوياتها؟ وبتعبير مرادف يمكن أن نسأل: هل ستساهم المأساة الفلسطينية في تحريك الركود العربي، وتدفع الشعوب العربية لاستشعار مسؤولياتها في الارتقاء بالحياة العامة وبناء مجتمعاتٍ منتجة ومبدعة وقوية، أم أن الغضب والتظاهر سينتهيان بالعودة مجدّدا إلى الاهتمامات الفردية والمشاريع الخاصة وتجاهل المسؤوليات العامة والجهود الوطنية المشتركة للارتقاء بالمجتمع وحماية كرامة الشعوب ومستقبل الأجيال القادمة؟
—————————
في تغيّر الموقف التركي حيال الحرب/ عمر كوش
05 نوفمبر 2023
عرف الموقف التركي حالة من الارتباك، وعدم الوضوح منذ البداية، حيال عملية طوفان الأقصى التي قامت بها حركة حماس ضد إسرائيل في السابع من الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول)، وما تلاها من حربٍ إسرائيلية على الفلسطينيين في قطاع غزّة، الأمر الذي جعله عرضة للانتقاد من بعض الجهات السياسية، داخل تركيا وخارجها. وتجسّدت تلك الحالة من خلال مؤشّرات عديدة، لا تنحصر في مسارعة الرئيس، رجب طيب أردوغان، إلى الاتصال بالرئيسين الفلسطيني محمود عبّاس والإسرائيلي إسحق هيرتزوغ، بل تطاول “الموقف المتوازن” الذي استخدم لهجة محايدة، لم توجّه أصابع الاتهام إلى إسرائيل أو “حماس”، بل شدّدت على إدانةٍ شديدة للخسائر في أرواح المدنيين، مع “البقاء على اتصالٍ مع جميع الأطراف المعنية للمساعدة في إنهاء النزاع”، وهي لهجةٌ تعبّر عن موقف غير متوقّع من أنقرة حيال ما تقوم به إسرائيل في قطاع غزّة بعد عملية “حماس”، ولا يغيّر من طبيعته تركيز الساسة الأتراك في خطابهم السياسي على عدم قبول تدمير قطاع غزّة بالهجمات الجوية والبرّية الإسرائيلية، ورفض استهداف المدنيين من الجانبين، مع تأكيدهم استعداد أنقرة للاضطلاع بمهمّة تأمين مساعدات إنسانية لأهالي غزّة، فضلاً عن استعدادها للقيام بأي نوع من الوساطة بين الطرفين، بما في ذلك تبادل الأسرى، وأن تكون ضامناً للطرف الفلسطيني، وكذلك ما تردّد من تقارير عن طلب تركيا من قادة في حركة حماس مغادرة إسطنبول بعد اندلاع الحرب، الأمر الذي دفع أنقرة إلى نفيها.
إذاً، اختلف الموقف التركي هذه المرّة عمّا سبقه من مواقف حيال أزمات مشابهة، إذ عودتنا مواقف الرئيس أردوغان في أزمات وحروب سابقة، أن تقف تركيا، من دون تردّد، مع الطرف الفلسطيني ضد الطرف الإسرائيلي، وبما يجعلها أحد الأطراف فيها، ولم تلجأ إلى اتخاذ “موقف متوازن”، ولا دور الوسيط أو الضامن للطرف الفلسطيني. ففي حرب إسرائيل على قطاع غزّة عام 2014، لم يكتفِ أردوغان حينها بإدانتها فقط، بل اعتبر جرائم إسرائيل فاقت جرائم هتلر، حين قال إن “الإسرائيليين يلعنون هتلر ويشتمونه ليل نهار بسبب الهولوكوست، لكننا نجد أن دولة إسرائيل الإرهابية قد تجاوزت فظائع هتلر من خلال عملياتها بغزة”. وذهب إلى حدّ اتهام الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، بـ”مساعدة إسرائيل في حربها على قطاع غزة”. وفي 2018 وصف أردوغان رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بالإرهابي، وسحبت تركيا سفيرها من تل أبيب، وطردت السفير الإسرائيلي من أنقرة، وكذلك القنصل العام من إسطنبول. أما في الأول من سبتمبر/ أيلول 2011، فقد طردت أنقرة السفير لديها، وعلّقت كل الاتفاقيات العسكرية، وذلك بعد رفض إسرائيل الاعتذار عن مقتل عشرة ناشطين أتراك، نتيجة مهاجمتها سفينة مافي مرمرة في نهاية شهر مايو/ أيار 2010، التي كانت في طريقها إلى قطاع غزّه، ضمن ما عُرف باسم “أسطول الحرية” الذي كان يسعى ناشطوه للقيام بخطوة رمزية، من أجل كسر الحصار المفروض من إسرائيل على جميع الفلسطينيين داخل القطاع.
يرجع الموقف المتوازن الذي لجأت إليه أنقرة إلى عملية التطبيع التي أطلقتها، أخيراً، مع دول الخليج والإقليم، بما فيها إسرائيل، وأفضت إلى تحسّن علاقات أنقرة بتل أبيب، جسّدته زيارة الرئيس الإسرائيلي إسحق هرتسوغ لتركيا في التاسع من مارس/ آذار من العام الماضي، وهو ما لم يحدث منذ 15 عاماً، وأعقبها لقاء الرئيس أردوغان بالرئيس نتنياهو، للمرة الأولى منذ سنوات طويلة، في نيويورك في 20 سبتمبر/ أيلول الماضي، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة.
غير أن فظاعة ما تقوم به إسرائيل حيال أهالي قطاع غزّة غيرت كل الحسابات، حيث بدأ الموقف التركي بالتغير شيئاً شيئاً على وقع الضغط الشعبي، وتواتر المظاهرات في مختلف المدن التركية، المطالبة بقطع العلاقات مع إسرائيل، إلى جانب مطالبة حليف أردوغان، زعيم حزب الحركة القومية، دولت بهجلي، الدولة التركية “بالتدخّل والقيام بكل ما هو ضروري من منطلق مسؤولياتها التاريخية والإنسانية والدينية”. إضافة إلى تمادي إسرائيل في حرب الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في القطاع. دفع ذلك كله الرئيس أردوغان إلى اتخاذ مواقف أكثر وضوحاً مما تقوم به إسرائيل، حيث أعلن إلغاء زيارته المقرّرة لإسرائيل، وبعده ألغى وزير الطاقة التركي زيارة مقرّرة لإسرائيل، إلى جانب تعليق تركيا خطط التعاون مع إسرائيل في مجال الطاقة، ثم رفض أردوغان اعتبار حركة حماس منظمة إرهابية، بل اعتبرها حركة تحرّر، ودعا إسرائيل إلى وقف هجماتها على قطاع غزّة، التي ترقى إلى حد التطهير العرقي والإبادة الجماعية، بحسب وصفه، على إثر قصف إسرائيل المستشفى المعمداني في قطاع غزّة وسقوط قرابة 500 مدني فلسطيني، واعتبره “ردّاً غير متناسب ويصل إلى حد المذبحة”.
زاد الخطاب التركي الرافض للحرب الإسرائيلية نبرته، ووصل إلى ذروته حين طالب أردوغان بأن تخرُج إسرائيل من حالة الجنون، ثم أكّد أمام تجمّع حاشد للأتراك في إسطنبول في 28 أكتوبر، أن بلاده تستعد لإعلان إسرائيل مجرمة حرب أمام العالم، وترتكب جرائم فظيعة في غزّة، وذهب إلى تحميل الولايات المتحدة وأوروبا مسؤولية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة.
غير أن تغيّر الموقف التركي حيال الحرب الإسرائيلية لا يعني أن أنقرة ستذهب بعيداً فيه، بل إلى تبنّي أردوغان والدائرة المحيطة له نهجاً أكثر منطقية، حسب وصف معلقين أتراك، يرون أن هذا النهج يفضي إلى نتائج أكثر إيجابية لصالح تركيا، وهو يستدعي الجلوس إلى الطاولة بدلاً من الصراخ، خصوصاً أنّ تركيا تواجه تحدّيات وأزمات اقتصادية، ويمكن أن تتعرّض لضربات اقتصادية ونقدية إذا جنحت أكثر في تموضعها الجديد من الحرب الإسرائيلية على غزّة.
—————————–
عن توسّع المعركة وبقاء حماس/ فاطمة ياسين
05 نوفمبر 2023
أظهرت الولايات المتحدة تعاطفا خاصّا مع إسرائيل بعد أحداث 7 أكتوبر/ تشرين الأول وهجوم “حماس” غير المسبوق على منطقة غلاف غزّة، فقد سارع الناطقون باسم الهيئات الرسمية الأميركية إلى استنكار ما حدث بأقوى العبارات، كما بدا التعاطف في أول الأمر واضحا وقويا على جميع المستويات، فوقفت فرقٌ رياضيةُ دقيقة صمت على من قضى من الإسرائيليين إثر الهجوم، وجهزت وزارة الدفاع ترسانة أسلحة لتدعم بها موقف إسرائيل التي تقول إن لها كل الحقّ في الدفاع عن نفسها، ووصلت شدّة لهجتها إلى التصريح بنية محو “حماس” من غزّة، وهو أمرٌ يتطلّب دخول الجيوش الإسرائيلية بأعداد كبيرة إلى غزة، وبدأ المخطط بالفعل بقصف كثيف هشَّم الجزء الشمالي من غزة كله، ولكن الوضع الإنساني الخطير الذي نشأ، أضعف التعاطف الأميركي الشعبي وأربك السياسي، وارتفعت المطالبات بتهدئة جزئية ومحلية لإفساح المجال لدخول المساعدات الإنسانية وإخلاء الجنسيات الأجنبية، وإعطاء فرصة لتحرير من اختطفتهم حماس. لم ترقَ المطالبات الأميركية إلى مستوى وقف إطلاق النار واقتصرت على العمل لتأجيل الهجوم البرّي، وإفساح المجال ما بين الهجوم والذي يليه لبرهة ذات شكل إنساني، من دون تغيير اللهجة الهجومية على حماس.
الهدف الإسرائيلي يتلخص في استعادة الرهائن من قبضة “حماس”، ثم القضاء عليها، وقد عبر المسؤولون الإسرائيليون عن ذلك بوضوح مشوب بانفعال جلي، وتصوروا أن الأمر يمكن أن ينجز بهجمات صاروخية وجوية كثيفة تمهيدا لاختراق أرضي يحقّق المهمة، وعبرت الولايات المتحدة بدورها عن الرغبة بالتخلص من “حماس”، ولكنها بوصفها متعهّدا رسميا لهذه الحرب، ترغب في ضمان خروج آمن لكل أميركي في غزّة، والأهم من ذلك تحييد التدخلات الخارجية التي قد تصب في مصلحة حماس. لا تضمن أميركا أن تحقق كل ما ترغب به، وكانت قد مهّدت لتأكيد عدم التدخل بتصريحات حول اعتقادها بعدم ضلوع إيران، كما اقتصر الردذ الإسرائيلي على هجمات حزب الله بردٍّ محدود لتخفيف احتمالات التوسّع، ورغم الفعل الهادئ لحلفاء إيران، إلا أن الولايات المتحدة لا تبدو متأكّدة من عدم توسّع المواجهات.
رغم استنفار الأسطول السادس الأميركي بكامله، ونشره على الساحل المقابل لغزّة، وتزويد إسرائيل بنظام دفاع جوي يعزّز قدرة القبّة الحديدة الموجودة أصلا، وشحنات الأسلحة المتطوّرة والصواريخ الدقيقة وعشرات المستشارين العسكريين، وكذلك استعداد ألفي جندي أميركي للتوجه إلى إسرائيل، فذلك لا يشكّل ضمان ردع كافٍ يجعل المواجهات تقتصر على جبهة غزّة، وإيران موجودة وتستخدم لهجة عدائية، وتبدو روسيا مستعدّة للوقوف خلفها، وهي تراقب ما يحدُث، مع قيامها بنشاط دبلوماسي يكشف موقفها الحقيقي، ونيتها في اغتنام الفرصة لتحسين وضعها في أوكرانيا.
يتزامن وجود وزير الخارجية الأميركي بلينكن، المشارك بالفعل في الاجتماع الوزاري الإسرائيلي المصغّر الذي يدير الأزمة، مع خطاب الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله. ويريد بلينكن أن يكسب مزيدا من الوقت، وأظن أنه استمع جيدا إلى خطاب نصر الله، ومنه يمكن أن يستشفّ بعض النيات، حيث قال نصر الله إنه دخل الحرب بالفعل، بما قد يعني أنه لن يطوّر هجوما أكبر.
في ظلّ تردّد طرفٍ وغموض الطرف الآخر، يبدو أن لدى “حماس” فرصة لأن تبقى قوةً عسكرية موجودة في غزّة، وقد تكون نهاية هذا التوتر شبيهة بنهاية حرب تموز 2006، وقرار مجلس الأمن رقم 1701 الذي نصّ على إيجاد منطقة عازلة ما بين الحدود الشمالية لإسرائيل ونهر الليطاني، خالية من عناصر المليشيا المسلحة، ويوجد فيها عناصر الجيش اللبناني وقوات دولية. ولكن المشكلة هنا أن أوسع منطقة في غزّة لا يتجاوز عرضها 12 كيلومترا، بينما المسافة ما بين الليطاني والحدود حوالي 30 كيلومترا، لذلك قد يكون البديل عن عملية غزوٍ شاملةٍ البحث عن منطقة عازلة مناسبة.
———————
هل يدرك النظام الرسمي العربي مصالحه؟/ حيّان جابر
04 نوفمبر 2023
لم تتوقف جرائم الاحتلال الصهيوني على أرض فلسطين وشعبها منذ عام 1948، إذ لم يخلُ يوم من قتل الاحتلال فلسطينيين عزّلاً، أطفالاً ونساءً ورجالاً، أو تهجيرهم قسرياً، أو استيلائه على أرضيهم الزراعية، أو حرقه أراضيهم وتخريبها، أو أسر/ اختطاف المدنيين الفلسطينيين من الأطفال أو النساء أو الرجال، وغيرها كثير من الجرائم الموصوفة في القانون الدولي بأنّها جرائم ضدّ الإنسانية، تصنّف في مجملها ضمن جرائم التطهير العرقي أو الفصل العنصري أو العقاب الجماعي أو التهجير القسري، فضلاً عن جرائم ضدّ البيئة، والعنصرية البيئية، والإبادة البيئية.
انطلاقاً من واقع الاحتلال الصهيوني الإجرامي اليومي؛ واصل الاحتلال جرائمه بحقّ شعب فلسطين وأرضها بوتيرة متسارعة بعد السابع من الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول)، ليقتل أكثر من تسعة آلاف فلسطيني مدني، منهم أكثر من 8900 في قطاع غزّة، ونحو 150 فلسطيني في الضفّة الغربية، معظمهم من الأطفال، وبعضهم للأسف من الرضّع، وهذا ما أكّدته المؤسسات الدولية التابعة أو المرتبطة بهيئات الأمم المتّحدة. كما يمارس الاحتلال جرائمه الراهنة؛ منذ 7 أكتوبر، بمشاركة أميركية وأوروبية واضحة وعلنية. مع ضرورة الإشارة إلى تناقض الموقف الشعبي الأميركي والأوروبي؛ بنسبة مرتفعة، مع مشاركة حكوماتهم في جرائم الاحتلال، كما تكشفه استطلاعات الرأي، والمشاركة اليومية في فعاليات نصرة فلسطين، المطالبة بوقف العدوان الصهيوني.
على صعيدٍ إقليمي متصل؛ نجد تبايناً كبيراً بين موقف شعوب المنطقة والنظام الرسمي العربي، إذ توضح التظاهرات الجماهيرية الضخمة في معظم دول الإقليم حجم الدعم الشعبي الكبير، كما تكشف الشعارات المرفوعة في تلك التظاهرات عن طبيعة (وكيفية) هذا الدعم، الذي يتراوح بين الرغبة في تقديم الدعم التقني والبشري والمادي المباشر، والدعم السياسي المطلق، عبر المطالبة بقطع العلاقات السياسية والاقتصادية مع الاحتلال، ومع القوى الدولية المشاركة في جرائم الاحتلال، وخصوصاً أميركا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا. في حين يبدو الموقف الرسمي العربي هزيلاً؛ بما فيه موقف السلطة الفلسطينية، وأحياناً متواطئاً مع الجرائم الصهيونية، إذ ينحصر في معظمه بالدعوة إلى وقف إطلاق النار، من دون أنّ يترافق مع مواقف جدّية وحاسمة تدعم الحقوق الفلسطينية، وفي مقدمتها الحقّ في مقاومة الاحتلال، وحقّ العودة إلى المدن والقرى الفلسطينية، التي هجّر منها اللاجئون الفلسطينيون قسراً، وحقّ شعب فلسطين الأصلي في تقرير مصيره على أرضه التاريخية.
من هنا، يبدو النظام العربي غير مدركٍ للآفاق التي فتحتها عملية طوفان الأقصى، كما لا يدرك تداعيات مواقفها الهزيلة مستقبلاً عليه، كما لا يدرك أهمّية استثمار الموقف الشعبي الإقليمي والدولي سياسياً. إذ يملك النظام الرسمي العربي اليوم فرصة نادرة قد لا تتكرّر قريباً، تمنحه القدرة على تعزيز حضوره الإقليمي والدولي، إلى جانب تعزيز مصالحه الضيقة منها؛ مصالح النظام المسيطر، والوطنية كذلك، إذ يمرّ النظام الدولي بمرحلة عدم استقرارٍ على خلفية تصاعد الصراعات والخلافات الدولية، خصوصاً بين المعسكرين الغربي؛ أوروبا وأميركا، والشرقي؛ روسيا والصين، والتي أفضت إلى أزماتٍ اقتصادية متعدّدة، انعكست ارتفاعاً في معدلات التضخّم، وتباطؤ الاقتصاد، وأزمة الطاقة، خصوصاً الغازية منها، وهو ما يجعل من دول المنطقة الغنية بالمشتقات النفطية عامّة، والغازية خاصّة، دولاً مهمة ومؤثرة في الاقتصاد العالمي، والاستقرار الداخلي في الدول المستهلكة، وبالتالي على السياسات الدولية.
أيضاً؛ يملك النظام الرسمي العربي اليوم إمكانية استثمار الانقسام؛ بل الصراع، الدولي بين المعسكرين المتخاصمين، وشبه المتحاربين، فالانقسام الدولي الحالي يتطلّب من الأطراف المتنازعة تنافساً كبيراً، على مستوياتٍ عديدة، منها التنافس على الطرق التجارية، والتنافس على مصادر المواد الأساسية؛ النفطية وغير النفطية، وصولاً إلى التنافس على الأسواق، فضلاً عن التنافس المالي، بما يخصّ التمويل والاستدانة والاستثمار الخارجي. إنّ منطقتنا الإقليمية، وموقعها الجيوسياسي، وثرواتها الباطنية والبشرية، تمنحها ميزة مؤثرة على كلّ ما سبق، ما يمكّن دولها من لعب دورٍ حاسمٍ، أو على الأقلّ رئيسي، في الصراع الدولي المحتدم اليوم، وهو ما يمكّنها من فرض رؤيتها، بل إرادتها السياسية، إن أرادت ذلك.
نلحظ كذلك بعدين مهمين على الصعيد الدعائي والشعبي، إذ طالما استغلت الدول الكبرى مواقف شعوبها من النظام الرسمي العربي، بل يمكن القول إنّها ساهمت في تكوين نظرة شعبية سلبية تجاهه، وذلك عبر تعميم الرؤى الاستشراقية الفوقية تجاه مجمل المنطقة، على اعتبارها منطقة خارجة عن التاريخ والحضارة الإنسانية. من ناحية أخرى، تراجعت ثقة شعوب المنطقة بنظمه المسيطرة، وهو ما انعكس من خلال توالي الأزمات الاجتماعية، والثورات الشعبية، فعلى الرغم من سيطرة قوى الثورة المضادّة على زمام الأمور في السنوات الأخيرة، فإنّ قدرتها على ضبط الشارع في المنطقة العربية تثير شكوكاً عديدة، خصوصاً بعد 7 أكتوبر، وتحديداً في الدول المطبّعة مع الاحتلال الصهيوني، أو المتقاربة منه.
بناء عليه، يملك النظام الرسمي العربي أربع أوراقٍ قويّة اليوم، أوّلها الورقة الاقتصادية، التي تشمل وارداته وصادراته، إذ يمكن التلويح بقطع العلاقات الاقتصادية مع الاحتلال كلّياً أوّلاً، ومع داعميه الغربيين ثانياً، ما يهدّد بارتفاع أسعار المشتقات النفطية، ويضع دول الاتّحاد الأوروبي تحت ضغط أزمة طاقة يصعب تداركها الآن، خصوصاً بعد بداية موسم الشتاء. كما يؤدي قطع العلاقات الاقتصادية إلى خسارة دول المعسكر الغربي السوق الإقليمية الكبيرة والمهمّة، في حين يمكن لدول الإقليم تعويض تلك الصادرات من مصادرة بديلة هندية وبرازيلية وأفريقية وصينية، وهو ما يعزز تباطؤ النموّ الاقتصادي الغربي، ويرفع معدّلات التضخم ارتفاعاً صارخاً.
الورقة الثانية دبلوماسية، إنّ تلويح النظام الرسمي العربي بقطع العلاقات الدبلوماسية مع الدول الداعمة والمشاركة في المجازر والإرهاب الصهيوني، يعني تبدّلاتٍ نوعية في التوازنات الدولية بين المعسكرين المتصارعين أو المتنافسين، وهو ما يعني تداعياتٍ نوعية على المديين، القريب والمتوسط، وربّما على المدى البعيد أيضاً، فضلاً عن تداعياته السريعة على الاحتلال الصهيوني، ودوره المنشود غربياً.
ثالثاً الورقة الجيوسياسية، من خلال استثمار موقع دول الإقليم الحاسم في الصراع الجيوسياسي العالمي، على طرق التجارة البرّية والبحرية والجوية، وهو ما يمنح النظام الإقليمي القدرة على استثمار هذه المشاريع الحيوية للاقتصاد العالمي، عبر تحويلها إلى أوراق ضغطٍ، يمكنها أن تفرض رؤية تحرُّرية تقدّمية تلبّي حقوق شعب فلسطين، ومطالب شعوب المنطقة التنموية والنهضوية والتحررية.
رابعاً الورقة الاستراتيجية، تملك دول المنطقة بحكم أهمّيتها الاقتصادية والجيوسياسية خياراتٍ استراتيجية متنوعة وعديدة في الوقت الراهن، أميركية وأوروبية وروسية وصينية، ولما لا هندية أيضاً، وهو ما يمثّل ورقة رابحة وحاسمة، يمكن التلويح بها في ظلّ الصراع والتنافس الدولي المتصاعد في الآونة الأخيرة.
من ذلك كله، يملك النظام الرسمي العربي اليوم فرصة نادرة جداً، قد تمكّنه من تحقيق تحوّلٍ نوعي في مكانته الدولية، وقد تساهم في معالجة أزماته الداخلية، وربّما الإقليمية، كما قد تمكّنه من تحقيق نهضة وطنية نوعية على أصعدة متعدّدة اقتصادية وثقافية وخدمية وسياسية، تنعكس على مكانة شعوب المنطقة ودولها وقيمها. كما قد يتعرّض النظام الإقليمي في حال امتناعه عن ذلك إلى تحدّياتٍ استراتيجية كبرى، داخلية وخارجية، قد يصعب تدارك تداعياتها المحتملة لاحقاً.
————————-
المقاطعة سلاحاً شعبياً/ رشا عمران
04 نوفمبر 2023
لا يمكن الاستهانة بسلاح المقاطعة الاقتصادية ضد الدول التي تقف مع إسرائيل وتدعمها في إجرامها، ولا يمكن النظر إلى دعوات عرب كثيرين إلى المقاطعة حاليا إلا بكل الاحترام والتقدير، خصوصا مع حالة العجز التي نعيشها جميعا حيال ما يحدُث، ومع اليأس من أي تغييرٍ لذهنية المجتمع الدولي (الرسمي) في تعاطيه مع الحرب الحالية ودعمه اللامحدود لإسرائيل ومشاركته في الحرب فعليا، سواء عبر حشد جيوشه في المتوسط، أو عبر التهديد في حال تدخّل أي طرفٍ لصالح الفلسطينيين، أو عبر الدعم اللوجستي المادي والعسكري لإسرائيل، أو عبر استخدام حقّ الفيتو في مجلس الأمن ضد أي قرارٍ داعٍ إلى هدنة إنسانية أو وقف لإطلاق النار. ما يدلّ بوضوح على أن ثمّة قرارا دوليا بمسح غزّة من الوجود وإبادة الفلسطينيين وتهجير من يبقى منهم على قيد الحياة في نسف كامل، لكل القرارات الدولية المتعلقة بالقضية الفلسطينية.
والمؤسف هنا أن النظام العربي الحاكم يبدو كما لو أنه يتشارك مع المجتمع الدولي في القرار إياه، إذ حتى اللحظة لم تُبادر أية دولة عربية باتّخاذ أي موقفٍ حاسمٍ تجاه إسرائيل. المواقف الرسمية المعلنة على درجة من الميوعة والرخاوة تصيب لا باليأس فقط، بل بالغثيان أيضا، خصوصا وأن دولا كثيرة تمنع شعوبها من التظاهر والتعبير عن الغضب الشعبي مما يحدُث، بحيث لا يختلف الأمر مطلقا عما تفعله دول أوروبية داعمة بشدة لإسرائيل، منعت المظاهرات أو رفع العلم الفلسطيني. ولن يبدو غريبا إن حاكمت أنظمة عربية مواطنيها المعادين لإسرائيل بتهمة معاداة السامية، خصوصا وأننا بدأنا نسمع أصواتا عربية تمجّد ما يفعله العدو الإسرائيلي من عواصم عربية، من دون أن يوضع ذلك تحت بند الخيانة، كما كان يحدُث سابقا، قبل أن يختفي ماء الوجه الرسمي العربي.
وبالعودة إلى حديث المقاطعة الاقتصادية التي ما تزال شعبيةً، وتختص بمنتجات استهلاكية لعلامات تجارية معظمها أميركية، ولها وكلاء في البلاد العربية، بعضها يدعم علنا جيش الاحتلال الإسرائيلي، وأخرى مملوكة لرؤوس أموال إسرائيلية، ففي الحقيقة، للأمر وجهان، يجب النظر إليهما بكثير من الشفافية والموضوعية، ذلك أن وكلاء هذه العلامات التجارية هم عرب، ويشغلون أيادي عاملة عربية، ما يعني أن أسرا وعائلات عربية عديدة تعيش من داخلها. سوف تحرم المقاطعة تلك العائلات من مصدر دخل قد يكون وحيدا، خصوصا في ظل الأوضاع الاقتصادية المزرية التي تعيشها بلادنا، وانخفاض خط الفقر إلى حد غير مسبوق. من ناحية أخرى، سوف تقلل المقاطعة، إلى حد كبير، من أرباح مالكي تلك العلامات، بالنظر إلي حجم السوق العربي، وإلى كمّية استهلاك منتجاتها عربيا على الأقل؛ وهو أمرٌ بالغ الضرورة حاليا: أن يشعر هؤلاء ببعض الخسارة نتيجة دعمهم إجرام دولة محتلة.
ولكن، هل البديل المحلي لهذه المنتجات متوفر في الأسواق العربية، وبمواصفاتٍ قادرة على المنافسة؟ بقدر ضرورة هذا السؤال صعوبة الإجابة عليه، ذلك أن معظم وكلاء تلك العلامات التجارية من شريحة رجال الأعمال الكبار المقرّبين من الأنظمة. عمل هؤلاء بنشاط عقودا على تدمير كل المنتجات الوطنية بالكامل، بدءا من الاسم وحتى المواد المستخدمة. وما بقي صامدا لا يملك رأس المال اللازم لمنافسةٍ من هذا النوع، ولا ليكون بديلا متاحا لاستيعاب المتسرّبين من العمّال والموظفين من تلك العلامات نتيجة المقاطعة. تخيّلوا مئات الألوف من الموظفين والعمّال العرب سوف يجدون أنفسهم بلا عمل، ولا مصدر دخل، هم وعائلاتهم. سوف يصبح هؤلاء، مع عدم الاكتراث الرسمي بمصائرهم أو تأمين مداخيل بديلة لهم، ناقمين على القضية بقدر نقمتهم على العدو، وهذا أكثر ما يريده عدوّنا الصهيوني: أن يتساوى غضبنا من الظالم مع غضبنا من المظلوم.
الإجابة عن سؤال الحلّ في معضلة كهذه تكمن في الموقف العربي الرسمي، في المقاطعة الرسمية، في سلاح النفط، في قطع العلاقات بالكامل، في إلغاء كل الاتفاقيات مع العدو، في السماح للشعوب بالتعبير عن غضبها، تغيير الخطاب الإعلامي الرسمي، في استعادة تهمة الخيانة حين تأييد المحتلّ أو دعمه أو التخابر معه. وللأسف، لن يحدث هذا، ذلك أن ما وصلت إليه حال النظام العربي الحاكم من الرداءة لا يمكن وصفه، ولا يسعد أحدا سوى العدو.
————————-
نظرية أسطرة حماس/ بشير البكر
03 نوفمبر 2023
سبق أن شهد العالم مثالا حيّا عن نظرية أسطرة العدو، في تعامل الولايات المتحدة مع العراق عام 1991، عندما استخدمت ماكينة هائلة من الدعاية، قدّمت الجيش العراقي على أنه رابع أقوى جيش في العالم، يمتلك أسلحة فتّاكة بما فيها أسلحة الدمار الشامل. وكان الغرض من ذلك تبرير تشكيل تحالف دولي لضرب العراق، واستخدام كل أنواع الأسلحة ضد جيشه وبناه التحتية. وها هي الدعاية الإسرائيلية والغربية منذ 7 أكتوبر لا تتوقّف عن الحديث عن قدرات حركة حماس الخارقة وأنفاقها، التي وصلت، حسب توصيف بعض الخبراء، إلى حد أن هناك مدينة موازية، بنتها “حماس” في الأنفاق، وأنها أعدّت كمائن سوف تبتلع الجيش الإسرائيلي. وبالتالي، أصبحت الحركة قوة ضاربة في تصريحات المسؤولين الإسرائيليين. وحسب أعضاء مجلس الحرب المصغّر، ستكون الحرب معها صعبة وطويلة، وستدور على الأرض وتحتها، في الجو والبحر، داخل حدود غزة وخارجها.
ويعني هذا التهويل أحد أمرين، إما أن اسرائيل لم تعد صاحبة الجيش الذي لا يُقهر، البارع في الحروب الخاطفة، أو أن “حماس” قوة عسكرية أسطورية، يتطلب القضاء عليها كل هذا الجهد العسكري. وفي حقيقة الأمر، يفتقر الاحتمالان إلى الدقّة، فالجيش الإسرائيلي لا يزال قويا، وفشله في رد تحدّي 7 أكتوبر لا يعني أنه بات مترهلا ولا يستطيع خوض الحرب. كما أن “حماس” ليست بالقوة التي يصوّرونها، مهما بلغ مستوى التطوّر الذي وصلت إليه في الأعوام الأخيرة، عدا أنها تخوض معركة غير متكافئة على مساحة من الأرض صغيرة جدا، لا تسمح لها بالمناورة الواسعة.
قد يكون خيار الحرب الطويلة تكتيكا إسرائيليا من أجل عدم المغامرة بأرواح الجنود، والعمل وفق خطّة قضم تدريجي لقطاع غزّة على دفعات، يتم خلالها إنهاك “حماس”، وفكّ ارتباطها بالشارع الفلسطيني الذي يلتفّ حولها، ويدفع من أجل ذلك ثمنا عاليا في الأرواح، حيث يزداد عدد الشهداء كل يوم، أغلبهم من الأطفال والنساء. ولتحقيق هذا الهدف، قطعت اسرائيل الماء والكهرباء والوقود والإنترنت عن القطاع، ولا تسمح بدخول مساعداتٍ ذات قيمةٍ عن طريق معبر رفح. وفي الوقت الذي يمكن أن يوفر فيه هذا التكتيك الأرواح على إسرائيل، فإنه يلعب، من ناحية أخرى، في غير صالحها على مستويين. الأول، الجبهة الداخلية التي تعيش تحت صدمة 7 أكتوبر، وتنتظر انتصارا سريعا على “حماس” يعيد الاعتبار لإسرائيل، كما أنه لا يمكنها أن تتعايش مع الصواريخ والقذائف، التي تتساقط على المدن الإسرائيلية، وهذه مرشّحة أن ترتفع كمّا ونوعا. والمستوى الثاني هو التضامن العربي والدولي الذي يكبر بسرعة وكل يوم من حول غزّة، ومثال ذلك المظاهرات التي تعم المدن العربية، ومدنا عديدة في الغرب، مثال لندن، واشنطن، نيويورك، وباريس. وبالنظر إلى العدد الكبير من الضحايا في صفوف المدنيّين في غزّة، قد يتحوّل عامل التضامن إلى قوة ضغط تُجبر داعمي إسرائيل، وخصوصا الولايات المتحدة، على تغيير في مواقفهم، وضبط إيقاع الحرب على نحو يخفّف من السقف العالي الذي وضعته إسرائيل لنفسها، ويجبرها على تصغير الأهداف التي أعلنت عنها. ولنا في حرب احتلال العراق عام 2003 مثال على المسافة الكبيرة بين الممكن والمستحيل من جهة، وما يمكن أن ينجم من كوارث عن المكابرة السياسية، واعتبار الحرب وحدها طريقا لتسوية المشكلات، من جهة أخرى، الأمر الذي دفعت الولايات ثمنا عاليا جدا من أجله في العراق قبل أن تنسحب من هناك، وتسلم البلد لإيران، وتزرع بذور التطرّف الذي أنتج إرهاب “داعش”، الذي أصاب الغرب والشرق على السواء.
—————————
مستجدّات تتجاوز راهن الحرب/ شفان إبراهيم
02 نوفمبر 2023
ربما يشكّل حجم التوغل الإسرائيلي في شمال قطاع غزّة، مع تواتر أنباء عن مفاوضات في بعض العواصم من دون نتائج معلنة، مؤشرا إلى استمرارية الحرب وقتا أطول، فإسرائيل ترى نفسها ملزمة بحربٍ تصفها بـ”حرب البقاء”، أو أنها تستغلّ هذه الظروف بوصفها فرصة تاريخية، للوصول إلى التغيرات الكبيرة التي تحلُم بها، رغم حجم الأكلاف الباهظة في أرواح المدنيين من النساء والأطفال، وهي غير مهتمّة أبداً لاتهامها بجرائم الحرب أو ضد الإنسانية، ولا تأبه بنداءات وقف الحرب. ويتحدّث عديدون من قادتها عن “حرب طويلة” جداً. تقول حركة حماس في الطرف الآخر إن إسرائيل تتراجع وتتقهقر، وإن المقاومة في حالة صعود، وتقدّم في ذلك شروحا عن أوضاع سابقة وأخرى مستقبلية، وتتحدث عن خطً بياني لتفسير أقوالها. وفي المحصلة، يُقتل مزيدٌ من المدنيين، وهذه الحرب هي ضدّ كل ما له علاقة بالعمران البشري وإمكانية البقاء للبناء من جديد.
إذا كان هدف حكومة الاحتلال هو القضاء النهائي على حركة حماس وتدميرها، فإن الجيش الإسرائيلي يجد نفسَه محبطاً في ترجمة هذا الهدف إلى أرقام وحقائق واقعية قابلة للتحقيق، ربما يكون بمقدوره تحجيم كبير لدور “حماس”، السياسي والعسكري والأمني، لكن قضية القضاء النهائي عليها أمرٌ في غاية الصعوبة؛ فـ”حماس” أولاً تأصلت في نفوس جزء كبير من أبناء المجتمع المحلي في فلسطين، وبل في دول عربية أخرى أيضا، وجذر التأصيل فكري – نفسي أكثر من كونه انتسابا إلى مجموعة عسكرية. والفكرة لا تموت، كما يرد في السرديات الشفاهية، والخوف أن يحمل الجيل الجديد البديل عن “حماس” نزعات عنفية وانتقامية أكثر. وإذا كان رهان تل أبيب أن العمل الثقافي والفكري والضخّ المالي سيتكفّلان بتغيير السلوكيات والذهنيات. رُبما كان ذلك أمراً مجانباً للصواب؛ فالقواعد الاجتماعية تنظر إلى إسرائيل غازية ومحتلة، وهذه بحد ذاتها سلاحٌ من الصعب تدميره. لكنهم (الإسرائيليين) يُمكنهم تقليص قوة حركة حماس، وإضعاف قدراتها الصاروخية والطائرات المسيّرة.
إضافة إلى ذلك، أن البنية التحتية المخيفة للأنفاق في قطاع غزة بنيت بشكل مميز على مدى سنوات كثيرة، وهي تشكّل مستوى تحدّ عميقا وتعقيدا مخيفا لجنود الجيش الإسرائيلي، الذين على الرغم من أنهم مدرّبون بشكل مميز على حرب الشوارع والأنفاق، ويمتلكون أسلحة فتّاكة ومعدات نوعية للتعامل مع تلك الحالات والأزمات، ولكن نوعية الأنفاق وطولها وعمقها وضيقها وطوابقها تسهل للمقاتلين في حركة حماس العيش فيها والانطلاق منها للقتال وتخزين أسلحتهم الاستراتيجية. ومن الصعب توقع ما ينتظر الإسرائيليين من تلك الأنفاق، عدا عن ورقة الرهائن.
وإذا كانت تل أبيب تلوّح بفتح جبهة مع حزب الله، إلا أنها في الواقع لا تتمكّن من إدارة أكثر من جبهة عسكرية، بما سيكلّفها من ضغط سياسي هائل على الحكومة، وهدر في الواردات المالية وإجهاد قدرات جيشها، خصوصا أن تلك الجبهة إذا فُتحت ستضع حزب الله آخر انعطافه لها، إما البقاء أو ضربة في عمق حجمها ونشاطها، وإن ليس في مقدور الحزب منع إسرائيل من حصار حركة حماس وقطاع غزّة، لكن فتح تلك الجبهة سيعني أن لدى حزب الله القدرة على التأثير على طريقة اجتياح إسرائيل القطاع.
الغرب وأميركا مصرّان على الالتحاق بالرواية الإسرائيلية، لكن موقف الصين يخلّ بتوازنات القوى، وهي التي لم تكن تخرُج عن حيادها في حروب وأزمات كثيرة، ومنها أخيرا الحرب الروسية على أوكرانيا، فقد اتخذت بكين موقفاً محايداً، لكنها انحرفت عن مبدئها في السياسة الخارجية في الحرب الإسرائيلية الراهنة على غزّة، متضامنة مع غزّة، وداعية إلى وقف إطلاق النار، ومنتقدة العنف الإسرائيلي الذي قالت إنه تجاوز حدود الدفاع عن النفس، كما قال وزير خارجيتها وانغ يي، فبكين خائفة من تداعيات حرب غزّة على جرّ أميركا والصين إلى نزاع إقليمي خارج منطقة المحيط الهادئ مباشرة، وانخراط الصين في الصراع والتخلي عن حيادها، سيكون وارادً إذا ما شاركت أميركا بشكل مباشر. والسبب ما ستُفرزه الحرب من ديناميكياتٍ جديدةٍ للمنطقة، وتأثيراتها الإقليمية، عدا عن المنافسة الجيوسياسية بينهما على تلك التغيّرات.
لا تؤيد الصين أهالي غزّة ولا تل أبيب. إنها تدعم حقوق الفلسطينيين وتدخل في حوارات واتفاقات تطوير السلاح والتكنولوجيا مع إسرائيل. إنها ترفض وجود شرق أوسط بهيمنة من طرف واحد فقط، وتصرّ على التوازن بين القوى الإقليمية متعدّدة الأقطاب حلّا وحيدا للاستقرار. وفي العمق، تخشى الصين على حجم إمدادات النفط إليها خوفاً على اقتصادها من الانحدار المريع، فهي تستورد قرابة 53.6% من إجمالي وارداتها النفطية، بقيمة 365.5 مليار دولار من الخليج، وحجم التبادل التجاري الصيني – الإيراني لا يتحاوز 6% من إجمالي واردات الصين من قطاع النفط، وهو لا يساوي شيئاً أمام المصلحة الصينية في الخليج، لهذا هي تسعى إلى استقرار المنطقة مهما كلف الثمن.
الدافع الثاني للصين حماية شراكتها مع سورية، خصوصا بعد الاتفاق الثنائي الجديد ضد التحولات العالمية في الشرق الأوسط، وارتفاع حظوظ الصين لتكون أول فريق لإعادة الإعمار في مرحلة ما بعد النزاع، وملء الفراغ الاقتصادي في سورية. ورُبما تحلم بكين في تشبيك البنية التحتية لكلّ من أنقرة وبغداد عبر دمشق، لتكون ورقة تحوّل ضخم في الاقتصاد الأوراسي، خصوصا أن العراق شريك تجاري مع الصين، وغنيّ بالنفط وذو حدود برّية واسعة مع سورية، وتركيا تشكّل قوة أوراسية عظيمة، وتصل إلى أوروبا. إضافة إلى نسبة صادرات بكين بقرابة 20% إلى الضفة الغربية وإدخال اللغة الصينية إلى نظام التعليم المدرسي المحلي. وكتلة الشركاء الجدد للصين في الشرق الأوسط، بدءًا من بغداد مروراً بدمشق وانتهاءً بالسلطة الفلسطينية، وشراكتها القديمة مع إيران، ومصالحها في الخليج، كُلها معرّضة لأن تصبح ضحية للحرب، وخصوصا أن الغالبية العظمى من مصالحها هي في البنية التحتية وإمدادات النفط، وهي عوامل كفيلة بتشكيل رعب كبير لبكين، واضطرارها للعب دور تهدئة إلى حين إيجاد توازن أو سلام بين الطرفين.
في الوقت الحالي، وأمام هذا التعقيد، لا بوادر للحلول، وخصوصا أن “حماس” وإسرائيل غير قادرتين على الحسم النهائي أو تقديم مقاربات وحلول جذرية لإيقاف الحرب. من واجبنا التعاطف والاصطفاف إلى جانب المدنيين والنساء والأطفال، ومن حقّنا التساؤل عن غياب سؤال اليوم التالي للعملية العسكرية التي قامت بها “حماس”. رُبما لم تقدر حجم ردّة الفعل الإسرائيلية، أو ظنّتها كسابقاتها، اشتباكات وقتل وهجمات ثم هدنة ويليها تبادل للأسرى، لكن رد الفعل الإسرائيلي جاء بحربٍ مهولة ومجنونة وساحقة، على مبدأ كيف حصل ذلك وكيف لحماس أن تفعل ذلك.
وكان لحماس أن تعي أن الحكومات الإسرائيلية لا تهتم كثيرا لقضايا حقوق الإنسان والاتفاقيات الدولية، وتوقّف الحرب من دون نصر إسرائيلي كبير سيفتح أبوابًا لن تغلق بسهولة على نتنياهو، خصوصا بشأن حجم الاختراق الأمني. وما بين غياب سؤال اليوم التالي وسؤال كيف حصل ذلك، يُمكن طرح سؤال آخر: هل من الممكن للطرفين الإعلان عن هدنة أو توقف العمليات؟ أعتقد جازماً أن الجواب هو لا، فالجانب الفلسطيني تكبّد خسائر كثيرة في الأرواح، من الأبرياء والمدنيين، وكذلك من البنية التحتية والمنتسبين للفصائل المسلحة، أو لنقل إن غزّة مُدمّره ومُبادة. وتلقت إسرائيل ضربة كبيرة على غير صعيد، الهيبة والمكانة والرهائن والقتلى، وهل استمرار الحرب سيُنسي الإسرائيليين ملفات الفساد والفشل الاستخباراتي وحجم الخسائر في الأرواح ومشهد المدنيين وهم يهيمون في صحراء النقب خوفاً وهرباً؟ أعتقد جازماً أن الناس والمجتمع المحلي لن يغفرا لكلا الطرفين ما فعلاه، ولن ينسوا ما تعرّضوا له من نيران الطرف الآخر، وكلا الطرفين يبحثان عن حسم نهائي، أو أنهما سيفقدان الكثير من أحجامهما الشعبية على صعيد القيادات وأدوارهم في هياكل إصدار الحكم وصناعة القرار، من دون القول إن “حماس” ستنتهي فكرةً، أو أن إسرائيل ستزول من الخريطة.
——————————-
يدفعون إلى العنف ويدينونه/ راتب شعبو
01 نوفمبر 2023
بعد إدانة قتل المدنيين، وإدانة كل أنواع الجرائم التي يرتكبها هذا الطرف أو ذاك، والكلام عن الردود المتناسبة وغير المتناسبة … إلخ، يبرُز سؤال تلقائي: لماذا الإلحاح الشديد على هذه الإدانات، والسكوت التام عن إدانة انتهاك مستمر لحقوق صريحة يعرفها ويقر بها المجتمع الدولي منذ عقود، ويعرف الجميع أنها مصدر (ووقود) الانتهاكات الحالية التي لا يكفّ العالم عن المطالبة بإدانتها؟
ما يجري في الواقع يتجاوز هذا السؤال البسيط المتكرّر. يتم استخدام إدانة قتل المدنيين الإسرائيليين (من الحقّ إدانة قتل المدنيين) ليس فقط من أجل تبرير قتل أضعاف مضاعفة من المدنيين الفلسطينيين، بل أيضاً، وهو الأهم، من أجل تمرير واقع انتهاك الحقوق الوطنية الصريحة للشعب الفلسطيني وتكريسه. هذا هو أخطر ما يجري، وهذا ما يجعلنا نقول إن الإلحاح الشديد على إدانة قتل المدنيين الإسرائيليين بوجه خاص (يكتفي الغرب الرسمي بإبداء الأسف، ولا يدين قتل المدنيين الفلسطينيين في القصف الإسرائيلي على غزّة)، لا يصدُر عن حرصٍ على المدنيين، بقدر ما يصدُر عن حرصٍ على محو حقوق وطنية، وإخفائها وراء دخانٍ كثيفٍ يُثار حول عملية 7 أكتوبر التي نفّذها مقاتلو حركة حماس، وراح فيها مدنيون إسرائيليون.
يسير المنطق السياسي السائد في الغرب حيال ما يجري في فلسطين اليوم في الواقع عكس المنطق، فبدلاً من اعتبار أن العدالة هي الأساس الذي يُبنى عليه السلام، ومن شأنه أن يفكّك تشكيلات العنف، يذهب إلى اعتبار أن القوة الكاسحة (قوة الجيش الإسرائيلي مسنوداً بأقوى الاقتصادات وأقوى مصانع الأسلحة وأقوى الجيوش في العالم) يمكن أن تبني سلاماً على جثة العدالة، على غرار حروب المستوطنين الأميركيين ضد الهنود الحمر. غير أن هذا المنطق الإجرامي، لسوء حظ أصحابه، لا يمكن تطبيقه في القضية الفلسطينية التي لها مكانة مهمة لدى شعوب واسعة، تشمل ليس فقط الشعوب العربية، بل وغالبية المسلمين في العالم. ما يعني أن هذه القضية غير قابلة للموت، وأنه لا يمكن حلها بالقوة بل بالعدل.
يمكن لكاتب عربي بارز مثل الطاهر بن جلون أن يكتب، في دورية فرنسية، تماشياً مع الموجة الغربية الكاسحة لإدانة عملية طوفان الأقصى وعزلها عن كامل سياق الصراع، إن القضية الفلسطينية ماتت في 7 أكتوبر. أي أن الانتهاكات التي جرت في هذا اليوم بحقّ أفراد مدنيين إسرائيليين، وهي ممارسات مدانة بحد ذاتها من غالبية الناس، تلغي الانتهاكات الإسرائيلية التي سبقتها وتلتها، وتجعلها منسيّة، وهي انتهاكات بحقّ شعبٍ كامل، كما تجعل قضية هذا الشعب تموت. ولكن يمكن لأي متابع أن يقول إن العالم يفكّر في الموضوع الفلسطيني اليوم أكثر مما كان يفكر فيه قبل عملية طوفان الأقصى. وهذا الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، يعيد العملية إلى سياقها، حين يصرّح بأن هجمات حماس لم تأت من فراغ. ويتذكّر معظم سياسيي العالم القرارات الدولية الخاصة بفلسطين، ويفكّرون في أسباب فشل اتفاق أوسلو … إلخ. وفي المحيط العربي، يلغي زعماء عرب لقاء قمّة مقرّراً مع الرئيس الأميركين بايدن، خلال زيارته التضامنية مع إسرائيل، ويرفض زعماء دول عربية وإسلامية توقيع بيان مشترك لا يطالب بوقف القصف على غزّة، وذلك كله تحت ضغط حراك شعبي واسع لدعم غزّة.
يقول هذا كله إن الموضوع الفلسطيني بعد “طوفان الأقصى” هو أكثر حياةً مما كان عليه قبلها، وذلك على عكس الكلام عن موت القضية الفلسطينية. صحيحٌ أن الاهتمام بالموضوع الفلسطيني اليوم ثمنه دم فلسطيني غزير وآلامٌ مهولة، لكن من يراقبْ يرَ أن مسيرة الإجرام الإسرائيلي المتمثلة في القمع والقتل والتضييق والحصار والمصادرات والتوسّع وتفتيت المناطق وتقطيعها كي لا يبقى مكان للكلام عن دولة فلسطينية … إلخ، كانت متواصلة ولا تكفّ عن تغيير الواقع بصورة يومية في اتجاه تمويت القضية الفلسطينية، مدعومة بتفوّق هائل في القوة العسكرية والاقتصادية، قياساً على ما يملكه الفلسطينيون، من دون أي إدانة أو ردّ فعل عالمي مؤثر.
من يراقبْ يرَ أن العالم لا يتوقّف للنظر في الموضوع الفلسطيني إلا عقب عملية فلسطينية. وقد مالت العمليات في الفترة الأخيرة إلى أن تكون فردية في مناطق الـ48، مثل عمليات الطعن أو الدهس. وهذا في حقيقته تعبير عن يأس المظلوم، وليس عن نزوعٍ جُرمي، كما يحاول التيار الرئيسي من الإعلام الغربي تصويره. وفي الضفة الغربية، ظهرت في السنوات القليلة الماضية جماعات مسلحة، مثل كتيبة جنين ومجموعات عرين الأسود، للتأكيد على البندقية، وهذا تعبيرٌ عن فشل اتفاق أوسلو، وعن اليأس من الحلول التفاوضية المجرّدة من قوّة السلاح. الدرس الذي يحشر نفسه حشراً في رأس كل فلسطيني أن المقاومة سبيل التحرّر. “بشرف عرضكم لا تتركوا البارودة”، هذه وصية سريعة بأنفاسٍ لاهثة قالها، قبل حوالي سنة، أحد المقاتلين الفلسطينيين وسط اشتباكه مع قوات الاحتلال، قبل استشهاده بقليل.
إدارة الظهر لحقٍّ منتهك تولّد عند صاحب الحقّ دوافع قتالية، ويمكن له أن يتجاوز في اندفاعه ويأسه أخلاقيات القتال وحتى القيم الإنسانية. نرى هذا ضمن المجتمعات الديمقراطية نفسها. حين تدير الحكومات ظهرها لمطالب المحتجّين مراهنة على تعبهم وتخامد قواهم، يميل بعض المحتجّين إلى تخريب الممتلكات العامة والخاصة بالحرق والتكسير، كي يُرغموا الحكومة على معالجة مطالبهم. وقد حمل هذا السلوك التخريبي هناك اسم “بلاك بلوك”، وبات له منظّرون وأتباع.
لا يختلف الأمر كثيراً هنا، لا غرابة في أن تخرُج من الشعب المظلوم والمنتهكة حقوقه من دون أمل باستعادتها بالسياسة، مجموعات “انتحارية” لا تبالي بحياتها، كما لا تبالي بالعالم وحساسياته. المفارقة أن هذه المجموعات التي يدينها أصحاب القوّة العالمية بأشد العبارات، وحدها التي تجعل العالم يعيد التفكير في سلوكه تجاه الشعب الذي خرجت منه هذه المجموعات. العالم الحالي المنحاز للأقوياء والضعيف الحساسية تجاه حقوق الضعفاء إنما يعمل، في تواطئه مع مغتصبي الحقوق، على بروز الجماعات العنفية التي لا يكفّ عن إدانتها.
—————————–
إيران و7 أكتوبر: ورطة أم فرصة؟/ مروان قبلان
01 نوفمبر 2023
تناول مقال الأسبوع الماضي (25/10/2023) موقف إيران من عملية طوفان الأقصى التي نفّذتها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) يوم 7 الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول). وأشار إلى أن أغلب التقديرات تذهب إلى أن إيران لم يكن لها دور في العملية، وأنها، شأن الجميع، فوجئت بها، لا بل حاولت أن تنأى بنفسها عنها خوفًا من تحميلها مسؤوليتها، رغم أنها أثنت عليها. نضيف هنا أن “طوفان الأقصى” مثلت بالنسبة لإيران فرصة حاولت استثمارها، من جهة، لتأكيد نفوذها في المنطقة. وسعت، من جهة ثانية، لتقديم نفسها جزءا من الحلّ عبر عرض وساطتها لحل قضية الأجانب المحتجزين لدى “حماس”. لكن عملية 7 أكتوبر مثلت أيضا اختبارا جدّيا لموثوقية إيران حليفا، ذلك أنه كان يتوقع منها أن تفعل شيئًا أبعد من مجرّد إلقاء الخطب الرنانة أو إصدار التهديدات الكلامية تنفيذا لاستراتيجية “وحدة الساحات” المتفق عليها بين أعضاء “محور المقاومة”.
بالمثل، جاءت عملية طوفان الأقصى بنتائج متفاوتة بالنسبة لإيران، فهي من جهة أوقفت، أو جمّدت على الأقل، مسار مداولات التطبيع بين السعودية وإسرائيل، وكان هذا هدفا رئيسًا لإيران في المرحلة الماضية، وهو الذي دفعها أخيرا، على الأرجح، إلى التقارب مع السعودية، برعاية صينية، على أمل قطع الطريق على اتفاق سعودي- أميركي- إسرائيلي. لكن العملية العسكرية لحماس أوقفت، من جهة ثانية، مسار التقارب الإيراني – الأميركي، أو جمّدته، فيما كان يمكن المضي به بعد صفقة تبادل السجناء والإفراج عن ستة مليارات دولار من الأموال الإيرانية المجمّدة في كوريا الجنوبية. وكانت تقارير تحدّثت عن اجتماع مرتقب بين كبير المفاوضين في ملفّ إيران النووي، محمد باقري كني، ومسؤول الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي الأميركي، بريت ماغورك، في سلطنة عُمان لمتابعة المفاوضات بشأن برنامج إيران النووي.
أجهضت عملية 7 اكتوبر هذا المسار، ورفعت مستوى التوتّر في العلاقة مع الولايات المتحدة بعد سلسلة من الهجمات (23 هجوم بين 17 – 30 أكتوبر/ تشرين الأول) شنّتها جماعات محسوبة على إيران على مواقع أميركية في سورية والعراق، ردّت عليها واشنطن برسالةٍ بعث بها الرئيس بايدن إلى المرشد الإيراني، يحذّره فيها من استمرار تلك الهجمات، وبأن واشنطن سوف تردّ بقوة أكبر على أي استهداف لقواتها في المنطقة. دفعت العملية أيضا إدارة بايدن، الواقعة تحت ضغوط داخلية شديدة، واتهامات بأن مقاربتها للعلاقة مع إيران شجعت الأخيرة على تحدّي المصالح الأميركية في المنطقة، إلى تعزيز نظام العقوبات على طهران. ويناقش مجلس النواب الأميركي حاليا مشروع قانون يهدف إلى التضييق على صادرات النفط الإيرانية إلى الصين، والتي كانت تتغاضى عنها واشنطن لأسباب عديدة، منها تحقيق الاستقرار في أسواق النفط في ظل تشدّد السياسة النفطية للسعودية واستمرار التزامها باتفاق “أوبك بلس” مع روسيا، والقاضي بتخفيض الإنتاج لرفع الأسعار. وكانت صادرات إيران من النفط إلى الصين ارتفعت من 340 ألف برميل عام 2020 إلى مليون ونصف برميل عام 2023. وسوف يتغيّر هذا الوضع. وهناك أخبار عن مصادرة البحرية الأميركية ناقلة نفط إيرانية تحمل 800 ألف برميل، تصل قيمتها إلى 60 مليون دولار. ويخطّط النواب الجمهوريون لتشريع قانون يسمح باستخدام أموال إيران المجمّدة لتمويل صندوق تعويضات لضحايا هجمات إيرانية من الأميركيين.
فوق ذلك، وضعت الحرب الإسرائيلية على غزّة إيران أمام خياراتٍ صعبة، فإن هي أشاحت بنظرها عنها، فهذا يعني ترك “حماس” تواجه مصيرها وحدها في مواجهة آلة عسكرية إسرائيلية غاشمة، ما يعني أن إيران تخاطر بخسارة حليفٍ مهم من جهة، وقد يشجّع ذلك إسرائيل على الاستفراد بحزب الله لاحقا، كما استفردت بحركة حماس، من جهة ثانية. أما إذا دفعت إيران حزب الله إلى التدخل لمساعدة “حماس”، فهذا يعني أنها تخاطر بتوجيه ضربة له، في ظل دعم أميركي كامل لإسرائيل، من دون أن يكون لديها القدرة على فعل الكثير لمساعدته. وهذا يعني عمليا أن إيران تصبح مكشوفة، في نهاية المطاف، بعد ضرب حلفائها، فضلا عن فقدان مصداقيتها كحليف، بعد أن خذلت حلفاءها، وحاولت أن تنجو بنفسها… كيف تخرُج إيران من هذه الورطة من دون خسائر كبيرة؟ سؤال تصعب الإجابة عنه.
————————–
وكان الطوفان فهل من حلّ؟/ عبد الباسط سيدا
31 أكتوبر 2023
عادت القضية الفلسطينية إلى واجهة الاهتمامات الكبرى المحلية والإقليمية والدولية، بعد عملية “طوفان الأقصى” التي نفذها الذراعان العسكريان لكل من حركتي حماس والجهاد الإسلامي في 7 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري. فبعد تجذّر الانشقاق الفلسطيني، واعتماد الدول العربية أسلوب التطبيع الثنائي مع إسرائيل، وهو الأسلوب الذي كانت الأخيرة تفضّله، وتطالب به دائماً، إلى أن تمكّنت من فرضه بأساليب مختلفة (منها التأشير إلى الخطر الإيراني) على سائر الدول العربية التي طبّعّت العلاقات معها.
ومع انشغال غالبية الدول العربية بقضاياها الداخلية، ومعاناتها من الصراعات البينية، وحتى من الصراعات الإقليمية والدولية، كما سورية مثلاً، إلى جانب تمركز اهتمام العالم على الحرب الروسية على أوكرانيا وتفاعلاتها، والتسابق الأميركي الصيني إلى مفاتيح السيطرة، وضبط التوازنات في منطقة الشرق الأقصى.، وذلك تحسّباً لاحتمالات المستقبل في ضوء المنافسة الشديدة على التكنولوجيا والتجارة والطرق التجارية والأسواق ومصادر الطاقة الأكثر أهمية.
بناء على كل ما تقدم، اعتقد الجميع أن القضية الفلسطينية باتت جزءاً منسيّاً من ملفات الحرب الباردة، وأن إسرائيل، بوجهها اليميني المتشدّد، تمكّنت من حسم الأمور عبر ترويج زعم مفادُه بأن حقّ الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة، وعاصمتها القدس الشرقية، وذلك بموجب قرار مجلس الأمن 242 عام 1967، بات مجرّد وهم من الأوهام المستحيلة التحقّق بعد إغراق الأراضي الفلسطينية بموجب القرار الأممي المشار إليه بالمستوطنات التي غدت أشبه بالمعسكرات، يفرض سكّانها سيطرتهم على أرض ليست لهم بقوّة السلاح والقانون الأساسي الإسرائيلي الذي يعتبر إسرائيل دولة يهودية، مع اعترافٍ خجولٍ بحقوق المكوّنات المجتمعية الأخرى، سواء الثقافية أم الإدارية، ولكن بشروط صارمة تحدّدها السلطات الإسرائيلية.
ما حصل بعد عملية طوفان الأقصى إدراك الرأي العام المحلي داخل إسرائيل وفلسطين، وداخل كل دول عربية، إلى جانب الرأي العام الإقليمي والدولي، حقيقة وجود قضية فلسطينية لا يمكن أن تستقر الأمور في المنطقة من دون معالجتها، إلى جانب قضايا أخرى تخصّ مجتمعات المنطقة ودولها، لا سيما بعد التدخّلات الإيرانية المستمرّة الهادفة إلى زعزعة الأمن والاستقرار في مختلف أنحاء الإقليم، تمهيداً للأرضية أمام التمدّد والتوسّع، اعتماداً على الأذرع المليشياوية التي شكّلها النظام الإيراني من القوى المحلية، بالإضافة إلى تلك التي جلبها وأدخلها إلى دولٍ في الإقليم تحت يافطات مذهبية.
ولكن الأسئلة التي تفرض ذاتها بخصوص “طوفان الأقصى”: هل كانت هذه العملية بموجب اتفاق وتنسيق كاملين متكاملين بين حركتي حماس الجهاد الإسلامي من جهة والقيادة الإيرانية ومعها حزب الله من جهة أخرى؟ هل أرادت “حماس” بهذه العملية تحريك الأجواء عبر إعادة خلط الأوراق، خصوصا بعد بروز مؤشّرات لحصول تطبيع في العلاقات بين السعودية واسرائيل؟ وكان من شأن هذا الأمر، في حال تحققه، التضييق على الماكينة الإعلامية الإيرانية التي اتخذت من شعارات تحرير الأقصى، ومناصرة الحقوق الفلسطينية؛ وسيلة لتصوير إيران قوة إقليمية قادرة على اختراق الحدود البرّية والبحرية وحتى الجوية لدول المنطقة، وإيصال الأسلحة والتقنيات إلى “حماس” و”الجهاد الإسلامي”، ودعمهما في عمليتهما، على أن تعرض لاحقا خدماتها للحدّ من التوتر والتصعيد، وحتى المساهمة في جهود إطلاق سراح الرهائن – الأسرى من العسكريين والمدنيين الإسرائيليين، والمدنيين ممن يحملون جنسياتٍ مزدوجة، أميركية وأوروبية غربية، وهي الجهود التي تضطلع قطر بدور محوري فيها، بناء على توافق سائر الأطراف، بمن فيهم الأميركان، وذلك في مقابل التساهل معها (مع إيران) في ملفّات أخرى تخصّ دورها الإقليمي مستقبلاً، ومنظومتها الصاروخية، وحتى ملفّها النووي، أم أن “حماس” استغلّت الدعم الإيراني لها الذي كان مخصّصاً لإيصال رسائل إيرانية تحريكية من حين إلى آخر إلى إسرائيل، في هيئة قصف صاروخي غير مجدٍ، أو القيام بعمليات إبهارية إعلامية في المقام الأول، لتكون من بين نقاط دعم الموقف على طاولة المفاوضات مع الولايات المتحدة والقوى الغربية ومعها إسرائيل، وقامت “حماس” بعملية نوعية لحسابها الخاص؟ هذا رغم ما رافق العملية المعنيّة من أحداث وصور وأخبار أساءت إلى “حماس” كثيراً، ودعمت الرواية الإسرائيلية التي تبنّتها الولايات المتحدة ومعها الدول الأوروبية الغربية الأساسية. هل أرادت “حماس” بعمليتها تسليط الأضواء مجدّدا على القضية الفلسطينية، وتأكيد أولويتها، وإبراز دور الحركة وأهميتها في الوسط الفلسطيني والأوساط العربية، ومحاولة تحريك الرأي العام الغربي عبر المظاهرات والاحتجاجات؟
ولعل ما صرح به الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس عن التقصير في معالجة القضية الفلسطينية، يعكس وجهة نظر كثير من القوى الشعبية والسياسية، وآراء الباحثين المتابعين لتطورات القضية الفلسطينية، والمطّلعين على جذورها وأبعاد الخلاف الإسرائيلي الفلسطيني، ومظاهره المسلحة والقمعية، هذا إلى جانب السياسات التمييزية التي ترهق الفلسطينيين، سواء في الضفة الغربية أم في غزّة وفي القدس وغيرها من المناطق الفلسطينيّة الخاضعة لسلطات الاحتلال بموجب توصيفات الأمم المتحدة.
ومهما كانت مضامين الأجوبة عن الأسئلة المطروحة، وبغض النظر عن التحليلات الكثيرة التي قدمت منذ انطلاقة العملية (قبل نحو ثلاثة أسابيع)، لن تعود الأمور على صعيد التعامل مع القضية الفلسطينية إلى سابق عهدها، فهذه القضية غير قابلة للوأد، على نقيض ما تصوره كثيرون، حتى من بين أشد المناصرين للحقوق الفلسطينية، وإنما هي قضية تخص ملايين الناس من الذين تعلّموا من كيسهم إذا صح التعبير، وأدركوا أن التمسّك بالأرض هو المدخل الضامن لتثبيت الحقوق؛ هذا بالإضافة إلى المستوى التعليمي المتقدّم الذي يتمتع به الجيل الفلسطيني الجديد، فضلاً عن الوعي الثقافي الرفيع بفضل وجود نخبٍ متميّزة في مختلف الميادين الأدبية والفنية. ومن شأنه ذلك كله ترسيخ الهوية الفلسطينية الوطنية بين الأجيال الشابة والمقبلة التي يزداد حجمها العددي، إلى جانب التنامي النوعي في مستوى وعيها بنسبٍ تفوق كثيراً ما يحصل في المجتمع الإسرائيلي؛ وهذا معناه ضرورة التوصل إلى حلولٍ واقعية توافقية في أي سعي جاد يرمي إلى قطع الطريق على حروبٍ مستقبلية ستكون بالتأكيد ما لم يتخلّ السياسيون الإسرائيليون عن الاعتقاد الذي يقوم على استدلال زائف، فحواه أن عاقبة التجاهل والإهمال أو عدم الاعتراف بالمشكلة ستتمثل في نسيانها ومن ثم إلغائها أو زوالها.
الحلّ الشامل في وقتنا الحالي للقضية الفلسطينية هو من باب التمنيّات البعيدة المنال، لكونها قضية كبيرة ومعقدة، ومصحوبة بالعواطف القوية، وتعاني من الجروح المزمنة الملتهبة، ومحمّلة بأبعادٍ دينيةٍ اعتقاديةٍ قوية التأثير. وفي المقابل، هناك إمكانية لتجزئة المشكلة إلى جملة مشكلاتٍ أصغر، ومحاولة تقديم الحلول الواقعية لكل مشكلةٍ بمفردها، إذا امتلكت الأطراف المعنية الإرادة، وأكّدت قدرتها على اتخاذ القرارات السياسية الصعبة وقت اللزوم ورغبتها في ذلك، عوضاً عن اللجوء إلى القتل والتدمير والتهديد بمزيد من الخراب. فإلى جانب اقتراح حلّ الدولتين، الذي نص عليه قرار مجلس الأمن 242، وهو مشروع الحل المعتمد دولياً وعلى المستويين العربي والإسلامي، يمكن أن تبحث في أوضاع الأماكن المقدّسة لجان مهنية محلية ودولية مشتركة، تضم باحثين ضليعين مطّلعين على التفاصيل الخاصة بتاريخ تلك الأماكن وحاضرها، كما تضم رجال دين معتدلين يمثلون الديانات السماوية الثلاثة من المطالبين بتحسين قواعد العيش المشترك بين اليهود والمسلمين والمسيحيين، بالإضافة إلى سياسيين يبحثون عن الحلول، لا إثارة المشكلات لاستغلالها في مشاريع شعبوية. ويمكن الاستئناس في هذا المجال بما ورد في قرار التقسيم، وبآراء المختصّين من الدول العربية والإسلامية، وممثلين عن الفاتيكان والكنائس الأرثوذكسية.
وعلى صعيد آخر، يمكن إيجاد صيغة أو صيغ إدارية مناسبة لتأمين ربط انتخابي بين الفلسطينيين الذين يعيشون في المناطق التي اعتبرت جزءاً من إسرائيل بموجب قرار التقسيم والفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزّة، وفلسطينيي الشتات، أو الاستمرار في الصيغة الحالية التي تعتبرهم جزءا من الدولة الإسرائيلية، واعتماد القواعد التي تبّدد هواجس الطرفين، وتضع أسساً لتعزيز الثقة، وتلتزم بآلية واضحة متّفق عليها لحل الخلافات عن طريق المؤسسات وبصورة سلمية. وعلاوة على هذا، يمكن تنظيم الأمور في الميادين الاقتصادية والخدمية والانتقال السلس للعمال والمزارعين بين الجانبين.
يمكن تناول كل هذه المسائل وغيرها، وهي قابلة للعلاج بالحلول الواقعية الممكنة، شرط توفر الإرادة والرغبة لدى الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، على قاعدة الالتزام بالقرارات الدولية، وعدم الاستهتار بها من هذا الجانب أو ذاك. ويوجب ذلك كله توحيد الموقف الفلسطيني، واختيار قيادة شرعية عبر انتخابات نزيهة شفّافة بإشراف دولي وعربي، الأمر الذي سيضع حدّاً لمسألة التشكيك في الشرعية أو ادّعائها من هذه الجهة أو تلك، لتأتي بعد ذلك الخطوة التالية، أي ضرورة تأمين موقف عربي قوي مساند وداعم للحقّ الفلسطيني.
تبقى كل هذه الآراء في إطار التمنّيات ما لم تهدأ المعركة المستعرة ويتم إطلاق سراح جميع الرهائن والمعتقلين لدى الجانبين كبادرة حسن نية تؤكّد وجود رغبة حقيقية لدى الجهتين في التوصل إلى حلٍّ مستدامٍ يكون في صالح الطرفين وصالح الأمن والاستقرار في الإقليم كله، الأمر الذي سيفتح الآفاق أمام مزيدٍ من الفرص للعيش الحرّ الكريم لشعوب المنطقة وأجيالها المقبلة.
——————————-
إدانة الجرائم بحقّ الإنسانية موقف أخلاقي/ سوسن جميل حسن
31 أكتوبر 2023
عرضت فضائية الجزيرة، قبل نحو عشرين عامًا، استطلاع رأي مرتجلا في بعض المدن العربية، شمل عيّنات من الشباب في الشوارع والمجمّعات التجارية، قام على سؤال وحيد: ماذا تعرف عن نكسة حزيران؟ كانت الردود الصادمة، في غالبيتها الساحقة، صمتا واستغرابا وتلكؤا أمام سؤال غريب لأنهم لم يسمعوا بتلك النكسة. كان هذا قبل شيوع وسائل التواصل الاجتماعي، وفي بلدانٍ عربيةٍ لا تصنّف بأنها مما تسمّى “دول المواجهة”.
الوضع اليوم مختلف، لم يعد هناك حدث يمكن أن يقع في أي بقعة من الأرض، إلّا وتصل الأخبار والصور والمشاهد الحية عنه في الدقائق الأولى لوقوعه، فكيف بحربٍ كالتي تشنّها إسرائيل على قطاع غزّة؟ لقد تحرّكت الشعوب في الدول العربية وفي عواصم ومدن عديدة تطالب بوقف الحرب، بحماية المدنيين، بحماية الأطفال، بفكّ الحصار، وتجاوزتها إلى شعار جامع يردّده المتظاهرون “الحرّية لفلسطين”، وهذا مؤشّر طيب، يبشّر بأن هناك وعيًا بدأ يتشكّل حول قضية شعبٍ يعاني من الاحتلال والتهجير والتشريد وشنّ الحروب، ومحاولات محو الهوية، وبدأ الاهتمام بها.
غالبية المتظاهرين في العالم من جيل الشباب، هذا عدا الفيديوهات التي تتدفّق بغزارة على “يوتيوب” ومنصّات التواصل المختلفة، ينتمي قسم كبير من معدّيها إلى جيل الشباب، ولهذا دلالاته الإيجابية، فما يحصل اليوم في العالم من حروب وأزمات في الدول وفي الاقتصادات الكبيرة، وينعكس على حياة الشعوب، جعل جيل الشباب يطرح أسئلته الخاصة، بل دفعه إلى تحطيم يقينيّاته التي نشأ عليها، والسرديات التي تشربها بواسطة الثقافة السائدة في محيطه برعاية الأنظمة المسيطرة، سياسيًّا كان أو اجتماعيًّا أو حتى دينيًّا، وراح يتقصّى الحقائق، مدفوعًا بقيم نشأ عليها، وطالما سعت تلك الأنظمة إلى رفعها عنوانًا يحمل قيم العدالة والحرية والمساواة وحقوق الشعوب والأفراد، بينما أظهر الواقع ازدواجية المعايير عندما تعلق الأمر بالحرب على غزّة، وأن التحالفات دائمًا تتبع المصالح في صراعها على سيادة العالم ولو بالقوة.
في الوقت نفسه، نرى أن فاتحة أي نقاش أو تحليل لما يجري في غزّة، في العالم الغربي بشكل صريح، وفي معظم الدول العربية بشكل موارب، هو إشهار النيّات بإعلان الموقف تجاه ما قامت به حركة حماس في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، ليكون الموقف المعلن، أو المفنّد، عتبة الدخول إلى نقاش وقائع الميدان، وما يقترف من جرائم بحق الإنسانية.
من الطبيعي أن يكون هناك خلافٌ بشأن ما قامت به “حماس”، فالشارع الفلسطيني منقسمٌ منذ أول خلاف نشأ بين الطرفين بعد قيام السلطة الفلسطينية في العام 1994، وانضواء قطاع غزّة تحت سلطتها، إذ تعمّقت الفجوة بين السلطة و”حماس”، ونفّذت السلطة حملات اعتقالات واسعة تركّزت على قيادات حركة حماس وعناصرها وجهازها العسكري، خصوصا الحملة الكبيرة في فبراير/ شباط 1996 عندما قامت الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة بأوسع حملة اعتقالات ضد عناصر حركتي حماس والجهاد الإسلامي في الضفة الغربية وقطاع غزّة استمرّت عدة أشهر، تبعها اعتقال قيادات في “حماس”، في مقدمتهم محمود الزّهار وأحمد بحر وغازي حمد وإبراهيم المقادمة. إلى أن قامت انتفاضة الأقصى في العام 2000، فاتحد الفلسطينيون حولها ضد الاحتلال، وفتحت أبواب الحوار الداخلي برعاية مصر وانتهى باتفاق القاهرة بين الفصائل في مارس/ آذار 2005.
وفي العام 2006 جرت الانتخابات التشريعية الثانية الفلسطينية، شاركت فيها “حماس” للمرّة الأولى، وفازت بأغلبية المقاعد في المجلس التشريعي، ما لم ترضَ عنه السلطة أو حركة فتح، شكّلت الحركة حكومتها برئاسة إسماعيل هنيّة، وكل ما تلا ذلك معروف، ومعروفة الخلافات التي وصلت إلى حد المواجهات والاغتيالات أحيانًا، وماثل في البال احتلال إسرائيل لها، والحروب التي شنّتها منذ ذلك التاريخ، مضافة إلى حروبها السابقة.
يقابل هذا الانقسام بالتوازي انقسام بين الأنظمة العربية أيضًا، بين مؤيّد نهج “حماس” في المقاومة ومؤيد لسياسة السلطة في الضفة، هذا معروف، بل إن دولا عربية عديدة اتخذت لنفسها مسارات أخرى، وذلك بالتطبيع مع إسرائيل، تزامن هذا الحراك السياسي، وتوالي التطبيع والعلاقات مع إسرائيل مع اشتعال المنطقة العربية في أكثر من منطقة بما سمّي الربيع العربي، والحروب التي اشتعلت من دولةٍ إلى أخرى، اليمن، سورية، ليبيا، تونس المتعثرة، العراق قبلها، السودان، وقبلها الجزائر، ما جعل القضية الفلسطينية تنزاح بعض الشيء إلى هامش المشهد.
أمّا ما يحصل اليوم من إجرام إسرائيلي بحقّ سكّان قطاع غزّة، وبحقّ فلسطينيي الضفة الغربية والمخيمات فلا يمكن وضعه في الميزان نفسه، لا قيمة لتفنيد ما قامت به “حماس” أمام ما يحصل، مهما اختلف بعضهم معها، ولا يوجد تناسبٌ بين الفعل وردّة الفعل، لقد ذهبت المشكلة إلى ساحة أخرى. ما يحصل يرقى إلى إبادة شعب، فالدمار الذي يقع بالغارات المتلاحقة منذ اليوم الأول شمل أكثر من نصف أبنية القطاع ومرافقه العامة وبنيته التحتية ومشافيه ومراكز الإيواء والمراكز الصحية وغيرها، وحصد خلال فترة قصيرة ما يقارب تسعة آلاف شخص جلهم من الأطفال والنساء وكبار السن، عدا المفقودين، وهجّر الباقين على حافّة الموت المحدق بحياتهم إلى مناطق أخرى لاحقهم القصف إليها.
كيف يقبل إنسانٌ يعيش في هذا العصر، عصر الحقوق الإنسانية التي تتبجّح بها أنظمة العالم “المتحضّر”، أن يُنظر إلى شعبٍ على أنه مجموعة من “الحيوانات البشرية” غير جديرة بالحياة، ما يبرّر إبادتها؟ أم أن النزعة الاستعلائية ما زالت في وجدان هذا العالم، عندما اقتاد المستعمرون الإنكليز “عيّنات” من “الحيوانات البشرية” من السكان الأصليين لأميركا، وعرضوهم في أقفاص أمام شعوبهم؟
إبادة ممنهجة لبذور الحياة، تستهدف النساء والأطفال، هل يفهم العالم هذه المعادلة البسيطة للأم الفلسطينية؟ الأم التي ترهن حياتها من أجل إنجاب الشهداء، لا تقوى على أن تعيش أمومتها وتفرح بضناها، الأم الفلسطينية مرهونةٌ لواجب الولادة كي لا ينقرض شعبها المظلوم، عندما نعرف أن هناك خمسين ألف حامل في القطاع اليوم، وأن خمسة آلاف منهن على أبواب الولادة خلال أيام، وأن ما ينتظر هؤلاء المواليد، وفقًا للجرائم التي ترتكب، هو الموت. نفهم لماذا يولد طفل في غزّة كل عشر دقائق، فلو حسبنا عدد الضحايا من الأطفال والمفقودين منهم، لفهمنا المعادلة، إذ يقتل كل عشر دقائق طفل، وكل ربع ساعة امرأة.
الموقف مما يجري في غزّة واجب أخلاقي إنساني، وليس موقفًا سياسيًّا، هذا ما يدفع الشعوب إلى التظاهر في مدن كثيرة. السياسة تأتي لاحقًا، لو كانت الحكومات المتلاحقة منذ النكبة في 1948 في الدول العربية، منتخبة فعليًّا من شعوبها، ولو أنها كانت تعمل لأجل شعوبها، ولم تمارس طغيانها وإقصاء الشعب عن صنع القرارات والسياسات، هل كانت قضية فلسطين وصلت إلى كل هذا الاستعصاء؟ هل كانت مساراتها ربما اتخذت احتمالات أفضل؟ وهل كانت الشعوب ترزح، في بعضٍ منها، تحت مقصلة الرقيب فيما لو انتفضت لتصرخ في وجه الحرب والغطرسة الإسرائيلية والصمت العربي؟
——————————-
بادانتير من إلغاء حكم الإعدام إلى إعدام شعب/ سلام الكواكبي
29 أكتوبر 2023
سجّل التاريخ الفرنسي الحديث اسم المحامي روبير بادانتير كالانسان الذي عمل على إلغاء حكم الإعدام في فرنسا إبّان الولاية الرئاسية الأولى لفرانسوا ميتيران في 17 سبتمبر/ أيلول 1981، التزامًا بوعد ميتران نفسه إبّان حملته الانتخابية. وقد شهد البرلمان الفرنسي مرافعة المحامي بادانتير، والذي اختاره ميتران وزيرًا للعدل بين عامي 1981 و1986، لإعلان هذا التحوّل التاريخي الذي، وإن استُفتي العامة عليه، فلن يحصل على إجماع الرأي حوله. وقد شكّلت مرافعته درسًا تاريخيًا في الديمقراطية، حيث ارتباطها أساسًا بحقوق الإنسان، وليس، بالضرورة، حصر ارتباطها بالتصويت وصناديق الاقتراع. وكذا، أثبتت هذه الواقعة بأنه مطلوبٌ من القائمين على صياغة القوانين أن يتمتّعوا، ليس بالقدرة التقنية والتشريعية المناسبتين فحسب، بل وأيضًا، بالوعي الإنساني العالي. وفي ما يخصّ العالم العربي، فقد ندّد بادانتير بإعدام الرئيس المخلوع صدّام حسين، لسببين رئيسيين، بأن هذا الإعدام قد حرم العدالة من محاكمة صدّام على جرائم عدّة، وبأنه سيكون سببًا لتأجيج الانشقاق في المجتمع العراقي والرغبة في الانتقام التي ستؤثّر على الاستقرار في العراق.
صار هذا الإنجاز الذي ارتبط باسم روبير بادانتير علمًا في التشريعات الأوروبية التي سرعان ما تبنّته. وصارت أوروبا عمومًا تسكّ القوانين التي تلغي الحكم بالإعدام. وصار لهذا الإلغاء فلسفته القانونية والإنسانية التي طغت على القوانين الوضعية والدينية التي كانت سائدة.
تزوّج بادانتير، والذي ارتبط اسمه بأهم التشريعات ذات الحمولة الإنسانية في القرن العشرين، سنة 1961 من الفيلسوفة المختصة بعصر الأنوار وحقوق المرأة، إليزابيت بلوشتاين. وقد زاولت التدريس، خصوصًا في حقل الإنسانيات. وكباحثة، اهتمّت بالتعمّق في أبعاد الذكورية والنسوية، حيث أضحت رمزًا مهمًا في مجال النضال النسوي على المستويين، الأوروبي والعالمي. ومع تقدّمها بالعمر وبالشهرة، صارت أيضًا من رموز النضال العلماني الذي برز خصوصًا في دعمها منع حجاب الفتيات في المدارس وفي الدفاع عن نشر الرسوم المسيئة للرموز الدينية الإسلامية. وقد طوّرت أدبيات واضحة في نقد تهمة “الرهاب من الإسلام”، مُعتبرةً أنها هرطقة وأسلوبٌ ملتوٍ لرفض العلمانية.
شريكة حياة صاحب أهم التشريعات الإنسانية في القرن العشرين، وفيلسوفة النسوية الأهم على قيد الحياة، خرجت على الإعلام أخيرا لتأييد عمليات القتل الإسرائيلية في غزّة من دون أي تحفّظ. لا ترى السيدة بادانتير، والتي تترأس عدة جمعيات مهتمة بالسلام ونشر قيمه، أي رادع أخلاقي أو إنساني في ما يخصّ قتل المدنيين الفلسطينيين. تبريرها الأساسي، أن ذلك يجري في ظل حقٍ طبيعيٍ في الدفاع عن النفس أمام “إرهاب” المتطرّفين الإسلاميين في حركة حماس، والذين قارنتهم عناصر تنظيم الدولة الإسلامية. وفي حديث متلفز، نوّهت بالبعد الأخلاقي الذي تتمتّع به القوات الإسرائيلية التي تقوم، حسب زعمها، بإعلام المدنيين قبل قصفهم، وتدعو آخرين منهم إلى المغادرة باتجاه مصر وهم يرفضون المغادرة، أو أن “حماس” تستخدمهم دروعا بشرية. وأخيرا، رفضت الدعوة إلى وقف إطلاق النار مقارنةً هذا الطلب بالطلب بوقف إطلاق النار في أوكرانيا، وبالتالي، تتم معاملة المعتدي والمعتدَى عليه بالتساوي. وبالنسبة للسيدة الإنسانية، فالمعتدي هو الفلسطيني. وهاجمت بشدة كل أشكال التضامن مع غزّة ومدنييها، لأنها تعتبر أن هذا الموقف يُخفي تأييدًا لـ”حماس”، لتخلص إلى أنه من أنواع معاداة السامية المتجدّدة.
السؤال هنا: ما الذي يدفع شخصيةً عامة، من هذا المستوى الفكري والانتمائي الرفيع، إلى تبنّي موقف القاتل والمحتل والمستوطن؟ ما الذي يمنع رمز النسوية الحديثة عن التطرّق، ولو تلميحًا، إلى وجود احتلال منذ عقود مع ما يرافقه من استيطانٍ وتدمير شعبٍ بأكمله؟ ما الذي يحرم شريكة الشخص الذي ارتبط اسمه بأهم القوانين الإنسانية، لتُضحي مؤيدةً إعدام آلاف الفلسطينيين انتقامًا؟ هل مجرد انتمائها، وهي العلمانية الأقرب إلى الإلحاد، الى عائلة يهودية معروفة، وكذا زوجها، مُبرّرٌ كافٍ لهذا الموقف وغير الإنساني والمشوّه للحقائق وللوقائع والمنحاز لدولة الاحتلال التي تقودُها مجموعة من المتطرّفين اليمينيين؟.
يبقى هذا السؤال خطيرا في المفهوم الفرنسي لارتباطه بتابوهات يُسبب التطرّق إليها سيلاً من الاتهامات غير المبرّرة وغير المسندة، وأهمها معاداة السامية. وفي المقابل، يجب ألا يشكّل التهرّب من طرحه، كنعامة تدفن رأسها في الرمال، القاعدة. ولكي ألعب دور محامي الشيطان، أكاد أميل إلى التردّد في اعتماد السبب الوارد أعلاه، لأفضّل عليه موقفًا أكثر ارتباطًا بالإرث الاستعماري والفوقية الحضارية، فقد كان أحد رموز الاشتراكية الفرنسية، جول فيري، يعتبر أن الاستعمار سيرفع من مستوى الحضاري للمسلمين المتخلفين. وقد برز هذا البعد لدى السيدة بادانتير خصوصًا، في تطرّفها في رفض خيارات المرأة المسلمة، واعتبارها مجرّد جارية تخضع لذكوريةٍ مرتبطةٍ بالدين.
في جدل حاد مع شاعر سوري يعتبره بعضهم مهما، وتعليقًا على موقفه الطائفي من الحراك السوري، أجابني بغضب بأنه ملحد فكيف أصفه بالطائفية، فكان جوابي: الإلحاد لا ينفي الطائفية.
سيسجّل التاريخ أن عائلة بادانتير، “الملحدة والطائفية” معًا، تجمع النقيضين: إلغاء عقوبة الإعدام الفردي، والتشجيع على عقوبة الإعدام الجماعي.
———————————
حاشية على ما قالته وزيرتان إسبانية وإماراتية/ عمار ديوب
29 أكتوبر 2023
أعلنت وزيرة الحقوق الاجتماعية الإسبانية بالإنابة إيوني بيلارا موقفاً حادّاً من الكيان الصهيوني، وحثت دول الاتحاد الأوروبي على قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل وفرض الحظر على الأسلحة وعقوبات اقتصادية وتقديم رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو، وجميع القادة السياسيين الذين قصفوا المدنيين في غزّة، إلى المحكمة الجنائية الدولية. ووصفت ما تقوم به إسرائيل بجرائم حرب، وإبادة جماعية مبرمجة، واتهمت الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بتشجيع إسرائيل على ممارسة سياسة التفرقة العنصرية والعدوان. بينما، وعكس ذلك، أعلنت الدول الـ27 الأوروبية في بيان مشترك أنّها تدين حركة حماس، ووصفت هجماتها على إسرائيل بالإرهابية والعنيفة، كما الموقف الأميركي تماماً، ورفضت مجتمعة وقف إطلاق النار والعدوان.
أما وزيرة الدولة والتعاون الإماراتية ريم الهاشمي، فقد قالت في مجلس الأمن إن هجمات “حماس” في 7 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي بربرية وشنيعة، وطالبت الحركة بالإطلاق الفوري وغير المشروط للأسرى. وحين تنعقد أيّة مقارنة، نرى أن تصريحات الهاشمي تتطابق مع اتهامات دول الاتحاد الأوروبي لـ”حماس”، بينما تعدّ تصريحات الوزيرة الإسبانية، الشجاعة، أقوى الأصوات عالميّاً، بل وعربيّاً، لمواجهة الدولة الصهيونية في هذه اللحظة، وهو ما يجب أن تقتدي به الدول العربية، ولا تكتفي بالتنديد بالعدوان والمطالبة بإيقاف النار وضرورة إدخال المساعدات وإنهاء الاحتلال. أي يجب قطع كل العلاقات الدبلوماسية مع دولة الاحتلال، وطرد السفراء من القاهرة وأبوظبي والمنامة وعمّان والرباط. وبالتالي، يصبح مبرّراً، وبسبب همجية الدولة الصهيونية وعنصريّتها وفاشيّتها، ورفضها كل الأصوات المطالبة بإيقاف العدوان وإدخال المساعدات، القيام بقطع تلك العلاقات.
مهم وصحيح رفض الدول العربية التهجير من غزّة والتنديد بالعدوان والتأكيد على ضرورة إنشاء دولة الفلسطينية في الأراضي المحتلة في 1967، كما أكّد وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي، في الجلسة الطارئة للأمم المتحدة، وبيان وزراء الخارجية العرب التسعة. ولكن اتخاذ خطوات سياسية قوية ضد العدوان، وضد الاتحاد الأوروبي والإدارة الأميركية، والتهديد بقطع كل العلاقات في هذه الآونة، هو الضروري، حيث تتشارك الدول الغربية بما يشبه الحلف مع “إسرائيل” في ذلك العدوان، وقد اقترح الرئيس الفرنسي تشكيل حلف دولي ضد “حماس”، وهناك خطة أميركية لتجفيف مصادر تمويل “حماس”! الإدارة الأميركية والاتحاد الأوروبي يرفضان تبنّي قرارٍ دولي من مجلس الأمن بإيقاف العدوان وإطلاق النار وبدء التفاوض أو مؤتمر دولي لحل القضية الفلسطينية، بل وتصرّح الإدارة الأميركية بأن إيقاف إطلاق النار لم يحن موعده بعد. وفي هذا الوقت، تجاوز عدد الشهداء سبعة آلاف، والجرحى 16 ألفاً، وجرى تدمير أكثر من 180 ألف وحدة سكنية.
المشكلة في ضعف الموقف العربي، وهذا ما تعتبره الدولة الصهيونية صكّاً قانونياً باستمرار المذبحة في غزّة، وفي الضفة الغربية، تجاوز عدد الشهداء في أسبوعين المائة. ولهذا لا تجد إسرائيل مبرّراً لتهديد الدول العربية، وتتركّز تصريحاتها ضد إيران ومليشياتها في المنطقة، وبأنها ستعيد لبنان إلى ما قبل العصر الحجري. وتتحدّث بعض الأخبار أنّها هدّدت الرئيس السوري بتصفيته. وما زالت المناوشات مستمرّة بين حزب الله و”إسرائيل”، وسقط له أكثر من 47 قتيلاً، وهناك تقديرات عن إمكانية دخول الحزب الحرب في حال تفاقمت الأمور في غزّة، والمباشرة بالغزو البري الموسع، أو في حال تصاعد الخلاف الأميركي الإيراني، لا سيما أن الخطاب يتشدّد من الجهتين، والرسائل ترسل عبر المناوشات العسكرية في سورية والعراق واليمن.
ولا يعبّر حديث الوزيرة الإماراتية في مجلس الأمن عن موقف الدول العربية، حيث لم تنتقد أي عاصمة عربية حركة حماس أو عملية طوفان الأقصى بشكل مباشر، وظلّت الانتقادات تتعلق برفض مقتل المدنيين من الطرفين. كما أن موقف الوزيرة الإسبانية لا يعبّر عن موقف الدول الأوروبية، لكن التحالف الحاكم في هذا البلد يشارك في التظاهرات في إسبانيا تنديداً بالعدوان الصهيوني، وتتعاظم التظاهرات في أوروبا وأميركا، ويشارك فيها مثقفون وفنانون وسياسيون ضد العدوان ذاته. ويربط التيار الأوروبي والأميركي الرافض للعدوان ذلك بالحصار والاحتلال والاستيطان والاقتحامات المستمرّة للبلدات وللمسجد الأقصى بالتحديد، واعتقال المدنيين وقتلهم، وكذلك بالتمييز العنصري الصهيوني، وضرورة إيقاف العدوان مباشرة. وهناك تيار عربي، محدود، يكرّر الموقف الخاطئ الذي عبرت عنه الوزيرة الإماراتية ريم الهاشمي، ويبالغ في إعلانه بوقاحة، فيتبنّى مواقف الكيان الصهيوني ذاته في اجتثاث “حماس”، ويرى المشكلة الفلسطينية كلّها في “حماس”، بينما الصهاينة والفلسطينيون يفضلون السلامّ!.
لم تكن مشكلة غزّة حركة حماس أبداً، كانت دائماً مشكلة الاحتلال الاستيطاني، ونظام الأبارتهايد في الكيان الصهيوني، وهو بالضبط ما أفشل كل اتفاقيات التطبيع بدءا بمصر، وحتى الاتفاقيات الإبراهيمية، حيث لم يعط الفلسطينيون حقوقهم في أراضي الـ67، وأَفشل بشكل قاطع اتفاقيات أوسلو، حتى أصبحت حكومة رام الله حكومة تنسيقٍ أمنيٍّ لاعتقال المناضلين ورافضي هذا الكيان، وربما لسلطة أوسلو. إن عدم إقامة دولة فلسطينية هو ما منع العرب، وفي مقدمتهم المصريون، من إقامة علاقات طبيعية مع هذا الكيان. ولهذا تخصّ كل اتفاقيات التطبيع الأنظمة، ومن أجل حمايتها، وضد مصلحة الشعوب العربية، وضد الفلسطينيين.
ليس موقف الوزيرة الاسبانية، وكل ما يقول كلامها، أهوج، أو عاطفياً، أو ميّالاً إلى العنف، ويرفض الحل العادل للقضية الفلسطينية أو يفضّل السلاح، أو ليس لديه انتقادات على “حماس”. موقفها دقيق لجهة مواجهة العدوان الحالي؛ ففي لحظة الحروب هناك سياسات، وفي لحظة السلم سياساتٌ أخرى؛ عربياً، هناك ضرورة لموقفٍ رافضٍ للعدوان، وإيقاف كل أشكال العلاقات واتفاقيات التطبيع، وتهديد الإدارة الأميركية والأوروبية بقطع العلاقات الاقتصادية وسحب السفراء مثلاً.
رخصة الإبادة الجماعية الجارية للفلسطينيين، والمعطاة من الإدارة الأميركية والأوروبية تستدعي ما ورد أعلاه، والتأكيد على أن الحل الوحيد للقضية الفلسطينية هو تفكيك دولة الاحتلال وإيجاد حل عادل وديمقراطي للقضية الفلسطينية، للعرب ولليهود بآن واحد. هل هذا منطق طوباوي؟ بالتأكيد لا، ولكن، وفي حال صعوبة تحقيق ذلك، تجب إعادة تأكيد ما اتفقت عليه الدول العربية، أي مبادرة السلام العربية المعلنة في 2002، وهناك عشرات القرارات الدولية لحل القضية، وهناك إعادة تطبيق اتفاقية أوسلو. ومن دون ذلك، يجب السير بقطع كل العلاقات مع الدول الداعمة للكيان الصهيوني، كي يبدأ الاعتراف بالمشكلة، والتفاوض على حلّها.
——————————
روسيا وحماس/ فاطمة ياسين
29 أكتوبر 2023
ورثت روسيا علاقات الاتحاد السوفييتي مع إسرائيل التي شابها بعض الاضطراب، رغم أن الاتحاد السوفييتي قد صوّت بالموافقة على إنشاء دولة إسرائيل في 1948، وافتتحت السفارتان في العام نفسه، ثم قطعت العلاقة بينهما في 1953 بعد تفجير السفارة السوفييتية في تل أبيب وقطعت أيضاً بعد حرب السويس عام 1956، وشهد 1967 آخر مرة تُقطع فيها العلاقات السوفييتية الإسرائيلية، حيث استمرّ الانقطاع على مستوى القنصليات حتى 1987 وعلى مستوى كامل حتى عام 1991، عندما أعاد غورباتشوف العلاقات، وسقط الاتحاد السوفييتي كله بعد شهرين، وورثت روسيا السفارة وما بقي من علاقات. وشهدت التسعينيات أكبر موجة هجرة يهودية من روسيا إلى إسرائيل تجاوزت المليون مهاجر، شكّلوا كتلة سكانية كبيرة ومؤثرة داخل إسرائيل.
بعد الربيع العربي، بدا واضحاً التنسيق بين إسرائيل وروسيا في الحرب السورية. فقد تجاهلت موسكو كل الاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي السورية التي وُجهت أساساً إلى أهداف إيرانية. وبعد هجوم كتائب عزّ الدين القسام التابعة لحركة حماس على منطقة غلاف غزّة في السابع من شهر أكتوبر/ تشرين الأول، شنّ الطيران الإسرائيلي عدّة هجمات على المطارات السورية، حتى خرجت عن الخدمة غير مرّة، وتحولت الرحلات فيها إلى مطار حميميم في اللاذقية. والملاحظ أن هذا المطار لم يحدُث أن تعرّض لأي إغارة إسرائيلية، لا خلال الأزمة الحالية، ولا في أي وقت، منذ تمركزت القوات الروسية فيه. كذلك بقي ميناء طرطوس الذي تمتلك فيه روسيا حقوقاً دولية طويلة الأجل، في منأى عن أي هجوم أو استهداف إسرائيلي، بما يعني أن هناك مستوىً عالياً من التنسيق بين الجانبين، يحافظ على مصالحهما على الأراضي السورية. ورغم الموقف الملتبس لروسيا من الأزمة الحالية الناشئة بين حركة حماس وإسرائيل، استمرّت الأخيرة بأخذ المصالح الروسية بالاعتبار، فبقيت بعيدة عن نقاط السيطرة الروسية في سورية.
يمكن أن تعدّ العلاقات الروسية الإسرائيلية أفضل من التي كانت بين السلطة السوفييتية وإسرائيل، فقد كان السوفييت أكثر اهتماماً بمشاعر العرب، وحرصوا على مجاملتهم في أوقات عديدة بشأن إسرائيل، كذلك شكل التحالف الإسرائيلي الأميركي سبباً آخر لتحجيم العلاقة، بعد أن فشل السوفييت في إيجاد موطئ قدم لهم في إسرائيل، وأُصيبوا بضربة في كبريائهم خلال حرب 1967 عندما رفضت إسرائيل وقف إطلاق النار، فقطع السوفييت العلاقات معها إلى غير رجعة، فيما أصبحت العلاقة بعد الحقبة السوفييتية مع إسرائيل جدّية، وقد تحسّنت كثيراً خلال العصر البوتيني، وتبادل الزعماء الزيارات في مناسبات عدة. وربما وصلت العلاقات إلى عصرها الذهبي في عهد الرئيس الأميركي الأسبق أوباما، لكن الغزو الروسي أوكرانيا فرمل تطوّر العلاقات، فقد سارع وزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك، ليبيد، إلى إدانة الغزو الروسي، وبعدها جرى لغطٌ كبير بشأن تزويد إسرائيل أوكرانيا بمعدّات عسكرية وعربات.
جاء المتغير الثاني بعد عملية “حماس” في غزّة في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، وكأن روسيا ترغب في ردّ الصفعة التي تلقتها عقب أوكرانيا، أو ترغب في توظيف ما حدث لصالحها، فرغم أن بوتين دان هجمات “حماس”، إلا أن مشروع القرار الروسي في مجلس الأمن الذي يدين العنف ويدعو إلى وقف إطلاق النار خلا من ذكرها، فيما يبدو أن روسيا حريصة أكثر على علاقاتها مع إيران التي تقف، بمعنى ما، خلف “حماس”، أكثر من حرصها على إسرائيل. وتُعَدّ إيران داعماً أساسياً وفعالاً لروسياً في الحرب ضد أوكرانيا، وهي تمدّها بالمسيَّرات التي تُستخدم في قصف الأراضي الأوكرانية. لم يبدُ أن التفاهم الروسي الإسرائيلي أصابه العطب في سورية، ولكن اتّساع رقعة المواجهة يمكن أن يجعله في خطر، ولن ترغب إسرائيل، رغم جبهتها المفتوحة مع “حماس”، في أن تشاهد اللاعب الإيراني ينتصر ويتمدّد في سورية.
————————–
مكارثية جديدة للتماهي الغربي مع إسرائيل/ عمر كوش
28 أكتوبر 2023
ليس غريباً ما ساد من حالة تماهي مواقف معظم ساسة الغرب والمسؤولين فيه مع مواقف ساسة إسرائيل وجنرالاتها، في حرب الإبادة الجماعية التي يشنونها ضد الشعب الفلسطيني، وخصوصا في قطاع غزة، لكن الغريب ألا ينحصر هذا التماهي على مستوى السياسة فقط، بل أن يتحوّل إلى مكارثية جديدة، طاولت وسائل الإعلام ومؤسّسات الثقافة وسواهما، حيث راحت تلاحق مناهضي هذه الحرب، في محاولةٍ لإسكات صوت كل من يقف ضدّها، ومنع كل من ينتقد جرائم إسرائيل، وسعيها إلى التهجير القسري لفلسطينيي قطاع غزّة، ووصلت إلى حدّ إصدار قوانين وتشريعات تحدّ من حرية التعبير، وتقيّد من حقّ التظاهر، وبما يهدّد مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، التي لطالما تغنّى بها معظم ساسة الغرب الشعبويون تزلفاً وتدليساً، فيما هم، في حقيقة الأمر، لم يكفّوا عن توظيفها وفق ما تقتضيه مصالحهم، مع أن هذه المبادئ والحقوق هي نتاج نضال مرير وشاقّ، خاضه مفكرون وفلاسفة إلى جانب قوى إنسانية كثيرة، وخصوصا في الغرب الحديث، ضد قوى التسلّط والاستبداد والعبودية، وضد كل مظاهر القهر والقمع ومصادرة الحريات.
لم يكتف مسؤولون وقادة في الغرب بمواقفهم المؤيدة والداعمة لمواقف نظرائهم الإسرائيليين فقط، بل الأدهى أنهم اصطفّوا فوراً خلفهم، ثم تقاطروا سريعاً إلى تل أبيب، وكأنها تحوّلت إلى وجهة للحج بالنسبة إليهم، ولمباركة ما تقوم به من مجازر، وتبريرها بادّعاء حقّ الدفاع عن النفس، والرد على هجوم حركة حماس، وغضّ النظر عن استهداف المدنيين الفلسطينيين، بل وذهب بعضها إلى القول إنهم يخوضون الحرب نفسها مع إسرائيل، فضلاً عن إمداد جيشها بمختلف أنواع الأسلحة الفتاكة، وتخصيص ملايين الدولارات من أموال دافعي الضرائب لتمويل حربها. وعليه، لم تكتف الولايات المتحدة بحشد حاملتي طائرات وإقامة جسر جوي إلى إسرائيل، بل شارك وزير دفاعها لويد أوستن في اجتماع لمجلس الحرب الإسرائيلي، فضلاً عن مشاركة وزير خارجيها أنتوني بلينكن في أحد اجتماعات حكومة الحرب لإسرائيلية. أما المستشار الألماني أولاف شولتز، فقد سارع إلى وقف المساعدات الإنسانية لمحتاجيها من الفلسطينيين، وذهب إلى حدّ اعتبار أن “أمن إسرائيل جزء من وجود ألمانيا”، ومنعت سلطات بلاده كل أشكال التضامن مع الشعب الفلسطيني، وكذلك فعلت فرنسا التي توعد فيها وزير العدل كل من يتضامن مع الشعب الفلسطيني بالسجن خمس سنوات، فيما تمادى رئيس الكتلة المعارضة في البرلمان الألماني إلى حدّ المطالبة باشتراط الاعتراف بإسرائيل للحصول على الجنسية الألمانية.
اللافت أن الأمر لم يتوقّف على الساسة والمسؤولين، بل انتقل مباشرة إلى معظم وسائل الإعلام وبعض مؤسّسات الثقافة، حيث انتشر خبر قطع رؤوس 40 طفلاً إسرائيلياً كالنار في الهشيم، وغطّى الصفحة الأولى في عدّة صحف عالمية، من دون القيام بأي تحقّق أو بحث عن مصادر وأدلّة كافية، وعلى الرغم من تكذيب الخبر (ردّده الرئيس الأميركي جو بايدن قبل أن يتراجع عنه)، إلا أن بعض وسائل الإعلام لم تعتذر لقرّائها ومشاهديها، بل إن بعضها لم يحذف الخبر من موقعه الإلكتروني. وجرى خلط مريب في بعض وسائل الإعلام المؤثرة في الرأي العام الغربي بين حركة حماس وعموم الفلسطينيين، وأوغل بعضها في نشر أخبار زائفة وتحريضية ضد الفلسطينيين، وطاول الأمر أيضاً معظم وسائل التواصل الاجتماعي، فيسبوك وتيك توك مثلا. وفصلت وسائل إعلام من يشبته بتعاطفهم مع الفلسطينيين، حيث فصلت شبكة إم إس إن بي سي الأميركية ثلاثة من مذيعيها، فيما حقّقت هيئة الإذاعة البريطانية مع ستّة من صحافييها بسبب تغريدات نشروها عن فلسطين. في المقابل، لم تجرؤ وسائل الإعلام الغربية حتى على إدانة إسرائيل لقتلها مصوّر وكالة رويترز عصام عبدالله في أثناء أدائه عمله في جنوب لبنان، إلى جانب إصابة ثلاثة من زملائه الذين كانوا معه في المكان ذاته.
عادت المكارثية في صورتها البوليسية الجديدة إلى معظم دول الغرب، وخصوصا الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وبريطانيا، ولم تقتصر على السياسة ووسائل الإعلام، بل وصلت إلى ميدان الثقافة سريعاً، حيث حرم منظّمو معرض فرانكفورت الدولي للكتاب الروائية الفلسطينية عدنية شِبلي من جائزتها التي كان المفترض أن تُمنح لها عن روايتها المترجمة إلى الألمانية “تفصيل ثانوي”، بل اتهمتها أوساط ألمانية بمعاداة السامية. وامتدّت يد المكارثية إلى ميدان الرياضة أيضاً، عبر ملاحقة مشاهير الرياضيين الذين يبدون تعاطفهم مع أهالي غزّة، وخصوصا اللاعب الفرنسي ذا الأصول الجزائرية كريم بنزيمة، الذي قال: “كل صلواتنا من أجل سكّان غزة الواقعين مرّة أخرى ضحايا لهذا القصف الظالم”، وقد سارع وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانين إلى اتهامه بالارتباط مع الإخوان المسلمين، وطالب بمعاقبته، والتفكير بسحب الكرة الذهبية منه، وحتى التفكير بسحب الجنسية الفرنسية منه، كما طالبت بذلك أيضاً عضو البرلمان الفرنسي فاليري بوييه، فيما ذهب المرشّح السابق للرئاسة الفرنسية اليميني المتطرّف إيريك زيمور إلى مهاجمة بنزيمة واتهامه بوجود صلة مباشرة له في مقتل المدرس الفرنسي دومينيك برنارد.
في المقابل، لم تصمت أصواتٌ حيّة عديدة في دول الغرب، ولم تقف مكتوفة الأيدي، بالرغم من حمّى المكارثية الجديدة الطاغية، إذ على الرغم من سطوة البروباغندا الإسرائيلية والأبواق المساندة لها، رفضت شخصياتٌ عالميةٌ ممارسات الاحتلال الإسرائيلي. ورفضت كذلك عمليات التسويق لاستباحة الدم الفلسطيني. ووسط عبثية المكارثية، واصلت الممثلة الأميركية الشهيرة سوزان سارندون، الحائزة على جائزة أوسكار عام 1995، إظهار دعمها وتضامنها مع الشعب الفلسطيني، عبر إعادة نشر تغريدات لناشطين غربيين وعرب داعمين للقضية الفلسطينية، وفضح الحرب الإسرائيلية، عبر نشر صور استخدام إسرائيل ذخائر الفوسفور الأبيض ضد أهالي غزّة، وانضم مشاهير آخرون لدعم الفلسطينيين في غزّة، من بينهم الممثل الأميركي مارك رافالو، والملاكم النيوزلندي سوني بيل ويليامز، والمغنية السويدية زارا لارسون، ولاعب المنتخب الفرنسي السابق فرانك ريبري، وغيره.
لا تنحصر أهداف المكارثية الجديدة في دعم إسرائيل وإسكات أصوات معارضي سياساتها وممارساتها فقط، بل تمضي إلى تهديد قيم الديمقراطية ومبادئها. وهي لا تعمل كستار خلف تزايد الفوبيا حيال العرب والمسلمين، بل تريد إعادة الاعتبار لأشكال مما بعد النازية، التي يستغلها اليمين المتطرّف والشعبوي من أجل نشر الكراهية والعنصرية، وشيطنة كل المتضامنين مع القضية الفلسطينية.
—————————-
كل هذا الاستهتار بالعرب؟/ غازي دحمان
28 أكتوبر 2023
لا تخفي التوصيفات التي يصدرها عسكر إسرائيل وسياسيوها بحق حركة حماس والفلسطينيين حمولاتها من ازدراء لقيمة العرب والاستهتار بهم، فالصراع، في نظرهم، مع عرب يوجدون في قطاع غزّة وبقية فلسطين، وهم جزء عضوي من هذا العالم العربي المحيط بهم، وهؤلاء “المتوحّشون” هم من ذاك النسيج العربي الممتدّ الذي يشبههم ويشبهونه.
هذه رسالة إسرائيل التي تريد من خلالها تعزيز سردية المظلومية، وإثبات أن مشكلتها لا تنحصر مع بضعة ملايين في غزّة والضفة الغربية وداخل أراضي 1948، بل مع طوفان عربي، تعدادُه مئات الملايين من المتوحّشين والهمج ينتظرون اللحظة المناسبة للفتك باليهود، يريدون فعل ذلك بسبب عدائهم الحضارة الغربية، أكثر من عدائهم إسرائيل بحد ذاتها. وعلى ذلك، العالم المتحضر مُجبرٌ على الوقوف خلف إسرائيل، وعلى تأييد سلوكها واستراتيجيتها للقضاء على هؤلاء الوحوش.
لكن السؤال، في هذه اللحظة العصيبة، ليس على أهل غزّة وحسب، وإنما على العالم العربي الذي يرى كل هذا التنكيل بقيمه وإنسانيته والتزوير المهول الذي يُمارس على مساحة واسعة من العالم بحقّ الشخصية العربية، كيف صدّق الغرب بسرعة كامل السردية الإسرائيلية ولم يعمد حتى على التخفيف من غلوائها وبعض دبلوماسياته لها خبرة أكثر من مائة عام مع العرب، وكثير من مفكّريه وخبرائه وتقنييه عملوا مع العرب، وتعاملوا معهم في حقولٍ كثيرة، ولماذا تجاهل الغرب مصالحه الكبيرة مع العرب بهذه الخفّة والتسرّع إن لم نقل بالإنكار؟
لقد طرحت حرب غزّة، وما أثارته من كراهية واستهتار غربي بالعرب، السؤال عن الاستثمارات العربية الهائلة في الدبلوماسية والعلاقات العامة وفي الإعلام ومراكز الأبحاث ومستويات صنع القرار في الغرب، وعن مليارات الصناديق الاستثمارية العربية في استمارات الغرب، وكيف أن ذلك كله لم يدعم أصواتا تكون موضوعية على الأقل لا منحازة للعرب؟ والأهم كيف لم يُحسّن هذا الاستثمار الضخم من صورة العرب في الذهنية الغربية التي لا تفتأ مع كل حادثةٍ أن تخرج من أدراج ذاكرتها نسخا سوداوية لهذه الصورة!
الأهم من ذلك كله أيضا أن غالبية الدول العربية إما باتت مطبعة مع إسرائيل أو في طريقها لسلوك هذا المسار، رغم رفض إسرائيل تقديم أي تنازلٍ يدعم هؤلاء، من قبيل وقف مصادرة أراضي الفلسطينيين وإنهاء حصار غزّة ووقف تعاملها العنصري مع فلسطيني الداخل ومنع المستوطنين من استباحة القرى والمدن في الضفة الغربية والتنكيل بأهلها، بمعنى أن إسرائيل بعد كل هذا الترويض للعرب لا يحقّ لها الحديث عن توحّش وهمجية، فيما تمارس هي سياساتها تجاههم بشكل غرائزي مقزّزٍ غارقٍ في الأسطرة والأيديولوجيا وينتخب شعبها ممثليه بناء على حجم كرههم للعرب.
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو: عندما توسلت إسرائيل التطبيع مع العرب، وأيد الغرب الخطوات العربية وصفق لها، هل كانوا على علم أنهم يطبعون مع وحوش، أم أن إسرائيل والغرب كانوا يطبّعون مع نخب بعينها بهدف تحقيق مكاسب أمنية واقتصادية وحسب؟ أليس هذا اعترافا منهم بانفصال تلك النخب عن شعوبها المتوحّشة الذين لا ترغب إسرائيل لا برؤيتهم ولا التداخل معهم تحت أي سببٍ كان؟.
ثم ماذا عن الديمقراطية، والتي، من كثرة التلطي وراءها في مرحلة الحرب على غزّة، بات كثيرون من دعاتها والمتحمّسون لها في العالم العربي في حالة خجل أمام مناصري الاستبداد وجماعات نظرية المؤامرة؛ فالحرب هي حرب الديمقراطيات ضد المتوحّشين، وإسرائيل جزء من العالم الديمقراطي الذي يتألم لما أصابها. وهكذا، في المقابل لا يرى ضمير هذا العالم الموت الفائض الذي تحقّقه إسرائيل في غزّة، بل إنهم يشكّكون في أرقام القتلى، مثلما يشكّكون بالقتلى أنفسهم.
بعيدا عن الموقف من “حماس”، صارت العلاقة بين العالمين الغربي والعربي تحتاج إلى إعادة تعريف ووضع أسس جديدة لها، فهذه العلاقة التي لم تكن أصلا متوازنة قبل “7 أكتوبر” شهدت خللا فاضحا، وخصوصا مع نضح الغرب كل هذا الاحتقار والكراهية. صحيح أنه سبق التعبير عن هذه الكراهية بمناسبات متفرّقة، لكن كنا نظن أنها ردّات فعل معينة على بعض التصرفات، وربما تجاه مسائل محدّدة، لكنها اليوم تتجاوز كل حدود المنطق والمعقول. وثمّة معادلة يُراد تثبيتها اليوم من الغرب تقوم على الحقّ في إيلامنا واستحقارنا، هكذا لأن بيولوجيتنا لا يليق بها أكثر من ذلك، ولا يحقّ لنا الاعتراض أو التذمّر، وإلا ماذا يعني كل هذا الاستهتار بدم الملايين في غزّة وتشجيع إبادتهم والتنكيل بهم من دون توجيه أدنى لوم لإسرائيل، بل أكثر من ذلك أصدرت دول غربية أوامر بسجن كل من يرفع علم فلسطين واعتباره مؤيدا للإرهاب!
ماذا باستطاعتنا، نحن الشعوب، أن نفعل طالما أن حكّامنا ونخبنا لا يرون فيما يحصل إهانة واحتقاراً لهم؟ يمكننا مقاطعة بضائعهم ومنتجاتهم وقد أثبت هذا الفعل جدواه وفعاليته، حينها سيتذكّرون أن أموالنا تساهم بدرجةٍ كافية في رفاهيتهم، بل ربما تساهم في تذكيرهم أننا كنا نستهلك منتجاتهم الحضارية والثقافية والفكرية المعولمة، وأننا جزء من ثقافة هذه الحضارة، ولسنا منكفئين في غيتواتنا، وأن ملايين منا مندمجون في أوروبا وأميركا، ونشكل جزءا معتبرا من طاقتهما التشغيلية.
—————————
“نحن الهمج الذين نكره اليهود”/ رشا عمران
28 أكتوبر 2023
مقالتان نُشرتا في مجلة لو بوان (la point) الأسبوعية الفرنسية، المنتمية لليمين الوسطي، في الأسبوعين الماضيين، الأولى للكاتب الجزائري الفرنسي كمال داود “رسالة إلى صديق يهودي”، والثانية للسوري، حديث العهد بالجنسية الفرنسية، عمر يوسف سليمان “ترعرعت على كره اليهود”. واثنتاهما عن فكرة قد تبدو في القراءة الأولى صحيحة، وتعرفها الشعوب العربية جيداً، وهي موضوع العلاقة مع “اليهود”، فما كُتب في المقالتين عن علاقتنا، نحن العرب، مع اليهود حقيقي، ذلك أن الذاكرة الجمعية الشعبية العربية بعد عام 1948 ربطت بين الصهيونية واليهود مباشرة، بسبب أن الصهيونية، بعد الهولوكوست، روّجت فكرة أن أرض الميعاد فلسطين هي وطن لليهود، ما جعل الهجرة اليهودية من كل العالم تتدفّق نحو فلسطين. هكذا تم ربط الأيديولوجي السياسي بالديني في فكرة أرض الميعاد. تصاعد هذا الترابط أيضاً لدى العرب بعد احتلال فلسطين، في ربط أيديولوجي مقابل بين العروبة والإسلام.
يتحدّث الكاتبان عن كيف تحوّل اليهودي في الذاكرة العربية إلى رمزٍ لكلّ ما هو شرير وسيء، فالعرب حين يريدون شتم أحد يقولون عنه: يهودي، حين يصفون أحداً بالبخل يقولون إنه بخيل كاليهود. العرب أيضاً مؤمنون بأن العالم يُدار بمؤامرة يهودية تستهدف الإسلام. العرب أيضاً يصفون معارضي أنظمتهم باليهود أو بعملاء اليهود، يتحالفون مع أنظمتهم الاستبدادية في وصم كل من تكرهه الأنظمة بهذه الوصمة. باختصار، يشكّل اليهودي في ذاكرتنا الجمعية العربية والإسلامية كل ما هو سيء وبشع وشرّير، من دون التمييز بين اليهودية ديناً، والصهيونية حركة أيديولوجية سياسية تستخدم الميثولوجيا اليهودية لتحقيق غاياتها.
لا يتطرّق الكاتبان إلى هذه الفكرة، لا يذكران شيئاً عن الحركة الصهيونية ولا عن أهدافها ولا عن أن الدولة الناشئة عنها محتلة وفاشية ومجرمة واستعمارية، ومارست وتمارس منذ تأسيسها جرائم إبادة بحقّ الفلسطينيين لا تقل هوْلاً عن جرائم الهولوكوست. لا يأتي الكاتبان على هذا. يكتبان فقط أن هناك جرائم تُرتكب ضد اليهود، يرتكبها المسلمون العرب (الهمجيون) الكارهون لليهود لمجرّد أنهم يهود.
تأتي المقالتان، وقبلهما مقالة لا تقلّ سوءاً للطاهر بن جلون، في المجلة نفسها، في وقت تنهج فيه السياسة الغربية نهجاً ينسف كل ديمقراطيتها المزعومة، ليس فقط بسبب دعمها المعنوي والمادي والعسكري لإسرائيل في حرب الإبادة التي تشنّها ضد غزّة بحجّة إرهاب حركة حماس، بل بمنعها كل أشكال التعبير والتضامن مع الفلسطينيين، تحت طائلة الاعتقال أو الحظر أو سحب الجنسية، على طريقة الأنظمة الديكتاتورية التي يدّعي الكاتبان معاداتها.
يتطوّع كتّاب عرب مسلمون لتكريس سردية الصهيونية عن كره العرب والمسلمين لليهود، من دون أي وازع أو ضمير أخلاقي، في وقتٍ يشاهد فيه العالم بأكمله على الهواء مباشرة ما تفعله إسرائيل بأهل غزّة من إبادة جماعية تستهدف المدنيين أينما كانوا. واللافت أن الكاتبيْن يشيران إلى معارضتهما أنظمة الاستبداد العربية التي يرون أنها تغذّي حقد شعوبها ضد اليهود، في فهمٍ بالغ الركاكة (ربما ركاكة مقصودة للتأكيد على همجية العرب والمسلمين) لتركيبة هذه الأنظمة وعلاقتها المركّبة مع الاحتلال منذ عام 1948، خصوصاً بعد سيطرة الدولة العسكرية الأمنية على كل الدول الحدودية الكبرى مع فلسطين المحتلة.
لا يستثني الكاتبان سوى نفسيهما من كراهية العرب والمسلمين اليهود، يعمّمان نظريتهما علينا جميعاً، يجعلاننا نبدو كأميين همَج أغبياء، يعمينا الحقد والجهل عن رؤية “الصديق اليهودي الجيد المتحضر”. هكذا هما يبرّران لإسرائيل حرب إبادتها غزّة وأهلها، فهي تدافع عن وجودها المستهدف من مجموعة بشرية تتغذّى من الحقد على اليهود، هكذا أيضاً يجب القضاء على الطفل قبل الشيخ، ذلك أن هذا الطفل إن كبُر فسوف يقتل يهودياً.
يتقمّص الكاتبان عقدة الذنب الأوروبية تجاه اليهود، بسبب الهولوكوست، ويتناسيان أن العرب والمسلمين لم يشاركوا في الهولوكوست، وليست لديهم عقدة ذنب بسببها، بل كانوا ضحية أخرى لتلك الإبادة، ذلك أن الصهيونية، بدلاً من معاداة متسبّبي الإبادة، عَقدت صفقة معهم لإنزال العقاب بشعوبٍ لطالما كان اليهود مواطنين يعيشون فيها، مثل المسلمين والمسيحيين.
المضحك في المقالتين المثيرتين للاشمئزاز الصورة التي اعتمدها عمر يوسف سليمان، والتي يبدو فيها كيهودي من بدايات القرن العشرين، ربما ليؤكّد ما ذكره في المقالة عن أصوله اليهودية التي اكتشفها مصادفة.
———————————
في الاستبداد العربي والاحتلال الإسرائيلي/ حسين عبد العزيز
26 أكتوبر 2023
ليس من المبالغة القول إن عملية طوفان الأقصى في 7 من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري تعدّ زلزالا استراتيجيا يشابه زلزال ثورات الربيع العربي عام 2011. ولا تتعلق حالة التشابه (الربيع العربي، غزوة غلاف غزّة والرد عليها) فقط بحالة المفاجأة التي أشعلها الشعب العربي في أكثر من بلد، بعد عقود من حالة سكون وخمول واستسلام للاستبداد، ولا بحالة المفاجأة الشبيهة التي أحدثتها حركة حماس، لجهة قدرتها على صناعة هجوم عسكري عجزت العقول العسكرية والأمنية الإسرائيلية عن استيعابه (غطاء صاروخي كثيف دفع الاحتلال إلى التركيز على كيفية إسقاط الصواريخ كما في كل مرّة، من دون أن يخطر على باله أن مئات المقاتلين من كتائب عز الدين القسام اقتحموا أكثر من 20 مستوطنة إسرائيلية في محيط غزّة وعشرات المواقع العسكرية وقتل كثيرين ممن فيها، ثم فتح كوّة في الجدار العازل). ولا يتعلّق الأمر بالتداعيات المباشرة التي ترتبت على “الربيع العربي” الذي انتهى ببعض الدول إلى حروب أهلية دمرت الدولة والمجتمع، ولا بالواقع الشبيه في غزّة، حيث استتبعت عملية “طوفان الأقصى” ردّا إسرائيليا عنيفا لم يعرفه القطاع منذ نشوء الكيان الإسرائيلي. كما لا يتعلّق الأمر بالتداعيات الاستراتيجية التي ترتّبت على الحدث الأول وما قد يترتب على الحدث الثاني: إعادة بناء الاستبداد العربي ذاته وانهيار المجتمعات في الحالة الأولى، وبنشوء واقع عسكري ـ سياسي جديد في غزّة لا يكون لصالحها بقدر ما هو لصالح إسرائيل في الحالة الثانية.
ليست حرب تموز (2006) بعيدة عن الذاكرة، إذ أدّت الحرب نتيجة شن حزب الله عملية أسر خلالها جنودا إسرائيليين، بادرت على أثرها قواتٌ إسرائيليةٌ باقتحام الجدار الحدودي ودخلت إلى الأراضي اللبنانية، حيث نصب الحزب كمينا لها، فقصف دبابتين وقتل ثمانية جنود إسرائيليين، من بينهم اثنان أسرا إلى لبنان من دون الإبلاغ عن مصرعهما. ثم أدّت الحرب إلى صدور قرار مجلس الأمن 1701، الذي كبّل الحزب، وجعل أي تخطّ للخط الأزرق انتهاكا للشرعة الدولية يستوجب الرد عليه عسكريا. ومن هنا نفهم المعضلة التي يواجهها حزب الله حاليا، فمن جهةٍ يجد نفسه مُحرجا أمام قواعده، طالما أن سرديّته الأيديولوجية قائمة على دعم فلسطين ومواجهة الاحتلال، ولن تأتيه فرصةٌ تاريخيةٌ مثل هذه للوقوف إلى جانب غزّة. وفي المقابل، قيّد القرار الدولي 1701 الحزب الذي يخشى أيضا أن يتوسّع العدوان الإسرائيلي، ويدمّر أجزاء واسعة من لبنان أكثر بكثير مما تم تدميره عام 2006.
وثمّة مثال أقدم، حين نفذ تنظيم القاعدة هجمات 11 سبتمبر/ أيلول عام 2001، ثم وقوف العالم إلى جانب الولايات المتحدة التي استغلّت الحدث من أجل احتلال أفغانستان والعراق، ونشوء موجة كره عالمي للإسلام والعرب، اختلط فيها الإسلام المتطرّف بالإسلام المعتدل المسالم.
بهذا المعنى، ستجد المقاومة في غزّة بعد انتهاء العدوان، ليس واقعا دوليا يرفض بحزم تكرار مثل عملية “طوفان الأقصى” فحسب، بل واقعا عربيا رافضا مثل هذه العملية، ومستعدّا للتقرب من إسرائيل من أجل إبقاء حالة الستاتيكو العسكري والسياسي، بما لا يُحرج هذه الأنظمة أمام شعوبها.
لا يُفهم من ذلك أن كاتب هذه السطور ضد “طوفان الأقصى”، فهي عملية كبيرة جدا ليس فقط بمعايير الوجدان العربي، بل أيضا بالمعايير الاستراتيجية على الأرض، من دون غضّ النظر عن الثمن الذي يدفعه قطاع غزّة. إنما المقصود أن عمليات بهذا الحجم ستُفرغ من محتواها الاستراتيجي، بسبب غياب مشروع وطني يتحد الشعب الفلسطيني وراءه، وبسبب الأنظمة الاستبدادية العربية غير القادرة على دعم مقاومة الشعب الفلسطيني، وغير القادرة أيضا على استثمار انتصاراته بما ينعكس إيجابا على قضيته التي هي قضية العرب الوجودية. وقد كشفت عملية طوفان الأقصى والرد الإسرائيلي عليها تشابها عميقا بينها وبين اندلاع الربيع العربي قبل نحو 13 عاما.
مشكلة الشعب الفلسطيني وعموم الشعب العربي تكمن في الاستبداد العربي الغاشم الذي صادر طاقات الشعب وقضى على إرادته، وحال دون نشوء دول قوية قادرة على التأثير في الساحتين الإقليمية والدولية، وكانت النتيجة نشوء أنظمة عربية: قوية تجاه الداخل ومطواعة وذليلة تجاه الخارج. ولم يكن لإسرائيل المضي في عملية القتل الجماعي العنيف الذي تقوم به في قطاع غزّة لولا إدراكها تماما أن الدول العربية في حالة عجز، وغير قادرة على فعل شيء سوى الكلام.
قضية العرب الرئيسية هي الاستبداد والاحتلال، ومن دون القضاء على الأول يكاد يكون من المستحيل نشوء كتلة تاريخية عربية قادرة على تغيير المعادلات الكبرى.
الدم الفلسطيني يتحمّله أيضا الزعماء العرب المستبدّون، وقد عبّر الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر عن ذلك بوضوح حين قال “يتحدّث الإعلام العربي دائما عن فلسطين، وحين أجتمع بالزعماء العرب لا أحد منهم يحدّثني عنها”.
——————-
الوحشية والإبادة في قناع الضحيّة/ سمير الزبن
26 أكتوبر 2023
حتى تخوض حرب تطهير عرقي دموية ضد شعبٍ من طرفٍ واحدٍ بضمير مرتاح ومن دون مسؤولية عن جرائم الحرب التي ترتكبها بحقّ مدنيين عزّل محاصرين باحتلالك الجائر، وتكون على حقٍّ في ارتكابك هذه الجرائم، بل وأكثر من ذلك، أن تتحوّل، رغم كل الجرائم بحقّ الإنسانية التي ترتكبها، من معتدٍ إلى ضحية، لا تحتاج سوى إلى شيطنة الشعب الذي ترتكب بحقّه جرائمك. وإذا حصلت على دعم الدول الكبرى، واعتبرتك معتدى عليه، وغطّى إعلامها عدوانك السافر، وأخرس كل صوت يحتج على هذا العدوان، لأنك الضحية المثالية التاريخية، واعتبر حتى ألوان راية الشعب الذي تقتله عنواناً للإرهاب، فإنك تكون قد كسبت الحرب، وأصبحت جرائمك ضد الإنسانية مشروعة، لأنها دفاعٌ عن النفس برأي المدنية الحديثة. وأما باقي العالم، فهي دولٌ وشعوبٌ فائضةٌ عن الحاجة، ولا أهمية لما يعتقد.
هذا ما فعلته وتفعله إسرائيل بالفلسطينيين في قطاع غزّة ومن ورائها الولايات المتحدة والدول الأوروبية، إنها حرب “الحضارة ضد الوحشية” وإسرائيل تخوض “حرب جميع الدول المتحضّرة”، حسب أقوال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. ولم يتردّد وزير دفاعه، يوآف غالانت، بوصف الفلسطينيين بـ”وحوش بشرية ونتصرّف بناءً على ذلك”، أي القتل، وما الذي يمكن فعله مع الهمجيين والوحوش البشرية التي تسكن غزّة؟! لا أحد يختلف بأن من الضروري إبادة هذا النوع من البشر المجرمين والقضاء عليه، فهو ليس تهديداً لإسرائيل فحسب، بل هو يشكّل تهديداً للحضارة وللدول الديمقراطية بأسرها، والتي تخوض إسرائيل هذه الحرب بالنيابة وللدفاع عنهم.
إنه استعارة للخطاب الاستعماري التقليدي بأسوأ وأحطّ صيغه، الخطاب الذي لا يرى الآخرين، سوى بشر أدنى لأنهم ليسوا مركز هذا العالم، وكان على العالم المتحضّر أن يستعمرهم من أجل جعلهم متحضّرين، وعندما يرفضون الحضارة (يرفضون الاستعمار) يجب قتلهم لأنهم متوحّشون. والمفارقة المضحكة المبكية أن الدول الاستعمارية الكبرى التي تدعم هذا الخطاب الإسرائيلي وتكرّره، هي ذاتها الدول التي ارتكبت الجرائم الكبرى والإبادة الجماعية بحقّ الشعوب التي استعمرتها، بخطاب استعلائي دُمّرت باستعماله بلدان واسعة خارج أوروبا (الحضارية)، كل هذه الجرائم ارتكبتها الدول الاستعمارية كانت لإخراج هذه الشعوب من وحشيّتها.
الخطاب الاستعماري المتعالي فوق البشر المتوحشين درسٌ قديم، قدم التجربة الاستعمارية ذاتها، ورغم انتقاده وتفكيكه من مفكّرين غربيين كثيرين، منذ زمن طويل، لكن كل مرّة تحتاجه الدول الغربية، تتم استعارته بشكلٍ أو بآخر، فقد استعمل الخطاب ذاته، عندما غزت الولايات المتحدة أفغانستان والعراق، لجلب الديمقراطية (الحضارة) لشعوبها، واليوم، كلنا نعرف النتيجة التي آلت إليها الجهود الأميركية لجلب الحضارة على ظهور الدبابات الأميركية للبلدين.
تصغير البشر وشيطنتهم وإخراجهم من دائرة البشر، عبر خطاب القوة، المدعوم بامتلاك ميديا هائلة، يعطي الوصفة المثالية للقضاء على البشر المتوحّشين الذين يهدّدون الحضارة الإنسانية. إنه صراع في غاية الوضوح “الحضارة ضد الهمجية”، وهي الحرب التي لا تستطيع الدول المتحضّرة سوى تأييدها، ودعم من يخوضها باسمهم وبدلاً عنهم. إنه التوصيف الإسرائيلي ـ الأميركي ـ الأوروبي لما يجري من عدوان إسرائيلي على غزة.
هل هناك كلام آخر يمكن قوله في هذه الحالة، كأن يكون هناك دولة، مثل دولة إسرائيل تحتلّ الأراضي الفلسطينية؟ وأن يكون هناك جرائم ترتكبها هذه القوّة الاستعمارية يومياً بحقّ الفلسطينيين وأراضيهم ومقدّساتهم؟ وأن تكون دول الاحتلال تُنكر حقّ الفلسطينيين بأرضهم وتمنعهم من تقرير مصيرهم؟ وليس هناك اعتداءات يومية على الفلسطينيين وقتلهم ونهب المستوطنين أرضهم؟ وليس هناك جريمة مؤسّسة لإسرائيل عنوانها طرد الفلسطينيين من ديارهم في حرب العام 1948 وعدم السماح لهم بالعودة إلى ديارهم بعد انتهاء الحرب؟ ولم تسرق إسرائيل أملاك الفلسطينيين واعتبرتها أملاك غائبين، وكأنهم غادروا بإرادتهم، واستخدمتها في بناء دولتها؟ وليس هناك حصار أكثر من 17 عاماً على مليوني فلسطيني في قطاع غزّة، وإجبارهم على العيش في معتقل جماعي، يقنّن عليهم فيه المواد الغذائية والوقود وحتى الأدوية، بوصفها كيانا معاديا؟ وغيرها أسئلة كثيرة عن جرائم دولة الاحتلال التي ارتكبت بحقّ الفلسطينيين وبحقّ غيرهم من شعوب دول الطوق.
تبدو الصورة عند الغرب كأن إسرائيل دولة اسكندنافية حيادية، لم تدخل حرباً منذ عشرات السنين، وفجأة، يهاجمها المتوحشون الفلسطينيون الذين جاؤوا من بلاد بعيدة، ليستبيحوا دولة إسرائيل ومواطنيها المسالمين. إنها أكبر عملية تزييف وكذب وقحة وعلنية ومهينة للعقل البشري، تمارسها الدول التي تعتبر نفسها “العالم المتحضر”.
إذا كان قتل المدنيين مداناً في الصراعات المسلحة، وهو بالتأكيد كذلك من دون تلعثم، لكنه لماذا مدان من “الجهة المتوحّشة”، وهو دفاع عن النفس من الجهة “المتحضرة”؟! مقارنة أرقام المدنيين الذي سقطوا من الفلسطينيين والإسرائيليين تدعو إلى الفزع، فحتى كتابة هذه السطور، خمسة فلسطينيين مقابل كل إسرائيلي، وعندما ينتهي هذا العدوان الوحشي ستكون النسبة أكبر بكثير، عدا عن العقاب الجماعي الذي يتعرّض له كل المقيمين في غزّة. وهذا يعني أن قيمة حياة الفلسطينيين غير مساوية لحياة الإسرائيليين، فليس لحياة الفلسطينيين قيمة مقارنةً بحياة الإسرائيليين، ومن دون هذا المقياس المختلّ لقيمة البشر في الطرفين، لا يمكن تبرير الحرب الإسرائيلية الوحشية على قطاع غزة بذريعة “الدفاع عن النفس”.
في هذا الصراع، هناك أساس مكوّن، صراع ضحية وجلاد، وحتى عندما ترتكب الضحية أخطاء وخطايا، لا تنقلب المعادلة وتنقلب أماكن المتصارعين. فما يجري على الأراضي الفلسطينية ليس صراعاً بين دولتين على خلافٍ حدودي، بل هو صراعٌ بين احتلال وشعب يقاومه. إنه التوصيف الحقيقي للصراع. أما قلب الحقائق، وتحويل إسرائيل إلى ضحية مهدّدة وجودياً بشكل دائم، فإن هذا يعطيها الحقّ بإبادة الفلسطينيين لحماية نفسها. وهذا ما يجري اليوم في غزّة تحت بصر العالم المتحضّر وموافقته.
———————-
حرب الرواية من جديد/ مالك ونوس
26 أكتوبر 2023
كما كان الأمر قبل مرحلة إنشاء الكيان الإسرائيلي وخلالها، ثم خلال حروبه على العرب، كانت الرواية الصهيونية، ومن بعدها رواية الإسرائيليين في فلسطين، وسيلة لتحشيد الدعم السياسي والمادي الذي ساهم في تأسيس دولة الاحتلال وفي دعم حروبها، في غياب رواية الضحية، الرواية الفلسطينية. يتكرّر الأمر في هذه الأيام، مع الحرب الإسرائيلية على غزة، والتي أعقبت عملية طوفان الأقصى؛ إذ استغلّت الدوائر الإسرائيلية والإعلام السائد في دول الغرب، هذه العملية لنشر الرواية الإسرائيلية بغرض شيطنة الفلسطينيين، لتسهيل استهداف حركة حماس والشعب الفلسطيني في قطاع غزّة، مهما كانت الأثمان ومهما خلّفت آلة الحرب الإسرائيلية من ضحايا. وهذا ما أظهر الغرب بمؤسّساته الحاكمة وإعلامه، منقاداً للرواية الإسرائيلية، وهو ما جعَله بالضرورة شريكاً في جرائم جيش الاحتلال.
ما إن التقط المسؤولون الإسرائيليون أنفاسهم، بعدما استفاقوا من صدمة هجوم طوفان الأقصى، في 7 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، واقتحامهم السور الفاصل بين حدود قطاع غزّة والأراضي المحتلة، وسيطرتهم على عشرين مستوطنة وموقعين عسكريين وأسر ما تيسّر من جنود ومدنيين، حتى بدأوا في بثّ سرديّاتهم المكرّرة والقديمة المعتمدة على أضاليل استخدموها مراراً، وأتت أكلها دائماً، من أجل إسباغ صفة الإرهاب على الفلسطينيين. ثم وبسرعة منقطعة النظير قلبوا الحقائق، واخترعوا قصصاً عن انتهاكات المهاجمين، من قطع الرؤوس واغتصاب النساء وسبيهن، معتمدين في تكوين هذه السردية على تاريخهم الطويل في النفخ في الهولوكوست لإظهار مظلوميّتهم واستمرارها على يد العرب، من أجل ابتزاز الغرب مرّة أخرى.
لقد نجح الإسرائيليون أيّما نجاح في مهمّتهم هذه، فاستطاعوا، بسرعةٍ كبيرة، تحشيد آلة الغرب الإعلامية والدبلوماسية والعسكرية، نافخين في الروح الاستعمارية لهذا الغرب لإحيائها، تلك الروح التي كانت من أهم الدوافع التي ساهمت في سرعة استجابة الدول الغربية، وفي تبنّي سردية الإسرائيليين، ثم المسارعة إلى تقديم الدعم، من أجل إنقاذ “إسرائيل” من خطر أظهروه أنه من العظمة إلى درجة أنه سيؤدّي إلى زوالها سريعاً إن لم يستجيبوا. وكان لعودة الإسرائيليين إلى الادّعاء أنهم يواجهون إرهاباً، و”حيوانات بشرية”، كما وصف وزير الحرب الإسرائيلي، يوآف غالانت، الفلسطينيين، دورٌ في تصوير أنفسهم ضحية في النزاع القائم في المنطقة. وبالتالي، في جعل الدول الغربية تتسابق إلى تقديم الدعم العسكري والمادي، والتقاطر على تل أبيب “للتضامن” مع الإسرائيليين. وقد انطلت الرواية والتهويل الإسرائيليان على الرأي العام الغربي، وعلى الإعلام ومؤسّسات الدول الغربية الرسمية والأهلية التي تبنّت هذه الرواية. وكرّرها كثيرون في الغرب، على الرغم من عدم تأكّدهم من صحّتها، كما في ادّعاء قطع رؤوس الأطفال التي ردّدها الرئيس الأميركي، جو بايدن، وتراجع البيت الأبيض عنها، وكتبت صحيفة واشنطن بوست أن لا بايدن ولا أي مسؤول أميركي رأى صوراً لفظائع أو تأكّد من صحة تقارير بشأن قطع عناصر “حماس” رؤوس أطفال إسرائيليين. غير أن بايدن عاد وتحدّث عن مسؤولية الجهاد الإسلامي عن تفجير مستشفى المعمداني في غزة، متبنّياً الرواية الإسرائيلية التي لم يؤكّدها أي تحقيق.
ولا يمكننا تقدير مدى خطورة استمرار هيمنة الرواية الإسرائيلية، وعودتها إلى الانتشار بعدما تضعضعت حين صُدم الغرب بالواقع والحقيقة بعد الانتفاضة الفلسطينية الأولى، إلا عندما نسمعها على ألسن من لم نتوقّع مرّة أن يسردوها. حدث ذلك في كلام الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، في حضرة المستشار الألماني، أولاف شولتز، في القاهرة، في 18 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، أي بعد يوم من مجزرة الاحتلال في مستشفى الأهلي المعمداني في غزّة، والتي راح ضحيّتها ما يقارب 500 فلسطيني. فخطاب السيسي لا يحتاج إلى كثير من التحليل، حتى نكتشف أنه سلَّم بضرورة القضاء على الحركات المسلحة في غزّة، وعلى “الإرهاب”، كما سمّاه.
يدفعنا هذا الواقع إلى التساؤل كم يجب على الطرف الفلسطيني الذي يمتلك الحقيقة أن يبذل من جهد لكي يقنع بها الغرب الاعتذاري الذي هرع لنجدة إسرائيل بسبب شعوره بالذنب تجاه اليهود، وأن تصريحات القادة الإسرائيليين هي تحريض على ارتكاب الجرائم بحق الفلسطينيين؟ وما الذي يجب عليهم أن يفعلوه لكي يبيّنوا أن أفعال الإسرائيليين التي أعلنوا عنها، من قطع للماء والكهرباء ومنع دخول الغذاء إلى قطاع غزّة، هي جريمة إبادة جماعية بحسب تصنيف القانون الجنائي الدولي، وإن قصف مستشفى المعمداني جريمة حرب موصوفة؟ من الواضح أن ما رافق الحرب الإسرائيلية القائمة على غزّة هذه الأيام من شيطنة للفلسطينيين، يريد أن يعود بنا إلى الخطاب الأول الذي كان ينفي وجود فلسطينيين، يقول: هنالك فلسطين، لكن ليس هنالك فلسطيني. وحين فرض الفلسطيني وجوده، عملت الدوائر التي يسيطر عليها اللوبي الإسرائيلي في الغرب على نشر المفهوم الذي يقول إن كل فلسطيني إرهابي بالضرورة. وكانت تلك الرواية سائدةً بقوة قبل عملية ميونخ الفدائية سنة 1972، وقبل عملية مطار اللد في السنة نفسها، واجتياح لبنان سنة 1982، وقبل الانتفاضة الفلسطينية الأولى سنة 1987، والتي ساهمت جميعها في إخبار شعوب العالم أن ثمّة إنسانا فلسطينيا يشاركهم العيش على الكرة الأرضية، وهو ليس أكثر من ضحيةٍ للإرهاب الإسرائيلي وللغرب من خلفه.
كتب المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد، في 1984 مقالة طويلة بعنوان “إذن بالرواية”. تحدّث فيها عن هيمنة الرواية الإسرائيلية في الغرب نتيجة قوة اللوبي الصهيوني في الدول الغربية، وأذرعه المهيمنة في كل القطاعات، ومساهمته في نشر الإرهاب الفكري، وتهديد كل من يعارض الرواية الإسرائيلية واتهامه بالعداء للسامية. وقد أعطى أمثلة عن أشخاصٍ خالفوا تلك الرواية بعد ما شاهدوه من فظائع ارتكبها الإسرائيليون خلال اجتياحهم لبنان سنة 1982، ثم سرعان ما تراجعوا عن موقفهم بسبب التهديد الإسرائيلي بأشكاله المختلفة. يتكرّر هذا الأمر حاليا، وقد تراجع كثيرون عن الرواية الإسرائيلية بشجاعة نادرة، على الرغم من الإرهاب الفكري الذي يسود دولا أوروبية حالياً، وتجريمها كل من يتعاطف مع الفلسطينيين أو يرفع الراية الفلسطينية أو يلفّ عنقه بالشال الفلسطيني، وهو ما يهدّد بأن يدفعهم إلى التراجع عن التراجع. ولذلك هنالك الكثير الكثير أمام الفلسطينيين ومناصريهم لفعله في حرب الرواية التي تشنّها دولة الاحتلال، والتي تتعاظم أكثر وأكثر، وتجد لها من يتبنّاها في الغرب، وفي مستعمراته العربية التي يبدو أنها لم تخرُج عن طوعه بعد.
————————-
هل من تغيّر في المواقف غرباً؟/ سلام الكواكبي
26 نوفمبر 2023
مع استمرار الحرب على غزّة، يظهر بجلاء انقلابٌ عميقٌ في الموقف الشعبي الأوروبي، وخروج مئات الآلاف من مواطني الدول التي عبّر مسؤولوها عن دعمهم غير المشروط لآلة القتل الإسرائيلية منذ اليوم الأول، موضحين أن هذا يدخل في بند الدفاع عن النفس، إثر هجوم حركتي المقاومة الإسلامية (حماس) والجهاد الإسلامي على قواعد ومستوطنات إسرائيلية في 7 أكتوبر/ تشرين الأول (2023). كذلك، اتّضحت الانقسامات بين الدول المنتمية إلى اتحاد أوروبي لم يتميّز في تاريخه بأي تنسيق على مستوى السياسات الخارجية، فقد تميّز الموقف الأيرلندي بإيجابية تجاه حقوق الفلسطينيين، وهذا مرتبط أساساً بتاريخ حركات التحرّر الأيرلندية وتجاربها. كذلك عبّر وزراء إسبان، كما رئيسهم، عن مواقف متميّزة نسبياً ضد أعمال القتل الجماعي وجرائم الحرب التي يقترفها جيش تل أبيب في غزّة. وبرز موقفٌ شديد النقد للسياسات الإسرائيلية من حكومة بلجيكا، وهي البلد المضيف مقرّ الاتحاد الأوروبي. موقفا إسبانيا وبلجيكا دفعا إسرائيل إلى استدعاء سفيريهما لما اكتنزته تل أبيب من ثقة بموقف أوروبي داعمٍ أعمى. وهذا ما لم يحصل.
للوهلة الأولى، بدا أنّ التضامن الأوروبي موحّد خلف تل أبيب. ومن خلال تبعية مطلقة للموقف الأميركي، بدا المشهد وكأنه حفلة مسابقاتٍ يحاول كلّ طرفٍ فيها أن يُسجّل الموقف الأكثر تضامناً والأشدّ تفهماً لكلّ العمليات التي قام ويقوم وسيقوم بها الجيش الإسرائيلي والأجهزة الأمنية الإسرائيلية مهما بلغت وحشيتها. وازدحم مطار بن غوريون بالوفود الأوروبية التي تهافتت للتعبير عن دعمها من رؤساء دول إلى رؤساء حكومات ومروراً برؤساء مجالس نواب من كلّ التيارات السياسية. وفي غمرة النفاق المتحمّس، لم يفطن هؤلاء إلى أنّهم التقطوا صوراً بلباس الحرب وفي مواقع الهجوم الإسرائيلي الدموي. وقد ساهمت هذه المواقف بنقل صورة الحليف الأعمى والأصمّ لآلة القتل الإسرائيلية بمعزل عن أي حساباتٍ لرأي عام عربي شعبي دوناً عن الساسة الحاكمين الذين اكتفوا بقمّة شكلية دانوا من خلالها العنف الإسرائيلي من دون اتخاذ أيّ إجراءٍ يُذكر.
وإذا كان القادة الغربيون يثقون بإمساك حلفائهم المستبدّين في دول الجنوب برقاب شعوبهم، إلا أن تفاقم الموت بأيدي الإسرائيليين بدأ بتحريك الشارعيْن، العربي والإسلامي، وحتى الأوروبي والأميركي، فبدأت الشروخ تظهر في بنيان التكاتف المطلق مع آلة العدوان عبر تصريحات بعض المسؤولين، ومن خلال اختلاف اللغة الإعلامية التي خرجت من قمقم سيطرة اليمين الإسرائيلي المتطرّف ولوبيّاته الفاعلة في الغرب، لتقترب نسبياً من مستوى متدنٍّ من الموضوعية، رغم الصعوبات البنيوية. وأُجبر المسؤولون الذين منعوا التظاهرات المؤيدة للشعب الفلسطيني على التراجع رويداً رويداً عن تعنّتهم أمام الخوف من انفجارٍ لا تُحمد عقباه.
انتقل الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، مثلاً، من الدعوة إلى تحالف دولي لمقاتلة “حماس”، للحديث عن تحالف دولي لمساعدة الفلسطينيين إنسانياً، وصولاً إلى دعوة صريحة لوقف إطلاق النار، مع إشارة واضحة إلى أن قوات الاحتلال تقتل الأطفال والنساء من دون تمييز. والمستشار الألماني، أولاف شولتز، بعد أن رفض وقف إطلاق النار، مفسحاً المجال أمام آلة القتل الإسرائيلية بانتزاع مزيد من أرواح الفلسطينيين، عاد عبر وزيرة خارجيته إلى التعبير عن قلقه من موت المدنيين من دون تمييز. وقد وصل الأمر بوزيرة الخارجية الفرنسية، كاترين كولونا، إلى إبداع عنوان سوريالي لمؤتمرها الصحافي أخيراً، عندما قالت: “إن التضامن يمكن أن يقع مع الفلسطينيين ومع الإسرائيليين في الآن ذاته”. أي مع المعتدي والمعتَدى عليه (…). وقد جاء هذا البحث عن التوازن في الموقف مع ما يحمله من إشارة إلى الإنسان بمعزلٍ عن السياسيين والمتحكّمين بقراراتٍ تحمل في جنباتها الموت والدمار، بعد أسابيع من التحيّز الفاضح والواضح للجهاز العسكري والأمني الإسرائيلي بعيداً عن لعب أي دورٍ، اشتُبه تاريخياً في أنّ لفرنسا خصوصاً ولأوروبا عموماً أن تلعبه في إطار حلٍّ سلمي متوازن لقضيةٍ ساهم الغرب بصنعها. وبالتالي، هذه تطورات لافتة من المهم الإشارة إليها رغم حبوها الخجول نحو شيءٍ من العقلانية، ليس فرنسياً فحسب، بل غربياً بشكل عام.
رغم تأكيد جميع المسؤولين الإسرائيليين أن الهدنة الحالية لن تطول، وأنهم ماضون في حفلة القتل التي استساغوها بحقّ الشعب الفلسطيني، إلا أن التغير القائم، ولو بشكلٍ جزئي ومتردّد، في الموقف الغربي، وانتقاله من التضامن الأعمى والأصمّ عن المقتلة إلى موقفٍ صارت تدخل فيه حسابات الاستقرار الداخلي في الدول الغربية نفسها مع ازدياد التوتر القائم مع الرأي العام المحلي، وليس فقط المهاجر في مدنها، سيؤثر حتماً في تطورات الأيام المقبلة. كذلك إن وقع تصريحات العاملين الإنسانيين التي تشير بوضوح إلى ارتكاب قوات الاحتلال جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، يكاد تصنيفها دولياً يرقى إلى جرائم إبادة جماعية، سيدفع مزيداً من الجموع إلى التعبير عن غضبها في شوارع المدن الغربية، ما سيدفع الساسة إلى إعادة النظر في حساباتهم.
في ندوة جماهيرية، عاب أحد المتضامنين الغربيين على العرب والمسلمين ضعف تضامنهم العلني، فنبهته إلى أنّ الاستبداد المدعوم من “العالم الحر” يقمع التجمّعات، وأن عليه أن يجسّ نبض العالم الافتراضي لقياس المشاعر الحقيقية.
—————————–
حرب غزّة تكشف هذا الاستقطاب/ سمير الزبن
26 نوفمبر 2023
في تبرير عدوانها الوحشي على قطاع غزّة، بعد عملية طوفان الأقصى، باشرت إسرائيل وضع نفسها في سياق السردية الغربية عن الحرب العالمية على الإرهاب التي تقودها الولايات المتحدة، والتي اختصرها رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بأنها “حرب الحضارة ضد الهمجية”، معتبراً أن ما تقوم به إسرائيل “دفاع عن النفس”، وهذا الدفاع هو “حرب استقلال إسرائيل الثانية” حسب منطق نتنياهو. ولا يتحقّق الاستقلال الثاني إلا بسفك الدم الفلسطيني، وإيقاع “نكبة ثانية” بالفلسطينيين في هذه الحرب، كما جاء في شروح وزراء إسرائيليين عن الغرض من هذه الحرب التي يقترب ضحاياها الفلسطينيون من 15 ألف شهيد، وعشرات آلاف الجرحى، ومئات آلاف المهجّرين، وعشرات آلاف الأبنية المهدّمة، التي باتت غير صالحة للسكن. وستزداد هذه الخسائر بشكل مطّرد مع استمرار الحرب العدوانية على قطاع غزّة واستئنافها بعد هدنة التبادل.
ليس من الغريب أن تضع إسرائيل نفسها في سياق السردية الغربية، فهي تدّعي، دائماً، أنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة في محيطٍ من الاستبداد، وأنها الحصن الأول في الدفاع عن الحضارة في وسط متوحّش. تتجاهل الادّعاءات الإسرائيلية واقع الصراع الذي سرديته الحقيقية تقول إن إسرائيل جلاد والفلسطينيين ضحايا، وهي تقلب هذه السردية، وتدّعي أنها هدف الإرهاب الفلسطيني، وكأنه ليس هناك جريمة كبرى ارتُكبت بحقّ الفلسطينيين في جريمة إبادة جماعية وتهجير قسري، أخذت طابع اقتلاع شعب كامل من وطنه، ومنعه من العودة إلى دياره. ولم تمارس إسرائيل حروبا عدوانية على دول المنطقة، ولم تمارس الحروب على قطاع غزّة، ولم تزرع عشرات المستوطنات ومئات آلاف الإسرائيليين في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ولم تقتل الفلسطينيين يومياً، وليس للفلسطينيين حقوق وطنية وفردية تنكرها إسرائيل عليهم. هذا كله غير موجود، يقتل الفلسطينيون الإسرائيليين ليس لأن لهم حقوقا مسلوبة، بل لأنهم متوحّشون يكرهون الحضارة التي تمثلها إسرائيل، هكذا هي السردية الإسرائيلية.
هذا ليس جديداً على إسرائيل. الجديد في هذه الحرب تبنّي الغرب الكامل الخطاب الإسرائيلي، بوصفه امتداداً للخطاب الغربي، ويقع في مركزه، واعتبار إسرائيل جزءاً من هذا الخطاب، وتكرار ما يقوله الإسرائيليون عن هذه الحرب بوصفها “دفاعاً عن النفس”. وفي إطار الدعم الكامل لإسرائيل، جاء الحجيج الغربي الذي تقاطر على إسرائيل، بدءا من الرئيس الأميركي جو بايدن، مروراً بالمستشار الألماني، أولاف شولتس، وبالرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، وصولاً إلى رئيس الوزراء البريطاني، ريشي سوناك، وغيرهم ممن توافدوا على إسرائيل للتعبير عن دعمهم حربها “ضد الإرهاب”.
لم يتردّد الرئيس الأميركي، بايدن، بالمماثلة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، واعتبار عملية طوفان الأقصى مشابهة لهجوم 11 سبتمبر على الولايات المتحدة، بل اعتبر أيضا أن العملية في غلاف غزّة تساوي خمس عشرة عملية من ذلك الهجوم في العام 2011. وسرعان ما أرسل حاملة طائرات إلى البحر المتوسط لحماية إسرائيل، وأقر مساعدات عاجلة، وعاد وأرسل حاملة طائرات ثانية إلى المنطقة. أما المستشار الألماني شولتس فقال في أثناء زيارته التضامنية مع إسرائيل “أمن إسرائيل ومواطنيها مصلحةٌ وطنيةٌ ألمانية. ومسؤوليتنا المنبثقة عن الهولوكوست تُملي علينا أن ندافع عن وجود دولة إسرائيل وأمنها”. كما دعا الرئيس الفرنسي، ماكرون، في زيارته إسرائيل أيضاً إلى توسيع نطاق التحالف الدولي الذي يحارب تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ليضم الجيش الإسرائيلي في حربه المتواصلة على قطاع غزّة، وأكد ضرورة قتال حركة حماس “بلا رحمة”.
لم يقتصر دعم إسرائيل على المواقف اللفظية والدعم العسكري والمالي، بل تجاوز ذلك في الدول الأوروبية إلى تجريم التضامن مع الفلسطينيين المدنيين الذين يقصفون بالصواريخ الإسرائيلية، ومنع الرموز الوطنية الفلسطينية باعتبارها “إرهابية”، والمقصود العلم الفلسطيني والكوفية. لطالما كانت الدول الغربية منحازة لإسرائيل في الصراع في المنطقة، لكن هذا الانحياز لم يصل يوماً إلى هذا حد تكميم الأفواه كما يجري اليوم، الذي وصل إليه على خلفية حرب غزّة. وهو ما يمكن اعتباره كاشفاً لاستقطاب كتل اجتماعية داخل هذه الدول نفسها، ففي ظلّ موجة المدّ اليميني في أوروبا الذي سيطر خلاله اليمين المتشدّد على الحكم في عدة دول، إيطاليا، الدنمارك، السويد، وأخيرا هولندا، تزايد العداء للمهاجرين وللمسلمين وللمواطنين من أصول مهاجرة، حتى إن أحزابا ذات أصول نازية دفعتها كراهيتها اللاجئين والمسلمين إلى الوقوف مع إسرائيل، واعتبار أن من حقها “الدفاع عن نفسها” مع أنها فعلياً ترغب في طرد الجميع، مسلمين ويهودا. مقابل هذا الاصطفاف الأوروبي مع إسرائيل، كانت هناك معركة أخرى في هذه البلدان، ليس فقط من أجل الحرب على قطاع غزّة، بل ومن أجل منع النخب الأوروبية الحاكمة من قطع لسان اللاجئين والمواطنين من أصول غير أوروبية، والذين شعروا أنفسهم مستهدفين في هذه الحرب على نحو مباشر. لذلك، جاءت التظاهرات ضد الحرب في شوارع الدول الأوروبية، من أغلبية ساحقة لمواطنين من أصولٍ غير أوروبية، وكان هذا مؤشراً على استقطاب، بين قضايا الشمال والجنوب، حتى داخل الدول الأوروبية ذاتها.
دفعت حرب غزّة إلى تقاطع قضايا الظلم، ففي وقتٍ يجب على الفلسطينيين أن يموتوا تحت القذائف الإسرائيلية من دون احتجاج منهم ومن يتضامن معهم، وجد اللاجئون، ومن هم من أصول لاجئة، أنهم معنيون في وقف هذا القتل، ليس فقط للتضامن مع الفلسطينيين ومحاولة وقف المذبحة التي يتعرّضون لها، بل، من أجل إعلان صوتهم الذي تسعى الحكومات الأوروبية اليمينية إلى إسكاته، ليس فقط بشأن التضامن مع الفلسطينيين في قطاع غزّة الذين يتعرّضون لحرب إبادة جماعية، بل وللحفاظ على أصواتهم في احتجاجهم ضد سياسات التمييز التي يتعرّضون لها، إنه نوع من تضامن الضحايا. اليوم، يعلو الصوت من أجل غزّة، وغداً من أجل قضايا أخرى لا يريد الغرب المركزي أن يراها من الأطراف التي يرغب في اختفائها، كما تمنّى رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحق رابين، غرق قطاع غزّة في البحر في أثناء الانتفاضة الفلسطينية الأولى.
—————————-
في الدفاع عن حقّ المقاومة وعن حماس/ عمار ديوب
25 نوفمبر 2023
ليست قضايا الدفاع عن الحقوق قضايا حسابية، خاضعة لمبادئ التجارة والربح والخسارة. وبالتأكيد، لا تُحسب عبر كلماتٍ من هذا القبيل: كم كلّفت عملية المقاومة العدو، وكم قُتِل من الفلسطينيين أو المقاومين، وكم هي كلفة إعادة إعمار غزّة.
هذه معادلة منطقيّة منحطّة؛ إن الدفاع عن الحقوق يستدعي بالضرورة التضحيات، وإنْ كانت ليست هي الهدف بذاته، وهو تاريخ التحرّر من الاستعمار ومن الاستبداد! وبالتالي، إن مقاومة دولة الاحتلال، تقتضي بالضرورة التضحيات والشهداء والدمار، وهو ما لا تبتغي حدوثه المقاومة، ولكن لا يمكن استعادة الحقوق دون ذلك، ما دام الاستعمار، والدول الداعمة له، تستخدم كل أنواع السلاح للإجهاز على السكان الأصليين.
لقد جرّب الفلسطينيون مشروع الدولة، وقضت عليه دولة الاحتلال، حينما لم تنفذ اتفاقيات أوسلو، ونُسقِط من حساباتنا رفض بعض القوى الفلسطينية لتلك الاتفاقيات؛ فلو فَكّكت دولة الاحتلال المستوطنات وأعيدت القدس ورُسمت الحدود وسُمِح للاجئين بالعودة لما كان لذلك الرفض قيمة وأهمية، وكانت “حماس” ذاتها ليس بالقوة الحالية! وأيضاً لو قَبِلَ الاحتلال بمبادرة السلام العربية 2002.
المقصد أنّه لم يبقَ للفلسطينيين إلّا العودة إلى المقاومة، وإن ممارسات دولة الاحتلال ومنذ تشكلّها، وفي السنوات الأخيرة لم تترك خياراً آخر سوى المقاومة، السلمية والمسلحة، وسواها، وهي تدفع الفلسطينيين إلى رفض خيار الدولتين، وتركيز النضال والجهد الثوري للعمل من أجل الدولة الواحدة.
الثرثرات عن العقلانية وضرورة الابتعاد عن العاطفية والحماس توصي بتعزيز السلطة الفلسطينية، ومحمود عبّاس ذاته وسلطته، يرفضون المقاومة المسلحة، ويتبنّون المقاومة السلمية والثرثرات ذاتها، وإنْ كذباً. ولكن ماذا كانت الحصيلة من جرّاء ذلك كله؟ الحصيلة، هي توسّع الاستيطان في الضفة الغربية، والتضييق على فلسطينيي 1948، لدفعهم إلى الهجرة، وقيام قوات الكيان باقتحامات مستمرّة لمدن الضفة واعتقال المناضلين وقتلهم، وقد ارتفع عدد الشهداء منذ “طوفان الأقصى” إلى أكثر من 215 شهيداً وآلاف المعتقلين ومئات الاقتحامات وتدمير المنازل وتخريب البنية التحتية وترهيب السكان، والأسوأ تسليح المستوطنين، واعتداءاتهم على الفلسطينيين في القرى والبلدات، ومحاولة سرق أراضيهم وتهجيرهم.
لا تتيح دولة الكيان للفلسطينيين خيارات أخرى خارج المقاومة، السلمية أو العسكرية، وسواها. وبالتالي، ليس في الأفق أيّة إمكانية لإقامة دولة فلسطينية على الأراضي التي احتلت في 1967، وهذا ما يجب أن تفهمه كل القوى الفلسطينية، وفي مقدمتها حركة حماس، ووضع استراتيجية ثورية من جديد، ولكل القوى وللشعب الفلسطيني، وبشكل مشترك، وهو ما يجب أن تفهمه الدول العربية كذلك.
كانت عملية طوفان الأقصى بسبب تراكم طوفان الاعتداءات الصهيونية، والتي تتّجه نحو دولة يهودية خالصة، وتهجير أهل قطاع غزة والضفة الغربية والـ48، وإلا ما معنى الدولة اليهودية! وضعت هذه العملية كل الدول العربية والعالم أمام مسؤولياته من جديد، وفي ضرورة لجم دولة الاحتلال عن مشروع التهجير وضرورة حلّ القضية الفلسطينية، ووفقاً للقرارات الدولية أو وفقاً لحقوق الشعوب باستعادة أراضيها ودولتها، وهذا بالضبط ما يخيف دولة الاحتلال والإدارة الأميركية وبعض الدول الأوروبية.
العدوان الهمجي على غزّة والدعم الأميركي وبعض الدول الأوروبية هو لتحجيم أثر هذه العملية؛ إن القول بأنّه لم تحدُث إلّا آثار سلبية على الفلسطينيين، وهي تعجّل بالتهجير وبتغييب الحلم بتشكيل دولة فلسطينية، محض أكاذيب وتفكير مهزوم وتغيب وقائع الإجهاز الصهيوني على اتفاقيات أوسلو، وهو أيضاً تبريرٌ للدول المطبّعة مع الكيان، كي لا تقوم بواجباتها نحو فلسطين أو توقف اتفاقيات التطبيع.
أظهرت عملية طوفان الأقصى أهمية القضية الفلسطينية عالمياً، وقد أوضحت المظاهرات التي عمّت العالم أن كل الرواية والسردية الصهيونية عن العملية وعن “حماس” وعن القضية الفلسطينية سرديات كاذبة وغير ذات مصداقية، وأن الرواية الفلسطينية هي الأصل في النظر إلى فلسطين وشعبها، والمنطلقة من وجود استعمار استيطاني، وإن للشعب الفلسطيني كل الحقّ بالمقاومة، وبكل أشكالها.
كما يعاني الفلسطينيون من دولة الكيان، كذلك تعاني الشعوب العربية من أنظمتها، وإذا سارت بعض هذه الأخيرة في خيارات التطبيع، ولم تنهها رغم كل جرائم العدوان على غزّة والضفة والـ48، فإن على هذه الشعوب أن تعي التداخل العميق بين أنظمة “التطبيع” والكيان الصهيوني، وأنهما حلفاء في معركةٍ واحدة، ويسعيان إلى الإجهاز على نضال المقاومة ونضالات الشعوب العربية.
رغم الفقرة السابقة، نقول إن دولة الكيان لم تترُك مجالاً لبعض الدول المطبّعة معها إلّا رفض خيارات تهجير الفلسطينيين أو رفض العدوان والمطالبة بإيقافه. كانت هذه المواقف للحدّ من الغضب الشعبي ولتأمين الاستقرار، وكذلك لمواجهة التعدّيات الصهيونية التي تجاوزت الحدود المسموح بها مع الدول المطبّعة.
لهذه الدول ولكتّابها “العقلاء للغاية”؛ إن دولة الكيان لا تسمح لهذه الدول بأيِّ تطورٍ مستقلّ، أو نديٍّ معها، وكل أشكال التطور، الاقتصادي، والعسكري، والأمني، والسياسي، يجب ألا تتجاوز دولة الكيان، وأن تكون بالشراكة معه. وللدقّة، فإن ذلك الكيان “خُلِقً” لمنع نهوض الدول العربية بالأصل.
الخيارات الوحيدة أمام القوى الفلسطينية، وفي مقدّمتها “حماس”، هي المقاومة، وهي حقّ أمميٌّ، وبالتالي، لا بد من رؤى سياسية مستقبلية للشعب الفلسطيني لا تنطلق من تعزيز السلطة في الضفة الغربية، وتنطلق من التأكيد على الحقّ بالمقاومة، وتفكيك كل أشكال السلطات الفلسطينية المعيقة تطوّر المقاومة، وبما يسمح للشعب الفلسطيني الوصول إلى حقوقه.
ليس بسيطاً ما جاء أعلاه، سيما أن مبادرات سياسية كثيرة تنطلق من الحديث عمّا بعد حركة حماس، “مشاريع” اليوم التالي، وهو ما لا ترفضه دول عربية وعالمية كثيرة، وحتى السلطة الفلسطينية!
صمود المقاومة في غزّة، والتفاوض مع حركة حماس لإطلاق الأسرى، مؤشّراتٌ أوليّةٌ على أن المخطط الصهيوني والأميركي للتهجير قد فَشِل، وإن “حماس” باقية، وشعبيتها في ازدياد، وهذا يوضح قصور الرؤية التي تفترض اجتثاثها، وتثرثر عن مدِّ السلطة مؤسّساتها إلى غزّة. القضية الآن هي تعزيز خيار المقاومة، وإيقاف العدوان، والعودة إلى القرارات الدولية المنصفة للشعب الفلسطيني؛ وأن “حماس” جزءٌ من الشعب الفلسطيني، هذا أولاً. والمقاومة من حقّ “حماس” وسواها، هذا ثانياً، وأيّة مبادرات مستقبلية يجب أن تنطلق من هذه الحيثية، وإلّا فهي مبادراتٌ تنطلق من الرؤية الصهيونية الإبادية، والتي تقول بضرورة ليس اجتثاث “حماس” بل والقضية الفلسطينية ذاتها، في غزّة والضفة الغربية وأراضي ال 48، وإخضاع كل الدول العربية لسلطة دولة الاحتلال، وهي الغاية الحقيقية من كل اتفاقيات التطبيع.
————————
الولاية الأميركية الواحدة والخمسون والصراع الدولي/ حيّان جابر
25 أكتوبر 2023
في سابقة نادرة الحدوث، حضر كلٌّ من وزيري الخارجية والدفاع الأميركيين، أنتوني بلينكن ولويد أوستن، والرئيس الأميركي جو بايدن، على حدة، ثلاثة اجتماعاتٍ منفصلة لمجلس وزراء الحرب الصهيوني؛ وربّما أكثر، الأوّل في 2023/10/12، والثاني في 2023/10/13، والثالث في 2023/10/19. أثار حضور القادة الأميركيين جدلاً واسعاً في الوسط الصهيوني الإعلامي والشعبي، نظراً إلى طبيعة الاجتماع، وخطورته الأمنية والاستراتيجية، فاجتماع مجلس وزراء الحرب داخلي أمني وسرّي، غير مسموحٍ لغير أعضائه الخمسة بحضوره، فكيف ولماذا يحضُره قادة أميركيون، والأهمّ ما دلالات حضورهم؟
استحضار هذه الوقائع مهمٌّ لإعادة توضيح طبيعة هذا الاحتلال، باعتباره أداة أميركية إمبريالية، تخدم مصالح النظام الدولي، ومركزه الأميركي الحالي، كما خدمت مصالح مركزه السابق المملكة المتّحدة، وكما قد تخدم مصالح مركزه أو مراكزه القادمة، في حال استمرار الاحتلال فترة طويلة. لذا وبعد تعرّض الاحتلال لضربة أمنية واستراتيجية خطيرة جداً في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، مثّلت تهديداً وجودياً حقيقياً على المدى المتوسط، كان لا بدّ من تدخلٍ أميركي سريعٍ ومباشرٍ، على المستويين القيادي والاستراتيجي.
يعتقد بعضهم أنّ إرسال الولايات المتّحدة حاملة طائراتها إلى المنطقة العربية، هو ما يعكس تدخّلها المباشر لإنقاذ الاحتلال، لكنه في الحقيقية يعكس خطوة دعائية وترويجية وسياسية، وربّما معنوية أكثر من كونها انعكاساً لتدخّلٍ مباشرٍ، إذ من المستبعد مشاركة القوات العسكرية الأميركية البرّية والبحرية والجوية في اعتداءات الاحتلال الحالية على أرض فلسطين، سواء في قطاع غزّة، أو في الضفّة الغربية، أو حتّى على حدود الاحتلال مع لبنان، وذلك لاعتباراتٍ عديدة، أهمّها أولويّات المصالح الأميركية. وهو ما ذهبت إليه تصريحات المسؤولين الأميركيين بشأن احتمال نشر قواتٍ أميركية داخل المناطق التي يسيطر عليها الاحتلال الصهيوني، إذ شدّدوا على عدم مشاركتهم؛ في حال حدوث ذلك، في الحرب، وحصر دورهم في الدعم الطبي وإدارة الخدمات اللوجستية، بعيداً عن الخطوط الأمامية.
انهارت ثقة الإدارة الأميركية بحكومة الاحتلال وقادته، أو شارفت على الانهيار، وهو ما قد يشمل كلاً من حكومة الاحتلال ومعارضيها، على ضوء الفشل الاستخباراتي والاستراتيجي الهائل الذي عكسته عملية طوفان الأقصى، فالعملية وفق ما أعلن عنها الناطق باسم كتائب عز الدين القسّام، الجناح العسكري لحركة حماس، أبو عبيدة، بدأت من حيث انتهت معركة سيف القدس، عام 2021، وهو ما يعني أنّ الفشل الاستخباراتي والاستراتيجي ممتدٌ منذ ذلك الحين، فشلٌ في الكشف عن خطط “حماس”، وفي قراءة تحرّكات مقاتليها، وتدريباتهم، وهو ما يتجاوز مسؤولية حكومة الاحتلال الحالية، ويشمل حكومته السابقة، إلى جانب قياداته الأمنية والعسكرية منذ عام 2021.
إذاً تضعضعت ثقة الحكومة الأميركية بقيادة الاحتلال السياسية والأمنية والعسكرية منذ مدّة، بسبب قصور أدائها السياسي والعسكري، ثم انهارت، أو شبه انهارت بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، وهو ما دفع القيادة الأميركية إلى الإشراف المباشر على رد الاحتلال الأمني والاستخباراتي، وربّما السياسي والإعلامي. من هنا كانت مشاركة قادة أميركا في اجتماع مجلس وزراء الحرب الصهيوني، ومن هنا قد نشهد مزيداً من مشاركتهم في الأيّام المقبلة، خصوصاً إذا شهدنا مزيداً من التخبّط الصهيوني، ولما لا من الهزائم، أو الانتكاسات.
إرسال حاملة الطائرات الأميركية إلى المنطقة العربية، وإصدار قرار وزير الدفاع الأميركي القاضي باستعداد قرابة 2000 جندي أميركي، لاحتمال نشرهم في “إسرائيل”، واستنفار القواعد العسكرية الأميركية في المنطقة العربية، كلّها تصب في سياق إشراف الولايات المتّحدة وإدارتها الاعتداء الصهيوني على أرض فلسطين وشعبها اليوم، وجميعها تُستخدم في تبرير مشاركة قادة أميركا في اجتماعات مجلس وزراء الحرب الصهيوني.
لكن؛ خاضت الولايات المتّحدة حروباً عديدة في العالم، بمشاركة من عشرات الدول، منها العدوان على العراق، ومن ثم احتلاله، ومنها الاعتداء على أفغانستان، ومن ثم احتلالها، وأخيراً الانخراط الأميركي غير المباشر في حرب أوكرانيا، أو في التصدّي الأوكراني للغزو الروسي على أراضيها. كما شاركت الولايات المتّحدة من أجل ذلك كله في عشرات الاجتماعات الأمنية والعسكرية على المستوى الدولي، لكنها لم تشارك في الاجتماعات العسكرية والأمنية الداخلية لأي من حلفائها أو شركائها، على اعتبارها قوّة حليفة وداعمة فقط، لا تملك صلاحية التدخّل والاطّلاع على أسرار الدول الأمنية والعسكرية الحساسة.
لكن حالة الاحتلال الصهيوني خاصّة ومختلفة، فالاحتلال، وفق تعبير الرئيس الأميركي جو بايدن نفسه، “أفضل استثمارٍ فعلته الولايات المتّحدة في الشرق الأوسط”، وكما قال في زيارته أخيراً دولة لاحتلال “لو لم تكن هناك إسرائيل لعملنا على إقامتها”. وتشير هذه التصريحات، كما تشير مشاركات قادة أميركا في اجتماعات مجلس وزراء الحرب الصهيوني، إلى أنّ الاحتلال هو الولاية الأميركية الواحدة والخمسون. وعليه، تتحمّل الإدارة الأميركية مسؤولية حمايته، ما دفعها إلى الانخراط في اجتماعات مجلس الحرب الصهيوني مباشرة، في ظلّ انعدام ثقتها بالإدارة الصهيونية السياسية والعسكرية والأمنية.
إذاً تنطلق الإدارة الأميركية من مسؤوليتها المباشرة تجاه حماية الاحتلال، وكأنه ولاية أميركية تتمتع بحكمٍ ذاتي سياسي واقتصادي، وهو ما يفسّر حجم الدعم المالي واللوجستي والإعلامي والسياسي والاقتصادي، الذي يحظى به الاحتلال على مدار العقود الماضية مجتمعة، والتي لا تحظى به أو حتّى بنصفه أي من الدول، إذا ما استثنينا العامين الأخيرين، اللذيْن شهدا انعطافاً أميركياً واضحاً تجاه أوكرانيا، التي حظيت بدعمٍ أميركي كبيرٍ جداً، بلغ منذ بداية الحرب الأوكرانية الروسية أكثر من 76.8 مليار دولارٍ، وفقاً لـ “كيل انستيتيوت فور ذا ورد ايكونومي” الألماني.
قبل بضعة أيّام؛ طلب الرئيس الأميركي جو بايدن من الكونغرس الموافقة على مخصصاتٍ أمنية ضخمة بقيمة 106 مليارات دولار، منها 61 مليار دولار لأوكرانيا، و14 مليار دولار للاحتلال الصهيوني! يكشف هذا التباين الكبير بين الدعمين الأوكراني والصهيوني عن أولويّات أميركا الحالية، وعن استراتيجيتها الأمنية، التي تجد في الحرب الأوكرانية صراعاً يهدّد مكانتها الدولية، وربّما يطيح بمصالحها حول العالم كلّه، في حين ترى في الاحتلال الصهيوني استثماراً ضرورياً للحفاظ على مصالح أميركا في المنطقة العربية ومحيطها، وبين الخطر المُحدق بمكانة أميركا ومصالحها الدولية، وبين خطرٍ محدقٍ بمصالحها ومكانتها في المنطقة العربية، تسعى الإدارة الأميركية اليوم إلى ضبط الاعتداءات الصهيونية وإدارتها، كي لا تخرُج عن السيطرة، متحوّلة إلى حربٍ إقليمية واسعة، وربّما حربٍ دولية واسعة، لصالح استمرار تركيزها على مواجهة الخطر الاستراتيجي الأكبر؛ وفقاً للحسابات الأميركية، والمتمثّل في كلٍّ من الصين، ومن بعدها روسيا.
لذلك؛ يعتقد الكاتب وعلى الرغم من الرغبة؛ بل الحاجة، الصهيونية الواضحة لاجتياح قطاع غزّة، فإنّه بات احتمالاً غير مرجّحٍ، في ظلّ أولويّات أميركا الدولية، وفي ظلّ الصراع الدولي المتصاعد على قيادة العالم ومركزه، وفي ظلّ تصاعد احتمالات توسّع دائرة القوى المنخرطة في الصراع إقليمياً ودولياً. رغم ذلك، لا يستبعد الكاتب اجتياحاً برّياً محدوداً وسريعاً، ولمساحة محدودة جغرافياً، ولهدفٍ محددٍ وواضحٍ، مثل اغتيال قائدٍ سياسي أو عسكري كبيرٍ ينتمي لحركة حماس، أو بغرض تحرير بعض أسرى الاحتلال لدى فصائل المقاومة.
أما الاعتداء الجوي المتواصل الآن، فيرجّح الكاتب استمراره فترة قصيرة، تتراوح بين أسبوعٍ وعشرة أيّامٍ على الأكثر، كجزءٍ من آليات ضغط الإدارة الأميركية على الكونغرس للموافقة على المخصصات الأمنية الطارئة، فمن الصعب استمرار الاحتلال بهذه الوتيرة من جرائم الإبادة الجماعية والعقاب الجماعي والتطهير العرقي أمام مرأى العالم ومسمعه، خصوصاً بعد كسر معظم شعوب العالم جدار الصمت، تحت ضغط جرائم الاحتلال المستمرّة والمتواصلة، وبعد انكشاف جزءٍ كبيرٍ من روايته الملفقة، التي حاول فرضها بعد “7 أكتوبر”.
————————–
عندما قٌهر الجيش الذي لا يُقهر/ أحمد رحّال
24 أكتوبر 2023
تتسارع الأحداث في قطاع غزّة، وتحمل مفاجآتٍ كثيرة، بعد المفاجأة الأولى، عملية طوفان الأقصى التي هزّت عرش إسرائيل للمرّة الثانية بعد حرب عام 1973، تلك العملية التي خطّطت لها كتائب عزّ الدين القسام (الجناح العسكري في حركة حماس) بمنتهى السرّية، فاستطاعت كسر قوالب ومفاهيم ومسلّماتٍ لطالما خاف منها بعضهم، ولطالما تغنّت بها إسرائيل.
أول من اهتزّ في هجوم كتائب القسام على عدة مواقع إسرائيلية في غلاف غزّة كانت المؤسسة العسكرية والجيش الإسرائيلي. إذ على الرغم من إقامة بنية نظام دفاعي غير مسبوق في العالم، ويخضع لمراقبة إلكترونية وحرارية وبشرية، تُضاف إلى جدار إسمنتي عازل يرتفع عدّة أمتار، ويفصل أراضي قطاع غزّة عن جواره من مستوطنات وكيبوتسات إسرائيلية، إلا أن ضباط الجيش الإسرائيلي وعناصرهم في حاجز إيرز وغيره، تمت مفاجأتهم في أسرّتهم ومنازلهم واقتيدوا أسرى إلى داخل قطاع غزّة.
كانت الضربة المؤلمة الثانية لمنظومة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية مع كل أجهزة الاستطلاع المرتبطة بها من وسائط فضائية وجوية وأرضية، تضاف إلى أعداد كبيرة من العملاء، استطاعت “حماس” تضليلهم وخداعهم وإبعاد أنظارهم عن عمليات التخطيط والتنظيم والتدريب وحتى ساعة التنفيذ.
ظهر التأثير الثالث لعملية طوفان الأقصى في ضعف الجبهة الداخلية الإسرائيلية، وغياب منظومة السيطرة والقيادة، والانخفاض الشديد للمعنويات وللثقة بقدرات الجيش وأجهزة الأمن ومنظومة الدفاع داخل المجتمع الإسرائيلي.
حيال ما تقدّم، وما آلت إليه الأمور في إسرائيل، لا يمكن اعتبار “طوفان الأقصى” عملية عسكرية اعتيادية، قتلت وأسرت وعادت، لأن الآثار التي تركتها والشروخ التي أحدثتها في جسد الكيان الإسرائيلي قد تمتد سنوات، وقد تشكل نقطة فارقة تقاس بها الأحداث بعد ذلك، وهذا ما يفسّر الاندفاعة السريعة للقيادة السياسية والعسكرية والأمنية الإسرائيلية نحو عملية انتقامية أطلقوا عليها اسم “السيوف الحديدية”، ومن أجلها جرى استدعاء زهاء 320 ألف شاب إسرائيلي ليُضافوا لحوالي 160 ألفا في الخدمة الفعلية في الجيش الإسرائيلي وبشكل دائم، ورفعت الجاهزية القتالية لكل أنواع القوات المسلحة، ووضعت في حالة تأهب على كامل الحدود مع قطاع غزّة. ولم ينحصر الخوف على إسرائيل داخل غرف عمليات الجيش الإسرائيلي فقط بل تعدّاه نحو الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، فتم تحريك حاملتي طائرات (جيرارد فورد وآيزنهاور) مع مجموعتين أميركيتين بحريتين ضاربتين انضمت لهما سفن حربية من ألمانيا وبريطانيا وإيطاليا، واتخذوا من قبرص مقرّاً مؤقتاً لهم، حيث فيها قاعدتان جويتان بريطانيتان. وتعكس الحركة المتسارعة بتشكيل تلك القوى البحرية الكبيرة مدى الخوف الذي حملته التقارير العسكرية والأمنية لأجهزة الاستخبارات الغربية التي رصدت الخلل داخل المجتمع الإسرائيلي، والتفكّك الذي أصابه نتيجة هجوم كتائب عز الدين القسّام.
ليس مردّ حتمية الرد الإسرائيلي على عملية طوفان الأقصى رغبة إسرائيلية بالثأر والانتقام، بل هناك ما هو أبعد من ذلك، فصورة الجيش الذي لا يُقهر اهتزّت ويجب أن تعود، والثقة التي كانت لدى الإسرائيليين بأن هناك جيشا يحميهم تلاشت، ويجب استردادها. وهناك أيضاً معادلة الردع التي أوجدتها إسرائيل في الداخل والخارج، وعملت على ترسيخها عقودا، فتلك المعادلة انكسرت. وعندما يستطيع عدة مئات من مقاتلي كتائب عز الدين القسّام العبث بمعادلة الردع الإسرائيلية وتمزيقها والدوس عليها، فتلك سابقة ستزيح الغشاوة عن كثر آمنوا بقوة إسرائيل، وصدّقوا الكذبة الإسرائيلية واقتنعوا وتحاشوا الاصطدام بها. وبالتالي، ستعمل إسرائيل جاهدة، وبكل ما أوتيت من قوة، لضرب حركتي حماس والجهاد الإسلامي، وحتى حزب الله في جنوب لبنان، من أجل استرداد معادلة الرعب والردع التي احتفظت بها إسرائيل عقودا طويلة من دون اختبار.
السبب الثالث الذي يدفع إسرائيل إلى شن عملية اجتياح عسكرية داخل غزّة تكمن في إعادة توحيد الجبهة الداخلية المهزوزة أصلاً بصراعات نتنياهو السياسية مع خصومه في الداخل، لتأتي عملية طوفان الأقصى وتزيد الشرخ وتفتّت الجبهة الداخلية لإسرائيل، نتيجة ضعف الثقة بقيادتهم العسكرية والسياسية. وهذا ما أفرزته نتائج استطلاع أجريت، أخيرا، بعد عملية حماس في غلاف غزّة، حيث أكد معظم من شملهم استطلاع من الإسرائيليين عن فقدان ثقتهم بقيادتهم الحالية، وأن 94% يرون حكومة نتنياهو فاشلة، وأن 56% طالبوا باستقالة نتنياهو، و52% طالبوا باستقالة وزير الدفاع، وأن معظم الشعب الإسرائيلي شعر بالخطر بعد عملية طوفان الأقصىن كما حصل عام 1973 بل أكثر منه قليلاً.
ويبقى السبب الأهم الذي يدفع إسرائيل إلى اقتحام غزّة مدينة الأنفاق تحت غزّة، والتي يُطلق عليها الإسرائيليون اسم “مترو غزّة”، حيث توجد خطوط الإنتاج العسكرية لحركتي حماس والجهاد الإسلامي، وحيث مستودعات التخزين لعشرات آلاف الصواريخ وقواعد إطلاقها، وحيث تصنّع وتجهّز وتخزّن الطائرات المسيّرة بأنواعها (الهجومية والاستطلاعية والانتحارية)، وحيث الملاذ الآمن لقادة “حماس” وعناصرها. ويقول قادة إسرائيل إنه بدون تدمير تلك المدينة ما تحت أرضية لن تشعر إسرائيل بالأمان والهدوء.
تقول عملية التتبع إن إسرائيل حشدت خمس فرق عسكرية (مشاة ومدرّعة) على الحدود الشمالية والشرقية لقطاع غزّة، على أن يجري تأمينها بكتلة مدفعية قصيرة وبعيدة المدى، مع منظومات صواريخ متعدّدة الأمدية، تساندُها مجموعات بحرية ضاربة تحاصر قطاع غزّة، وتشارك بأعمال التأمين والتمهيد والدعم الناري للقوات البرّية التي ستقتحم قطاع غزّة، وكل تلك القوات تحظى بتغطيةٍ جويةٍ رُصدت لها أكثر من مائة طائرة مقاتلة ومقاتلة قاذفة وعشرات الحوّامات القتالية ومئات المسيّرات.
وقد لوحظ بعملية التمهيد الناري الذي تقوم به قطعات المدفعية والدبّابات، إضافة إلى الطيران القاذف الإسرائيلي، أنها تشمل كامل قطاع غزّة، لكن ثقل التركيز هو على القطاع الشمالي، حيث مدن غزّة وبيت لاهيا وبيت حانون وجباليا، تلك المناطق التي أصبحت شبه مدمّرة، بعد تقسيم الرمايات المدفعية والصاروخية لها (نارياً وتدميرياً) إلى قطاعاتٍ وأقسام، يبدو أنها تتناغم وتتوافق مع محاور التقدّم الواردة في خطّة الاجتياح الإسرائيلي التي خطّطت لها القيادة العسكرية، ووافقت عليها القيادة الإسرائيلية، ونبّه لها الرئيس الأميركي بايدن بقوله لنتنياهو: “عليكم بوضع خطط عسكرية مُحكمة تخلو من الأخطاء”، وكأنه أراد أن يحذّر الإسرائيليين من الوقوع في مستنقع غزّة كما وقع الأميركيون في مستنقعات فيتنام وأفغانستان والعراق.
أرعبت عملية طوفان الأقصى التي ستدرّس في كبرى الأكاديميات العسكرية مستقبلاً إسرائيل، وأرعبت حلفاءها الذين سارعوا إلى حمايتها. والرغبة الإسرائيلية بالثأر والانتقام تدفعهم إلى ارتكاب مجازر، كما حصل في مشفى المعمداني في مدينة غزّة. وفي المقابل، ليست حركة حماس وحليفها الجهاد الإسلامي لقمة يسهل بلعها وهضمها، بل على الرغم من قدراتهم العسكرية المتواضعة قياساً مع إسرائيل، إلا أنهم يشكّلون رقماً صعباً في حرب اجتياح غزّة، فالتفوّق التقني والعسكري للجيش الإسرائيلي تقابله إرادة قتال فلسطينية وقدرة هائلة على الاستفادة من مسرح أعمال قتالية يُتقنها الفلسطيني وتخشاها إسرائيل. وصحيح أن النهاية، وبالإمكانات العسكرية المتاحة للطرفين، قد تنجز نصراً إسرائيلياً، لكنه سيكون باهظ الثمن، قد لا تحتمله إسرائيل.
———————-
السوريون وغزّة التي تُذبح/ سوسن جميل حسن
24 أكتوبر 2023
حتى وقتٍ قريب كان السوريون يُساقون، بكل فئاتهم وشرائحهم، إلى المسيرات التي تنظمها القيادة السياسية، وتحت إشراف (ومتابعة) أجهزة المخابرات بكل تنويعاتها ومسمّياتها. كان هذا قبل أن تتقسم سورية إلى مناطق نفوذ، وقبل أن ترفرف في سمائها أعلامٌ وراياتٌ بتلوينات متعدّدة، واستمر في مناطق النظام حتى وقت قريب.
كانت غالبية المسيرات تخرج من المدارس والمعامل والمؤسّسات والوزارات والنقابات والاتحادات، بل وحتى من بين الناس العاديين الذين يسعون، في سبيل لقمتهم ولقمة أبنائهم، وتُقام المهرجانات الخطابية الحماسية التي تذكّر بمناقب القائد الخالد وأعطياته ووقفته الشامخة التي تدعو إلى الفخر في وجه الرجعية والإمبريالية والصهيونية، والمؤامرة الكونية التي لم تيأس من التربّص بسورية وشعبها وقيادتها الحكيمة منذ فجر التاريخ. وكانت فلسطين حاضرة باستمرار في المسيرات والخطابات الرنّانة التي تنهي الكيان الغاصب من الوجود، وتنتصر عليه في كل خطابٍ وفي كل مسيرةٍ مليونيةٍ يزحف الشعب فيها إلى ساحةٍ يتجمّعون فيها ليقدّموا عربون الوفاء والامتنان للقيادة والقائد، ويعبّروا عن وحدة “المصير والمسار”، وأنهم خلف القائد، والدليل صراخهم، وبعضُهم على الأكتاف، “بالروح بالدم نفديك”.
منذ سبعينيات القرن الماضي، وُلدت أجيال من السوريين، ثم كبروا لا يعرفون شيئًا غير أن الأسد قائدهم إلى الأبد، وأن فلسطين قضيتهم الكبرى، يعيشون ويكبُرون من أجلها، حتى صارت شيئًا فشيئًا هناك قضية، من دون أن يعرفوا ما هي، لكنها القضية الحاضرة في المسيرات والخطابات والصحف والإذاعة والتلفزيون والمدارس وكتب التربية الوطنية، وبعدها القومية، وفي حصص التربية العسكرية وفي منظمة الطلائع والشبيبة والطلبة، وفي الاتحاد النسائي ونقابات العمّال واتّحادات الفلاحين، في الشوارع واللافتات التي تتوزّع جدران الأحياء في المدن والقرى، وحتى جدران البيوت.
وبدعوى الوقوف في وجه الرجعية والإمبريالية والصهيونية، وصوْنًا للقضية النبيلة التي يدفع الفرد السوري ضريبتها من حياته ورزقه وعرق جبينه وحصّة أولاده من المستقبل، صارت الحياة تنزلق بسبب الفساد والقمع والتغوّل الأمني في المجتمع، وسلب الحقوق وغياب المساواة والعدالة في الفرص والواجبات والحقوق، وإقصاء الشعب عن القرار وعن موارد البلاد التي تتسرب في ثقوبٍ مجهولة، إلى مستوياتٍ لم تعد محمولة، فانتفض الشعب في لحظةٍ ما، عندما أدرك وجوده وواقعه، انتفض لكرامته قبل كل شيء، ونزل الناس إلى الساحات مطالبين بدايةً بالإصلاحات وبالحرية. وكلنا يذكُر كيف راح النظام بالتوازي يسوق الناس في مسيراته المليونية، يتحدّون المؤامرة الكونية على سوريّة، ويجدّدون وقوفهم خلف القيادة الحكيمة، وخلف قائدهم في حربهما المقدّسة تلك، التي راح الناس يُقتلون فيها بالعشرات، ثم بالمئات، ينهمر عليهم الموت من السماء براميل متفجّرة، ومن الأرض ومن كل مكان. وراحت الحرب تشتعل بزخم أكبر، والأطراف الخارجية تدخل بجيوشها حينًا، وبمقاتلين مأجورين حينًا، وبتجنيد السوريين بعضهم ضد بعض حينًا آخر. … ولا داعي للاستفاضة أكثر وشرح ما هو واضح ومعروف.
متى اختفت المسيرات من سورية؟ أخمّن أنها خرجت في الاستفتاء على رئاسة الجمهورية في مايو/ أيار 2021. بعدها كان الجو العام يميل إلى انتظار الوعود بثمرة الانتصار التي لاحت بوادرُها، كما بشّر بها النظام، منذ العام 2018، وكانت نتيجة هذا الانتصار سورية مقسّمة إلى مناطق نفوذ، ما زالت العمليات العسكرية تدور في بعضها، كما في الشمال الغربي، وشرق سورية وشمالها، وهناك الجنوب، وانتفاضة السويداء الحالية.
التجمّع الوحيد الذي كان مسموحًا به هو المسيرات التي تديرها أجهزة النظام، أما التظاهر، فبعد أن جرّبه السوريون، وكانت نتيجتُه، التي ربت باقي شرائح الشعب السوري في مناطق النظام، ما وصلنا إليه، وعودة الخوف ليسكن النفوس.
اليوم، هناك حدث جلل، حرّك العالم بأركانه الأربعة، حكوماتٍ وشعوبًا، وهو في صلب القضية التي صارت في وعي أجيال من السوريين مفهومًا ضبابيًا، صارت رمزًا مجرّدًا يدخل في دائرة التجريد، وربما الميتافيزيقيا، هي قضية عظيمة مقدّسة، على كل سوري أن يعيش من أجلها، ويقسم للقائد بالولاء له ولها. حدثٌ فيه من الإجرام بحقّ الإنسانية ما يتحدّى كل القوانين الدولية، والقيم الأخلاقية، ويدمي القلوب والعواطف ويمزّق الضمائر. دفعت الحرب الإسرائيلية على غزّة الملايين في شتى أنحاء العالم إلى النزول إلى الشوارع والصراخ في وجه الحكومات والأنظمة والمنظمّات الدولية، كي ينصروا المستهدفين المنتهكة حياتهم، المسجونين في فضاء مفتوح، ترميهم الطائرات من الجو فتحصُدهم بالمئات. أشلاء الأطفال والنساء والكبار تغزو المواقع والمنصّات والمنابر كلها. كل العالم يرى هذه الوحشية غير المسبوقة، المدعومة من الغرب بالمطلق، تستثير النفوس والضمائر في شتّى بقاع الأرض، ويخرجون للتنديد والصراخ، إلّا في سورية، حيث النظام المقاوم حارس القضية، لا يقوى السوريون على الخروج والتظاهر والتنديد… أيّ جرح أعمق وأيّ إهانة أكبر؟ هل فقط لأن السوريين يحملون فوق ظهورهم ما تنوء تحته الجبال؟ هل لأنهم لم يبقَ في حياتهم مكانٌ لنضالٍ آخر غير النضال في سبيل الرغيف؟ هل لأن الموت الذي حصد مئات الآلاف منهم في السنوات العشر الماضية، والتدمير والتهجير وانهيار الحياة جعلهم غير عابئين بالفجور والوحشية التي تمارسها إسرائيل بحقّ سكّان غزة؟ بل وفي الضفة الغربية أيضًا؟ أم أن التجمعات ممنوعة حتى لو كانت مسيرات، خوفًا من تحوّلها إلى مظاهرات؟ تثير التجمّعات حفيظة نظامٍ لم يعترف في أي يوم بحقّ الشعب في أن يتظاهر ويعبر عن مطالبه، عن مطامحه، عن اعتراضاته، عن مشاعره، عن الدفاع عن كرامته وإرادته؟ بل حتى تجمّعات الأعراس والأفراح يجب أن تكون تحت رقابته الأمنية، وبموافقة أمنية مسبقة. ولماذا لا تنظّم القيادة الحكيمة مسيرات مثل تلك المليونيات التي كانت تسيّرها في ذكرى الحركة التصحيحية التي أسّست لتاريخ سورية بعدما كانت غفلًا بلا وجود ولا تاريخ؟ وفي ذكرى حرب تشرين “التحريرية” التي تذكّر الشعب السوري بأن جزءًا عزيزًا من أرضهم ما زالت إسرائيل تحتلّه، وما زالت إسرائيل تقصف أرضهم باستمرار وتحتفظ القيادة بحقّ الرد، وتلفت نظرهم أيضًا إلى الاحتلالات الحديثة التي قضمت أجزاء من أرضهم، وقسمتها.
لم يكن السوري بلا نخوة، ولم يكن بلا ضمير، ولم يكن بلا تاريخ، لكن ما وقع عليه ويقع اليوم، وضعه في هذه الدائرة التي تفتت روحه وتقتله مرّتين، السوري عاجز حتى عن التعبير، فكيف بالفعل؟
————————–
غزّة تحتلّ العالم/ سميرة المسالمة
23 أكتوبر 2023
أزاحت الحرب المعلنة من إسرائيل على غزّة الستار عن الموقف الغربي الموحّد من القضية الفلسطينية، ما يبدّد أي آمال عربية يمكن البناء عليها من هذا التصريح أو ذاك، من أي مسؤول أميركي أو أوروبي، بشأن حلول ممكنة لتنفيذ القرارات الدولية المتعلقة بالقضية الفلسطينية عموماً، وبحلّ الدولتين تحديداً، أو حتى تخفيف سياسة العنف الإسرائيلي في عموم الأراضي المحتلة ضد الفلسطينيين، وفي جولة زعماء الغرب الذين سارعوا إلى التوافد إلى إسرائيل للوقوف إلى جانبها، وكأن غزّة احتلّت العالم، يمكن ملاحظة تأكيدهم المتكرّر على نقاط ثلاث أساسية: الأولى، إن هذا الغرب برمّته مع إسرائيل في حربها على غزّة. ومن المفهوم والمعلن أن الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، ومعها معظم أوروبا، أمدّت إسرائيل بكل مستلزمات حربها، بل ما يفيض عن حربها ضد غزّة، ليشمل الدول المجاورة لها، إن شاءت، وفي الوقت الذي تحدّده، وتحت الذريعة التي تراها مناسبة، مع امتلاكها الرخصة الدولية الصالحة لكل زمان ومكان على ما يبدو.
والترسانة المسلحة التي تعوم عليها دولة الاحتلال ليست للتخزين أو لمجاملة المصنّعين، وشراء حمايتهم، كحال أنظمة الدول العربية التي تدفع مئات الملايين سنوياً ثمناً لأسلحةٍ معظمها صور على ورق، فإسرائيل عمدت، على الدوام، إلى وضع مخزونها الحربي في مواجهة من تعتبرهم أعداءها من الفلسطينيين، أو غيرهم، سواء كانوا من المُدرجين في لائحة الإرهابيين حسب زعمها، أو منظمّات مدنية أو مسلحة، أو من المدنيين من أطفال ونساء وشيوخ.
والنقطة الثانية في كل التصريحات الغربية تأكيد المسؤولين رغبتهم في العمل على خفض العنف أو تجنّب تصعيده، وهنا (لا يتناقض الغرب مع نفسه)، وانما يوجّه رسالة واضحة إلى الأنظمة العربية أن نزع فتيل الحرب مُمكن، ولكن ليس المقصود به السعي إلى حلولٍ بين الطرفين، أي حركة حماس وإسرائيل، بل العمل على تنفيذ مطالب إسرائيل التي تريدها من خلال حربها، وهي إخلاء غزّة وإنهاء “حماس”، ولا ضير من قولها صراحة مسح غزّة وناسها من الوجود. ولمّا كانت الحرب تحتاج طرفين، فإن وأد الحركة يتطلب تسويةً بين الطرفين، وهذا ما ظلت ترفضه إسرائيل سبعة عقود، أو إنهاء أحدهما، وهذه مهمة العرب التي يطلبها الغرب اليوم، أي إنهاء الطرف الفلسطيني لصالح الطرف الإسرائيلي، لكن الطرف، في هذه المرة، ليس “حماس” فقط، بل كل غزّة، لأن غزّة لم تكن يوماً هي “حماس”، وهذا تعرفه إسرائيل والغرب جيداً، و”حماس” ليست كل غزّة. أي أن المطلب الغربي هو تجنيب إسرائيل خسائر الحرب ومنحها مكاسبها، فهذا العالم المرتبك موصول “كوردور” سلامُه بزوال غزّة، وإعادة رسم خريطة جديدة لدول المنطقة التي لن تستثني أي حدودٍ من الاختراق، من مصر إلى الأردن وسورية ولبنان، وبالتأكيد لحساب مكاسب جديدة لإسرائيل التوسّعية، والتي إن تجنّبت قتل مزيد من الشعب الفلسطيني في غزّة الملتهبة عليها، فإنها لن تتنازل عن تهجيره.
وفي حسبةٍ سريعةٍ، لن يصعب على الدول التي استوعبت نحو عشرة ملايين سوري، إثر حرب النظام السوري على شعبه، أن تزيد عليهم نحو مليوني فلسطيني، فقد صارت التجربة السورية مقياساً في القصف والتدمير والتهجير. وفي المقابل، الصمت الدولي والتغاضي عن الجرائم أيضاً صارا سياسة عالم بلا معايير. مع وجود نقطة لمصلحة إسرائيل، وهي أنها سابقاً كانت تُنذر السكان لإخلاء المباني قبل قصفها، وهذه رفاهيةٌ لم يعرفها الشعب السوري في حمص وريف دمشق ودرعا وإدلب وحلب، ما يعني أن سياسة القصف الإسرائيلية من دون سابق إنذار مبنية على مقاربة مجرّبة وفعّالة في حصد الضحايا.
النقطة الثالثة، أن الغرب يعتقد أن القيم الإنسانية، الحرية والعدالة والمساواة، تنطبق على مواطنيه فقط، أي كأنها خاصّة بالغرب، وليست قيماً خاضت الشعوب في سبيلها تجارب قاسية ومؤلمة في كل مكان، فكانت وليدةً لتجربة البشرية في كل العالم، ما يعني أن هذه النظرة استعلائية، وقد ترقى لتكون عنصرية.
هكذا يتحدّث زعماء تلك الدول عن حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها، في حين يتناسون أن إسرائيل أقيمت بواسطة القوّة، وبفضل دعمهم، وبسبب محاولتهم التغطية على اضطهادهم اليهود في بلدانهم، إذ نشأت معاداة السامية في بلدانهم هم بالذات. كما يتناسون أن تلك الدولة قامت دولة استعمارية، وفقاً للمعايير الإنسانية والقرارات الدولية، أي أن الفلسطينيين هم ضحايا تلك الدولة، وهذا لا ينفي أن سكّان إسرائيل من اليهود هم ضحايا لاسامية أوروبية.
أيضاً، يتناسى هؤلاء الزّعماء في حديثهم عن حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها أيضاً، أن الدفاع عن النفس لا يعني إبادة المدنيين وتشريدهم، وأن ما قبل هذه الحرب ملفّ إسرائيل ثقيل بالجرائم ضد الفلسطينيين، وهي كانت المعتدي وليست الضحية، فهي التي تقتُل المدنيين يومياً، وكذلك الصحفيين. ولعلنا لا ننسى جميعاً مشهد قنص الصحافية شيرين أبو عاقلة قبل العدوان الحالي. وهي التي تصادر أراضيهم وتدمر بيوتهم، وتحتلّ حياتهم، وتعتقلهم وتشرّدهم، وها هي تقتل أطفالهم ونساءهم وشيوخهم بالجملة في المستشفيات والجوامع والكنائس والأفران وتدمّر عمرانهم، وتحاول دفن مدنهم.
يتناسى هؤلاء أيضاً، في غمرة حديثهم عن الرهائن، أن إسرائيل تعتقل حوالي ثمانية آلاف من الفلسطينيين والعرب، ومنهم منذ عشرات السنين، وأغلبيتهم من دون محاكمة، أو من دون تهمة، وأنها تمارس العقاب الجماعي لإخضاع الفلسطينيين، وفرض إملاءاتها عليهم.
يفوّت هؤلاء الزعماء أن إسرائيل قتلت، حتى كتابة هذه السطور، أكثر من أربعة آلاف من الفلسطينيين، نحو نصفهم من الأطفال، وجرحت ما يزيد عن 13,5 ألفاً وشردت مليوناً من فلسطينيي غزّة، أي نصف الفلسطينيين، الذين كانت إسرائيل تفرض عليهم حصاراً مشدّداً منذ 16 عاماً. كما لا يأتي هؤلاء على حقيقة رفض إسرائيل الانصياع للقرارات الدولية، وضربها عرض الحائط اتفاقيات أوسلو التي وقعتها في البيت الأبيض قبل ثلاثة عقود، رغم ما تشتمل عليه هذه الاتفاقيات من إجحاف بالنسبة لحقوق الفلسطينيين. ويبدو أنها بقرار مسبق لهذه الحرب، تنفّذ مخطّطها لإعادة ترسيم حدود ليس فقط الفلسطينيين داخل أراضيهم، وفي سجنهم الكبير الذي تديره السلطة الوطنية الفلسطينية، ولكن أيضاً مع الدول العربية المجاورة، كبيرها وصغيرها!
————————-
جدار عازلٌ جديدٌ لإسرائيل/ فاطمة ياسين
22 أكتوبر 2023
منذ إعلان الدولة عام 1948، حرصت إسرائيل على عزل نفسها عما يحيط بها، وتبدو الفكرة امتدادا لمقولات الشعب المختار المميّز. وفي حرب 1967، سيطرت إسرائيل على مزيد من الأرض، لتشكيل ستار واقٍ لها عن جيرانها من الدول العربية. ثم كرّرت الفكرة ذاتها على الحدود مع سورية، عندما أصدرت قرارا بضم الجولان السوري الذي شكّل لها جدارا جغرافيا عازلا تشرف به على السهول السورية، ويعطيها ميزة إنذار مبكر طبيعي تختفي خلفه. تكرّرت الحالة في جنوب لبنان، حين أوجدت كيانا شبه عسكري على الأرض اللبنانية في الجنوب. وقد شكل هذا الجيب الجغرافي حاجزا غطّى المنطقة الفاصلة بين “الحدود الإسرائيلية” والحدود اللبنانية. ولم يكن وضع ما سمّي غلاف غزّة غير تكرار للحالة الجغرافية الأمنية نفسها، بفارق أن الغلاف يقع داخل إسرائيل التي تسمى أراضي 48. آمنت العقلية العسكرية والسياسية الإسرائيلية بفلسفة الفصل، وحاولت أن تحتفظ بعرضٍ كاف يحميها من المفاجأة. ويمكن اعتبار الجدار العازل الذي بني حول الضفة الغربية جزءا من هذا التفكير. ولعدم توفر الأراضي الكافية ولتداخل المستوطنات الإسرائيلية في الضفة، اكتفت إسرائيل ببناء جدار خرساني عالٍ يؤمّن لها عزْلا من نوع ما. كانت إسرائيل تلجأ إلى تفريغ المنطقة من السكّان قبل أن تزرع كياناتٍ عسكريةً موالية لها أو تقوم بإدارتها عسكريا بنفسها وتستخدمها في دور منطقة عزلٍ أمنيٍ وإنذار مبكّر.
من الممكن أن تتعرّض غزّة حاليا للحالة نفسها، وتطبق إسرائيل نظريتها في العزل على القطاع، فقد تقلّص عدد سكان محافظتي غزة وشمال غزّة بشكل كبير، بعد عملية التهجير التي أمرت بها القوات الإسرائيلية، وبقي ما يقارب من نصف سكان غزّة في منازلهم نحو الوسط والجنوب، ورافق موجات الهجرة، عملية تدمير كبرى طاولت ربع الوحدات السكنية القائمة في المحافظتين المستهدفتين. كان عدد السكان في محافظة غزّة قد بلغ عشية بداية القصف الإسرائيلي 650 ألف نسمة، ما يجعلها أكبر مدينة يسكنها فلسطينيون في فلسطين والعالم، فيما بلغ عدد سكّان محافظة شمال غزة حوالي 300 ألف، غادر الجميع المنطقة تاركين وراءهم خرائب غير صالحة للحياة، فيما يبدو أنه تمهيدٌ ذو طبيعة عسكرية لإتاحة الفرصة للجيش الإسرائيلي أن يدخل غزّة من هذه المنطقة بالذات، بعد إفراغها، لتوفير دخولٍ آمنٍ للوحدات العسكرية، حيث ستُواجه منطقة خالية من المقاومة، وقد يكون هذا الدخول وشيكا، فقد خاطب وزير الدفاع الإسرائيلي، غالانت، جنوده وحثهم على الاستعداد لرؤية القطاع من الداخل، وحذرهم بأن الحرب قد تكون طويلة، ما يعني أن حالة عسكرية ستسود مساحاتٍ واسعة من القطاع، وستبقى هذه الحالة سائدة مدة طويلة، وكأن الوزير الإسرائيلي يمهد إعلامياً لدخول جيشه إلى شمال غزّة ليبقى هناك فترة طويلة.
لا يتجاوز عرض قطاع غزّة من ناحية الشمال عشرة كيلومترات، وهي مسافة يمكن أن تطاولها مقذوفات مدفعية من عيار مائة ملمتر، وتستطيع إسرائيل أن تسيطر من ناحيتي الشمال والشرق، وهي تسيطر فعليا على المنطقة من ناحية البحر، ما يعطيها إمكانية الإحاطة بمنطقة شمالي القطاع من ثلاث نواحٍ، ولا تبقى إلا واحدة، وهي الجهة التي طلبت إسرائيل من سكّان الشمال التوجّه إليها. ويحمل التركيز على منطقة الشمال طابعا انتقاميا في الوقت نفسه، فقد طاولت المستوطنات المحاذية قطاع غزّة من الشمال: زيكيم، سديروت، ناحل عوز، وكيسوفيم، ونتيفوت، هجمات حركة حماس مباشرة بشكل مؤثر، ويرشّح ذلك كله محافظتي غزّة وشمالها لتكونا منطقة عازلة تطبق عليها إسرائيل نظريتها في الاحتماء. ويمكن أن تكون خطّة المنطقة العازلة بديلة لخطّة الاجتياح الكامل التي لا تلقى شعبية دولية واسعة، كما تعطي السيطرة على شمالي غزّة إسرائيل النصر الذي تبحث عنه إعلاميا، فالطبقة السياسية الحاكمة الحالية تنتظرها ساعات عصيبة، بعد أن ظهرت منهارة تحت ضربة “حماس” المفاجئة.
—————————-
كوارث سوريا الكبرى وتحرير فلسطين/ مضر رياض الدبس
22 أكتوبر 2023
صار يعيش في هذه المنطقة، التي كانت تسمى “سوريا الكبرى” (فلسطين، وسورية، ولبنان، والأردن، والعراق)، نوعٌ من البشر لا يهتدي إلى أي فعلٍ يدل على وجوده في هذه الحياة إلا فعل القتل. وكأنَّه بالضبط ذاك الفاشي الذي كتب عنه محمود درويش في “مديح الظل العالي”، الذي “يخرُج من جسد الضحية/ يرتدي فصلًا من التلمود: أقتل كي تكون”. ولهذا النوع من البشر منهجٌ واحدٌ وله وجهان: المنهج هو القتل، ومقاربة الآخرين بوصفهم “حيواناتٍ بشرية” بتعبيرات وزير الدفاع الإسرائيلي؛ يوآف غالانت، ووجهه الأول إسرائيل ومنتفعاتها من العرب؛ والوجه الثاني إيرانيٌ يضم نظام الأسد، وحزب الله، ومنتفعاتهم من العرب وغيرهم من أفغانٍ وباكستانيين يقاتلون في أرضنا لكي “لا تُسبى زينب مرّتين”، وما إلى هنالك. ويبدو اليوم أن هذين الصِنفين من البشر لا يتسلحان بصورة أساسية بالبنادق، ولا بالدبابات والصواريخ والترسانات، مع أنها كثيرةٌ لديهم؛ بل سلاحهم الأساسي الأسطورة والبكاء. يعني أنهم يتسلحون باستحضارٍ دائمٍ زائفٍ للماضي بموجب سرديةٍ أيديولوجيةٍ دينيةٍ هادفةٍ تتضمّن البكاء الذي يؤدّي، في النهاية، إلى القتل! وبتعبيرات درويش مرّةً أخرى، هذا نوعُ البشر الذي “كان يخفي سيفه في دمعته” أو “كان يحشو بالدموع البندقية”، نوعٌ “يعلم أن البكاء سلاحه الذرّي والسرّي”.
ولا يأتي المرء بجديدٍ بهذا التصوّر، ولكن يعكس واقع سوريا الكبرى التي صارت كالآتي: فلسطين المُحتلة، وسورية المُحتلة، ولبنان المحتلة. لا تتوقف الكارثة هنا، بل ثمّة كارثةٌ تتعدّى هذا الشغف برقصة الموت، الكارثة أن ثمّة نوعا ثانيا من البشر لم يبق شيءٌ يدلّ على حياته إلا أنه يموت؛ فإذا كان النوع الأول يُوقِّع أفعاله بـ “نحن نقتل إذًا نحن موجودون”، فإن الثاني يوقع بـ “نحن نموت إذًا نحن موجودون”؛ وثمّة تحت هذا التوقيع الأخير طيفٌ واسع من الناس الطيبين الجميلين: أطفالٌ أبرياء، وأمهاتٌ، وعجائزٌ، ودراويش، وآباء يشقون، وجميعهم يمتلك شجاعةً لا توصَف، شجاعة العاديين الذين صارت حيواتهم لا تُعرَّف إلا بدلالة موتهم فحسب. والحياة بدلالة الموت قدرُ الذين لا يمتلكون سياسةً تدلّ عليهم في عالمِ الدول عندما يهزم الضمير الإنساني أو يُخفق لمصلحة “رب الجنود” أو لمصلحة الولي الفقيه.
هؤلاء العاديون ضحيَّةُ كارثةٍ ثانية توازي ابتلاءنا بإسرائيل وإيران الخمينية ومنتفعاتهما: إنها كارثة غياب السياسة في سوريا الكبرى، التي لم تدع مؤشرًا يدل على وجودنا في هذا العالم إلا أننا لا نزال نموت بقذيفةٍ فوق رؤوسنا، ونحن في أرضنا وفي بيوتنا من شدّة ركاكة من يمثل قضايانا الكبرى سياسيًا. لا تبرّر هذه المقاربة انحطاط العالم أمام المجزرة المستمرّة، ولا تُبرّئ انهيارَ مفهوم الإنسان أمام ما يحدُث في غزّة، وأمام الذي حصل في سورية كله؛ ولكنها مقاربة تنظر إلى الشيء الذي بين أيدينا غير البندقية، الشيء الذي كنّا جميعًا نستهين دائمًا بقدرته الجبّارة على تحقيق أحلامنا وحريتنا: أي السياسة بوصفها الضغط على النفس والعقل كثيرًا بالتوازي مع الضغط على الزناد قليلًا. إن الشيء الذي تشير إليه أسماءٌ أنتجها نظريًا مشروع التحرّر، مثل محمود عبّاس وهادي البحرة، هو أن سوريا الكُبرى فقيرةٌ جدًا بالسياسة، والفقير بالسياسة عندما يُقتَل لا يترك قتله أثرًا، ولا أحدٌ يُحاسِب قاتِلَه، وعندما يضغط على الزناد دفاعًا عن نفسه بعد اليأس، يُعرِّض نفسه للخطر وقد يتخلى عنه الجميع. وإن لغة “من شان الله احمونا” هي لغة المتسوّلين، وليست لغة السياسيين. والعَسكرة من دون سياسة موتٌ هنا، وموتٌ هناك، وضجيجٌ قد يكون مهمًا في لحظةٍ معينة، ولكنه بالتأكيد غير كافٍ لنيل الحرية. يبدو هذا واحدًا من دروس ثلاثة أرباع قرنٍ من نضال الفلسطينيين ضد إسرائيل، وهو درسٌ تكرّر في مشروع التحرر من الديكتاتوريين المحليين وأمراء الحرب في الحالتين السورية واللبنانية تحديدًا. ومع ذلك، لا يزال هذا الدرس يستفزّ كثيرين الذين يرفضون تعلمه، وهذا سؤالٌ يحتاج إلى تفكير عميق: لماذا تكفر الناس الثائرة والشجاعة بالسياسة؟! قد يطول الحديث في الإجابة عن هذا السؤال، ويأخذنا خارج السياق. ولكن احتقار التفكير، وغياب السياسة العاقلة لمصلحة الركاكة، يظلّ أمرًا يؤدّي، بالضرورة، إلى تحرّرٍ من كل مسؤولية، ومن ثم تصير الأمور تدار بمنطق “الهبش”: “هبشةٌ” من هنا، و”هبشةٌ” من هناك.
في الأحول كلها، لا تكتمل هذه المقاربة من دون النظر إلى بعدها العالمي الراهن الذي يشهد انهيار مفهوم الإنسان؛ فحكومات الدول الخمس الكبرى، صاحبة الفيتو في مجلس الأمن، كلها صارت تعيش فوق أنقاض هذا المفهوم. ولا يزال مُمكنًا، في هذا السياق، أن نشارك أميركا في النقاش بشأن القلق على سلامة أسرى إسرائيل لدى “حماس”، أو الرهائن كما تحبّ أن تسمّيهم، وأن ندخل إلى هذا النقاش بطريقة أميركية قديمة كالآتي: إن مُعتقلًا من معتقلي غوانتانامو مثلًا، كان كائنًا منزوعَ الفردية، ولم يعد يُصنَّف فردًا بعد بناء حالة استثناء قانوني بموجب قانون مكافحة الإرهاب المعروف بـ (Patriot Act) الذي أصدره مجلس الشيوخ الأميركي في أكتوبر/ تشرين الأول 2001. وقد رأى جورجيو أغامبين أن هؤلاء الأسرى الذين عاملتهم الولايات المتحدة في حينه بوصفهم مجرد معتقلين بحكم الأمر الواقع فحسب، أي خارج أي اتفاقات قانونية وأعراف مثل اتفاقية جنيف لأسرى الحرب، لا يشبههم أحدٌ إلا اليهود في المحتشدات النازية، حيث فقدوا كل عناصر الهوية القانونية، وأخذوا وضعية “الحياة العارية” (Bare life)، ولكن التاريخ الراهن يزوّدنا بشبيه جديدٍ آخر لما حصل في غوانتانامو والمحتشدات النازية، فظيعٌ بما يكفي ليكون في لوحة الحياة العارية العالمية التي يشارك في رسمها الجميع: إنه مُستشفى المعمداني بوصفه مثالًا أنموذجًيا ساخنًا وجديدًا، يُضاف، بطبيعة الحال، إلى أمثلةٍ أنموذجيةٍ أخرى، منها المشافي الكثيرة التي قصفتها روسيا وإيران والنظام في سورية بصمت أميركي عنها. وبطبيعة الحال، يمتلك العربي العادي ما يكفي من المسوّغات ليفترض أن ذهنية غوانتانامو قد تكون مهّدت لإمكانٍ حقيقي لوجود صورٍ مرعبة، مثل التي رأيناها في مشفى المعمداني أو في ملفّ قيصر مثلًا، وقد يسهم هذا النوع من التفكير، إذا أضفنا إليه تداعيات غياب السياسة الكارثي، في التقليل من صدمة أبناء المنطقة من دعم الولايات المتحدة اللامحدود لإسرائيل في كل مرّة.
أخيرًا، نقول إن في سوريا الكبرى ثلاثةَ شرورٍ كارثية: إسرائيل، والولي الفقيه، وغياب السياسة. زوال الثالث يعني أن يصير للجنود المكشوفين متراسٌ، ويعني بالضرورة بداية زوال الاثنين الباقيين، والبدء في تحرير فلسطين، وسورية، والعراق، ولبنان.
——————————-
البلطجتان الأسدية والإسرائيلية والتراجيديات الشعبية المستعصية/ عبير نصر
21 أكتوبر 2023
بادئ ذي بدء، وعبر مسارد وصفية وتحليلية بعيدة عن يوتوبيا المدن ذات الفضائل المجتمعية المتخيّلة، يقدّم لنا تناولُ الظاهرة الفريدة والمركّبة لحكم الأسد لمحةً عامة عن احتلالٍ من نوع خاص، منعَ كلَّ تعبيرٍ عن الخصوصيات الإثنية واللغوية والثقافية في الفضاء العام، فخلّف تشابكاً عبثياً بين الجغرافيا والتاريخ والأيديولوجيا، لتبدأ صيرورة “الهوية الوطنية الممزّقة” بالتبلور كحصيلةٍ أولية لمفرزات هذا النظام الفاشي، الذي لم يقتصر تأثيره على السوريين، بل امتدت سمومه إلى الدول المجاورة. وعليه، نستطيع الجزم، باطمئنان، أنه مهما بلغت المعطيات من العمق فإنها لا تحيط بحجم مكر هذا النظام. أما استراتيجيته الاندماجية على مستوى الخطاب الرسمي العربي فتظهر مدى استغلاله للقضية الفلسطينية، على وجه الخصوص، غير آبه بالمقتضى السياسي والوطني والأخلاقي، ثم ارتباط ذلك بسؤالٍ مركزي آخر بشأن السيناريوهات المطروحة للمقارنة العادلة مع بنية الاحتلال الإسرائيلي، وشكل الأدوات المتبعة. ويمكن الاستدلال بمؤشّراتٍ واقعية لا تُعدّ ولا تُحصى، لإثبات أنّ ممانعة النظام السوري “للعدوّ الجار” نفسه حمّالة أوجه، تحوّلت مراراً وتكراراً إلى ساحةٍ مكشوفة للتوحش، ولعلّ النموذج الصارخ لهذا الانكشاف الفضائحي يتجسّد في اتخاذ نظام الأسد من القضية الفلسطينية ركناً استراتيجياً في البروباغندا الإعلامية، بغية احتكارها سياسياً وعسكرياً وعقائدياً، واستخدامها، وفق اعتبارات براغماتية، في حسابات الداخل وبازارات الخارج الإقليمية، بدلالة أنّ النظام السوري حافظ على قانون الطوارئ أكثر من 40 سنة بحجّة وجود صراع مع إسرائيل. بالتالي، مثلت إدارة هذا النظام الملفّ الفلسطيني خليطاً من التلاعب والقمع، ومن أبرز محطاته تدخل الجيش السوري في لبنان ومشاركته في مجزرة تلّ الزعتر المروّعة عام 1976، إضافة إلى حرب المخيّمات في النصف الثاني لثمانينيات القرن الماضي. ولا شكّ أن هذا كله مرتبط بنوع من الإخراج السياسي الدرامي للطقوس الأسدية الكرنفالية: دم وعنف، أوهام بطولة، نرجسية مريضة مليئة بالعناد والتبجّح، المزاوجة بين ملهاة الخطب العصماء والانتهاء بالتراجيديات الشعبية المستعصية.
وليس ثمّة عوائق موضوعية عند الإقرار بأنّ بين إسرائيل ونظام الأسد سيلا جارفا من الدلالات المرعبة، فمثلما اعتبر الجيشُ الإسرائيلي الفلسطينيين أهدافاً يتفنّن قنّاصوه بإصابتها داخل غزّة المحاصرة، فإنّ نظام الأسد، بدوره، يتصرّف مع السوريين بصفتهم أهدافاً بديلة. وفي الحقيقة، لم تتوقف فداحة الأمر هنا، إذ لم يتوانَ هذا النظام عن ضرب الشرعية الفلسطينية تحت شعارات الحفاظ على الثوابت التاريخية، ومثّلَ تغييب الشعب الفلسطيني من الجغرافيا والتاريخ أحد أهم المرتكزات الأساسية التي قام عليها المشروع الصهيوني، وشاركه فيها نظام الأسد، وليس أدلّ على ذلك من امتناع سورية عن التصويت، وكانت عضوا غير دائم في مجلس الأمن، على قرار المجلس 1397، في مارس/ آذار 2002، الخاص بحقّ الفلسطينيين في إقامة دولة لهم، على الرغم من أنه أول قرار من نوعه يصدر عن هذا المجلس. لا شيء يدعو إلى الاستغراب، فجوهر هذا النظام ينطوي على مخادعة تغطي على نزعة استمراء للاستعصاء الراهن، مع عدم وجود بديلٍ ناجز، بينما يدرك، ضمنياً، أنّ الحل لا يكمن في التشبّث بالواقع السياسي المتكلّس الذي تعيشه الساحة الفلسطينية، لذا تحوّل تدريجياً من خطاب حكم المستبدّ “المستنير” إلى خطاب المعاهدات والشعارات والوعود الواهية المتخمة بالديماغوجيا والذرائعية في آن واحد، والنيّة المبيّتة تطويق السوريين في كانتونات طائفية محشورة ومفكّكة، وتحويل البلاد إلى أكثر من حكم مزرعة شخصية وأقل من دولة ذات سيادة.
بطبيعة الحال، لم يُخْفِ نظام الأسد رغبته الجامحة في استحضار المستلزمات العقائدية لمشروعه السلطوي الداخلي، كترويج مصطلح الصمود والتصدّي أنه البديل عن النصر، مستغلاً الحيز العاطفي الثابت الذي شغله الصراع الفلسطيني من ثقافة الجمهور العربي ووعيه. لذا يزداد شعور الفلسطيني بالسوري، والعكس صحيح، في موازاة السيناريو المؤلم والمكرّر الذي يُمارس على قطاع غزّة المحاصر اليوم، بينما لم تكن الثورة السورية سوى قيامة شعبٍ بأكمله ضد سياسة حكم الرجل الواحد الذي ادّعى زوراً أنّ قضية فلسطين بوصلته، ففُضحت سياسته في تسويقها بنكهةٍ شعبوية خاصة لتنظيم شؤون ملكه، ورعاية مصالح عصبيته. من جانب آخر، وفي خصوص هذه البدهية، تكمن المشكلة في الانفصام عن الواقع، إذ لا يمكن أن يسمح النظام الأسدي بمقاتلة إسرائيل، فهذا يتناقض مع واقعه مستبدّا يحتكر السلطة في بلده، على يقينٍ بأنّ السياسة حقلُ المكائد والمناورات المشروعة، ما يعني أنّ مرحلة السماح بالكفاح المسلّح الفلسطيني كانت لتوظيفاتٍ لا علاقة لها بالصراع ضد إسرائيل على الإطلاق.
ولنكن أكثر شفافية ونعترف أنّ المنطقة العربية تعيش حالياً مخاضاتٍ هائلة، وما ينبغي أن يدركه الشعبان، السوري والفلسطيني، أنه لا توجد واقعية أكثر من الواقع ذاته، هم الذين يعيشون في إطار الدولة القهرية العنصرية، على اعتبار أنّ نظام الأسد ليس مجرّد حكم استبدادي تقليدي، بل هو واقع استعماري إحلالي مركَّب، يعيش وفق منطق “الأسد أو نحرق البلد”، بحكم أنّ أساليبه الاستيطانية عامة جداً وفضفاضة، ولإجرامه مقوّمات واضحة المعالم، ومستدامة، ويغذّي بعضها بعضا، وليس آخرها قصف مدينة إدلب بشكل خطير وممنهج مخلفاً عشرات القتلى والجرحى، فارضاً حالة من عدم الاستقرار وتهجيراً جديداً يزيد مأساة متأصّلة لأكثر من 12 عاماً. هذا يأخذنا بالضرورة إلى مشهدٍ موازٍ ومشابه، إلى غزّة، حيث تتواصل الاشتباكات والقصف المتبادل بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية ضمن عملية طوفان الأقصى، حيث بدأ مئات آلاف من الأطفال وعائلاتهم بالفرار ضمن مشاهد جحيمية تستبدل صورهم المفجعة الراهنة بمستقبلٍ فاجرٍ ورمزيٍّ سيثبّتهم غرباء. وبالفعل، بدأت بوادر هذا النفي والتغييب عندما أكّدت وزارة الصحة في غزّة أنّ أكثر من 45 عائلة مُحيت بالكامل من السجل المدني.
بالتساوق مع ما تقدّم، يبقى استمرارُ نظام الأسد محلَّ تساؤلٍ مُقلق، وأكثر من أي وقت مضى، خصوصا وأنه يستمد شرعيته من زعاق الممانعة العبثي، والمتاجرة بشعار “مقاومة الإرهاب” ليعزف على الوتر الحسّاس للدول الغربية، فمنظومة السيطرة الاحتلالية، بالمطلق، تسخّر ما يُفيدها من القانون الدولي لهذه الغاية. لذا نرى القواسم المشتركة واضحة بين عائلة الأسد ومن يسمّون أنفسهم “شعب الله المختار”، من خلال تسخير زمانهم ومكانهم لتحقيق “الإرادة الإلهية” المتجسّدة في السيادة والإبادة، متغاضين عن الإسقاطات البشرية لهذا الفكر الاستعلائي، ثمناً لدورهما الوظيفي “بلطجيَيْن” شرسين في إقليم مأزوم، معتمِدَين على سيناريو ابتكار الأزمات، كونه لا يؤدّي إلى قيام دولة، ولا إلى إيقاف الاستيطان.
وعليه، يجب ألا يغيب عن الفلسطينيين والسوريين معاً أنّ عدوّهما واحد، متّفق عليه، وهذا يشمل رؤيتهم إلى إسرائيل ونظام الأسد، وطرق تعاملهم معهما، إذ أضحت هذه الحقيقة بمثابة يقينياتٍ لا تحتاج أن تثبت صدقيتها في مسيرة الشعبين الكفاحية. ولهذا رفع الفلسطينيون، أخيرا، لافتات تدغدغ قلوبَ شركائهم في القهر، مكتوبا عليها “من فلسطين… هنا سورية”. نافل القول إنّ ظاهرة الاستيطان الأسدي، كما الإسرائيلي، لا تتخذ أبعاداً أحادية جامدة، فهي عملية مصادرة إدارية واقتصادية واجتماعية معقّدة، ضمن تصنيفاتٍ ديمغرافية وجغرافية قائمة على تمييز (قومي – طائفي) مُقونن وخفي، بهدفِ كسْبِ أكبر مساحةٍ ممكنةٍ من فائض الأرض العامرة بقطعان العبيد.
———————–
ورقة المناصرة الفاعلة!/ حسان الأسود
20 أكتوبر 2023
لم تقتصر تداعيات عملية طوفان الأقصى على غزّة وأهلها، فما يُعلَنُ صراحةً عن نيّة تنفيذه، على لسان القادة السياسيين والعسكريين الإسرائيليين، هو نكبة ثالثة للشعب الفلسطيني أولًا، وهو تغييرٌ مدروس وممنهج للبنية الديمغرافية لفلسطين ثانيًا، وهو تكريسٌ لدولة الفصل العنصري الأخيرة في العالم، والقائمة على أسسٍ دينية قومية متطرّفة، وعلى أنقاض شعبٍ كاملٍ وحقّه في الوجود والحياة ثالثًا، وهو تغييرٌ للخريطة السياسية في المنطقة وتكريس واقعي للدويلات المفتّتة القائمة عل أسس طائفية أو مذهبية، تكرّس عنصرية إسرائيل ويهوديّتها، وتشرعنها في الوقت ذاته رابعًا. هو كذلك تكريس واضح لانهيار المنظومة الأخلاقية والقانونية التي قامت عليها منظمة الأمم المتحدة ومنظومة القانون الدولي. إنها تكريسٌ حقيقي ويومي ومباشر لمبدأ عدم المساواة في الحقوق بين البشر، وعدم المساواة في الخضوع لموجبات القانون الدولي، وفي مقدمته القانون الجنائي الدولي وقانون حقوق الإنسان. إنها تعميد أبدي لفكرة الدول التي يحقّ لها أن تفعل ما تشاء ومتى تشاء، وحيثما تجد مصلحة لها في ذلك، مقابل دولٍ وشعوبٍ عليها الانصياع على الدوام لمجموعة القوانين التي لا تطبَّق إلا عليها.
الآن، بعد أن فاق الانحياز الغربي للرواية الإسرائيلية حدّ التصور، وبعد أن خرق السلوك السياسي والإعلامي للغرب المعقول والمنطق، وبعد هذا الصمت العربي الأشبه بصمت الأموات، شعوبًا مغلوبًا على أمرها، ودولًا تخلّت أغلبيّة أنظمة الحكم فيها عن مسؤولياتها السياسية والوطنية والقومية والدينية، قبل الأخلاقية والإنسانية، وبعد أن عجزت مؤسّسات الأمم المتحدة المختلفة والنظام الدولي المعتلّ عن وقف المذبحة الجماعية، صار لا بدّ من قراءة المشهد ضمن مقاربةٍ مختلفةٍ تأخذ بالاعتبار الواجبات المفروضة على الشعوب العربية والإسلامية، وعلى الجاليات المقيمة منها في دول الغرب الديمقراطي “المتحضّر”. وتنطلق هذه المقاربة من ضرورة مخاطبة الرأي العام العالمي الذي هو ذاته من أوقف الحرب في فيتنام، ومن عرّى الحرب على العراق، وهو الذي سيكون بمقدوره الضغط لوقف المقتلة الجارية في غزّة.
يمكن في الدول الديمقراطية الاحتماء بالقانون، وبالتالي يمكن للمحامين والمحاميات وللمتخصّصين من المنظمات والجمعيات وأبناء الجاليات المناصرة للشعب الفلسطيني أن تبيّن للناس أساليب العمل التي لا تخرُق القانون، ويمكنها -بل من واجبها- أن تبدأ بحملات مناصرة ممنهجة عبر وسائل التواصل، لتعريف الناس بممكنات التحرّك. سيكون من الصعوبة بمكان حشد وسائل الإعلام التقليدية، وحتى وسائل التواصل الاجتماعي المنتمية كلها إلى المنظومة الغربية خلف هذه القضيّة المحقّة، لكن لا مانع من المحاولة بكل تأكيد، فثمّة فرقٌ واضحٌ بين تغطية المحطات الإعلامية والصحف الشهيرة الأميركية وتغطية تلك الأوروبية، كذلك هناك فرق بين منصّة X (تويتر سابقاً) وغيره من وسائل التواصل والمنصّات الرقمية الأخرى. يمكن أيضًا طلب ترخيص المسيرات والوقفات الصامتة تحت عنوان “لا للحرب”، وهنا سيكون لنشطاء السلام والبيئة دورٌ كبيرٌ وفاعلٌ في هذا الأمر.
الملاحظ والجدير بالذكر، أنّ ثمّة تعاطفاً شعبياً مع القضية الفلسطينية، ويزداد في صفوف التيارات اليسارية، كما في صفوف الطلبة والشباب، فهؤلاء أكثر تقبلًا لأفكار التحرّر والاستقلال وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها. وفي مقارنة بين التعاطف الشعبي مع القضية الفلسطينية عمومًا، ومع القضية السورية، نجد البون شاسعًا، ما يعود إلى عدّة أسباب، لعلّ أهمها العمر الزمني الأطول لمعاناة الشعب الفلسطيني، والوجود النشط للجالية الفلسطينية والأدوات المساعدة أكثر من خلال شبكة العلاقات العامة التي بُنيَت خلال العقود المنصرمة. عندما يهمّ الفلسطينيون لتسيير مظاهرة مناصرة لقضيتهم، فإنّ الأعداد تكون بالآلاف في الشوارع، وتجد من الجاليات العربية والإسلامية الكثيرين، كذلك تجد نشطاء السلام والبيئة واليساريين وفئات الفنانين والمثقفين. لم يأتِ هذا كلّه من فراغ، فقد بُني عبر سنوات طوال من الكفاح والتواصل وعبر الاندماج في نظام الحياة العامّة في المجتمعات الغربية، وهذه كلها لم تتوافر بعد للسوريين بسبب حداثة مأساتهم نوعاً ما، وبسبب التشويش الرهيب الذي استطاع النظام وحلفاؤه إشاعته عن ثورتهم، وبسبب مساعدة قوى ظلامية نُسبت إلى الثورة في هذا النهج.
الفرصة متاحة للفلسطينيين لقلب موازين القوى في شوارع الدول الغربية، ومع الصمود الذي يبديه أهل غزّة ومقاومتهم الصلبة لكل محاولات التهجير والتركيع، ومع طول أمد الحرب وارتفاع كلفتها السياسية، ومع اكتشاف أساليب التضليل والتدليس الإعلامي الغربي، سيتغيّر المزاج العام الغربي والعالمي. لن تتوسّع الحرب إقليميًا، فلا إيران لها مصلحة في توسعتها، ولا الولايات المتحدة أيضًا، فالأولى تخشى على برنامجها النووي الذي بات قيد الإنجاز، والثانية لا تريد أن تتورّط في حرب إقليمية كبرى قبل أشهرٍ معدودات من الاستحقاق الانتخابي الرئاسي. الساحة مفتوحة لنشاط (وتفاعل) القوى المدنية والسياسية ومجموعات المثقفين والفنانين وأصحاب المحتوى الهادف على وسائل التواصل الاجتماعي، من أجل تغيير موازين القوى، يبقى علينا أن نعرف كيف يمكن القيام بذلك.
————————–
يستطيع العرب التأثير في حفلة الجنون الإسرائيلية/ غازي دحمان
20 أكتوبر 2023
استفادت إسرائيل من وضع العالم تحت وقْع صدمة، صنعتها دبلوماسيّتها وإعلامها باقتدار، وجعلت الجزء الأكبر من الرأي العام العالمي ضحية سردية عن موت أطفال واغتصاب نساء وأفعال خارج سياق المنطق الطبيعي، في غياب أي تأثير إعلامي أو دبلوماسي عربي يقدم صورة موضوعية لحقيقة الحدث.
اعتمدت استراتيجية إسرائيل على اقتطاع الحدث من سياقه العام، فكأن المشكلة بدأت يوم هجوم كتائب عز الدين القسام على مستوطنات غلاف غزّة ومعسكراته، أو كأن ما حصل في ذلك اليوم كانت نتيجة صيرورة طويلة من الاعتداء على إسرائيل، وليس سوى نسخة مكبّرة عن أحداث ظلت تحصل على مدى عقود بحق إسرائيل ويهودها.
واضح تماما أن الانسياق الغربي وراء الرواية الإسرائيلية ناتجٌ عن الإرباك الذي أحدثته الحملة الإعلامية التي قامت بها إسرائيل، بمساعدة مراكز الإعلام الكبرى فيي الغرب، التي تسيطر بدرجة كبيرة على الرأي العام الغربي، وتوجيهه باتجاهات معينة، مستفيدة من الضرب على أوتار مخاوفه من التطرّف والإرهاب، ومبرزة إسرائيل، التي كان شبابها لحظة الحدث في حلبة رقص كبيرة، بوصفها جزء من قيم الحضارة الغربية وثقافتها الفردية المحبة للحياة.
نتيجة ذلك، اعترفت مراكز القرار الغربية لإسرائيل في الحقّ بالردّ الذي ترتئيه وتقرّره، فكانت الرسالة الغربية لإسرائيل، قرّروا ونحن داعمون لكم. هذا ما أفصح عنه القرار الخماسي الصادر عن أميركا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا. وفي هذه الدول تأثيرات يهودية نافذة على مستوى الإعلام، وعلى مستوى النخب السياسية والثقافية.
وجرّاء ذلك أيضا، يبدو العالم يسير بخطى ثابتة نحو صنع مذبحة في غزّة وتقبّلها، أياً تكن طريقة إخراجها، لذا لم نر أي محاولة دولية للتوسّط أو طرح مبادراتٍ تهدف الى تهدئة الأوضاع. على العكس، ثمّة مسايرة واضحة للإسرائيليين في مشاريعهم التي تبدو خارج المنطق بأشواط، من نوع تهجير سكان غزّة الى سيناء ليتسنّى لإسرائيل القضاء على “حماس”، من دون أدنى اعتراض من دول غربية كبرى، حتى أن واشنطن، في جولة وزير خارجيتها، بلينكن، في الشرق الأوسط، بدأت التحرّك لتسهيل هذا المسار من خلال اقناعها العواصم العربية به، ربما بوصفه خيارا لا بديل عنه للخروج مما تعتبره واشنطن مأزقا وقعت به المنطقة.
إزاء ذلك، لا يبدو أن ثمّة موقفا عربيا تبلور أو في طريقه إلى التبلور، ثمّة تصريحات هنا وهناك تقتصر على رفض الانخراط في لعبة التهجير التي تخطّط لها إسرائيل، وبالكثير تدعو إلى ضبط النفس ومن الجانبين، الإسرائيلي والفلسطيني، وهو ما ذهب إليه بيان وزراء الخارجية العرب الذي أظهر الجانب العربي كأنه وسيط وليس طرفا معنيا بالحدث، الذي تشكّل الجزء الأكبر من مشهديّته، إن لم نقل على مدار عقود، على الأقل في الفترة التي وصلت فيها أعتى حكومة يمينية إلى السلطة في إسرائيل، ومارست أكثر الأفعال عنصرية واستعلاء، من دون مراعاة، ليس للقوانين الدولية والالتزامات التي تفرضها المعاهدات الدولية على الطرف المحتل، بل لمسار التطبيع الذي بدأته عدة دول عربية مع إسرائيل.
لا يختلف هذا الحياد الذي يتسم به الموقف العربي من تطوّرات غزّة الخطيرة، وإن تلحّ القاهرة وعمّان على أن التهجير خط أحمر، كثيرا عن الموقف الغربي المنساق خلف إسرائيل، إذ يشكل في مضمونه رسالة إلى إسرائيل وداعيميها فحواها أننا لا نملك أكثر من الدعوة إلى التهدئة، ولا ننوي القيام بأكثر من ذلك، والأمر متروك لتقديراتكم وما تروْنه وتقرّرونه. وربما يذهب بعضهم الى البوح للأميركيين إن لدينا ما يكفينا من مشكلات وأزمات، ونرجو أن تحلّوا الأزمة بعيدا عنّا.
هل هذا هو بالفعل مقدار فعالية العرب، أليس في أيديهم أوراق قوّة يمكن من خلالها إحداث تأثير ملحوظ في السياق الذي بدأت إسرائيل تطبيقه، تدمير غزّة وتهجير سكانها وقتل آلاف من أهلها؟، وهل العقل السياسي العربي لم ير بعد صورة الكارثة القادمة على غزّة وتداعياتها الخطيرة على المدى العربي، وخصوصا دول الجوار، أو ما كانت تسمّى في الأدبيات السياسية والعسكرية دول الطوق؟
تملك الأطراف العربية أوراقا عديدة من القوّة التي يمكن التلويح بها في مواجهة إسرائيل وداعميها، وبالإضافة إلى النفط والغاز، لديها المعابر والممرّات والأجواء، فضلا عن الاستثمارات الهائلة في الغرب، ليس بالضرورة استخدامها خدمة ل”حماس”، بل من أجل تغيير المعادلة القاتلة التي فرضتها إسرائيل على العالم عبر تهرّبها من تنفيذ اتفاقيات أوسلو، وإصرارها على عدم الاعتراف بحلّ الدولتين، فهذا النوع من المعادلات يحتاج قوة وازنة لتغييره، وهذه فرصة للعرب بأن يفعّلوا أوراق قوتهم في مواجهة تصرّفات إسرائيل التي سترتدّ خطرا على العرب أكثر من غيرهم، فمن يعتقد أن تهجير سكان غزّة والتقتيل فيهم لن يشكّل بيئة لولادة ديناميكيات جديدة من عدم الاستقرار والفوضى، لا يفهم بتاريخ الصراعات وصيرورتها في المنطقة.
هذا الموقف العربي يجب أن يتبدّل، لمصلحة الشعوب والأنظمة والاستقرار في المنطقة، لا تدعوا مجانين إسرائيل، الذين تحرّكهم الأساطير والأحقاد، يشكلون المنطقة على هواهم، فهؤلاء لن يصنعوا إلا الخراب والدمار.
———————-
الغرب الاستعماري وطوفان الأقصى/ عمار ديوب
19 أكتوبر 2023
أوجد الغرب الاستعماري حلّاً للمسألة اليهودية في بلاده عبر ترحيلها إلى فلسطين، وأحدث بذلك مشكلة للعرب، اسمها الكيان الصهيوني الاستيطاني في المنطقة العربية. فَعَلَ ذلك عبر استعماره فلسطين؛ فشُكِّل الكيان الاستيطاني هذا، ولا يزال. وكان، كلما، واجه حرباً، أو مشكلة حقيقية مع الدول العربية أو المقاومات العربية تلقّى دعماً غير محدود، عسكرياً، ومالياً. وهذه أميركا وبريطانيا ودول أوروبية أخرى أرسلت حاملات الطائرات والمسيّرات المتطورة إلى البحر المتوسط لإعلان الانحياز المطلق لإسرائيل، وكرسالةٍ واضحة ودقيقة: سنقاتل أيّة قوى، أو دول، ستقف مع الشعب الفلسطيني في غزّة، والذي يتعرّض لأسوأ أشكال العدوان الإسرائيلي منذ أكثر من عشرة أيام، وجديدها مجزرة مستشفى المعمداني، والتي راح فيها أكثر من 500 فلسطيني.
بدت القشرة الديمقراطية ومنظومة حقوق الإنسان للغرب، التي يَدّعي الانطلاق منها في سياساته الخارجية أنّها لم تكن يوماً إلّا أداة لإخفاء طبيعته الطبقية والعنصرية إزاء العالم. ففي داخل ذلك الغرب، تمّ التشدّد ضد أيّة مظاهرات للتنديد بالعدوان الإسرائيلي وللوقوف مع الحقّ الفلسطيني بأرضه، وبغض النظر عن الوسيلة التي أستعين بها، وتبيّن كذبها، وهي أن مقاتلي حركة حماس قطعوا رؤوس الأطفال واغتصبوا النساء، فقد استمرّ التشدّد ذاته، وهذا ما يعبّر عن تلك العنصرية؛ وبتجاهل المظاهرات التي تتوسّع يومياً في أوروبا وأميركا وأستراليا وسواها، فإن الحكومات الغربية تظهر عارية بأنّها لحماية مصالح رأس المال أولًا، وللحفاظ على إسرائيل، ككيانٍ متقدّم لها في المنطقة، وفي العالم. ولهذا لم تتوانَ عن تمزيق تلك القشرة، وتجاهلت كل تاريخ هذا الكيان الإجرامي من ناحية، وكل القرارات الدولية، المُنصفة للشعب الفلسطيني، وكل مبادرات السلام من أجل الوصول إلى الأرض مقابل السلام، و”دمج” إسرائيل فعلياً في المنطقة. لم تقبل ذلك إسرائيل، ولهذا لم تطبق اتفاقيات أوسلو ورَفضت المبادرة العربية للسلام 2002. ولم يضغط الغرب على إسرائيل لِتغيّر من طبيعتها الاستعمارية والعنصرية. للدقة نقول: لا مصلحة لذلك الغرب بأن تغيّر إسرائيل من طبيعتها الكولونيالية بالأصل، ولهذا دعمها ويدعمها الآن.
يخطئ ذلك الغرب كثيراً بتجاهل الحقوق العربية، وربما هذا ما دفع دولا عربية كثيرة إلى الاتجاه نحو الصين أو روسيا. الاعتراف بحقوق الفلسطينيين في إقامة دولتهم هو أوّل شرطٍ في تعزيز العلاقات العربية والغربية، وهذا لن يتحقّق قبل تفكيك الكيان الصهيوني، وتشكيل دولةٍ واحدة، اسمها فلسطين، ويعيش فيها العرب واليهود على قدم المساواة في الحقوق. من دون هذا الشرط، والانحياز لدولة الكيان لا يمكن للعرب وليس للفلسطينيين فقط، ومهما تغيّرت الأنظمة، أن يتقبلوا هذا الكيان، أو يقيموا صلاتٍ حقيقية مع الغرب. المقصد، هنا، أن من يعيق إقامة علاقات مستقرّة ومستمرّة مع الغرب ليسوا العرب، بل تلك السياسات الاستعمارية التي ينتهجها الغرب إزاء فلسطين أولاً، وإزاء العرب ثانياً.
جاءت عملية طوفان الأقصى، لتَقضي على استقرار الكيان، ولتهزّه من “شروره”، وقد بدا أنّه تأبد، وهيمن على العرب عبر الاتفاقيات الإبراهيمية. بل لقد توضّحَ أن تلك الاتفاقيات عديمة القيمة والوزن، فالكيان الذي كان سيحَمي تلك الدول، هَشّمته عملية طوفان الأقصى، وتداعت البوارج الغربية لحماية الكيان، وبالتالي، عاد كيانا استيطانياً غربياً، وزال الوهم أنّه دولة ديمقراطية وساعية للاندماج بالمنطقة، ومستقرّة، وكان يخطّط لمزيد من التطبيع، مع السعودية مثلاً، بل وظهرت الطبيعة العنصرية للغرب كذلك.
أوضحت تلك العملية أن القليل من التنظيم، يمكنه هزم الكيان، فكيف لو كان التنظيم أكثر دقّة، وليس بقطاع غزّة المحاصر منذ 2005، والمعزول عن العالم كسجنٍ مفتوحٍ لأكثر من مليونين وثلاثمائة ألف إنسان. أوضحت عملية طوفان الأقصى أن تفكيك هذا الكيان ممكن، وعبر تشكيل الدول العربية جيوشا متقدّمة وإجراء التحوّل الديموقراطي؛ وهذا ما أرعب الكيان ذاته، وتهمّشت كلية أساطيره والمحدّدة بأن: جيشه لا يقهر، ومهيمن على العرب، والأكثر استقراراً لأنّه ديمقراطي وصناعي.
الآن، العدوان الهمجي يُدمر غزة، ويقتل آلاف الفلسطينيين، ويتلقى دعماً أميركياً وأوروبياً ودون شروط. ضد ذلك، رفضت أغلبية الدول العربية تهجير أهل غزّة إلى مصر وسواها، ورفض أهلها ذلك بشكلٍ لا عودة عنه، ومهما حدث لهم، واتّجهت “الدول” نحو عقد مؤتمر لمناقشة القضية الفلسطينية وليس فقط قضية غزّة في مصر. وزار وسيزور وزراء خارجية أميركا وأوربيون إسرائيل والمنطقة، وكان مقررا أن يعقد الرئيس الأميركي بايدن، أمس الأربعاء، لقاءً في عمّان مع ملك الأردن والرئيسين المصري والفلسطيني؛ قبل إلغائه بعد مجزرة مستشفى المعمداني المرعبة.
هناك حركة دبلوماسية واسعة، عربية وغربية، وإذا كانت الغربية منها تتكلم عن دعم إسرائيل، والتحذير من الحرب الإقليمية، ومنع حدوثها، فإن الدول العربية، تطالب بإيقاف إطلاق النار، وتبادل الأسرى، وإدخال المساعدات إلى غزّة، ويؤكد مسؤولو الأمم المتحدة الانهيار الكامل للأوضاع الإنسانية، وضرورة إدخال المساعدات الطبية والغذائية والمحروقات. شجبت روسيا ودول عديدة العدوان الإسرائيلي، وطالبوا، عبر تصويتٍ في مجلس الأمن، بإيقاف إطلاق النار، وإدخال المساعدات، وهو ما رفضته ريطانيا وأميركا وفرنسا، وأغلبية الدول الاستعمارية.
يؤشّر “طوفان الأقصى” إلى أن الحصار على غزّة كان خاطئاً، وتفشيل اتفاقيات أوسلو كان أمراً غبيّاً للغاية، وكذلك عدم إجبار إسرائيل على توقيع المبادرة العربية 2002، وأن كل السياسات الإسرائيلية اليمينية والأكثر فاشية وصهيونية في السنوات الأخيرة أزّمت الوضع الفلسطيني بصورة أنتجت، مواجهات كثيرة في الأعوام الأخيرة، وبالنهاية الطوفان.
لا يوجد حل فعليّ وجذريّ إلّا الدولة الواحدة وللجميع. أمّا الاستمرار بتأييد العدوان، وتهجير أهل قطاع غزّة من شماله إلى جنوبه أو إلى الخارج، والتفكير بتهجير أهل الضفة الغربية وترانسفير لعرب الـ 48، فهو وصفة فعلية لإنتاج مقاومات مستمرّة. وربما تكون “حماس” الأكثر عقلانية وتوازناً؛ لم يعد لهذا الكيان من مستقبل بعد عملية الطوفان ومجازر غزّة، وصار تفكيكه الحل الوحيد للتصالح مع الغرب؛ فهل يغيّر الأخير من سياساته الاستعمارية؟ وهل يعي العرب ما أنتجه “طوفان الأقصى” من متغيّرات لصالح امتلاك أسباب ذاتية للنهوض والتطوّر العام وحل المشكلة الفلسطينية بشكل جذري وإسدال الستار على اتفاقيات الذل، الإبراهيمية وسواها؟
استطاعت كتائب عز الدين القسام وبقية الكتائب، المعزولة عن العالم، هزّ إسرائيل وجوديّاً، والتفكير بالعودة إلى الغرب الاستعماري. والسؤال: أليس ذلك تحصيل حاصل من الدول، إن هي سعت؛ إنها الإرادة؟
————————–
تأمّلات بمناسبة طوفان الأقصى/ راتب شعبو
19 أكتوبر 2023
كانت عملية طوفان الأقصى التي قامت بها كتائب عز الدين القسام، الذراع العسكرية لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، في السابع من شهر أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، عملاً عسكرياً باهراً. لم يتوقّع أحد أنه يمكن اختراق كل الحواجز المادية والتقنيات التي توظفها إسرائيل من أجل حماية المستوطنات فيما يسمّى غلاف غزّة، ومن أجل عزل غزّة عن مناطق سيطرة إسرائيل. ومن أهم هذه الحواجز الجدار “المتطوّر” الذي يعزل غزّة، وطوله 65 كلم بعمق يصل إلى 40 مترا تحت الأرض وستة أمتار فوق الأرض، الجدار الذي يُقال إن بناءه كلّف مليار دولار، وإنه مزوّد بتقنيات تكشف مرور العصفور في الجو والصرصور على الأرض، غير أن العبور حصل مع ذلك، وقد عمي الحاجز “الذكي” عن الطائرات الشراعية والجرافات، الأمر الذي أحدث صدمة ليس فقط في إسرائيل، بل وفي العالم الداعم لها.
من الطبيعي أن تعيد أعمالٌ من هذا النوع الروح والأمل للكتل البشرية التي يطردها النظام السياسي السائد في العالم، إلى الهامش حتى يوشك أن يصنّفهم بشرا من سويّة دنيا. ألم يصرح وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، “إننا نقاتل حيواناتٍ على هيئة بشر، ونتصرّف على هذا الأساس”؟ من الطبيعي أن يفرح الناس الذين لم تكفّ إسرائيل عن ابتلاع أراضيهم وتهجيرهم وهدم بيوتهم وقطع أشجارهم، متحدّية بذلك ليس فقط القوانين الدولية، بل كذلك الحسّ السليم وأدنى إحساس بالعدل. من الطبيعي أن يفرَح هؤلاء ويهللوا، فليس للتاريخ نهاية، ومهما بلغت قوّة المعتدي، لن يستطيع أن يضع نقطة نهاية على السطر. يبقى دائماً للمقهورين ما يقولونه، ويوجد دائماً وسيلة للفعل والتأثير.
من ناحية أخرى، ومما يلقي الضوء على العقدة المستعصية لحالنا، فقد حُمل هذا الإنجاز العسكري المهم، على يد دول وسلطاتٍ تُمعن هي الأخرى، ليس فقط في تهميش الناس والاستهانة بإرادتهم، بل وفي قمعهم وقتلهم أيضاً. الفلسطيني السوري الذي أثلج صدره إنجاز “حماس” سوف يشعر بطعنة في الخاصرة، حين يوجه مقاتلو “حماس” التحية لنظام الأسد على أنه “سورية العروبة”، النظام الذي قصف مخيم اليرموك وحاصره إلى حدود المجاعة. هذا إذا وضعنا جانباً مشاعر هذا الفلسطيني إزاء بطش طغمة الأسد بالشعب السوري على مدى دزّينة من السنين، وإحالته سورية إلى بلدٍ ممزّق وعاجز. مشاعر متناقضة أيضاً إزاء هذا الحدث، سوف تشمل الفلسطيني الذي يعيش في ظل الإكراه والقسر الذي تفرضه سلطة “حماس” في غزّة. سوف يجد هذا الفلسطيني أن السلطة التي تستبدّ به، هي التي تقوم بهذا العمل غير المسبوق الذي بثّ الرعب وألحق الذلّ بالدولة العنصرية المستعمرة التي ما فتئت ترعب شعوب المنطقة وتذلها.
ينطبق الشيء نفسه على مساهمة إيران وحزب الله في هذا العمل، وهما في تماهٍ مباشرٍ مع طغمة الأسد. من الطبيعي، والحال كذلك، أن نجد قسماً مهماً من الشعب السوري، الشعب الأكثر قرباً وتبنّياً للقضية الفلسطينية، غير متعاطف مع “حماس”، بل منهم من يرى أن لهذه العملية مآرب تتصل بمحاولة “تعبئة رصيد” نظام الأسد، وإعطائه مجالاً أوسع للبطش بالسوريين، سيما أن عملية العبور البطولية تزامنت مع عمليات القصف العشوائي وبأسلحة محرّمة دولياً على مناطق ادلب وريف حلب.
يضاف المزيد من التعقيد إلى الحال الذي نحن فيه، إذا نظرنا في أمرين. الأول، صعوبة، إن لم نقل استحالة، مواجهة الاحتلال الشبيه بالاحتلال الإسرائيلي بواسطة تنظيمات أو سلطات تراعي القواعد الديموقراطية في عملها، ولاسيما في بيئاتٍ فقيرة تتنازعها عصبيّات أهلية، ولا تاريخ لها في أشكال الحكم الديمقراطية. أولوية التصدّي للاحتلال سوف تفرض نفسها على أي سلطةٍ تتبنّى هذه المهمة، وسوف تدفعها، كما لو بقانون، إلى مزيدٍ من احتكار السلطة والتصلب الأمني وتغليب “سوء الظن” في التعامل مع المحكومين. هذا عدا عن حشد الموارد المتوفّرة من أجل العمل العسكري على حساب معيشة الناس، ويفرش هذا كله الأرض لشتّى صنوف الفساد وسوء العلاقة بالجمهور.
إذا كان “الطغاة يجلبون الغزاة”، كما يتكرّر القول، فإن التجربة في بلداننا تبيّن أن عكس هذا القول لا يقلّ صحة. ساهم الاحتلال الإسرائيلي الاستيطاني في صناعة أعتى الطغاة أيضاً.
الأمر الثاني، أن التصدّي لاحتلال استيطاني، كالاحتلال الإسرائيلي المدعوم، فوق ذلك، من أقوى الدول، دعماً ثابتاً لا يكترث حتى بالقوانين الدولية، استهلك أشكال المقاومة الوطنية التي نشأت وتصدّت له، الأمر الذي حرّض في شعوب هذه المنطقة العناصر الدفاعية الأعمق، وهي العناصر المتصلة بالهوية الدينية. زاد في هذه الآلية اعتماد العدو الإسرائيلي على هوية دينية أيضاً هي اليهودية، التي لها تاريخ معروف من الصراع مع الدعوة الإسلامية الأولى، التاريخ الذي نسمع صداه يتردّد في معارك اليوم في صيحة “خيبر يا يهود”.
ما حصل من استناد مقاومة الاحتلال الإسرائيلي إلى الدين، كما في لبنان كذلك في غزّة، زاد في تعقيد الحال، حين أضفى على الصراع الوطني بعداً دينياً. فمن شأن البعد الديني أن يبتلع البعد الوطني، وأن يحيل الصراع إلى صراع هوياتٍ لا تتصالح. ليس غريباً، والحال كذلك، أن لا تعترف “حماس” بإسرائيل مثلاً، فمن طبيعة وعيها لهذا الصراع أنه صراع وجودي.
اجتماع خصوصية النضال ضد احتلال استيطاني مديد، مع تولّي هذا النضال جهاتٌ تستند إلى الدين، أنتج سلطاتٍ محلّيةً شديدة الوطأة على المجتمع الذي توجد فيه. ولكن هذه السلطات الدينية شديدة الوطأة تعرض مقدرة لافتة على الإنجاز وتحقيق مكاسب عسكرية، غير أن هذا الواقع ذاته، نقصد استبداد هذه الحركات وارتكازها الديني، يسمح بأن تكون جزءاً من “محور” يجعلها في خدمة سياساته التي ستكون، بطبيعة الحال، متأثرة بمصالح الطرف الأقوى في المحور، الذي هو، في حالتنا المعيّنة، النظام الإيراني.
يبقى من المهم الإشارة إلى أن ما يمكن اعتبارها إنجازات عسكرية لهذه القوى تستجر على الناس وعلى البلاد ردوداً انتقامية باهظة الكلفة إلى حدٍّ يحيل الإنجاز العسكري إلى مأساة، بسبب الفارق الهائل في ميزان القوى مع العدو الإسرائيلي، وبسبب وقوف أقوى الدول إلى جانب إسرائيل. الحقيقة أن الردّ الإسرائيلي الباهظ المتوقّع عقب كل عملية يشكل حاجزاً سياسياً ونفسياً أكثر فاعلية من حواجز العزل المادية المتطوّرة.
معضلتنا التي لا يراها، أو لا يريد أن يراها العالم، هي ماذا يبقى أمام المغتصبة أرضهم وحقوقهم، حين تُغلق أمامه السبل السياسية، وحين يريد العالم أن يلقّنه أقسى الدروس عقب كل محاولة عسكرية يريد من خلالها أن يعيد طرح مشكلته على الطاولة؟
——————————-
غزّة الشهيدة/ علي العبدالله
18 أكتوبر 2023
شكّلت العملية العسكرية، التي نفذتها كتائب عزالدين القسّام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، في منطقة غلاف غزّة يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري تحت مسمّى “طوفان الأقصى”، تنفيذا حرفيا لما تسمّى في العلم العسكري المعركة الشاملة والمنسّقة، التي تربط تحرّك القوات البرّية بالبحرية والجوية في تناغم وتكامل دقيقيْن، كأي جيشٍ حديث، ملحقةً بقوات العدو وأجهزة استخباراته هزيمة ساحقة بالمبادأة والمفاجأة، مذكّرة بمفاجأة هجوم أكتوبر 1973 على الجبهتين المصرية والسورية، قال حينها سيئ الصيت هنري كيسنجر: “انشغل الإسرائيليون بالتصوّرات عن الواقع”، وهو ما حصل اليوم أيضا، محقّقة نصرا عسكريا حمساويا واضحا وصاعقا.
جاءت العملية العسكرية الشجاعة لتقطع الطريق على سياق سياسي إقليمي بدأت مؤشّراته في الوضوح، تجسّد في سعي الولايات المتحدة إلى صياغة المشرق العربي عن طريق إقناع السعودية بإقامة علاقات سياسية ودبلوماسية مع إسرائيل، وتنفيذ مشروع ممرّ الشرق الأوسط، عن طريق ربط الهند بأوروبا بحرا وبرا، بطرق وقطارات سريعة عبر السعودية والأردن وإسرائيل، ومدّ شبكة ألياف ضوئية لتطوير وتسريع اتصالات الإنترنت وتبادل المعلومات الدقيقة، كخط ثان لتمرير التطبيع وتكريسه واقعيا، بحيث تضرب أكثر من عصفور بحجر: إدماج إسرائيل في المنطقة ومنحها دورا وازنا في ضوء مكانتها في الاستراتيجية الأميركية وقدراتها التقنية الكبيرة، وتعزيز الحضور الأميركي في المنطقة بمحاصرة خصومها وعزلهم، الصين وروسيا وإيران، وتقييد التحرّك التركي الذي تنامى أكثر من المقبول أميركيا.
انخرطت السعودية في المفاوضات، وإدراكا منها لمكانتها ودورها في العالمين العربي والإسلامي، وما سيُحدثه التطبيع بينها وبين إسرائيل من تأثير على الفضاء السياسي والجيوسياسي بدءا بفتح أبواب بقية الدول العربية والإسلامية أمام إسرائيل وانتهاء بتكريس هيمنة أميركية على المنطقة عقودا مقبلة، رفعت سقف مطالبها: مشروع نووي سعودي، بما في ذلك دورة تخصيب كاملة، واتفاق دفاعي أميركي سعودي يمنحها ضماناتٍ قوية بدفاع الولايات المتحدة عنها ضد أي عدوان، وتزويدها بأسلحة أميركية متطوّرة. وحتى تمرّر العملية داخليا وخارجيا بسلاسة وهدوء، أعادت العلاقات الدبلوماسية مع إيران بوساطة وضمانة صينية، وأعادت التواصل مع السلطة الوطنية الفلسطينية بتعيين سفيرٍ غير مقيم واستئناف تقديم مساعداتٍ مالية لها كانت قد قطعتها منذ سنوات، ودخلت في حواراتٍ معها لمعرفة سقف المطالب الفلسطينية التي قد تقبل بها لوضعها على طاولة المفاوضات، وذلك لتأمين غطاء فلسطيني رسمي للتطبيع.
أثار مشروع التطبيع السعودي الإسرائيلي مخاوف إيران وحركة حماس، لأن قيامه بغطاء فلسطيني سينهي كل ما حقّقته إيران من مكاسب خلال العقود الأخيرة بإمساكها بالورقة الفلسطينية، من تشكيل محور المقاومة إلى وحدة الساحات، من جهة، ويعني، من جهةٍ ثانية، إخراج حركة حماس ومشروعها السياسي من المعادلة وتلاشي مكانتها ودورها.
وقد منح غياب حلٍّ محدّد لحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة بالتخلّص من الاحتلال وإقامة دولة مستقلة عن محادثات التطبيع، وتجاهل الإدارة الأميركية الاستيطان الزاحف وهجمات المستوطنين على البلدات والقرى الفلسطينية واقتحامهم المسجد الأقصى واقتحام الجيش الإسرائيلي المتواتر المدن الفلسطينية والعبث فيها قتلا وتدميرا، منح هذا كله عملية 7 أكتوبر العسكرية شرعيتها وآنيّتها، بحيث تؤكد قدرة حركة حماس على الفعل وإجهاض الاتفاقات واستحالة القفز على دورها ومصالحها وتعيد طرح المطالب الوطنية الفلسطينية كما جاءت في قرارات الشرعية الدولية على الطاولة.
غير أن الخطّة العسكرية الدقيقة والطموحة وقعت في خطأين استراتيجيين قاتلين سيستنزفان مفاعيل النصر العسكري، أولهما السيطرة على المستوطنات والتمترس فيها وثانيهما أخذ رهائن مدنيين، فالتوجّه إلى إثبات القدرة على احتلال المستوطنات والتمترس فيها خطوة غير منطقية وغير مفهومة، لأن قادة الحركة ومخطّطيها العسكريين يعلمون أن هذا تحدّ كبير للحكومة الإسرائيلية، وأن إسرائيل، وكما في حروب غزّة الماضية، سوف تستخدم إمكانات بشرية وتقنية وناريّة لاستعادة الهيبة والمبادرة، وأن النتائج ستكون ضحايا ودمار كبيريْن. وأخذ رهائن مدنيين، بما في ذلك أطفال ونساء وكبار السّن ورعايا دول غربية من مزدوجي الجنسية، مسألة حسّاسة وستطلق رُهاب الرهائن في الغرب من جديد. وقد منح هذا آلة الدعاية الصهيونية فرصة تضخيم الخطر ببثّ روايات مختلقة عن ذبح الرُضع، وبقر بطون الحوامل وقطع رؤوس الرهائن أمام الكاميرات، ودفع الغرب إلى الكشف عن موقع إسرائيل وأهميتها في استراتيجياته في المشرق العربي ودورها الوظيفي في حماية مصالحه وتكريس هيمنته بالاصطفاف خلف العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة، عبر ترويجه الدعاية الإسرائيلية وشيطنة الشعب الفلسطيني وتحويله إلى وحوش وقتلة وإرهابيين، وقطع المساعدات المقرّرة له من قبل، واعتبار ما تقوم به إسرائيل دفاعا عن النفس ومنحها ضوءا أخضر للمضي في حصارها وتدميرها إلى حدوده القصوى؛ والتعبير عن عمق الارتباط بها عبر تزويده المعتدي الإسرائيلي بالأسلحة والذخائر والمسيّرات وحشد قواته وأساطيله أمام شواطئ فلسطين، لردع أي مشاركة في القتال من خارج غزّة، وتقبله الخيارات الإسرائيلية المتطرّفة بتدمير غزّة، ودفع سكان القطاع، البالغ عددهم أكثر من مليوني نسمة، نحو الرحيل إلى سيناء أو عبر البحر وافتتاح نكبة فلسطينية جديدة.
بدا الأمر وكأن واضعي خطة الهجوم المذهلة قد وضعوا السياسة على الرفّ. كانت الحصافة تقتضي تنفيذ خطة الهجوم ضد المواقع العسكرية الإسرائيلية المنتشرة في غلاف غزّة فقط وأخذ أسرى جنود ونقلهم إلى داخل القطاع، قبل أن يستفيق جيش العدو وحكومته من الصدمة والذهول والدخول في اتصالاتٍ دبلوماسيةٍ لطرح المطالب والشروط، فتكون المقاومة بذلك قد حققت المفاجأة الاستراتيجية، وأفهمت الجميع أنها قادرة على قلب الطاولة وخلط الأوراق، وأن أي عملية استبعاد لها وتجاهل لمطالبها لن تنجح.
نحن الآن في انتظار إسدال الستارة على المعارك بوقف العدوان الإسرائيلي على القطاع تحت ضغط مركّب من الخسائر البشرية بين المتحاربين إلى حجم الكوارث الإنسانية في القطاع وضغط الرأي العام العالمي الرافض للعدوان الذي عكسته التظاهرات الكبيرة التي خرجت، رغم المنع في معظم الدول الغربية والضغوط السياسية والدبلوماسية، والحاجة إلى إبقاء أقنية الاتصالات السياسية والدبلوماسية بين إسرائيل ودول التسوية والتطبيع العربية مفتوحة، من أجل استمرار جهود التطبيع الأخرى، وعندها سيُحدّد من الفائز بالنقاط وستُحسب النتائج والآثار السياسية والاقتصادية والإنسانية وانعكاسها الجيوسياسي في المنطقة، فخروج حركة حماس منتصرة بالنقاط سيعني بقاءها طرفا ثابتا ووازنا، ومعها إيران ومحورها، في المعادلة. وهزيمتها ستعني هزيمة المحور ووحدة الساحات التي بقيت قولا من دون فعل. وتنهض غزّة من جديد تلملم أشلاءها وتضمد جراح أبنائها، وتجد السير نحو غدها المجيد.
————————–
ساسة إسرائيل يدفعون ثمن غطرستهم/ عمر كوش
17 أكتوبر 2023
منذ انتشار المشاهد الأولية للحرب في غزّة بين مقاتلي حركة حماس والجنود والمستوطنين الإسرائيليين، جرت المقارنة بين عملية توغل المقاتلين الفلسطينين في ما عُرف بمنطقة غلاف غزة، وما حصل في حرب 6 أكتوبر (تشرين الأول) 1973، أو “حرب العبور”، التي شهدت اختراق التحصينات الإسرائيلية على جبهة قناة السويس، واجتياز خط بارليف، وأعلنت عن كسر أسطورة الجندي الإسرائيلي الذي لا يُقهر، فضلاً عن توفّر عناصر ودلائل جديدة في الحرب الدائرة حالياً، فتحت الباب واسعاً أمام استخلاص دروس تتجاوز اللحظة الراهنة.
قد يكون الوقت مبكراً لتقديم قراءة موضوعية، تحيط بما يحدث في قطاع غزة والمنطقة التي أرُيد لها أن تشكل غلافها، وتضع كل المؤشّرات ضمن سياقها في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني والإقليمي، وحق الشعب الفلسطيني المشروع في نيل حقوقه على أرضه، والذي أظهر تصميماً منقطع النظير للتضحية في سبيلها، وقدرة على مواجهة قوى الاحتلال الإسرائيلي، وخصوصا جيشها الأكثر تسليحاً وتمويلاً بين جيوش المنطقة، وتمريغ صورته بالوحل، وتبيان تهافت أوهام القوة والغطرسة لدى ساسة إسرائيل، وتلقين جنرالات الحرب فيها الدرس المطلوب.
ما يحدُث في غزّة، وفي سواها من الأراضي الفلسطينية المحتلة، هو تأكيد على مواصلة الفلسطينيين عدم الاعتراف ببشاعة الاحتلال، وعدم الخضوع للعدوان الإسرائيلي المستمر منذ سنوات، وكبح ادّعاءت رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، الذي يعمل على “تطهير الأرض” من أهلها وأصحابها، والإمعان في ممارسة عنصرية متواصلة لا تجد من يوقفها في المجتمع الدولي، خصوصا من ساسة دول الغرب المنحازين بشكل أعمى للاحتلال الإسرائيلي، والذين ساهموا في جعل قوى اليمين المتطرّفة في إسرائيل تعتقد أنه يمكنها فعل كل شيء قذر ضد الفلسطينيين، بالاستناد إلى الدعم الغربي المنفطع النظير، من دون أن يدفع ساستها وجنرالاتها أي ثمن، أو أن يسائلهم أو يعاقبهم أحد في العالم.
يدرك العالم أجمع بشاعة الاحتلال، وفظاعة الممارسات الإسرائيلية حيال الشعب الفلسطيني، لكن ساسة الغرب الساعين إلى إحداث تطبيع شامل في المنطقة مع إسرائيل، تحت ذريعة تحقيق السلام والأمن الإقليمي، ينسون أن صنع السلام لا يتم عبر تطبيع إسرائيل علاقاتها مع السعودية والإمارات وسواهما، بل عبر السعي إلى منح الفلسطينيين حقوقهم المسلوبة منهم. ولذلك لم يبذلوا أي مسعى حقيقي في سبيل التخفيف من تداعيات الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، التي تجاوزت الحدود وفاضت على دول الجوار والإقليم، وبات من أطول الصراعات أمداً، وأشدّها تعقيداً، بالنظر إلى التعنّت الإسرائيلي، وإنكار حقوق شعب بأكمله، واستمرار احتلال الأراضي الفلسطينية، وإقامة نظام فصل عنصري حيال فلسطينيي الداخل والخارج. والأنكى من ذلك كله أن ساسة اليمين العنصري المتطرّف في إسرائيل ينكرون ارتباط ما يقومون به من ممارسات بملفات المنطقة وقضاياها، وإسهامها في زيادة الاضطراب وعدم الاستقرار فيها، وذلك لأنهم يُمعنون في ضرب أي مسعىً يهدف إلى تحقيق السلام، عبر تغوّلهم في الاحتلال والاستيطان، فأصل القضية وفصلها هو الاحتلال والاستيطان الإسرائيليان. لذلك كان طبيعياً رد فعل المقاتلين الفلسطينيين، حين توغلوا في مستوطنات غلاف غزّة وما حولها، وأظهروا للعالم أجمع استعدادهم لدفع كل ما يملكون من أجل نيل فسحة من الحرية.
إذاً، جاء الرد الفلسطيني على انتهاكات قوى الاحتلال، التي تمارسها يوميا ضد الإنسان الفلسطيني، حيث لم تتوقف عن قتل الفلسطينيين، وترحيلهم، واعتقالهم، وتدمير أماكن عيشهم وسكنهم، والتفنن في اختراع طرق لتحقير كرامتهم الإنسانية، حتى بات الاحتلال كابوساً مرعباً، يجثم على صدور ملايين الفلسطينيين منذ عقود.
كان متوقّعاً أن تأتي لحظة انفجار الغضب الفلسطيني طوفاناً عارماً، كي تشكّل جزءاً من عقاب مستحقّ للمسؤولين عن الممارسات الاحتلالية، وبالتالي، على ساسة إسرائيل وجنرالاتها دفع ثمن غطرستهم وعنصريتهم، ولن يفيدهم قتل مزيد من المدنيين في قطاع غزّة الذي سبق أن حوّل الاحتلال معظم سكانه إلى محرومين من حقهم في العيش، ومحاصرين منذ سنوات.
لم ينفع إسرائيل بناء جدار الفصل العنصري، ولا الجدار الذي بنته حول قطاع غزّة، الذي كلف ملايين الدولارات، لأنه لم يجعل إسرائيل آمنة، إذ تمكّن فلسطينيون من اختراقه، وعبروا كل الحواجز والعوائق بالدرّاجات الهوائية، وتمكّنوا من دخول أماكن محصّنة، فيما لم تتمكن الغطرسة الإسرائيلية من منعهم، لأنهم أرادوا كسرها وتبيان هشاشة ما صرفت عليه إسرائيل مليارات الدولارات. وقد أظهروا صوراً لم يتوقعها جنرالات الحرب الإسرائيليين في حياتهم، حيث أثبت الاختراق الفلسطيني أن بإمكان بضع مئات من المقاتلين الفلسطينيين تمزيق ما نسجته الغطرسة الإسرائيلية، والأهم أنهم اثبتوا أن من غير الممكن الاستمرار في سجن أهالي غزّة، من دون دفع أثمان باهظة. لذلك، على ساسة إسرائيل تعلّم الدرس، والكفّ عن مواصلة سياستهم الرامية إلى محو الفلسطينيين، بالاستناد إلى دعم ساسة دول الغرب، ولن تجدي نفعاً تهديداتهم باجتياح قطاع غزة، وتسويته بالأرض، ومعاقبة ناسه، وكأنه لم تتم معاقبتهم جماعيا في حروب واعتداءات سابقة.
لقد ظن ساسة إسرائيل وجنرالاتها أن مواصلة الغطرسة كفيلة بإخضاع الفلسطينيين، وإفشال أي محاولة للحلّ السياسي، تفضي إلى إسترجاع الفلسطينيين جزءاً من حقوقهم، وراحوا يتمادون في اغتيال الفلسطينيين، وتهشيم عظامهم، واقتلاع عيونهم، وخطفهم من بين ذويهم، ومواصلة سجن آلاف الأسرى، ومعظمهم سياسيون، وإظهار تعنّت يشي بأنهم لن ينالوا حريتهم إلا بالقوّة، لذلك كان تركيز المقاتلين في عمليتهم على أسر عديد من الجنود والمستوطنيين الإسرائيليين، كي يحصلوا على تلك القوة اللازمة لمبادلتهم بالأسرى الفلسطينيين.
لن تنفع إسرائيل مواصلة غطرسة قادتها وساستها، الأجدى لهم العودة إلى تنفيذ الاتفاقات الموقّعة، والالتزام بقرارات الشرعية الدولية، لأن استمرارهم في ممارساتهم سيعني استمرار الصراع، وبقاء ممكنات تفجير الأوضاع من جديد. ولن يتمكّن أحد من دفن القضية الفلسطينية، فهي حيّة لا تموت، ولا تنتهي، وعنوانها تحقيق العدالة للفلسطينيين، ومساعدتهم على إشادة دولتهم على ما تبقّى من أرض فلسطين التاريخية.
—————————-
القضية الفلسطينية وقضايا المنطقة لا تعالجها المسكّنات/ عبد الباسط سيدا
17 أكتوبر 2023
إثر العملية النوعية غير المسبوقة، طوفان الأقصى، التي نفذتها الفصائل المسلحة التابعة لحركة حماس في منطقة غلاف غزّة، إلى جانب رشقات القصف الصاروخي المكثفة التي طاولت عدة مواقع ومستوطنات إسرائيلية، ومقتل أكثر من ألف إسرائيلي ومن حاملي جنسيات أخرى من المدنيين (بينهم نساء وأطفال)، والعسكريين والمسلحين، إلى جانب آلاف المصابين؛ وما أعقبها من ردود فعل إسرائيلية عنيفة، تمثّلت في قصفٍ متواصلٍ لمدينة غزة بالطيران والمدفعية، أوقع مئات الضحايا من المدنيين، بينهم عدد كبير من النساء والأطفال، ومطالبة سكّان شمال غزّة بالتوجه نحو الجنوب، تمهيداً لهجوم إسرائيليٍّ برّي، وتفاعلات ذلك كله على الصعيد الشعبي الفلسطيني والعربي، جاء ارتفاع الأصوات الشعبوية التي حاول أصحابها، خصوصا من أنصار محور “المقاومة والممانعة” ركوب الموجة في محاولة لاستغلال العملية، والاستثمار في معاناة الشعب الفلسطيني المستمرّة منذ نحو 75 عاماً، وهي المعاناة التي لم تُعالج المعالجة المطلوبة، وإنما كانت القضية الفسطينية دائما ميداناً للمزايدات والشعارات من الأنظمة العسكرية الجمهورية العربية، التي وجدت في القضية المعنية نعمة لا نقمة، كما حاولت أن تدّعي باستمرار.
كما أهملت الإدارات الأميركية المتعاقبة، الجمهورية منها والديمقراطية، معالجة القضية الفلسطينية معالجةً عادلة مقبولة مقنعة للجانبين الفلسطيني والإسرائيلي؛ وظلت تلك الإدارات تعتمد مع هذه القضية المعالجة العرضية، عبر إعطاء الوعود المناسباتية التسويقية التي لم تتحقق، وإنما ظلت في عداد التطمينات الهلامية. هذا ما كان خلال المباحثات التي أسفرت عن اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل في 1978، وما ظهر جلياً من خلال كيفية التعامل مع مبادرة الأمير- الملك فهد عام 1981، والأمر نفسُه بالنسبة للوعود التي تضمّنتها اتفاقية وادي عربة بين الأردن وإسرائيل 1994. واستمر أسلوب التعامل ذاته مع الاتفاقية التي وقّع عليها في واشنطن عام 1993 كل من ياسر عرفات وإسحق رابين والرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون (اتفاقية أوسلو)، وهي التي كانت حصيلة مباحثات أوسلو السرّية بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل التي كانت قد بدأت بالتزامن مع مؤتمر مدريد في خريف عام 1991 الذي اعتبر في حينه بمثابة جائزة ترضية للدول العربية التي شاركت في حرب إخراج قوات صدّام حسين من الكويت في أواخر الشهر الثاني من عام 1991. ومن ثم كان التعامل غير الجدّي على الصعيد الدولي، سيما من الولايات المتحدة، مع مبادرة الأمير عبدالله التي تبنّتها جامعة الدول العربية في قمّة بيروت عام 2002، وهي المعروفة باسم الأرض مقابل السلام، ورفضتها إسرائيل. واستمر أسلوب التعامل ذاته في عهد الرئيس الأميركي الأسبق أوباما الذي كان قد وعد بإيجاد حلٍّ مقبولٍ للقضية المعنية، ولكن وعوده ظلت مجرّد حبر على ورق. وجاء ترامب ليعبّر عن انحيازه التام لصالح إسرائيل، ويقطع الطريق نهائيا على فكرة حل الدولتين عبر الاعتراف بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل، والصمت على سياسة بناء المستوطنات وتصرّفات المستوطنين، ومن ثم الاعتراف بضم إسرائيل الجولان، ويدفع باتجاه التطبيع الثنائي بين إسرائيل والدول العربية، وأدّى ذلك كله إلى هيمنة الفكر اليميني المتشدّد داخل المجتمع الإسرائيلي على حساب الأصوات المعتدلة التي كانت تُطالب بإنصاف الفلسطينيين، والتوصل معهم إلى حلّ واقعي قابل للحياة والاستمرار.
ومع استمرار اعتداءات المستوطنين على الفلسطينيين، والاستيلاء على ممتلكاتهم، والعبث بالمقدّسات الإسلامية والمسيحية، ارتفعت وتيرة الاحتقانات، وبات الوضع قابلا للانفجار في أي لحظة، خصوصا في مناخات وجود قوى إقليمية ودولية حاولت، وتحاول، استغلال الموقف لصالح حسابات وملفّات أخرى تخصّها هي بالدرجة الأولى.
واللافت الذي يستوقف أن عملية طوفان الأقصى أتت في أجواء استعدادات كانت قد قطعت شوطاً كبيرا على طريق التطبيع بين السعودية وإسرائيل، مقابل شروط طالبت بها السعودية بضرورة تحقيقها حفاظاً على حقوق الفلسطنيين، وكان من شأن هذه الخطوة، في حال تحقّقها وفق الشروط المطلوبة، أن تسحب ملفّ القضية الفلسطينية من متاجرة نظام ولي الفقيه في إيران الشعبوية بها أكثر من 40 عاماً، فالسعودية بما تحظى من أهمية رمزية استثنانية في العالم العربي والاسلامي، وبما تمتلكه من موارد مالية ضخمة، بالإضافة إلى قدرتها على التأثير في مختلف الأطراف، خصوصا في الداخل الفلسطيني، يمكنها أن تعيد التوازن إلى المعادلات المختلّة الخاصة بالقضية الفلسطينية، سواء من جهة إمكانية تحقيق المصالحة الوطنية الفلسطينية الداخلية، أو على صعيد إظهار موقف عربي داعم للقضية المعنيّة من خلال إطار مجلس التعاون الخليجي التي يعدّ التكتل العربي الأكثر انسجاما، وقدرة على التحرّك إقليميا ودوليا لحشد التأييد للقضية الفلسطينية. فقد أدرك نظام ولي الفقيه أنه سيفقد ورقته الأقوى على صعيد دغدغة عواطف العرب والمسلمين، وشرعنة “محور المقاومة” الذي يستخدمه للتستّر على مثالبه وإخفاقاته، بل على جرائمه في الداخل الإيراني، إذا ما تمكّنت السعودية، بالتعاون مع الدول العربية المؤثرة، من انتزاع ورقة القضية الفلسطينية منه؛ وهذا فحواه أن مشروع النظام المعني الممتد من إيران وصولا إلى لبنان، عبر كل من العراق وسورية، ووصولاً إلى اليمن سيتعرّض لتقويضٍ مدوّ، وسيكشف النقاب عن الانتهاكات والجرائم التي ارتُكبت بحق شعوب تلك الدول التي تحوّلت السلطات المهيمنة عليها إلى مجرّد أدوات تتحرّك بناء على التوجيهات الإيرانية، تلتزم الخطوات المطلوبة منها. وبغية التغطية على دورها التابع المنقاد، تمارس تلك السلطات لعبةً تضليلية اعلامية، لا تصمُد أمام أي جهد عقلي نقدي قادر على الربط بين الشعارات والمواقف والممارسات، ويمتلك ذاكرة بحثية.
الأمر الآخر الذي يستوقف هو الموقف الروسي على لسان كل من الرئيس الروسي بوتين ووزير خارجتيه لافروف، وهو الموقف الإنتهازي الذي يدّعي الوقوف إلى جانب الفلسطينيين في مواجهة الدول الغربية الداعمة إسرائيل، هذا رغم معرفتنا أن روسيا التي دخلت بجيشها وقوتها الجوية الضارية إلى سورية لتقاتل إلى جانب سلطة بشّار الأسد ضد الشعب السوري، ما كان لها أن تدخل لولا الموافقة الإسرائيلية؛ وهي الموافقة التي اشترطت التنسيق بين الطرفين، الروسي والإسرائيلي، وتجاوزت العلاقة بين الجانبين حدود التنسيق، لتصل إلى حد المغازلة التي تمثلت في إقدام روسيا، وبموافقات ضمنية من بشّار الأسد ومحوره “المقاوم، على تقديم “هدايا” رمزية لاسرائيل، لتكون على ثقةٍ بأن الدخول الروسي إلى سورية لن يكون خطراً عليها، وإنما على النقيض من ذلك سيكون عامل طمأنة لها. فإيران وروسيا اللتان شاركتا فعليا في قتل السوريين وتهجيرهم وتدمير بلادهم تتباكيان اليوم على ما يحصل للفلسطينيين في قطاع غزّة، وهما اللتان التزمتا بكل الاتفاقيات والالتزامات التي كانت بينهما وبين إسرائيل، ولم يعد هذا من الأمور المخفية أو السرّية، بل تشي بها كل التصرفات والتحرّكات.
هناك ملاحظات كثيرة تسجل على المواقف الغربية من القضية الفلسطينية، وانحيازها إلى إسرائيل، خصوصا الموقف الأميركي؛ ولكن في المقابل هناك مواقف غربية كثيرة داعمة للحقوق الفلسطينية، وهناك جهود كبرى في تقديم المساعدات للشعب الفلسطيني. كما أن الدول الغربية لم تتخلّ بصورة رسمية عن مشروع الدولتين. وفي المقابل، لا يمكننا، في جميع الأحوال، الإشادة بالموقفين الإيراني والروسي تجاه القضية ذاتها، وهي الإشادة التي تروّجها بعض الدول والمؤسّسات العربية، في محاول للضغط، وفق اجتهادات المروّجين، على الغربيين، وعلى الأميركان خصوصا، في هذا المجال، فالنظام الإيراني الذي تمكّن من خلخلة مجتمعات ودول عربية عدّة، وتمكّن من التمدّد إلى المفاصل ليتحكّم بها، وهو يستعد اليوم للتدخل في مزيد من الدول، ليساهم في مزيد من التخريب، هذا النظام لم ولن يكون عامل دعم لقضية الشعب الفلسطيني إلا في سياق دعائي يستغل عدالة القضية الفلسطينية، ليتاجر بها، ويستخدمها أداة تجييشية تعبوية لصالح أجنداته الإقليمية، ويعتمد في ذلك على أذرعه المذهبية و”العلمانية”، بغضّ النظر عن انتماءاتها المجتمعية. والأمر ذاته بالنسبة إلى روسيا التي أسهمت 13 عاما في قتل السوريين بصورة غير مباشرة ومباشرة، وغطّت سلطة آل الأسد سياسيا، سيما عبر مجلس الأمن من خلال استخدام حقّ النقض لمنع صدور أي قرار أممي من شأنه إدانة السلطة المعنية.
بقي أن نقول: ليس الانفجار الحادث حاليا بين الفلسطينيين والإسرائيليين الأول ولن يكون الأخير، ما دامت المعاناة الفلسطينيّة مستمرّة؛ وهي معاناة ستمتد ما لم يتم القطع مع سياسة الاستخدام الوظيفي الديماغوجي للقضية المعنية من مختلف القوى، خصوصا من النظام الإيراني. كما أن المعالجات العرضية التي كانت قد أثبت عدم نجاعتها، من الواضح أنها لن تنجح مستقبلاً. المعالجة المطلوبة هي المعالجة السببية التي من شأنها وضع حلول واقعية مقبولة للمشكلات القائمة؛ وهذا لن يكون من دون تبلور معالم موقف عربي قومي تقودُه دول الخليج.
ولن يكون الموقف العربي المتماسك فاعلا في غياب الموقف الفلسطيني الموحّد. وبعد توفر هذين الشرطين الحيويين تأتي خطوة الدعوة إلى مؤتمر إقليمي دولي، تلتزم أطرافه، بصورة جدّية، بخطّة طريق واضحة المعالم من جهة الخطوات المطلوبة، وسقفها الزمني، تؤدّي، في نهاية المطاف، إلى حل مستدام للقضية الفلسطينية وقضايا المنطقة، يفتح الآفاق أمام الاستقرار الأمني والازدهار الاقتصادي في المنطقة، لصالح سائر شعوبها من دون أي استثناء.
————————-
جوهر الصراع بين مطالب الحقّ وعجرفة القوّة في فلسطين/ لؤي صافي
16 أكتوبر 2023
ثمّة مقاربتان أساسيتان في التعاطي مع الصراع الإسرائيلي الفلسطيني تميّزهما رؤية المتأمل في التحدّي الذي يواجه الشعب الفلسطيني. الأولى، والتي تحكم اليوم تفكير النخب السياسية الحاكمة، تنطلق من رؤية واقعية إلى الأشياء، رؤية تقوم على حسابات موازين القوة، وتعطي أولوية للقدرات الإنتاجية والعسكرية للأطراف المتصارعة، وهي لذلك ترى أن من العبث أن يتصدّى المستضعف للقوي عندما ترجّح موازين القوة قدرة من يملك السلطة والقرار على إلحاق أضرار كبيرة وخسائر فادحة في الجماعات السكانية المهمّشة. تنتشر هذه المقاربة اليوم بين النخب السياسية العربية في صراعها مع القوى التوسّعية في الغرب والشرق، وفي مقدّمتها تيار المحافظين الجدد، الذي يعتبر نتنياهو ممثلّه الأبرز. عمل قادة هذا التيار منذ تسعينيات القرن الماضي، ومن خلال إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش، على تحقيق تفوّق إسرائيلي كامل على المنطقة العربية، ووضعوا لذلك خطّة في نهاية تسعينيات القرن الماضي أطلقوا عليها اسم “الانفصال الكامل” (Clean Break)، وبدأوا بتنفيذها بوصول جورج بوش إلى البيت الأبيض، بغرض إعادة تشكيل المنطقة العربية لتنسجم مع احتياجات إسرائيل، وتحويل الأسواق العربية إلى سوق استهلاكي مفتوح لمنتجاتها، بما يمكّنها من استمرار في بناء قوتها من دون الحاجة إلى الاعتماد على مصادر التمويل الغربية. خطة “الانفصال الكامل” التي أعدها في عام 1996 فريق بقيادة ريتشارد بيرل ودوغلاس فايت (عملا مستشارين لجورج بوش الصغير) بطلب من بنيامين نتنياهو، تضمّنت بنوداً تتعلق بتغيير النظام العراقي وإضعاف سورية، والدخول في علاقاتٍ تجاريةٍ مع المنطقة العربية لتجاوز الصراع العربي الإسرائيلي وتحويله إلى صراع محلي، وتضمّنت أيضاً توصياتٍ بملاحقة المقاومة الفلسطينية إلى أماكن وجودها داخل غزّة والضفة الغربية.
المقاربة الأخرى لفهم الواقع وسبل التعاطي معه تتبنّاها غالباً القوى المهمّشة التي تواجه واقعاً متهاوياً وظروفاً معيشية صعبة، بسبب سلوكيات النخب المهيمنة على القرار الوطني. تقوم المقاربة الشعبية على رؤية مثالية وقناعات عميقة ترى أن الحقّ مقدّم على القوة وضابط لمسارها، وأنه قادر كذلك بما يحمله من زخم شعبي على تفكيك القوى الغاشمة المتكبّرة التي تسعى لتسخير مقدّرات الشعوب لتحقيق مصالحها الخاصة على حساب المصلحة العامة. وبدلاً من التعويل كلياً على حسابات القوّة، تميل الرؤية المثالية إلى الانطلاق من موازين الحق وقيم الإنسان، وإرادته الحرّة، وموازين التعاون والوحدة. وهذه الإرادة عميقة في المنطقة العربية، لأنها الإرث الذي تركته رسالات التوحيد على امتداد تاريخها الطويل. وهذا ما يجعل التحرّكات الشعبية التي تتبنّى مقاربة الحق في مواجهة القوّة تبدو، من وجهة النظر الواقعية، عاطفية وغير عقلانية، بل ساذجة وواهمة. تتجلّى هذه المقاربة اليوم في ثورات الربيع العربي التي تحرّكت بعفوية، استنكاراً لإسراف النخب الحاكمة في استخدام القوة لتحقيق مصالحها على حساب مصالح الشعوب، كما تتجلّى في الانتفاضات الفلسطينية المتكرّرة على امتداد العقود الماضية، وفي العمليات التي تخطّط لها فصائل المقاومة الفلسطينية، رغم التفاوت الهائل بين القوّة المحدودة التي تمتلكها والقوة التدميرية الهائلة التي تملكها إسرائيل، لفرض إرادتها ومشروعها الاستيطاني على الفلسطينيين، وعلى الدول العربية وشعوب المنطقة المتعاطفة معها، بل وعلى قوى إقليمية ودولية عديدة، رافضة ممارساتها التي تتعارض بصورة فاقعة مع كل القوانين الدولية والأعراف الإنسانية.
لكنّ النخب السياسية الحاكمة، والنخب المثقّفة التي تشاركها في واقعيتها السياسية، ما زالت عاجزة عن فهم العلاقة بين الحقّ والقوة، رغم كل الإخفاقات التي واجهتها على مدار قرن بسبب منظورها “الحسابي” الضيّق الذي يتجاهل بعداً رئيسياً في الصراع بين مطالب الحق وعجرفة القوة، وبالتحديد التراكمات النضالية التي تعيد، بمرور الزمن، ترتيب العلاقة بين الحقّ والقوة. نعم يمكن للقويّ الذي يملك وسائل القمع والبطش أن يستخدم تفوّقه لمنع أصحاب الحقّ من المطالبة بحقوقهم، وصولاً إلى انتصارات مرحلية في معارك المواجهة، لكنّه يبقى عاجزاً عن الانتصار في الحرب الطويلة التي بدأها، معوّلاً على قدراته على إلحاق الألم والمعاناة في خصومه، بما يملك من وسائل البطش والتنكيل.
هذا المنطق، الذي هو منطق القوة العارية الإسرائيلي في تعاطيه مع الفلسطينيين، ناجم عن جهل بالمصدر الحقيقي للقوة، واستخفاف بالآثار النفسية والاجتماعية على من يوظّفهم للبطش بخصومه من دون ضوابط أخلاقية ودينية وإنسانية. ولعل الحقيقة الأولى التي يجهلها من يسارع إلى استخدام القوة أن الطريق الأقصر لفقدانها هو التعجّل باستخدام أدوات القهر والبطش من دون حكمة أو مسؤولية، لأنّ ما قبل استخدام القوة المفرطة مختلفٌ تماماً عما بعدها، فثمّة عنصرٌ غير محسوب، غائبٌ قبل استخدام القوة العارية، حاضر بعد استخدامها، وهو تحوّل الخوف المربك في وعي المهمّشين إلى غضب محفز يدفعهم إلى تطوير وسائل مبتكرة لتغيير معادلة القوة الغاشمة التي تسحقهم وتغتال أحلامهم وأحلام أبنائهم. لا شيء يحفز الأفراد والشعوب للبحث عن أنجع الوسائل لمواجهة ظلم القوي أكثر من العيش في منظومة سياسية وعسكرية تتجاهل الحقوق وتُسرع لانتهاك كرامة من يخضع لسلطانها وجبروتها.
وهذا يقودنا إلى نقطة مهمة يجب استحضارها دائماً عند النظر إلى العلاقة بين الحقّ والقوّة، أو بين الحقوق والسلطة، أنّ العلاقة في أساسها علاقة تكامل، فالحقّ يحتاج للقوة لإقامة مجتمع إنساني تحفظ فيه الحقوق وتتكامل داخلة مصالح مكوّناته المتنوعة، والقوة تحتاج كذلك إلى الحقّ لمنع توظيفها خارج الإطار الذي تقتضيه قيم العدل والتعاون والتكافل والتراحم التي تليق بالإنسان وكرامة الإنسان. ذلك أن ضعف المجتمعات الإنسانية غالباً ما يتولّد عن تجاهل القيم الضرورية لبناء تلاحم وتعاون اجتماعيين، وأن رحلة بناء القوّة تبدأ دائماً بالتزام الناس قيم العدل والتكافل والتعاون التي هي السبب في تزايد قوّة أي مجتمع إنساني. ومن يتابع واقع الحياة في الأرض المحتلة، يلحظ تزايد التناقضات والصراعات الداخلية ضمن المجتمع الإسرائيلي باطّراد، نتيجة إصرار القوى الحاكمة فيه، التي تزداد تطرّفاً وعنصرية يوماً بعد يوم، على تجاهل كل الضوابط الأخلاقية والحقوقية، والمضي في مشروع عنصري استيطاني يضع الفلسطينيين أمام الخيار الوحيد الذي يملكونه، ويدفعهم إلى تكريس جهودهم لمقارعة الظلم والعدوان، سعياً نحو الحرية والكرامة. ومن يتابع التطورات في المجتمع الفلسطيني، يلحظ ازدياد تلاحم أبنائه وتضامنهم، ويرى إصرار المقاومة الفلسطينية على بناء قواها الذاتية لمواجهة عدوٍّ شرس، وتنامي قدرتها على الاستجابة للتحدّيات، واستعدادها لتقديم مزيد من التضحيات لردّ المشروع الاستيطاني التوسّعي الذي يشكّل تهديداً لقدرة الشعوب على الحفاظ على حرّيتها واستقلالها وبناء مستقبلها ومستقبل الأجيال القادمة.
———————–
===================
القدس العربي
—————————–
الحرب على غزة إذ تذكّرنا بحرب العام 1982/ بكر صدقي
قام الجيش الإسرائيلي باجتياح الأراضي اللبنانية في 6 حزيران عام 1982 متذرعاً بمحاولة اغتيال السفير الإسرائيلي في لندن، قبلها بيومين، من قبل مجموعة فلسطينية معارضة لمنظمة التحرير الفلسطينية يقودها أبو نضال (صبري البنا) الممول من أجهزة المخابرات العراقية. وكان آرييل شارون وزيراً للدفاع في حكومة تجمع الليكود برئاسة مناحيم بيغن، هو المخطط لتلك الحرب المدمرة التي قلبت التوازنات في المنطقة رأساً على عقب. وفي البداية زعم شارون أمام الحكومة المصغرة أنه يريد طرد قوات المقاومة الفلسطينية بعيداً عن الحدود الإسرائيلية بعمق 40 كيلومتراً، وهو المدى الذي تبلغه القذائف المدفعية الفلسطينية، لحماية شمال إسرائيل منها، ولذلك سميت العملية «السلام للجليل». غير أن هدف شارون الحقيقي، كما ستؤكد المجريات اللاحقة، كان القضاء على منظمة التحرير الفلسطينية، بما في ذلك اغتيال ياسر عرفات وتدمير المقر المركزي للمنظمة في بيروت.
تمكن الجيش الإسرائيلي من التقدم بسرعة في اتجاه العاصمة اللبنانية، وفشلت قوات المقاومة الفلسطينية في الجنوب من وقف هذا التقدم، وفي شهر تموز استطاع فرض حصار تام على بيروت استمر طوال أشهر الصيف الثلاثة، واحتل ما كان يسمى في ذلك الزمن بيروت الغربية، وفرض طوقاً على مقر منظمة التحرير الفلسطينية. واضطرت القوات السورية الموجودة في مناطق مختلفة من لبنان بصفة «قوات الردع العربية» للدخول في اشتباكات موضعية مع القوات الإسرائيلية، وأسقطت إسرائيل 80 طائرة مقاتلة تابعة لسلاح الجو السوري.
أصدر مجلس الأمن الدولي، في غضون ذلك، عشرة قرارات فشلت في وقف الزحف الإسرائيلي، أولها قبل بداية الاجتياح بيوم واحد، والثاني في اليوم نفسه، وتتابعت تلك القرارات، وكان بعضها يصدر في يومين متتاليين، عجزت جميعاً عن إنهاء الحرب. وقام المبعوث الأمريكي الخاص إلى لبنان فيليب حبيب بلعب الدور الدبلوماسي الأبرز من أجل الوصول إلى وقف إطلاق النار، بين إسرائيل وسوريا أولاً، وإسرائيل ومنظمة التحرير ثانياً. القصد من هذه الإشارة هو للإشارة بالمقابل إلى غياب أي دور فاعل للاتحاد السوفياتي الذي كان يشكل القطب المقابل لواشنطن في الحرب الباردة، لأنه كان غارقاً في مشكلات داخلية ستظهر للعلن بعد وفاة بريجنيف في خريف العام نفسه. وللقول أيضاُ أن العلاقة التحالفية لواشنطن مع إسرائيل لم تجعل الأولى منحازة بشكل أعمى لهذا الحليف، بل لعبت دور الوسيط بين الأطراف، بصرف النظر عن وصف هذه الوساطة من قبل الرأي العام العربي بأنه غير عادل، أي منحاز. فقد جاءت النتائج بما يعكس موازين القوى المختلة بصورة كاسحة لمصلحة إسرائيل، فتم التوافق على خروج القوات السورية من الحرب، وخروج منظمة التحرير الفلسطينية بقادتها وقسم من مقاتليها من لبنان، شرطاً لوقف الحرب من قبل إسرائيل، ثم انسحابها في شهر أيلول.
وكان من نتائج تلك الحرب التي قتل فيها آلاف الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين ومقاتلين من جنسيات أخرى كانت تقاتل في صفوف المقاومة الفلسطينية، انتخاب قائد القوات اللبنانية بشير الجميّل رئيساً للجمهورية، ثم اغتياله بعد أيام قليلة، ومجزرة مخيمي صبرا وشاتيلا رداً على الاغتيال، وخروج منظمة التحرير الفلسطينية التي نقلت مقرها إلى تونس، وبداية ظهور حزب الله اللبناني الذي سيملأ فراغ القوة في جنوب لبنان، بعدما قام بطرد المقاومة اللبنانية (اليسارية) ليستفرد بساحة «المقاومة» ودورها. وكان تخاذل نظام الأسد، في تلك الحرب، قد هيأ الأرض لتحل إيران محله في الدور القيادي للمحور الإقليمي في مواجهة إسرائيل، بواسطة حسن نصر الله وحزبه.
وقاد عرفات مرحلة جديدة من الكفاح الفلسطيني من الشتات البعيد، إلى حين اندلاع الانتفاضة السلمية في الضفة الغربية التي سميت بانتفاضة الحجارة، في العام 1987، أدت إلى عودة المنظمة، لا إلى لبنان بل إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة نفسها، بموازاة اتساع الاعتراف بها كممثلة شرعية لقضية الشعب الفلسطيني، من قبل عدد متزايد من دول العالم، بصورة مطّردة مع تخليها المتدرج عن أهداف الحد الأقصى المتمثلة في تحرير فلسطين وإقامة الدولة المستقلة على كامل أراضيها، وصولاً إلى مؤتمر مدريد للسلام (1991) ثم اتفاق أوسلو الذي أدى إلى قيام سلطة فلسطينية منقوصة السيادة على الضفة الغربية وقطاع غزة (1993).
بالمقابل صعد اليمين الإسرائيلي الأكثر تشدداً تجاه حقوق الشعب الفلسطيني باطراد، وصولاً إلى أن بنيامين نتنياهو نفسه بات اليوم يعتبر «معتدلاً» بالقياس إلى التيارات الأكثر تطرفاً، وبعضها ممثل في حكومته.
عربياً، ربما من تكرار القول إنه الوضع الأكثر انحداراً في تاريخ العرب الحديث، إلى درجة أن «الممانعة» الرئيسية في وجه مشروع تهجير الفلسطينيين الذي ثمة مؤشرات كثيرة لوجوده في خلفية الحرب الراهنة لدى دوائر الحكم في إسرائيل، تتمثل في دولتين تربطهما بإسرائيل معاهدتا سلام، إضافة إلى أربع دول عربية أخرى في إطار «اتفاقات أبراهام». ومع خطاب حسن نصر الله، قبل أيام، اكتملت جميع المعطيات حول نأي المحور الإيراني بنفسه عن الحرب الراهنة، تماماً كنأي نظام حافظ الأسد بنفسه عن حرب 1982، بعد اتفاقه مع المبعوث الأمريكي فيليب حبيب، تاركاً منظمة التحرير لمصيرها، ومسهّلاً موافقة قيادتها على الخروج من لبنان.
دولياً، تبدو الفروقات أكبر بعدا بين الأمس واليوم. فقد بلغ الانحياز الأمريكي ـ الغربي إلى إسرائيل مبلغاً لم تحلم به إسرائيل منذ نشوئها، وغاب القطب المقابل تماماً عن المشهد، واختفى أي دور لمجلس الأمن حتى في إقرار هدنة «إنسانية» مؤقتة.
وإذا كانت منظمة التحرير قد استطاعت، بعد 82، أن تنطلق من جديد في مسار سياسي مختلف، فما الذي يمكن لحركة حماس أن تفعله إذا حدث وفرضت واشنطن تسوية مؤقتة تضمنت خروج الحركة من قطاع غزة، مقابل وقف المقتلة، وهل تجد دولة تقبل بإيواء كوادرها ومقاتليها؟ وماذا يكون مصير غزة وسكانها بعد تسوية من هذا النوع؟ من المحتمل أن هذه هي بعض الأسئلة والاقتراحات التي يدور بها أنطوني بلينكن على عواصم المنطقة.
كاتب سوري
——————-
فرنسا والعداء للسامية: اجترار المكرّر وتكرار المجترّ/ صبحي حديدي
يائيل برون ـ بيفيه رئيسة الجمعية الوطنية/ البرلمان وجيرار لارشيه رئيس مجلس الشيوخ، في فرنسا، أطلقا دعوة إلى تظاهرة حاشدة يوم الأحد المقبل في العاصمة الفرنسية باريس، تحت لافتة مناهضة العداء للسامية؛ في مسعى، لا يخفى بالطبع، لتنظيم احتشاد يُراد له أن ينتهي إلى مساندة دولة الاحتلال الإسرائيلي في العدوان الهمجي الراهن على مدنيي قطاع غزّة من أطفال ونساء وشيوخ.
وكان في وسع المرء أن يضيف هذا الخبر إلى مسلسل الانحياز الأعمى لصالح الاحتلال، كما تجلى في سلوك وعلى ألسنة غالبية ساحقة من ساسة فرنسا على اليمين واليسار والوسط، ابتداء من الرئيس إمانويل ماكرون وبرون – بيفيه نفسها (التي هرعت إلى غلاف غزّة منذ الأيام الأولى لانفلات الهمجية الإسرائيلية من كل عقال)؛ وليس انتهاء بالمرشح الرئاسي السابق والعنصري العريق إريك زيمور (زائر كيبوتز كفار عزّة). كما كان في الوسع أن يُهمَل الخبر تماماً، فلا جديد هنا بصدد فزّاعة العداء للسامية، في سائر بلدان الغرب كما في فرنسا على نحو خاصّ.
لولا أنّ تفصيلاً خاصاً لافتاً، من طراز يمزج المأساة بالمهزلة، دخل على خطّ الخبر: أنّ مارين لوبين، زعيمة اليمين المتطرف في فرنسا، وحزب «التجمع الوطني» وريث حزب «الجبهة الوطنية» وابنة زعيمه التاريخي جان ـ ماري لوبين، والمرشحة في الدور الثاني للانتخابات الرئاسية الأخيرة؛ أعلنت أنها سوف تشارك في التظاهرة صحبة رئيس الحزب ونوّابه في البرلمان. ذلك لأنّ تاريخ الحزب لا يسجّل تعاوناً مع القوى النازية وسخرية من الهولوكوست فقط، بل لقد أُدين رئيسه السابق أمام القضاء بتهمة العنصرية و… العداء للسامية!
وهذا تفصيل يستدعي من هذه السطور وقفة أولى ذات دلالات تلقي بظلالها على الراهن، مثلما تربط عناصر الماضي إلى المستقبل. ففي سنة 2017، خلال واحدة من ذرى الحملات الانتخابية الرئاسية، تقصدت لوبين دغدغة مشاعر تلك الشرائح التقليدية في حزبها فأعلنت براءة فرنسا، الدولة والشعب معاً، من حملة اعتقال وتجميع وترحيل أكثر من 13 ألف يهودي سنة 1942، استجابة لأوامر سلطات الاحتلال النازية. صحيح أنها لم تخالف، في الجوهر، التشخيص ذاته الذي سبق أن توصّل إليه أربعة من رؤساء فرنسا خلال الجمهورية الخامسة (شارل دوغول، جورج بومبيدو، فاليري جيسكار ديستان، وفرنسوا ميتيران)؛ إلا أنها تغافلت عن حقيقة أنّ الرئيس جاك شيراك كسر هذا الإجماع في سنة 1995، وألقى بالمسؤولية على عاتق فرنسا الحكومية، ثمّ اقتفى أثره رئيس يميني هو نيكولا ساركوزي ورئيس اشتراكي هو فرنسوا هولاند.
وإلى جانب دغدغة عواطف المتشددين وتحريك نوستالجيا سنوات تأسيس الحزب وأطوار التماهي مع الفكر النازي، سعت لوبين يومذاك إلى استدراج ديناميكية سجالية من حول تصريح إشكالي قد يتكفل بتفعيل موقعها مقابل مرشحي اليمين واليسار ويرفع رصيدها الشعبي أو الشعبوي؛ الأمر الذي انساقت إليه معظم وسائل الإعلام الفرنسية، بالفعل، فتحدثت صحيفة «لوموند» عن «خطّ أحمر» هو «الإجماع الوطني حول قراءة الوقائع الأشدّ إيلاماً في تاريخ فرنسا» معتبرة أنّ لوبين تجاوزته في نفيها مسؤولية البلد عن ترحيل آلاف اليهود إلى المعسكرات النازية. صحف أخرى، ومجلات أسبوعية، ومحطات تلفزة، سارعت إلى استضافة مؤرخين وكتّاب وساسة، فكانت حصيلة التعليقات أشبه باجترار المكرر، وتكرار المجترّ!
والمبادرة إلى تظاهرة مناهضة العداء للسامية، إذْ تأتي من أعلى هرم البرلمان ومجلس الشيوخ ويعلن المشاركة فيها حزب يميني متطرف عُرف تاريخياً بسلسلة خيارات تجاه اليهود، فضلاً عن فلسفة كارهة للمسلمين والمهاجرين؛ إنما تعيد تفصيلاً ثانياً ذا دلالات ترشق الماضي على الحاضر، لأنه يخصّ مكانة أثيرة يتوجب أن تتمتع بها فرنسا في نفوس الصهاينة. فهذا هو البلد/ مهد محاكمة الضابط الفرنسي اليهودي ألفريد دريفوس، التي اتكأ عليها صحافي نمساوي يهودي يدعى تيودور هرتزل كان آنذاك في باريس؛ فكتب مسرحيته «الغيتو الجديد» وكرّاسه الأشهر «الدولة اليهودية». وإذا كان قد رحل قبل تبرئة دريفوس، إلا أنّ هرتزل شاهد بأمّ عينيه، وأصاخ السمع عميقاً للحناجر الفرنسية وهي تهتف: «الموت لليهود!» على خلفية محاكمة الضابط البريء.
والمفارقة المتمثلة في أن دريفوس نفسه كان بعيداً تماماً عن أيّ تفكير صهيوني، وهكذا ظلّ حتى وفاته عام 1935؛ لا تغيّر كثيراً من طبيعة الجدل الديناميكي الذي أطلق الحركة الصهيونية، ولا مواقف التشكك إزاء فرنسا والنفور منها لدى ممثلي أبرز التجمعات اليهودية على الأراضي الفرنسية. وللمرء هنا أن يستعيد عبارة شهيرة أطلقها روجيه كوكيرمان، الرئيس الاسبق للمجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا (CRIF)؛ تعليقاً على أحلام السلام الفلسطيني ـ الإسرائيلي كما أعرب عنها يهودي فرنسي آخر هو تيو كلاين، كان رئيس المجلس التمثيلي ذاته: «قد نرغب في رسم الذئب بألوان وردية. لكنه يظلّ ذئباً»! وكان كوكيرمان يتساءل عن (ويشكك في) حقّ أيّ يهودي في انتقاد الحكومة الإسرائيلية، الآن بالذات. وبالطبع، ولمن فاته إدراك طرفَي الاستعارة، كان ياسر عرفات هو الذئب الذي يمكن رسمه باللون الوردي دون أن يتغيّر باطنه الذئبي.
ثمّ تابع كوكيرمان حملة تأثيم أعداء دولة الاحتلال في فرنسا، فكتب مقالة في صحيفة «لوموند» شنّ فيها الهجوم على «قادة هذا البلد ممّن يقللون من أثر الأفعال المعادية لليهود»؛ وعلى «السلطات التي يحلو لها أن ترى في الهجوم على كنيس مجرّد عمل من أعمال العنف وليس فعلاً معادياً للسامية»؛ وعلى «بعض اليهود الذين فقدوا الصلة بالواقع اليهودي»؛ وعلى وسائل الإعلام التي يطيب لها إعطاء أكبر صدى ممكن للأصوات التي تنتقد إسرائيل واليهود، خصوصاً حين تكون تلك الأصوات يهودية»…
مضبطة كوكيرمان الاتهامية هذه لم يكن لها أن تنتهي قبل تأثيم القضاء الفرنسي ذاته، في مجمله، دون تمييز: «يطيب للعدالة ألا تعاقب بطريقة مُثلى على هذا العنف المعادي لليهود، حتى حين يُعتقل مرتكبوه بالجرم المشهود: السجن ثلاثة أشهر مع وقف التنفيذ، أي لا شيء بالنسبة إلى اعتداء على مكان عبادة يهودي، مقابل السجن سنة كاملة بسبب اعتداء على كوخ من قشّ»؛ في إشارة إلى قضية شهيرة سياسية ـ أمنية قيل إنّ محافظ كورسيكا نفسه تورّط فيها.
ولقد توجّب أن يمضي كوكيرمان أبعد، فردّ تهاون القضاء الفرنسي إلى سلسلة طويلة من الأسباب السياسية والسوسيولوجية: أنّ العنف (ضدّ اليهود، من جانب واحد كما يقول) مرتبط بالصراع في الشرق الأوسط؛ ولأنه يجري، غالباً، الخلط بين اليهودي والإسرائيلي؛ كما لا يصدر من اليمين المتطرف، بل من الضواحي المغاربية؛ ولأنّ فرنسا الجمهورية تتردد في الإقرار بأنها فشلت في الدمج التعليمي والاجتماعي للشبيبة المغاربية؛ ولأننا نسامح تماماً كلّ ذنوب الذين نشعر إزاءهم بعقدة الذنب؛ وأخيراً، لأنّ الجالية المسلمة مهمّة في كلّ اعتبار…
ويبقى أنّ لوبين، التي قرأت، وتُحسن على الدوام قراءة، طبائع نفاق ساسة فرنسا الراهنة؛ أعلنت، جادّة وساخرة في آن، أنها مستعدة للمشاركة في التظاهرة من الصفوف الخلفية لا الأمامية، كي لا تحرج المتصدرين من قيادات خلائط الماكرونية وفلول الديغولية وديناصورات الحزب الاشتراكي. وقد لا تغيب عن هذا الخيار رسالة إلى المصابين بحمّى النوستالجيا في صفوف حزبها: أنها، ونوّابها، لا تشارك إلا من الخلف في… اجترار المكرّر وتكرار المجترّ!
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
————————–
هل اقترب أوان السياسة بشأن غزة؟/ بكر صدقي
تدور في وسائل الإعلام تكهنات حول صفقة سياسية محتملة بين إيران والإدارة الأمريكية، تخرج بها طهران بمرابح وفيرة كان ثمنها دم الفلسطينيين الذي لم يتوقف نزيفه بعد. والحال أن «زلة لسان» إيرانية مبكرة حدثت حين اقترح الإيرانيون نقل الرهائن الذين اختطفتهم حركة حماس ومنظمات فلسطينية أخرى في غزة صباح السابع من تشرين الأول، إلى إيران. ثم تم طي هذا الاقتراح «على السكت» حين اتضح أن المفاوضات جارية بشأن الرهائن في الدوحة. لكن طهران حجزت، على كل حال، مقعداً لها على طاولات التفاوض القادمة بعد الحرب، حين بدأت واشنطن تحذّرها منذ اليوم الأول من توسيع إطار الحرب، وأرسلت حاملات طائراتها إلى شرق المتوسط لهذه الغاية، ثم أكدت مراراً وتكراراً أن المعلومات التي لديها تشير إلى «عدم تورط طهران» في الهجوم الذي أطلقت عليه حماس اسم طوفان الأقصى. وكان حضورها في قمة الرياض «بديهياً» في هذا السياق، باعتبار القمة أول اجتماع إقليمي كبير مخصصا للتباحث حول الحرب الجارية، قبل كون طهران عضواً في منظمة المؤتمر الإسلامي، وهو ما يستدعي مشاركتها البديهية بالمعنى الشكلي.
هذه المؤشرات تسابق التحول الإيجابي في الرأي العام الغربي متمثلاً بالمظاهرات الضخمة في أهم العواصم التي ساندت حكوماتها إسرائيل في حربها الوحشية على سكان غزة، وبداية ظهور تأثير ذلك على تصريحات تلك الحكومات. بمعنى أن الوقت الذي منح لحكومة نتنياهو لتحقيق هدفها المعلن، القضاء على حركة حماس بأي ثمن، بدأ يضيق بصورة جدية، مما سيدفع الأمور نحو تنشيط المبادرات الدبلوماسية لوضع تصور عن التسوية المرحلية التي ستلي وقف إطلاق النار. وهكذا سيكون المحور الذي تقوده طهران في وضع يتيح لها استثمار الدم الفلسطيني لتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب، في لبنان وسوريا واليمن وفي مواجهة واشنطن بالذات.
يمكن القول إن إيران، ورأس حربتها حزب الله، قد اتبعا سياسة «حافة الهاوية» التي اشتهر بها الديكتاتور السوري الراحل حافظ الأسد طوال فترة حكمه، سواء إزاء إسرائيل أو الولايات المتحدة أو دول عربية وإقليمية كالسعودية وتركيا، مستخدماً «منصته» اللبنانية في أغلب الحالات. هذه السياسة تجلت في الرشقات المحسوبة بدقة التي أطلقها حزب الله في اتجاه مزارع شبعا، كما في الهجمات المتفرقة على القواعد العسكرية الأمريكية في شمال شرق سوريا، وفي صواريخ جماعة الحوثي التي واظبت على عدم إصابة أهدافها في إسرائيل.
صحيح أن هذه السياسة قد أربكت إيران، وبخاصة ذراعه اللبنانية، أمام الرأي العام «الممانع» ومن المحتمل أن تؤدي إلى انحسار شعبية المحور، لكن عين طهران على واشنطن وما يمكن أن تقدمه لها من مكاسب لمحافظتها على حسن سلوكها بعدم الانخراط في الحرب. وأول تلك المكاسب هو المحافظة على حزب الله وقوته الوازنة في لبنان وسوريا، كما المحافظة على إيران ذاتها من الاستهداف الأمريكي أو التضييق عليها وعلى نفوذها الإقليمي. هذا أيضاً يذكرنا بلسان حال نظام البعث في سوريا بعد هزيمته في حرب حزيران 1967 حين قال إن إسرائيل فشلت في تحقيق هدفها المتمثل بإسقاط «النظام التقدمي» في دمشق! واليوم تراهن طهران على فشل إسرائيل في القضاء التام على حركة حماس و«عدم تجرئها» (!) على مهاجمة حزب الله في لبنان، وفقاً للبلاغة المتوقعة من طهران وأدواتها بعد نهاية الحرب. ستكون مماحكات محتملة من هذا النوع أضعف تأثيراً في الناس بعد كل الدماء التي سالت. ولكن من الذي سيكترث برأي الناس في الواقع الجديد الذي سيكون كالحاً، أما إيران فمهتمة أكثر بالصفقات المحتملة القادمة مع الأمريكيين وحلفائهم من اهتمامها بدماء غزة أو انخفاض شعبيتها لدى الرأي العام الممانع.
أما الخاسرون من هذه الحرب، فهم طبعاً الشعب الفلسطيني أولاً الذي سيرغم على القبول بتسوية ظالمة جديدة لن تنهي مأساته التي عمرها من عمر قيام الكيان الإسرائيلي. وسيكون هناك خاسرون آخرون أيضاً كالحكومة الإسرائيلية ورئيسها نتنياهو، مع أجهزة استخباراته وقيادة جيشه الذين أظهروا فشلاً ذريعاً يوم السابع من تشرين الأول وفي تحرير الرهائن بلا مفاوضات كما وعد نتنياهو.
وعلى الجانب الفلسطيني ستخسر حماس لأنها ستعتبر مسؤولة عن استجلاب ردة الفعل الوحشية من إسرائيل، إضافة إلى أنها باتت هدفاً للتحالف الغربي بكامله من وراء إسرائيل، فمن غير المتوقع أن يبقى لها أي وجود أو نشاط علني في إطار أي تسوية محتملة. وخسرت السلطة الفلسطينية أيضاً بوصفها مجرد «خسارة جانبية» لهذه الحرب.
لا يمكن توقع فحوى التسوية التي من المحتمل أن تلي الحرب، على رغم وضوح خسارة اللاعبين المذكورين، ولكن لا بد من تحويل هذه الخسائر إلى فرصة ممكنة هي العودة إلى وضع مشروع حل الدولتين على طاولة المجتمع الدولي، بصرف النظر عمن سيخلف حكومة نتنياهو أو حركة حماس أو سلطة محمود عباس.
كاتب سوري
———————–
مجمّع الشفاء واستباحة الجسد البشري: في غزّة كما في واشنطن/ صبحي حديدي
يُفهم، بيُسر وبساطة وكثير من المنطق المستند إلى سوابق لا عدّ لها ولا حصر، أن تلتحق مختلف مؤسسات الإدارة الأمريكية الراهنة بهذه أو تلك من الأكاذيب، الفاضحة الفاقعة، التي تروّج لها دولة الاحتلال الإسرائيلي؛ في سياقات شتى عموماً، وبصدد العدوان الهمجي الراهن على المدنيين من أبناء قطاع غزّة خصوصاً. لم يكن جديداً تبنّي الإدارة الأكذوبة الإسرائيلية بصدد قصف المستشفى الأهلي المعمداني، ولن تكون أخيرة «المعلومات الاستخبارية» الزائفة التي أعلنت الإدارة أنها تملكها حول وجود قيادة عمليات لحركة «حماس» في أقبية مجمّع الشفاء الطبي. كما أنّ هذا السلوك الببغائي خلف أضاليل الاحتلال لم تنفرد إدارة بايدن بإدخاله وترسيخه، بل انتهجته الإدارات الأمريكية كافة، وطوال عقود من المساندة العمياء للفظائع الإسرائيلية على اختلاف أصنافها، السياسية والعسكرية والاستيطانية والعنصرية، من دون استثناء المجازر الدامية وجرائم الحرب الصارخة.
ما لا يصحّ أن يُفهم، باليُسر ذاته على الأقلّ، هو سكوت الهيئات الصحية الأمريكية، الرسمية منها ولكن الأهلية أيضاً وفي المقام الأوّل، عن استهداف المشافي والمصحات وسيارات الإسعاف، وبداخلها أيّ وكلّ عامل في الخدمات الطبية فلسطينياً كان أم أجنبياً. فضائحي أكثر، وسافر جدير بأقصى الاستنكار، أن تتجاهل تلك الهيئات ما يصدر في هذا الصدد عن منظمات أممية ودولية مثل الصحة العالمية أو اليونسيف أو الأونروا أو الصليب الأحمر أو أوكسفام، وكذلك عن منظمات حقوقية ذات شأن مثل العفو الدولية أو هيومان رايتس ووتش.
خلافاً، على سبيل الإيضاح المفيد، لاثنين من أشهر النصوص في القانون الدولي حول حماية المشافي والعاملين في الخدمات الطبية: 1) المادة 19 من مواثيق جنيف لعام 1949، التي تقول: «لا يجوز، تحت أيّ ظرف، مهاجمة المؤسسات والوحدات الطبية، ويتوجب احترامها وحمايتها من جانب أطراف النزع»؛ و2) القاعدة 25 من «القانون الإنساني العالمي» الذي ينصّ على أنّ «العناصر الطبية المكلفة بواجبات طبية يتوجب احتراما وحمايتها في جميع الظروف». هذا عدا عن اشتراطات اتفاقية روما 2002، التي شكّلت الأساس القانوني لمحكمة الجنايات الدولية، والتي تنصّ صراحة على أنّ الهجمات عن سابق قصد ضدّ المشافي وأماكن إيواء الجرحى والمرضى تُعدّ جريمة حرب.
المثال الأحدث، ولعله لن يكون الأخير أو حتى الأبرز، هو موقف «الرابطة الطبية الأمريكية» AMA، التي عقدت اجتماع مجلس المندوبين يوم 11 تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري، فرفضت قيادة الرابطة دعوة 135 من الأعضاء لإجراء مناقشة حول ضرورات وقف إطلاق النار، بل وحجبت عن هؤلاء الحقّ الشرعي في 90 ثانية من التعليق على جدول الأعمال. وجاء في بيان المطالبين بفتح النقاش أنّ على عاتق الرابطة «مسؤولية التمسك بأمان العاملين في العناية الصحية وخفض المعاناة الإنسانية، ومن الواضح تماماً أنّ هذه القيم لا تُراعى من جانب بعض الأطباء المتنفذين في البلاد».
هذه حال فاضحة استوقفت العديد من الكتّاب والباحثين المعنيين بالعلاقة بين الطبّ والحرب، من زوايا حقوقية وقانونية وإنسانية وأخلاقية، ثمّ سياسية في نهاية المطاف؛ على غرار روبا ماريا، الطبيبة وأستاذة الطب في جامعة كاليفورنيا ومؤلفة الكتاب الرائد «التهاب: الطبّ العميق وتشريح انعدام العدالة» 2021، بمشاركة الصحافي الهندي راج باتيل. وفي السطور الأولى من الكتاب يستعيد المؤلفان مقولة الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، في أنّ الجسد البشري «مورّط مباشرة في الميدان السياسي، وعلاقات القوّة تمارس تأثيراً فورياً عليه، فتستثمر فيه، وتترك عليه علامتها، وتعذّبه، وتجبره على تنفيذ المهامّ، وعلى أداء الطقوس، وإصدار العلامات. هذا الاستثمار السياسي للجسد البشري مقترن بعلاقات تبادل معقدة، وباستخدام اقتصادي، وهذه قوّة إنتاج تُستثمر في علاقات القوّة والإخضاع».
لم يكن غريباً أنّ أمثال ماريا وباتيل كانا في طليعة الأصوات التي لم تتردد في إدانة جرائم الحرب الإسرائيلية عموماً، وتلك التي استهدفت المشافي والمرافق الطبية خصوصاً؛ وتصدت، استطراداً، لفضح سكوت الهيئات الصحية الأمريكية عن تلك الجرائم، من جانب أوّل؛ بالمقارنة، في المقابل، مع صراخها ضدّ انتهاكات أقلّ مارستها القوات الروسية الغازية في أوكرانيا. هنا، أيضاً، تتلاقى طرائق استثمار الجسد البشري بالتوازي مع علاقات القوّة والإخضاع، ويصبح نافلاً أيّ وجه للمقارنة بين مشفى في كييف وآخر في مدينة غزّة؛ كما تُكمم، أو حتى تُخنق تماماً، الأصوات التي تدعو إلى منطق مساواة في الحدود الدنيا، بين ضحية وضحية وطبيب وطبيب، على شاكلة ما فعل مدراء مؤتمر «الرابطة الطبية الأمريكية» مؤخراً.
وهذه الرابطة، للإيضاح المفيد مجدداً، تأسست سنة 1847 في شيكاغو، وتضمّ 271,660 منتسباً، بين طبيب وطالب طبّ، وميزانيتها تُحتسب بمئات الملايين، كما يتفق الكثيرون على أنها في عداد أقوى مجموعات الضغط داخل الولايات المتحدة إذْ تنفق نحو 18 مليون دولار سنوياً على أنشطة تأييد حملة هنا أو إفشال أخرى هناك. تاريخها يسجّل مخازي كثيرة، بينها إقرار الفصل العنصري بين الأطباء البيض والسود خلال حراك الحقوق المدنية، وعرقلة اعتماد الأطباء الألمان اللاجئين إلى أمريكا هرباً من النازية والرايخ الثالث؛ وزائر موقع «رابطة فلسطين الطبية الأمريكية» سوف يعثر على ملابسات شتى، قديمة ومتجددة، بصدد مواقف الربطة الأمّ بصدد القضية الفلسطينية. الأحدث، كما سلف، كان رفض التصويت على وقف إطلاق النار في غزّة، بذريعة أنه «مطلب جيو ـ سياسي» وليس من اختصاص الرابطة؛ التي اقتفت، في واقع الأمر، الخطّ الجيو ـ سياسي ذاته الذي اعتمده البيت الأبيض وزعماء ديمقراطيات غربية أخرى في بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، والاتحاد الأوروبي في الركب ذاته.
وكي لا تكون الرابطة الأمريكية أقلّ اغتراباً عن مثيلاتها داخل دولة الاحتلال، كان نحو 100 طبيب إسرائيلي قد توافقوا على عريضة (نعم: عريضة!) مكتوبة بالعبرية، تدعو إلى قصف كلّ مشافي غزّة، وتقول بالحرف: «لا يجب أن يكون هناك مكان آمن لكلّ من يخلط بين المشافي والإرهاب»؛ وأيضاً: «سكان غزّة الذين قبلوا تحويل المستشفى إلى وكر إرهابي والاستفادة من الأخلاقيات الغربية، هم أولئك الذي تسببوا في إفناء ذاتهم». وهكذا فإنّ هؤلاء «الأطباء» ممّن أدّوا قسم أبقراط كما يُفترض، لا يكتفون بالدعوة إلى فرض العقاب الجماعي والعشوائي والهمجي على المشافي فحسب؛ بل يعمدون أيضاً إلى إسباغ الشرعية على الإبادة الجماعية، تحت مظلّة استشراقية بذيئة عنوانها «أخلاق» الغرب، وضمن تصنيف موازٍ لذاك لذي اعتمده رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو حين تحدث عن «أطفال الظلام» في غزّة، أو وزير دفاعه يوآف غالانت الذي اختار توصيف «الحيوانات البشرية».
وإذا لم تكن عريضة الأطباء الإسرائيليين غريبة عن سياقات عديدة شهدت تواطؤ العديد من المهن والوظائف الإسرائيلية مع سياسات الاحتلال القمعية والاستيطانية والعنصرية، فإنّ امتناع الرابطة الأمريكية عن المطالبة بوقف إطلاق النار في غزّة ليس دعوة صريحة لإعلان حرب مفتوحة على الجرحى والمرضى والمصابين والعاملين في الخدمات الطبية والمستشفيات، فحسب؛ بل هو خيانة قصوى، شنيعة وبغيضة، لأبسط ما يقتضيه الطبّ من طرائق وإجراءات. هو استباحة للجسد البشري، عبر السكوت عن اضطرار أطباء مشافي غزّة إلى إجراء عمليات توليد قيصرية بسبب تدني أو انعدام شروط الحدّ الأدنى، أو إجراء الجراحات المختلفة من دون تخدير، أو استخدام المنظفات المنزلية في تعقيم المشارط…
أنساق استباحة قصوى، بأوامر نتنياهو في غزّة، وسكوت الرابطة الأمريكية في واشنطن.
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
————————
مع غزة: عن الحاجة إلى مؤرّخينا الجدد أيضاً!/ موفق نيربية
يستشهد المؤرخ الإسرائيلي البريطاني آفي شلايم، الذي يُعرّف نفسه بأنه يهودي عربي، بالفيلسوف الفرنسي إرنست رينان حين قال: «إن الأمة هي مجموعة من الناس توحدهم وجهة نظر خاطئة حول الماضي وكراهية لجيرانهم». ثمّ تحدّث عن الحركة الصهيونية التي سبقت قيام إسرائيل بأنها «واحدة من أنجح ممارسات العلاقات العامة في القرن العشرين. ومع ذلك، لم تكن هذه الحركة فريدة من نوعها في نشر نسخة مبسطة ومزخرفة من الماضي، في عملية الترويج لأجندتها القومية، بل على العكس من ذلك، فمثلها كمثل كل النسخ القومية للتاريخ، كانت النسخة الصهيونية المعيارية لنشوء دولة إسرائيل»، وأن تلك النسخة «كانت انتقائية وتبسيطية وتخدم مصالح ذاتية. خدمت هذه النسخة من التاريخ وظيفة مزدوجة، في غرس الشعور بالأمة لدى اليهود من مختلف بلدان الأصل، وفي حشد التعاطف والدعم الدوليين لدولة إسرائيل الوليدة».
شلايم واحد من أبرز المؤرّخين الجدد الإسرائيليين كما هو معروف، الذين ظهروا في أوائل التسعينيات من القرن المنصرف، وأحدثوا ما يشبه الثورة في إعادة النظر في التاريخ اليهودي، خصوصاً من حيث قيام إسرائيل، وعلاقته بالمشكلة كما هي حالياً. وبشكلٍ من الأشكال، كان ظهور هؤلاء اختراقاً باهراً للمألوف والسائد والممنوع والمزيّف أيضاً. كان مهماً أيضاً ردّ فعل الكتاب والباحثين العرب على أولئك «المراجعين»، حيث اعتُبر ذلك أحياناً، أو عومل كانتصار للحقيقة العربية، وللرواية العربية.
نحن الآن في قلب عملية اجتياح إسرائيلية كاسحة لغزّة، تحاول أن تنتقم لضحايا غزوة حماس في السابع من أكتوبر، بما وصل حتى الآن إلى عشرة أضعاف العدد، مع تدمير منهجي لمئات آلاف المساكن، وتهجير قسري لا يعلم أحدّ مآلاته حتى الآن.. وما يزال الأمر مستمرّاً كمحدلة جبارة تسحق عالماً بائساً يستحق الحياة. ويدور نقاش عاصف حول أسرار العملية ودوافعها وتفاصيلها، ومنه ما يتعلّق بوحشية استهداف المستشفيات، التي تقول إسرائيل، إنها تحتوي أو تخفي تحتها سراديب القيادة والتحكّم بعمليات حماس. لم تستطع حتى وقت كتابة هذا المقال أن تقدّم إلّا دلائل محدودة وغير كافية، ولا تتناسب مع ما تدّعيه، هي لم تكشف أية أنفاق تحت مجمّع الشفاء الطبي حتى الآن، على سبيل المثال. وكما كان الأمر بعد غزو العراق، ومناقشات الادّعاء الأمريكي المتعلّق بالأسلحة الشاملة، سوف تتعرّض إسرائيل عموماً لفضيحة تهزّها بقوة ـ أكثر ما هي مهزوزة حالياً- حين يصبح نفي الموضوع إجبارياً. بالطبع يمكن أن يبقى الأمر معلّقاً والحقائق قيد الجدل الطويل الأمد أيضاً. ما أريد الإشارة إليه هنا، هو تاريخنا العربي المتعلّق بأشياء كثيرة، وأهمها القضية الفلسطينية. ما زال الأمر» تابو» بشكل من الأشكال، الأمر الذي يذكّر بظاهرة المؤرّخين الجديد، وطرح التساؤل حول إمكانية أن يكون لنا أيضاً مؤرّخونا الجدد. مع الذكرى الأربعين لقيام إسرائيل، ظهرت أربعة كتب هي: «ولادة إسرائيل: أساطير وحقائق» لسيمحا فلابان، و»ولادة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، 1947- 1949» لبيني موريس، و»بريطانيا والصراع العربي الإسرائيلي، 1947-1951» لإيلان بابي، وكتاب آفي شلايم «التواطؤ عبر نهر الأردن: الملك عبد الله والحركة الصهيونية وتقسيم فلسطين». ظهرت بذلك حركة المراجعين، حركة المؤرّخين الجدد، وأحدثت تغييراً مهماً في السياق الذي كان ملتبساً ومسكوتاً عنه أو مكذوباً بشأنه.
لدينا نحن العرب عدّة مسائل ينبغي إعادة توضيحها والنظر فيها: مراجعتها، وتأريخها من جديد. وقد جرى ذلك بالفعل سابقاً، ولكن من دون مهنية كافية، ولا خروج نسبي – على الأقل- من تحت تأثير الأيديولوجيا، من ذلك ما يتعلّق بتأريخ القضية منذ بداية القرن الماضي، والدورين البريطاني والألماني، وحقيقة رفض قرار التقسيم بإجماع الدول العربية، وتأريخ «جيش الإنقاذ» ثم حرب فلسطين وسياقات الجيوش العربية السبعة، وذلك المسكوت عنه من دور للأنظمة العربية في تعزيز الكيان المستحدث بمئات الألوف من المهاجرين من اليهود العرب، بشكل مباشر أو غير مباشر. لدينا الكثير مما يحتاج إلى تأريخ جديد، كالمسائل الكردية والأمازيغية مثلاً، يُضاف إلى ذلك خصوصاً ما يلزم من توضيحات لتاريخ الأنظمة والدول العربية، الإشكالي بطريقة مضحكة – مرعبة، والذي يراه كل ناظر بطريقة تختلف عن غيره. حين النظر في المسؤولية عن السلام مثلاً، وكيف يمكن توزيع مسؤولية عدم تحقيقه في السنوات العاصفة أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، ولطالما اعتمد تزوير التاريخ من الجهة الإسرائيلية آنذاك على أنه لم يكن هنالك في الطرف العربي من يمكن الركون إليه في عملية سلمية، بمعنى أن القادة الصهاينة لم يتركوا سبيلاً للسلم إلا سلكوه، لكنّ جهودهم تحطّمت على صخور التعنّت العربي، كشفت ملفات الخارجية الإسرائيلية حين رُفع الحظر عنها، أن الملك فاروق – ملك مصر- طالب اليهود بالتنازل عن غزة وقطاع كبير من الصحراء ثمناً للاعتراف الفعلي بإسرائيل، وأن الملك عبدالله – ملك شرق الأردن اقترح تسوية شاملة مع إسرائيل مقابل ممر بري إلى البحر المتوسّط، لكن الأكثر إثارةً ودراماتيكية كانت حالة العقيد حسني الزعيم رئيس الأركان الذي استولى على السلطة في سوريا بانقلاب غير دموي في مارس 1949. «فور استيلائه على السلطة، عرض الزعيم على إسرائيل سلاماً كاملاً وتبادلاً فورياً للسفر وعلاقات اقتصادية طبيعية، وإعادة توطين 300 ألف لاجئ فلسطيني في سوريا، مقابل نقل الحدود إلى وسط بحيرة طبريا». أورد آفي شلايم في مقالة له بعنوان» حرب المؤرخين الجدد»، أن الحكام العرب «أظهروا قدراً كبيراً من البراغماتية آنذاك في تعاملهم في المفاوضات مع الدولة اليهودية؛ بل إنهم كانوا حريصين على التسابق في ما بينهم في ذلك، لأنهم افترضوا حصول من يسبق غيره على شروط أفضل. وقد أثبت الزعيم صراحة عن طموحه لأن يكون أول قائد عربي يصنع السلام مع إسرائيل».
لم تكن حركة» المؤرخين الجدد» الإسرائيليين لتظهر لولا مرور ثلاثين عاماً على قيام إسرائيل، وبدء الإفراج عن الوثائق السرية، ذلك نظام موروث عن البريطانيين أيضاً، ويبدو أنه لن تكون هنالك حركة مماثلة على الجانب العربي إلّا إذا كان هنالك تشريع على هذا النسق، فلطالما اعتمد الباحثون في هذه الجهة على الوثائق المحفوظة لدى أرشيف الآخرين، مع تعمية شاملة عن مثل تلك الوثائق – لو بقيت متوفّرة- في أرشيفهم الوطني. في مثل هذه الأيام، منذ مئة عام تماماً، كتب جابوتنسكي، المعروف جيداً بالاسم والميول على الأقل، عن «الجدار الحديدي»، الذي ينبغي أن يتحقق المشروع الصهيوني وراءه مع القوة العسكرية، أو بمعنى آخر، أن المشروع لا يمكن تحقيقه إلّا من جانب واحد، وبالعنف الكاسح. تملّكت تلك العقيدة بن غوريون نفسه، الذي جاء من اليسار أساساً، وسادت الاستراتيجية الإسرائيلية عموماً حتى الآن، وحين انتقده «الصهاينة المعتدلون» اتهمهم بالنفاق وبأنهم «نباتيون». ما زالت أمام الحكاية فصول عديدة، سوف تمرّ بتضحيات وضحايا، وسوف تحتاج إلى جيل آخر وعقل آخر. نحن الآن أمام فصل دامٍ مختلف يملأ شوارع غزة وشاشات التلفزيون بالدهماء، فيما يمكن أن يكون لاحقاً «نكبة ثانية»، ابتدأت أرقام الضحايا فيها تتجاوز أرقام النكبة الأولى والكبرى. وعلى عادتنا تستهلكنا تلك الدوامة مراراً وتكراراً، لكن سيكون لدينا وقت أكثر لرؤية ما يجري الآن وتطوراته في ما بعد.
أخيراً، والمهم، أعتقد جازماً أننا نحتاج، أكثر من الإسرائيليين، إلى «مؤرخين جدد» في طرفنا، لن تكون مهمتهم سهلة بوجود أنظمة اعتادت عرقلة أي بحث، وتدمير أيّ وثيقة، وربّما يمكن لهؤلاء، ومعهم نخبة وجمهور كافيان ومؤثران، أن يطلبا فتح خزائن الوثائق السرية، ما بقي منها، وما سيسلم من التدمير المسبق لاحقاً، لعلنية الاطّلاع والتداول، لأغراض البحث والنظر على الأقل. في ساعات هاربة ما بين صور الأطفال الخدّج في مشفى الشفاء، وتجريف شوارع جنين، لم أجد ما أرجع إليه مراراً ومن دون ترتيب هذه المرة، إلّا رواية إميل حبيبي «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل»، التي يمكن أن تعطي تفسيراً أكثر دقّة لما حدث وما زال يحدث، على شكل سلسلة من الهذيانات الساخرة الباكية!
كاتب سوري
القدس العربي
—————————-
حرب غزة والنظام السوري/ بكر صدقي
أكثر ما يلفت النظر، في الأجواء المحيطة بحرب إسرائيل الدموية على الفلسطينيين، في قطاع غزة كما في الضفة الغربية، هو غياب النظام السوري بصورة تامة عن المشهد السياسي، ما لم نحسب ظهور بشار الأسد في قمة الرياض المخصصة للتباحث في تلك الحرب، بكلمته الممجوجة التي قاطعها عدد من القادة العرب والمسلمين، ووضوح عدم الترحيب بمشاركته من قبل المشاركين.
الواقع أن سوريا معنية بهذه الحرب ليس أقل من لبنان أو مصر أو الأردن، فعبر الحدود السورية مع إسرائيل تنطلق صواريخ وطائرات مسيّرة وصلت إحداها إلى أقصى جنوب إسرائيل حيث استهدفت مبنى مدرسة في إيلات. كما تدور «حرب» موازية في شرق البلاد بين الأمريكيين والإيرانيين الذين يستهدفون قواعد بعضهما بعضاً بصورة متواترة، ويلاحظ أن الضربات التي توجهها ميليشيات تابعة لإيران لقواعد أمريكية هناك لا توقع خسائر ذات شأن، في استئناف لـ«انضباط السلوك» الإيراني في الحرب والالتزام بـ«عدم توسيع الصراع». بالمقابل استهدفت الطائرات الإسرائيلية قاعدةً لحزب الله قتل فيها سبعة من عناصر الحزب دفعة واحدة قبل نحو أسبوعين، وقصفت مطاري دمشق وحلب مرتين في غضون ثلاثة أيام.
غير أن استطالات الحرب هذه، سواء في جنوب سوريا أو شرقها، لا علاقة لها بنظام بشار، ولنا أن نفترض حتى أنها تحدث رغم أنفه. فحالته المزرية على جميع الأصعدة لا تسمح له بترف اللعب المحسوب مع الإسرائيليين والأمريكيين بهدف «استدراج العروض السياسية» على ما كان يفعل في عهد حافظ الأسد، حتى لو كان غيره من يقوم باللعب كالميليشيات التابعة لإيران. على العكس هو اليوم أكثر حاجة من إيران نفسها ليظهر أمام الأمريكيين بمظهر المنضبط، على أمل أن يخففوا من ضغطهم عليه المتمثل في تشديد العقوبات عليه باطراد واستصدار المزيد من القوانين الموجهة ضده من الكونغرس.
ربما هذا ما يفسر غيابه التام عن وسائل إعلامه المنشغلة بالحديث عن «سقوط إسرائيل الوشيك تحت ضربات المقاومة»! وما يشبه ذلك من ترهات هدفها كهدف تباهي الأصلع بشعر جاره حسب مثل سائر، هذا على فرض أن إسرائيل قد تضررت حقاً بصدمة طوفان الأقصى بالقدر الذي يحاول إعلام الممانعة أن يصوره. نعم، الأسد المولع بالظهور وإطلاق التصريحات المزاودة في مثل هذه المناسبات، غاب عن المشهد منذ السابع من تشرين الأول، ثم ظهر في القمة العربية والإسلامية بتلك الصورة الهزيلة، منبوذاً من قادة الدول ووسائل الإعلام، ليعود بعد القمة إلى الظل من جديد، في الوقت الذي تمر فيه سوريا بمرحلة تمور بتفاعلات خطيرة، سواء ما اتصل منها بالحرب الدائرة أو غيرها كاستمرار انتفاضة السويداء السلمية، والعملية العسكرية التركية ضد المنشآت الحيوية في مناطق سيطرة قسد، أو الهجوم الذي تعرضت له الأكاديمية العسكرية في حمص قبيل طوفان الأقصى مباشرةً، وتذرع النظام بذلك لشن حرب على محافظة إدلب وجوارها، هي الأعنف في مسلسل حروبه ضد تلك المناطق. وأخيراً صدور مذكرة توقيف من إحدى المحاكم الفرنسية بحقه وحق شقيقه ماهر الأسد لدورهما في الهجوم الكيماوي على غوطة دمشق في 21 آب 2013.
يمكن تفسير غياب الأسد وصمته هذا بشعوره بانسداد الأفق باطراد أمام مستقبل نظامه، وبخاصة بعد انهيار المبادرة العربية التي توهم أنها قد تنتشله من المستنقع الذي يغرق فيه من غير الالتزام بتقديم أي شيء مقابل فك العزلة عنه. أضف إلى ذلك أنه لا يملك أي قدرة على استثمار حدث مفصلي في تاريخ المنطقة، وربما العالم، كالحرب الجارية الآن، بما في ذلك القدرة على ضبط الميليشيات التابعة لإيران المنتشرة على أراضيه أو التأثير عليها. وها هي صفقة تبادل الأسرى بين إسرائيل وحركة حماس قد تمت، بعد مفاوضات طويلة، بعيداً عن أي دور لإيران، ناهيكم عن نظام الأسد الذي يحدث كل شيء وهو في مقعد المتفرج.
وإذا فكر النظام بما قد ينتظره بعد انتهاء الحرب، أي في إطار تسوية واسعة لا بد أن تكون إيران حاضرة فيها، فإن أولوية مصير حزب الله لدى إيران ستدفع بالنظام إلى الهامش، ليبقى مصيره معلقاً بخيط رفيع.
الفائدة الوحيدة التي جناها النظام من الحرب على غزة هي إطلاق يد ما يملكه من قوة تدمير لقتل أكبر عدد ممكن من السوريين في «غزة سوريا» أي محافظة إدلب وجوارها. فهذا هو الشيء الوحيد الذي يجيده المجرم.
كاتب سوري
—————————-
«حماس» والاحتلال الإسرائيلي: هدنة مع 90 قنبلة نووية؟/ صبحي حديدي
ربما كان جديراً بالتذكير، لمَن تنفعهم الذكرى في المقام الأوّل، أنّ «حركة المقاومة الإسلامية ـ حماس» توشك، حتى ساعة كتابة هذه السطور، على إبرام اتفاقية هدنة مؤقتة، إنسانية من حيث العنوان وعسكرية حربية من حيث المضمون؛ مع دولة الاحتلال الإسرائيلي: الجيش الرابع الأقوى عالمياً، الذي يواصل شنّ حرب همجية ضدّ المدنيين الفلسطينيين في سائر قطاع غزّة، وألقى أكثر من 25,000 طن من القنابل (حتى مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر) بما يعادل قنبلتَين نوويتَين بلا إشعاع، من الطراز الذي استخدمته الولايات المتحدة ضدّ اليابان في هيروشيما.
ليس هذا التفصيل عابراً، أو لا يتوجب أن يُنسى في أقلّ تقدير، إذا أخذ المرء بعين الاعتبار انعدام أيّ معيار للمقارنة بين دولة الاحتلال من حيث حجم الجيش ونوعية تسليحه وقدراته التدميرية برّاً وجوّاً وبحراً؛ مقابل حركة مسلحة لا تخفى إمكانياتها العسكرية، ولا يصحّ أن تُقارَب بمعزل عن حصار مطبق على القطاع يدوم منذ 16 سنة ونيف. على رأس معطيات هذا التفصيل حقيقة كبرى مفادها أن الكيان الصهيوني دولة نووية، تقول تقديرات «الحملة الدولية لإلغاء الأسلحة النووية» ICAN إنها تملك 90 قنبلة ذات رؤوس نووية (بالمقارنة مع 30 في كوريا الشمالية، 164 في الهند، 225 في بريطانيا، و290 في فرنسا…).
المناسبة الأحدث لاستذكار هذه الحقيقة كانت تصريح أميخاي إلياهو، وزير التراث الإسرائيلي، بأنّ الخيار النووي هو إحدى طرق تصفية «حماس» بالنظر إلى أنه «لا يوجد شيء اسمه أبرياء في غزّة»؛ وليس قرار بنيامين نتنياهو الاكتفاء بتجميد عضوية إلياهو في الحكومة سوى المؤشر الأوضح على مدى استخفاف دولة الاحتلال بفتح ملفات البرنامج النووي الإسرائيلي، أياً كانت الأصعدة. ذلك، أيضاً، لأنّ مناسبات أخرى سبق أن تناولت «السرّ المفضوح» إياه، بينها امتناع الاحتلال عن المصادقة على «اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية» والتصويت المنتظم ضدّ قرارات الجمعية العمومية للأمم المتحدة السنوية بصدد دعوة الأعضاء إلى التوقيع عليها والالتزام بها؛ وذلك رغم معطيات تفيد بأنّ الإنفاق الإسرائيلي على البرنامج النووي بلغ 1,2 مليار دولار أمريكي، وأنّ الاحتلال أجرى بالفعل اختباراً نووياً في جنوب أفريقيا سنة 1979 فوق المحيط بين أفريقيا والمنطقة القطبية الجنوبية.
مناسبة أقدم، ولعلها الأطرف، وقعت سنة 2004 حين كان المصري محمد البرادعي يشغل منصب المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية؛ وسمحت له دولة الاحتلال بإجراء «تفتيش» نووي، ولكن من ارتفاع عين الطير في حوّامة إسرائيلية حلّقت على هواها في أجواء صحراء النقب. وجه آخر لطرافة الواقعة تمثّل في تصريح البرادعي بأنه «يتفهم» مخاوف الاحتلال الأمنية والوجودية، وفي المقابل صبّ جام غضبه على إيران لأنها تباشر برنامجاً نووياً، ولم ينسَ التعريض بالعالِم الباكستاني عبد القادر خان الذي هرّب أسرار القنبلة النووية إلى 18 بلداً!
وسيرة البرنامج النووي الإيراني مناسبة دائمة، مفتوحة لأنها لا تكفّ عن التجدد والازدياد، لاستعادة سلسلة الأسئلة الشهيرة التي طرحها ذات يوم الصحافي الأمريكي شارلز ريز؛ فاتخذت هيئة أحجية متكاملة تكون مفردة دولة الاحتلال الإسرائيلي هي الإجابة الوحيدة عليها:
ـ من هي الدولة التي تنفرد عن جميع دول الشرق الأوسط في امتلاك الأسلحة النووية؟
ـ من هي الدولة التي ترفض التوقيع على الاتفاقيات الدولية لحظر انتاج الأسلحة النووية، بل وتحظر على المنظمات الدولية القيام بأي تفتيش على منشآتها النووية؟
ـ من هي الدولة التي احتلت عسكرياً أراضي دول مجاورة، وتواصل ذلك الاحتلال متحدية بذلك جميع قرارات مجلس الأمن الدولي المطالبة بإزالة آثار ذلك العدوان؟
ـ من هي الدولة التي ترفض تنفيذ عشرات قرارات مجلس الأمن الدولي، بل وتستخف بهذه القرارات وتلك الهيئة الدولية؟
ـ من هي الدولة التي استخدمت جاسوساً يُدعى جوناثان بولارد، لسرقة وثائق سرية أمريكية، ثم باعتها إلى الاتحاد السوفييتي؟ وهل هي الدولة ذاتها التي أنكرت الواقعة في البدء، ثم اعترفت بها ومنحت بولارد الجنسية الفخرية، بل ونظمت حملات ضغط واسعة لإجبار الرئيس الأمريكي لإصدار عفو يضمن إطلاق سراح الجاسوس، لأنه «بطل قومي» في نظر الدولة ذاتها؟
وأمّا إذا تجاسر ريز وذهب إلى طراز آخر من تطوير الأحجية ذاتها، فإنه لن يغفل عن طرح عشرات الأسئلة حول عشرات الممارسات العسكرية والأمنية والاستيطانية التي تدخل جميعها، ودون عناء وسجال، في مسمّيات الفاشية والأبارتيد والهمجية العارية والبربرية الصارخة. وأن يقصف الكيان المشافي والمخابز والمدارس وملاجئ الأونروا والمساجد، ثمّ يلفّق له أمثال جو بايدن وريشي سوناك وإمانويل ماكرون وأولاف شولتز أكاذيب وجود الأنفاق أو ذرائع الدفاع عن النفس؛ فهذا ليس أقلّ من جديد يُضاف إلى لائحة أسئلة ريز، حيث لا «دولة» على وجه البسيطة يمكن أن تتمتع بكلّ ذلك التواطؤ على جرائم الحرب، وتلك المقادير الصفيقة من تجميل المجازر.
تفصيل آخر جدير بالاقتباس هنا، لأنه يساهم في تسليط الضوء على فصول قديمة/ متجددة من تعاون الديمقراطيات الغربية مع دولة الاحتلال في بناء مفاعل ديمونة، الذي سوف ينتج البلوتونيوم اللازم لتصنيع القنبلة النووية. والرئيس الأمريكي بايدن، الذي يزعم أنّ استخبارات بلاده تعرف بوجود أنفاق لـ«حماس» أسفل مجمّع مستشفى الشفاء، يتناسى أنّ أجهزة بلاده الاستخبارية كانت أقرب إلى أطرش في الزفّة حين تعاونت دولة الاحتلال مع فرنسا لإطلاق البرنامج النووي الإسرائيلي، أواسط خمسينيات القرن المنصرم. وكان سلف بايدن، دوايت أيزنهاور، قد أصيب بالذهول حين وصل تقرير من السفير الأمريكي في دولة الاحتلال يتضمن معلومات عن مفاعل ديمونة، وتوجب أن يمتزج الذهول بالإهانة لاستخبارات القوّة العظمى حليفة الكيان الصهيوني؛ لأنّ المعلومات لم ترشح إلا عبر زلات لسان من رجل الأعمال الإسرائيلي دانييل كيمحي، الذي أفرط في احتساء الكحول خلال إحدى سهرات السفارة الأمريكية، فباح بالسرّ.
وأمّا انتهاج التضليل، حتى في أشدّ أنماطه هزالاً وافتضاحاً، فالتاريخ يسجّل أنّ دافيد بن غوريون سارع إلى امتصاص سخط أيزنهاور، وخَلَفه من بعده جوزيف كنيدي، فأعلن من سدّة الكنيست أنّ المفاعل يُبنى بالفعل، ولكن أغراضه سلمية فقط ويهدف إلى توليد الكهرباء والطاقة؛ وحين يكتمل، سوف تُفتح أبوابه أمام تفقّد الصحافة والعلماء من بلدان أخرى (الأمر الذي لم يحصل بالطبع، حتى من ارتفاع عين الطير في نموذج البرادعي). لاحقاً، في حزيران (يونيو) 1981، سوف تبادر دولة الاحتلال إلى قصف مفاعل تموز/ أوزيراك العراقي بطائرات الـF-16 أمريكية الصنع، رغم أنّ بروتوكول مبيعها يحصر استخدامها في الأغراض الدفاعية فقط؛ وهنا أيضاً تعيّن على الأطرش في الزفة أن يُمنع حتى من ابتلاع لسانه، وطُولب بالمشاركة في سرد الأكاذيب.
ويبقى أنّ مشاركة الولايات المتحدة في المفاوضات التي شهدتها الدوحة، لإتمام صفقة الهدنة الإنسانية وتبادل الرهائن الإسرائيليين والأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال؛ هو الوجهة الأخرى لانخراط واشنطن في الحرب الإسرائيلية على القطاع، سياسياً ودبلوماسياً ومالياً، وعن طريق ضخّ الأحدث في الصناعة العسكرية الأمريكية، فضلاً عن نشر حاملتين وغواصة نووية. وذاك مآل صريح يفيد بأنّ «حماس» إنما تعقد هدنة مع كيان نووي يمتلك 90 قنبلة نووية؛ ثمّ، ضمناً، مع قوّة عظمى نووية، تملك 5244 قنبلة نووية… سواء بسواء!
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
القدس العربي
———————–
اللوحة السياسية الإقليمية والدولية حول الحرب الإسرائيلية على غزة/ بكر صدقي
تتصاعد موجة الرفض العالمية لحرب إسرائيل الإبادية على الشعب الفلسطيني. برز من قلب التحالف الأطلسي موقف إسبانيا كصوت نشاز عكر صفاء الاصطفاف المطلق إلى جانب إسرائيل، ليضاف إلى صوت الأمين العام للأمم المتحدة غوتيريش الذي «تجرأ» على القول إن ما حدث في السابع من تشرين الأول «لم يأتِ من فراغ» الأمر الذي أغضب إسرائيل التي دعت إلى عزله من منصبه.
أما تركيا فقد تطور موقفها من الدعوة، في بداية الحرب، إلى «ضبط النفس» وصولاً إلى نفي تهمة الإرهاب عن حركة حماس ووصفها بحركة «تحرر وطني وجهادي» على لسان أردوغان، ثم الدعوة لمحاكمة قادة إسرائيل على ارتكاب جرائم حرب في غزة. الواقع أن الموقف التركي، بتطوراته، بالكاد يمكن إدراجه في فئة مواقف دول الحلف الأطلسي الذي ينتمي إليه، بل الأصح النظر إلى تركيا، في موضوع الحرب على غزة، كبلد إسلامي يحكمه، فوق ذلك، حزب إسلامي تعود جذوره إلى تيار «المنظور القومي» بقيادة الراحل نجم الدين أربكان الذي نشأ أصلاً حول فكرة الدفاع عن المسجد الأقصى بعد استيلاء إسرائيل على القدس في حرب العام 1967.
وإذا كانت المواقف التركية قد بقيت إلى الآن على مستوى التصريحات، فقد تجاوزت دول في أمريكا اللاتينية ذلك إلى إجراءات عقابية ضد إسرائيل كقطع بوليفيا علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل، واستدعاء كل من تشيلي وكولومبيا لسفيريهما في إسرائيل «للتشاور» أما فينزويلا وكوبا ونيكاراغوا التي تحكمها حكومات يسارية فقد وصفت حرب إسرائيل على غزة بـ«التطهير العرقي».
وباستثناء دولة الإمارات العربية المتحدة والبحرين وسوريا الأسد، أدانت جميع الدول العربية الحرب الإسرائيلية على غزة، مع بروز مواقف كل من مصر والأردن والسعودية وقطر كدول فاعلة في الجهود الدبلوماسية النشطة من أجل الوصول إلى وقف إطلاق نار فوري، والتحذير من مخطط إسرائيلي لتهجير الفلسطينيين، في «نكبة» جديدة إلى كل من مصر والأردن. وقد تمكنت المجموعة العربية في الأمم المتحدة من استصدار قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة بضرورة الوقف الفوري لإطلاق النار، وهذا ليس بالقليل في ظل الاصطفافات الدولية القائمة. ولا يمكن، في هذا السياق، التقليل من شأن إلغاء كل من الأردن ومصر والسلطة الفلسطينية لاجتماع عمان الذي كان مقرراً ليجمع إلى قادتها الرئيس الأمريكي جو بايدن الذي جاء لتقديم العزاء لإسرائيل، كنوع من الاحتجاج الدبلوماسي على مجزرة المشفى المعمداني في غزة. فالأردن ومصر دولتان حليفتان للولايات المتحدة، ومعهما السلطة الفلسطينية ترتبط بإسرائيل بمعاهدات «سلام» لكن الخطر الوجودي الذي تشعر به الدولتان والسلطة الفلسطينية من الحرب الدائرة وتداعياتها المحتملة على أمنها القومي، دفعتها إلى اتخاذ هذا القرار الذي لا يمكن تصور اتخاذه في ظروف أخرى.
أما روسيا الغارقة في مستنقع الحرب على أوكرانيا، والمعزولة دولياً بسبب ذلك، فقد كان صوتها خافتاً في مواجهة الدعم الأمريكي غير المشروط لإسرائيل، وحاولت التغلب على ذلك ولفت الأنظار من خلال استقبالها الرسمي لوفد من حركة حماس في العاصمة موسكو، الأمر الذي لم تفعله تركيا مثلاً إلى الآن.
كل هذا يضاف إلى أصوات متفرقة كثيرة أشارت إلى جذر المشكلة المتمثلة في استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية في خرق مكشوف لقرارات الشرعية الدولية التي جوهرها حل الدولتين الذي ترفضه إسرائيل وتعمل بصورة منهجية على تدمير أسسه. كذلك لا ينبغي التقليل من شأن المظاهرات الشعبية الكبيرة في عدد من العواصم الغربية، كواشنطن ولندن وباريس وبرلين وغيرها، التي خرجت لمناصرة حقوق الشعب الفلسطيني وإدانة الهمجية الإسرائيلية. الخلاصة أن قسماً كبيراً من الرأي العام العالمي يرى حرب غزة من منظور صحيح على رغم كل الجهود المضادة التي عملت على شيطنة الفلسطينيين بذريعة ما حدث فجر السابع من تشرين الأول، وعلى الدفاع عما تسميه «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها!».
وفي الظروف القائمة، كل هذه المواقف والفعاليات الدبلوماسية والشعبية لا تقدر بثمن في التقليل من الخسائر السياسية قدر الإمكان في المرحلة التي ستلي انتهاء الحرب والانتقال إلى السياسة التي سترسم مستقبل الفلسطينيين وشعوب المنطقة لعقود قادمة. إسرائيل تريد نهايةً لهذه الحرب بتهجير سكان غزة إلى شبه جزيرة سيناء، ولديها خطط جاهزة تم الكشف عنها مؤخراً لفرض ذلك كأمر واقع على طريق إنهاء القضية الفلسطينية.
الإدارة الأمريكية تعطي مؤشرات كافية للظن بأنها مستعدة لإعطاء الغطاء السياسي لهذا المشروع، ومعها ألمانيا وبريطانيا وفرنسا بدرجات متفاوتة.
مقاومة الدول العربية والمنظمة الأممية، ومعها دول أخرى بما فيها روسيا والصين، والرأي العام العالمي على المستوى الشعبي، كلها عوامل مهمة لإفشال هذا المشروع الإسرائيلي.
الطريف في هذه اللوحة السياسية هو أن أنظمة «محور الممانعة» بقيادة إيران هي الأقل أهمية وفاعلية في الدور المقاوم لأهداف التحالف الإسرائيلي الغربي. فلا هجمات حزب الله المحسوبة بدقة على أهداف في مزارع شبعا، ولا هجمات الميليشيات التابعة لإيران في العراق وسوريا ضد القواعد الأمريكية، ولا جعجعة إعلام نظام الأسد التافهة، ولا صواريخ الحوثي التي تسقط في الأراضي المصرية بدلاً من إسرائيل، ترقى إلى مستوى التحدي الخطير الذي تواجهه شعوب المنطقة.
كاتب سوري
القدس العربي
———————————–
غزّة و«العمّال» البريطاني: أبعد من ستارمر والتصهين المتأصل/ صبحي حديدي
لعلّ من الإنصاف التذكير بأنّ فئة، غير ضئيلة، من أنصار جيريمي كوربن، زعيم «حزب العمال» البريطاني السابق، يدفعون اليوم ثمناً باهظاً، سياسياً وتنظيمياً وأخلاقياً، جرّاء تصويتهم لصالح كير ستارمر خلال انتخابات قيادة الحزب في ربيع 2020؛ ظنّاً منهم أنّ الأخير يمكن أن يُدخل صياغات «ألطف» وأكثر جاذبية لدى الناخب المحايد من تلك التي دأبت عليها مجموعة كوربن. وإذا لم يكن جديداً أن يتأزم الحزب حول ملفات ذات صلة بدولة الاحتلال الإسرائيلي وحقوق الشعب الفلسطيني عموماً، ثمّ الحروب الإسرائيلية الوحشية المتعاقبة ضدّ قطاع غزّة المحاصَر منذ 16 سنة خصوصاً؛ فإنّ حال التأزّم الراهنة تكتسب صفة الشرخ الآخذ في الاتساع والتعمق بسبب مواقف ستارمر، الذي لم يكتفِ بتأييد العدوان الإسرائيلي الراهن على القطاع وسكانه المدنيين ورفض مبدأ وقف إطلاق النار، بل ذهب إلى سوية فاضحة في الانحطاط حين صادق على شرعية دولة الاحتلال في قطع الغذاء الماء والكهرباء عن غزّة.
ورغم أنّ ستارمر سعى إلى الالتفاف حول ذلك التصريح، من دون أن يسحبه أو يعتذر عنه، مكتفياً بالترويج لمعزوفة «الهدنة الإنسانية» والفذلكة اللفظية حول القوانين الدولية التي تنظّم شؤون الحرب، خاصة خلال مؤتمر صحافي عقده في شاتام هاوس؛ فإنّ الشرخ يتسع أكثر فأكثر، على مستويات قواعد الحزب المسلمة، وأعضاء المجالس المحلية، وعدد من نوّاب الحزب، وصولاً إلى بعض وزراء الظلّ. ثمة ما يقترب حثيثاً من تحرّك عصيان تتنوّع مظاهره بين اعتصامات أمام مقرّ «حزب العمال» تهتف ضدّ ستارمر بالاسم؛ وبين استقالات من الحزب ومجالسه في مراكز مدنية كبرى مثل العاصمة ومانشستر وكامبرج وأكسفورد وغلوستر؛ ومساندة نوّاب عماليين (زارا سلطانة، جون مكدونيل، غراهام موريس، بيث ونتر) لاقتراح مجلس العموم وقف إطلاق النار؛ ومبادرة 60 من نوّاب الحزب إلى الدعوة ذاتها، ضمن تحرّك مستقل؛ فضلاً، بالطبع، عن مشاركة عضو البرلمان العمالي أندي مكدونالد في مسيرة لندنية متضامنة مع الفلسطينيين، قال خلالها: «لن نكلّ حتى نحصل على العدل. حتى يمكن لجميع الشعوب، إسرائيليين وفلسطينيين بين النهر والبحر، أن يعيشوا بسلام وحرّية» الأمر الذي استوجب مسارعة ستارمر إلى تعليق عضوية مكدونالد في الحزب.
ومن الجائز الافتراض بأن قلّة اكتراث ستارمر بأصوات ناخبي «العمال» المسلمين ينطوي، موضوعياً، على استخفاف بوزن هذه الشريحة قياساً على ما يَفترض بأنها كتلة الحزب الناخبة الأوسع، في صفوف أفراد الطبقة العاملة من البيض، بريطانيي الأصل؛ وهذا إلى جانب تسخير ما يتيسّر لسياسات ستارمر الراهنة من سرقة أصوات ناخبي حزب المحافظين (ضمن متابعة، ناسخة طبق الأصل، لخيارات توني بلير و«العمال الجديد»). الخطأ الفادح، الذي اتضح وتأكد بقوّة بسبب مواقف ستارمر في التأييد الأعمى لدولة الاحتلال الإسرائيلي، هو أنّ كتلة انتخابية أخرى هامة وكبرى تتمثل في ناخبي المدن من أصول أفرو ـ كاريبية وجنوب آسيوية؛ وهؤلاء تكفلت تظاهرات بريطانيا التضامنية مع غزّة وأهلها بإيضاح ميولهم الفعلية، الرافضة على نطاق واسع لخيارات «العمال» الحالية بصدد غزّة والوحشية الإسرائيلية.
ولا يلوح، حتى الساعة على الأقلّ، أنّ انخراط ستارمر في نهج تصفية اليسار داخل الحزب، مقابل تعزيز أجنحة اليمين، ومغازلة «المحافظين» عقائدياً؛ سوف تنتهي إلى استيلاد نسخة ثانية من «العمال» على طريقة بلير، سواء حقق الحزب نصراً صريحاً في الانتخابات المقبلة أم خسر مقاعد لا تقلّ صراحة ومكانة لصالح المستقلين أو الليبرالي
ولا يتورّع بعض مؤرّخي «العمّال» عن التشديد على عنصر محوري كان وراء تصعيد ستارمر على جثة كوربن، عملياً، وتمثّل في تضخيم تهمة العداء للسامية التي أُلصقت بالأخير، إلى درجة قصوى أُريد لها أن تطبع الحزب في مجموعه، أو في قطاعات واسعة داخل صفوفه؛ وذلك رغم أنّ لجان التحقيق التي لم يتأخر الحزب في تشكيلها، وحظيت بمباركة جلية من كوربن نفسه، خلصت إلى خلوّ الحزب، جماعياً وعلى مستويات تنظيمية شتى، من العداء للسامية كظاهرة أو تيار أو نهج. والتاريخ الوقائعي، وليس ذاك الذي يستخلصه المؤرّخ، سجّل على سبيل المثال أنّ ستارمر، زعيم الحزب الجديد، لم يتردد في الفتك الفوري بعدد من معارضيه داخل قواعد الحزب، بما في ذلك منافسته في انتخابات قيادة الحزب ربيكا لونغ بايلي التي حصلت على 135 ألف صوت. وكانت الأخيرة تشغل حقيبة التعليم في حكومة الظل، و«الإثم الفظيع» الذي ارتكبته، في ناظر ستارمر وقيادته، كان إعادة تغريد تصريح للممثلة البريطانية ماكسين بيك تتهم فيه الاستخبارات الإسرائيلية بتدريب الشرطة الأمريكية على تكنيك الضغط بالركبة، الذي أدى إلى وفاة المواطن الأمريكي جورج فلويد.
وليس من دون مغزى بالغ الخصوصية أنّ حوافز ستارمر في مساندة العدوان الإسرائيلي على غزّة، إلى درجة قصوى ذهب فيها أبعد من الحماقة عندما بصم على حقّ الاحتلال في قطع الغذاء والماء والكهرباء، لا تبدأ فقط من نزوعاته الصهيونية المتأصلة (التي لا يكترث بإخفائها في كلّ حال، بل يفعل العكس في الواقع: «أنا أدعم الصهيونية بلا توصيف أو تحفّظ»)؛ بل تمرّ، عن سابق قصد وتصميم، بتكتيكات استمالة العدد الأكبر من مانحي التبرعات الأثرياء، وهم غالباً صهاينة متأصلون، أو سرقة بعضهم ممّن اعتادوا التبرّع للمحافظين. ولا مشكلة، كما تبيّن، إذا كانت شركة كبير هؤلاء المتبرعين (رجل الأعمال غاري لوبنر، المتبرّع بمبلغ 5 ملايين إسترليني حسب صحيفة «فايننشيال تايمز») قد تورطت في التحايل على العقوبات ضدّ نظام الأبارتيد في جنوب أفريقيا.
ثمة، استطراداً، تاريخ أقدم لانجراف «العمّال» نحو التأييد الأقصى، الأعمى أو حتى العشوائي في حالات عديدة، ليس لدولة الاحتلال في توصيفها التبسيطي ضمن تبشيرات الحزب العقائدية (أنها «ملاذ» لليهود المضطهدين) فحسب؛ بل كذلك، وأوّلاً ربما، لأنّ الحزب كان على الدوام رديف التاج ومؤسسة الحكم، وسند المشاريع الاستعمارية، وهذه حال دشنها مؤتمر مشهود للحزب عُقد في 10 آب (أغسطس) 1917، أي قبل ثلاثة أشهر من تاريخ رسالة وزير خارجية المملكة المتحدة آرثر بلفور إلى اللورد روتشيلد وحملت الوعد الشهير المشؤوم. تواريخ لاحقة سجّلت التالي، على سبيل الأمثلة فقط: في مؤتمر 1920، تبنى الحزب قراراً عنوانه «فلسطين لليهود»؛ وخلال الانتخابات العامة لسنة 1935، أعرب زعيم الحزب كلمنت أتلي عن الافتخار بمساندة الصهيونية «في الأيام السوداء للحرب الكبرى».
وعلى سبيل تشخيص الموقع الإجمالي الذي يحظى به زعيم «العمال» في هيكلية الحزب القيادية الراهنة، تلجأ أسبوعية الـ»إيكونوميست» البريطانية، العليمة النافذة غنيّ عن القول، إلى هذا المعيار الطريف: كيف يمكن لظلال كوربن (معلَّق العضوية، والممنوع من الترشيح لمجلس العموم باسم الحزب) أن تنحسر عن قامة ستارمر، الذي خدم في حكومة الظلّ ثلاث سنوات حاملاً حقيبة البركست؟ وإذا جاز أنّ هموم بريطانيا الداخلية، الاقتصادية والاجتماعية تحديداً، تمنح ستارمر تفوّقاً على رئيس الوزراء الحالي ريشي سوناك، فلماذا يتوجب أن تُعلي شأنه في ملفّ السياسة الخارجية الذي أثبت مراراً أنّ خبرته فيه محدودة؟
إلا إذا كانت «الخبرة» تخصّ اللهاث المحموم، الأقرب إلى الهستيريا، خلف سياسات دولة الاحتلال الإسرائيلي، وقيادة الحملات الشعواء رافعة فزاعة العداء للسامية؛ وهذا مآل تأنف الـ«إيكونوميست» عن، ولا تتجاسر أصلاً على، النظر فيه.
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
القدس العربي
————————–
على ضوء «طوفان الأقصى»: سياسة فرنسا الفلسطينية/ رياض معسعس
إذا دانت كل الأطياف السياسية الفرنسية عملية «طوفان الأقصى» بشكل عام بمن فيهم رئيس الدولة إيمانويل ماكرون، إلا أن خلافا شديدا بين بعض الأطراف ظهر للعلن في ما يتعلق بمفردات الخطاب السياسي، ففي الوقت الذي صرح فيه وزير العدل الفرنسي إريك دوبون موريتي» (الملاحق قضائيا في قضية فساد في فرنسا) بمعاقبة كل من يعتبر هذه العملية نضالا مشروعا للشعب الفلسطيني يصنف مؤيدا للإرهاب» ووصف حماس «بالإرهابية ومعادية للسامية» ومنع التظاهر لتأييد الشعب الفلسطيني، ورفع أعلام حماس تحت طائلة العقوبة، ومهاجما رئيس حزب « فرنسا الأبية « (اليسار الفرنسي)جان لوك ميلانشون الذي لم يصف في خطابه حماس بالإرهابية.
وشدد على أنه عندما ننعت حماس بالإرهاب فهذا يعني أنها لم تعد متحدثا رسميا ولم يعد في إمكانها أن تدخل في أية مفاوضات لاحقة حسب القانون الدولي الذي يمنع الجلوس مع الإرهابيين.
وأكدت النائبة ماتيلد بانو رئيس كتلة البرلمان موقف الحزب في كلمة أمام البرلمان أنها تطالب بوقف فوري لإطلاق النار، والانخراط في حل الدولتين.
وكذلك الأمر بالنسبة لموقف رئيس الوزراء السابق دومنيك دوفيلبان الذي تعرض لهجوم كبير. ولا تزال القضية تتفاعل على أكثر من صعيد سياسيا وإعلاميا وشعبيا على الصعيد الفرنسي والأوروبي (وزيرة الداخلية الألمانية نانسي فيزر قالت إنها تؤيد طرد داعمي حركة حماس الإرهابية من ألمانيا).
أما على المستوى الشعبي ورغم منع المظاهرات فإن عشرات الآلاف الرافضين للحرب على غزة والمؤيدين للقضية الفلسطينية نظموا مظاهرات عدة في أكثر من مدينة فرنسية.
الدولة المسيطرة
علاقة فرنسا بفلسطين علاقة تاريخية بدأت عندما أشعل البابا أوربان الثاني شرارة الحرب الصليبية في العام 1096 حيث انطلقت أول حملة في اتجاه فلسطين من فرنسا بقيادة بطرس الناسك وإقامة أول دولة صليبية في فلسطين تحت حكم بودوان الأول.
وظلت فرنسا الدولة المسيطرة خلال الفترة الصليبية التي انتهت في 1187 بفتح القدس وفشل الحملة الفرنسية التاسعة التي قادها الملك الفرنسي القديس لويس التاسع ووفاته في طريق عودته في تونس. وعادت فرنسا محاولتها للاستيلاء على فلسطين عن طريق حملة نابليون على مصر الذي حاول احتلال فلسطين لكنه هزم على أسوار عكا وفشلت حملته على مصر وانسحب منها في العام 1801.
وعندما تم تنصيبه كإمبراطور فرنسا عقد أول مؤتمر للمجلس اليهودي في فرنسا (السنهدرين) في العام 1807 (وكان اليهود محرومين من كل الحقوق) وحثهم على التوجه إلى فلسطين، وفي الوقت نفسه ألغى محاكم التفتيش التي فتكت بالمسلمين واليهود في إسبانيا خلال ثلاثة قرون.
بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية تحت ضربات فرنسيةـ بريطانية، عادت المسألة الفلسطينية إلى الواجهة بحدة بعد وعد بلفور ومعاهدة سايكس بيكو بين فرنسا وبريطانيا التي تم تقسيم سوريا الكبرى بين الدولتين وقد منحت بريطانيا حق الانتداب على فلسطين بموافقة فرنسية كي يتم إنشاء الدولة اليهودية.
حل الدولتين
السياسة الفرنسية إزاء القضية الفلسطينية بشكل عام، وإسرائيل بشكل خاص، صاعدة هابطة كأسنان المنشار. في 29 أيار/ مايو 1947 صوتت فرنسا على قرار الأمم المتحدة رقم 181 الذي ينص على بناء دولتين: دولة يهودية، ودولة فلسطينية، في 14أيار/مايو 1948 تم الإعلان عن دولة إسرائيل، بالمقابل لم يعلن عن دولة فلسطينية من قبل العرب لكن على عكس ذلك قاموا بإعلان الحرب على الدولة الوليدة التي انتهت بنكبة كبرى وتمددت إسرائيل لتحتل معظم الأراضي الفلسطينية ماعدا الضفة الغربية وغزة (تمدد إسرائيل في الأراض العربية حدث دائما بعد حرب ففي حرب السويس أيضا احتلت سيناء، وانسحبت منها بعد تهديد سوفييتي أمريكي، وفي حرب حزيران/يونيو احتلت كامل الضفة الغربية وغزة والجولان، وفي حرب أكتوبر احتلت الدفرسوار، وأراض سورية ووصلت على بعد 40 كم من دمشق، وفي حرب لبنان 1982 احتلت جنوب لبنان ثم انسحبت منه بفضل المقاومة) فرنسا لم تعترف بدولة إسرائيل إلا بعد سنة من الإعلان عنها. وخلال خمسينيات القرن الماضي نسجت فرنسا علاقات متينة مع إسرائيل، وخاصة في المجال العسكري حيث قامت فرنسا ببناء أول مفاعل نووي (ديمونة) في عهد رئيس الوزراء الاشتراكي غي موليه الذي جعل إسرائيل تمتلك للسلاح النووي.
وقام موليه فيما بعد بالاشتراك مع بريطانيا وإسرائيل بالاعتداء الثلاثي على السويس بعد تأميم قناة السويس من قبل الرئيس جمال عبد الناصر.
الجمهورية الخامسة
مع إنشاء الجمهورية الخامسة ووصول الجنرال شارل ديغول لرئاسة الجمهورية استقبل في العام 1960 رئيس الوزراء الإسرائيلي دافيد بن غوريون كتعبير عن متانة العلاقات بين البلدين (وكانت العلاقات العربية الفرنسية قد تأثرت كثيرا بسبب حرب السويس، وحرب الجزائر).
هذه السياسة شهدت انقلابا جذريا بعد حرب حزيران/ يونيو عندما وصف الجنرال ديغول الإسرائيليين «بالمعتدين» وأمر بحظر بيع الأسلحة لإسرائيل. وقامت فرنسا بالتصويت على القرار 242 الصادر عن الأمم المتحدة والذي يطالب إسرائيل بالانسحاب من الأراضي المحتلة والعودة إلى حدود 4 حزيران 1967. وفي تصريح لاحق في 27 تشرين الثاني/نوفمبر دان الجنرال ديغول الاحتلال الذي لا بد وأن يتحول «إلى قمع، وطرد، الفلسطينيين».
تحت رئاسة فاليري جيسكار ديستان في 16 تشرين الأول/أكتوبر 1974 (بعد حرب أكتوبر) صوتت فرنسا على الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية كمتحدث رسمي في الأمم المتحدة، وكانت أول دولة تفتح مكتب أتصال وارتباط مع منظمة التحرير الفلسطينية.
ومع الرئيس الاشتراكي فرانسوا ميتران الذي حاول في العام 1980 في زيارة رسمية لإسرائيل أن يذكر بمواقف فرنسا على منبر الكنيست الإسرائيلي تجاه إسرائيل ولم ينس أن يذكر أن للفلسطينيين الحق في إعلان دولتهم.
الميثاق الفلسطيني
وفي أيار/ مايو 1989 وفي عز الانتفاضة الفلسطينية استقبل ميتران لأول مرة الرئيس ياسر عرفات وأقنعه بأن يتخلى عن جملة: « النضال المسلح الطريق الوحيدة لتحرير فلسطين» في الميثاق الفلسطيني بلفظ الكلمة الشهيرة التي لقنها له بالفرنسية «كادوك» أي «باطلة».
وكانت هذه الكلمة المدخل لاتفاقيات أوسلو التي كان مهندسها رئيس الوزراء آنئذ محمود عباس ووقع عليها الرئيس ياسر عرفات، ورئيس الوزراء الإسرائيلي اسحق رابين، والتي رفضتها حماس جملة وتفصيلا.
منظمة اليونيسكو
ثم جاءت فترة حكم الرئيس الديغولي جاك شيراك الذي كان ينتهج سياسة ديغول وكانت إسرائيل لا تثق به أبدا وتعرض لتحرش من قبل الحرس الإسرائيلي خلال زيارته للقدس. في العام 2011 صوتت فرنسا لصالح فلسطين لتكون عضوا في منظمة اليونيسكو، وكذلك الأمر صوتت في العام 2012 لدخول فلسطين كعضو مراقب في الأمم المتحدة (في عهد نيكولا ساركوزي) وخلال الفترة 2008ـ2017 تبرعت فرنسا بمبلغ 500 مليون يورو لتحسين البنية التحتية في الأراضي الفلسطينية، وفي 2020 تم التبرع بـ 16 مليون يورو لمواجهة جائحة كورونا.
وخلال هذه الفترة كانت الدبلوماسية الفرنسية تؤكد دائما على حل الدولتين. وفي العام 2016 تم التصويت بالإجماع على قرار مجلس الأمن رقم 2334 والذي يطالب بتجميد بناء المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية. باختصار تركزت الدبلوماسية الفرنسية حول القضية الفلسطينية بأربعة ثوابت: الانسحاب من الأراضي الفلسطينية والعودة لحدود 4/6/67 وتبادل أراضي بنفس المساحة عند الضرورة. حل عادل لكل اللاجئين الفلسطينيين، القدس عاصمة للدولتين، ضمانات حماية للطرفين.
وعلى هذا الأساس أيدت فرنسا خطة الملك عبد الله في 2002 والتي تنص على الأرض مقابل السلام. لكن إسرائيل ضربت عرض الحائط بكل القرارات الدولية وسياسات أوربية تدعم حل الدولتين.
في الأول من تموز/ يوليو 2020 وبعد عمليات التطبيع مع الإمارات والبحرين قامت بضم جزء من الضفة الغربية، فرنسا والاتحاد الأوروبي أدانوا الضم.
طوفان الأقصى
في غزة فتحت فرنسا «معهد غزة الفرنسي» وهي الدولة الوحيدة التي قامت بذلك، وقامت بدور المصالحة بين الفلسطينيين (حماس ومنظمة التحرير) مع العلم أن فرنسا تتخذ نفس الموقف الأوروبي باعتبار حركة حماس «إرهابية» وحاولت أكثر من مرة إقناع حماس بالاعتراف بإسرائيل كي تساهم في إخراجها من قائمة الإرهاب الأوروبية.
المواقف الأخيرة للحكومة الفرنسية إزاء عملية «طوفان الأقصى» وخاصة فيما يتعلق بمنع المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين، اعتبرها أكثر من طرف سياسي وإعلامي بأنها ليست من مبادئ الثورة الفرنسية والديمقراطية، ولا من سياسة كل الحكومات الفرنسية السابقة التي كانت تحافظ على مواقف متوازنة بين الطرفين، وحافظت فرنسا على موقفها بأن الحل الوحيد يكمن ببناء الدولتين.
في الوقت الذي اعترف فيه وزير خارجية الاتحاد الأوروبي أن المجتمع الدولي فشل في تحقيق حل الدولتين، إلا أن موقفها من طوفان الأقصى في عهد إيمانويل ماكرون كان منحازا تماما إلى إسرائيل، وهذا لا سابقة له منذ النكبة الكبرى.
————————
حرب غزّة… وعصر ما بعد خامنئي/ موفق نيربية
تضاءل ورود اسم إيران نسبياً تحت ضغط الانفجارات العاصفة في غزّة، لكنّها بقيت موضوعاً لا يغادر حسابات كلّ مدقّقي الحسابات المتعلّقة بالمنطقة. كان مناوراً ومداوراً ذلك الشكل الذي تحدث به بايدن وبلينكن عنها، حيث نزلت منزلتها لفظياً إلى مستوى» المتواطئ»، ولم يصل غالباً إلى حدّ اتّهامها بكونها السبب والدافع إلى عملية» طوفان الأقصى». وقد خدمها بالاتّجاه نفسه تطيّر أهل المنطقة ذاتهم من ذكرها؛ لا ليجلب ذلك سوء الطالع وحسب، ويزيد من وجودها وتكريس دورها ويزيد من فتحة أشداق الجحيم؛ بل أيضاً لمنع تأثير ذلك الذكر على استدعائها أكثر إلى دائرة التداول بالمسائل التي تحتدم وتزداد أواراً.
تضع القيادة الإيرانية لنفسها هدفاً كبيراً في المنطقة: «الموت لإسرائيل.. الموت لأمريكا!»، بما يعنيه ذلك مباشرة ومن دون مداورة، من محو لإسرائيل على الخريطة. هذا لا يستجلب الهتافات العلنية وحدها، بل تلك التي تعلو وراء الأبواب المغلقة أيضاً. وتدرك تلك القيادة أيضاً أن الولايات المتحدة هي «الغول» وراء إسرائيل، وهي تستهدفها بالضغط لإضعافها بشكل غير مباشر، يرى البعض أنه قد يخفي عشقاً كما يتعمّق علم النفس، وهو أمر- لو صحّ- يشمل حتى إسرائيل ذاتها.
ترغب إيران أيضاً إلى تعطيل مسار التطبيع العربي – الخليجي مع إسرائيل لأهدافٍ دنيوية، وعلى الجهة السعودية على وجه التحديد. من أجل ذلك الهدف يركّز مسؤولوها وإعلامها الكثير من جهودهم، بذلك تضمن قيادة خامنئي الخروج بالحدّ الأدنى من المكاسب «على البارد المستريح»، من دون المغامرة بخسارة شيء مما تملكه من أوراق، في هذه الجهة يبدو أن الطرف الآخر قد ربح أيضاً بانتقال العرب إلى منطقة أقرب إلى التعميم في ذكر المساواة في انتقاد استهداف المدنيين ما بين إسرائيل وحماس.
مع ذلك، لا تبدو المراهنة على القضم من سمعة الولايات المتحدة ومن دورها المستقبلي في المنطقة ناجحة كالعادة، في أية معركة مع إسرائيل، حتى عند الحديث عن المعايير المزدوجة؛ وحتى أمام وضوح حجم من الدعم الأمريكي لإسرائيل يكاد يكون غير مسبوق في بعض جوانبه. تبدو مطارح قوة إيران تابعة لطبيعة محلّات تأثيرها، ولأدوات فاعليّتها العملياتية والسياسية. فهي تتمتّع بنفوذ مادي قوي في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وفي غزّة بالطبع والضرورة، وفي الأخيرة ربّما- ربّما وحسب- سوف تكون السياسة الإيرانية مسكونة بالحكمة الفارسية بعد بدء الحرب، واتضاح حدودها التي قد تتمدّد شكلاً ومضموناً.
ابتدأت إيران بتصعيد تحرّشها من العراق مؤخّراً، وأطلقت الميليشيات التابعة لها القذائف والصواريخ على قاعدة عين الأسد، التي تتضمّن مركزاً تكتيكياً مهماً للقوات الأمريكية؛ وكذلك توجّهت نحو تجمّع القوات الأمريكية في التنف عند مثلث الحدود السورية الأردنية العراقية؛ كما عادت إلى محاولات إحراج الولايات المتحدة وقواتها التي تحمي أهمّ حقول النفط والغاز السورية في شمال وشرق الفرات، وطوّرت من هجماتها نوعياً حين وصلت قذائفها إلى الحسكة مؤخّراً.
عادت أيضاً قيادة الحرس الثوري وفيلق القدس إلى التحرّش بإسرائيل عن طريق الضربات المُغفلة في البداية، وإلى تشغيل خطوط الإمداد عن طريق المطارات السورية في حلب ودمشق خصوصاً، الأمر الذي يتمتّع بأهمية بالغة لإسرائيل لما تعتبره خطراً عليها، ولحزب الله في سوريا ولبنان كخط تطوير للتسليح والتذخير، والإمداد عموماً. ردّت إسرائيل أكثر من مرة بقصف مدرّجات المطارين باستراتيجية تصرّ على تعطيلهما عن العمل. وكانت إيران أكثر حذراً في لبنان وجبهتها مع إسرائيل في البداية، وربّما تبقى على تلك السياسة. يعتبر البعض أنها ليست بعيدة عن تشغيل وتنشيط القوى الفلسطينية المتمركزة هناك – حماس والجهاد خصوصاً- التي كانت تتحرّق للإسهام بحرب غزّة وتخفيف الضغط عنها. أطلقت تلك القوى صواريخ وقذائف باتّجاه ما وراء الجدار الإسرائيلي، في الوقت نفسه الذي كان فيه حزب الله يقوم ببعض العمليات على خط الحدود أو وراءها بقليل، خصوصاً في المناطق اللبنانية/السورية التي تحتلها إسرائيل على أطراف إصبع الجليل. لكنّها في يوم الجمعة السابق، وضعت على لسان حسن نصرالله تهديدات جديدة رفعت مستوى التحدّي والخطر، وبالطبع ليس على إسرائيل وحدها. وكمنت في اليمن بعض أكبر احتمالات الضغط على إسرائيل عن بعد، حين استهدفها الحوثيون بصواريخهم وطائراتهم المُسيّرة التي تستطيع الوصول إليها، أو إلى مشارف أجوائها، من ذلك البعد. هنالك حرارة تتزايد على ألسنة الحوثيين، لا توحي بانحسار ذلك الاحتمال. وهنالك حشود أمريكية بالقرب من سواحل اليمن، في البحر الأحمر خصوصاً، لردع أي شيء من هذا القبيل، خصوصاً منع إغلاق طريق البحر من الجنوب على الصادرات الإسرائيلية بكلّ أنواعها.. وعلى التجارة الدولية أيضاً. لكنّ أرض الاختبارات الأكبر هي غزة نفسها، وحماس مع حلفائها في مواجهة الجيش الإسرائيلي، والقصف الجوي المتصاعد، مع الاستمرار بتجهيز الحرب البريّة، التي ستكون كارثة على كارثة تحقق الكثير منها حتى الآن.
يقوم الجيش الأمريكي وحاملات طائراته وقوات التدخل السريع لديه بتهديد صامت لإيران وحزب الله، لردعها عن التدخل المباشر والواسع بالحرب؛ كما أنها تؤمّن تعويض إسرائيل عمّا تفقده من ذخائر، وتسدّ ثغرات قوتها التدميرية بكلّ أشكالها. قام أحد الخبراء من صانعيّ السياسة الأمريكيين بوصف السياسة الإيرانية على الشكل التالي: «الطريقة التي تعمل بها إيران هي أنها تدخل في جغرافية معينة. تُحدِّد هوية مُشعل الحريق الواعد؛ ثم تقوم بتمكين وتدريب ودعم موارد مشعل الحرائق هذا، للسيطرة على جميع مشعلي الحرائق الآخرين في منطقته، في تلك الجغرافيا المحدّدة؛ وبعد ذلك تعطي لمشعل الحريق» أعواد ثقاب» محددة للغاية. كانت هذه الأدوات في العراق هي المقذوفات المتفجرة، الذخائر المرتجلة المدعومة بالصواريخ. في اليمن، كانت صواريخ باليستية وكانت طائرات دون طيار، أما بالنسبة لحماس فهي صواريخ وقذائف من العيار الصغير نسبياً، مع أن صواريخ فجر 5 خطيرة؛ طائرات دون طيار؛ والقدرة على تطوير الأسلحة محليا في مصانع الأسلحة السرية». لكن الحرائق الأكثر ضرراً في المنطقة، تلك التي قد تشلّ سياسات دولها، هي تحريك الشارع العربي والإسلامي عموماً، أو تحريك انقساماته الأفقية المدمّرة أيضاً. يعرف قادتها تماماً منزلة القضية الفلسطينية في وجدان الناس في منطقتنا، ويعرفون الحساسية التي لا تفتأ تظهر كلّما ظهرت الطائرات الإسرائيلية في الأجواء وأخذت بقصف أعدائها لا تميّز- أو لا تستطيع أن تميّز- في حالة غضبها وخوفها القاتلين- بين مدني ومقاتل، وبين طفلٍ وامرأة وشيخ ورجل. في الشارع المنتمي هذا، وأيضاً في الشارع الشعبي- الدولي، أو النخب الأممية، هنالك استعداد كامن لا يحتمل إلّا نداء وحيداً من الضحايا حتى يتحرّك رويداً رويداً، ويتسّع مداه وتأثيره… لون الدماء ورائحتها تستدعي ردود فعل متباينة، أقربها التضامن الإنساني الواجب والصحي، وأقربها من الباطن دوافع الانتقام والثأر التي تحتاج إلى شرارة أو صاعق صادم، كما هي مجازر غزة الحالية.
ذلك طبيعي ومفهوم، لكنّه أيضاً هدف للسياسة الإيرانية، بالطريقة المباشرة أو غير المباشرة، الظاهرة أم الباطنية. الحراك الشعبي فعّال على الخطين: يمكن أن يكون أداة تثبيط للقتل وسفك الدماء بشراهة متزايدة، أو مدخلاً لتحريك الأمور بشكلٍ مفيد لاستراتيجية النظام الإيراني، وأقسامه أكثر راديكالية وروحاً مغامرة.
كلّه يمكن أن يدفع بدوره إلى مناورات تمهّد لخلافة خامنئي الذي يكاد يأفل ويتوارى بعد عمر طويل، حيث تكون الحرائق من مصلحة التيّارات المتشدّدة؛ والحكمة وضبط النفس والوساطة من أجل الرهائن، والتمسك بالتطبيع مع حكومات المنطقة – الخليج خصوصاً- من مصلحة التيارات الأكثر اعتدالاً. عبّر زعيم حزب الله عن مثل ذلك جيداً في خطابه الأخير يوم الجمعة الماضي.
وفي كلّ الحالات، تبقى مأساة غزة وأهلها هي ذلك الدمار الشامل، الذي يراه العالم على الهواء، وذلك الدم المسفوك بغزارة لن يجعل السلام في المستقبل سهلاً على الإطلاق.. لذلك صحيح ما نادى به المتظاهرون في كلّ مكان من مطالبة بوقف الحرب، ووقف إطلاق النار.. أوّلاً، حتى يكون البحث والتفكير ممكناً ثانياً!
كاتب سوري
القدس العربي
————————
ضد القبَليّة ومن أجل فلسطين عالمية/ ياسين الحاج صالح
تدفع موجة الصراع الراهنة في فلسطين إلى انفعالات محتدمة في الأوساط العربية، المسلك العصبي غير المستغرب ممن يقعون تحت عدوان قوى متفوقة عسكرياً وإعلامياً، تقتلهم وتنزع إنسانيتهم، وتسلبهم الخطاب فوق ذلك، خطاب العدالة والحضارة والقانون.
يتمثل هذا المسلك في تمترس هوياتي أو حضاروي، نحن مقابل هم. من جهتنا ترسو «نحن» على أعماق قومية أو دينية، ويجري تعريفهم «هم» بطريقة مماثلة، كغرب استعماري معاد، استعماريته وعداؤه ينبعان من تكوين جوهري جامع له وغير متغير. ما يغيب من هذا الاختزال العصبي هو القيم السياسية والأخلاقية والفكرية الأكثر عمومية أو كونية، ما يتصل بالحريات العامة والمساواة بين الناس (على اختلاف الجنس والدين والعرق) والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
ليست هذه القيم محققة في أي مكان، لا في الغرب ولا في غيره، لكن ليس غيرها ما يلهم النضال من أجل بيئة عالمية أكثر إنسانية. لقد جرت خيانة هذه القيم مراراً وتكراراً في الغرب الذي عرف كذلك أكثر من غيره تحققات جزئية لبعضها هنا وهناك. نتكلم على خيانة متكررة لهذه القيم من قبل القوى الغربية بالضبط لأنها تطابق نفسها بها. نشعر بأن روسيا تخونها أقل، وهي تدعم نظاماً إبادياً في سوريا وتقتل ما قد يتجاوز 24 ألفاً من المدنيين السوريين خلال تسع سنوات، لأنها تدعي تلك القيم أقل، هذا حين لا يرى بعض منظريها مثل ألكسندر دوغين أن القيم الكونية هي قيم غربية خاصة، وأن هناك أنساقا للقيم والحقيقة مغايرة وأصيلة، هي القيم الروسية أو القيم الإسلامية وغيرها. هذه النظرية هي الزائفة، وهي تؤول إلى حكم القوة، القوي يفرض قانونه وقيمه كما يناسبه. ولا يبعد أن يكون أصل مذهب دوغين ذاته هو المزيج الروسي الخاص من الشعور بالعظمة والمهانة، وهو مزيج غير غريب علينا، ويدفع إلى مسالك مماثلة. الإسلامية اليوم، وبالأمس القومية العربية في صيغتها البعثية بخاصة، من تلك المسالك الجريحة. ما يمكن أن يؤخذ بقدر طيب من العدالة على القوى الغربية اليوم هو أنها بالضبط متطرفة وعدمية حين يتعلق الأمر بفلسطين، وألمانيا بينها تنفي فلسطين نفيا مطلقاً يُذكّر بنفي «داعش» والسلفية الجهادية للعالم الحديث والمعاصر. وللأمر جذر عَقَديٌّ صاغته أنغيلا ميركل المستشارة الألمانية السابقة في خطاب أمام الكنيست الإسرائيلي عام 2008، قالت فيه إن إسرائيل علة وجود لألمانيا، ما يعني لا أقل من أن علاقة عدمية بين ألمانيا وفلسطين. هذا أكثر من متطرف، إنه ترقية للتطرف إلى مرتبة عقيدة وكيان. على أن العدمية لا تقتصر على ألمانيا، وتتجاوزها إلى عموم الغرب الرسمي، عبر تبني منطق أن إسرائيل في خطر وجودي دائم، وجودي وليس أمنياً أو عسكرياً أو سياسياً من صنف ما يعرض لكل الدول والبلدان. إسرائيل احتكار شرعي للقلق الوجودي الذي يسوغ ردوداً وجودية مطلقة، أي عدمية، تستأصل الخطر من جذوره، «تكوي وعي» أصحابه، ترد عليهم ردوداً مجنونة تُجنِّنهم وتفقدهم صوابهم (من صنف ما ننزع إلى فعله اليوم، وفعلنا مثله غير مرة بالأمس). هذا الاحتكار غير طبيعي، يلغي السياسة حين يجعلها لعبة وجود وعدم، وليس سلم وحرب، ولا ريب أنه يبطنه شعور بأن في قلب فكرة إسرائيل ثمة ما هو غير طبيعي وغير شرعي. وإنما من هنا الإصرار الوسواسي على حق إسرائيل في الوجود من جهة، والهوس بالتطبيع بينها وبين الدول العربية من جهة أخرى (وما يضمره ذلك من أن العرب وحدهم، وقد قامت إسرائيل على حساب بعضهم كيانياً، وعلى حسابهم كلهم سيادياً وسياسياً، هم وحدهم من يجعلونها طبيعية). يبدو الأمر بمجمله غريباً: فمن يحق لهم القلق على وجودهم هم من يجدون كيانهم بالذات يؤكل يوماً بعد يوم طوال أكثر من قرن، وأكثر من ثلاثة عقود بعد أوسلو و»عملية السلام»: الشعب الفلسطيني؛ وليس قوة نووية، فائقة التسلح التقليدي، تحظى بدعم أقوى أقوياء العالم وأغنى أغنيائه وأشهر مشاهيره. ما يمكن أن يُطبِّع إسرائيل، وهذه جبهة نضال للتقدميين الغربيين والإسرائيليين، تتمثل في الدفع نحو «حق»ـها في الهزيمة، بل ربما واجبها في أن تُهزم، لأن الدول الطبيعية تهزم وتخسر. وهي تنتصر أحياناً، وهو ما حرم منه الفلسطينيون والعرب عموماً في مواجهة إسرائيل (ومن هنا النقص السيادي العربي المستمر). نتذكر ما كان يقال حتى مؤتمر مدريد للسلام قبل 32 عاماً من كفالة أمريكية لتفوق إسرائيل العسكري النوعي على الدول العربية مجتمعة. بعدها صار الكفيل «راعي» عملية السلام!
بيد أن كل ذلك لا يسوغ النزعة القَبَلية المتعصبة التي تتنامى بين ظهرانينا خلال الأسابيع الماضية على إيقاع الإبادة الجارية في غزة، بمشاركة غربية مثيرة للاحتقار ومستحقة للإدانة. فعدا أنه مسلك انفعالي عقيم، على ما يمكن رصده بيسر من سيرة ونتاج بعض من يتجسد فيهم هذا المسلك، فقد سبق لنا أن شاهدنا هذا الفيلم من قبل غير مرة، ونعرف نهايته التعيسة؛ وهي اليوم إما فلول قومية عربية تابعة لإيران (قوة قومية معادية للعرب إلى درجة العنصرية، فوق طائفيتها الاستعمارية) أو إسلامية سنية عدمية (أو تبعية في أحسن الأحوال). يتعين لبعضنا على الأقل ألا ينساقوا وراء الانفعالات العاصفة. وإن كان يتعين من وجه آخر أن لا ننتحل عقلانية جاهزة، لا تمر ببنانا الرمزية والنفسية، فلا تتفاعل معها ولا تحترمها، مما كان هو الحال ولا يزال. لا نعترض على الانفعالات بعقل مسبق الصنع يتعالى عليها، بل بعقل تفاعلي يتكون عبر الانفعال بها، عقل هو انفعال ثان، يستوعب دروسها ويتطلع إلى أن ينصرها بمناهج وأساليب لا تستطيعها هي. يتعلق الأمر بقدرة على التفكير الاستراتيجي لا يصعب اكتسابها، لكن تحول دونها هياكلنا السياسية الراهنة، ونزعاتنا الانفعالية التي تفضل تلك الهياكل تغذيتها.
على أن تزكية القيم الأكثر عالمية بدل القبلية الصاعدة اليوم يمر باستدراكين.. أولهما ما سبقت الإشارة إليه من خيانة القوة الغربية لها، ومن قبَليّة غربية إقصائية ومتعصبة؛ وثانيهما أن هذه القيم ذاتها في تشكلاتها الراهنة في أزمة عميقة، ربما بفعل هيمنة التفكير الليبرالي الجديد، التفتيتي والفرداني، الذي يبقيها قيماً مجردة، منفصلة عن مشروع سياسي وجماعة سياسية تغييرية، وبما يجردها من الروح القتالية. وهذا أخطر لأن الاحتجاجات التي شهدتها بلدان كثيرة تضامناً مع فلسطين مرشحة لأن تكون بلا أثر تراكمي، يستطيع الواقع السياسي القائم أن يتعايش معها، وربما أن يحولها إلى واجهة عرض لتسامحه وحجب قبليّته. أزمة القيم العالمية (أو الكونية) أزمة عالمية هي ذاتها من حيث انفصالها المستمر عن الفعل السياسي. لكن خيانة القيم العالمية هي بالذات ما يدعو إلى التمسك بها وتطويرها في وجه من يثابرون على استخدامها أداتياً، ولخدمة مشاريعهم الفئوية أو القبلية الخاصة. ولنا في ذلك شركاء اجتماعيون في مجتمعات الغرب، إن لم يكن أكثر من غيرها فبصورة مضمونة أكثر من غيرها، بمعنى أن الداعمين هنا اختاروا عن معرفة وحرية أن يدعموا ما يدعمون. وفي الغرب أكثر من غيره أعداء فلسطين وقضايا العرب التحررية الأشد عناداً وعصبية، وأصدقاؤنا الأكثر عدالة وإخلاصاً، وهذا بالضبط لأن الخيارات هنا أكثر حرية مما في أي مواقع أخرى من العالم (الصديق فاروق مدرم بيك يقول شيئاً مماثلاً عن أصدقاء القضية السورية وأعدائها: الأنبل لبنانيون، والأنذل كذلك). وهذا سبب إضافي لأن نعمل معاً، ومع شركاء آخرين، من أجل وعود وآفاق قيمية وسياسية مختلفة. ليس هناك حلول في الماضي لمشكلات الراهن، لا في القبيلة ولا في القومية ولا في الدين. الراهن عالمي وحلوله عالمية. وفي فلسطين تتمثل العالمية أكثر من أي موقع آخر في عالم اليوم.
كاتب سوري
القدس العربي
————————–
ضوضاء «الأمم»: هل يمكن لـ«الشعب الفلسطيني» أن يتكلّم؟/ محمد سامي الكيال
يثير حدث، بضخامة الحرب الإسرائيلية على غزة، كثيراً من ردود الفعل حول العالم، التي تتأثر بالظروف الثقافية والسياسية في كل موضع أو منطقة، إذ يمتزج التضامن مع الفلسطينيين مع حسابات أيديولوجية محليّة، هي ما ينتج تمثيلات القضية الفلسطينية في وعي المتضامنين على اختلاف ظروفهم. وبالتأكيد لا تتطابق حسابات حركات الإسلام السياسي واليسار في دول شمال افريقيا حول القضية، مع حسابات ما يسمى «اليسار الهوياتي» أو»الأكاديمي» في الدول الغربيّة؛ فيما يبدو وعي فئات كثيرة من مسيّسي المشرق العربي، المتداخلين في صراع طويل مع ميليشيات الإسلام السياسي المدعوم من طهران، في عالم آخر تماماً؛ هذا إذا لم نتكلم عن أفكار المعارضة الإيرانية والتركية والكردية، التي تعمل في إطار مفاهيمي مختلف تماماً عمّا هو مألوف لدى كثيرين، في مشرق العالم العربي ومغربه.
وسط كل هذه التعددية في التعامل مع القضية، التي تقترب من ضوضاء أممية، قد يكون من المشروع التساؤل عن الصوت الفلسطيني «الوطني» الذي من المفترض أن يكون الأساسي، ما دمنا نتحدّث عن قضية فلسطينية، وهو تساؤل صعب الإجابة، في ظروف الانقسام الفلسطيني الحالي، فإذا تجاوزنا سلطة الضفة الغربية، التي لا تملك أي تأثير فعلي على مجريات الأحداث في غزة، سنجد أن مسؤولي حماس عوّلوا، منذ اليوم الأول من عملية «طوفان الأقصى» على «الأمة». إلا أن هذا تعبير مربك بعض الشيء، أين تقع تلك «الأمة» بالضبط؟ وما توجهاتها السياسية، أو آلياتها في الفعل والتضامن؟
من ناحية أخرى، ومع تصاعد التحركات المناهضة للحرب الإسرائيلية في الدول الغربية، بات من الممكن إسقاط أي مقولة على الفلسطينيين وتاريخهم، فبتنا نسمع عن «تمرّد عبيد» «كفاح سكّان أصليين» «نزع كولونيالية» وبغض النظر عن مدى صحة ودقة تلك المقولات، أليس من المنطقي أن يحدد الفلسطينيون أنفسهم، وعبر آلية ما تمثّلهم، نوعية وطبيعة نضالهم ضد ممارسات دولة الاحتلال، ووفق لغة وبرامج ومفاهيم تنطلق من واقعهم هم؟ لا يتعلّق الأمر بنزعة انعزالية وطنية، بل بأسئلة أكثر بساطة: هل يمكن للفلسطينيين أن يتكلّموا في قلب كل تلك الضوضاء؟ وكيف يمكنهم أن يفعلوا ذلك، ما داموا غير مسيطرين على الآليات المنتجة للغة قضيتهم، والثقافة السياسية المتعلّقة بها؟
الذوبان في «الأمة»
يمكن رصد كثير من المتحدثين الفلسطينيين بالتأكيد، من كل التوجهات وفي مختلف المواقع؛ ومن الإسلام السياسي و»اليسار الأكاديمي» وحتى التوجّهات الموصوفة بـ»التطبيعيّة» وتعدد الأصوات قديم بقدم الحركة الوطنية الفلسطينية، إلا أن ما ينقص كل تلك الأصوات، كي «تتكلّم» فعلاً، ما يمكن تسميته «الذات السياسية المتكلّمة» فالفلسطينيون المعاصرون يدون، في كثير من الحالات، مرددين لخطابات، لهم وعنهم، يحدّدها الآخرون. ما يذكّر بأوضاعهم قبل ترسّخ منظمة التحرير الفلسطينية، عندما كان اللاجئون، وإخوتهم من أهالي الأرض المحتلة، ينتظرون الدول العربية وحلفائها كي تؤمّن حقوقهم، التي كانت، آنذاك، ما تزال تعتبر جانباً من معركة قومية، أكثر من كونها حقوقاً وطنية للشعب الفلسطيني.
مفهوم «الذات المتكلّمة» هنا يعني بالتحديد وجود جماعة سياسية، ذات هوية متعيّنة، لا تنفي التعددية بالضرورة، إلا أنها تمتلك آليات لتحديد ما «الصوت الفلسطيني» وفرزه عن غيره، وإكسابه شرعية ما؛ وإنتاج مجموعة من المعايير والمفاهيم والبرامج العمومية، التي تنبني عليها الأقوال الممكنة، في ما يتعلق بالمسألة الفلسطينية. ودون تلك «الذات» يمكن لأي جهة، في أي مكان في العالم، أن تضع أي كلام تريده على لسان الفلسطينيين، بل أن تتحدث بالنيابة عنهم، وهو ما رفضه سابقاً جيل كامل من المناضلين، خاصة بعد هزيمة عام 1967، وصعود المقاومة الفلسطينية عقب «معركة الكرامة» 1968. ليس التضامن مع الفلسطينيين، عربياً وعالمياً، بالأمر الجديد، لكن في ما مضى كانت «القضية» التي حددها وصاغها سياسيون ومفكرون فلسطينيون، هي من يسهم في بناء حركات سياسية حول العالم، وليس العكس؛ بل تقدّم مفاهيم معقّدة حول «التحرر الوطني» و»مواجهة الإمبريالية» وفق الشرط الثقافي والسياسي للنصف الثاني من القرن العشرين، اليوم يبدو أن جانباً مهماً من الفلسطينيين حائر بين خطابات وألسنة الآخرين. إلا أن فقدان الفلسطينيين للقدرة على الكلام، بهذا المعنى، لا تهدد بخسارتهم قرارهم المستقل فحسب، بل أيضاً بتذويبهم في «الأمة» الكبيرة حولهم، وهي كيان معنوي غير محدد، يكثر فيه المتحدثون، وتتشابك علاقات القوة داخله بشكل كبير.
هذا التذويب يعني بكل بساطة «تصفية القضية الفلسطينية» وربما كانت إسرائيل أكثر جهة سعت إليه في تاريخ الصراع، إذ اعتبرت أن العرب مجرد لاجئي حرب، وضحية جانبية لمعارك تأسيس الدولة، ويجب أن يندمجوا في الدول التي فرّوا إليها. وبالتالي فإن مفهوم «الشعب الفلسطيني» صاحب الحقوق السياسية والاجتماعية، وعلى رأسها حق تقرير المصير، ما هو إلا حيلة من القادة العرب لتدمير الدولة اليهودية. اليوم، ومع انتهاء مسار السلام المرتبط باتفاقية أوسلو، تؤكد القوى الأكثر تطرّفاّ في إسرائيل أنه لم تعد توجد جماعة سياسية، شرعية وموثوقة، يمكن التواصل معها، سواء في الضفة الغربية أو غزة، وبالتالي يجب أن يُعطى «السكان المحليون» في المنطقة الأولى نوعاً من الحكم الذاتي المحدود في بعض المعازل، أو تُدمج كلها في إسرائيل، ليصير سكانها رعايا دون حقوق مواطنة؛ فيما الأفضل أن توضع غزة تحت انتداب مصري.
انحلال الذات الفلسطينية المتكلّمة، وتفويض شؤونها إلى «الأمة» سيجعل أي حرب أو مقاومة ضد العدو دون أفق، ومهما حققت من «انتصارات» إذ لا يوجد معيار جدّي لانتصار «أمة» بأكملها أو هزيمتها. ومفهوم «الأمة» هذا، مثل تعبير سكان محليين الإسرائيلي، قائم أساساً على رفض اعتبار الفلسطينيين ذاتاً جمعيّة مستقلة، أي نزع سياسية القضية الفلسطينية، بالمعنى الحديث للسياسة، لحساب رطانة «حضارية» أو تاريخية، يصعب الإمساك بها، وقابلة لأي تأويل.
سكان أصليون؟
إذا ابتعدنا عن المنطقة، و»الأمة» فيها، سنجد أن استخدام تعبير «سكان محليين» لا يقتصر على الإسرائيليين، بل يوجد له نظير بين كثير من المتضامنين مع «القضية» في الدول الغربيّة، وهو تعبير «سكان أصليون» أي تشبيه الفلسطينيين بمجموعات إثنية، عانت لقرون من السياسات الكولونيالية، وما زالت حتى اليوم تكافح لمواجهة محاولات اقتلاعها من الأرض، عبر التشبّث بعلاقاتها الاجتماعية والثقافية التقليدية، بالضد من سياسات التحديث والتمدين الرأسمالي المعاصرة. النموذج السياسي الأهم لـ»السكان الأصليين» ليس بقايا الهنود الحمر في الولايات المتحدة وكندا، فهؤلاء مجرد ظاهرة هامشية ضمن «سياسات الهوية» الأمريكية، وتم تحديثهم، وإعادة إنتاج ثقافتهم الأصلية، منذ زمن طويل، وإنما المجموعات العرقية، الفلاحية وشبه الفلاحية، في أمريكا اللاتينية.
تشبيه الفلسطينيين بتلك المجموعات مفتقر للدقّة، لدرجة تثير الاستغراب، فهم أكثر تنوّعاً من أن يكونوا مجرّد «جماعة إثنية» عضوية الهوية؛ كما أنهم لم يعودوا في أغلبهم مجموعات فلاحيّة تكافح للتشبّث بالأرض، بل أبناء مدن وهوامش مدن ومخيّمات وأرياف محدّثة؛ والأهم أن ثقافتهم الحالية ليست «ثقافة أصليّة» إنما أُنتجت وأعيد إنتاجها، طوال عقود، عبر آليات الثقافة الجماهيرية الحديثة، ونتيجة فعل قوى وحركات سياسية منظّمة، مثل منظمة التحرير ومؤسساتها، وكذلك دول اللجوء العربية نفسها، أي إذا تحدثنا عن «فلسطينيين» فنحن بالضرورة نقصد جماعة سياسية بالمعنى الحديث، أو حتى الغربي، فلماذا هذا الخلط؟
«فلسطين» ضد الفلسطينيين
قد تكون الإجابة على السؤال السابق قريبة من الإجابة عن سؤال «الأمة» أي تصفية الذات السياسية للفلسطينيين، لكن بدوافع مختلفة، إذ يرى المتعاطفون الغربيون، من أنصار «السكان الأصليين» أن المسألة الفلسطينية ما هي إلا جانب من صراع تاريخي كوني ضد الكولونيالية و»الرجل الأبيض» يجب التخلّص فيه من المعايير «الغربية» وبالتالي فإن اعتبار الفلسطينيين «شعباً» بالمعنى الحديث، هو نوع من «الاستلاب» للغرب أو الإمبراطورية أو الرأسمالية.
بالطبع، ترتبط حركات «السكان الأصليين» في أمريكا اللاتينية (وجانب مهم من ثقافتهم أيضاً معاد إنتاجه مؤخّراً عبر عمليات «الأصلنة») بأحزاب وقوى سياسية حديثة، و»غربيّة» الطابع، تنافس على الحكم في دولها، وهذا ما يعطيها نجاعتها السياسية، إن وجدت. أما رد الفلسطينيين تماماً إلى هوية «سكان أصليين» ودون أي حديث عن إعادة بناء سياسي لهم، فلن يوصل إلا إلى التقاطع مع التفكير الإسرائيلي بإعطاء حكم ذاتي ما لـ»السكان المحليين» بعد إنهاء كل حديث عن «حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني».
في الحالتين، «الأمة» و»السكان الأصليين» تتحوّل «فلسطين» إلى مقولة ضد الفلسطينيين أنفسهم، ترفعها وتتحدث عنها جهات متعددة، وفق مصالحها وعقائدها الخاصة، وربما كانت الخطوة التحرّرية الأولى للفلسطينيين هي «تحرير فلسطين» من أولئك المتحدثين، كي يعودوا ذاتاً سياسية متكلّمة، قادرة على خوض صراعاتها ومعاركها الفعلية.
كاتب سوري
القدس العربي
————————-
مسلم ويهودي: هكذا يشتغل العالم؟/ حسام الدين محمد
“هذه المشكلة صعبة بالنسبة لي لأنني نصف يهودي ونصف مسلم”. هكذا بدأ أينفير سولومون، مدير عام لـ”مجلس اللاجئين” البريطاني، خلال مشاركته في برنامج “أيّ أسئلة” الإذاعي على راديو 4، ردا على سؤال أحد الحضور: متى تدعم الأطراف السياسية في بريطانيا قرار وقف إطلاق نار في غزة.
ضم البرنامج، إضافة إلى سولومون، ممثلة عن حزب العمال هي أنجيلا سميث (بارونة في مجلس اللوردات) وتيريزا فيلليري نائبة في البرلمان عن حزب المحافظين وشيفون هافيلاند مديرة غرفة التجارة البريطانية. كان مفروغا منه أن تتجنب مديرة غرفة التجارة إعلان رأي واضح، وأن تدافع ممثلتي “العمال” و”المحافظين”، عن موقفي حزبيهما الرافض لوقف إطلاق نار. خطابات المشاركين في البرنامج، مع ذلك، تعطي فرصة بديعة لتحليل قضية تمتحن السرديات عند اصطدامها بالواقع.
يعبّر تصريح النائبة المحافظة الفظ عن زواج “مدنّس” بين العنصريتين البريطانية والإسرائيلية. يبدأ تاريخ النزاع (والشرق الأوسط بالمحصلة) في هذا الخطاب مع “أكبر هجوم على الشعب اليهودي منذ الهولوكوست” (أي عملية “القسام” في 7 تشرين الأول/أكتوبر) فيستحضر، عمليا، إرث الإبادة الجماعي الذي نفذته العنصرية الأوروبية ضد اليهود، ويعيد تحميله للضحايا الفرعيين، لأسلاف ضحايا تلك الإبادة الأوروبية، في فعل “تطهيري” للعنصرية الأوروبية المشغولة حاليا بصدّ العرب والمسلمين والافارقة عن حدودها.
وقف القتل “أمر غير عادل”
يعادل حضور “حق إسرائيل في الدفاع عن النفس” في هذا الخطاب غياب حق الفلسطينيين في الحياة (تقول النائبة: اعتقد أن السلطات الإسرائيلية تقوم بكل ما يجب لتجنب وقوع ضحايا مدنيين!). وقف إطلاق النار (الذي سيوقف قتل الفلسطينيين)، بالتالي، هو “أمر غير عادل”.
خطاب قائدة المعارضة العمالية في مجلس اللوردات أكثر خبثا من إظهار عنصرية صريحة، لذلك يلجأ لادعاء تمثيل الطرفين (“كلا الطرفين غير مستعد لوقف النار” ـ “إنه حل باتجاهين”) لكنه، عند الجد، يتكشف عن موقف شبيه بموقف المحافظين (“لا يمكن أن يحصل وقف إطلاق نار طالما الرهائن محتجزون” ـ “لذلك إدخال الدعم هو أولوية”) وهو ما يمكن ترجمته على أرض الواقع: لإسرائيل الحق في قتل آلاف الفلسطينيين لإطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين.
يكتسب أهمية هنا، تصريح عن الفلسطينيين، ذكرتنا به الروائية الهندية أرونداتي روي، أطلقه عام 1937 رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، يقول فيه: “لا أتفق مع أن الكلب في وجاره يمتلك الحق النهائي بسكن ذلك الوجار، حتى لو كان موجودا فيه لوقت طويل جدا. لا أوافق على هذا الحق. لا أقر، على سبيل المثال، أن هناك خطأ كبيرا حصل للهنود الحمر في أمريكا أو السود في أستراليا. لا أقر أن خطأ حصل لهؤلاء الناس من حقيقة أن عرقا أقوى، عرقا أعلى شأنا، عرقا أكثر حكمة عالمية، إذا أردنا وضع المسألة هكذا، جاء وأخذ أرضهم”، وهو ما اعتبرته روي المثال الذي قام عليه موقف إسرائيل تجاه الفلسطينيين.
في تفسيرها لتحدّي 56 نائبا عمّاليا في البرلمان لقرار حزبهم عدم التصويت لوقف إطلاق النار، قالت البارونة العمالية إن هؤلاء استمعوا لمطالب ناخبيهم و”نحن استمعنا لمطالب ناخبينا”، وهو أمر لافت حقا، خصوصا مع تذكّر مطالبات بعض أنصار الاتجاه الإسرائيلي في السياسة البريطانية بمنع المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين في بريطانيا (أو على حد قول سويلا برافرمان، وزيرة الداخلية المقالة: الغوغاء الفلسطينيون) “لأنها تبث الرعب في أقلية (يهودية) لا يزيد عددها عن 300 ألف شخص”.
جنوب افريقيا ـ أيرلندا… فلسطين؟
يوضّح تصريح البارونة، بشكل مضمر، أنها لا تعبّر، كما ادعت، عن الطرفين، بل تمثّل، مثل نظيرتها المحافظة، طرفا واحدا (إسرائيل)، فيما يمثّل النواب الستة والخمسون ناخبيهم الذين يتعاطفون مع الطرف الثاني (الفلسطينيون). يبدو تأثير “الأقلية اليهودية”، بهذا المقياس، أكبر نفوذا وتأثيرا جدا من حجمها العددي الذي استخدم كذريعة ضد المظاهرات، لكن المسألة تتسع لتفسيرات إضافية. يمكن لتصريح سولومون المذكور في بداية هذه المقالة أن يضيء بشكل أكبر هذه المسألة، فهو يربط بين حقيقة أن أباه يهودي بريطاني وأمه هندية مسلمة (مهاجرة لبريطانيا من جنوب افريقيا)، وبين موقفه السياسي، الذي يبدأ، بشكل اعتيادي، بإدانة أفعال “حماس”، ثم يشير، في المقابل، إلى أن “كل سكان غزة يعاقبون وهذا لا يمكن أن يكون صحيحا”، ثم لا يلبث أن يستعيد، بطريقة ذكية، ذكر مثالي جنوب افريقيا وأيرلندا، حين كان العالم الغربي يعتبر المناضلين ضد العنصرية الاستيطانية، في جنوب افريقيا، والاحتلال البريطاني لأيرلندا، إرهابيين.
يأخذنا تصريح سولومون، دفعة واحدة، إلى الإشكالية الشهيرة التي تشتبك فيها العاطفة والموقف السياسيين، مع الدين، كما يأخذنا إلى الإشكالية الشهيرة حول مفهوم الإرهاب. تدفع المسألة الأولى السياسة من سماء القوانين والشرع والمبادئ الإنسانية العامة إلى أرض الواقع، حيث تلعب المصالح والأديان والقبائل والمؤسسات أدوارها المؤثرة في إنتاج القرارات السياسية الخطيرة، التي تؤدي للحروب والإبادة والعقاب الجماعي، كما إلى إنتاج خطابات سياسية: يمينية فظة، إجرامية، عنصرية، أو “يسارية”، مخاتلة، تدعي الحياد، وتتحدث باسم الطرفين، لكنّها تؤدي الى النتيجة نفسها للخطابات السابقة.
أنتم إرهابيون ونحن ديمقراطيون!
تفتح هذه المسألة بابا أيضا إلى التفكير بمواقف البشر وقراراتهم وانحيازاتهم: هل يقومون بما يقومون به، ويتخذون قراراتهم السياسية بناء على أنهم مسلمون (أو سنة وشيعة وإسماعيليون وأباضيون) أو مسيحيون (أو بروتستانت وكاثوليك وأرثوذكس) أو يهود أو بوذيون، وهل يمكن أن يكون هناك أمر في السياسة لا يتأثر بالسلف، أو الدين، أو القبيلة، أو الجغرافيا التي جئنا منها؟
خلال لقاء كان مزمعا مع مسؤول أمريكي كبير، رجعت إلى أدبيات الإدارتين الأمريكية والبريطانية حول تصنيف “حماس” منظمة إرهابية، ووجدت في تبرير بريطانيا لتصنيف الحركة، عام 2021، إرهابية، ذكرها أنها خلال نزاع نشب مع إسرائيل في أيار/مايو 2021 أطلقت المنظمة 4 آلاف صاروخ وأن مدنيين قتلوا بينهم طفلان. أما الإدارة الأمريكية فذكرت في أسبابها وقوع “هجمات ملحوظة”، بينها هجوم لـ”كتائب القسام” (الذراع العسكري للحركة) عام 2021 أطلقت فيه 4000 صاروخ، ما أدى لمقتل 13 إسرائيليا. الموقع الأمريكي، على عكس البريطاني، أشار إلى عدد من قتلتهم إسرائيل ردا على مقتل الـ13 إسرائيليا وكان 260 فلسطينيا.
بهذه المقاييس المهولة للنسبة بين الضحايا من الطرفين: 260 فلسطينيا مقابل 13 إسرائيليا، و1200 إسرائيلي مقابل 14500 فلسطيني منذ 7 أكتوبر الماضي (وعداد القتل ما زال مفتوحا) يبدو مصطلح الإرهاب مسيّسا، وينحاز، على طريقة حزبي العمال والمحافظين في بريطانيا، والجمهوريين والديمقراطيين في أمريكا، لصالح إسرائيل لا لصالح التعريف المنطق البديهي للإرهاب، الذي يصف من يقوم بقتل المدنيين لغاية سياسية.
وهو ما يفسّره بوضوح شديد قول للمفكر اليساري (اليهودي) الأمريكي نعوم تشومسكي إن “مأساة الفلسطينيين سببها عدم وجود دعم دولي لهم وذلك لسبب مهم هو أنهم لا يملكون ثروات، ولا يملكون نفوذا وسلطة، ولذلك فهم لا يملكون حقوقا”، معقبا: “هكذا يعمل العالم: حقوقك هي انعكاس لنفوذك وثروتك، وهو ينطبق على سكان الولايات المتحدة الأمريكية فإذا كنت طفلا فقيرا في منطقة روكسبري فأنت لا تملك حقوق الأغنياء الذين يقيمون في الضواحي، والأمر ينطبق على باقي العالم”.
كاتب من أسرة “القدس العربي”
————————-
اعتناق الإبادة الجماعية/ صبحي حديدي
ثمة، ضمن أنساق الانحياز الأمريكي المطلق لحرب دولة الاحتلال الإسرائيلي ضدّ أطفال ونساء وشيوخ قطاع غزّة، وقائع لا يكاد هولها الصارخ يتيح للعقل السليم تصديق وقوعها، فكيف بالبحث عن أيّ سواء إنساني وبشري لتأويل منابعها البغيضة والشائهة والإجرامية. أحدث ما وقعت عليه هذه السطور، ولا ريب في أنّ العشرات سواها قد تفوقها قباحة وبشاعة، الموقف العلني الذي صدر عن ميشيل سولزمان، النائبة الجمهورية في مجلس نوّاب ولاية فلوريدا؛ التي دعت، علانية ونطقاً باللسان خلال اجتماع رسمي إلى قتل جميع الفلسطينيين. الواقعة بدأت حين كانت النائبة آنجي نكسون (الأفرو – أمريكية، للعلم) تلقي خطاباً باكياً حول القصف الإسرائيلي ضد القطاع، فأشارت إلى 10 آلاف ضحية، وتساءلت: “كم من الفلسطينيين سوف يكون كافياً” كي تتوقف المجزرة؛ فجاءتها الإجابة من سولزمان: “جميعهم All of them “!
وحين اتضحت فداحة هذا التصريح، من زاوية كونه دعوة صريحة إلى ارتكاب الإبادة الجماعية، سارعت سولزمان إلى التغريد بأنها (من موقعها كـ”زوجة ليهودي وأمّ ليهودي”، كما كتبت) إنما كانت تقصد “حماس” ولا يمكن أن تدعو إلى “محو جماعة بشرية بأكملها”. وهو التفسير الذي سارعت إلى تلقفه الجهات السياسية والإعلامية ذاتها التي سبق أن حرّضت على النائبة رشيدة طليب وطالبت بمعاقبتها على تصريحات لا تُحيل البتة إلى أيّ تأثيم جماعي لليهود أو حتى للإسرائيليين، فطُوي بالتالي أيّ احتمال لمساءلة سولزمان.
وبصدد الإشارة اليهودية التي ساقتها النائبة الجمهورية، وأنها تمنعها من الدعوة إلى الإبادة الجماعية، قد تصحّ استعادة مقولة شهيرة طرحها الناقد والفيلسوف الفرنسي الأمريكي جورج شتاينر (1929 – 2020): أنّ اليهودي، في تعريفه، هو ذاك الذي سيعجز أبداً (لاحظوا نبرة الإطلاق: أبداً!) عن ممارسة التعذيب، وعن دفن الأحياء، وعن منع الكتب… أياً كانت الأسباب والموجبات. ثمة، في نظر شتاينر، إرث أخلاقي عريق يحول دون قيام اليهودي بأيّ من هذه الممارسات الثلاث؛ فاليهود قبيلة الأنبياء، ورثة الكوارث، وأهل المآسي؛ وهم دُفنوا أحياء على امتداد التاريخ، ولا يعقل أن يدفنوا سواهم؛ واليهودي يقيم في بيت النصّ، أصلاً، وليس له أن يمنع الكتاب.
فيما بعد، ومع ولادة الانتفاضة الفلسطينية الأولى وافتضاح حقائق الممارسات الإسرائيلية في قمعها على نحو يفقأ حتى الأعين حسيرة البصر، اعترف شتاينر بأنّ إسرائيل مارست التعذيب، ودفنت الفلسطينيين أحياء، ومنعت الكتب. وقبل أن ينخرط الرجل في حزن عميق معلَن، كتب يرثي الثمن الباهظ الذي تدفعه اليهودية في انتقالها من طور المعجزة السوداء لحفظ النوع والبقاء، إلى المعجزة الدموية لدولة تعيش بحدّ السيف وحده. هذا عن “الدولة”، وأمّا أنصارها هنا وهناك في أرجاء “العالم الحر”، أمثال النائبة الجمهورية سولزمان، فهم أشدّ تسابقاً على مجاراة نموذج وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش الذي ألقى خطاباً من قلب عاصمة الأنوار الفرنسية، ذكر فيه أنه “لا يوجد شيء اسمه شعب فلسطيني، وينبغي أن يسمعوا ذلك في قصر الإليزيه وكذلك في البيت الأبيض”؛ أو رئيس حكومته نتنياهو الذي رفع من سدّة الأمم المتحدة خارطة للشرق الأوسط خالية تماماً من أية جغرافيا فلسطينية.
وعند عدد من مجموعات الضغط الصهيونية/ الإسرائيلية، في الولايات المتحدة خصوصاً، لا يستقيم أن تكون يهودي الديانة، وأن تمتنع في الآن ذاته عن نصرة دولة الاحتلال، أو حتى أن تلتزم الصمت فلا تساند ولا تدين؛ كما هي حال المخرج السينمائي البارز ستيفن سبيلبرغ، الذي حلّ عليه سخط “مؤسسة الناجين من الهولوكوست ـ فرع الولايات المتحدة”. ولم يشفع للرجل أنه مخرج الفيلم الشهير “لائحة شندلر”، 1994، ألمع نتاجات هوليود في إضاءة سلسلة من الجوانب الخافية حول إنقاذ اليهود من السوق إلى معسكرات الهولوكوست؛ كما لم يخفف من تجريمه أنه وقّع فيلماً ثانياً بديعاً بعنوان “آل فيبلمان”، 2022، توغل فيه إلى بواطن إنسانية معمّقة لآلام سيرة صبا يهودية، ولآمالها.
لا نريد منك فيلماً خاصاً عن 7 تشرين الأول (أكتوبر)، هكذا ببساطة كتب رئيس المؤسسة دافيد شيكتر في رسالته المفتوحة إلى سبيلبرغ؛ ولكن نطالبك “بالإعلان عن موقف ضدّ الإرهاب، وضدّ حماس والملايين التي تحتفي بإراقة الدم اليهودي، وتطلب المزيد”. هنا أيضاً، لا يمكن لمفردة “الملايين” أن تعني “حماس” وحدها؛ بقدر ما تطبّع، ضمناً أو صراحة، مع مفهوم الإبادة الجماعية. وعلى أكثر من نحو، وبطرائق قديمة لا تتجدد إلا من حيث الشكل؛ تستأنف المؤسسة نهج ابتزاز كبار الكتّاب والصحافيين والفنّانين الأمريكيين اليهود، واتهامهم ليس بالتخاذل والخور في الدفاع عن دولة الاحتلال فحسب، بل كذلك بالتهمة العظمى: العداء للسامية! بين هؤلاء وودي آلن، الممثل والسينمائي المعروف، لأنه أعلن العجز عن هضم مشهد جندي إسرائيلي يدقّ بالحجارة عظم فتى فلسطيني أعزل؛ وسيمور هيرش، الكاتب والمحقق الصحافي المعروف، لأنه نبش خفايا الموساد وأسرار التسلح النووي الإسرائيلي في سلسلة مقالاته وتحقيقاته، ثم في كتابه “خيار شمشوم”….
هذا في ماضي الأزمنة، أما اليوم فلم يعد ثمة حرج في اعتناق الإبادة الجماعية جهاراً، وفي تجميل قتل الفلسطينيين؛ جميعهم، وبالملايين!
———————–
عصر الميليشيا: هل يمكن ترميم ثقافة المدن المدمّرة؟/ محمد سامي الكيال
تطرح سيادة الميليشيات، على كثير من المساحات في الدول العربية، وأحياناً على مدن شديدة الأهمية السياسية والاقتصادية والتاريخية، أسئلة كثيرة عن مآلات أي حراك اجتماعي، أو طرح نظري في ظرف كهذا. في النهاية يمكن لسلاح رخيص، يحمله مراهق، أن ينهي كل جدل أو مشروع أو نمط حياة.
لا يمكن اعتبار مفردة «ميليشيا» شتيمة بحد ذاتها، فهي تشير إلى جماعة مسلّحة غير نظامية، والأهم أنها غير دائمة. بمعنى أن عنصر الميليشيا تاريخياً هو فرد غير محترف للعمل العسكري، قد يحمل السلاح في ظروف ما، ثم يتركه إلى حين تجدد تلك الظروف، يوجد لدينا أرشيف قانوني عالمي كبير، لتقنين الميليشيا ضمن أطر الأنظمة الاجتماعية القائمة، منذ «الثورة المجيدة» البريطانية (1688)؛ مروراً بالثورة الأمريكية في القرن الثامن عشر، وما تبعها من تشريعات؛ وكذلك حالة سويسرا، التي تُعتبر معظم قواتها المسلّحة إلى اليوم «ميليشيات مواطنين»؛ وصولاً حتى لتجارب «المقاومة الشعبية» في دول التحرر الوطني.
في كل هذه الحالات كانت القوات غير النظامية خاضعة لسلطة قانونية وسياسية واضحة المعالم، وتبدو مدافعة عما يمكن تسميته «المجتمع المدني» في بلدانها، سواء ضد أي بادرة لعودة استبداد السلطة المركزية، كما في التاريخ البريطاني والأمريكي؛ أو ضد العدو الخارجي. وكانت خشية المشرّعين والسياسيين دوماً انفلات الميليشيات: مَنْ يضمن، وكيف، أن لا يوجّه أولئك المسلحون، أو الحائزون على شرعية حمل السلاح، سلاحهم ضد مجتمعاتهم؟ كان التوجّه دائماً هو بقاء الميليشيا تحت سلطة المجتمع، وبمجرد أن تخرج عنها، تصير ظاهرة خطيرة، مدمّرة للمدنيّة.
إلا أن الحالة العربية تجاوزت كل هذه الإشكاليات، بالمعنى السلبي لـ»التجاوز» فهي تقوم على تأبيد الحالة الميليشياوية، بمعنى أن حمل السلاح لا يعود أمراً «موسمياً» بل دائماً؛ كما أن المسلحين لا يخضعون، ولا يهتمون أصلاً، هم ومؤيدوهم، بأي قانون أو سلطة سياسية أو شرعية مجتمعية، نحن أمام قوات محترفة، في كثير من الأحيان، لكنها ليست في الوقت نفسه جيشاً نظامياً، ولا يمكن العودة إلى أي مؤسسة اجتماعية لمحاسبتها، أو حتى مناقشة قراراتها. ولهذا انعكاسات كبيرة، ليس فقط على الحياة المدينية، بل أيضاً على المفاهيم العامة للسياسة والحق والتواصل الإنساني. يمكن القول إن الميليشياوية دخلت في ثقافتنا المعاصرة، وصارت عاملاً أساسياً في تشكيلها. ما أهم انعكاساتها على مفاهيمنا الأكثر أهمية؟ وهل يكون التفكير بأفق خارج الميليشيا؟
استثناء الأميّة السياسية
لدى البحث عن أي مستند لشرعية الميليشيات، التي قد تكون حاكمة لمساحات ومدن يُعدّ سكانها بالملايين، لن نجد غالباً لدى التنظيمات المسلّحة، ومؤيديها، أي شيء يمكن الاعتماد عليه، اللهم إلا بعض الصيغ الإنشائية، التي تبدو جانباً من حكاية شفوية، حتى لو كانت مدوّنة كتابياً، وتنبني غالباً على ألفاظ لا يمكن الإمساك بها، مثل «شعب» «عدو» «أبطال» شهداء» «دين» «أمة» إلخ. لا يوجد تأطير مؤسساتي لأي من هذه الألفاظ، بل حتى لا يوجد سياق نصّي واضح لتأويل معناها. ماذا يعني «الشعب» مثلاً في حالة مجموعات مسلّحة دينية وطائفية، لا تستند إلى أي صيغة تمثيلية للناس، يمكن الاعتداد بها؟ أو لا تخضع لشرعية وسيادة وقرار الدول، التي تعمل ضمن حدودها؟ بل ماذا يعني ذلك اللفظ عندما نتحدّث عن مسلّحين متطرفين، لا يعترفون بمفاهيم مثل «الشرعية الشعبية» أو «الرابطة السياسية» من أساسها؟
يبدو فتى الميليشيا، بين مؤيديه والمنبهرين به، أقرب لبطل سيرة شعبية شفوية، أو مدوّنة بشكل غير موثّق، يُحِقّ الحقَ ويرفع الظلم، والمعيار الوحيد لفعله، الذي تكون له دائماً عواقب وخيمة على حياة الناس، إحساسه الداخلي بالعدل، ولذلك غالباً ما ينتقل الناس من الانبهار بأولئك «الأبطال الشعبيين» إلى الخوف منهم وكراهيتهم، فحياة البشر، في مجتمعات معقدة، لا يمكن أن تنظّم وفق إحساس داخلي لفتيان مسلّحين. في حالة الميليشيات الأكثر تنظيماً وعقائدية، التي قد تمتلك وثائق تأسيسية منشورة، وأنظمة داخلية، لا يمكن لتلك النصوص أن تصبح قوانين مرجعية للمجتمعات المتنوّعة خارجها، كما لا تعني إلا قليلاً من المنتسبين إلى الجماعة نفسها، وبالتالي تبدو أقرب لتدوينات ذاتية، فيما يدفع البشر، من جديد، أثمان قرارات وإجراءات تلك الميليشيات، التي لا مبرر شرعياً ومؤسساتياً لها، إلا حكايات عن البطولة.
بهذا المعنى، فربما كان تأييد ذلك النوع من الجماعات، مهما بدت حكاياتها مبهرة وعادلة، أقرب للأميّة السياسية، بمعنى شبه حرفي، إذ لا يمكننا أن «نقرأ» فعلاً أي مستند موثّق، حاز نوعا من المصادقة الاجتماعية، يُمكّننا من مناقشة ومحاسبة أفعال وقرارات الميليشيات، التي ستؤثر بالتأكيد على حياتنا واجتماعنا، إلا أن الأمر لا يقتصر على الأمية، فالسرد الغائم، والتدوين الناقص، غير المُصادق عليه بأي آلية شرعية، يجعل من المسلّح، سواء كان «أزعر» أو عقائدياً» أو الاثنين معنا، صاحب السيادة المطلقة، ويجعل حكمه «حالة استثناء» دائمة، تردّ البشر دائماً إلى «الوضع الطبيعي» أي تجعلهم أجساداً انتُزع عنها الحد الأدنى من الضمانات القانونية والأخلاقية، معذّبة وممزّقة، أو جائعة، أو مشرّدة، تبحث عن مساعدات وإغاثة، غالباً يتحكّم بها المسلّحون أنفسهم، ويجعلونها سبيلاً لمزيد من تحويل البشر إلى «أجساد طبيعية» و»حالات إنسانية». ربما يبرر كثير من أنصار الميليشياوية هذا بممارسات العدو، الذي لا يتورّع عن ارتكاب انتهاكات شديدة ضد المدنيين، إلا أن الاستثناء الدائم لم ينشأ بسبب الحرب التي يشنها العدو، بل هو أساس سيادة الميليشيا.
ربما كان الاستثناء الدائم، في حكم الميليشيات، أكثر أشكال السيادة وحشية وعبثية في الوقت نفسه، فإذا كان جانب من النظرية السياسية المعاصرة، يعتبر الاستثناء «معجزة» السيادة، المتضمنة في قلب القوانين الحديثة نفسها، فإن استثناء الميليشيات، التي لا قانون لها، مهزلة السيادة، التي تجعل من مجرّد الإحالة إلى حكايات مبتذلة، مبرراً لتدمير حياة البشر.
مجتمع الإغاثة
بالمقارنة مع الأمثلة التاريخية عن الميليشيات المقوننة، التي دافعت عن «المجتمع المدني» أي بعبارة أخرى: العالم البورجوازي الناشئ، بملكياته الخاصة وتنظيماته الاجتماعية والنقابية والمهنية، ضد سلطة مركزية مستبدّة، فإن الميليشيات، التي نشأت في ظرف خراب المدنيّة العربية، تمنع نشوء أي «مجتمع مدني» ليس فقط بسبب ممارسات «أمراء الحرب» المعروفة، مثل فرض الإتاوات والغرامات ومقاسمة البشر أرزاقهم، بل أيضاً لأنها تنتعش في «حالة الطوارئ الإنسانية» أي في مجتمعات بحاجة دائماً لإغاثة خارجية؛ وتسعى لإدامة تلك الحالة، التي تؤمّن لها موارد سهلة لا تنقطع. عندما تكون مسؤولاً عن منطقة فيها كثير من «الحالات الإنسانية العاجلة» التي تتحرّك لأجلها منظمات دولية وحكومات بلدان مجاورة، فإنك ستسيطر على اقتصاد كامل من التبرعات المالية؛ المشاريع الإنمائية؛ المساعدات العينية؛ وكذلك ستوفّر مصدراً غنيّاً للعملة الصعبة.
يمكن إضافة اقتصاد المساعدات هذا إلى مهزلة الاستثناء الدائم، الذي ينشئ نوعاً مستجدّاً من العلاقات الزبائنية بين الميليشيا ورعاياها؛ كما يؤمّن «موارد بشرية» مهمة من المقاتلين الجدد، وهم غالباً مراهقون فقراء، يجدون في الجماعات المسلّحة الحلّ الأمثل لمعاناتهم المادية، ومعاناة عوائلهم. بناء على هذا فإن حكم الميليشيات لا مصلحة له غالباً بتغيير صورة الحياة في مناطقه، إذ أن نموذج الأطفال، الجائعين، المصدومين، والمتكدّسين في مؤسسات تعليمية ضعيفة الإمكانيات، يستجلب كثيراً من الإغاثة من جهة؛ ويُبقى البشر في حالة تحفّز دائم، لخدمة معارك الجماعات المسلّحة التي لا تنتهي.
ضد المعركة
ليست كل معارك الميليشيات وهمية، فهي في أحيان كثيرة تنشأ لمواجهة سلطة استبدادية، أو ممارسات دول محتلّة، إلا أنها، عندما تكون خارجة عن سيادة المجتمع، تزيد من معاناة الناس، وتجعل اضطهادهم مركّباً: العدو الخارجي والمسلّح الأهلي. وهي فعلياً تمزّق مجتمعاتها، بدلاً من أن تدافع عنها.
ولذلك فقد يكون رفض حروب الميليشيات، مهما كانت «عادلة» أساساً لأي فعل يهدف جديّاً لمواجهة العدو، إذ لا معنى لأي مواجهة ما لم تكن لأجل المجتمع، ولأجل انتزاع حقوقه السياسية والاجتماعية، وأولها سيادته على حيّزه الحياتي، والقرارات المصيرية، التي ستؤثر عليه وجودياً.
يتطلب هذا نوعاً من إعادة بناء «الشرعية الشعبية» وهي ما يميّز المقاومة عن الميليشيا، ولذلك سعت كل حركات التحرر الوطني ومقاومة الديكتاتورية الفعّالة إلى اكتسابها. وبالتالي فإن ترميم المجتمع في وجه الميليشيا، ورفض تسلّطها، وحالة الاستثناء الدائم الذي تفرضه، هو فعل المقاومة المبدئي ضد العدو.
ربما كان ذلك صعباً في وضعية الخراب الشامل، الذي يشهده كثير من المدن العربية، إلا أنه يظل خياراً أكثر «واقعية» للبشر، من أن يظلوا مجرد ضحية لحروب لا تنتهي، وبلا أي أفق.
كاتب سوري
القدس العربي
—————————-
إنسان يونسكو و«البقرة المقدسة»!/ حسام الدين محمد
طابق سلافوي جيجك، الفيلسوف السلوفيني، ما سماه «أول المبادئ الرسمية» للحكومة الإسرائيلية الحالية، الذي يقول إن «للشعب اليهودي حقا حصريا وغير قابل للتصرف في جميع أجزاء أرض إسرائيل» مع تصريح صدر عن إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» بعد هجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر يقول فيه للإسرائيليين: «اخرجوا من أرضنا. اغربوا عن وجوهنا. اخرجوا من قدسنا من أقصانا. لا نريد أن نراكم فوق هذه الأرض. هذه الأرض لنا، والقدس لنا والكل لنا». (نهاية التصريح التي لم يذكرها جيجيك هي: «أنتم طارئون على هذه الأرض الطاهرة المباركة. ولا مكان ولا مقام لكم»).
اعتبر جيجك أن إسرائيل «تتحول إلى دولة ثيوقراطية» وأن «من السخف لوم الفلسطينيين لرفضهم التفاوض «معها لأن برنامج حكومتها» يزيل المفاوضات من على الطاولة». الخلاصة، حسب جيجك، هي أن «حماس والحكومة القومية المتطرفة في إسرائيل، يعارضان أي خيار للسلام» وأن ما يحصل هو صراع بين «الأصوليين من كلا الجانبين».
كان طبيعيا أن يتعرض جيجك، الذي ألقى خطابه في افتتاح معرض فرانكفورت للكتاب، لصيحات استهجان، يمكن أن نفترض أن مبعثها رفض بعض الحاضرين مقارنة إسرائيل بحركة «حماس» وبالتالي، مقارنة الدولة التي يعتبرها «العالم الغربي» جزيرته الديمقراطية والحضارية في بحر ديكتاتوريات «الشرق الأوسط» مع الحركة المصنّفة تنظيما إرهابيا في جلّ ذلك العالم الغربي، أي مقارنة الإسرائيليين، الذين جاءت نسبتهم الغالبة من يهود أوروبا نفسها؛ مع الفلسطينيين، العرب والمسلمين، من «السكان الأصليين» كما هو حال الهنود الحمر بالنسبة لأوائل المستعمرين الأوروبيين في أمريكا، أو «الأبوريجينال» في أستراليا ونيوزيلندا، أو السود في جنوب افريقيا، أيام حكم العنصريين البيض.
من روما إلى العثمانيين
تحفل سردية إسرائيل بالعناصر التي تفصلها وتفاضلها عن محيطها العربي ـ الإسلامي. يتضافر في هذه السردية التاريخ الدنيوي للكولونياليات والاستيطانات الغربية، مع عناصر المقدس في المخيال اليهودي ـ المسيحي عن الأرض التي وعد الله بها «الشعب المختار» أو «الحروب الصليبية» التي اجتاحت المنطقة العربية، ويمكن أن تمتد إلى حفريات الصراع على البحر المتوسط بين روما وقرطاجة، والفتح العربي للأندلس والقسطنطينية، ووصول العثمانيين إلى وسط أوروبا. هناك، فوق كل ذلك، تفريعات إضافية خاصة بدول غربية بالذات، كما هو حال ألمانيا، التي أصبحت «المحرقة» النازية لليهود، جزءا من معمارها التأسيسي المضاد، الذي يجمع بين العقلاني واللاعقلاني الذي يفسر كيف أيقظ الهجوم الأخير على إسرائيل «طوفان» مشاعر الإثم التي تم توظيفها، في مفارقة سوداء، في تبرير، ما اعتبرته الفيلسوفة اليهودية الأمريكية جوديث بتلر «إبادة جماعية» لسكان غزة. خط التماهي الأمريكي – الإسرائيلي، لا يقتصر على مستعمرات المستوطنين الإنكليز في الأرض القاريّة المفتوحة، التي تحوّلت إلى «الولايات المتحدة الأمريكية» ولا على «العهد القديم» الذي أعادت طوائف البروتستانت الأمريكية تشغيل طاقاته في المجالات السياسية والأدبية وحتى العلوم الطبيعية والإنسانية.
في خضمّ الهياج الغرائزي واللاعقلاني الغربي (المعطوف على «عقلانية» العنصرية والسياسات المناهضة للمهاجرين) الذي تكشّف بعد هجوم «حماس» الأخير، هناك فائدة مرتجاة لمقاربات هؤلاء الفلاسفة، باستخدام مبدأ المقارنة التي تقيّمها بتلر بين «الهولوكوست» اليهودي، و»الإبادة الجماعية» للفلسطينيين، وحتى مساواة جيجك بين «أصوليي الطرفين».
كل شيء يتعلق بالعرق!
مثلها مثل التفوّق الكاسح للعالم الغربي عسكريا، لاحظنا «تفوقا ناريا» كبيرا للسردية الإسرائيلية، ضمن المجال الغربي، لكن هذا التفوّق، الذي كان تأسس على العقلانية والتحليل البارد والمقارنات الصلبة، وجد مجالا للحتّ والتفكيك بتوسيع المقارنات وجعلها أكثر برودة وصلابة.
في رواية «تاتكرد أو حملة صليبية جديدة» يقول بنجامين دزرائيلي «إن كل شيء يتعلق بالعرق». كان ذلك إعلانا أدبيا عن اكتساح نظرية الأعراق، لفترة تاريخية طويلة، للسياق المعرفي الغربي، حيث صارت، كما يقول كنان مالك في كتابه «إنسان، وحش وزومبي» تفسيرا لكل شيء، وحلا لكل المسائل: من أسباب حصول الجرائم، إلى تفسير أصول «المتوحشين» في افريقيا وآسيا، ومن العلاقات بين الطبقات، إلى تفسير ذهنيات البشر، ومن تحليل النظم السياسية إلى مصائر المجتمعات البشرية. تعرضت هذه «النظرية» إلى انحسار بعد التداعيات الكبرى لصعود وانهيار النظم الفاشية والنازية، التي شكلت فيها الحرب العالمية، وحدث الهولوكوست، موقعا تأسيسيا، وكان دخول مصطلح العنصرية في التداول اللغوي بعد الحرب انعكاسا لرفض استخدام الأعراق للتمييز بين البشر.
انبثق عام 1946، ما يسميه الكاتب البريطاني كنان مالك، «إنسان يونسكو» حين أسست منظمة الأمم المتحدة للثقافة والتعليم العلمي، تحت إشراف عالم الأحياء جوليان هكسلي. لقد كانت الحرب العالمية، كما قال مؤتمرها التأسيسي، «ممكنة بسبب إنكار المبادئ الديمقراطية للكرامة، والمساواة، والاحترام المشترك للبشر». في بيانها الأول حول الأعراق، في 18 تموز/ يوليو 1950، قالت المنظمة إن «العلماء توصلوا إلى اتفاق عام بالمصادقة على أن الجنس البشري واحد». يمكن الجزم، ودون مجازفة منطقية، أن ما يحصل في قطاع غزة حاليا، هو مصادقة غربية على أن الجنس البشري غير واحد، وأن عدم وجود معارضة حقيقية وكافية لهذا الانهيار للمنطق الإنساني، ضمن النخب الغربية، دليل على مأزق كبير لها، وللجنس البشري.
هل يموت السم بموت البهيمة؟
يقدّم ريجيس دوبريه، في «نقد العقل السياسي» هذه الصورة البلاغية التي أجدها شديدة التعبير عما يحصل حاليا: «عقارب المعرفة نفسها يجن جنونها ما أن تقع في حقل مغناطيسي. هو رعب «مرضي» يصيب «الأيديولوجيا». يصف المفكر الفرنسي أعراضا نجدها واضحة حاليا: «الإيحاء بالعار بدل الدعوة إلى التفكير، والإحباط بدل الإقناع، والتذكير عن طريق التصوير بدلا من الشرح بالحجج ـ تلك هي الأمارات الجلية للخطاب المقدس» وحتى الخطب المناهضة لعنف الخطاب «بالغة العنف» حيث لا أثر لتحليل النصوص، أو لإعادة بناء الوقائع، أو لتقويم البراهين. الخطاب التسلطي هو «فضيحة منطقية». يضع دوبريه إصبعه على الاستعمال المخاتل للأيديولوجيا (وهي في رأيي على ما يجري حاليا، نظرية الأعراق) بقوله إن من المنطقي في عصر الفاشية ومعسكر الاعتقال «حيث تنفذ الفظاعة بمصطلحات الأيديولوجيا أن تهاجم «البهيمة الجديدة» لكن ليس مؤكدا أن يموت السم بموت البهيمة، إلا إذا أحلت النتيجة محل السبب».
لا يمكن المماراة في دور النازية، التي استخدمت مقولة «تفوق الآريين» لإبادة اليهود، أو الستالينية في إبادة البورجوازيين والفلاحين «الرجعيين» في صلب أسباب اندفاع اليهود نحو فلسطين، لتتحد اشتراكية الكيبوتزات، مع التطهير العرقي للاستعمار الأوروبي. لكن المفارقة كانت في صيرورة «الدولة اليهودية» حارسة لغيتو ومعسكر اعتقال كبير يسمى «قطاع غزة» وأن تعيد إسرائيل، في حلف مع الديمقراطيات الغربية، استخدام سمّ العنصرية، لتنقلب «البهيمة» القديمة، إلى «بقرة الغرب المقدسة» التي في إمكانها الانتقام لألف وأربعمئة من قتلاها، بإرهاب دموي متواصل لا أحد يعرف حده الأقصى لآلاف الأطفال والنساء والرجال. السم العنصري، بهذا المعنى، لم يمت بموت «البهيمة» الهتلرية، وها نحن نراه، منفلتا في موجة الجنون الغربية ـ الإسرائيلية.
كاتب من أسرة «القدس العربي»
——————
خطر السياسة: لماذا تصير القضايا العامة «مسألة شخصية»؟/ محمد سامي الكيال
أدت الأحداث الأخيرة في فلسطين المحتلة، وما رافقها من مجازر إسرائيلية دموية، إلى تصاعد التوتر في جدالات الحيز العام في دول العالم العربي، التي لا ينقصها الاحتقان بالأصل. إذ تزايدت الاتهامات، بالتخاذل والخيانة والمزاودة، وبات كل وجهة نظر أو أسلوب تعبير محفوفاً بالمخاطر، ومودياً بصاحبه إلى عواقب، قد تكون صعبة، مثل الوصم والتشهير والمقاطعة.
ربما كان هذا متوقعاً في زمن الحروب والاضطرابات الاجتماعية الكبرى، وقد شهدته الدول نفسها إبان ما يعرف بـ«الربيع العربي» حين نُشرت «قوائم عار» لشخصيات عامة، اعتُبرت مؤيدة للأنظمة القائمة، أو متواطئة معها؛ وهو يشير إلى مدى ارتباط الأحداث السياسية بالحياة اليومية للبشر المنتمين للمنطقة، حتى لو وقعت تلك الأحداث في مكان بعيد نسبياً، فقد يؤدي حدث يجري على الأراضي الفلسطينية إلى تغيرات كبيرة في حياة فرد، يعيش في مصر أو الجزائر أو حتى أوروبا.
هذا يعني أن السياسة تؤثر أيضاً في العلاقات الشخصية، إذ يتصاعد الغضب والشعور بالخذلان والألم الذاتي، تجاه مواقف الآخرين من القضايا العامة، ما يؤدي في كثير من الأحيان إلى قطع علاقات، كانت مترسّخة، وإعادة اكتشاف الأفراد لـ»حقيقة» أصدقائهم وأحبتهم. هنالك تفسير تقليدي يعيد سبب ذلك إلى أن «العرب» لم يتربّوا في ثقافة تعلّمهم تقبّل الآخر، والرأي المخالف، إلا أن هذا القول لا يراعي كثيراً من العوامل، ومنها الآثار الصعبة، والمادية، المترتبة على كل موقف سياسي واجتماعي في العالم العربي، التي تصل، في بعض الأحيان، إلى القتل بناء على الموقف، أو حتى الهوية. ليس «الرأي» ترفاً في بلداننا، والنزاعات الاجتماعية لا تحدث في سياق مناقشات فكرية، ضمن مؤسسات حيّز عام ديمقراطي مترسّخ. بالطبع لن يكون المرء سعيداً عندما يسمع آراء يعتبرها مساهمة في ترسيخ أوضاع اجتماعية وثقافية يرفضها، ويرى أنها تؤثّر في حياته ومستقبله؛ فما بالك إن سمع من يبرر مجارز أو اضطهاداً منظّماً بحق فئة معينة من البشر، قد يكون منتمياً إليها، أو تربطه بأفرادها علاقات جيرة ومحبّة، أو حتى يشعر تجاهها ببديهيات التضامن الإنساني، وبالتالي فليس لـ»حرية الرأي» هنا معيار مُتفق عليه، وقد تكون مقدّمة لأحداث رهيبة، أو تذكيراً بها. فهل الجدل والتواصل مستحيل في بلدان وثقافات تشهد كل تلك الصراعات الدموية؟ وكيف صارت السياسة والقضايا العامة خطيرة علينا لهذه الدرجة؟
البيولوجية المفرطة
أثار إبراهيم الأمين رئيس تحرير جريدة «الأخبار» اللبنانية، كثيراً من اللغط والغضب، في حديثه لقناة «الجديد» عندما قال إن غزة ستعوّض شهداءها بسرعة، لإن هنالك حالياً خمسة آلاف امرأة غزاوية حامل. بالتأكيد تحمل هذه التصريحات نظرة دونية للنساء، ولحياة البشر عموماً، الذين يبدو أنهم قابلون للاستبدال والتعويض ببساطة، حسب منظور الأمين. إلا أن هذا القول أيضاً يشير إلى ثقافة سياسية كاملة، لم يبتكرها الصحافي اللبناني، ولا تعبّر عن شخصه فقط، بل حاضرة في كل نزاع اجتماعي في الدول العربية، وهي إحالة السياسة ليس فقط إلى المستوى الهوياتي، وإنما أيضاً إلى المستوى البيولوجي، فالبشر يبدون دائماً كتلاً من اللحم، انتُزعت عنها كل الضمانات الحقوقية والأخلاقية، نسمع عنهم بوصفهم أرقاما في الحروب، وفي الإحصائيات الديمغرافية، وليس بوصفهم مجموعات سياسية متنوّعة ومتعددة، تتداول شؤونها العامة، في السلم والحرب، بما يتناسب مع رؤاها ومصالحها.
لا يقتصر ذلك على قضايا الحروب العرقية والطائفية، وتبعاتها الكارثية، وإنما يمتد ليشمل مسائل سياسية واجتماعية مختلفة، ومنها الاعتقال السياسي، أوضاع النساء، بل حتى التعليم والإعلام، إذ أن كثيراً من الممارسات في بلداننا تنتج أجساداً معذّبة، ومعرّضة للعنف الأسري والمؤسساتي والذكوري، بما يجعل تلك الممارسات منطبعة على الجسد. وبالتالي فقد نتفهّم توتر البشر في كل نقاش: إنها أجسادهم نفسها، التي تضطرب لدى تخيّل الألم الآتي. الرد إلى الحالة البيولوجية المفترضة، أو بعبارة أخرى «الوضع الطبيعي» ليس مجرد ممارسة استثنائية في البلدان العربية، بل هو القاعدة، سواء كانت مُتضمّنة في القوانين، مثل قوانين الطوارئ والأمن الداخلي، وقوانين الأسرة والأحوال الشخصية؛ أو كانت حاضرة في الأوضاع التي يغيب عنها القانون تماماً. وكثيراً لا يبقى للناس سوى شبح القانون الدولي، ورحمة «المنظمات الإنسانية» خاصة عندما يصبحون نازحين، تخلّت عنهم حتى حركاتهم السياسية «الوطنية». كما أن أغلب أنصار الصراعات العرقية والدينية يعوّلون دوماً على البيولوجيا: سيتكاثر أبناء عرقنا وديننا، أو يحلّون بأرض جديدة، بما يكسبنا النصر. هنا يصبح التوتر من الآخر بيولوجياً بدوره.
ارتباط السياسة بالشؤون الحيوية، معروف ومدروس باستفاضة، بل قد يكون أحد أهم قضايا النظرية السياسية، فالدول تُعنى بالقضايا الحياتية لسكانها، مثل نسب الولادات، الصحة، مستوى الحياة، والسلوك الجنسي «السوي» وترى ذلك من أولى تعبيرات سيادتها وهيمنتها، إلا أن الحال في الدول العربية يتعدّى ذلك إلى ما يمكن تسميته «البيولوجية المفرطة» فالبيولوجيا هنا ليست اهتماماً لمؤسسات متخصصة فحسب، وفي قضايا محددة، وإنما يُخاض معظم الصراع المحتدم على الجسم الإنساني نفسه، من العلاقة مع الدولة، مروراً بقضايا الإغاثة والمعونات، وصولاً إلى ملابس النساء. كيف سنتحاور إذا كان معظم الأشياء متعلّقة بأجسامنا؟ إذا أيّد المرء مقاومة الاحتلال والأنظمة الديكتاتورية، فسيكون للأمر نتائج وخيمة على السلامة الجسدية لآلاف البشر؛ وإذا كانت له وجهة نظر في الرواية المؤسِّسة للدولة، وما يُشتق منها من مصادر تشريع وقوانين، فإن لذلك آثاره على حضور أجساد البشر في الحيزين العام والخاص، وما يُعتبر حقوقها ومساحاتها؛ وإذا أيّد حقوق فئة اجتماعية ما، فقد يساهم في اضطرابات وردّات فعل، ستؤثّر أيضاً على الأجساد. ربما كان هذا أحد أسباب لجوء كثير من المتحاورين والمتحدثين إلى الصيغ العامة والتلميحات، وتجنّب كل من الأمثلة الملموسة، والمفاهيم المنضبطة، فهي قد تصيب جسداً ما.
مشكلة المعيار
ربما كان بالإمكان تجنّب جزء كبير من الحساسية الجسدية، حول القضايا العامة، بوجود معيار واضح، مُتفق عليه، لحرمة الجسم الإنساني، وضرورة الحفاظ عليه، وعلى الحد الأدنى من حرياته، فإذا كانت معظم المسائل السياسية لها انعكاساتها البيولوجية، وفي كل المجتمعات والأزمنة، فإن الحل للخروج من هذا التهديد هو إبعاد «السياسي» عن كل ما يبدو طبيعياً أو بديهياً أو عضوياً.
بمراجعة معظم «القضايا» التاريخية في العالم العربي، سنجد أنها ملتصقة بـ»الأرض» والطبيعة والجسد أكثر من اللازم، بل كثيراً ما تعمل البلاغة الأيديولوجية السائدة على إنتاج استعارات، تشبّه الأرض بالجسد، أو العكس، وغالباً ما يكون التشبيه محمّلاً على الجسد الأنثوي؛ كما ترفض «القضايا» غالباً كل المعايير الأساسية، للفصل بين الجسدي/الطبيعي والسياسي. نحن نقاتل العدو بأجسادنا ولحمنا؛ ولا يهمنا الموت؛ وكل أطفالنا القتلى أو المختفين يمكن تعويضهم بسرعة؛ أما النساء فلا بأس بضبطهن وتأديبهن لأجل الحفاظ على القيم.
في كل الأحوال، ربما لا يمكن للمتحاورين أن يعودوا أصدقاء، ما لم يتم الاتفاق على معيار تحييد الجسد، ليس فقط في النزاعات الاجتماعية الداخلية، والمشاريع السياسية المتنافسة، بل أيضاً أثناء مواجهة العدو، فالبشر يجب أن لا يكونوا مجرد أجساد تمزّق وتجوّع لأجل أي قضية متعالية عليهم، بل الأجدى أن توظّف كل قضية لحماية أجسادهم من الانتهاك محتمل، وأن يضع حاملو القضايا ذلك على رأس أولوياتهم.
خارج البيولوجيا
قد يكون لكل ذلك التوتر في العالم العربي بعض الإيجابيات، فملايين البشر لا يرون الاهتمام بالسياسة مجرّد ترف، بل قضية يومية لا بد من متابعتها، وتكوين رأي فيها. يؤدي هذا بالطبع لكثير من الشعبوية والتطرّف والآراء القمعية، ولكنه، من جهة أخرى، قد يعطي أملاً، ولو ضعيفاً، في تنظيم جدل جديد مستقبلاً، وسط جمهور واسع، شديد التسيّس، رأى كثيراً من تقلّبات السياسة والتاريخ. ربما، من منظور مُصرّ على التفاؤل، يمكن القول: فليتشاجر الناس اليوم، وليقطعوا علاقاتهم الشخصية، ولكنهم غداً، ومع توالي الأزمات والكوارث، سيجدون أنفسهم مضطرين للتواصل مجدداً، وعندها سيكتشفون أهمية المعايير، التي تجنّبهم التهديد الجسدي، وخسارة الحقوق الأساسية. وقد يتعب الناس يوماً من تأييد أنصار الحروب العبثية، والقتل العرقي والطائفي، ومنتهكي الحريات الأساسية، وساردي روايات البطولة، التي لا تأتي بأي نتيجة، ويعيدون بناء معانٍ جديدة لـ»الواقعية» و»العقلانية» المجتمعية. وربما لا يتعبون، ولدينا كثير من الأمثلة عن ذلك في دول عربية عاشت الويلات، ولكن «أبطالها» لم يكفّوا عن عنترياتهم، وإيجاد المؤيدين لها، تساعدهم على هذا بنى اقتصادية واجتماعية مترسخة. إلا أنه لا شيء محسوم سلفاً في السياسة، إذا أصررنا على فصلها عن «الطبيعة» ولذلك فلا بأس من المحاولة.
كاتب سوري
القدس العربي
——————————
========================
المدن
—————————–
معاداة السامية..تهمة من لا تهمة له/ سلام الكواكبي
الإثنين 2023/11/27
منذ العملية العسكرية التي قامت بها حركة حماس في العمق الإسرائيلي، عادت تهمة معاداة السامية وبقوة الى المشهد السياسي الفرنسي. وبعد أن اعتبر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سابقًا بأن معاداة الصهيونية ما هي إلا طريقة ملتوية يريد مستخدمها إخفاء معاداته للسامية، صار هذا الخلط الرئاسي، الذي إن لم يُشر الى سوء نية في الاجتهاد اللفظي، فهو يدل على جهلٍ في القراءة السياسية وفي التحليل التاريخي، نبراسًا سرديًا لكل المدافعين عن السياسات الإسرائيلية من نخب سياسية ونخب ثقافية.
وفي حديثه مع احدى المحطات التلفزية الفرنسية التي تروّج للسياسات الإسرائيلية، واجهت المحاورة ناطقًا باسم مسجد باريس برقم مرتفع سجلته الأجهزة الأمنية للعمليات التي يمكن اعتبارها معادية للسامية، فما كان منه إلا أن استغرب الرقم مشيرًا إلى جهله به ومؤكدًا إدانته. هذا الاستغراب دفع محاورته الى التلميح بأنه يريد أن ينفي وقوعه او أنه يُشكّك بحجمه. وقد ضجّت مختلف وسائل الاعلام بإجابة الناطق وصار دريئة يُرمى عليها مختلف أنواع القذائف الاتهامية والتنديدية على اعتبار أنه، ومن منطقٍ إسلاموي، يُشكّك بالرقم وبالتالي فهو من المعادين للسامية. واضطر المذكور بأن يعتذر عن سؤاله الاستفهامي مبررًا إياه بجهله بالرقم الحقيقي ونافيًا عن نفسه أي نيّة للتشكيك.
دومينيك دو فيلبان، رئيس الوزراء السابق، وصاحب الخطاب الأخلاقي المشهور رفضًا للغزو الأميركي للعراق أمام مجلس الأمن الدولي سنة 2003 حينما كان وزيرًا للخارجية، خرج في أكثر من مقابلة يحاول أن يضع الأمور في نصابها بعيدًا عن سعي جميع المعلقين والسياسيين الى اعتبار تاريخ الصراع قد بدأ في السابع من تشرين الأول / أكتوبر. وقد ذكّر بتاريخ الصراع وبفشل كل عمليات السلام وبطبيعة قطاع غزة الذي اعتبره سجنًا بسماءٍ مفتوحة. وعلى الرغم من اعتباره أن العملية العسكرية التي قامت بها حماس هي جريمة حرب، إلا أنه لم يسلم من الهجوم اللاذع من قبل محاوريه وضيوفهم الذين، وإن لم يتهموه بجلاء بمعاداة السامية، إلا أنهم ألمحوا إلى ذلك بشكل موارب. كما اتهمه محامٍ صهيوني قريب من إدارة نتنياهو وله تعليق يومي على التلفزة الفرنسية، بأنه مقرّب من الدولة القطرية وهذا ما يدفع به لمثل هذا الموقف.
في حين أن مائير حبيب، وهو نائب عن مقعد الفرنسيين في الخارج وعضو حزب الجمهوريين وصديق شخصي لكل القادة المتطرفين في الحكومة الإسرائيلية، صار يوزع الاتهامات بمعاداة السامية يوميًا ضد كل من تخوّل له نفسه بأن يندد بالقصف الوحشي الإسرائيلي على المدنيين، جاملاً السياسيين والكتاب والصحافيين والفنانين إن هم تجرأوا. ومن آخر إنجازاته التي فضحت جانبًا له دلالاته، وكان مخفيًا في تركيبة مجلس النواب الفرنسي، علّق على تقديم صحافية له بأنه يحمل الجنسيتين الإسرائيلية والفرنسية، بأن هناك ستين نائبًا فرنسيًا سواه ممن يحملون أيضًا الجنسية الإسرائيلية. ولا يشعر هذا النائب “الفرنسي” بأي حرجٍ في حصر كل مداخلاته النيابية وأسئلته الموجهة الى الحكومة، ومنذ انتخابه، بالشأن الإسرائيلي وبضرورة تخلي فرنسا أكثر عن سياساتها الشرق أوسطية التي تميّزت نسبيًا بها خلال عهدي فرانسوا ميتران وجاك شيراك، والتي يعتبرها حبيب بأنها عزّزت من ارتفاع معدلات معاداة السامية في المجتمع الفرنسي.
من جهة أخرى، وعلى الرغم من استسهال استخدامها إعلاميًا، تبين لرجال القانون الفرنسيين بأن تهمة معاداة السامية، وهي تهمة خطيرة إن ثبتت يمكن لها بأن تودي بمستقبل من تلقى عليه وظيفيًا ومجتمعيًا، صعبة الاثبات إن لم تكن صريحة المعاني. وقد دفع هذا التنويه القانوني بوزير الداخلية جيرار دارمانان للميل نحو استخدام تهمة أخرى يمكن الاجتهاد بإثباتها، وهي تهمة التحريض على الإرهاب أو “مديح الإرهاب”. وتحت هذه المظلة الواسعة يمكن ادراج أي تعبير يميل من خلاله صاحبه الى أن يعتبر حماس هي حركة مقاومة او ان يشير الى حجمها السياسي والشعبي في تحليلٍ مجردٍ من أي موقفٍ مؤيد.
إيمانويل فالس، رئيس وزراء اشتراكي سابق ومرتمي في أحضان جميع القوى السياسية التي يمكن لها ان تستوعبه انتخابيًا أو منصبيًا، برر ضرورة منع التظاهرات التضامنية مع الشعب الفلسطيني في حوارٍ متلفزٍ بأن شعار “الموت لليهود” منتشر فيها. وقد ثبت بالدليل القاطع وعبر شهادات رجال الشرطة حتى بأنه يكذب، ولكنه لا يعتذر.
وبعد أن ندّدت أحزابٌ عدة بمسيرة تضامنية قامت منذ سنوات ضد الرهاب من الإسلام مشيرة إلى ضرورة إدانة الشخصيات اليسارية الفرنسية التي شاركت بها، تتبنى الدولة الفرنسية مسيرة تندد بمعاداة السامية خرجت منذ أيام، تسابق وتزاحم وتناطح جميع مسؤولي البلاد للبروز في صورها وفي الصفوف الأولى. وامتنع حزب فرنسا الأبية وكثير من المتضامنين مع الشعب الفلسطيني عن حضورها مبررين ذلك بأن هدفها ليس فقط التنديد المشروع بعنصرية دينية مقيتة، بل هو دعم دولة إسرائيل. وقد اعتبر القائمون عليها بأن كل من لم يشارك فهو معادٍ للسامية. معاداة السامية صارت تهمة من لا تهمة لهم.
———————————–
تساؤلات سورية لا تنتظر أجوبة/ صبا مدور
الأحد 2023/11/26
في اليوم الثاني للهدنة في غزة، قتل قصف جوي شنه النظام السوري عشرة مزارعين وهم يقطفون ثمار الزيتون في إدلب، ولم يكن الحدث استثنائيا في وقعه الإجرامي، فليس في سوريا سوى جرائم على رؤوس الأشهاد منذ 12 عاما، لكنه جاء فارقا في توقيته، وأوجب طرح أسئلة صعبة وجدها السوريون مشروعة ورآها آخرون محرجة و (تستحق التأجيل) ما دامت حرب غزة مستمرة، ولا ينبغي التشويش عليها بطرح قضايا سواها.
يسأل السوريون عن مفارقة تضع قاتليهم في سياق المقاومة، وما إن كان هذا التوصيف سيخذلهم من جديد، بعدما فشل الجميع في نصرتهم ووقف الجرائم ضدهم أولا، ثم جاء وقت تطبيع العلاقات الرسمية مع نظامهم القاتل، قبل أن يواجهوا اليوم نزوعا لغسل جرائم النظام وداعميه الايرانيين وأذرعهم مقابل تعلق هؤلاء بأذيال المقاومة من دون أن يكون لهم أي فضل على الأرض في غزة.
إنهم يتساءلون، ما إن كان مئات الآلاف من شهداءهم الذين قضوا في جرائم حرب طائفية بغيضة على يد النظام والأذرع الإيرانية، وما إن كان تهجير الملايين، وبين هذا وذاك جرائم تغييب وتعذيب وإعدامات ميدانية وتغيير ديموغرفي واسع النطاق، ما إن كان كل ذلك، لا يستحق اتخاذ موقف من مجرم واضح المعالم، وجريمة مكتملة الأركان، لمجرد وهم بأن ذات المجرم، يمكن أن يكون نبيلاً ونزيهاً وداعماً للحق في مكان آخر ولو كان في فلسطين.
ويتساءل السوريون أيضا، عن ماض مشرف بذلوه في دعم فلسطين وقضيتها، منذ عزالدين القسام، مرورا بآلاف الشهداء الحقيقيين الذي قضوا في سبيل فلسطين أو على أرضها، من دون أن يهتم منهم أحد بتخليد اسمه، أو يزايد على القضية الفلسطينية للحصول على مكاسب سياسية، على العكس تماما من نظامهم الذي طالما تاجر باسم فلسطين فيما كان هو من أكبر المجرمين بحقها، حتى جاءت إيران لتـسبقه في فن المزايدة والمتاجرة الرخيصة وبالقتال بأذرع غيرها ولمصالحها هي فقط.
هل لهذه التاريخ السوري الشعبي المشرف من أثر ما في تقرير رؤية من يصيبهم الحرج وربما الانزعاج، وأحيانا العدائية كلما تحدث سوري عن (قاتلنا الذي تكيلون له المديح) وعن (ضحايا الجرائم الذين لا ينبغي أن يصيبهم التمييز) وعن (صديق صديقي) الذي يريدون له ان يكون صديقي رغما عني، فيما لاتزال دماؤنا تسيل من خناجره، وما زال ينشر ميليشياته المجرمة لتنهب أرضنا وديارنا، وتعبث ببلادنا، وتهجر أهلنا، وللمفارقة فنفس هذه الميليشيات، يجري تقديمها اليوم على انها جزء من (محور المقاومة) على ضحاياها أن يسبحوا بحمدها أو أن يصمتوا، ما دام (كل شئ من أجل المعركة).
هي قسمة ضيزى، بل نمط مؤكد من فشل أخلاقي، لا يخطؤه منصف، ولا يتخطاه من يريد الحقيقة، أو يتجنب التزييف من أجل لحظة عابرة، بل هو تشويه قد يكون بعضه متعمد بخبث، لصورة فلسطين وعدالة قضيتها، حينما يربطونها بمجرمين وقتلة وقطاع طرق وإرهابيين طائفيين، لا يمكن أبدا أن يكونوا جزءا من قضية عادلة أو من عمل نبيل.
والمشكلة هنا ليست في (تخطي) أسئلة السوريين، فذاك ما يحاولون عمله على أية حال، لكنها في الخلل الأخلاقي الذي يطارد هؤلاء، فيما يعملون هم ذاتهم على تقديم قضية أخلاقية، أو يدعون الانتساب لها، ولذلك فهم في أزمة حقيقية، ما لم يسكت السوريون عن طرح الأسئلة، ويصمتون عن رؤية قاتليهم وهم يفوزون بجوائز شرف لا يمتلكونه، وعن تضليل يجري بوعي أو بدونه للحقيقة وللتاريخ.
لسوء الحظ، ففي عالمنا العربي اليوم خنادق متداخلة بشكل غريب، حتى تجاور فيها الخصوم، وفيما يستمر القتلة بممارسة جرائمهم في سوريا بكل قسوة ودون تأجيل، فإن أصحاب نظرية (الأولويات) يطلبون أن يقوم الضحايا بتأجيل دفاعهم عن أنفسهم، وليسمحوا للقتلة باستمرار الذبح دون صراخ، ما دام الذباحون عند هؤلاء جزءا من هذه الأولويات.
—————-
خمسة اتجاهات عسكرية لحرب غزة/ عبدالناصر العايد
الأربعاء 2023/10/25
تساهم عوامل متباينة ومعقدة في تكوين المشهد العام في غزة، ولا يمكن فصل العسكري عن السياسي والإعلامي والإنساني، ولا حتى إغفال الرأي العام العالمي عند التفكير في ما يحدث، وما يمكن أن يحدث. في هذا المقال، محاولة للبحث في الاحتمالات العسكرية للصراع بشكل مستقل نسبياً عن العوامل الأخرى، وسأسمّي ذلك بالاتجاهات التي اعتقد أن العسكريين يخلصون إلى تصورها عند التفكير في مستقبل حرب غزة.
أولاً- الاتجاه البسيط:
أعني به تدميراً انتقائياً وغير ممنهج من طرف إسرائيل، لقدرات “حماس” وللمجتمع الغزاوي، باستخدام مختلف أنواع الطيران والقصف المدفعي والصاروخي في ظروف حصار خانق. ويركز على ضرب قدرات “حماس” البشرية أينما وكيفما ظهرت، ويتعامل بديناميكية مع المعطيات ونتائج العمليات الجارية من دون أي قيود، مثل الامتثال لخطة مركزية أو وجود قوات صديقة في مسرح العمليات أو هجمات دفاعية مضادة أو مفاجآت خطيرة، وهو يحيد عالم الأنفاق ويجعلها عديمة الفائدة. لكن هذه الخطة تقتضي وقتاً طويلاً جداً، وقد تتداعى في أثناء ذلك الجوانب السياسية للعملية، فتفقدها الفعالية. أما من الناحية الاستراتيجية، فتنطبق عليها قاعدة حروب الاستنزاف والإنهاك، وهي أن الصراع قد يهمد لكنه لا يلبث أن يتفجر ما أن يلتقط الطرف الآخر أنفاسه.
ثانياً- الاجتياح:
يوصف الاجتياح عادة بأنه “برّي”، لافتراض وجود اشتباك شامل على الأرض بين الجيش الإسرائيلي و”كتائب القسام” وغيرها من الفصائل، لكن هذا ليس الواقع في الحرب الحديثة. وبالنظر لتجارب الصراع ضد تنظيم “داعش” في سوريا والعراق، فإن الاجتياح جوّي بالدرجة الأولى، يليه الإمساك بالأرض الخالية من الخصم بالقوات البرية. ويمكن أن يقتصر الأمر على شق ممرّين إلى ثلاثة من الشرق إلى البحر، وتدمير البنية التنظيمية لحماس فوق الأرض، ومحاولة الوصول إلى شبكة الأنفاق وتدميرها أو إغراقها بالمياه. وتقديرياً، يمكن لإسرائيل إنجاز المهمة في مدة زمنية لا تتجاوز الثلاثة أشهر، لكن اتخاذ قرار السير في هذا الاتجاه مقيد بشدة بسبب الخسائر البشرية بين المدنيين، وما يمكن أن تثيره من ردود أفعال خطيرة في الضفة الغربية ولبنان وفي كامل إقليم الشرق الأوسط. علاوة على إنهاء التعاطف الغربي مع إسرائيل، وعكس اتجاه الرأي العام حولها على نطاق واسع.
ثالثاً- استعادة 6 أكتوبر
يقوم هذا الاحتمال على فرضية انخراط “حزب الله” في العمليات العسكرية على الجبهة الشمالية لإسرائيل، ومحاولة القيام باجتياح بري تحت غطاء حملة صاروخية مكثفة بهدف التفاوض المشترك بين “حماس” و”حزب الله” من جهة، وإسرائيل من جهة ثانية. ومع أن القوات الأميركية وصلت إلى شرق المتوسط للحؤول دون حدوث ذلك، إلا أن احتماليته تبقى عالية، سواء بقرار من الحزب أو من إسرائيل التي يمكن أن تشنّ حرباً على هذه الجبهة بمجرد أن تتمكن من خياطة جرح غزة، مستعيدة الطريقة التي تعاملت بها مع الجبهتين المصرية والسورية في الحرب التي بدأت في 6 أكتوبر 1973، عندما ركزت قواها على الجبهة الجنوبية ثم انتقلت إلى الشمالية.
رابعاً- الصراع الإقليمي
في حال تفجر الوضع في جنوب لبنان، وما لم تُظهر واشنطن الحزم الكافي، فإن المليشيات المرتبطة بإيران ستهاجم قواتها ومصالحها وحلفاءها في كامل الإقليم. وقد تتفجر حروب ثانوية في مناطق أخرى، وسيكون من الصعب السيطرة على الصراع وتشعباته لتعدد الفاعلين والفرقاء وكثرة الصراعات الكامنة، ومن نتائجه شبه المؤكدة تحول إيران إلى طرف مشارك بشكل رسمي، فيما ستشارك روسيا على نحو غير مباشر.
خامساً-حرب نووية
إذا نشبت حرب في الإقليم، سيكون هدفها تحجيم قوة إيران، لكن الأخيرة لديها أوراق قوة كثيرة ستطرحها دفاعاً عن موقعها. وهي قد تخلق بذلك ظروفاً مؤاتية لاستخدام إسرائيل أسلحتها النووية ضد منشآت إيران النووية وترسانتها العسكرية. وقد يتكشف الصراع عن امتلاك إيران أيضاً ذخائر نووية أو أسلحة تدمير شامل، وربما تستخدمها.
وبالعودة إلى المشهد العام ومعطياته، خصوصاً موقف الولايات المتحدة ورئيسها بايدن الذي يبدو أنه يبذل قصارى جهده لإبقاء الحريق محصوراً في غزة، والسيطرة على رغبة نتنياهو في التصعيد الأقصى، فإن الاتجاه الأول وأجزاء من الثاني، أي الاجتياح البرّي المحدود، هو الأقرب إلى الوقوع. لكن هذا لا يعني استبعاد الاحتمالات الثلاثة الأخرى، لأن بقاءها على قيد الممكن هو ما سيرسم حدود التسوية السياسية التي قد تصوغ مخرج الأزمة الحالية.
————————-
أما من إسرائيلي يفكك هذه القنبلة النووية؟/ عمر قدور
الثلاثاء 2023/11/21
هناك قنبلة نووية موقوتة. ينبغي فهْم هذا مما قاله قبل أكثر من أسبوعين الوزير الإسرائيلي عميحاي إلياهو، إذ نُقل عنه أن إسقاط قنبلة نووية على غزة هو من بين خيارات الحرب الحالية، وسرعان ما طُويت الضجة المتواضعة التي أثارها التصريح بفعل تطورات الحرب ذاتها، ولأن أحداً في العالم لا يريد تسليط الأضواء على القوة النووية الإسرائيلية الموجودة وغير المصرَّح بها. بل إن تصريح الوزير لم ينل اهتماماً يوازي الضجة المستمرة حول شعار “من النهر إلى البحر” الذي يطلقه مساندون للفلسطينيين، واستهلّت ولاية بافاريا الألمانية رسمياً حملة تجريم مستخدميه بعقوبة تساوي عقوبة رفع شعارات النازية.
الوزير إلياهو كان الأكثر صراحة في قول ما يشتهي، لكن سبقه إلى ذلك أعضاء في الكنيست طالبوا باستخدام سلاح “يوم القيامة”، ونتنياهو نفسه استخدم لأكثر من مرة كهدفٍ للحرب مثال استسلام ألمانيا واليابان في الحرب العالمية الثانية، ما يضع الخيارات بين التدمير شبه التام بالسلاح التقليدي أو بالنووي على غرار هيروشيما. بمعنى أنه على العالم اليوم قبول خيار الإبادة بالسلاح التقليدي بوصفه أهون الشرين، وعلى الجميع أن يتذكّر الآن ومستقبلاً وجود النووي الذي قد لا يبقى فقط سلاحَ ردع يتعلق بوجود إسرائيل، فهناك أنصار لاستخدامه يريدونها على الأقل “من النهر إلى البحر”.
بل هناك في إسرائيل من يريدها “من النهر إلى النهر”، ومنهم دانييلا فايس التي حددت “في حديث لها قبل أسبوع لمجلة نيويوركر” خريطة الوطن اليهودي بالنيل والفرات. والأهم أن دانييلا تعمل مع أمثالها على رفع عدد المستوطنين في الضفة الغربية “متضمنة القدس الشرقية” من 800 ألف إلى مليونين أو ثلاثة ملايين، مع التنويه بنجاح هؤلاء في جعل عام 2022 الأكثر نمواً على صعيد البؤر الاستيطانية والمستوطنين منذ عام 1967. الحديث هو عن نهج راسخ متواصل، لا عن سلوك انتقامي كما يُروَّج بعد هجوم حماس، أو كما قد يعتقد البعض بحسن نية.
الفكرة السائدة لدى عموم أنصار اليمين الإسرائيلي أنهم انقضوا على حل الدولتين وانتهوا من عملية السلام، والمرحلة الحالية والمقبلة هي لتعزيز إنجازهم وللتخلّص من الفلسطينيين في الضفة والقطاع، هذا ما يفسّر كثرة التصريحات الرسمية عن التهجير وآخرها تصريح وزيرة الاستخبارات غيلا غملئيل قبل يومين حيث اقترحت إعادة توطين سكان القطاع خارجه، بينما شكت السلطة الفلسطينية من عمليات تهجير في الضفة وراء ستار الحرب على غزة. وما يراهن عليه اليمين بحق أن التراجع عن عمليات الاستيطان في الضفة والقدس مستحيل تماماً، حتى في ظل حكومة غير يمينية، بل يجوز تماماً القول أن تفكيك إسرائيل مساوٍ لتفكيك المستوطنات، إن لم يكن أسهل منه.
هناك أنصار للسلام بين الإسرائيليين بنسبة تناقصت منذ ربع قرن، والبعض منهم طالب مؤخراً عبر الإعلام بالسلام حتى مع حماس على قاعدة أن مَن يريد السلام يبرمه مع العدو الموجود فلا يطالب بعدو على مزاجه. لكن دعاة السلام، ومنهم نشطاء مجتمع مدني يحاولون نسج الأواصر بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لا يطرحون مشروعاً سياسياً “ثورياً” يتوِّج الحديث عن التعايش. فما يُفهم من طروحاتهم أنهم مع العدالة والحقوق المتساوية بين الطرفين ضمن حدود 1948، ومع حل الدولتين في ما يتعلق بالضفة وغزة.
من أسباب ضعف معسكر السلام أن اليمين الإسرائيلي يبدو سبّاقاً في استشراف مأزق إسرائيل، وفي العمل على تجنبه، بينما يبدو أنصار السلام رجعيين بالبناء على حل الدولتين الذي لم يعد مطروحاً حقاً. المقصود بالمأزق أن القدرة الاستيعابية لمزيد من اليهود تتطلب على الأقل قضم الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية، وما يطرحه اليمين بخصوص أكثر من ثلاثة ملايين فلسطيني يتراوح بين تهجيرهم وبين بقائهم ضمن نظام فصل عنصري صريح يجردهم من حقهم كشعب ومن حقهم في ملكية أراضيهم. جدير بالذكر أن مساحة فلسطين كاملة هي 27 ألف كيلومتر مربع لا غير، يعيش فيها حالياً ما يقارب 15 مليوناً، منهم خمسة ملايين ونصف فلسطيني في الضفة والقطاع، أي ضمن مساحة تزيد نظرياً على ستة آلاف كيلومتر بينما يقتطع منها المستوطنون مساحات شاسعة جديدة باستمرار. وهناك في إسرائيل حوالى 7 ملايين يهودي، هم نصف اليهود في العالم الذين لهم “حق العودة”.
واقعياً، من الصعب تصور أفق للسلام من دون تفكيك “حق العودة”، أي من دون تفكيك فكرة إسرائيل نفسها. تستطيع قوى مثل حماس أو غيرها إلحاق خسائر بإسرائيل، وهذا مختلف عن تحقيق النصر، فالحرب الدائرة الآن تقول ما هو شديد القسوة عن خسائر طرفيها، إلا من وجهة نظر الذين لا يرون في تدمير غزة خسارة فادحة. وما يقوله ميزان القوى أن إسرائيل تحظى بدعم دولي، فوق امتلاكها الترسانة الأكثر تطوراً من السلاح، وامتلاكها خاصةً السلاح النووي.
بالطبع يتحمل الفلسطينيون مسؤولية تقديم خطاب سياسي طموح وواقعي في آن، فلا تكون شجاعتهم في القتال الرأسمالَ الأكبر، ومن شأن وجود مثل هذا البرنامج تجنب الوقوع في العدمية السياسية المغلَّفة ببرنامج طموح أكثر بكثير جداً مما هو واقعي أو سياسي، وتالياً تجنّب الحسابات الخاسرة ما أمكن. لكن ميزان القوى الذي يميل بشدّة لصالح إسرائيل يرجِّح مسؤولية الإسرائيليين لجهة طرح مشروع سياسي واقعي للعيش بسلام، مشروع لا بد أن يتجنب طموحات اليمين الأيديولوجية، بل أن يكون على الضد منها تماماً.
ربما تكون فكرة الدولة الواحدة، من النهر إلى البحر، هي الخيار الوحيد لتفكيك القنبلة النووية الموقوتة، إذا تبنّاها الإسرائيليون كبديل عن العقيدة الصهيونية “متمثّلة بحق العودة”، وكبديل عن حل الدولتين الميت سريرياً. هكذا يتوقف شعار “من النهر إلى البحر” عن كونه يضمر التخلص من وجود الآخر، كما هو حاله الآن إذ يتوعّد به “متحمّسون” من الجانبين، وعندما يصبح الهدف تجنّب فكرة الغلَبة لن يصعب العثور على نموذج للدولة يعالج مخاوف الطرفين.
خلال أكثر من خمسة عقود التصقت تسمية الفدائي بالمقاتل الفلسطيني؛ يستطيع إسرائيليون نزع “الاحتكار” عندما يقرر فدائيون منهم تفكيك هذه القنبلة النووية الموقوتة.
——————————-
الحرب على غزة…وبوتين ومارين لوبان/ بشير البكر
الإثنين 2023/11/20
التلاعب الروسي بتداعيات حرب غزة، في فرنسا، يستحق وقفة مطولة، لما له من أهداف ونتائج بعيدة المدى. والأمر الذي يدعو للاستغراب هو أن البيان الذي صدر عن وزارة الخارجية الفرنسية حول التدخل الروسي في الأوضاع الداخلية، لم يتم تناوله، كما يستحق، في الإعلام، أو البناء على ما جاء فيه من وقائع تشير إلى دور الأجهزة الروسية في نشر صور نجمة داود السداسية، في شوارع بعض المدن الفرنسية، على بيوت وأماكن عبادة يهودية. وهو أمر أثار ردود أفعال واسعة سياسية وإعلامية، بالنظر إلى ما يتجاوز الرمز المباشر للنجمة إلى إسرائيل.
ومن دون تحقيق رسمي في العملية، جرى نسبها إلى العرب والمسلمين، في سياق اتهامات باعتداءات ضد الجالية اليهودية، وأماكن العبادة الخاصة بها، وهي حسب احصائيات وزارة الداخلية، قاربت الخمسمئة، لكن الإعلام يجمل معها، ما قبل السابع من اكتوبر، ولا ينوه إلى ذلك، فيتضخم الرقم ثلاث مرات. ومن بينها، حظي نشر النجمة بكثافة في العالمين الواقعي والافتراضي، بالقدر الكبير من ردود الأفعال والأضواء الإعلامية، وتصريحات الأوساط السياسية المؤيدة لإسرائيل، وذلك لما للعملية من مغزى وهو “التعليم” على اليهود، وفي ذلك إحالة إلى سابقة حصلت في الحرب العالمية الثانية، خلال “حكومة فيشي” التي تعاونت مع النازية، وأرسلت اليهود إلى أفران الغاز ومعسكرات الاعتقال، ومنها سيئ الذِّكر “اوشفيتز”. وفي ذلك الوقت جرى وسم منازل اليهود بالشعار نفسه، نجمة داود باللون الأصفر، من أجل تمييزهم، ليسهل التنكيل بهم، وبهذا المعنى جرى ربط الرسالة المقصودة اليوم، بمعناها البعيد، ما أعاد للأذهان صوراً وذكريات من الماضي السيء الذي تعرض له اليهود.
وبعد مرور أكثر من اسبوعين على نشر نجمة داود، والبلبلة التي أثارتها في الأوساط اليهودية والإسلامية، وعلى مستوى الشارع الفرنسي الذي نظر إليها باستهجان، توصلت التحقيقات الرسمية إلى الجناة الفعليين، الذين لا علاقة لهم لا من قريب ولا من بعيد بالجالية الإسلامية، وإنما بالسلطات الروسية. وأعلنت السلطات الأمنية الفرنسية، القبض على زوجين، يتحدران من مولدوفيا، ويقيمان بشكل غير قانوني في فرنسا، وأفضت التحقيقات إلى علاقة بينهما ورجل أعمال مولدوفي، معروف بآرائه الموالية لروسيا. ولم ينكر خلال حديث مع وسيلة إعلامية فرنسية، علاقته بالقضية، وأكد أنه قام بذلك بالتنسيق مع منظمة يهودية، وأن الفعل كان بهدف دعم يهود فرنسا، وأوروبا بعد هجمات السابع من تشرين الأول.
وكان للأمر أن ينطلي على البعض، لو لم تعلن وزارة الخارجية الفرنسية عن تدخل روسي للغرض نفسه في وسائل التواصل، وجاء البيان الذي صدر عنها واضحاً وصريحاً في توجيه الإتهام إلى روسيا. ودانت الخارجية الفرنسية “بشدة” دور شبكة روسية في “التضخيم المصطنع”، كونها كانت “أول من نشر في شبكات التواصل الاجتماعي صوراً لعلامات تمثل نجمة داود” في باريس، واعتبر البيان أن “هذه العملية الجديدة للتدخل الرقمي الروسي ضد فرنسا، تشهد على استمرار الاستراتيجية الانتهازية، وغير المسؤولة، الرامية إلى استغلال الأزمات الدولية، لنشر البلبلة، وتأجيج التوتر”. وجرت الإشارة إلى شبكة إعلامية شهيرة تسمى “RRN”، مرتبطة بروسيا، نشرت أخبار تلك الكتابات أو الرسوم بشكل واسع في تويتر وفايسبوك.
رغم الكشف الرسمي عن المدبر الفعلي للعملية، بقيت الحملة الإعلامية والسياسية مستمرة ضد الجاليات العربية والإسلامية، وعلى هذا الأساس جرى تنظيم تظاهرات في مدن فرنسية عديدة، يوم الثاني عشر من الشهر الجاري، تحت شعار “من أجل الجمهورية، ضد العداء للسامية”. وجاء في الدعوة التي صدرت عن رئيس مجلس الشيوخ ورئيسة البرلمان، أن “الإسلاموية هي المسؤولة عن معاداة السامية”، وهذا تطور جديد على المستوى الرسمي. في السابق كانت “معاداة السامية” شكلاً من أشكال العنصرية، ويجري ربطها بـ”الإسلاموفوبيا”، من حيث كونهما يصدران عن فاعل واحد، وهو اليمين العنصري المتطرف. والجديد هو رفع التهمة عن اليمين المتطرف، وإلصاقها بـ”الإسلاموية”. وتؤكد تداعيات الحرب على غزة أن هناك محاولات لرفع الإسلام إلى مصاف العدو الأول، ولذلك راجت مقولة “حرب الحضارات” من جديد.
ثمة سؤال يلح في طرح نفسه، حول مصلحة روسيا في عمل من هذا القبيل، هو على درجة عالية من الخطورة؟
يمكن ايجاد اجابات جاهزة كإثارة البلبلة الآنية في دولة غربية، والانتهازية في استغلال الأوضاع المتوترة، وتأجيجها لإبعاد التركيز عن حرب روسيا على أوكرانيا، وهناك أمثلة سابقة، كقضية حرق نسخة من المصحف في السويد. غير أن هدف روسيا البعيد من لعب ورقة “معادة السامية”، هو تعزيز وضع اليمين المتطرف في أوروبا، والذي لا يخفي علاقاته مع موسكو، وسبق لرموزه الكبار أن تقاطروا إلى الكرملين قبل الحرب على أوكرانيا، كما هو حال مارين لوبان، وريثة حزب “الجبهة الوطنية” من والدها جان ماري لوبان، الذي سبق، ودانه القضاء الفرنسي ست مرات بتهمة “معادة السامية”. ومن المعروف أن هاجس ماري هو رمي عباءة الوالد عن ظهرها، وارتداء واحدة جديدة، ولذلك غيرت اسم الحزب، فصار “التجمع الوطني”، وهي لا توفر مناسبة للتبرؤ من الماضي النازي.
يستفيد حزب مارين لوبان من وضع الاسلام في موقع “معاداة السامية”، بكسب الصوت اليهودي في الاستحقاقات الانتخابية من جهة، ومن جهة ثانية تجييش قطاع من الرأي العام المعادي للهجرة كي ينحاز إليها انتخابياً. وكلما تقدمت على هذا الصعيد، كلما استفاد صديقها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي سبق لها أن استدانت من أحد مصارفه مبلغاً بقيمة 9 ملايين يورو في العام 2014 من أجل تمويل حملة انتخابية محلية، وراوح موقفها طيلة حرب أوكرانيا على الدعوه للحوار مع روسيا، على اعتبار أنها “قوة عظمى ولن تختفي عن الخريطة”. وهذا يكفي بوتين في هذه المرحلة، على أمل أن يتطور هذا الموقف، عندما تتمكن أكثر، وهو يراهن على فوز لوبان في الانتخابات الرئاسية المقبلة العام 2027، وهذا لم يعد مستبعداً.
—————————
تستحق هذه الحرب أن لا تعقبها هدنة/ عمر قدور
الثلاثاء 2023/11/14
في واحد من تصريحاته الأخيرة قال نتنياهو أنه وضع أهدافاً للحرب على غزة، إلا أنه لم يضع مهلة زمنية لانتهائها. وكما هو معلوم فقد استهلّ نتنياهو إعلانه الحرب بهدف استئصال حماس نهائياً، لا بهدف القضاء على سلطتها فحسب أو حتى القضاء على كوادرها العليا والمتوسطة، وهذا ما أكّد عليه مؤخراً وزير دفاعه الذي توعّد بأنه لن يكون للحركة وجود في غزة بعد انتهاء الحرب.
فحوى التصريحات السابقة أن الحرب قد تستمر شهوراً وربما سنوات، إذا كان الهدف حقاً تصفية آخر عنصر من حماس. لكن واحداً من الأسباب التي تجعل الحرب تطول هو غياب الأهداف القابلة للتحقيق فيما يخص القضاء على حماس، وما يتعلق باليوم التالي على انتهاء الحرب. فمن الواضح أن الحكومة الإسرائيلية لم تقدّم تصوّراً مقبولاً من واشنطن أولاً، ومن سلطة أبي مازن وحكام عرب معنيين ثانياً، من أجل إدارة غزة بعد انتهاء الحرب.
المطلوب لإنهاء الحرب إدارة للسجن المسمّى غزة، والذي سيكون بشروط أقسى مما كان عليه تحت إدارة حماس، حيث سيحتفظ الجيش والمخابرات الإسرائيليين بإمكانية وحق ملاحقة الفلسطينيين في القطاع متى شاء، فوق الحصار المضروب أصلاً بالسيطرة على كافة المنافذ البرية والبحرية والجوية. مطلوب إدارة متعاونة مع تل أبيب ضمن هذه الشروط، من أجل تلقين الفلسطينيين درساً نهائياً في الرضوخ التام للعقاب الجماعي القديم والمستجد.
هناك اليوم تكهنات مفادها أن نتنياهو لا يريد إيقاف الحرب، لأنه مهدد متى توقفت بالخضوع للمساءلة التي ستقضي على وجوده السياسي. بل ثمة أقاويل عن رغبة أمريكية في إزاحة نتنياهو فوراً لصالح بيني غانتس شريكه في الائتلاف الحكومي، إلا أن الأخير عارض الخطوة في تصريحات له نُشرت يوم الأثنين. ورغم موقف واشنطن الرسمي المؤيد لاستمرار الحرب إلا أنها لا تريدها حرباً بلا نهاية أو توقف، ولا تريد بقاءها على توقيت نتنياهو الذي ربما يتوق إلى فتح الجبهة اللبنانية.
باستثناء الموقفين الإسرائيلي والأمريكي، يمكن القول أن الميل العام عالمياً لصالح المطالبة بوقف الحرب، وهو موقف يتعزز لدى فئات مؤيدة لإسرائيل ترى أنها ثأرت بما يكفي لمقتل 1200 شخص في هجوم حماس. وبالطبع لا يمكن لعاقل، أو ذي إحساس إنساني مهما تدنى، سوى المطالبة بوقف الإبادة والتهجير. بل من المفهوم أيضاً أن تدفع صور المقتلة إلى المطالبة بوقفها بأي ثمن كان، والحديث هنا عن مشاعر لأفراد يريدون لأطفال غزة وباقي أهلها الحياةَ لا الموت، خاصة إذا كان الموت مجانياً وغير طوعي.
لكنّ ما تتمناه الجوارح بقوة وصدق يحتاج أن يُترجَم سياسياً ليغادر المشاعر والتمنيات إلى الواقع، وهو لن يصبح واقعياً إلا بقوة السياسة. وبلغة مجرّدة قدر الإمكان نفترض أن المهم الذي يتجاهله الفاعلون السياسيون هو أن مقتل 1200 إسرائيلي والانتقام لهم بقتل ما يزيد عن 11 ألف فلسطيني حتى الآن؛ هذا العدد من الضحايا على الجانبين يستحق ألا تنتهي الحرب بمجرد هدنة بين الجانبين. والقوى الدولية التي أظهرت غيرة على أمن الإسرائيليين وحيواتهم ينبغي أن تكون في طليعة مَن يسعى بعمق لتكون هذه آخر المواجهات الدموية، طالما أن القوى ذاتها لا تتبنى تصفية الفلسطينيين بقتلهم وتهجيرهم على نحو تام ونهائي.
ما هو مطروح حتى الآن من قبل كافة الفاعلين لا يتعدّى العودة إلى وضع أسوأ مما كان عليه من قبل، وهذا مناسب حقاً لمن يريد التوقف عند القول: انظروا إلى المأساة التي تسببت بها حماس للفاسطينيين. وهو لا يُقال الآن سوى بهدف تبرير العقاب الجماعي وجرائم الحرب، فوق أنه يرى السياسة بمنطق الرضوخ للأقوى، أي أنه يستقوي بآلة الحرب الإسرائيلية، بدل التفكير بنزاهة كي لا يكون العنف والإرهاب الوسيلتين الوحيدتين المطروحتين أمام طرفي الصراع.
كان وزير الدفاع الإسرائيلي قد وصف الفلسطينيين في مستهل هذه الحرب بالحيوانات البشرية، وهو توصيف لا يتوقف عند تشريع الإبادة، بل يتعداها إلى تشريع الإبقاء على الأحياء منهم لاحقاً في مستوى دون ما يستحقه البشر. وهنا يتفق كثر مع الوزير المذكور حين ينظرون إلى بقاء الفلسطينيين على قيد الحياة بوصفه هدفاً كافياً ونهائياً، مع أنه العتبة الأدنى الذي يجب وضعها في وجه جميع الفاعلين، ومنهم أية قوة داخلية تضحّي بحيواتهم من دون تفويض ومن دون هدف يرونه مستحقاً.
يلزم قليل من النزاهة والإنصاف لرؤية العنف أولاً كوسيلة سيطرة للأقوى، ثم يكون فيما بعد وسيلة الأضعف عندما تُسدّ في وجهه بقية الاحتمالات، وأن الإرهاب كما ظهر في العديد من التجارب يعبّر عن اختلال كبير جداً في موازين القوى يُقابَل بالعنف والعدمية السياسية معاً. والحق أن الحذر الواجب هنا هو ألا ينزلق التوصيف إلى تبرير العنف، لأن التفكير مع الضحايا يُستحسن أن ينصرف إلى التخلص من أسبابه تجنباً للعدمية، والإقرار بحقهم في المقاومة السلمية لا يستقيم أصلاً من دون الإقرار بتعرّضهم للتعنيف، ومن دون التفكير معهم في ممكنات حقيقية بدل الواقعية الفظة التي تضمر لومهم لأنهم لم يمتثلوا بما يكفي للأقوى.
بعد أسابيع أو شهور، لن نعدم أولئك الذين سيتداولون المقارنة الشعبوية بين الإسرائيليين الذي سيحاكمون “معنوياً أو قضائياً” نتنياهو والفلسطينيين الذي دفعوا غالياً جداً ثمن هجوم حماس من دون القدرة على محاكمتها، إذا بقي لها وجود فعلي. هي مقارنة فقيرة ممجوجة إذا كانت الغاية منها الإشارة إلى ما هو معلوم عن فقدان الديموقراطية لدى شعوب المنطقة، وتخفي فيما يخص الجانب الإسرائيلي أكثر مما تقول، ومن ذلك أن المطالبة “التي بدأت منذ هجوم حماس” بمحاكمة نتنياهو تقنية إلى حد كبير، إذ يُتهم بحكم مسؤولياته بعدم حمايته الإسرائيليين كما ينبغي، وهي التهمة التي يسعى منذ أسابيع إلى تلافيها من خلال العمل على مستقبل أشدّ وطأة للفلسطينيين.
بعبارة أخرى، بموجب المعلَن الآن، لن تُحاكَم مع نتنياهو فكرةُ الحماية الأمنية وفكرة تعزيزها إلى ما لا نهاية في سباق لا ينتهي مع تطوير أدوات وسُبل اختراقها، ولن تُحاكم فكرة الحماية الأمنية بوصفها أسلوباً مستداماً مبنياً على فكرة الهدنة، ما يقود إلى مساءلة فكرة الهدنة ذاتها. يعلم الإسرائيليون قبل غيرهم أنه لا قوة دولية ستجبرهم على السلام، وأن الانتقال إلى سلام حقيقي عادل مستدام إما أن يكون مطلباً إسرائيلياً أو لا يكون؛ يستحق 1200 قتيل إجابة لا تنطلق كالمعتاد من الجرح النرجسي الإسرائيلي.
—————————-
هذه ليست حرباً
بشير البكر
الإثنين 2023/11/13
يمر أكثر من شهر على قصف اسرائيل لغزة براً وبحراً وجواً، ولا تظهر صورة واحدة عن انتصار اسرائيلي، حتى ولو كان صغيراً ورمزياً. لا إنجاز عسكرياً واحداً، بعد رمي أكثر من 35 ألف طن من القنابل على القطاع الصغير. ربما هذه هي الخلفية الفعلية لتصريح وزير التراث الاسرائيلي، عندما دعا إلى ضرب غزة بقنبلة ذرية. كأن هذا العدد الكبير من الضحايا والدمار، لا يكفيان لتجاوز صدمة السابع من اكتوبر. القنبلة الذرية هي الحل. وحدها قادرة على محو غزة، كي يرتاح الوجدان الاسرائيلي من الشعور بالفشل، وتبدأ الذاكرة بالتصالح مع نفسها.
منذ أكثر من شهر، لا شيء سوى الحديث عن الخطط التي تهيئ الأرض للحرب. يقول قادة اسرائيل في مجلس الحرب المصغر، إنها ستكون طويلة. وأعلن بعضهم أنها ستستمر شهوراً عديدة، وآخرون يتحدثون عن سنة. وهذه السنة مهلة مفتوحة، من أجل القضاء على حركة حماس عسكرياً، وإعادة احتلال القطاع، وفرض وضع أمني وعسكري جديد بإدارة اسرائيلية مباشرة. وهذا يعني أن الأوضاع ستعود إلى العام 1967، إلا في حال وجدوا من يشاركهم في تقاسم أعباء الاحتلال، مصر أو السلطة الفلسطينية، وربما جهات أخرى، من المنطقة وخارجها. كل شيء وارد، والاحتمالات مفتوحة.
لم يتركوا قطاع غزة نتيجة “اتفاق أوسلو” مع الفلسطينيين، انتظروا حتى العام 2005 حتى يخلوا 21 مستوطنة كانت تحتل نحو 35% من مساحة قطاع غزة. انسحبوا من طرف واحد، وفق ما سمّوه خطة “فك الارتباط” مع غزة، لأن هذا المستطيل الصغير سبب لهم صداعاً لا حدود له، حتى إن رئيس الوزراء في العام 1992 اسحق رابين الذي وقع “اتفاق اوسلو” مع ياسر عرفات، قال قبل ذلك “أتمنّى أن أستيقظ يوماً من النّوم فأرى غزّة وقد ابتلعها البحر”. وهناك أسباب أخرى للانسحاب، منها أن غزة لا تمثل لإسرائيل أهمية إستراتيجية من الناحيتين السياسية والدينية. وكان رئيس الوزراء حينذاك أرئيل شارون يريد التفرغ للمعركة الأهم في القدس والضفة الغربية، عبر تكثيف الاستيطان، وأخيراً “مخطط الضم”. وفي ذلك الوقت استقال وزير المالية بنيامين نتنياهو من الحكومة، وبرر ذلك بأنه لا يمكنه أن يكون جزءاً من هذه الخطوة، التي وصفها بـ”غير المسؤولة، وتقسم الشعب، وتضر بأمن إسرائيل، وتمثل خطراً مستقبلياً، على وحدة القدس”.
بقيت غزة شوكة في الخاصرة الاسرائيلية. ورغم أهمية أشكال المقاومة في الضفة الغربية، فإن هذه النقطة هي التي جعلت الكأس يطفح أكثر من مرة. خاضت مع اسرائيل ست حروب كبيرة، والسابعة هي التي تدور حالياً، لكن هذه مختلفة شكلاً ومضموناً، بحيث لا يمكن أن نعدّها حرباً بالمعنى التقليدي. صحيح أن حركة حماس ليست جيشاً، يرابط على خطوط جبهات في مواجهة الجيش الاسرائيلي، لكنها قوة عسكرية تحارب، تواجه القوات الاسرائيلية وتلحق بها خسائر. تقوم بقصف اسرائيل بالصواريخ، وتصور الكثير من عملياتها العسكرية. ينطبق عليها توصيف العدو الخفي، وهو نمط من المحاربين ليس جديداً، وسبق للعديد من الجيوش الكبرى أن خاضت حروباً طويلة مع أعداء يشبهونه. حركات لا تملك القدرة على مواجهة الجيوش التقليدية بالأسلحة نفسها، ولذلك لجأت إلى حروب العصابات، من أجل إلحاق الخسائر والهزائم بالجيوش الكلاسيكية، وهذا حصل مع الولايات المتحدة في فيتنام وأفغانستان والعراق.
رغم أن اسرائيل خاضت حروباً عديدة مع حركة حماس في غزة، فإنها لم تبنِ استراتيجية حرب، تقوم على قواعد اشتباك مع عدو يموه نفسه دائماً، كي يستمر في البقاء على قيد الحياة، ليرجع إلى المعركة من جديد، في كل حرب أقوى من المرات السابقة. تطور من “الصواريخ العبثية”، حسب وصف رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، إلى صواريخ يصل مداها إلى 250 كلم، قادرة على إلحاق أضرار كبيرة بإسرائيل، واجبار الاسرائيليين على قضاء ساعات في الملاجئ، والهجرة من كل المستوطنات التي تُعرف بـ”غلاف غزة”، والحدود مع جنوب لبنان.
لا يشكل ذلك استهتاراً بقوة العدو، بل ثقة مفرطة في النفس. قناعة لم تهتز، بأن الجيش الاسرائيلي يستطيع القضاء على تهديد حماس، مهما بلغ من القوة. واضعو الخطط لم يتركوا هامشاً للخطأ، أو للحساب بأنه قد يحصل سوء تقدير القوة، كما حدث هذه المرة. عندها لن يعود الحل في مزيد من القوة، حتى لو تم تغيير الأسلحة، وشحن نوعيات جديدة مباشرة بالطائرات من الولايات المتحدة. وهذا يجري الآن، اسرائيل تبيح لنفسها استخدام كافة أنواع الأسلحة، وهذا واضح في ما يخص القنابل الفوسفورية، التي صارت سلاحاً معتاداً يجري استخدامه طيلة الوقت ضد الأحياء السكنية، رغم أنه محرم دولياً ضد الجيوش.
ومن بين ما هو محرّم أيضاً، حسب الاتفاقيات الدولية، ولا تلتزم به اسرائيل هو، مهاجمة أهداف عسكرية وسط التجمعات المدنية، لأنه يستحيل التمييز بين المدنيين والعسكر. استخدام المتفجرات ذات الطاقة العالية، والقذائف الفوسفورية. منع قصف منطقة بأكملها على أنها تتضمن أهدافاً عسكرية. وفي ذلك كله يجب أن يكون الهدف العسكري واضحاً ومحدداً، وإلا سيتم تصنيف ذلك على أنه إبادة جماعية، وتطهير عرقي، وليس حرباً.
———————————
الشيطان يعظ/ صبا مدور
الإثنين 2023/11/13
وكأن نجيب محفوظ وضع عنوان قصته المكتوبة منذ نحو 45 عاما هناك، في تلك القاعة الفخمة بالرياض، وهو يستمع لكلمة بشار الأسد، فتحولت القمة العربية الإسلامية من حالتها الجادة الصارمة والغاضبة على ما يجري في غزة، إلى نمط من كوميديا سوداء، أكثر حدة بكثير من قصة صاحب نوبل، الذي لم يظن أبدا، أن هناك من يمتلك مثل هذه الصلافة ليعظ بالفضيلة، ويداه غارقتان بدماء الأبرياء.
خطاب بشار الأسد في قمة الرياض أساء لغزة وقضيتها، كما لم يحدث مع سواه. ولعل نتنياهو كان يقهقه مع كل جملة تتحدث عن الحقوق والدماء والجرائم وعن قتل الأبرياء وتهديم المدن على رؤوس ساكنيها، وعن قصف المستشفيات ودور العبادة وتعمد استهداف فرق الدفاع المدني وطواقم الإسعاف، وخزانات المياه ومصادر الطاقة وصوامع الحبوب والأفران وكل ما يبقى فرصة للحياة، وفي الحقيقة، ليس نتنياهو وحده من كان يضحك منتشيا، فكل المستبدين والحكام الدمويين حول العالم قد شعروا لحظتها بوجود فرصة للنجاة، مهما كانت قوة الجرائم وعلنيتها، ومهما أرعد العالم وأزبد، ففي النهاية ما يحدد بقاءك ودوام نظام حكمك، ليس ما ترتكبه من جرائم أو تقوم به من أفعال منكرة، بل هو قدرتك على خدمة الأجندات الخارجية والمزايدة على قضايا يعتبرها الناس جوهرية وذات قيمة عليا، أو هكذا بدا من وجود بشار وخطابه المنافق.
لم يكن نتنياهو وحده من يرى نفسه جالسا وسط القادة العرب والمسلمين بهيئة كائن آخر، فكل من كان قد نسي سوريا في حمأة الحرب على غزة، قد استعاد المقارنة ذاتها، وطرح الأسئلة نفسها: هل نحن أمام نمط من الكذب الرخيص المكشوف أم أن هذا الكائن يصدق فعلا ما يقول؟، أم تراه يستغبي القادة الحاضرين، ومعهم الملايين من العرب والمسلمين، وجميعهم يدركون أن ما أقدم عليه بشار الأسد ونظامه ومن حالفه من الإيرانيين والروس قد بلغ ما يحدث في غزة بل تجاوزه خلال 12 عاماً.
كانت دعوة بشار للقمة منذ البداية مثيرة للغضب، فهو ليس مجرد مجرم من المعيب أن يشارك القادة جلساتهم، ناهيك عن قمة بهذه الأهمية والطبيعة، لكن وجوده في سياق مناقشة العدوان جرائم الحرب وحقوق الإنسان، فيه قدر كبير من التناقض الخطير والصارخ، ويمكن لأي مراقب أجنبي بسيط أن يشكك بكل ما يطرح في القمة او يصدر عنها، لأنها ببساطة تضم شخصا متهما بجرائم وأفعال أسوا بكثير مما اجتمعت القمة لإدانته، فكيف إذا ما تحدث هذا الشخص ذاته بكل المبادئ والقيم التي ينتهكها منذ أكثر من عقد وما زال.
لقد ظل أفضل ما في قضية فلسطين أنها وحدت الأمة العربية لعقود، حتى أصبحت قضيتها المركزية وأيقونة عقيدتها، لكن وبالمقابل كان أخطر ما في هذه القضية أنها اعتبرت محوراً للدجل السياسي وأسباب الإمساك بالسلطة، وتخدير الجماهير، وخداع الأجيال وتزوير التاريخ، وتضييع المدن والعواصم العربية، وكان نظام الأسد الأب والابن الأكثر والأخطر دهاء في استغلال قضية فلسطين، وتعامل معها في كل الأوقات على أنها منصة لغسيل جرائمه، وتسويغ انتهاكاته الجسيمة والمتكررة.
ولم تكن هذه الجرائم والانتهاكات ضد السوريين فقط، فهي شملت بشكل خاص الفلسطينيين ذاتهم، من تل الزعتر إلى اليرموك، وتعدت عمليات القتل والحصار والتجويع والتعذيب، إلى محاولة التسبب بأكبر أذى ممكن للقضية الفلسطينية ذاتها، حينما حارب الأسد الأب منظمة التحرير وزعيمها الراحل ياسر عرفات، واخترع تنظيمات انفصالية عبثت بنضال الشعب الفلسطيني، بدءا من الجبهة الشعبية -القيادة العامة- مرورا بمنظمة الصاعقة، وفتح الانتفاضة، وليس انتهاء بتواطؤ الأسد الابن مع إيران في إيجاد ما يسمى (محور المقاومة) الذي استغل قضية فلسطين والقدس أبشع استغلال، ملأ الدنيا ضجيجاً بالمزايدات التي حاول بها تغطية الجرائم ضد الشعب السوري، فلما أزف الوقت، وجاء الامتحان، نكص محور الدجل الإيراني الأسدي، واكتفى بزعيق بشار خلال القمة او خطابات لا تأمن من خوف أهل غزة ولا تغني من جوعهم.
وجود بشار في قمة الرياض كان مؤسفاً، ومؤذياً لقضية أهل غزة، وربما كانت فائدته الوحيدة أنه أعاد طرح التساؤل العميق الذي لن يزول ابدا، هل أن بعض حكامنا من أمثال بشار هم ما يمنح الآخرين الرخصة والنموذج، وربما الالهام لقتلنا دون رادع ولا حسيب؟؟.
—————————-
في حرمان السوريين من موالين يهود/ عمر قدور
السبت 2023/11/11
بعد مرور أقل من أسبوعين على الحرب الإسرائيلية على غزة، اقتحم متظاهرون يهود مبنى الكونغرس للتنديد بها والمطالبة بوقفها، ويمكن القول أن هذه المظاهرة من ضمن أحداث ساهمت في تغيير ما كان مهيمناً على الرأي العام، وكذلك على مجمل الخطابات الرسمية الغربية إثر صدمة هجوم حماس. لقد شجّعت المظاهرات اليهودية، انطلاقاً من الولايات المتحدة كقائدة للغرب، يهوداً وغير يهود في مدن الغرب على الاحتجاج على الثأر الإسرائيلي بلا خوف من أن توجَّه لهم تهمة العداء للسامية. ولو لم تمنع الشرطة الإسرائيلية المظاهرات المعادية للحرب لنزل إلى الساحات يهود يرفضون الحرب، ولو أنهم أقلية ضمن الخارطة السياسية الحالية.
اليهود المناهضون للحرب على غزة بعضهم فقط قد يكون ضد وجود دولة إسرائيل، لكن نسبة كبيرة منهم تدعو إلى السلام على أساس حل الدولتين، ويمكن القول أنه لدى نسبة معتبرة منهم غيرة حقيقية على صورة الدولة اليهودية، ولا تريد “تشويهها” بأمثال نتنياهو وصحبه من متطرفي الحكومة الحالية. ومما لا شكّ فيه أن هؤلاء جميعاً غير متعاطفين مع حماس، ولا يؤيدون عمليتها الأخيرة حتى إذا اعتبرها البعض منهم نتاجاً لواقع غزة البائس.
يُستحسن بالتأكيد رؤية هؤلاء اليهود خارج “الاستعمال” المعتاد على النمط الذي يحتفي بالتعدد كمظهر فحسب، أو على النمط الإعلامي العربي الذي يقتصر معظمه على التهليل من مبدأ: وشهد شاهد من أهله. ما هو أبعد تأثيراً ويمكن ملاحظته بدءاً من يهود أمريكا، بوصفهم أيضاً الكتلة الأكبر لليهود خارج إسرائيل، هو تراجع العصبية اليهودية المؤيدة بالمطلق لإسرائيل وحكوماتها، وهذا سياق متواصل من المرجّح أن يؤثر على إسرائيل وحلفائها.
كمثال على حرب إبادة قريبة، لم تنتهِ بعد، يمكن القول أن السوريين حُرموا من وجود موالين على شاكلة اليهود الذين ينتقدون إسرائيل اليوم، سواء كانوا داخلها أو خارجها، بما أن الأخيرين لهم “حق العودة إليها” والبعض منهم يحمل جنسيتها من دون العيش فيها. نعني بذلك تحديداً عدم وجود موالين “ناطقين” وقفوا ضد حرب الإبادة التي شنّها الأسد على الثائرين عليه، حتى إذا كانوا قلّة لا تُقارن بنسبة شبيحته الداعين إلى مزيد من الوحشية، والمقارنة تتوقف هنا فلا تشمل الشريحة الصامتة من الموالاة سواء كان الصمت ينطوي على الرفض أو على القبول. ولا علاقة لهذه المقارنة باتهام الأسد من قبل بعض المعارضين بالعمالة لإسرائيل على سبيل الشتيمة، والأساس هنا هو المشترك لجهة وجود من يرون الصراع صراع وجود، لذا هو إبادي بطبيعته، أو تهجيري في حال يبدو أرأف من الإبادة.
قبل يومين من عملية طوفان الأقصى ثم الحرب على غزة، هناك حدث سوري بدأ باستهداف حفل تخرّج دفعة من قوات الأسد في الكلية الحربية في حمص، أعقبته غارات لطيران الأسد وحليفه الروسي، والأخير أعلن عن 230 غارة لطيرانه وحده منذ بدأت الهجمة. قُتل في الغارات أطفال ونساء وكبار في السن، ولم يظهر صوت واحد لا غير من أهالي ضحايا الكلية الحربية، أو من أقاربهم حتى، ليقول أن قتل المدنيين الأبرياء ثأراً لضحايا الكلية الحربية مرفوض. لم يصدر حتى صوت واحد من المؤيدين للأسد، وهم كثر في الغرب، لينتقد قتل المدنيين، أو ليعبّر عن أسفه، أو حتى ليعترف بمقتلهم ويقول أن المسؤولية تقع على جبهة النصرة التي تحتمي بهم!
في صيف 2013 وجّهت الممثلة السورية المقيمة في مصر رغدة رسالة إلى بشار الأسد، تقول من ضمنها: “سيدي الرئيس لا نريد بيوتنا بل نريد سوريتنا، لا نريد عقاراتنا بل نريد إنقاذ حضارتنا، لا نريد أنجاساً يبكيهم البعض لأنهم من الشعب السوري، لا نريد خونة بين صفوف الشعب السوري، أسقِطوا الجنسية السورية، علقوا المشانق في الساحات نريد قصف كل منطقة فيها إرهابي، ولو مات آلاف المدنيين، كل من بقي من المدنيين في المناطق تلك، هو حاضن ومتواطىء، لن تنتهي الحروب بدون دم وقتل وتنكيل. يكفي صبراً أحرقوا الأرض بمن فيها لتتعمد سوريا بالدم كي تجتاز أزمتها.. لا تهادنوا مع القتلة ومن احتضنهم! لا ترحموا كل من قدم طعاماً أو ماءً أو ضماداً أو مأوى أو سلاحاً لخنازير الزنا وزعران النكاح وحثالة المتأسلمين.. أما آن للكيماوي أن يستشيط؟!”. ننوّه بأن رغدة من أصل حلبي سُنّي، كي لا يقفز إلى الأذهان التفسير الطائفي بمفرده.
ومن المؤسف أن رسالة رغدة تمثّل على أكمل وجه ما قاله ويقوله موالو الأسد، وهذه الرسالة على سبيل المثال لم تستفزّ نسبة ولو ضئيلة منهم ليزايدوا عليها بالقول ولو كذباً أنهم ضد قتل المدنيين، وأن رئيسهم لا يفعل هذا. وبالطبع سيكون من الشطط القول أن المذكورة لم تواجه المحاكمة في مكان إقامتها لتحريضها على استخدام سلاح محرَّم دولياً بغرض الإبادة، ولم تواجه حتى عقاباً مهنياً من خلال النقابة المعنية أو على نحو غير ممأسس من قبل المنتجين والمخرجين.
بالعودة إلى استهداف الكلية الحربية وما تلاه، كانت هذه بمثابة فرصة جيدة لظهور أصوات موالية تدين الهجوم على الكلية والقصف اللاحق الذي “على الأقل” لم يستثنِ المدنيين. هي فرصة لأن شعبية الأسد لدى مواليه في أدنى مستوى لها منذ وراثته السلطة، بل هناك حالة من النقمة عليه لدى معظم الموالين، ولا مبالغة في القول أن النقمة بدأت تغزو معسكر شبيحته. وكنا بالفعل قبل شهور قد شهدنا تعبيراً عن الاحتجاج من بعض الشبيحة، إلا أنهم سرعان ما تراجعوا عنه مع التأكيد على أن مآخذهم لا تتلاقى أبداً مع “الإرهابيين” الذين ثاروا على الأسد عام 2011، أو الثائرين عليه في السويداء الآن.
بالمقارنة مع المحتجين اليهود على الحرب، نفترض نظرياً أن لا شيء يمنع بعض موالي الأسد من التحلّي بالقليل من الإنسانية تجاه الخصوم، وأن هذا البعض مع احتفاظه بموقفه السياسي لا يجد نفسه مضطراً إلى التماهي المطلق مع ممارسات السلطة، ويرى من واجبه تجاهها أن يحثّها على المحافظة على صورة أفضل لها، لأنها بذلك تراعي أولاً إنسانيته وكرامته. وعلى الصعيد السياسي، كان لمثل هذه الأصوات “لو وُجِدت” أن تمنح أملاً “مهما كان متواضعاً” بإمكانية التعايش مستقبلاً على أرضية وجود تيار غير إبادي في النظام نفسه، وفي هذه الحالة يجوز “أكثر من الاستخدام الدارج” أن نسمّيه نظاماً، ويجوز الحديث عن إعادة تأهيله بالاعتماد على تيارات منه ومن المعارضة لا تراه صراع وجود.
ليست المسألة بالتأكيد أن نمتدح اعتباطاً أولئك اليهود المحتجين، لأنهم امتلكوا حسّاً من الإنسانية والعدالة ينبغي تعزيزه وتعميمه. ثم إن الأمر برمته لا يقتصر على تصور إنساني أو إنسانوي؛ إنه في قلب السياسة، وإذا أمكن اليوم أو غداً للضغوط الدولية أن توقف الحرب على غزة فإن تنامي تيارات اليهود المناصرة للسلام في عواصم القرار سندٌ أكثر ديمومة لسياسات تلك الدول، أما الأهم فهو تنامي هذه التيارات بلا رجعة في إسرائيل، وهذا ما تحتاجه المنطقة عموماً.
—————————–
السويداء مع الجميع ولا أحد معها/ عمر قدور
الثلاثاء 2023/11/07
عندما نفّذت حركة حماس عمليتها “طوفان الأقصى”، قبل شهر من الآن، كانت انتفاضة السويداء في خط تصاعدي لجهة الاهتمام الخارجي بها. نعني بالأخير اهتماماً متواصلاً وأكثر جدية من شرائح من السوريين ازدادت ثقتها بالحراك واستمراره، ونعني أيضاً اهتماماً راح يتوسع ويتأكد من جهات خارجية منخرطة في الشأن السوري، وقد تجاوز بعض الاهتمام الأخير مرحلة استكشاف ما يحدث إلى تقديم دعم معنوي له، تجلّى ذلك خاصة باتصالات لمسؤولين غربيين بشيخ العقل الأبرز تأييداً للحراك حكمت الهجري، يعكس في وجهه الآخر تحذيراً للأسد من عواقب مجابهته بوحشية.
ولا نغالي بالقول أن الحراك كان قد صار محطّ تطلعاتٍ حتى ضمن فئات أقرب إلى الموالاة، على خلفية الاهتمام الدولي المتزايد به الذي قد ينهي حقبة من إهمال مأساة السوريين، وأيضاً على أمل أن يكرّس خطّاً ثالثاً راسخاً بين انعدام الأمل من سلطة الأسد وانعدام الأمل من هيئات المعارضة. ولسنا نساوي بين أسوأ ما لدى الأسد وأسوأ ما لدى المعارضة، ولا نقصد بالخطّ الثالث مساراً وسطياً أو توفيقياً بين الاثنين، بل نقصد مساراً مغايراً لهما وإن كان أقرب إلى ثورة 2011 لجهة تطلعاتها الأولى.
ما أن توضّحت أبعاد عملية “طوفان الأقصى” حتى توارت في وسائل الإعلام بقية الأخبار من هنا أو هناك، لأن ما حدث وما يزال يحدث استثنائي حقاً، وتبعاته قد لا تكون محدودة إطلاقاً. بمعنى أنه اهتمام مُستحق، والسوريون قريبون إلى الحدث بسبب العديد من الاعتبارات، منها “فوق الاعتبارات العاطفية التقليدية” أن مشاهد الدمار والإبادة تضغط على جرحهم الطازج إذ تذكّرهم بمجازر الأسد، ومنها إدراكهم “في حقل الحسابات السياسية” أن سوريا قد لا تكون خارج مقايضات دولية وإقليمية تُبرم على أنقاض غزة وأشلاء أهلها.
نظرياً، كان يمكن لأي حدث طارئ أن يزيح حراك السويداء من دائرة الاهتمام الإعلامي، لأن من طبيعة الأخير الانصراف إلى الساحات الساخنة على حساب الساحات المزمنة متى توقّفت الثانية عن تقديم الجديد وإثارة اهتمام المتابعين. ولا يندر أن تُبنى مظلوميات وعداوات، جراء عدم فهم ذلك، بين ضحايا سابقين وجدد، يرى كلّ منهم أنه الأولى بالاهتمام الذي خطفه الآخر منه!
هذا ما لم يفعله السوريون بمعظمهم، وما لم تفعله السويداء على نحو خاص، وبرهن على ذلك متظاهروها بمواظبتهم على رفع العلم الفلسطيني أو لافتات تتضامن مع أهالي غزة، أثناء احتجاجاتهم اليومية ضد الأسد. في الغضون، نالت إدلب المنسية تحت قصف قوات الأسد التفاتات من أولئك المتظاهرين، وكذلك حال منطقة الجزيرة التي تعرّضت لعدة عمليات قصف من القوات التركية. ولا ننسى التنويه بمظاهرات أهالي إدلب تضامناً مع غزة، والتي خرج بعضها في الاستراحة بين غارة للأسد وأخرى للطيران الروسي.
يُحسَب لمنتفضي السويداء تضامنهم مع غزة وإدلب والجزيرة، رغم انشغال الجميع عنهم بالمصائب والأهوال، سواء كانوا من الضحايا أو من متابعي ما يحدث. وهو قول لا لوم فيه ولا يذهب أبعد من كونه توصيفاً، ولا تتعدّى دلالته القول أن السويداء بخير حتى الآن؛ بخير إذ لم تفقد الحساسية إزاء ضحايا آخرين، وبخير إذ لم تقع فيها نكبة أو مأساة تجبرها على الانكفاء. والحق أن السويداء بخير أيضاً لأنها استوعبت بنضجٍ خروجَها من دائرة الاهتمام، ولم تدفعها هذه العزلة إلى الانكفاء عن مطالبها وعن المشروع الذي انتفضت لأجله. وألا يتسرّب اليأس إلى النفوس، رغم الحاجة إلى التضامن والاهتمام في مواجهة سلطة متوحشة، فهذا مطمئن لجهة رسوخ الحراك وثقة أبنائه بأنفسهم.
قد يبدو لوهلة أن انشغال الأسد باستهداف إدلب، وانشغال حليفه الإيراني بحسابات محوره التي تفوق السويداء أهمية، قد أتيا لصالح عدم استهداف الأخيرة. فعلياً، لم تتوقف المواجهة “المنضبطة حتى الآن”، ولم يتوقف تصعيد الحراك من جهة المنتفضين والردّ عليه من مخابرات الأسد، ومن المرجّح بشدة أن تكون الأخيرة وراء اغتيال رمزي المحيثاوي بستّ رصاصات في الأول من هذا الشهر، وهو من مؤسسي “تجمّع مهندسي السويداء” المعارض، وقد ظهر حاملاً أول لافتة تعلن عن التجمع، كما كان قد ظهر في صورة جماعية مع الشيخ الهجري.
تحاشى المنتفضون الانزلاق إلى العنف بسبب اغتيال المحيثاوي، وردّهم الأقوى كان باستمرار تشكيل هيئات تُعنى بتنسيق نشاطات الحراك، أو بتشكيل هيئات نقابية بديلة عن تلك الموالية، منها “نقابة المحامين الأحرار” و”تجمّع معلّمي السويداء لأجل الحرية والكرامة”.. إلخ. وقد أعلنوا أيضاً عن إضراب عام، من ضمنه إغلاق مقرّ فرع الحزب الذي بات من أهم الرموز الباقية للأسد في المحافظة. ثم تراجع المنتفضون عن مطلب إغلاق فرع الحزب عندما ووجهوا بالعنف، وأبدوا الحساسية التي صارت معتادة من أجل تحاشيه، خاصة مع إدراكهم أن المخابرات تعمل على أن يكون العنف من ضمن انقسام درزي اشتغلت عليه أولاً ضمن مشيخة العقل، ثم بالإعلان عن تشكيل هيئة روحية للدروز المقيمين خارج السويداء، إلا أنها لاقت فشلاً ذريعاً في المرتين.
بهذا التقدّم المتمهّل، الذي بات بعيداً عن الاهتمام الإعلامي، يبرهن حراك السويداء على رسوخه، رغم أن أفق المنطقة ككل صار أكثر تعقيداً بالحرب على غزة. وقد لا يكون الابتعاد عن بؤرة الإعلام سلبياً، لأنه أتى أيضاً في توقيت بدا فيه الحراك كأنه يفقد “جاذبيته” بالنسبة لمتابعيه عن بعد، ولأنه قد يكون من المفيد لاختبار أية تجربة هذا الإحساس بأنها متروكة لفعاليتها الذاتية فحسب، على أن يكون هذا مؤقتاً وغير متعمّد بهدف محاصرتها. بتضامنها مع غزة ومع إدلب والجزيرة، ترفض السويداء عزلة أريدت لها تحت مختلف العناوين منذ بدء انتفاضتها، وتبرهن على رحابةٍ لا تكون حرية حقيقية من دونها.
هي ليست المرة الأولى التي يجرّب فيها سوريون الإحساس بأنهم متروكون، وليست الأسوأ حتى الآن بالتأكيد، خاصة مع امتلاك النضج والوعي. وتقول لنا الحرب على غزة أن الوجود في صدارة نشرات الأخبار له كلفة باهظة في الكثير من الأحيان، ما يجعلنا نتمنى لأهلها انتفاء مبررات الاهتمام الحالي، ونيل الاهتمام الإنساني المستدام المستحق، وهو ما يستحقه السوريون أيضاً.
—————————-
ولادات حماس المتعدّدة/ بشير البكر
الإثنين 2023/11/06
كلما امتدّ أمد الحرب الاسرائيلية على غزة، اتسع المدى أمام الآراء النقدية في أوروبا. وفي كل يوم يكبر حجم جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية، ضد شعب محاصر ضمن مساحة جغرافية محدودة. كان صوت أنصار اسرائيل عالياً وجارفاً، في الأسبوع الأول الذي تلا هجمات السابع من اكتوبر، وهذا أمر طبيعي، بالنظر إلى قوة الصدمة في اسرائيل وخارجها، غير أن الموجة بدأت تفقد قوتها تدريجياً كلما اقتربت من شاطئ غزة. قدر هائل من التدمير. صواريخ وقذائف من البر والبحر والجو، تنهال على رؤوس المدنيين الذين لا يجدون الضوء والماء والطعام، وما يضمدون به جراح الأطفال. بل إن الهمجية التي يصعب وصفها، لم تترك للناس حتى الوقت لدفن الأطفال والنساء والشيوخ، الضحايا المباشرين للقصف الاسرائيلي.
لن تكون هذه الجولة كسابقاتها. في كل مرة تذهب اسرائيل إلى الحرب، تعلن أنها تواجه خطراً وجودياً، كي ترفع عن نفسها المسؤولية، وتتخفف من النتائج. لم ينجح التدمير والقتل وتشريد الآلاف في إنجاز انجاز المهمّة، ولا أحد يخمن من المراقبين، أن يختلف الوضع كثيراً في هذه المرة، سوى أن الورطة أكبر. وما ارتفاع ضغط الاسرائيليين، إلا دليل على الفشل في كسر إرادة الفلسطينيين، وإجبارهم بالرضوخ للقوة وترك أرضهم. وكي يجد مخرجا من المأزق، أعلن رئيس الوزراء الاسرائيلي، وفريق الحرب وقادة المستوطنين حربا شاملة. جيش كبير يفوق 300 ألف جندي يهاجم غزة، وجيوش أخرى تجتاح الضفة الغربية، بما فيها جيش المستوطنين.
في كل حرب اسرائيلية على الفلسطينيين يدرك العرب في كل بلدانهم، أن هناك من يخوض المعركة نيابة عنهم. ومن المؤكد أن هذا الشعور يختلف من بلد لآخر، لكن الحروب المتوالية توسع من الدائرة. وثمة إحساس عام بأنه لن تتأخر الحرب حتى ينال كل عربي قسطه منها. ويبدو من هذه الحرب أن اسرائيل فتحت عيون الأجيال الجديدة على قضية فلسطين، بعد أن صدقت اسرائيل وتيار التطبيع، بأنها سقطت بالتقادم. كل من ولد منذ عشرين عاماً لم يشاهد حربا فعلية بالضراوة، التي تدور بها الآن في غزة. وهؤلاء هم الذين نزلوا إلى الشوارع في العالم العربي وخارجه يهتفون لغزة. وهذا أمر يجري النظر إليه بقلق شديد، لأنه يؤدي إلى ولادات متعدّدة لحماس.
تريد اسرائيل أن يخوض الغرب حربها ضد الفلسطينيين. ينادي أنصارها علانية بحرب حضارات. يضغطون على أوروبا والولايات أن تنخرط فيها ضد العرب، كي تحمي دولة الاستيطان على أرض شعب آخر. لقد ظهر في هذه الحرب قدر الوهم الذي يعيشه الاسرائيليون في اسرائيل وخارجها. ساد الظن بأن الغرب صار بعيدا عن الصراع في الشرق الأوسط، وجاءت المظاهرات في لندن وواشنطن ونيويورك وحتى اسطنبول، لتقول العكس. وهذا لا يعني أن كل الغرب معهم أو ضدهم، مع فلسطين، أو ضد العرب. هناك أكثر من غرب في هذا الصراع، لكن ليس من المؤكد أن الغرب الرسمي سوف يخوض معركة اسرائيل حتى النصر. من المؤكد أنه لن يسمح بأن تنهزم، لكنه لن يتحمل كلفة هزيمة أعداءها، وهذه قاعدة غربية قديمة، تم العمل بها في كل الحروب السابقة، التي خاضتها اسرائيل ضد العرب. ولذلك تكررت على نحو لافت جملة، تنبه اسرائيل إلى احترام الحدود.
هذا لا يعني أنه ليس هناك تيارات ذات رؤية سطحية في فهم الصراع، وخاصة في فرنسا، حيث تمارس اسرائيل تأثيراً سياسياً وإعلامياً عالياً. ومثال ذلك الفيلسوف ميشيل اونفري، الذي فبركته الميديا الجديدة، كما صنعت قبله فلاسفة آخرين. لم يؤثروا في الرأي العام، أو يقدموا منجزاً فلسفياً مهما، يمكن لهم الاعتداد به، على غرار برنار هنري ليفي وآلن فينكل كروفت وأندريه غلوكسمان، فتحولوا إلى ألسنة حادة، تردّد دعايات اسرائيل بمفردات خالية من قوة الحجة. ولذلك يهربون إلى مرجعيات بعيدة عن المنطقة وتاريخها وهويتها، إلى معزوفة صراع الحضارات، التي جاء بها صاموئيل هنتنغتون بعد هجمات الحادي عشر من أيلول، على الولايات المتحدة.
برز على نحو ملفت غياب الصوت العربي في الغرب. ولولا بعض الفنانين مثل النجم التلفزيوني باسم يوسف، والدبلوماسيين مثل السفير الفلسطيني في بريطانيا حسام زملط، لكانت الساحة خالية، وخصوصاً في فرنسا، حيث تتعمد بعض وسائل الاعلام تغييب وجهات النظر الأخرى. وجرى تغييب المعلق كريم زريبي من قناة “سي نيوز”، وتعرضت أصوات أخرى للتعنيف والهجمات، مثل الكاتبة ستيفاني لات عبد الله، التي لم تظهر على القناة مرة أخرى.
الدعاية الاسرائيلية عكست تهافت التهافت. ورغم كل ما يحفل به النزاع من تضاريس معقدة، لم تقدم سوى الاسطوانة القديمة، اسرائيل الديموقراطية، والارهاب الاسلامي، ومعاداة السامية. وليس في يد المدافعين عن اسرائيل سوى ورقة واحدة في مواجهة الآخرين، هي اشهار إدانة حماس، الذي حولوه إلى ميزان يقيسون به مواقف الآخرين. وبعد أن بدا في الأيام الأولى نوعاً من رد الفعل العفوي على حجم الضربة التي تلقتها اسرائيل، تحول مع الوقت إلى اداة لقمع الآخرين، غير أن حرب الإبادة التي تشنها اسرائيل، والدعم الأميركي، جعل من هذه البروباغندا بلا معنى، وصارت مثل نكتة بايخة تثير السخرية.
———————————
سوريا في سياق صناعة تاريخ المنطقة/ صبا مدور
الأحد 2023/11/05
من المرجح أن تنتهي الحرب الاسرائيلية على غزة إلى واقع شرق أوسطي مختلف، تعتمد معالمه على نتائج المعركة الحالية أوالحرب الشاملة التي قد تتدحرج إليها في حال استمرارها بهذه الوتيرة الوحشية، ووسط هذه الافتراضات، تبدو سوريا في قلب أي تغيير في الجغرافية أو في الأدوار.
ليس واضحا طبيعة المكان أو المكانة التي ستحظى بها سوريا، في الترتيبات المتوقعة، لكن من المحتمل أن يجري ترتيب وضع سوريا بدون سوريين، وهو أمر يمكن تلمس مقدماته، من الصوت السوري الخافت بشدة، وغير المهم ولا المؤثر نظاماً ومعارضة فيما يتصل بالحرب على غزة، خلافا لكل تاريخ سوريا في مسيرة القضية الفلسطينية.
هذا الغياب السوري، كان نتيجة متوقعة لحرب استهلكت كل الأطراف، وتبدو إيران المستفيد الأكبر المحتمل من تأثيرها في سوريا كما في لبنان والعراق واليمن كي يكون لها مقعد مناسب في إدارة الصراع أو في التسويات التي قد تليه، وبعد نحو شهر من الحرب فإن تقدير شكل نهاياتها وأفقها يبدو غير واضح، لكن الثابت الوحيد المعروف بعد كل الحروب أنها تقود إلى تسويات تناسب حجمها، وتتعلق بنتائجها، وتضمن مشاركة الأطراف المؤثرة والمشاركة، لتحدد مستقبل المنطقة وسكانها.
من هذه الزاوية، فقد نشهد نمطاً يشبه في شموليته مؤتمر مدريد 1991 يحضره كل المؤثرين إقليميا ودوليا، لكنه على الأغلب لن يدعو بشار الأسد المعزول دولياً، ولا معارضيه الذي ما زالوا خارج شرعية التمثيل الرسمي المعترف به دوليا، وهنا ستكون سوريا وهي أكثر دول المشرق العربي مركزية وأهمية، عرضة للتجاذبات والتسويات وعمليات المساومة وربما الابتزاز.
وحتى ذلك الحين تتحول سوريا بشكل متسارع إلى ساحة لامتدادات الحرب الممكنة، وقد بدأت إرهاصات ذلك فعلاً بتعرض القوات الأميركية في قاعدتي التنف والشدادي لقصف بالصواريخ والطائرات المسيرة من قبل ميليشيات عراقية، لكن هذا القصف لم يبدأ في حرب غزة، بل أنه يبدو في سياق هذه الحرب القاسية، تداخلا غير فعال، وغير مؤثر، ولن يتسبب على الأغلب برد أميركي فوري.
لكن أنماطا أخرى من الانخراط السوري في الحرب يمكن أن تكون اكثر خطورة وتأثيرا، وأعني بها تلك العمليات التي يمكن نظريا أن تقوم بها الميليشيات التابعة لايران انطلاقا من نقاط التماس مع الجولان المحتل، وهذه ستكون تحولا كبيرا في العلاقة بين نظام الأسد وإسرائيل، وهي علاقة ظلت ساكنة، ولم تتعد حالة القصف الإسرائيلي الجزئي، والرد الحكومي السوري اللفظي، وهو ما أبقى حالة الهدوء على الجهة السورية منذ 1973، كما منح نظام الأسد الأب والأبن أفضلية إسرائيلية وأميركية، وسمح له بان يمضي في قمع الثورة، والتحالف مع إيران وروسيا، لحمايته.
وتبدو احتمالية تحريك جبهة الجولان ضعيفة، رغم الحشود العسكرية الايرانية الكثيفة، لا سيما بعد خطاب زعيم حزب الله حسن نصر الله، وقراره إبقاء مواجهات الحزب مع إسرائيل في الحدود الراهنة ضمن قواعد الاشتباك المعروفة، مع “إبقاء كل الخيارات مفتوحة”، لكن هذه الاحتمالية الضعيفة تظل ممكنة ولا يمكن استبعادها في أي وقت تخرج فيه الأوضاع عن السيطرة، لا سيما بالنسبة لحزب الله.
وفضلا عن الميليشيات التابعة لايران، فإن أنباء تحدثت عن احتمال تجنيد مقاتلين من (وحدات حماية الشعب) الكردية المدعومة أميركيا للقتال إلى جانب إسرائيل، كما أن المسلحين المعارضين المنتشرين في مناطق شمال غرب سوريا ربما يكون لهم دور في مرحلة ما إذا ما توسعت الحرب بالفعل، لكنهم بدون ذلك، سيكتفون بانتظار ما تنتج عنه التسويات المرتقبة ومواقف دول داعمة لهم وأبرزها بالطبع تركيا.
وفي كل الأحوال فإن سوريا نظاما ومعارضة يبدوان اليوم خارج المدى والتأثير، حيث الأول مرهون لرعاته الروس والإيرانيين، وفي نفس الوقت محكوم بخطوط حمرمع إسرائيل قد يكون رأسه ثمنا لتجاوزها، أما المعارضة، فهي فضلا عن ضعفها السياسي المعهود وقلة حيلتها وانقسامها، فإنها تجد نفسها في منطقة رمادية صعبة، فهي تمثل شعبا مؤيدا بالفطرة والتاريخ لفلسطين ومقاومتها، لكنها أيضاً تعادي نظاما يحمل وحلفاؤه نفس الشعارات والمواقف، وهي بالقطع لا تريد ولايريد خصومها كذلك، الحضور في المركب ذاته، وكل منهما يطعن بمصداقية الثاني في الموقف من فلسطين..
هذه المعضلات وسواها لاتبقي لسوريا أرضا وشعبا سوى انتظار النتائج، وما ينتج عن حروب الآخرين من تداعيات وتسويات واتفاقات، وعليهم أن يقبلوا بذلك مهما كان للاسف الشديد.
——————————
نصيحة تنجيكم من القتل:انتحروا/ عمر قدور
السبت 2023/11/04
أحد أوجه اختلاف ما يحدث الآن أنها المواجهة الإسرائيلية-الفلسطينية الأولى، على هذا المستوى، في زمن وسائل التواصل الاجتماعي. وهي تنفرد بهذا الأثر عن مواجهات سابقة خلال العقدين الأخيرين، بمعنى أنها صارت قضية ساخنة، يُختلف عليها وحولها ضمن طيف واسع جداً عالمياً، ولدى الناشطين باللغة العربية. هذا قد يعود بالفائدة والمؤيدين على جانبي الصراع، إلا أنه يعرّض الصراع نفسه لمزيد من أنواع سوء الفهم التي باتت لصيقة بالسوشيال ميديا لجهة كونها مرتعاً للشعبوية، بل الشعبوية المتعالمة على ما سواها بذريعة أن كل ما هو قبلها صار تقليدياً متقادماً. وليس خاصاً بالوضع الفلسطيني أن الشعبوية التي انتعشت على أرضية رفض “الصواب السياسي” راح أربابها يطرحون أنفسهم رمزاً لصواب جديد.
مصيبة الشعبوية في حالتنا هذه أنها تستأنف عمل أيديولوجيات أحادية بائدة، إذ يستسهل أصحابها طرح إجابات وحيدة، بوصفها جامعة مانعة، على واقع معقَّد بطبيعته، ويكفي أن نقلّبه على عدة وجوه “ولو على سبيل التمرين الذهني” كي يتبدد ما كان يُظنّ أن صواب مطلق من قبل. والسيء في تطابق الشعبوية مع الأيديولوجيات البائدة أن الأولى تستأنف مقولة “لا صوت يعلو على صوت المعركة”، إذ تعطي لما هو على السطح الآن الأولوية المطلقة إما بزعم ضرورته الملحّة أو بزعم عدم الحاجة نهائياً إلى مستويات أخرى من الفهم.
هناك مثلاً أصوات بالعربية على السوشيال ميديا تبرر الحرب الإسرائيلية الحالية بـ”حق إسرائيل بالدفاع عن النفس”، وهي تختلط بأصوات تدين هجوم السابع من أكتوبر على أرضية عواقبه الفادحة على غزة. فقط الشعبوية تخلط بين الرأيين، في حين أن الثاني منهما مبني على قراءة للوقائع، وربما على موقف مبدئي من حماس، أما الأول فهو مزيج شعبوي رثّ، قد يكون مبنياً أيضاً على معاداة حماس إلا أنه يغالط باستخدام تعبير “حق إسرائيل” الذي يحيل أصلاً إلى مفهوم قانوني، بخلاف الاستخدام الحالي الذي يغطي عملية ثأرية خارج كافة قوانين الحرب والاتفاقيات الدولية المتعلقة بها.
عطفاً على المثال السابق، نقترح ثلاثة مستويات يُستحسن عدم الخلط بينها باعتباطية، علماً أن الخلط جارٍ ومن مواقع مختلفة أو متعارضة حتى. المستوى الأول هو مستوى الحق النظري، والثاني هو المستوى الحقوقي متعيّناً بمجمل القوانين والقرارات الدولية، وبتلك الخاصة بالقضية الفلسطينية بصرف النظر عن اعتبارها منصفة أو غير منصفة. أما المستوى الثالث فهو السياسي المباشر، وإذا أمكن الحديث عن مستوى رابع فكري فهو يلحظ بالضرورة المستويات الثلاثة، باستثناء التسطيح الذي يجهد لفرضه شعبويو اليوم وأيديولوجيو الأمس.
في مستوى الحق، يرى كثر أنه من غير المفيد استرجاع مناظرات حول أحقية الفلسطينيين بفلسطين أو اليهود بأرض الميعاد، وكي لا تكون هناك مزايدة على أصحاب القضية فهُم قبِلوا مبكراً التنازل عن حقهم الحصري بفلسطين. إن فكرة تحرير فلسطين من البحر إلى النهر و”رمي اليهود في البحر” هي فكرة شعبوية رافقت الأيديولوجيا القومية، بينما كانت منظمة التحرير واضحة في برنامجها الذي ينص على دولة ديموقراطية على كامل التراب الفلسطيني تعترف بالأمر الواقع السكاني.
بدءاً من منتصف السبعينات، بدأت المنظمة التراجع عن مطلب الدولة الواحدة، وراحت ترضخ أكثر فأكثر لمتطلبات القرارات الدولية المبنية نظرياً على قرار التقسيم، من دون الأخذ بتفاصيله التي تواطأ الجميع على أنها صارت من الماضي. كثر يلومون الفلسطينيين والعرب على عدم قبول قرار التقسيم، ثم على التأخر في قبول قرار مجلس الأمن 242، لأنهم ضيّعوا فرصاً أفضل لحل القضية. ومن دون أدنى تبرير للخطايا السياسية الفلسطينية والعربية، فإن تجربة القبول الفلسطيني والعربي بالقرارات الدولية لم تأتِ بنتائج أفضل فيما بعد لأن إسرائيل غير مبالية بها، ولأن العالم غير متحد ومصرّ على تنفيذها. هذا فقط شرح لواقع الحال، ولا يهدف إلى شيطنة العالم الذي قلّما كان متحداً على أمر ما.
الوقائع تقول أن الفلسطينيين تقدّموا مرتين على إسرائيل، مرة عندما تنازلوا عن المفهوم الشائع للحق، وقبِلوا بدولة واحدة نهائية لكل سكانها، ومرة ثانية عندما قبِلوا بالقرارات الدولية التي لا تتناسب حتى مع مفهومهم المستجد لحقوقهم. في المرة الأولى لم تتنازل إسرائيل في المقابل عمّا تعتبره حقاً لجميع اليهود بالقدوم إلى فلسطين التاريخية، وفي المرة الثانية لم تقبل إسرائيل بتطبيق القرارات الدولية الخاصة بالصراع. وقد لا يكون واضحاً لكثر أن مطالبة إسرائيل منظمة التحرير بالتنازل عن ميثاقها لم تستهدف إنهاء الكفاح المسلح بقدر ما كانت تستهدف مطلب الدولة الواحدة، وكان ذلك بمثابة مرحلة تسبق تقويض حل الدولتين أيضاً.
ليست المسألة بوجود يمين إسرائيلي متطرف حاكم يرفض السلام مع الفلسطينيين؛ هي في اتخاذ إجراءات متواصلة على صعيد الاستيطان والتهويد، والإصرار على يهودية الدولة، والتنصّل بتلك الإجراءات من اتفاقية أوسلو من دون إعلان عن دفنها. هنا أيضاً توجد حالة شاذة خطيرة على الصعيدين السياسي والحقوقي معاً، فالمستوطنات الإسرائيلية “المتزايدة بعد أوسلو” قطعت الطرق على حل الدولتين، ولو افترضنا أن الفلسطينيين قبلوا بالأمر الواقع، وقرروا البقاء كمواطنين كاملي الحقوق تحت السلطة الإسرائيلية فالأخيرة لا تقبل بهم أو بهذا الحل لأنها تعتبرهم خطراً ديموغرافياً، وهي رغم ممارساتها كسلطة احتلال غير مستعدة أيضاً لتعود سلطة احتلال بالمعنى القانوني بعد أن أعفتها اتفاقيات أوسلو من ذلك العبء.
تحويل غزة إلى سجن حقيقي، بينما يجري حثيثاً استيطان مزيد من أراضي الضفة، هما ضمن نهج إسرائيلي قاد ويقود إلى استعصاء على صعيد السياسة لا حلّ منطقياً له سوى بتهجير فلسطينيي القطاع والضفة، مع التنويه بأن مستقبل الضفة سيكون أسوأ من واقع القطاع كلما استحكمت فيها عمليات الاستيطان. هذا النهج يتطلب تفكيراً أعمق بكثير من مجرد التوقف عند عواقب هجوم حماس الأخير وعمليات الثأر الإسرائيلية المتواصلة. وتحميل حماس المسؤولية عن رد فعل إسرائيل الثأري يكتسب نزاهة بالانتباه إلى نهج القتل البطيء المتعمد، لئلا يبدو أصحابه كمن يقدّموا نصيحة تنجي الفلسطينيين من القتل بالقول: انتحروا ببطء وصمت. والحديث هنا عن حلّ حقيقي في السياسة، حلّ يضمن كرامة الأحياء، فلا يتعالى الذين يطرحونه على أصحاب المأساة ليرون مجرد بقائهم على قيد الحياة كافياً.
بالطبع سيكون مفيداً دائماً الحرصُ على أرواح الجميع خاصة من المدنيين، وهو مبدأ وغاية معاً، إلا أن هذا الحرص النبيل وحده ليس بمثابة تفكير في السياسة، ما لم ينطلق من كون الأخيرة تتوخى الأفضل للأحياء، فيكون درء الموت عنهم أدنى عتبة. ليس وقف إطلاق النار هو الملحّ فحسب، بل أيضاً التفكير السياسي الجاد في سلام مستدام يحفظ كرامة الجميع. في انتظار أن تكون الظروف مهيّأة لذلك، إن لم تكن واردةً محاولةُ فهْم الأضعف فمن الممكن على الأقل عدم جَلده بفتات الشعبوية التي تدّعي حرصاً عليه أو معرفة بأحواله أكثر منه، أو تلك التي يحرّضه أصحابها على الشهادة بينما يتجنبونها ليل نهار.
—————————–
هل يُقبض ثمن غزة في سوريا؟/ عمر قدور
الثلاثاء 2023/10/31
سواءً كان لطهران علاقة بقرار عملية “طوفان الأقصى” أو لم يكن فإن طهران فرضت نفسها عقب العملية شريكاً رئيسياً في قرار الحرب والسلم، بل انصبّ قسم ضخم من المجهود العسكري والدبلوماسي الغربي لردع إيران عن المشاركة في المعركة. الوقائع على الأرض تفيد حتى الآن بأن تبادل القصف على جبهة جنوب لبنان يبقى تحت السيطرة، فلا هو في منزلة التخلّي القاطع عن إشعالها، ولا هو في مرتبة التصعيد المتدرِّج نحو معركة كبرى.
في الغضون، لمّح مسؤولون إيرانيون إلى خطوط حمر ستضطرهم إلى الدخول في الحرب، من دون تحديد هذه الخطوط أيضاً، ما يضع تصريحاتهم في خانة الاستهلاك المحلي لأنصار محور الممانعة. إلا أن أقوالهم تكتسب بعض الجدية، غير الحربية، لمجيئها مدعومة بهجمات ميليشيات إيرانية على مواقع أمريكية في سوريا، ليبدو التحرّش بالقوات الأمريكية استئنافاً لإطلاق قذائف على إسرائيل من جهة الجولان.
وما يتوجّب الانتباه إليه في استخدام الساحة السورية أن أيدي طهران ليست طليقة في جهة الجولان، ولموسكو حسابات مختلفة مع تل أبيب، بل كانت العلاقة بينهما وبين بوتين ونتنياهو “خلال حكومته السابقة” في أفضل حالاتها، ولطالما أثار الصمت الروسي على قصف إسرائيل مواقع إيرانية في سوريا حنقَ أنصار المحور الإيراني. أي أن برود سطح العلاقات الروسية-الإسرائيلية حالياً لا يضمر موافقة على استهداف إسرائيل جدياً لاعتبارين؛ أولهما العلاقة التي تبقى رغم كل شي متينة ولها حساباتها الخاصة بوجود عدد ضخم من الإسرائيليين من أصل روسي، وثانيهما أن موسكو لا تريد الظهور عاجزة مقابل انفراد إيران بالنفوذ في جهة الجولان، والاتفاق هناك بين الطرفين غير ممكن إلا إلى الحد الذي يخدم الأولى لتطرح ضرورة وجودها كوسيط بين أطراف النزاع.
يختلف الأمر مع استهداف الميليشيات الإيرانية مواقع للقوات الأمريكية في شرق الفرات، إذ من المؤكد أن موقف موسكو يدعم أي استهداف للقوات الأمريكية، وربما يتخطى الرضا إلى تقديم معلومات استخباراتية أو دعم لوجستي للميليشيات سراً. بخلاف الظاهر والمنطق، قد تكون هجمات الميليشيات على المواقع الأمريكية في سوريا أكثر جدية من تلك المقذوفات الموجّهة إلى إسرائيل، وهذا ما يفسّر الرد الإسرائيلي الذي لا يفوق بالعنف غاراته المعتادة في سوريا، وإن كان لا يفسّر الرد الأمريكي المحدود أيضاً.
ثمة اختلاف آخر يجدر الانتباه إليه، ففتح جبهة الجنوب من قبل حزب الله ليس مصلحة إسرائيلية، رغم القدرة غير المشكوك فيها على إيقاع دمار هائل في الجانب اللبناني وفي غزة معاً. في المقابل، توسيع دائرة الحرب “باستهداف المواقع الأمريكية في سوريا” لا يبدو لمصلحة إيران، إذا كانت حقاً تريد الضغط على إسرائيل من دون إعطاء واشنطن ذريعة قوية “أو حتى إحراجها” كي تدخل الحرب. يلزم غشاوة سميكة جداً على الأعين للظنّ أن طهران غير عابئة، بل مستفيدة، بتطور المعركة إلى حرب عظمى.
تستفيد طهران حتى الآن، إذ يأتي الرد متناسباً مع حجم تحرشاتها، لا مع القوة الأمريكية العظمى، ليُفهَم منه وجود تحدٍّ إيراني يقابله “تخاذل” أمريكي. ومن المؤكد أن واشنطن لا تريد التصعيد، وقد سعت منذ البداية إلى احتواء المواجهة الحالية لتقتصر فعلياً على عزة، وهي تفهم جيداً الرسائل الإيرانية التي تؤشّر إلى التفاوض أكثر بكثير مما تؤشّر إلى الحرب. بل لا يمكن، ضمن ميزان القوى المعروف جيداً، أن تهدف هذه الهجمات إلى الحرب، خاصة مع وجود حالة استنفار قصوى لدى القوات الأمريكية في عموم المنطقة وتوافد المزيد منها.
منذ هجوم حماس في السابع من الشهر، راح يُستخدم تعبير “وحدة الساحات” بوصفه داعماً الحركة أو فلسطينيي غزة. ذلك في الوقت الذي اتجه فيه الردع الغربي لا إلى تفكيك تلك الوحدة المزعومة فحسب، بل أيضاً إلى حماية الاستفراد الإسرائيلي بغزة بلا قيد أو شرط. إن عملية التفاوض التي بدأت منذ الأيام الأولى للمعركة هي هنا، هي في الثمن الذي تريد طهران قبضه بتلويحها بوحدة الساحات، والتي يدفع أهالي غزة ثمنها الذي لا نجد وصفاً له لشدّة ما هو باهظ.
تعني وحدة الساحات لدى أنصار المحور الإيراني أن أي مكسب يتحقق في أية ساحة هو مكسب كلي، وهذا مقترن دائماً بالتصويب على خسائر العدو “أي عدو كان” مع الإعلاء من قيمة المكسب. وفي الواقع لا وظيفة منطقية لاستهداف المواقع الأمريكية في سوريا سوى الإشارة إلى المكان الذي تقبل فيه طهران الثمن لقاء قبولها ما يُدبَّر لغزة، أي أنها تريد من واشنطن ثمناً في سوريا. وكي لا يكون هناك شطط في التوقعات؛ لن يكون المطلوب انسحاباً أمريكياً تاماً.
لعل تخلّي واشنطن عن مواقع نفطية في سوريا، والإبقاء على قواعد عسكرية مع انحسار مظلتها التي تحمي قسد، يكونان بمثابة ثمن تطمح إليه طهران، ويصبّ ريعه في خزائن مؤسسة “خاتم الأنبياء” التي تتولى في سوريا تحصيل ما أمكن من الديون الإيرانية المقدَّرة بخمسين مليار دولار، بينما يُصرف الريع السياسي بوصفه انتصاراً على “الشيطان الأكبر”. وكي لا يكون هناك شطط مقابل، من المستبعد جداً أن تحقق إسرائيل أهدافها المعلنة في غزة، بل لقد بدأ التراجع عن بعضها فعلاً، وربما ينتهي المطاف “مثلاً” بالقضاء على حكم حماس، من دون القضاء عليها نهائياً كما توعّد قادة تل أبيب في الأيام الأولى لحربهم على غزة. وبطبيعة الحال هناك مَن يتحفّز إلى هذه الخاتمة ليعلنها نصراً فوق الأشلاء للمحور إياه، فقط لأن العدو لم يحقق سقف أهدافه المعلنة.
الاستثمار في القضية الفلسطينية عمره من عمرها تقريباً، وبالطبع ينبغي عدم التشكيك في دوافع الفلسطينيين “أو في أحقية التضامن معهم” رغم أن العديد من الأطراف استفاد أو سيستفيد من مأساة غزة. مثلاً تهليل الأسديين للحرب مفهوم لأن أخبار الوحشية الإسرائيلية تغطي على أخبار إدلب، وتُنسى مؤقتاً وحشية الأسد المستمرة منذ 12 عاماً. على صعيد متصل، تستفيد موسكو من الحماية الأمريكية للانتقام الإسرائيلي لتذكّر بأن حمايتها الأسد في مجلس الأمن ليست استثناء، وبأن واشنطن تدافع عن تجويع الفلسطينيين كما دافعت هي عن تجويع السوريين. وغداً، عندما يحين موعد انتهاء المعركة، سيظهر في رأس قائمة المستفيدين أولئك الذين يتاجرون بقضية القدس، من أجل الاستحواذ على نصيب من الطريق إليها ليس إلا. لنأملْ ألا يحدث هذا، وأن تعود صدارة المستفيدين لمستحقيها.
——————————-
اسرائيل تسرق دموع الفلسطينيين/ بشير البكر
الإثنين 2023/10/30
كأن عاراً كبيراً وقع على اسرائيل. حالة من الغضب الشديد والاحساس بالخذلان، أحاطت بحديث المواطنة الاسرائيلية، يوخيد ليفشيتس، التي أفرجت عنها حركة “حماس” يوم 23 اكتوبر الجاري. يبدو أنه أحداً من أصحاب القرار في اسرائيل لم يتوقع أن تتكلم تلك السيدة المسنة بعفوية تامة وصدق عن المواقف التي عاشتها وهي محتجزة لدى “حماس”. أزعج المسؤولين الإسرائيليين كثيراً، أن تعترف بأنها تلقت معاملة جيدة من قبل الأعداء الذين تشتغل الماكينة السياسية والإعلامية العالمية، على رسم صورة مرعبة لهم، أكثر دموية وإجراماً، من تلك التي عرفها العالم عن “داعش”.
انتَظروا، وكانوا يتمنون، لو أنها ادعت بأن أحد مقاتلي “حماس” تحرش بها، أو عاملها بخشونة، شتمها وقال لها أيتها العجوز الصهيونية المستوطنة في أرضنا، سأدفنك حية! لكنها وصفتهم بأنهم “كانوا ودودين جدًا معنا”، وأنها صدّقتهم، حين قالوا “إنهم يتبعون تعاليم القرآن، ولن يؤذونا”، لأنه يفرض عليهم معاملة الأسير بإنسانية، ولم تهمل العجوز التفاصيل الصغيرة المهمة “كانوا يهتمون بنظافة المكان حولنا، وهم من كانوا يقومون بتنظيف الحمّامات لا نحن”، وقدموا لها الدواء والطعام الذي يأكلون منه، والأمر الذي لا يقل أهمية هو، أن هؤلاء من بينهم نساء، يعرفن حاجيات النساء الأسيرات.
ثمة، في الغرب، مَن صدمته اعترافات السيدة الاسرائيلية، لأن قطاعاً من الرأي العام في أميركا وأوروبا وحتى الهند، يريد أن يصدق الرواية الاسرائيلية فقط، لأنها تسمح بأن يتسرب من ثناياها قدر كبير من الادعاءات المفبركة، بهدف طمس حقيقة ما حصل، وتركيب سيناريو كارثي للثأر من الفلسطينيين. لذلك، ضللت شبكة “سي أن أن” الأميركية متابعيها خلال تغطيتها المؤتمر الصحافي للأسيرة، وبخلاف التعمية على فحوى كلامها، بأن مقاتلي “حماس” أحسنوا معاملتها، وكانوا ودودين للغاية معها، فعنونت “سي أن أن” خبرها عن المؤتمر الصحافي بـ”الرهينة الإسرائيلية المُفرج عنها: عشت جحيمًا بعد اختطافي”.
لكن هيئة البث الإسرائيلي فضحت المسرحية، عندما اعتبرت أن السماح للأسيرة بالإدلاء بتصريحات على الهواء مباشرة كان خطأ. إذن، كان يجب تلقينها النص الرسمي الاسرائيلي، الذي عممته هيئة البث على العالم، وهو عبارة عن اتهامات للمقاتلين الفلسطينيين بالوحشية، من دون براهين ملموسة.
ليس غريباً في هذه الأجواء أن يتعرض الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، إلى حملة تنديد من قبل اسرائيل، ويرفض وزير خارجيتها إيلي كوهين أن يجتمع معه، بعد خطابه عن غزة في مجلس الأمن الدولي، الذي قال فيه ” “دعوني أكون واضحًا: لا طرف في نزاع مسلح فوق القانون الإنساني الدولي”، وإن ما قامت به حماس “لم يحدث من فراغ”.
كلام لم تسمعه اسرائيل منذ نهاية الحرب الباردة، ثمة من ذكّرها بأنها تضع نفسها فوق القانون الدولي، الذي يجيز للشعوب حق مقاومة الاحتلال. وعلى ذلك، رد السفير الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة، جلعاد إردان، بدعوة غوتيريش إلى “الاستقالة فورًا”، وكتب في وسائل التواصل الاجتماعي أن غوتيريش “ليس مناسباً لقيادة الأمم المتحدة”، التي حاولت من خلال صوت الأمين العام أن تطلق الزفرة الأخيرة.
لا مكان لرأي مختلف في اسرائيل، ولا في المساحة الأوسع من الميديا وتصريحات الطبقة السياسية العالمية. “حماس” إرهابية، ونقطة من أول السطر، وهذا هو السر وراء السؤال الذي طرحه عدد كبير من الصحافيين الغربيين على كل من حاوروه: هل تدين “حماس”؟ وكل من حاول تقديم إجابة لا تتضمن الإدانة، جرى تصنيفه في الضفة الأخرى. ومَن يتأمل العديد من القنوات التلفزية الأوروبية، يلاحظ الغياب التام للوجوه التي ظهرت في الأيام الأولى، وحاولت أن تقدم خطاباً معتدلاً، أو تظهر تعاطفاً مع الشعب الفلسطيني. هناك جوقة واحدة تتنافس على تأييد اسرائيل من الصباح الباكر وحتى آخر ساعات الليل، لا يعنيها القدر الكبير من الضحايا المدنيين الفلسطينيين في غزة.
كل ما في الأمر هو، أن اسرائيل تريد الانتقام لألف قتيل، أقل أو أكثر، سقطوا في السابع من اكتوبر، وليس من قبيل المصادفة، أنها لم تفصح حتى الآن عن هويات الجميع، وهو أمر سهل، طالما أنها عثرت على جثث القتلى، لكنها تركت الغموض يخيم على أعداد العسكر والمستوطنين والمدنيين، من أجل توظيف المسألة في الدعاية الإعلامية، التي تبدو الرواية فيها معكوسة. وبدلاً من أن يعرض الفلسطينيون صور الضحايا من الأطفال والنساء والشيوخ، الذين يسقطون يوميا بالقصف الاسرائيلي للبيوت والمشافي ودور العبادة، سبقهم الاسرائيليون إلى ذلك، وبدا السفير الاسرائيلي في الامم المتحدة، وهو يعرض صور الاسرائيليين من ضحايا هجمات السابع من اكتوبر، كأنه يسرق مأساة الضحية الفعلية، كما قال محمود درويش
“سرقت دموعنا يا ذئب، تقتلني، وتدخل جثتي، وتبيعها،
أخرج قليلا من دمي، كي يراك الليل أكثر حلكة
وكي نمشي لمائدة التفاوض واضحين كما الحقيقة
قاتلاً يدلي بسكين، وقتلى يدلون بالأسماء”.
كلما طال الوقت، كلما أخذت الرواية الاسرائيلية بالتفكك، حتى الإدارة الأميركية تتساءل عما سيحل بالشرق الاوسط والعالم، إذا تم تفويض اسرائيل بعملية عسكرية من دون قيود، تحت بند الدفاع عن النفس. ورغم أن الميديا والطبقات السياسية الحاكمة في عموم البلدان الغربية تؤيد اسرائيل، فإن قطاعات واسعة من الرأي العام تدرك أن ما يجري هو عبارة عن حرب تصفية للقضية الفلسطينية بقرار أميركي.
————————–
نحن بين مظلومية إيران ومظلومية إسرائيل/ عمر قدور
السبت 2023/10/28
أتت التعزيزات العسكرية “الأمريكية وغيرها” إلى الشرق الأوسط بهدف صريح، هو ردع إيران عن فتح جبهة جنوب لبنان، وربما جبهة الجولان إذا سمحت لها موسكو بحرية التصرف فيها. وكلما استُخدم تعبير توسيع رقعة النزاع فُهِم منه أن المقصود هو اندلاع حرب ضخمة بين تل أبيب وطهران حصراً، رغم أن دولتين عربيتين مهددتان بتهجير الفلسطينيين إليهما هما مصر والأردن.
وصل بعض التحليلات إلى اختزال عملية طوفان الأقصى بكونها رداً إيرانياً على التطبيع العربي مع إسرائيل، بينما ذهب بعض آخر إلى إدراجها كردّ على قصف إسرائيلي متكرر لمواقع وشحنات أسلحة إيرانية في سوريا. التركيز على العامل الإيراني في الحرب على غزة يخدم العديد من الأهواء، وأولها أهواء محور الممانعة الذي أتت لأنصاره فرصة التغنّي بالقوة الإيرانية مقابل “التخاذل العربي”، في حين يزداد التعاطف الغربي مع إسرائيل بوصفها مهدَّدة من قوة إقليمية كبرى “إيران” تمتلك ترسانة ضخمة من الأسلحة، وغير بعيدة عن امتلاك النووي. أما الردّ الشعبوي لدى خصوم المحور بأن هناك قواعد للعبة بين طهران وتل أبيب، وأن طرفي اللعبة متواطئان على العرب والفلسطينيين، فهو ردّ يقدّم فقط السلوى لأصحابه من دون تقديم معرفة مفيدة بالخطر ومكامنه.
في نيروز 1935 اعتمد الشاه رضا بهلوي تسمية إيران التي تشير إلى العرق الآري، بدلاً من فارس، واقتراح التسمية الجديدة أتى أولاً من سفارته في برلين حيث كانت ألمانيا تخضع للحكم النازي. لم يكن ذلك مجرد تغيير شكلي، فالعنصرية الفارسية حقيقية، وبكونها موجَّهة إلى “الساميين” العرب ثم اليهود فهي أشمل من نظيرتها الغربية التي اقتصرت حينذاك على اليهود. التعالي على العرب موجود بوفرة في الأدبيات الإيرانية، ومحمولٌ على المشاعر القومية أو المذهبية، أو على الاثنتين معاً، ومصدره في الحالتين الهزيمة القديمة أمام ذلك الجار العربي الإسلامي الصاعد.
ما لا يأخذ حقّه من الانتباه والبحث أن التشيّع الإيراني صار بمثابة قومية تتغذّى على ذلك الجرح النرجسي القديم، بينما تضع في المقدمة منه “مظلومية آل البيت”. وهذا الإطار القومي-الديني هو أشمل من القومي الفارسي السابق عليه، لأن الثاني يرضي فقط الفرس وهم غالبية غير عظمى من السكان، بمعنى أن عدد الشيعة في إيران أكبر من عدد الفرس. مكمن الخطورة في التوليفية الإيرانية أن التشيّع الإيراني أحكم سيطرته على التشيّع العربي الذي كان لمظلوميته مطالبات مختلفة في كل بلد من بلدان تواجده، ليصبح جزءاً من الاستراتيجية الإيرانية للهيمنة الإقليمية، والتي لا يمكن إلا أن تصطدم بمنافسين إقليميين أو دوليين ومنهم إسرائيل.
الذين أنشأوا الحركة الصهيونية كانوا بجزء معتبر منهم غير متدينين، لكنهم وجدوا الحل للمظلومية اليهودية في أوروبا بإنشاء وطن قومي لليهود، ليأتي هتلر بالمحرقة ويصبح مشروع الدولة اليهودية “أكثر إلحاحاً” من قبل. منذ المؤتمر اليهودي الأول حتى الآن، ما زال سارياً القول أن هذا الوطن اليهودي هو لجميع اليهود أينما كانوا، وأن لهم “حق العودة” إليه متى شاؤوا.
الاستعداد لاستقبال هؤلاء، بل حثّهم على العودة، يضمر دائماً طرد الفلسطينيين من أراضيهم والتوسّع بما يقتضيه العدد المتزايد لليهود في إسرائيل؛ هذه العقيدة الثابتة ليست مطروحة للتعديل، بل تم استباق أي تفكير فيها بقانون الدولة اليهودية الذي أقرّه الكنيست. ورغم أن اليهودية ليست ديانة تبشيرية فإن العقيدة السابقة تُبقي إسرائيل على أهبة التوسع، ليأتي فائض قوتها العسكرية متطلباً توسع نفوذها الإقليمي كما يحدث عادة لكل فائض قوة.
لم تعد المظلومية اليهودية قائمة في الغرب، لكنّ عقلية الغيتو بقيت موجودة لأن أصحابها والعنصريين الغربيين يريدون بقاءها، كلٌّ منهما لأسبابه. الانحياز الغربي إلى إسرائيل، ومحاباة اليهود في الغرب، تجاوزا كونهما نتاج عقدة ذنب بسبب المحرقة، ولعلنا لا نجافي الواقع بالقول أن التمييز الإيجابي الفاقع لا يختلف في جذره العميق عن ذلك السلبي، وهو ما يؤازر طوال الوقت إصرارَ تل أبيب على المظلومية اليهودية وكأن المحرقة تحدث للتو.
لا يُظهر الغرب اكتراثاً بآثار المظلوميتين الإيرانية واليهودية على المنطقة، ساعده بلا شك صعودُ الإرهاب الإسلامي السني، بدءاً بتنظيم القاعدة الذي نفّذ أول عملياته الكبرى قبل ثلاثة عقود، لتصبح الحرب على الإرهاب عنواناً “مشروعاً” لأولويات الغرب طيلة هذه المدة، ولتكون المفاضلة حتى الآن بين إسلام شيعي ذي مرجعية واحدة منضبطة وآخر سني منفلت. كانت بداية نشأة الإسلام السياسي السني “إحيائيةً نهضوية”، بموجب رؤى روّاده، ولا تصعب ملاحظة استلهامهم النموذج القومي الحداثي لبناء نموذجهم الخاص. المظلومية السنية لم تكن هي الأساس في البدايات، لذا لم يكن الإرهاب الذي يستهدف الغرب حاضراً، والمفارقة أن النار الأفغانية التي التهمت الاتحاد السوفيتي نضج عليها عدو الغرب الجديد.
في الحرب الحالية على غزة يتصرف الغرب وفق ما صار سياسة تقليدية، فالرئيس الفرنسي ماكرون اقترح توسيع دور التحالف الدولي ضد داعش ليشمل حماس، وهكذا يكون العنف من نصيب الأخيرة “بحكم سنيتها” رغم أنها لم تستهدف يوماً المصالح الغربية ولم تحرّض على استهدافها. التحذير الذي وجهه ماكرون لحزب الله وطهران من الانخراط في الحرب لا يرقى إلى مستوى دعوته إلى تحالف دولي ضد حماس، حتى مع توفر القناعة الغربية بأن طهران كانت وراء هجوم السابع من أكتوبر.
تمارس قوى نافذة في الغرب انتقائية في عنصريتها، ومن المؤسف أن نسبة الغربيين الذين لهم مواقف نقدية من هذه الانتقائية، ومن المظلوميات على قدم المساواة، قد لا تتجاوز نسبة المسلمين الشيعة أو السنة الذين لديهم مواقف نقدية من حكم ولاية الفقيه وحرسه الثوري ومن تنظيمات الإسلام السياسي أو الجهادي السني. ماكرون نفسه كان قد قال يوماً أن الأسد خطر على شعبه، بينما داعش خطر على العالم. رؤية العالم من هذا الثقب الصغير جداً تُترجم سراً بأن إسرائيل خطر على الفلسطينيين فقط، ولا بأس في ذلك، وإيران خطر على بعض دول المنطقة، ولا بأس في ذلك طالما أنها لا تتخطى الخطوط الإسرائيلية الحمراء.
قد لا تقتضي مصالح الغرب في المدى المنظور فهماً أفضل من الحالي، فهو ليس متضرراً مباشرةً من وقوع بلدان شرق المتوسط بين دولتين دينيتين، أو بالأحرى تقوم كلّ منهما على مظلومية ذات طابع ديني أو مذهبي، بما ينطوي عليه ذلك من دوافع ثأرية وتوسعية. التنظيمات السنية التي استلهمت فكرة المظلومية لا تبدو “بالمقارنة” أكثر من كاريكاتير بدائي مبتذل لهاتين القوتين الإقليميتين، والرهان الخاطئ هو على تقوية الكاريكاتير ليقارعهما، في حين أن الخلاص منه هو خطوة لازمة وغير كافية كي لا تتكاثر علينا وحوش المظلوميات.
—————————–
حول هستيريا التهجير/ صبا مدور
الأحد 2023/10/22
كأنها نبوءة من غسان كنفاني كتبها قبل ستين عاما، محملاً بذكرى اللجوء من يافا، بهواء بساتين برتقالها، وبالمأساة التي كان على اللاجئين أن يعيشوها، قبل أن يقرروا العودة بأي ثمن، شاهراً وصيته: “لا تمت قبل أن تكون ندا”، فتحول اللاجئ والمكسور بفعل الاحتلال إلى ند للقوة العاتية، وللخذلان المستمر، وليورث روحه المتطلعة للعودة، قبل أن يموت.
هذا الميراث الفلسطيني، ليس ترفا، ولا هو بالأمل المهدور، هو في حقيقته بناء متراكم من الغيظ، والتجربة المرة، والتمسك بالارض. هو في حقيقته درس متصل من خبرات 75 عاما من اللجوء والشتات والعيش المر في ظل الاحتلال، وفي جحيم الخيانات الكثيرة. ان تكون ندا لعدوك، هو أن تكون قادرا على البقاء وحدك، وأن لا تموت قبل أن تخلق عوامل بقائك في شعبك.
لم يكن لغزة أن تعيش قيامتها لولا هذا النسيج المتصل من الرغبة بالحياة التي يهون دونها الموت، حتى ليبدو تكافؤ القوى بلا معنى ولا أهمية، لذلك فلا أفق ولا مستقبل لمخططات التهجير الجديدة، وهي تبدو استعادة للتاريخ اقرب للملهاة منها الى المأساة، فكيف يمكن تصور تكرار ما حدث عام 1948 ونحن ما زلنا نعيش تداعيات مأساته حتى هذا اليوم بعد عدة أجيال.
أدرك طبعا أن القوة الغاشمة، وفقدان كل شئ، متبوعة ببصيص أمل مصطنع، في أرض أخرى، قد يبدو مغرياً لمن يخطط له، لا سيما وأن الأمر لن يحتاج لغير رحلة مكيفة نحو الضفة الثانية من الحدود، إلى سيناء الفسيحة، لكن الواقع أكثر تعقيداً بكثير، حتى كان المخطط يبدو غبياً وحالماً، لكن المقترحات الغبية مثل هذه، لن تتطلب الإقناع، لأنه ببساطة مستحيل، بل ستحتاج للقسر، والإرغام، ستحتاج للعنف الأقصى والتجويع، والتنكيل بكل مظاهر الحياة، والقدرة على العيش، وحينها قد يجد الفلسطيني نفسه محاصراً بين الموت في أرضه أو العيش في أرض قريبة.
خطورة مخطط التهجير الجديد في غزة، ربما يكمن في تواطؤ الغرب لتنفيذه، وفي هشاشة القدرات العربية للاستمرار في مواجهته، لكن ذلك لا يعني نجاحه، ليس فقط لأنه غير قانوني وغير إنساني ومكشوف الدوافع، لكنه أيضا جاء في سياق فلسطيني مختلف تماما عن زمن النكبة، حينما حمل الهاربون من الاعتداءات والقتل مفاتيح بيوتهم، ظانين أنهم سيعودون قريبا، فلم يعد منهم أحد. هذه المرة يفرض السياق الجديد أنماطه، فهناك ميراث من الأسى، ومن التجارب المريرة، ووعي بما يجري، بل ووعي بما يمكن أن يحصل سواء جرى التهجير أو فشل.
ويتعلق الأمر ايضا بمواقف الدول المعنية، لا سيما مصر والأردن، وكلاهما لا يحتملان مسؤولية الانخراط في هذا المخطط، ولا يطيقان تداعيات تنفيذه، لكن الضغط الذي يمارس على الفلسطينيين اليوم بالقذائف والنار والموت الأعمى المتصل، وبالتجويع والحصار وقطع الأمل، كل هذا ستوازيه ضغوط كبيرة على الدول المعنية، تشمل الوعود الاقتصادية، لا سيما لمصر الغارقة في الديون، وقد تواجه أزمات اجتماعية وسياسية بسبب ذلك.
ولا يقتصر الأمر على تدمير غزة، بغرض تهجير أهلها، فلو فشل هذا المخطط الذي يكاد أن يتحول إلى نمط من الهيستريا، لن يكون مفاجئا أن يجري تفجير الحرب في ساحات أخرى، ولن يكون بعيدا ان يتحول ذلك إلى حرب إقليمية شاملة، وحينها فإن المراهنات قد تكون صفرية، ولربما يتم تنفيذ مخطط التهجير تحت غطاء الحرب الشاملة.
هل هو محض خيال؟ ربما يكون كذلك، لكن، النار الحالية في المنطقة، لم تعد وفقا لأي تحليل عصية على الامتداد، ولن يكون بمستطاع دولة عربية أو شرق اوسطية أن تبقى بعيدا عن الشظايا، في حال امتدادها إلى لبنان وسوريا، وربما العراق، أو حتى إيران، رغم أن الأخيرة ستسعى للاستفادة من ميزة الرغبة الاميركية بتجنبها، وبكفاية من يقاتل نيابة عنها من أذرع مسلحة تعمل في محورها.
المهم في كل هذه السيناريوهات، أن الوضع خطير، وأنه قد يحصل تهجير جزئي بالفعل، وذلك سيكون بحد ذاته تطوراً سيقود لمزيد من التصعيد في السنوات القادمة، ونتائجه أكثر شمولية مما حصل في تهجير بشار الاسد لنصف الشعب السوري، الذي أنتبه له الجميع، ثم اشاحوا النظر عنه.
—————————-
طوفان وأكاذيب ودموع/ صبا مدور
الجمعة 2023/10/13
لم تكن الحملة الإعلامية الغربية المكثفة ضد حركة حماس، غير مسبوقة، فقد حدثت من قبل مع العراق وصدام حسين عشية حربي تحرير الكويت 1991، وغزو العراق عام 2003، كما حدث منذ نحو عامين ضد روسيا وبوتين، وفيها جميعا بدا الغرب موحدا ومتماسكا، والإعلام (الحر) منقادا بطريقة تدعو للتساؤل فعلاً إن كان هناك ما يكفي من الحرية لظهور الصوت الآخر.
واقعيا، بإمكان الخطاب الغربي ومنه وسائل الإعلام، أن يسيطر على المجال العام الدولي، بسرعة ومهارة واحترافية عالية، وأن ينشر رؤاه من خلال إغراق إعلامي يحيط بالجمهور من كل جوانبه، حتى يتأكد من اختراق وعي الأفراد، لا سيما في الغرب ذاته، حيث يكون إبقاء الراي العام في دائرة البرامج السياسية للنخب، مهماً وجوهريا لتحاشي أي موانع شعبية من الصعب تجاوزها دون خدش المظاهر العامة للديمقراطية.
منذ اليوم التالي لبدء عملية طوفان الأقصى، تجند الإعلام الغربي ومجمل الخطاب السياسي للحديث بصوت واحد، دعما لإسرائيل وتنديدا بحماس، وكان هناك محور أساسي جرى التركيز عليه بشكل مباشر ومتكرر، هو (وحشية حماس)، وقد أسرف السياسيون الغربيون مثل بايدن وسوناك وشولتس وماكرون في وصف تلك (الوحشية) والتركيز على بعض تفاصيلها مثلما فعل الرئيس الأميركي الذي تحدث عن (قطع رؤوس أطفال واغتصاب نساء) قبل ان يعود البيت الأبيض ليوضح أن الرئيس لم يطلع بنفسه على ذلك، لكنه كرر ادعاءات وردت من مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي.
بالطبع لم يكن لهذا (التوضيح) أهمية تذكر، فقد سرى إدعاء بايدن وسط الراي العام، وتلقفه الاعلام المؤدلج، وأعاد ترديده سياسيون وكتاب ومغردون كأنه واقع لا جدال فيه، لا سيما وانه أصلا جاء في سياق من فيضان الاتهامات، التي تعود إسرائيل لتجديدها كلما بان كذب بعضها، كما فعل نتينياهو في اليوم التالي لكلمة بايدن.
والحقيقة أن أخطاء حماس الإعلامية ساهمت في منح الخطاب الغربي هذا، أدوات تساعده، ويتعلق الامر بالصور الأولى التي بثتها حماس في يوم 7 أكتوبر، ومنها اقتياد الرهائن والأسرى، ومشاهد جثث الإسرائيليين، فضلا عن التهديد الخاص بقتل رهينة مقابل قصف إسرائيل كل موقع بلا تحذير. مثل هذا المنطق لا يخلق ذعرا لدى حكومة إسرائيل، فنتيناهيو ربما سيكسب لو قتلت حماس أسراها، حيث ستضيق خناق الاتهامات حول نفسها، وتحظى إسرائيل بالتخلص من عبء الاسرى والرهائن، ويتحقق لها خيار (هانيبال) القائل إن جنديا ميتا أفضل من جندي أسير.
وفي خضم هذا الاستخدام الدعائي المحض، استعرض الخطاب الغربي لغة الجسد بشكل منهجي، حتى لكأن السياسيين الغربيين ينهلون من ملقن واحد، فيظهر سوناك وهو يخبئ دموعه، وكذلك بايدن، فيما يبكي كيربي وتدمع عينا نتنياهو، ويبدو الجميع في حالة من الحزن البالغ على الضحايا الإسرائيليين، ليكون منطق (الانتقام) من غزة مبررا ومقبولا، ذلك أن ما أظهره (حزنهم) سيبرر دعوتهم للانتقام ومنح إسرائيل صكاً مفتوحاً بلا روادع ولا حدود.
ترافق ذلك، مع سياق إعلامي غربي واسع برفض وانتقاد وإدانة كل من يتحدث بمنطق مختلف، بل يشمل الأمر، حتى السياسيين الغربيين (التقدميين) الذي تحدثوا عن الاحتلال الإسرائيلي بوصفه سبب لكل ما يحصل، أو أولئك الذي يفضون منطق الانتقام الإسرائيلي الذي يستهدف المدنيين في غزة بعقاب جماعي هو بحد ذاته من جرائم الحرب، أما مؤيدو حماس فقد كانت هناك دعوات لمحاكمتهم، بل وسادت بالفعل مخاوف من الاستهداف القانوني بدعوى معاداة السامية بحق كل من يفعل ذلك، أو أن يشارك في مظاهرات دعم أهالي غزة المدنيين.
وإذا كان الكثير من المسلمين والعرب، بل وحتى الغربيين أنفسهم قد عبر عن تعاطف انساني طبيعي مع الضحايا في غزة، ومنهم من رفض استهداف المدنيين الإسرائيليين مثلما تعاطف مع الفلسطينيين، فإن ذلك كله ليس مقبولا، لأنه يمكن أن يؤثر على الصورة العامة لإسرائيل كدولة ديموقراطية (وحيدة) في المنطقة، وكي لا يكون لأي من ذلك تأثير على الرأي العام الغربي، يمكن أن يشكل ضغطا على الحكومات هناك، ومن ثم على إسرائيل لوقف عمليات القصف واسعة النطاق.
ولا ندري بالضبط إلى أين يمكن أن تمضي علاقة الغرب مع ملايين العرب والمسلمين القاطنين فيه، فهم عند هنري كيسنجر أصبحوا (مجموعات ضغط) داخل دول الغرب، وأن احتفالهم بعمليات يوم 7 أ أكتوبر هو أمر (مؤسف) يبين (الخطأ الفادح الذي ارتكبته دول الغرب عندما سمحت لعدد كبير من الأشخاص بدخولها). هذا المنطق لكيسنجر لن يكون بعيدا عن منطق يميني أكثر تطرفا في الغرب، سيتخذ من تعاطف العرب اللاجئين والمهاجرين الطبيعي مع اشقائهم الفلسطينيين المدنيين سببا لإبعادهم أو التحشيد ضدهم بشكل عنصري.
وبكل الأحوال، فإن الطوفان الإعلامي الغربي المؤيد لإسرائيل، يجدد رؤية تاريخية حول علاقة الغرب مع إسرائيل، وحول ما يمكن أن يصل إليه العرب في علاقتهم بهذا الغرب، أو في طريقتهم بإدارة أزماتهم وتقديم أنفسهم وبناء قدرات إعلامية ونفسية توازي كل هذا الحشد والهجوم.
————————-
===========================
درج
————————–
نكات مُريعة عن الأطفال الموتى/ عمّار المأمون
23.11.2023
الطفل الميت علامة على عُمرٍ لم يمتدّ في الزمن، يختزن “كلّ” الاحتمالات، قتلهُ يضرب الحس الإنساني لا بوصفه فرداً، بل حياةً نمتلك “طبيعيّاً” الرغبة في الحفاظ على استمرارها، ناهيك بأنه لم يأخذ بعد دوراً سياسياً، إذ لا ذاكرة لطفل ميت، ولا “خبرة” لنتقاسمها معه، وموته يقتل جزءاً منّا.
انتشرت في إسرائيل عام 2009 فانلة “كوميديّة”، أثارت فضيحة أشعلتها صحيفة هآرتس، لا بسبب كمية الصورة النمطيّة التي تحويها، بل كونها تصوّر امرأة فلسطينية حاملاً مع علامة قنّاص على بطنها، تحتها جملة “طلقة واحدة وهدفان”. أدان الجيش الإسرائيلي ارتداء الخريجين من الدورات التدريبيّة هذه الفانلة، بوصفها “لا تمثل قِيمه”.
العلاقة بين الضحك وحياة الطفل وموته وطيدة، علماً ألا تاريخ مُحدد لبداية النوع الأدبي الشعبي المُسمى بـ”نكات الأطفال الموتى”، لكن يمكن تلمّس جذوره في الديانات الإبراهيميّة. مثلاً، اسحق بن يعقوب، اسمه مُشتق من “اضحك” أو “ذاك الذي ضحك “، والسبب أن سارة والدته ضحكتْ حين علمت بحملها به، إذ لم تصدق أنها قد تنجب بعد عُتيِّ العمر. الحكاية التوراتيّة ذُكرت في القرآن لاحقاً، “وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ”.
الضحك في سياق الطفل الميت يخلقُ نوعاً من الترويع، أي زوال العقل أو تهديد تماسكه الرمزيّ، إذ لا يمكن أن نصدق أن أحدهم قد يقتل طفلاً، أو يضعه في شرط لا يمكنه النجاة فيه، مع ذلك النكتة قائمة. وهذا بالضبط ما حصل في أحد اجتماعات الـZoom في فرنسا، إذ ألقى فيه المجتمعون من مؤيدي إسرائيل نكاتاً عن الأطفال الموتى في غزّة : “لماذا لا يوجد الكثير من المدارس في قطاع غزة؟ لأننا قتلنا كل الأطفال-ضحك-“. دعا المعلّقون السلطات الفرنسيّة الى التدخل، لكن لا يمكن إدانة نكتة، حتى لو كانت مُريعة، إلا في حالة معاداة الساميّة كما حصل مع الكوميديّ الفرنسي ديودونة.
نكات الأطفال الموتى تأخذ شكلاً جديداً في زمننا هذا، بل يمكن القول، إن الطفل السوري والآن الفلسطيني، لكثرة موته، بات فاتحةً لشكل جديد من النكات التي تهدد تماسكنا العقلي كأشخاص، نحمل داخلنا احتمالات ذُرية، مُهددة بأن تتلاشى تحت وطأة القصف، أو السلاح الكيماويّ أو التجويع. هنا بدقة يأتي التعريف الكلاسيكي للنكتة، هي تهديد لتكوين العالم الرمزي، وضربة قد تتسبب بانهياره. يمكن القول إن السنوات العشرين الماضية أغنت أرشيف صور الأطفال الموتى بأسلوب لم نشهده سابقاً، إلى حد إمكان استخدام الطفل الميت كوحدة قياس!
الطفل الميت علامة على عُمرٍ لم يمتدّ في الزمن، يختزن “كلّ” الاحتمالات، قتلهُ يضرب الحس الإنساني لا بوصفه فرداً، بل حياةً نمتلك “طبيعيّاً” الرغبة في الحفاظ على استمرارها، ناهيك بأنه لم يأخذ بعد دوراً سياسياً، إذ لا ذاكرة لطفل ميت، ولا “خبرة” لنتقاسمها معه، وموته يقتل جزءاً منّا.
براغماتيّة الأطفال الموتى
المفارقة أن قتل طفل على فداحته، تحوّل إلى معضلة أخلاقية، باسم “قتل هتلر الرضيع”، التي طرحتها للعلن عام 2015 مجلة “نيويورك تايمز”، والتي سألت قراءها في استطلاع رأي التالي، “إن عدت في الزمن فهل ستقتل هتلر الرضيع؟”. نسبة الإجابات في الرسم البياني أدناه، لكن المفارقة أن المعضلة ذاتها قائمة على أساس قتل طفل رضيع، الإشكاليّة الساخرة، أن بين شابيرو، اليميني الأميركي الذي يبرر قتل الأطفال في فلسطين الآن ، أجاب عنها بـ”لا”، يجب عدم قتل هتلر الرضيع.
We asked @nytmag readers: If you could go back and kill Hitler as a baby, would you do it? (What’s your response?) pic.twitter.com/daatm12NZC
— NYT Magazine (@NYTmag) October 23, 2015
الأسس الأخلاقية للمعضلة واضحة، قتل طفل عديم القدرة على الاستسلام أو الدفاع عن نفسه أو تحديد موقفه السياسي أو حتى التضحية بنفسه في سبيل “الخير”، شأن غير مقبول، حتى لو على حساب ملايين اليهود، إن فسرنا رأي شبيرو. لكن المريع، أن طفلاً هو محط المعضلة، الاختبار هنا يتجاوز السياسيّ إذاً نحو الإنساني، ومقدار البراغماتية التي يمكننا كبشر أن ننتهجها لأجل “الخير”، الذي قد يصل بنا إلى شرط نسائل فيه إمكان قتل طفل لا دور له حتى بولادته.
طبعاً، لا معنى لهذه المعضلة حالياً، لا فقط بسبب الجرائم في غزة وضحاياها من الأطفال، بل قبلها في سوريا، واليمن، والعراق، أي قتل الأطفال الموثّق، فارتفاع عدد الأطفال الضحايا ليس محطّ “معضلة أخلاقيّة”، إذ لم يعد الأمر سوى استنزاف للمشاعر، وعلامة على نوع شديد الغرابة من العدميّة، كأن يقول أحد “الممانعين” في لبنان، أن موت الأطفال في غزة ليس مشكلة كبيرة، إذ سيتم تعويضهم، فهناك 50 ألف امرأة حامل! هي نكتة مريعة بالفعل، لكن لسنا هنا لنسأل عن العنف، أو من يقتل من، نحن نبحث عن النكتة.
“الأطفال يُقتلون… للأسف”
يصيبنا الجسد الميت بالعدوى بسبب ضعفه المُفرط، منظره المُدمى وجروحه التي تنشأ عن انتهاكه، تكشف هشاشة الجسد الإنساني بشكل عام، كونه يحمل الطراوة ذاتها التي تتمتع بها أبداننا لكن بصورة أوضح، صورة الطفل الميت هي علامة على عجزنا أمام الحديد والإسمنت. كما تشير إلى احتمالات موتنا حين نتفتت ونتفكك إلى أشلاء ونكشف دواخلنا.
المفارقة أن الأساطير تقول إن دم الأطفال هو إكسير الحياة والشباب الدائم، أي هزيمة الزمن البيولوجي الذي يفنينا من دون إرادة، بل إن نظريات مؤامرة حاليّة تقول إن المشاهير يشربون دم الأطفال. وهنا النكتة المرعبة، فعلى رغم كل ما يحيط بحياة الأطفال من تحذيرات وتهديد للقيم الإنسانيّة، قتل الأطفال “تقليد” مُستمر لترسيخ السلطة، واستمرارها في الزمن، إذ تقال الآن بوضوح أثناء الحرب على غزة: “الحرب مُريعة، وهناك دوماً ضحايا، وللأسف جزء منهم أطفال”.
السلطة بصورة ما إذاً، أي سلطة كانت، لا تستمر إلا بعد قتل عدد معين من الأطفال!، ولن نخوض في نظام الأضاحي وعلاقته مع السياسي (رينية جيرارد) ، لكن ماكينة الحرب حولت أشهر المعضلات الأخلاقيّة إلى نكتة، إذ لم يعد المعيار بين “الخير” و”الشر” احتمال قتل طفل واحد، بل الكثير منهم “للأسف!”.
تاريخ شديد الاختصار للحداثة… قطارات وأطفال
أحد تنويعات معضلة هتلر، ما يسمى “معضلة القطار” التي ظهرت سابقاً في الستينات، ضمن الجدل الأخلاقي حول الإجهاض، في واحدة من النسخ، نقرأ أن قطاراً يسير نحو مفترق طرق، الأول يحوي طفلاً في عربة، والثاني 40 شخصاً، ونحن نمتلك الخيار، هل نوجه القطار نحو الطفل لإنقاذ الأربعين أو الطفل، كون موت أحدهما محتّماً؟
لا يهمنا حقيقة إجابة المعضلة وأبعادها المتعددة، بل الوضع الذي يجد فيه أحدهم نفسه مضطراً للاختيار بين طفل وأربعين شخصاً، مع ذلك نحن لا نبحث عن الأخلاق، بل القهقهة، وسلسلة الأحداث التي وجد فيها أحدهم نفسه أمام ماكينة من حديد تسير بسرعة 230 كم في الساعة.
معضلة كهذه هي نتاج الحداثة بمعناها العام المجرد، انتصار الآلة وغياب قيمة الإنسان، فالقطار، علامة على الهيمنة فوق التراب والانتقال بسرعة. هو جزء من ماكينة القتل الحداثويّة التي وصلت أوجها مع الهولوكوست، حيث حُمّل اليهود في القطارات نحو مصيرهم. لكن صورة القطار ترتبط بشدة مع تاريخ السينما، وهنا يمكن قراءة المعضلة الأخلاقية بصورة مختلفة، “الشر” و”الخير” معادلة قائمة على موت طفل لإنقاذ الدولة الحديثة وماكيناتها، أمام عدسة الكاميرا.
هي مصادفة شديدة الغرابة التي قادت إلى المعادلة السابقة، إذ ظهر القطار(حسب أسطورة تاريخ السينما) في أوّل صورة متحركة التقطها الأخوان لوميير، اللذان أيضاً سجّلا فيديو لأطفال في عربة عام 1896، أي يمكن القول إن مكونات العالم الحديث ضمن تاريخ الصورة المتحركة، هي القطار، وأطفال في عربة، والكاميرا التي توثق “الخير” و”الشرّ”.
صور الموتى أو ما يُسمى Memento mori، ترافقت بشكلها الحديث مع ظهور الفوتوغرافيا، هذا النوع الفنيّ يثير القشعريرة، خصوصاً أنه يحوي الكثير من الأطفال والرُضع الذين فارقوا الحياة ثم زُينوا لالتقاط صورة. هذا الفنّ المُريع أخذ أشكالاً أشد إخبارية الآن، لكنه ما زال يحوي عناصر فنيّة تتضح حين ندقق في الـ Mise en scene للأطفال الموتى أو من هم على وشك الموت، إذ يُصفون كرتل أو كبساط أمام الصورة، أو يرتبون داخل الحضّانة في مستشفى الشفاء في غّزة تحت تهديد القصف.
هناك سحر من نوع ما في وضعية الطفل الميت أمام عدسة الكاميرا، الطفل السوري إيلان خضع للأمر ذاته، الجسد الهش والغضَ غير مكتمل التكوين والذي لا يمتلك فرصة لمواجهة الغرق أو الدبابة أو القصف، مُروع، والتي تعني هنا، الثبات والشلل، وربما العجز عن الفعل لإنقاذ طفل على وشك الموت.
الخطاب السياسي يكسب الطفل خصائص جديدة، هو احتمال “إرهابيّ” ودرع بشريّ حسب البروباغندا الإسرائيليّة، وهنا مفارقة، قدرة هذا الدرع على الصدّ ليست في صلابته أو غضاضته، بل في عين من يستهدفه، والذي من المفترض أن يرى نفسه أمام سؤال، أيمكن قتل طفل؟
التجربة تركتنا أمام إجابة واضحة، نعم يُمكن قتل طفل، لكن النكتة ألقيت في أحد شوارع لندن حين سأل مؤثر في تظاهرة في لندن طفلاً يحمل علم فلسطين “منذ متى وأنت درع بشريّ لحماس؟”، يجيب والده “5 سنوات”، وهو عمر الطفل.
“إخراج” صورة الطفل الميت واستعراض الجسد الخديج ، يكشفان عن عناصر تثير الفزع، حجم الرضيع نفسه هو ما يأسر عين الناظر ويهزّ كيانه، كادر اللقطة التقليديّة يتسع لأطفال أكثر مما يتسع للبالغين، سواء تحدثنا عن طفل ميت واحد أو هرم من أطفال. ناهيك بالتناقض في صلابة الكتل، جسد الرضيع الغضّ بين الركام مثلاً يتناقض في طراوته مع سطوة الحجارة والحديد.
أخذ التناقض السابق بالاعتبار يحول النصائح التي تقدمها شركة “كانون” لالتقاط صور الأطفال إلى شأن يخلق في الجلد قشعريرة ،كأن نقرأ “صوّر على مستوى العين” أو “استخدم الضوء الطبيعيّ”، “صور فيديو لعدم قدرة الطفل على الثبات”، واللافت أن هذه النصائح لا تنطبق على فن صور الأطفال الموتى في القرن التاسع عشر، والسبب أو النكتة: “من السهل التقاط صورة طفل ميت، كون الحيّ كثير الحركة والتلويح بيديه”.
الطفل الميت كوحدة قياس
الغريب، وهنا النكتة شديدة الشناعة، أن الطفل الميت يُستخدم كواحدة قياس منفصلة، طفل في معضلة أخلاقية، طفل مقابل ماكينة حرق أشخاص، 4 آلاف طفل للقضاء على حماس، استخدام الطفل كوحدة قياس لا فقط مقابل البشر، بل أيضاً المفاهيم الأخلاقيّة والسياسيّة.
الشأن “المُضحك” الى حد الخوف هو أن نحاول تقدير قيمة الأشياء بعدد الأطفال الموتى، أي يمكن القول إن الفلسفة مثلاً تساوي 36 طفلاً، ومعادلة آينشتاين الشهيرة تساوي 340 طفلاً، والأهم، وهذه حجج معارضي الإجهاض، طفل واحد مقابل الحياة المهنية والاستقلالية للمرأة، هكذا تبنى المقارنة، والمعايرة بين المكاسب والأطفال الموتى.
تكرر سؤال، كم طفلاً يجب أن تقتل إسرائيل حتى تعلن “انتصارها”؟، والإجابة كانت “ما يكفي للقضاء على حماس”، وهذه إجابة بين شابيرو. هناك سوداويّة مضاعفة في هذا المنطق من المحاججة، خصوصاً أنه لا يعطي أي عدد ثابت، بل يحيل إلى استمرار القتل، أي لن يتوقف الأطفال عن الموت، سواء الأحياء الآن، أو من هم على وشك الولادة. ولا يمكن التسليم بفرضيّة “الأطفال دوماً يقتلون”، لكن الاكتفاء بمعادلة بسيطة قد يكون حلاً.
كم رضيعاً يجب أن تقتل عمداً كي تُعتطبَ إنسانيتك؟ واحدٌ فقط.
—————————-
هل توقّفت إسرائيل عن القلق حول غزّة وأحبّت القنبلة؟/ عمّار المأمون
07.11.2023
تدليل احتمال استخدام القنبلة النوويّة لـ”إفناء” غزة شأن لا يمكن تجاهله، كونه يمسّ المنطقة بكاملها هو علامة على اللاعقلانيّة بأشد صورها، المتمثلة بالخراب الذي لا “حياة” من بعده.
بلغَ عدد المواطنين الإسرائيليين الذين قُتلوا إثر قصف قطاع غزة الـ 30 (وفق “حماس”). بعبارة أخرى، قتلت إسرائيل 30 من مواطنيها. الدولة التي رفع ممثلها في الأمم المتحدة، جيلعاد إدران، شعار “ليس مرة أخرى-Never again”، في إشارة إلى أن مأساة الهولوكوست لن تتكرر، “ضَحّت” بـ30 شخصاً من مواطني الدولة العبريّة للقضاء على “حماس”.
إن تجاهلنا الأحاديث عن تطبيق بروتوكول هانيبال في 7 تشرين الأول/ أكتوبر، البروتوكول الذي يسمح بقتل الإسرائيليين جنوداً ومدنيين منعاً لأسرهم، فنحن أمام تغيير علني وواضح في السيادة الإسرائيليّة على مواطنيها، فتركهم لموتهم والمخاطرة بحياتهم، يعنيان ببساطة، أن إسرائيل لم تعد تختلف عن الأنظمة العربيّة المحيطة بها التي تقتل مواطنيها وتهدّد حياتهم لـ”محاربة الإرهاب”.
تغير العلاقة بين المواطن الإسرائيلي والسيادة السياسيّة سببه أن 7 تشرين الأول هدّد الجسد الإسرائيلي المُفترض أنه مُصان بعد الهولوكوست، إذ انتشرت صور لهذا الجسد مُستباحاً، رأيناه للمرة الأولى منذ عقود لاجئاً وهارباً، بل ومفتتاً الى أشلاء.
الصدمة أو الهجوم الذي شُبّه بـ11 أيلول/ سبتمبر (والذي يقاس في الحالة الإسرائيلية بنسبة الضحايا الى السكان، لا بالعدد كما في الحالة الأميركيّة) أطلق حملة الانتقام الذي يمكن أن يوصف من دون تردد بالأعمى، كونه أصاب إسرائيليين ولم تعد حماية حياتهم هي مهمة السلطة الأولى، وهذا ما طالب به بوضوح المحتجون في إسرائيل الذين رفعوا شعار “الرهائن أولاً”. لكن لا، إسرائيل تخوض “الحرب على الإرهاب” – وكما في كل مرة يُستخدم فيها هذا المصطلح- يتخلّل هذه الحرب “نيران صديقة”، تقتل المواطنين لهدف أهمّ، القضاء على “العدو” الوجودي الذي يهدد إسرائيل بكاملها، بل “اليهود في كل العالم”، هذا إن تبنّينا البروباغندا الإسرائيليّة.
لكن، العنف تجاوز “محاربة الإرهاب” نحو الإفناء، أي ضرورة القضاء على غزّة بوصفها مساحة موبوءة، “كل” من فيها “حماس” ، مدنيون وأطفال وأمهات وعجائز. نحن إذاً أمام عدوّ لا تصلح معه الترسانة “التقليديّة”، لذا دلّل “الفيلسوف” يوفال نوح هراري احتمال استخدام القنبلة النووية ضد غزة للقضاء على “حماس”، الأمر ذاته مع وزير التراث في حكومة الائتلاف اليميني الإسرائيلي، عميحاي إلياهو، الذي لم يتردد بالقول إن “استهداف غزة بقنبلة نووية أمر غير مستبعد”، التصريح الذي علق عليه الرئيس الإسرائيلي إسحق هيرتزوك قائلاً إنه “قمامة وغير عقلاني، وعبثي”.
تحوُّل “حماس” في قطاع غزة إلى خطر يبلغ من الشدة أنه يمكن استخدام سلاح نووي ضده شأن مُريع (أي يهدد العقل/ الروع)، بل يمكن القول إعطاء الميليشيا المسلحة قوةّ لا نعلم إن كانت فعلاً تمتلكها، خصوصاً أن “الإفناء” النووي لن يقتصر بالطبع على القطاع، القنبلة النووية ليست سلاحاً تكتيكياً، ولا يمكن حصر أذاها، هي تمتد في المكان والزمن، تنفي “الآن” واحتمالات “الحياة” في المستقبل.
الواضح من وجهة نظر إسرائيل، أن 25 ألف طن من المتفجرات لم تكف، بل لا بد من سلاح ينفي أي استمرار للحياة في القطاع المحاصر، خصوصاً أن قائمة قيادات “حماس” الذين تم قتلهم، بعد كل قصف لم تنته، ما يعني أن غزة ليست إلا “الشرّ الأكبر” الذي لا بد من إفناء كل احتمالات ظهوره في المنطقة.
السعي نحو “الإفناء” لا يُخفى عن خطاب إسرائيل الرسمي، ذاك الذي يحوي نفحات من سردية “نهاية العالم”، نتانياهو نفسه شبّه الجنود الإسرائيليين بأنهم امتداد ليوشع بن نون، الذي حسب الأسطورة، أوقف الشمس عن المغيب يوم الجمعة، للوصول إلى القدس، حدث توراتي استثنائي لا يمكن تكراره، وهذا بالضبط احتمال القنبلة النووية، حدث استثنائي، يولّد شمساً جديدة للقضاء على “الأعداء”، تدليل المجاز الديني هنا يبدو حذلقة، لكن تدليل احتمال القنبلة النووية بالأرقام يتجاوز ذلك نحو الرعب، ورغبة مخيفة في إفناء الآخر.
هل يمكن تدمير غزة؟
عام 2012، أنشأ مؤرخ العلوم والأسلحة النووية أليكس ويلرستاين مدونة بعنوان “خريطة نووية-Nuke Map”، تتيح لأي مستخدم اختيار المدينة التي يريد “قصفها”، ثم التعرف على نتائج هذا القصف، سواء كان السلاح نووياً أو هيدروجينياً، وبعد الاختيار تقدم لنا المدوّنة معلومات عن دائرة الانفجار وتبعاتها، وعدد الضحايا ومقدار الخراب المُحتمل، أي بصورة أخرى، تتيح لنا المحاكاة أن نختار المكان الذي نريد تدميره ثم الاطلاع على نتائج هذا القرار.
لا نعلم بدقة أنواع القنابل النووية التي تمتلكها إسرائيل كونها لم توقع على اتفاقيات الحد من انتشار الأسلحة النووية، والأهم تنكر في الكثير من المناسبات امتلاكها، لكن سنجرب استخدام قنبلة نووية صغيرة ، W53 fission bomb الأميركيّة التي طُورت في الخمسينات، ثم إلقاءها فوق القسم الشمالي في غزة منتصف شارع صلاح الدين.
خريطة تحاكي استهداف قطاع غزة بقنبلة نووية من نوع W53 fission bomb
نتائج محاكاة إلقاء القنبلة تشير إلى حوالى 850 ألف قتيل، و720 ألف مصاب لحظة الانفجار، وبعد 24 ساعة، هناك حوالى 2.5 مليون قتيل في دائرة الانفجار الأولى، وحفرة بعمق 192 متراً.
المثير للقشعريرة في صورة الانفجار، أن القسم الشمالي من قطاع غزة سيختفي في دائرة الانفجار الأولى، والقطاع بكامله في الدائرة الثانية، أما الإشعاع فسيملأ غزة بكاملها وما حولها، لا داعي هنا لتخيل شكل الدمار، يكفي تأمل الأرقام، والسؤال، كيف ستتم حماية حياة الإسرائيليين؟ لنفترض إبادة غزة بكاملها ومن فيها، ماذا عن النصف مليون إسرائيلي على الأقل الذين سيقتلون، هذا إن افترضنا سذاجة أن المليونين من أثر القنبلة هم فلسطينيون وحمساويون! السؤال هنا، هل التضحية/ التفريط/ المخاطرة بحياة إسرائيلي واحد للقضاء على “حماس” هي فاتحة نحو مقتل غيرهم؟.
احتمال القنبلة النوويّة يدفعنا الى إعادة النظر في مفهوم “الإرهاب”، ذاك الذي يستحق قنبلة نووية للقضاء عليه، إذ لا بد من تعريفات جديدة لتبرر لا فقط إبادة القطاع بكامله، بل المواطنين الإسرائيليين، وتسميم المنطقة بالإشعاعات، خصوصاً أنه لم يسبق أن استُخدم سلاح نوويي ضد ميليشيا مسلّحة. لكن هذا الهوس والرغبة في إفناء غزة يمكن تفسيرهما كشكل من أشكال “المانيا-Mania”، تلك الرغبة في النصر الذي لا يحقق فقط إفناء الآخر والذات، بل “كلّ شيء”. إذاً، هل ثمن القضاء على “حماس”، إفناء المنطقة؟ هل الإسلام الأصولي يحتاج الى قنبلة نوويّة؟.
لم تعلُ أصوات ضد تدليل احتمال استخدام إسرائيل القنبلة النوويّة، بعكس ما حصل حين روّجت أوروبا بأن روسيا ستستخدم السلاح النووي، وهنا المفارقة شديدة المأساوية والسخرية، إذ صدرت إدانة من مصدر في وزارة خارجية نظام الأسد، الذي أشار الى التصريحات بـأنها “تؤكد ما دأبت إسرائيل على إخفائه حول حقيقة امتلاكها هذا السلاح خارج أنظمة الرقابة الدولية”.
هل من “إنسان عاقل” بعد غزّة؟
ما زال صدى عبارة “لا شعر بعد أوشفيتز” التي أطلقها ثيودور أدورنو، يتردد بعد كل كارثة أو مأساة، سياق العبارة حينها يرتبط بالأشكال الفنيّة والثقافية التي لا بد لها أن تتغير. هكذا يفسر أدورنو العبارة لاحقاً، فأوشفيتز حدث “استثنائي”، عمليّة بيروقراطية وإدارية للإبادة المفترض ألا تتكرر، وأن يتغير “العالم” و”أشكاله الفنيّة” من بعدها.
نسأل هنا، يوفال نوح حراري، صاحب كتاب “الإنسان العاقل” الذي تربع على قائمة أفضل المبيعات لأشهر عام 2014، في حال استُخدمت القنبلة النووية، هل يمكن أن نقول “لا إنسان عاقل بعد غزة”؟.
نطرح السؤال، لأن تدليل احتمال القنبلة النوويّة شأن لا يمكن تجاهله، كونه يمسّ المنطقة بكاملها ويهدد “استمرار الحياة” فيها، هو علامة على اللاعقلانيّة بأشد صورها، المتمثلة بالفناء، ذاك الحدث الاستثنائي الذي يرتقي أحياناً إلى مستوى “المعجزات”، كأن يُؤخّر غروب الشمس، أو أن تُقتبس شعلتها شمال غزّة لأجل النصر، لكن الأهم، أن “الجريمة النووية” يلام “الكلّ” عليها. يقول حراري نفسه في كتابه ذائع الصيت، إن “إنتاج رأس نووي حالياً يتطلب تعاون ملايين الأشخاص الغرباء من كل أنحاء العالم، من العمال في مناجم اليورانيوم… حتى علماء الفيزياء النظرية…”، وفي حال سقطت القنبلة، كل هؤلاء “الغرباء” يوجّه لهم إصبع اللوم، من عامل المنجم إلى من ضَغَط على الزر الأحمر.
إعادة التفكير بـ”الحيوانات” و “المسافة صفر”
لا بد أيضاً من إعادة النظر في لفظ “الحيوانات”، الذي استخدمه وزير الدفاع الإسرائيلي لوصف سكان غزة. إن سلمنا به جزافاً، فنحن أمام مقاربة مختلفة لفهم ما يحصل في المنطقة، فالحيوانات/ الوحوش، تقع خارج نطاق السيادة السياسية، هم ليسوا مواطنين، ولا مُستَعمَرِين، ونتحدث عن سكان غزة المدنيين هنا، فضمن منطق الوحوش، هم كائنات لا يمكن توقع ماذا يمكن أن تقوم به، والقرين الوحيد الذي يشابهها في قدرته على الخروج من سلطة السيادة السياسيّة ومواجهتها، هو “السيد-The sovereign”، ذاك الذي بالتعريف الكلاسيكي، هو من يحدد حالة الاستثناء وكيفية التعامل معها.
إن كانت إسرائيل في مواجهة مع “وحوش” إلى حد استخدام السلاح النووي، الصراع إذاً بلا قوانين، وبلا ضوابط، وهذا ما يتردد حين تبرير “حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها”، إذ لم يجب أحد عن سؤال عدد الأرواح التي يجب أن تُزهق من أجل “النصر” أو رد الخطر، الإجابة دائماً، أن الهدف هو القضاء على “حماس”، العداد البشريّ غير مهم إذاً أمام الفناء.
هذه القراءة “وحش” في مواجهة “سيد”، تدفعنا أيضاً الى التفكير في الطبيعة التكنولوجية المستخدمة في الحرب، السلاح النووي يفترض عدواً لا بد من شلّه وإفنائه، عدواً وجودياً، لا مانع من “التضحية” بالمواطنين ودافعي الضرائب لـ”إبادته”، وهنا لا يمكن لنا سوى النظر بسخرية الى ما يحصل.
أميركا استخدمت السلاح النووي رداً على اعتداء بيرل هاربر، الذي تم بالطائرات والسفن، حينها استُخدم سلاح إبادة فوق هيروشيما وناكازاكي، أي سلاح استثنائي، يفوق التكنولوجيا التقليديّة، لا لإفناء اليابان، بل لإيقاف ماكينة الحرب التي تستخدمها، وهذه عادة بلاغة التهديد بالنووي، الهدف ليس الإبادة، بل الشلل.
لكن، في حالة “حماس”، “العدو الإرهابي” ذاك الذي يستحق الفناء، القنبلة فرضياً ستبيده عن بكرة أبيه، وتشل “أسلحته”. لكن، ما هي هذه الأسلحة التي لا بد من مواجهتها، دراجات طائرة، بنادق خفيفة، ومغامرات عن الاشتباك من “مسافة صفر” عبر فيديوات لمقاتلين ببنطلونات الرياضة يضعون العبوات “منزلية الصنع” فوق الدبابات. نحن أمام استخدام لليومي والمبتذل كسلاح، يمكن أن تتفوق عليه أي بندقية إسرائيليّة، فلمَ النووي إذاً؟.
نقتبس من لقاء مع هراري قول فيه، إن “البشر أشبه بخراف يمتلكون أسلحة نوويّة… والخراف التي تمتلك أسلحة نووية أخطر من الذئاب التي تمتلكها… لأن الخراف أكثر خوفاً”، السلاح النووي إذاً علامة على الخوف، استدعاؤه تجلٍّ للحظة يأس، والهدف هو إبادة “الوحش”، ذاك الذي لا يمكن ترويضه أو إدخاله ضمن النظام القانوني، بل يجب فقط قتله وإفناء سلالاته حتى لو كان ذلك على حساب المواطنين الإسرائيليين أنفسهم.
—————————-
نصر الله في خطابه…تعبويّ وتبريريّ ويتملّص من ادعاء “وحدة الساحات”/ ماجد كيالي
04.11.2023
تُستغرب “العقلانية” الفجائية في السلوك العملي لحزب الله حين الحديث عن الاشتباك مع إسرائيل، كونها لم تظهر أثناء انخراطه العميق في قتل السوريين دفاعاً عن نظام الأسد.
بعد صمتٍ لافتٍ وغياب طويل بعدد أيام الحرب الوحشيّة التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، وبعد حوالي عشرة آلاف شهيد من فلسطينيي غزة، وتدمير أكثر من مئة ألف بيت، وتشريد أكثر من نصف سكان قطاع غزة من بيوتهم، وبعد حملة إعلامية، أو بالأحرى استعراضية، عالية المستوى، أطل الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، من شاشة تلفزيونية، كالعادة، ليقدم خطاباً تعبوياً، غايته الأساسية شدّ عصب مناصريه، وتبرير عدم انخراطه في الحرب.
بيد أن أهم مسألة كشف عنها نصر الله في خطابه هي تخليه عن شعار “وحدة الساحات”، الذي طالما روّج له وبشّر به، مغطياً ذلك بغلافات “عقلانية”، تتعلّق بأن الزمن الراهن ليس زمن الانتصار على إسرائيل (أي ليس زمن التحرير)، إذ برأيه لا يمكن الانتصار على إسرائيل بالضربة القاضية، لأن الانتصار يمكن أيضاً أن يتمثل بالصمود، ويتطلب مقاومة طويلة الأمد بـ”النقاط” وبـ”التدريج”، وهي فكرة صحيحة طبعاً، لكنها غريبة على قاموس نصر الله، وجرى توظيفها هنا فقط لتبرير التملص، أو النأي عن المعركة الجارية.
ليس الغرض هنا محاكمة خطاب نصر الله من زاوية تأييد مشاركة حزب الله أو عدم مشاركته في الحرب الدائرة في غزة، فهذا شأن آخر، وإنما الغرض محاكمة هذا الخطاب من داخل منطق نصر الله ذاته، المتعلق بأن إسرائيل أوهى من بيت العنكبوت، وإنها في الأيام الأولى لحرب غزة تعرضت لهزّة كبيرة، أمنية وسياسية ومعنوية..الخ.
السؤال هنا: لماذا لم يستغل حزب الله، إذاً، تلك الهزة لتوجيه الضربة الماحقة لإسرائيل، التي طالما توعد بها!، والتي أعاد التذكير بها في خطابه متوعداً بأن أي اعتداء أو حماقة أو محاولة ضربة إسرائيلية استباقية ضد حزب الله، أو ضد لبنان، ستواجه برد مُزلزلٍ من حزب الله؟
لماذا لم يستغل حزب الله الهزة التي تسببت بها حماس لتوجيه الضربة الماحقة لإسرائيل، التي طالما توعد بها!، والتي أعاد التذكير بها في خطابه متوعداً بأن أي اعتداء أو حماقة أو محاولة ضربة إسرائيلية استباقية ضد حزب الله، أو ضد لبنان، ستواجه برد مُزلزلٍ من حزب الله؟
بدل ذلك حدد نصر الله في خطابه عاملين يمكن أن يأخذا حزب الله لمنازلة إسرائيل. الأول، هو تطور الأحداث في غزة إلى درجة تضعف المقاومة؛ كأن كل تلك المقتلة وذلك التوحش غير كافيين، أو كأن المنازلة لحظة إضعاف إسرائيل لحماس هي أفضل لحزب الله، من منازلة إسرائيل في ظرف مازالت فيه حماس تواصل “تصديها للاقتحامات الإسرائيلية”!. هذا منطق غريب، لأن حزب الله في خطابات سابقة كان يتوعد بالتدخل في حال ذهبت إسرائيل نحو خيار الاقتحام البري لقطاع غزة، وهذا حصل قبل أيام.
العامل الثاني، فيتعلق بسلوك إسرائيل تجاه لبنان، ما يعني أن حزب الله غير معني بما يحصل مع الفلسطينيين، ولا بطبيعة وجود إسرائيل في المنطقة، على النقيض من كل ادعاءاته السابقة.
في النهاية حدد نصر الله هدفين للانتصار في حرب غزة، الأول، وقف العدوان الإسرائيلي، الذي لم يقف قبل خطاب نصر الله، والذي ربما سيزداد حدة بعد خطاب التخلي هذا. والثاني، هو صمود غزة، ولا يختلف أحد مع هذين، بيد إن ذلك الطرح يأتي هنا كمحاولة للتورية والمخاتلة، للتملص من الخطابات والادعاءات السابقة ولتبريرها.
عموما فإن المشكلة مع حزب الله تنبثق من واقعه كحزب طائفي مسلح، وباعتباره يشتغل كذراع إقليمية لإيران في لبنان وسوريا والعراق، أي أن حزب الله بمثابة رصيد للأمن القومي الإيراني في بلدان المشرق العربي، ولا يمكن أن يتصرف أو يقاتل، إلا في حال تم تهديد إيران، أو في حال تم تهديده في لبنان، أو حين تطلب منه إيران التدخل، كما حصل في سوريا.
لذا تُستغرب تلك “العقلانية” الفجائية، في السلوك العملي لحزب الله، في وقت لا يُظهر مثلها في انخراطه العميق في قتل السوريين دفاعاً عن نظام الأسد.
أيضا، يكشف هذا الموقف، أو هذا الخطاب، هشاشة مكانة حزب الله كـ”حزب مقاومة”، فهذه المكانة بالكاد يمكن ملاحظتها بعد انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان عام (2000)، إذا استدارت بندقية حزب الله إلى الداخل اللبناني وثم نحو السوريين منذ 23 عاماً، باستثناء لحظة خطف الجنديين الإسرائيليين عام (2006)، التي استدرجت ردة فعل إسرائيلية وحشية ومدمرة، ضد لبنان، نجم عنها مقتل 1200 لبناني، ودمار بنى تحتية ومئة ألف بيت، ما اضطر نصر الله وقتها للاعتذار.
من جهة أخرى، كرس نصر الله وقتاً طويلاً لتبرئة صفحة النظام الإيراني، الذي يُهيمن على عدة عواصم عربية (بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء) عبر ميلشيات طائفية مسلحة، نجم عنها تصديع بنى الدولة والمجتمع في تلك البلدان، وتخريب نسيجها الاجتماعي بإثارة النزعة الطائفية (سنة وشيعة)، التي لم تظهر سابقاً بقدر ما ظهرت كنتيجة لسياسات نظام “الولي الفقيه” في إيران، وبفضل الميلشيات التي دعمتها في تلك البلدان، والتي جاء نصر الله ليبيض صفحتها، متناسياً ما فعلته في العراق وسوريا، من طرد اللاجئين الفلسطينيين من العراق منذ عقدين، والمساهمة في استهداف مخيمات الفلسطينيين في سوريا.
هل ادعاء مقاومة إسرائيل، وهي غائبة، يُبرر أو يُحلل، لحزب الله قتل السوريين؟ وهل تخريب إيران بنى الدولة والمجتمع في سوريا والعراق ولبنان، يضر أو يضعف،سرائيل، أم يخدمها ويقويها؟
الواضح أن هناك وهمٌ عند البعض بحزب الله، إثر عدم رؤية السياق الذي يشتغل به، والتغاضي عن طبيعته وتوظيفاته ومواقفه وارتهاناته، خصوصاً دوره في الدفاع عن أنظمة الفساد والاستبداد والطائفية في المشرق العربي في سوريا والعراق ولبنان، والسؤال هنا موجه لأولئك البعض، ما الحكم الديني والأخلاقي والسياسي لقتل السوريين؟. وهل ادعاء مقاومة إسرائيل، وهي غائبة، يُبرر أو يُحلل، لحزب الله قتل السوريين؟ وهل تخريب إيران بنى الدولة والمجتمع في سوريا والعراق ولبنان، يضر أو يضعف،سرائيل، أم يخدمها ويقويها؟
عموما ما جاء في الخطاب لم يكن مفاجئا، سوى للمتوهمين، فكل الإشارات الصادرة عن قيادات النظام الإيراني كانت تشي بنفي أي علاقة لإيران بما يجري في غزة، وبالدعوة لوقف العدوان الإسرائيلي على غزة، وباستعدادها للتدخل للإفراج عن الأسرى، وذلك في إطار محاولتها توظيف تلك المعركة لتعزيز مكانتها الإقليمية، وللمساومة على تعزيز دورها في مقابل الأطراف الإقليميين والدوليين الآخرين.
——————————
كيف نتحدّث عن بلد من دون أن نذكر اسمه؟/ مناهل السهوي
26.10.2023
التضييق الذي يمارسه السياسيون الغربيون والخوارزميات، على البلد الذي لا يريدون أن نقول اسمه، يدفعنا الى التساؤل: هل يريدوننا أن نتحدث عن بلد غير موجود، عن آلام الناس من دون أن نقول من هم، وعن القتل المتعمد لشعب كامل من دون أن يحرك أحد ساكناً ومن دون أن نقول من هو القاتل.
في الصباح، حين سأل مديري في العمل عن آخر إحصاء حول أعداد ضحايا مجزرة مستشفى المعمداني (الأهلي)، قلت له: “قرأت آخر شي 1250”. بعد دقائق، تساءلت: أين قرأت هذا الرقم؟ لم أقرأه في أي مكان، لقد كان جزءاً من كابوس فظيع راودني ليلاً، استيقظت منه من دون أي ردة فعل وتابعت حياتي الواقعية، كأنَّ الكابوس جزءٌ من الواقع، فهل نستيقظ من كوابيسنا أم عليها؟
كيف يمكن أن نتحدث عن بلد من دون ذكر اسمه خوفاً من رقابة الخوارزميات؟
بلد يُحرم الناس من مساندته أو التعبير عن التعاطف تجاه سكانه، وفي عالم رقمي يحجب منشوراتنا على وسائل التواصل الإجتماعي لو دعمناه، ويطرد موظفون من مؤسسات كبرى للسبب ذاته، ويهدد آخرون بسحب الجنسيات منهم.
التضييق الذي يمارسه السياسيون الغربيون والخوارزميات، على البلد الذي لا يريدون أن نقول اسمه، يدفعنا الى التساؤل: هل يريدوننا أن نتحدث عن بلد غير موجود، عن آلام الناس من دون أن نقول من هم، وعن القتل المتعمد لشعب كامل من دون أن يحرك أحد ساكناً ومن دون أن نقول من هو القاتل. في النهاية، وجدتُ أنه من الممكن الحديث عن بلد من دون أن نقول اسمه، يمكن بالفعل الحديث عنه وسيعرفه الجميع كما عرفوه دوماً.
هو بلد نشعر بالانتماء إليه وبأنه جزء من ذاكرتنا، ذلك البلد هو جرحنا، رمزه الكوفية، يريدون ألّا نذكر اسمه، ولا المجازر والقتل والاستهداف الإسرائيلي للأطفال والأبرياء، وأن الأطفال يكتبون أسماءهم على أيديهم، فإذا ماتوا تحت القصف عرف الأحياء هوياتهم، مع هذا كله يريدوننا أن ننسى ذلك البلد ونتصرف كأن شيئاً لم يحصل، وعلينا أن نكمل حياتنا كما لو أن الضرر الجانبي “لإسرائيل” هو بضعة آلاف من الأرواح، لكنهم لا يدركون أن هذا العطب والضرر يصيبنا جميعاً وأننا نستيقظ كأننا مهجّرون وخائفون ومحاصرون، فإسرائيل لا تحاصر الأبرياء في غزة وحسب بل تحاصرنا جميعاً على هذا الكوكب.
إننا نعيش بالفعل كابوساً كبيراً، فيما العالم يتجاهل ألم الغزاويين ولا يلتفت الى أطفال القطاع، هم في نظر ميديا الاستقطابات السياسية أقل قيمة إنسانية من غيرهم. نعم إننا نرى ذلك، صراخ أطفالنا لا يصلهم والقهر لا يعنيهم، ولا سبب لذلك سوى أننا أقل إنسانية من “الستاندر الغربي”، وهذا هو الكابوس الذي نعيشه، كابوس كذبة الديمقراطية والحرية التي كنا نأمل بها. نحن من خرجنا من بلاد دمرتها حروب الديكتاتور، كنا نأمل بإيجاد الحرية في مكان آخر، وإذ بنا نصطدم بواقع أن الآخر الغربي، وتحديداً السياسات الغربية، لا يسمعنا ولا يرانا أصلاً.
وبعدما طُبِعَتْ مشاهد الأطفال الخائفين والمصدومين في ذاكرتنا جميعاً، أتساءل: ماذا لو انتشر فيديو لطفل مرتجف بسبب القصف، في البلد التي يريدون أن ننسى اسمها، على أنه لطفل في بلد آخر؟ هل ستصبح عيناه حقيقيتين؟ هل كان سيخرج قادة العالم للتنديد بما يحدث وإيقافه؟ إذاً، تحتاج عيون الأطفال الى أن تنتمي الى بلد آخر حتى يصدق العالم معاناتهم.
البلد الذي طُرد سكانه منه وجاء آخرون من أصقاع الأرض لاحتلاله، واحتجّ أهله ورفضوا تسليم منازلهم فقتلهم الغرباء، نستطيع الحديث طويلاً عنه من دون ذكر اسمه وسيعرفه الجميع. لكن المضحك المبكي أننا لو روينا قصة ومعاناة هذا البلد من دون ذكر اسمه، ستكون قصة مأساوية وسيعتبرها الغرب أمراً غير إنساني، أما أن نذكر اسمه، فستصبح القصة فوراً أقل مأساوية ولها سياق مختلف، ستصبح بالتأكيد قصة عادية.
هل يجب أن نخاف من إنسانيتنا؟
هل يجب أن نفكر مرتين قبل أن نتضامن مع المظلومين، لأن معايير الإنسانية متغيرة بطريقة نعجز عن مجاراتها نحن الذين خرجنا من بلاد داست فيها الأنظمة على الديمقراطية والحرية، رغم ذلك ما زلنا نؤمن بالحرية، فمن حُرم منها طويلاً يستدل عليها بسهولة.
في معركة الحرية، لم تكن شروط اللعبة عادلة يوماً، فحتى الإعلام والخوارزميات لم يكونا نزيهين تجاه البلد الذي لا نستطيع ذكر اسمه. واللافت في معركة الخوارزميات، أن الخوارزميات الحالية لا تمتلك الفهم الإنساني للسياقات الثقافية والفروق الدقيقة والمعاني الكامنة وراء أنماط الكلمات أو ارتباطاتها، ما يعني أنها غير قادرة تماماً على فهم صورة شعرية تتحدث عن البلد الذي لا يريدوننا أن نذكر اسمه. ورغم هذه التحديات التقنية، قامت شركتا “ميتا” و”يوتيوب” خلال هذا العام، بعمليات تسريح واسعة النطاق للعاملين في مجال تحديد الانتهاكات والتحريض على العنف، واعتمدت بشكل أكبر على الأساليب الخوارزمية. وبحسب تحقيق نُشر بعنوان “الفضاء المغلق” في برنامج “ما خفي أعظم”، أكد مدير سياسات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في “فيسبوك” سابقاً، أشرف زيتون، أن إسرائيل استطاعت أن تخلق منظومة قوية جداً للضغط والتأثير على إدارة “ميتا”، وأن السياسة الإسرائيلية حاولت أن تؤثر حتى على القواعد التي تحكم عمل الخوارزميات. إذاً، المطلوب في هذه الحرب هو حجب الإنسان وإنسانيته ووضع الخوارزميات مكانه، الخوارزميات التي لا تشعر ولا تتعاطف ولا تتضامن. إلا أنه غاب عن بالهم أن الخوارزميات ليست بشراً ولا تمتلك لغة تتلاعب بها، لتروي قصة الاحتلال كما يحلو لها من دون ذكر اسم البلد المحتلّ أصلاً.
لا تعلم الخوارزميات أن سكان ذلك البلد يكتبون منشورات قبل يوم من موتهم، يتحدثون فيها عن البلد والخوف والظلم، ينتظرون موتهم وحسب، ينظرون في عيون الأطفال، يخطر لهم أن ينقلوا ألمهم عبر منشور على “فيسبوك”، فتأتي إسرائيل وتقتلهم بقصفها. “فيسبوك” اليوم هو مقبرة لآلاف الحسابات التي رحل أصحابها في ذلك البلد، والذين نعيد نشر ما كتبوه قبل رحيلهم بأيام كدليل على الظلم، هذا كله تجهله الخوارزميات التي كما حكومات الغرب تتجاهل الإنسان.
لقد فشل الغرب في التعامل مع أزمة إنسانية، وسقط في الامتحان من دون أن يعترف، فالحكومات الداعمة لقصف القطاع، لديها من العنجهية والاستعلاء، إنسانياً وسياسياً، ما يجعلها تصدق أن الأطفال الذين يموتون هناك هم “إرهابيون”، وأن الموت والقصف سيؤديان إلى السلام!
ظاهرياً، يبدو العالم الغربي أنه نجح في قطع شوط كبير في القضاء على العنصرية ضد السود وتحريرهم من العبودية، لكنه في الحقيقة لم يقضِ على العنصرية كفكرة، فهي ما زالت موجودة وبقوة، ويستخدمها اليوم ضد فلسطين التي لا يريد أن نذكر اسمها، أو حتى أن تمتلك اسماً في الأصل. ذلك كله هو جزء من خطة لنزع الإنسانية عن شعبها، وفي المحصلة لن يتعاطف الناس مع بلد لا يحمل اسماً أو مع مدنيين مجهولين… هكذا إذاً، تُستَعبد الإنسانية في القرن الواحد والعشرين.
————————
صكوك الإدانة…عن “العنف غير المبرر” ومُعاداة غزّة/ عمّار المأمون
24.10.2023
طلب الإدانة العمياء لـ”حماس”من دون سياق، نابع ربما من مقاربة “الشر الأعظم” المتمثل بالنازية، التي تقتل اليهود لأنهم يهود، في حين أن عبارة “عنف حماس غير المبرر”، محاولة للهرب وغض البصر عن السياق الذي يحصل فيه الصراع، وسياسات الاحتلال.
لا يمكن إنكار الانحياز الأوروبي لصالح إسرائيل في الحرب التي تشنّها على غزة، ناهيك بشدة الانتهاكات التي ارتكبتها إلى حد وصفها بـ”العقاب الجماعي” و”جرائم حرب”. لكن أكثر ما أثار الحفيظة والصدمة هو موقف أوروبا، سواء في دعم أطياف واسعة فيها لإسرائيل من دون أي مساءلة، أو الوقوف بوجه الأصوات التي تنتصر للحق الفلسطيني، وتوزيع اتهامات “دعم الإرهاب” و”معاداة الساميّة” لكل من يبدي حتى تعاطفاً مع القتلى الفلسطينيين.
المفارقة في ما يحصل هو مقارنة “طوفان الأقصى” بـ”الهولوكوست”، أو استحضار أطياف الهولوكست في وصف ما تعرض له الإسرائيليون، وهنا شأن لا بد من الخوض فيه، خصوصاً أن أدبيات ما بعد الحداثة الأوروبيّة( التي يؤرخ البعض بدايتها بنهاية الحرب العالميّة الثانيّة) ترى أن كل المركزيات الأوروبية انهارت (مركزية الرجل الأبيض، مركزية الشمال…ألخ) عدا اثنتين، الأولى هي “مركزية انهيار السرديات الكبرى” والثانيّة هي “مركزية الهولوكوست”، الجريمة التي لا يمكن مسّها أو مساءلتها.
الهولوكوست جريمة أوروبيّة بامتياز، لا تُنسى ولا تُغتفر، وحجر الأساس في الذنب الأوروبي، والتي لا تجوز مقارنتها بأمر آخر، كونها قتلاً ممنهجاً وبيروقراطياً، شارك فيه “جيل” لإبادة فئة محددة من الأشخاص بسبب دينهم، أو ما يُعرف بـ”الحلّ الأخير”. هي الجريمة “الفريدة من نوعها” وفق دان ستون، مدير مركز أبحاث الهولوكوست في جامعة رويال هالواي في لندن، لأن “فرادتها” لا تأتي من عدد الضحايا، بل من الأسلوب الذي طُبقت فيه الإبادة الجماعيّة.
حضور المقارنة هذه الآن، في ظل احتكار أشكال “المقاومة المسلّحة” بالجماعات الدينيّة (“حماس” و”حزب الله”)، يبدو كمحاولة لاستبدال الشرّ الأوروبي الأعظم (النازيّة) بهذه الجماعات، خصوصاً “حماس”. الملفت أن المقارنة هذه لم تنجح حين محاولة لصقها بنظام الأسد ( المقالات المتعددة عن دور النازيين في بناء المنظومة الأمنية السوريّة)، ولم يعمم استخدام كلمة هولوكوست لوصف الفظائع التي ارتكبها.
تفترض المقارنة إذاً، أن ما قامت به “حماس” بوصفها “جماعة إسلامية تحكم مساحة محاصرة”، يشابه ما قامت به جمهورية الرايخ الثالث، لكن المقارنة هنا لا تتعلق بالأسلوب، بل بالصدمة، والتركيز على أن الضحيّة يهوديّة في الحالتين، الأمر ذاته حين مقارنة ما حدث 11 أيلول/ سبتمبر، المقارنة النابعة من المفاجأة التي أخذت إسرائيل على حين غرّة.
لكن، ماذا يعني تهديد مركزية الهولوكوست وفتح باب المقارنة؟ مركزية جريمة الهولوكوست هي أساس السيادة السياسيّة بعد الحرب العالميّة الثانيّة (انهيار الرايخ الثالث في ألمانيا، انهيار جمهورية فيشي في فرنسا)، وسيطرة ذنب عام يشترك به سكان القارة العجوز بخصوص ما حصل. لكن، هل استبدال “شر أوروبي نازي” بـ”شر جهادي إسلامويّ” هو الحلّ لهذا الذنب أو للقضية الفلسطينيّة؟
كتبت الصحافية الإسرائيليّة أميرة هاس في هآرتس مقالاً بعنوان “ألمانيا، لقد ختني مسؤوليتك منذ زمن طويل”. تنتقد هاس في المقال، المستشار الألماني أولاف شولتز، والوقوف الحاسم والدائم إلى جانب إسرائيل، بوصفه “شيكاً على بياض… قد تشعل إثره إسرائيل حرباً عالميةً ثالثة”.
بصورة ما ، تقول هاس إن محاولة التكفير عن ذنب الهولوكست، قد تدفع نحو حرب جديدة ضحاياها أيضاً من اليهود، وهنا نقع في مفارقة، التسليم بأن عنف “حماس” مشابه للهولوكست، يعني إمكان تعميم العداوة ضد “كل الفلسطينيين”، بوصفهم “كلهم” مشاركين في الجريمة، خصوصاً المقيمين في قطاع غزّة، وهذا ما تقوم به إسرائيل. لكن هذه المقارنة تهدد مركزية الهولوكوست نفسها، وتحوّلها إلى جريمة يمكن معاقبة أي شخص أو جماعة بسببها، إنما منطق المقارنة هذا بالذات معطوب، وأشبه بعجلة تدور في مكانها، لا يقدم أي جديد سوى التراشق بأعداد الضحايا، ويقسم لا فقط المنطقة، بل العالم كما يحصل الآن. انهيار مركزيّة الهولوكوست أزمة ستعيد توزيع الذنب الأوروبي تجاه اليهود، وخلق “شر مطلق” جديد لا نعرف حدوده.
“العنف غير المبرر”
تصرّ إسرائيل وكل من يقف إلى جانبها على إدانة “حماس”، بل أصبحت صكوك الإدانة مطلوبة من كل شخص سواء كان شخصية عامة أو خاصة، الشأن الذي لا اختلاف عليه هنا، بل ويمكن اختزاله بكلمات باسم يوسف “كسّم حماس”، ونعم ما قامت به شأن وحشيّ باستهداف المدنيين والأطفال والعجائز وأخذهم رهائن. لكنْ، هناك إصرار على عبارة “عنف غير مبرر”، لأن ما قامت به “حماس” عدميّ، ولا يخدم أي أحد، هو فقط استهداف لليهود لأنهم يهود، وهذا أيضاً مدان.
لكن، نركز على عبارة “غير مبرر” التي تبدو غريبة، أو بصورة ما، مفرطة في أخلاقيتها و سذاجتها أحياناً، خصوصاً أن الجماعات المشابهة التي تقارن بها “حماس” هناك دوماً تبرير جيو -سياسي للعنف الذي ترتكبه، فـ”داعش” (محطّ المقارنة الأكبر مع “حماس”)، هناك تبريرات عدة لـ”ظهورها”، هي نتاج الغزو الأميركي والغضب السنيّ في العراق والدور الشيعي أثناء سقوط الموصل، وصنيعة نظام الأسد الذي يريد حرف مسار الثورة ..الخ، بل هناك تبريرات للشبان الذين يتركون ضواحي فرنسا ويتجهون إلى الرقّة للقتال في صفوف الدولة الإسلاميّة “داعش”، بأنهم نتاج إهمال السلطة الفرنسية، ويمارسون الفظائع رغبة في إثبات الذات ضمن مجتمع نفاهم، أو تحدٍّ للمجتمع الذي أقصاهم وغيرها… لكن “حماس” لا مبرر لما تقوم به، لأنه نابع من أيديولوجيا صرفة (مسلمون يريدون قتل اليهود)، لا وجود لأي شروط جيو-سياسيّة من الممكن أن تؤدي إلى نشوء جماعة مسلحة دينيّة ضمن منطقة محاصرة، لا تفكر بالآخر إلا كـ”عدو لا بد من إبادته”، بالأسلوب ذاته الذي يفكّر به هذا الآخر.
تشير جوديث باتلر في مقال نشرته أخيراً بعنوان “بوصلة النحيب”، الى أن ما يحصل هو محاولة لتحويل إسرائيل إلى ناطق باسم اليهود في العالم، و”حماس” إلى ناطق باسم كل الفلسطينيين في العالم، لافتةً إلى أن البلاغة الإسرائيلية المُستخدمة عنصريّة، ومشدّدة على أن الإدانة الأخلاقيّة من دون فهم السياق، تعني قبول العنصرية الاستعماريّة، إذ “لا يمكن لنا التعامي عن التاريخ في سبيل الحتمية الأخلاقيّة”، أي حتمية إدانة “حماس”، لتتابع بعدها الحديث عن السلام واللاعنف، وحق الشعب الفلسطيني بالحريّة.
إذاً، غياب التبرير وطلب الإدانة العمياء من دون سياق، نابعان ربما من مقاربة “الشر الأعظم” المتمثل بالنازية، التي تقتل اليهود لأنهم يهود، في حين أن “العنف غير المبرر”، هو محاولة للهرب وغض البصر عن السياق الذي يحصل فيه الصراع، وسياسات الاحتلال. التعامي عن التبرير أشبه بالقول إن شخصاً أبيض في أوروبا قرر إطلاق النار على مدرسة بكاملها في الدنمارك أو أميركا من دون أي تبرير سوى القتل. نعم الإدانة واجبة، لكن من السذاجة التسليم بعنف عدميّ من دون السياق.
أحد السياقات التي يمكن الحديث عنها هو الشروط السياسيّة التي تركت مفهوم المقاومة بأيدي جماعات مسلحة دينية لا تخضع لسيادة محددة، فـ”حماس” تقرر من عقلها متى تهجم، بصورة أدق، قال خالد مشعل في لقاء معه أخيراً، إن كتائب القسام تتصرف بناء على تغيرات الواقع الميداني، بينما “القيادة” تتبع وتدعم، أي أن القرار لا يتخذ من الأعلى( إن صدقنا كلامه) ولا بالتشاور مع سكان غزة أنفسهم. الأمر ذاته مع “حزب الله”، فقرار الاشتباك لا دور للدولة اللبنانية المنهارة فيه ولا للشعب اللبناني، وهناك حيرة، هل سيأخذ القرار في الضاحية الجنوبيّة أو أيران؟.
بالعودة الى كلام باتلر، الإدانة المطلوبة لـ”حماس” عمياء بل وغير أخلاقيّة إن أردنا تجاهل العنف الإسرائيلي الاستعماري، نعم هي ليست حركة مقاومة وطنية كلاسيكيّة، ونعم هي جماعة إسلاميّة تحكم البشر وتمارس السيادة في منطقة محاصرة، لكن في الوقت ذاته، هناك سياق الاستعمار، والتسليم بوصف “الحيوانات” الذي استخدمه وزير الدفاع الإسرائيلي، يعني الاتفاق مع حق الاستعمار لا فقط في “الدفاع عن نفسه” حد إفناء العدو، بل إفناء الآخر، الإنسان، بوصفه أقل حقاً بالحياة، والأهم، لا يستحق النحيب من أي طرف كان. مصادرة حق النحيب على الحياة الإنسانيّة التي هُدرت لدى الطرفين، تفتح الباب على تشدّد أكثر، وعنف أكثر،كوننا سننتهي أمام “عداوة أنطولوجيّة” تُختصر بعبارة “إما نحن أو هم”.
———————–
“طوفان الأقصى”… قراءة في احتمالات حرب إقليميّة/ مناهل السهوي
10.10.2023
على رغم تعويل “حماس” على عدد الرهائن الإسرائيليين الكبير الذين تحتجزهم في القطاع، إلا أن الغضب الإسرائيلي يشي بخطوات قد تكون متهوّرة، والتي بدأت بالفعل مع إعلان الناطق باسم القسام عن أن قصف الاحتلال على غزة أدى إلى مقتل عدد من الأسرى الإسرائيليين.
يشكّل يوم 7 تشرين أول/ أكتوبر، علامةً فارقةً في مسار القضية الفلسطينية. فهو يوم ضُربت فيه الأسطورة العسكرية لإسرائيل، وأهينت بشكل لم يحصل في تاريخها. لكن هذا اليوم لم يطوَ بعد، وتداعياته تتمدد وتأخذ مسارات مختلفة ومعقّدة مع تصاعد احتمالات توسّع رقعة الارتدادات جراء الحرب المفتوحة الدموية ضد قطاع غزة، والتي أعلن قادة إسرائيليون أنها ستكون أكثر قساوة من حروبها الأربع السابقة.
السؤال هنا لم يعد فلسطينياً فقط، مع فتح جزئي لجبهات أخرى، منها الجبهة الشمالية مع جنوب لبنان، حيث حصل تسلّل ومناوشات عدة وقصف إسرائيلي أسفر عن مقتل 3 عناصر من “حزب الله” بعد مهاجمته ثكنتي برانيت وأفيفيم بحسب الحزب، بينما أصيب 6 جنود إسرائيليين، أحدهم حالته حرجة، في اشتباك مع مجموعة تسلّلت من الأراضي اللبنانية يوم أمس، بحسب القناة الـ 12 الإسرائيلية.
حرب إسرائيل على الجبهتين السورية واللبنانية
تتوعّد إسرائيل اليوم، باجتياح قطاع غزة والقضاء بشكل نهائي على حركة “حماس”، رغم أن ذلك لن يكون سهلاً في ظل تعقيدات حرب الشوارع داخل القطاع، التي استعدّ لها مقاتلو “حماس”، على عكس إسرائيل التي ستجد نفسها في ورطة لو اتخذت هذا المسار، فيما لم يتوقف الطيران الإسرائيلي عن قصف القطاع حتى لحظة كتابة هذا المقال. لكن هذا الاجتياح مرتبط أيضاً بالجبهتين السورية واللبنانية، فبحسب الباحث الفلسطيني أنطوان شلحت لـ “درج”: “ما يمكن قوله الآن، إن إسرائيل بإعلانها أنها في حالة حرب، تعلن على رؤوس الأشهاد أنها في صدد شن حرب على قطاع غزة تهدف إلى القضاء على قدرات المقاومة الفلسطينية، وإعادتها القهقرى أعواماً كثيرة. ومثل هذا الهدف لا يمكن تحقيقه، وفق ما يؤكد الخبراء العسكريون، إلا عبر اجتياح برّي للقطاع وربما إعادة احتلاله”.
هذا الاحتمال بحسب شلحت، يطرح تساؤلات كثيرة، أهمّها مرتبط بكيفية تأثير ذلك على المنطقة العربية، لا سيما “حزب الله” والميليشيات الموالية لإيران في سوريا ولبنان. فحتى الآن، لا توجد مؤشرات قوية إلى أن اجتياح القطاع سيؤدي إلى انفجار الجبهة الشمالية، ولكن يجب أن نأخذ في الاعتبار مثل هذه الاحتمالية، وكذلك أن نلتفت إلى حقيقة أن إسرائيل تأخذها أيضاً في الاعتبار.
الدليل على إدراك إسرائيل أهمية حدودها الشماليّة، هو رفع حالة التأهب العسكري الإسرائيلي في تلك الجبهة إلى الدرجة القصوى، وتحريك حاملة طائرات أميركيّة إلى شرق البحر الأبيض المتوسط، والتي يقدّر كثيرون أن الهدف منها هو توجيه رسالة ردع وتحذير إلى “حزب الله” وإيران من مغبّة فتح جبهة قتالية مع إسرائيل.
وعن إمكان فتح حرب على الجبهتين السورية واللبنانية، يقول شلحت: “أعتقد أن السؤال المتعلق بهذه المسألة ليس هل ستفتح جبهة قتالية كهذه؟ وإنما متى؟ والإجابة عنه مرهونة بتطورات الحرب على غزة والمقاومة الفلسطينية”.
في هذا السياق، نقل موقع axios، أن الإمارات العربية المتحدة حذرت نظام الأسد في سوريا من التدخل في الحرب بين “حماس” وإسرائيل أو السماح بشن هجمات على إسرائيل من الأراضي السورية، وفقاً لمصدرين مطلعين على الجهود الدبلوماسية الإماراتية.
نظام الأسد كان يعلم أنه سيتخذ قرارات من هذا النوع بشأن الحرب الإسرائيلية – الفلسطينية، بعد عودة علاقاته مع الإمارات، المطبّعة العربية الأبرز مع الكيان، وذات الدور الأبرز في تعويم نظام الأسد عربياً.
“حماس” تفسد جهود التطبيع الإسرائيلي – السعودي
إسرائيل مصدومة وتحاول فهم كيف انهار سقف منزلها الهشّ بين ليلة وضحاها، صدمة تعكسها التصريحات الرسمية، إذ قال جوناثان كونريكوس، المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، إن الوضع في إسرائيل مروّع، وإن هجوم 7 تشرين الأول بالنسبة الى إسرائيل، قد يكون بمثابة 11 أيلول/ سبتمبر وبيرل هاربر في هجوم واحد.
مشكلة إسرائيل اليوم ليست داخلية فحسب بل خارجية أيضاً، وتحديداً في سعيها الى فرض وجودها عربياً. ويبدو أن “حماس” نجحت في إفساد حركة التطبيع المتسارعة بين إسرائيل ودول الخليج، بخاصة السعودية، التي كانت على أبواب عقد سلام تاريخي. لكن الآن، ومع تصعيد إسرائيل هجماتها وحصارها القطاع، ستفكّر السعودية مراراً قبل اتخاذ خطوة التطبيع.
هذا التردّد ألمحت إليه وزارة الخارجية السعودية في بيانها حول التصعيد الإسرائيلي – الفلسطيني، إذ دعت جميع الأطراف إلى ضبط النفس، مستذكرة تحذيراتها المتكررة من مخاطر انفجار الأوضاع نتيجة استمرار الاحتلال وحرمان الشعب الفلسطيني من حقوقه المشروعة وتكرار الاستفزازات الممنهجة ضد مقدساته، كما حثت المجتمع الدولي على استئناف عملية سلام ذات مصداقية على أساس حلّ الدولتين.
اعتراف السعودية التي كانت على مشارف تطبيع مع “إسرائيل”، بانتهاك الأخيرة حقوق الفلسطينيين، هو بحد ذاته هزّة للاحتلال، وتراجع لموقفه أمام العالم. فإسرائيل أوهمت العالم بأنها، وعلى رغم حصار غزة، حريصة على دخول الغذاء والدواء وغيرهما من الاحتياجات، وهذا أمر غير صحيح بالطبع، إذ يعاني القطاع منذ 16 عاماً من نقص حاد في كل جوانب الحياة.
ارتفعت أسعار النفط الخام نحو 5 بالمئة، في أعقاب الهجوم الذي شنّته حركة المقاومة الإسلامية على إسرائيل. وبحسب مجموعة “سيتي إنفستمنت ريسيرش”، فإن أي توسّع في المعارك ستكون له تداعيات محتملة على أسواق النفط.
إيران أيضاً قد تفكر في صادراتها من النفط الخام، بعدما تمكنت من زيادة صادراتها النفطية في عام 2023، وهو جزء من نهج اتبعته أميركا ضمن جهود إدارة بايدن للاتجاه نحو سياسة السلام في الشرق الأوسط. لكن وقف هذه الصادرات سيؤثر سلباً على الطرفين.
في سياق إنتاج النفط، قد تفكر إسرائيل ذاتها مرتين بهذا الخصوص قبل أي تصعيد قريب، قد يؤذي خططها وطموحاتها في توسيع عملها على تصدير الغاز الطبيعي وجذب مستثمرين أكثر وأكثر، في سبيل تحقيق حلمها بأن تتحول إلى مركز أساسي لتصدير الغاز الطبيعي. وأكثر ما تحتاجه إسرائيل هو طمأنة العالم والمستثمرين بألّا خطر أو صراع قد يظهر من اللاشيء ويهدّد هذه الاستثمارات.
المواجهات المسلّحة تهديد لهذه الاستثمارات، وكانت “شيفرون”، شركة الطاقة العملاقة الأميركية، أحالت في بيان لها منذ أيام، الأسئلة المتعلقة باستمرار عمليات المنشآت إلى الحكومة الإسرائيلية. وفي جميع الأحوال، قد تؤدي المواجهات الى عرقلة وإبطاء وتيرة الاستثمار في حقول الغاز في المنطقة، كما قد تعيق جهود إسرائيل لجذب المزيد من شركات الطاقة العالمية للتنقيب عن الغاز. لكن الأسوأ بالنسبة الى إسرائيل، هو أن تُستهدف هذه المنشآت أو أن تقترب المواجهات منها. وكان الأمل بأن يؤدي وصول “شيفرون” إلى إسرائيل إلى فتح الطريق أمام شركات الطاقة الدولية الكبرى الأخرى للاستثمار هناك، لكن اليوم اختلّ توازن القوى ومعه رغبة الاستثمار الخارجية.
إيران على لائحة المتّهمين
مع ارتفاع عدد القتلى، والحاجة إلى طمأنة الرأي العام الإسرائيلي، وجهت حكومة نتانياهو أصابع الاتهام نحو إيران، لكن الشكوك لن تكفي لحرب كهذه، إذ تحتاج اعترافاً صريحاً من طهران أو معلومات استخباراتية لم تحصل عليها أصلاً لإفشال الهجوم.
لكن، في حال لمست إسرائيل أي دور إيراني وأو ضلوع إيران في التحضير للهجوم، فذلك سينعكس تلقائياً على المنطقة بكاملها وليس فقط على ميليشيات إيران في سوريا ولبنان، التي تتلقى في سوريا ضربات جوية إسرائيلية شبه أسبوعية، والتي ربما ستزداد مستقبلاً كجزء من ردّ إسرائيل.
ليس معروفاً بعد ما سيحصل خلال الأيام المقبلة، وما إذا كانت إسرائيل تسعى الى التصعيد، إذ قال مسؤول مصري لوكالة “أسوشييتد برس”، إن إسرائيل طلبت المساعدة من القاهرة لضمان سلامة الرهائن، وسط مفاوضات محمومة من المسؤولين المصريين في محاولة يائسة للتوسط في وقف إطلاق النار، ما يعني أن هناك رغبة إسرائيلية في تهدئة نوعية عكس ما تُظهر، ولم تتخلَّ بعد عن الرهائن. من دون أن ننسى أن تخلّي حكومة نتانياهو عن الرهائن سينعكس سلباً على الرأي العام الداخلي الإسرائيلي، وأي توجّه للتخلّي عنهم سيكون تصرفاً أحمق.
الخطر الحقيقي اليوم هو على الفلسطينيين في قطاع غزة، إذ لم يتوقف القصف الإسرائيلي على القطاع حتى اللحظة، وأي تصعيد يعني موت الآلاف، بخاصة بعد توعُّد نتانياهو بتحويل القطاع إلى جزيرة مهجورة رداً على أسوأ هجوم تعرضت له بلاده منذ عقود.
وعلى رغم تعويل “حماس” على عدد الرهائن الإسرائيليين الكبير الذين تحتجزهم في القطاع، إلا أن الغضب الإسرائيلي يشي بخطوات قد تكون متهوّرة، والتي بدأت بالفعل مع إعلان الناطق باسم القسام عن أن قصف الاحتلال على غزة أدى إلى مقتل عدد من الأسرى الإسرائيليين. فهل تملك إسرائيل الحكمة للتفكير أم أنها لن تتوقف عن انتقامها حتى تدمير القطاع بشكل كامل؟.
————————
========================
مجلة “المجلة“
——————————
بعد صفقة الرهائن… غزة والمنطقة أمام خيارين/ إبراهيم حميدي
26 نوفمبر 2023
مع تنفيذ صفقة تبادل الأسرى المدنيين، أطفالا ونساء، بين إسرائيل و”حماس”، تكون غزة أمام خيارين: إما تحويل هذا الاتفاق الجزئي إلى حلول طويلة أو دائمة، أو مواصلة الحرب في القطاع وتدحرج نيرانها خارج الحدود في الضفة الغربية ومنطقة الشرق الأوسط.
الخيار الأول: لا شك أن صفقة الرهائن، أنجزت لأسباب تخص أهمية وكلفة هذا الملف لإسرائيل و”حماس” وإعطاء إدارة الرئيس جو بايدن “هدية” في “عيد الشكر” أولوية، فكانت “اللعبة الوحيدة” الموازية للمعركة والقصف في غزة.
مسودة الاتفاق، كانت موجودة على الطاولة منذ عشرين يوما، لكن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو كان يرفضها، بانتظار انتصار عسكري. وعندما حصل على “الاختراق” بوصول قواته إلى مجمع الشفاء وقطع أوصال قطاع غزة بين الشمال والجنوب، وهجّر أكثر من مليون شخص، وقتل آلاف المدنيين، وتأخر في الحسم، وسط تنامي الضغط الداخلي والخارجي، وافق على العرض.
عناصر الصفقة، هي المعايير التي وضعت، لأن هناك رغبة لدى البعض، في تطبيقها في صفقات لاحقة تخص الجنود والعسكر. تشمل: القوائم، الأعداد، المساعدات، الوقود، الجدول الزمني، القصف، والاستطلاع. سيسعى كل طرف سواء “حماس” أو إسرائيل أو الرعاة المصريين والقطريين والأميركيين، لنسخها في صفقة محتملة حول العسكريين. إسرائيل تريد تطبيق مبدأ ثلاثة فلسطينيين مقابل عسكري إسرائيلي، فيما تريد “حماس” صفقة كاملة: كل العسكريين الإسرائيليين مقابل كل السجناء الفلسطينيين.
هذه ليست البنود المهمة الوحيدة، بل هناك عنصر آخر أكثر أهمية، ألا وهو تحويل الهدنة إلى وقف دائم لإطلاق النار. كيف؟
“حماس” تقول إن لديها 50 طفلا وامرأة، وهناك نحو عشرين لدى “الجهاد الإسلامي” وجهات أخرى. في حال نفذت الصفقة الأولى بنجاح، هناك من يطرح تمديد مدتها الزمنية أكثر من أربعة أيام، كي تشمل مدنيين آخرين. ويمكن لـ”حماس” ونتنياهو القبول بالتمديد وتلبية مطالب وتنامي الضغوط من الحلفاء والخصوم، للوصول إلى عناصر أخرى، هي:
-وقف إطلاق النار.
-صفقة تبادل العسكريين (هناك أكثر من 100 ضابط وعنصر بينهم أميركيون) مقابل سجناء فلسطينيين.
-آلية للمساعدات الإنسانية.
-رفع الحصار وآلية للإعمار.
-ترتيبات أمنية أشبه بهدنة طويلة.
– الحوكمة في غزة. (البعض تداول هيئة تشمل جهات وشخصيات سياسية عدة)
-مسار سياسي للاعتراف بـ”دولة فلسطين” وفق “حل الدولتين”.
يسمح هذا المسار، كاملا أو جزئيا، لكل من نتنياهو و”حماس” بالقول إنه حقق بعض أهدافه. بالنسبة للأول، فإن الجيش الإسرائيلي بات في شمال القطاع، ودمر قسما كبيرا من البنية التحتية وهجّر أكثر من مليون شخص إلى الجنوب، وأعاد الرهائن المدنيين والعسكريين، وقتل عددا من قيادات “حماس”، بالإضافة إلى أن الترتيبات الأمنية في غلاف غزة تسمح لحوالى 25 ألف إسرائيلي بالعودة إلى مناطق كانوا فيها يوم 6 أكتوبر/تشرين الأول، كما أن الجيش الإسرائيلي استعاد بعض “الردع” الذي خسره في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
بالنسبة إلى الطرف الثاني، بإمكان “حماس” أن تقول إنها بقيت موجودة في المعادلة رغم الدمار والتهجير والقتل، وأن الطرف الأول فشل في شطبها من المعادلة، وأفشلت سيناريو التهجير، بل إنها باتت شريكة في صفقات التبادل والوساطات، وأطلقت سراح فلسطينيين من سجون إسرائيل، وعادت إلى المعادلة وأعادت القضية الفلسطينية و”حل الدولتين” إلى الطاولة الإقليمية والدولية. هي عدلت من خطابها وباتت تتحدث عن القرارات الدولية وحدود 1967.
الخيار الثاني: نتنياهو وقادة جيشه كرروا أكثر من مرة معارضة وقف النار، وكذلك أميركا ودول اوروبية تؤيد موقف تل أبيب خطابيا وعسكريا في ذلك. هدف تفكيك “حماس” وبنيتها العسكري لايزال قائما، والضوء الأخضر لايزال ساطعا. هكذا، تكون صفقة تبادل المدنيين، او اي صفقات تبادل اخرى قادمة، مجرد استراحة محارب ضرورية لمعركة أشد. مجرد تذكير خطابي بالتزام قواعد الحرب. أخذ كل طرف ما يريد منها؛ “حماس” طرحت نفسها محاورا والتقطت الأنفاس. ونتنياهو أخذ ذخيرة لاستكمال حربه وقصفه. وتأجيل موعد المحاسبة والمساءلة على الفشل. وتتحرر أميركا من ضغط الرهائن وتدخل في المزاج الانتخابي. وينتقل قطاع غزة إلى المرحلة الثانية من الحرب، عبر تمدد القصف من الشمال إلى الجنوب واستمرار حملة القصف وخصوصا في خان يونس (400 الف نازح) وفتح بات التهجير إلى سيناء ليقيم البعض بين رفح والشيخ زويد، ويهجر آلاف إلى الخارج لإحداث تحول استراتيجي في قضية فلسطين، و”نكبة ثانية”، حيث يتضمن ذلك شطب الرابط بين مكونات الدولة الثلاثة، القطاع والضفة والقدس الشرقية، والبحث عن حلول اقتصادية وبقع جغرافية.
هذا الخيار، يفتح باب حرب الاستنزاف ومعارك شوارع في قطاع غزة الذي يقيم على مدن كاملة من الأنفاق، لم يتضرر منها سوى 20 في المئة (مقابل 80 في المئة من الدمار فوق الأرض) وباب الخسائر البشرية على وقع تحول مآسي الدماء والنزوح إلى مشاهد تقليدية يعتادها العرب والغرب، وتنضم هذه الحرب على خصوصيتها الكبيرة، إلى قائمة طويلة من الأزمات الإنسانية في المنطقة العربية والعالم.
وما يفتحه هذا الخيار أيضا، انتقال شرارة النيران الى الضفة الغربية والتصعيد الإقليمي. صحيح أن إيران عاتبة بسبب شن “حماس” مفاجأة “طوفان الأقصى” دون علمها المسبق، وهذا ما قاله كبار مسؤولي إيران و”حزب الله” لقادة “حماس”، لكن استمرار الحرب ووصولها إلى حافة إلحاق أذى استراتيجي بدور “حماس”، المكوّن السنّي في “محور الممانعة”، سيزيد الضغط على طهران، “زعيم” المحور، لتحريك شركائها ووكلائها وأوراقها في المنطقة لإبقاء دور لها في المعادلة والقضية الفلسطينية.
كذلك، يهدد بتدحرج كرة النار في الاقليم وخروج الأطراف عن قواعد الاشتباك… واختبارات خطرة لـ “الخطوط الحمراء” المرسومة.
————————–
فلسطين الوسيلة لا الغاية/ عالية منصور
26 نوفمبر 2023
فجر السابع من أكتوبر/تشرين الأول، أعلن قائد الأركان في كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية “حماس” محمد الضيف، بدء عملية “طوفان الأقصى”، وقال في رسالة صوتية مسجلة: “اليوم هو يوم المعركة الكبرى لإنهاء الاحتلال الأخير على سطح الأرض”.
وما بدأ كمعركة لتحرير فلسطين، انتهى مرحليا بهدنة مؤقتة وتبادل أسرى وإدخال مساعدات، وان كان اتفاق التهدئة، ينص على أن تفرج “حماس” في المرحلة الأولى عن نحو 50 امرأة وطفلا إسرائيليا، مقابل إطلاق إسرائيل سراح نحو 150 سجينا فلسطينيا، معظمهم من النساء والقصَّر، إلا أن عملية “طوفان الأقصى” تسببت أيضا في خسائر كبيرة جدا للفلسطينيين وخصوصا في غزة، أكثر من 14800 ضحية، بينهم أكثر من 6000 طفل، و4000 امرأة، وأكثر من 7000 مفقود جلهم تحت الأنقاض، ودمار شبه كامل في غزة، وأكثر من مليون ونصف المليون نازح، وعودة قوات الاحتلال الإسرائيلي إلى القطاع بعد انسحابها منه في عام 2005.
من حق البعض أن يرى أن ما حصل هو انتصار للقضية الفلسطينية، عازين الأمر إلى أن ثمن الحرية يكون في كثير من الأحيان غاليا، ولكن أيضا من حق البعض الآخر أن يتساءل عن ثمن هذا النصر المزعوم من دون أن يتم وصمه بالتخاذل أو الخيانة، فما هي نقطة النصر التي يجب أن نحتفي بها تحديدا؟ هل هي تحرير معتقلين من السجون الإسرائيلية؟ بالطبع يستحق هؤلاء الحرية والتحرير، لأن لهم حقوقا يجب أن تصان، ولأن احتجازهم أصلا كان جريمة من جرائم الاحتلال. لكن أيضا في المقابل كما أن حق الحرية مقدس يجب أن لا يمس، كذلك الحق في الحياة مقدس ويجب أن لا يمس؛ فتعريض حياة أهل غزة للموت المحتم هو انتهاك لحقوق هؤلاء البشر وإهدار لحياتهم. لقد سبق وتمت عشرات عمليات تبادل الأسرى بين الفلسطينيين والإسرائيلين في السابق، وحتى بين إسرائيل و”حماس”، رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” في غزة يحيى السنوار نفسه كان قد خرج بصفقة تبادل بين الحركة وإسرائيل، دون أن ينتج عن صفقات التبادل تلك ما نتج اليوم عن “طوفان الأقصى”.
وإن كان لا يصح القول إن ما حققته عملية “طوفان الأقصى” هو فقط تبادل أسرى ودخول مساعدات كانت تدخل أساسا قبل العملية العسكرية والحرب الهمجية التي شنتها إسرائيل على القطاع، لكن القول إن القضية الفلسطينية انتصرت هو أيضا قول قاصر.
من يتابع خطابات قادة “حماس” في الداخل والخارج منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول إلى اليوم، يلاحظ كمية التناقضات في أغلب ما يقولونه، ما عدا ثابتين اثنين، الأول هو العلاقة مع إيران التي لم تتأثر رغم ما حكي عن خذلان “محور الممانعة” بقيادة طهران لـ”حماس”، ورفضها الدخول في أي حرب لأجل فلسطين، والثاني هو الحديث المستمر عن “حماس” نفسها لا عن فلسطين القضية ولا عن الفلسطينيين.
رئيس حركة “حماس” في الخارج، خالد مشعل، وبعد كل ما حصل في قطاع غزة يقول في كلمة ألقاها عبر الإنترنت في افتتاح المنتدى الإسلامي العالمي للبرلمانيين في إسطنبول: “المقاومة بخير. نعم هناك شهداء من المقاتلين والقيادات والإدارات، وبعض القيادات العسكرية، ولكن ليس من الصف الأول. رغم كل ذلك المقاومة بخير، أسلحتها وأنفاقها وقيادتها سليمة”.
وصحيح أن الميثاق التأسيسي لحركة “حماس” يرفض التنازل عن شبر من أرض فلسطين التي يعتبرها وقفا إسلاميا، إلا أن إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي للحركة، أكد أثناء المعركة أن “حماس” تقبل بحل الدولتين، ليأتي بعدها تصريح القيادي في الحركة والمقيم في لبنان أسامة حمدان في حديث تلفزيوني بأن الإسرائيلي لن يستطيع بعد الحرب التفاوض “إلا مع حماس”.
ذكرت قبل أسابيع على صفحات “المجلة” أن إيران تريد أن تجلس هي إلى طاولة المفاوضات، وها هي “حماس” تؤكد ذلك، فالحركة التي أصرت على التنسيق مع إيران في كل خطوة من خطواتها رغم خذلان إيران لها، لم يخل خطاب أي من قادتها من توجيه الشكر لإيران وميليشياتها، ولم نسمع منهم شكرا ولو على واجب للدول العربية، الدول التي استنفرت حسب استطاعتها لوقف العدوان على غزة ولإرسال المساعدات وعلاج الجرحى والوصول إلى الهدنة أو التهدئة.
لم يخذل أحد “حماس”، فـ”حماس” منذ اللحظة الأولى مشروعها هو “حماس”، مشروع الإخوان المسلمين في كل مكان وزمان، فلسطين ليست سوى ذريعة، فالإخوان لا يؤمنون بالدولة بمفهومها الحديث بل بالأمة، ألم يقل يوما المرشد الأسبق للإخوان مصطفى مشهور: “تفتيت الأوطان لتجميع الإمبراطورية”، والعلاقة بين الإخوان وإيران الإسلامية تعود إلى ما قبل قيام الجمهورية الإسلامية في إيران في عام 1979، فحسن البنا مؤسس جماعة الإخوان بدأ لقاءاته مع روح الله موسوي، وهو الإمام الخميني، في عام 1938 في القاهرة، وقد سبق وأجاب المرشد الحالي علي خامنئي عن سر العلاقة بين نظام الملالي والإخوان رغم اختلاف المذاهب بالقول: “نحن نؤمن بزواج المتعة”.
ما يجمع الطرفين هو مشروع “تفتيت الأوطان” لإقامة الإمبراطورية، حينها قد يختلفان من سيكون الخليفة، المرشد الأعلى أم مرشد الجماعة؟ وإن كان طموح إيران أقل سذاجة، إلا أن ما يجمع الطرفين اليوم أكثر بكثير مما يفرقهما، وفي كلتا الحالتين فلسطين وسيلة وليست الغاية.
——————————–
“مبادئ طوكيو”… و”اليوم التالي” في غزة/ إبراهيم حميدي
20 نوفمبر 2023
منذ تجربة أميركا الفاشلة في العراق في تفكيك الجيش ومؤسسات الأمن عام 2003، باتت واشنطن ومؤسساتها مغرمتين بـالعصف الفكري والاستعداد لـ”اليوم التالي”. الاستعداد مسبقا لما سيكون عليه الوضع بعد “اليوم الأول”، أي انتهاء العمليات العسكرية. الهزيمة غير واردة في الحسبان، ولا بد من الاستعداد للانتصار.
وها هي إدارة الرئيس جو بايدن تدفع حلفاءها العرب والأوروبيين للتفكير في “اليوم التالي” في قطاع غزة. لكن غالبا ما يصطدم المسؤولون الأميركيون برفض محاوريهم العرب الدخول في هذا المسار وملاعبة هذا العرض.
في اللقاء الأخير بين وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ونطرائه العرب في عمان، كانت الفجوة كبيرة والأولويات متنافرة. هو مهتم بـ”اليوم التالي” لغزة بعد الحرب، وهم مهتمون بـ”وقف فوري” للحرب. وتكرر هذا في حوار المنامة قبل يومين، إذ حصل صدام دبلوماسي على منصات الحوار، بين بريت ماكغورك، مبعوث الرئيس الأميركي للشرق الأوسط، ومسؤولين عرب إزاء النقطة والأولويات وعناصر القلق نفسها.
طرح ماكغورك، ما سماها “مبادئ طوكيو ” الخمسة. لم يكن يقصد الشروط التي فرضت علـى اليابان بعد هزيمتها بالسلاح النووي في الحرب العالمية الثانية، بل كان يشير إلى “لاءات بلينكن” بعد اجتماع وزراء خارجية الدول السبع في العاصمة اليابانية، وهي تشمل: “لا للتهجير القسري للفلسطينيين من غزة، لا لإعادة احتلال غزة، لا تقليص لمساحة/ أراضي غزة؛ فهي أرض فلسطينية وستبقى فلسطينية، لا تهديد لأمن إسرائيل من غزة، لا لحصار غزة؛ فالمدنيون يجب عزلهم عن “حماس” وهم غير مسؤولين عن جرائمها”.
أعقبها بخمس قواعد للعمل المستقبلي. هي: صوت وتطلعات الشعب الفلسطيني مركز الحوكمة في غزة. الضفة والقطاع يجب أن يعودا تحت حكم السلطة الفلسطينية مجددا. إسرائيل يجب أن تكون آمنة، لا يسمح بتهديد أمنها من الضفة والقطاع. توفير الدعم والمصادر لمرحلة ما بعد الأزمة والمرحلة الانتقالية لتدشين أسس طريق حل الدولتين. آلية لإعادة الإعمار وتوفير حاجات غزة في المدى الطويل.
المسؤولون العرب، أعلنوا رفضهم الدخول في مناقشة خطط مستقبلية عن الإعمار ونشر مراقبين وقوات عربية في غزة، حيث لا يعرف أحد كيف ومتى ستنتهي الحرب. إنهم معنيون أكثر بوقف شلال الدم والنزوح بالدعوة إلى وقف فوري للعمليات العسكرية والقصف ومنع التهجير الذي يهدد الفلسطينيين والأمن القومي لمصر والأردن، وتقديم المساعدات الإنسانية. وطالبوا بإطلاق عملية سياسة جدية تفضى إلى حل الدولتين، وتقديم خيار للشعب الفلسطيني بدلا من “حماس”، لأن الحركة فكرة وليدة الاحتلال، كما قال وزير خارجية الأردن أيمن الصفدي.
اللافت، كان الانتقاد الضمني من مفوض الشؤون الخارجية والأمنية في الاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل لـبعض “مبادئ ماكغورك”، بينها “رفض التهجير القسري” على اعتبار أن هذا يحصل وسيحصل بسبب “القصف والمجاعة”. أما “رفض فصل غزة”، فإن بوريل يرى أن “الضفة والقطاع والقدس الشرقية وحدة متكاملة لا يجوز الفصل بينها”.
وقد وافق بوريل على أن “حماس” يجب أن لا تحكم “غزة مستقبلا”، لكنه لم يشترط “إصلاح” السلطة كي تكون مسؤولة عن القطاع، بل هو يرى أنها جاهزة الآن للقيام بذلك. كما طالب بانخراط عربي في إعمار غزة وإعمار مؤسسات الدولة الفلسطينية، وبدء مفاوضات جدية للوصول إلى هذا الهدف.
قصارى القلق، أن لا يكون الكلام عن السلام وحل الدولتين، غطاء لتغيير الوقائع وفرض وقائع جديدة على الأرض، كما حصل في العقود الثلاثة الماضية. مسؤول عربي، اشترط وجود برنامج زمني وخطوات عملية لتنفيذ مشروع حل الدولتين وقيام الدولة الفلسطينية، كي تصل المنطقة إلى مرحلة لا يتجدد فيها العنف بين فينة وأخرى.
خلال السنوات الماضية، شجع الأميركيون حلفاءهم في العالم، على التفكير فيما بعد الانتصار الكامل في حروب وتدخلات وأزمات عدة، ودعموا مؤسسات مختصة بـ”اليوم التالي” في سوريا وليبيا وأفغانستان وغيرها.
نقطة البداية، في واقع الحال، لتفكير جدي في “اليوم التالي”، أن تكون إدارة بايدن قادرة على إقناع حلفائها العرب والأوروبيين بخطوات منسقة إزاء ما يحصل في “اليوم الحالي”، للوصول معا وبالمنطقة إلى فرص أفضل لنجاح خطط “اليوم التالي” الجديدة بعد فشل ونكسات في سوريا وليبيا والعراق وأفغانستان.
—————————-
رسالة سان فرانسيسكو لشعوب المنطقة: لا تكونوا وقودا/ عالية منصور
19 نوفمبر 2023
بينما ينشغل الإعلام العربي بالمذبحة المستمرة في غزة، وينقل صور الدمار والقتل وضحايا حرب إسرائيل الهمجية على الفلسطينيين في غزة، عبر الرئيس الصيني شي جينبينغ المحيط ووصل إلى الولايات المتحدة الأميركية وعقد لقاء مع الرئيس الأميركي جو بايدن في سان فرانسيسكو– كاليفورنيا، على هامش قمة منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ (أبيك).
وقد استأنف الرجلان الحوار المباشر الذي توقف قبل عام حين التقيا في بالي على هامش قمة العشرين، واستمر اللقاء بين المتنافسين اللدودين نحو أربع ساعات، بايدن دعا خلال اللقاء إلى إدارة المنافسة بشكل “مسؤول”، بينما اعتبر شي أن على الصين والولايات المتحدة “أن لا يدير أحدهما ظهره للآخر”، لأن “الكوكب كبير بما يكفي ليزدهر بلدانا” وفق قوله.
الملفات الخلافية بين البلدين أكبر من أن يتسع لها مقال، خلافات عمرها من عمر قيام الحكم الشيوعي في الصين، إلا أن العلاقة تدهورت في السنوات الأخيرة وخصوصا بعد زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركية السابقة نانسي بيلوسي إلى تايوان، وفرض الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب تعريفات جمركية إضافية على الصادرات الصينية. ويشكل الاقتصادان الأميركي والصيني 40 في المئة من الناتج العالمي، ولا يرغب الرجلان في أن تصل الخلافات بين البلدين إلى انفصال اقتصادي، لما لذلك من آثار كارثية على العالم بأسره وليس فقط على كليهما أو أي منهما.
لقاء الساعات الأربع لم يرشح عنه إلا الاتفاق على نقطتين، الاتفاق المتعلق بصادرات مكونات عقار الفنتانيل (مسكن للألم الشديد ويستخدم في صناعة المخدرات)، وتعد الصين المصدر الأساسي لهذا العقار. والاتفاق على استئناف الاتصالات بين الجيشين، والتي تم تعليقها بعد زيارة بيلوسي إلى تايوان في العام 2022.
قضية تايوان، وهي من أبرز الملفات الخلافية بين البلدين، بقيت عالقة، بكين لا تزال ترى أنها أمر غير قابل للنقاش، بينما ترى واشنطن أنها ورقة بيدها لن تتنازل عنها وإن لم يكن الوقت مناسبا الآن لإثارتها، فلدى واشنطن ما يكفي من المشاكل حول العالم.
شي طالب نظيره الأميركي، وفقا لما نقلته وزارة الخارجية الصينية، بأن تكفّ واشنطن عن تسليح تايوان، مؤكدا أن إعادة توحيد الصين وضم الجزيرة أمر حتمي.
بايدن الذي وصف شي بـ”الديكتاتور”، قال خلال مؤتمره الصحافي، إنهما اتفقا على إبقاء التواصل “بإمكان أي منا أن يتناول الهاتف ويتصل مباشرة وسيُرد عليه فورا”.
أميركيا، لم ينس الأميركيون أن نجل بايدن هانتر متورط في قضايا مالية مع الصينيين، حتى إن بعض الجمهوريين ذهب بعيدا بتوجيه الاتهام إلى بايدن شخصيا بالتورط في الأمر، وأن علاقات مشبوهة تربطه بمسؤولين صينيين منذ أن كان نائب رئيس في زمن باراك أوباما، واعتبروا أن وصفه شي بـ”الديكتاتور” ليس إلا محاولة منه للتمويه على هذه العلاقة، خصوصا أن أشهرا تفصل الأميركيين عن الانتخابات التي ينوي بايدن الترشح فيها مجددا لمنصب الرئيس.
ولكن في المقلب الآخر، عداء بين بلدين عمره عشرات السنين لم يمنع يوما رئيسي البلدين من اللقاء، فرغم كل التنافس الحاصل بينهما والذي يؤثر على العالم بأسره لا على بلديهما فقط، إلا أنه لا شيء يمنع من اللقاء لساعات ومرات عديدة لحل ما يمكن حله من الخلافات من خلال التفاوض، وإن كان لا بد من الحرب، فالحرب على أرض غير أرضيهما وبشعوب غير شعبيهما، هذا أكثر ما لفتني في اللقاء، وتذكرت أننا نعيش في إحدى البقع الجغرافية التي قد تكون في أي لحظة ساحة لحروب الآخرين، وأن أكثر ما نرفضه الحوار والمفاوضات مع من نختلف معهم، وكأننا بحاجة إلى حوار من يشبهنا لا إلى الوصول إلى مشترك مع من لا يشبهنا.
وإن جاء من يدعو إلى التفاوض حقنا للدماء، نشهر سيفنا فورا، نحن أمة لا تفاوض، أمة لا تحاور، أمة بات الموت غايتها، فمن أين جاءتنا هذه الثقافة الإلغائية، هذه العدمية التي صار معها قتل أكثر من 6000 طفل خلال شهر انتصارا، واستنكار قتل المدنيين خيانة وتخاذلا؟
——————————
سوريا وتصاعد التهديد بالطائرات المسيّرة ضد إسرائيل/ حايد حايد
15 نوفمبر 2023
قصفت طائرة مسيّرة مدينة إيلات، جنوبي إسرائيل، يوم 10 نوفمبر/تشرين الثاني، وفق الأنباء الواردة من سوريا. ويُعد هذا الحادث خروجا عن الهجمات السابقة على الأراضي التي تسيطر عليها إسرائيل، والتي عادة ما كانت تتضمن قصفا بقذائف الهاون تقتصر على المناطق غير المأهولة بالسكان.
وعلى العكس مما كان يحدث سابقا، استطاعت هذه المسيرة الوصول إلى مدرسة تبعد أكثر من 400 كيلومتر عن أقرب نقطة على الأراضي السورية.
وفضلا عن المدى البعيد الذي وصلت إليه تلك المسيرة، فإن قدرتها على الطيران من دون أن تُكتشف، وكذلك نجاحها في ضرب هدفها يشيران إلى تورط مشغّلٍ حسنِ التدريب. والرسالة التي حملها هذا الهجوم معه جديرة بالملاحظة بالقدر نفسه، إذ إنها تُظهر قدرة المجموعة المسؤولة، والتي تعمل من سوريا على استهداف أي موقع تريده في إسرائيل. والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة: من هي الجهة المسؤولة عن الهجوم، وكيف تمكنت من الوصول إلى هدفها من دون إطلاق صافرات الإنذار؟
في الساعات الأولى من صباح يوم الجمعة 11 نوفمبر/تشرين الثاني، قال الجيش الإسرائيلي إن مسيّرة اصطدمت بمدرسة في مدينة إيلات الساحلية في أقصى جنوب إسرائيل. وكان 37 طالبا موجودين، لحظة وقوع الحادث، في قبو المدرسة. ولم يُبلغ عن وقوع إصابات خطيرة، لكن أُصيب شخص نتيجة استنشاق الدخان الناجم عن الانفجار، ونُقل خمسة آخرين للعلاج بسبب القلق الذي انتابهم.
وردا على الحادثة، أصدر الجيش الإسرائيلي بيانا أكد فيه أنه استهدف التنظيمَ المسؤول عن إطلاق المسيرة والذي يعمل في سوريا، دون أن يبين التفاصيل المتعلقة بهوية المهاجمين أو طبيعة الهدف المحدد الذي قصفته القوات الجوية الإسرائيلية.
وأشارت التقارير الأولية إلى احتمال أن تكون المسيرة قادمة من اليمن، ولكن المحللين الذين فحصوا شظايا المسيرة في صور الهجوم التي التُقطت أشاروا إلى أنها على الأرجح من طراز “شاهد-101” إيرانية الصنع، أو ربما نموذج مماثل لها. ويصل مدى مسيرة “شاهد-101” إلى 700 كيلومتر. وبالتالي، نظرا إلى طول المسافة التي تفصل الحدود اليمنية عن ميناء إيلات (حوالي 2000 كيلومتر)، فإن المسيرة لا بد أن تكون قد انطلقت من موقع أقرب إلى إسرائيل. وعلى الرغم من ذلك، ما زالت هناك نظريتان رئيستان في ما يتعلق بموقع إطلاق المسيرة والمجموعة التي تديرها.
والافتراض السائد الذي يعتمده الجيش الإسرائيلي على ما يبدو أن المسيرة انطلقت على الأرجح من جنوب سوريا، ويعتقد كثير ممن يؤمنون بهذا الاحتمال أيضا بتورط “حزب الله” المحتمل في هجوم المسيرة، وما قد يؤيد مثل هذه التكهنات إعلان “حزب الله” عن مقتل سبعة مقاتلين في اليوم ذاته الذي حدث فيه هجوم المسيرة، من دون كشف مكان مقتلهم.
ولدى التعمق في الأمر، يبرز زعم مصادر محلية في سوريا أن الخسائر التي تكبدها “حزب الله” كانت، إلى حدٍّ بعيد إن أمكن قول هذا، نتيجة للغارة الجوية الإسرائيلية التي استهدفت على وجه الدقة مواقع “حزب الله” في مدينة حمص السورية. ومن الجدير بالذكر أن هذا الحادث يبرز باعتباره متسببا بأكبر عدد من القتلى بين أعضاء “حزب الله” في يوم واحد منذ بداية مواجهات “الحزب” مع إسرائيل، والتي بدأت في الثامن من أكتوبر/تشرين الأول.
وإذا ثبتت دقة هذه التقارير، فإنها تعني أن إسرائيل ربما تُراودها شكوك حول تورط “حزب الله” على نحو مباشر في هجوم الطائرات دون طيار، نظرا للنفوذ الكبير الذي يتمتع به في جنوب سوريا. إن عدم اعتراف أي من الطرفين بما حدث قد ينبع من المصلحة المشتركة لديهما في منع المزيد من التصعيد.
النظرية الثانية التي يؤكدها بعض المحللين الإسرائيليين تقول إن هجوم المسيرة قد انطلق من شمال شرقي سوريا، وهم يرون أن المسافة البعيدة التي تفصل هذه المنطقة عن الخطوط الأمامية مع إسرائيل تجعل منها نقطة انطلاق أكثر استراتيجية للمسيرات مقارنة بالجزء الجنوبي من سوريا، الذي يخضع لمراقبة إسرائيلية دقيقة. وقد أشار هؤلاء المحللون، على وجه التحديد، إلى احتمال تورط لواء الإمام الحسين المدعوم من إيران والذي أُسس في سوريا عام 2016 باعتباره المجموعة المسؤولة عن شن الهجوم.
وبغض النظر عن الرواية التي تصور بدقة تفاصيل هجوم 10 نوفمبر/تشرين الثاني، فإن كلتا الروايتين تشيران إلى احتمال شن هجمات بمسيرات من أي من الموقعين. ولا تكمن التفاصيل الحاسمة في نقطة إطلاق المسيرة، بل في مسارها. وتؤكد التقارير كافة أن المسيرة اقتربت من إيلات من جهة الأردن، وقطعت مئات الكيلومترات عبر مجاله الجوي.
ويأتي اختيار الأردن كطريق عبور للمسيرة لأن إسرائيل تعتبر حدودها معه منطقة ذات مخاطر منخفضة. ومن ثم، تقوم تل أبيب بتوجيه أجهزة الاستشعار والرادارات وطائرات الدورية الخاصة بها إلى المناطق التي يعتبر فيها خطر الهجمات أعلى، كجنوب سوريا. وتضيف التضاريس الوعرة الممتدة على طول الحدود بين الأردن وإيلات مزيدا من التعقيد في كشف المسيرات، وتوفر غطاء للأجهزة التي تقترب من مسافة بعيدة على ارتفاعات منخفضة.
وعلاوة على ذلك، فإن ميزات المسيرة سهلت طيرانها الخفي إلى الهدف دون إطلاق صافرات الإنذار. فسرعتها البطيئة، وقدرتها على الطيران على ارتفاعات منخفضة، وانحرافها عن المسار المستقيم القابل للبرمجة، وحجمها الصغير كلها عوامل تساهم في قدرتها على المراوغة، وهو الأمر الذي يطرح مزيدا من التحديات لاكتشافها عن طريق أنظمة الرادار، ولا سيما أن أنظمة الرادار ليست جميعها محسنة لتحديد مسيرات كهذه.
وفي ظل العقبات التي تواجهها مفاوضات وقف إطلاق النار، واستمرار العمليات البرية في غزة، من غير المرجح أن يكون الهجوم الجديد بمسيرة هو الأخير. وتحسبا لذلك، من المرجح أن يقوم الجيش الإسرائيلي بتعزيز الإجراءات الأمنية على طول الحدود الأردنية لتجنب أي مفاجآت مستقبلية. ومع ذلك، فإن التحديات التقنية التي ذكرناها آنفا، والانخراط العسكري الإسرائيلي على جبهات مختلفة، وقدرة الجماعات المدعومة من إيران على نشر طائرات دون طيار متعددة وأكثر تقدما، تقلل من احتمال قيام إسرائيل بتحييد التهديدات التي تشكلها هذه المسيرات تماما.
ولذلك، فإن الحل الدبلوماسي للوضع في غزة هو الوسيلة الوحيدة المضمونة لمنع المزيد من التصعيد ضد إسرائيل، على الصعيدين الداخلي والإقليمي.
—————————–
رسائل قمة الرياض على طاولة بايدن/ إبراهيم حميدي
13 نوفمبر 2023
تضمنت قمة الرياض العربية– الإسلامية، كثيرا من الإشارات الاستثنائية الدبلوماسية ورسائل جماعية إلى إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن لرفع الغطاء عن دعمها لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ودعم “وقف فوري” لحربه التدميرية، للبشر والحجر، في قطاع غزة، والعدول عن مخططاته لـ”اليوم التالي”.
هذه الرسالة سينقلها، الرئيس الإندونيسي جكو ويدودو إلى طاولة بايدن خلال لقائهما في البيت الأبيض، الاثنين، وستكون في أروقة مجلس الأمن لدى مناقشة مسودة قرار دولي جديد.
وكانت دول عربية قد واجهت تمسك أميركا بتوفير الحصانة الدبلوماسية لإسرائيل في مجلس الأمن الدولي بمنع صدور مشروع قرار أممي يطلب وقف إطلاق النار في غزة، بالذهاب إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة وإصدار قرار بموافقة 120 دولة يدعو إلى”هدنة إنسانية فورية ودائمة ومستدامة تفضي إلى وقف الأعمال العدائية”. وهو قرار لا يرقى إلى أي قرار من مجلس الأمن، لكنه سياسي رمزي يكشف الفجوة بين أميركا وباقي دول العالم من جهة والمزاج الداعم للفلسطينيين في العالم من جهة ثانية.
وجاءت قمة الرياض لتأخذ خطوات إضافية جوهرية، في أكبر تجمع إقليمي– دولي، بعد اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، إذ شارك في القمة، التي ترأس جلساتها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، قادة وممثلو 57 دولة عربية وإسلامية، تضم دولا أعضاء في “مجموعة العشرين” ودولا كبرى في قارات مختلفة ومن مشارب سياسية واقتصادية مختلفة.
لقد نسيت هذه الدول تبايناتها، وسرعت من خطوات التقارب بينها، لتأخذ موقفا مشتركا من حرب غزة، إذ شارك في القمة الرؤساء: الإيراني إبراهيم رئيسي، والتركي رجب طيب أردوغان، والسوري بشار الأسد، وقادة لا يجتمعون عادة تحت سقف واحد، ما دل على تثبيت اتجاهات التقارب في الشرق الأوسط، الذي رعت محطة منه الصين، وسعي دول المنطقة إلى البحث عن قواسم مشتركة بعيدا من الإرادة الأميركية، إضافة إلى الاهتمام بقضية فلسطين ومعاناة أهلها.
أما مضمون الرسالة، فكان بمثابة الرد على خطط نتنياهو، وموقف واشنطن، و”لاءات” وزير الخارجية أنتوني بلينكن.
رئيس الوزراء الإسرائيلي، من جهته، أعلن تصوره لأهدافه في الحرب وما بعدها: “القضاء على حماس”، ثم “السيطرة الأمنية” الإسرائيلية على القطاع بعد الحرب، ورفض مشاركة السلطة الفلسطينية في إدارة غزة؛ إذ قال: “نحتاج إلى سيطرة أمنية كاملة… ولن يكون هناك سلطة مدنية تعلّم أولادها كره إسرائيل”. وزاد أنه مع انتهاء الحرب “سيتم نزع سلاح غزة، ولن يكون هناك تهديد من غزة لإسرائيل”. أما الهدف المضمر، كما تشير بعض المعلومات، فهو ضم قطاع غزة إلى إسرائيل وتهجير معظم أهله إلى سيناء، وتعيين إدارة محلية تكون شرطي إسرائيل، وتنسق مع تل أبيب في الإطار الأمني.
واشنطن، من جهتها، ترفض منذ أكثر من شهر الدعوة إلى وقف للنار، بل إنها أرسلت حاملتي طائرات وغواصة نووية إلى البحر المتوسط، وقدمت الدعم العسكري والاستخباراتي لإسرائيل في حربها.
كان بلينكن متحمسا لفكرة نتنياهو بتهجير الفلسطينيين من غزة إلى سيناء، وحاول الترويج لها في القاهرة وعمان في جولته الشرق أوسطية الأولى، بعد هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول، لكنه عدل موقفه بعد جولته الثانية في المنطقة، إذ أعلن بعد اجتماع وزراء خارجية “السبع الكبار” في اليابان “ست لاءات”، هي: “لا تهجير إجباريا للفلسطينيين من غزة، الآن أو بعد انتهاء الحرب. لا استخدام لقطاع غزة كمنصة للإرهاب والهجمات الأخرى. لا محاولات لفرض حصار على غزة. لا تقليص من حجم أراضي قطاع غزة. لا إعادة احتلال لغزة بعد انتهاء الحرب. لا تهديدات إرهابية من الضفة الغربية”.
وتكشف هذه “اللاءات” استمرار التطابق مع نتنياهو، مع بوادر تباين وأسئلة من واشنطن الى تل أبيب عن مآلات الحملة وتصريحات نتنياهو من جهة وانقسام أوروبي من جهة ثانية، اذ عارض الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون استهداف المدنيين ودعا الاتحاد الاوروبي لـ “وقفات أنسانية”، فيما رفض المستشار الألماني “وقف النار”.
ولا شك أن الرهان، هو أن تقوم رسالة قمة الرياض بتوسيع الفجوات، وتحرك إدارة بايدن لدفعها للضغط على نتنياهو، إذ تضمن الموقف العربي- الإسلامي المشترك ذخيرة دبلوماسية جامعة، تضمنت: دعم السلطة الفلسطينية ورئيسها محمود عباس، والوحدة بين قطاع غزة والضفة الغربية والقدس، وقيام دولة فلسطينية على حدود 1967.
وأمام مشاهد القتل والمجازر والأشلاء، دعت القمة لوقف العمليات العسكرية على الفور، و”كسر” الحصار، وإدانة “جرائم الحرب والمجازر الهمجية الوحشية واللاإنسانية”. ومطالبة المحكمة الجنائية الدولية “باستكمال التحقيق في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ترتكبها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني”.
لم يتبن البيان الجماعي، بيانات منفردة تدعو إلى قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل أو دعم “حماس” أو “دولة فلسطينية من النهر إلى البحر”، بل كان الإجماع العربي والإسلامي الواسع على التمسك بـ”السلام خيارا استراتيجيا”، ومبادرة السلام العربية باعتبارها “شرطا مسبقا للسلام مع إسرائيل، وإقامة علاقات طبيعية”، إضافة إلى دعم اقتراح لمؤتمر دولي للسلام يطلق مسارا لهذا الغرض. وبالتالي، أي تفكير في مستقبل غزة يجب أن يكون في سياق “حل شامل” للضفة والقدس والدولة. فكرته الأولى، هي وقف النار.
رسالة جامعة يحملها وزراء دول عربية وإسلامية كبرى، في جولتهم إلى عواصم القرار، على وقع مظاهرات ضد مجازر غزة، لتغيير اتجاهات الرياح الأميركية وخفض السقوف الجهنمية التي وضعها نتنياهو للحرب.
——————————-
غزة والثقب الأسود/ عالية منصور
12 نوفمبر 2023
من سيأخذنا على محمل الجد ونحن نندد ونستنكر ونقول أوقفوا الحرب على غزة؟ من سيستمع إلى نداءات الاستغاثة لإنقاذ الأطفال من جرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل بحقهم؟ أكثر من 6000 طفل قتلتهم آلة الحرب الإسرائيلية خلال شهر وبضعة أيام. ولكن لماذا على إسرائيل، ولماذا على العالم أن يستمع لمطالب وقف إطلاق النار؟ لماذا على العالم أن يساعدنا لوقف الحرب وتحقيق العدالة والسلام؟
هذا ليس بأي شكل من الأشكال قبولا بالحرب ولا بقتل الأبرياء، ليس قبولا بالتهجير ولا بالاحتلال، ولكن صور أشلاء الأطفال في هذه المنطقة من العالم باتت أمرا روتينيا. نختار أن نغير المحطة التلفزيونية التي تعرض هذه الصور، ننتقل إلى قناة أخرى تعرض صورا لا تقل فظاعة عن الصور الآتية من غزة. لكن هذه المرة الصور من السودان. مسكين السودان لا تأخذ المذابح بحق أهله حيزا كافيا من التغطية الإعلامية، فنحن مشغولون بإثبات إنسانيتنا بالتضامن مع غزة، وأي حديث عن السودان سيرى فيه البعض محاولة لحجب الأضواء عن جرائم إسرائيل.
بالأمس تحدثت مسؤولة مساعدات الأمم المتحدة في السودان، كليمنتين نكويتا سلامي، وقالت: “لا نزال نتلقى تقارير مروعة دون انقطاع عن العنف الجنسي، وعلى أساس النوع، وحالات اختفاء قسري، واحتجاز تعسفي، وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان والأطفال”. وكشفت أن نحو 25 مليون شخص، أي أكثر من نصف عدد السكان، بحاجة إلى مساعدات إنسانية وإلى حماية، وأن أكثر من ستة ملايين فروا من منازلهم ونزحوا داخل السودان أو إلى دول مجاورة.
رغم ذلك، ورغم بعض الصور المسربة عن اغتصاب وقتل وتعذيب المدنيين هناك، فإن الأمر يبدو وكأنه خبر عادي أو هامشي، لم يستثر مشاعر الملايين.
ومَن قتل أكثر من نصف مليون من مواطنيه، وهجّر أكثر من نصف الشعب السوري من أرضه ومنازله، وجاء بالإيراني والأفغاني واللبناني والعراقي ليستوطنوا مكان السوري، يتحدث عن همجية الإسرائيلي.
وهو في الوقت نفسه الذي تقصف فيه غزة، يمارس تحضره بقصف إدلب ومشافيها ومدارسها وقراها بالصواريخ والطائرات وقذائف المدفعية، وكأنه وجد في هول المعركة في غزة ما يسمح له بقتل المزيد من السوريين بعيدا عن أضواء الإعلام…
كيف لمن ألقى الفلسطينيين في حفرة التضامن وأعدمهم بالرصاص ميدانيا، ولم يعرف أهلهم بموتهم إلا بعد سنوات طويلة وبسبب فيديو مسرب شاهدوه مرارا ليتأكدوا: “هل هذا ابني من قتل بالرصاص ودفن في الحفرة أم أخي؟”. كيف للعالم أن يصدق استنكارنا لجريمة الإسرائيلي بحق الفلسطيني، ومن قتل آلاف الفلسطينيين ومئات آلاف المدنيين السوريين هو من يتحدث عن ضرورة محاسبة القاتل؟ طبعا هو يتحدث عن القاتل الإسرائيلي حصرا؟
الحكم السوري الذي أعيد إلى جامعة الدول العربية بمبادرة علها تصل بسوريا إلى حل سياسي، يقول: يجب إيقاف المسار السياسي بكل ما يشمله، طبعا المسار السياسي مع إسرائيل.
إسرائيل قصفت المستشفيات في غزة، كذلك فعل السلطة السورية. إسرائيل هجرت الفلسطينيين وجاءت بمستوطنين ليحلوا مكانهم، هذا أيضا ما قامت به إيران في سوريا والعراق.
وبينما تحدث ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، والرئيس الفلسطيني محمود عباس، ومعظم الحاضرين، عن ضرورة تحقيق حل الدولتين، إلا أن الأسد له رأي آخر، فالأمر ليس أولوية، وحل الدولتين بالنسبة له، لا يوجد شريك لتطبيقه ولا مرجعية (مع أن المرجعية واضحة بالقرارات الدولية والمبادرة العربية للسلام التي وافق عليها هو نفسه قبل 23 عاما)، فالحق لا يمكن استعادته عندما يكون المجرم قاضيا، هذا ما قاله هو.
رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية إبراهيم رئيسي طالب بتسليح المقاومة، في الوقت الذي يتغنى فيه أمين عام “حزب الله” اللبناني، حسن نصرالله، بامتلاكه أكثر من 100 ألف صاروخ، والذي أثبتت التجارب المتتالية أن سلاح المقاومة ليس إلا سلاحا في خدمة مشروع إيران بالمنطقة.
المشهد في المنطقة ليس كوميديا سوداء، بل صار أشبه بالثقب الأسود، المنطقة برمتها قابلة لانفجار كبير يحولها إلى ثقب أسود، ما دامت العدالة غائبة ولا شيء سوى المزيد من الضغط على الضحايا، واستنسابية في التعاطي مع القضايا، وما دام المجرم لا يُحاسَب، بل يُحاسِب.
——————————-
سوريا… نقلة في السياسة الروسية/ حايد حايد
08 نوفمبر 2023
لا تزال آثار الهجوم الذي شنته “حماس” على إسرائيل يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي تؤجج نيران التوتر في سوريا. ويتبدى ذلك من خلال الهجمات المتفرقة بقذائف الهاون التي تنطلق من الأراضي السورية، مستهدفة مرتفعات الجولان المحتلة، مسببة ردود فعل انتقامية من جانب إسرائيل. وهي تتبدى أيضا من خلال استهداف القوات والمواقع الأميركية في سوريا على نحو متكرر بإطلاق النار عليها من الميليشيات المدعومة من إيران، ردا على دعم الرئيس جوزيف بايدن لإسرائيل في حربها ضد “حماس”.
ويبدو أن روسيا، التي تحتفظ بعلاقات دبلوماسية مع كل من إسرائيل وإيران والحكومة السورية، لا تنخرط علانية في الجهود الدبلوماسية لتهدئة الوضع، وربما لم يكن ذلك مفاجئا تماما. وفي حين أن موسكو لا تعمل جاهدة على تصعيد الصراع بين إسرائيل و”حماس” ليتحول إلى حرب إقليمية، إلا أنها تبدو وكأنها المستفيد الرئيس من التصعيد في المنطقة، ومن بين المكاسب التي تجنيها مواصلة الضغط على الولايات المتحدة للانسحاب من سوريا وإضعاف دعم أوكرانيا واهتمام العالم بها.
وخلافا للعقود السابقة التي كانت فيها الخطوط الأمامية مجمدة إلى حد كبير، عادت في الأسابيع الماضية الهجمات الصاروخية من جنوب سوريا باتجاه مرتفعات الجولان المحتلة إلى الظهور، ووقع آخرها ضمن سلسلة المناوشات عبر الحدود يوم 29 أكتوبر/تشرين الأول، حين استهدفت قذيفتان صاروخيتان على الأقل إسرائيل انطلاقا من درعا. ولم تكتفِ تل أبيب في ردها على ذلك باستهداف مصادر الهجمات فحسب، بل تعدتها إلى مواقع أخرى في جميع أنحاء البلاد لتعطيل طرق إمداد الأسلحة الإيرانية إلى حلفاء إيران في سوريا أو عبرها.
وبموازاة ذلك، تعرضت القواعد الأميركية في سوريا والعراق لأكثر من 20 هجوما منذ 18 أكتوبر/تشرين الأول الماضي. وأعلنت الميليشيات المدعومة من إيران والتي تعرّف نفسها باسم “المقاومة الإسلامية في العراق” مسؤوليتها عنها جميعا. وأدت هذه الهجمات إلى إصابة العشرات من الجنود الأميركيين، مما دفع القوات الأميركية للرد باستهداف منشآت للحرس الثوري الإيراني، شرقي سوريا.
وفيما تتصاعد المخاوف بشأن التداعيات الإقليمية للصراع المستمر بين إسرائيل و”حماس”، يبدو أن موسكو لا تبذل حقيقة جهودا دبلوماسية لنزع فتيل التوترات المتصاعدة، وإن فعلت فليس بالقدر الكافي. وتؤكد مصادر مطلعة أن موسكو لا تبذل جهودا حقيقية للتخفيف من سلسلة الهجمات المتزايدة عبر الأراضي السورية منذ 10 أكتوبر/تشرين الأول. ويتناقض ذلك مع دور موسكو كوسيط مفترض بين طهران وتل أبيب في سوريا، مثل نقل الرسائل الإسرائيلية إلى القيادة الإيرانية للمساعدة في احتواء الأعمال العدائية التي وقعت يومي 9 و10 مايو/أيار 2018.
وترى بعض المصادر، في توضيحها لهذه النقلة في السياسة الروسية، أن موسكو تفتقر إلى النفوذ أو التأثير الكافي على الأطراف المعنية لإقناعها بوقف التصعيد. وعلى العكس من ذلك، يسلط آخرون الضوء على أن روسيا، بغض النظر عن مدى نفوذها، ستستفيد من عواقب هذه التصعيدات، ولا سيما أن التصعيدات ليست في واقع الحال تهديدا مباشرا لموسكو. وقد صرح ديمتري بيسكوف، المتحدث باسم الرئاسة الروسية، مؤخرا، قائلا: “لا يوجد خطر في انجرار روسيا إلى الصراع”.
بداية، تخدم الهجمات المتصاعدة على القوات الأميركية في سوريا هدف موسكو الطويل الأمد لطرد القوات الأميركية من المنطقة. وقد واجهت هذه القوات المتمركزة في سوريا، والتي يبلغ عددها حوالي 900 جندي، مضايقات مستمرة بالفعل من كل من روسيا والميليشيات المدعومة من إيران في السنوات الأخيرة. وتهدف هذه الاستراتيجية إلى زيادة المخاطر التي تواجهها هذه القوات، وتعزيز مبررات انسحابها.
ومن شأن إخراج القوات الأميركية من سوريا أن يمهد الطريق أمام الحكومة السورية لاستعادة السيطرة على المنطقة الشمالية الشرقية الغنية بالموارد، ما يعود بالنفع المالي الكبير على روسيا. بالإضافة إلى ذلك، فإن طرد القوات الأميركية من سوريا سيمثل انتصارا كبيرا على منافستها الرئيسة، الولايات المتحدة.
وكشفت وثائق سرية مسربة في وقت سابق من هذا العام عن إنشاء روسيا وإيران والحكومة السورية مركزا لتنسيق الجهود الرامية لإجبار العسكريين الأميركيين على الانسحاب من سوريا. ومع ذلك، فقد انخفض تواتر هذه الهجمات مؤخرا بسبب عوامل مختلفة، بما في ذلك المفاوضات الجارية بين الولايات المتحدة وإيران بشأن الرهائن والتوصل إلى اتفاق نووي جديد. ومع ذلك، فقد أدى التصعيد الأخير إلى استئناف الضغط على القوات الأميركية حتى من دون المشاركة النشطة لروسيا.
وعلى نطاق أوسع، تأمل موسكو أن تؤدي إطالة أمد الصراع في غزة إلى استنزاف موارد خصومها، وبالتالي تقويض دعمهم لأوكرانيا، وهي تتطلع إلى أن يؤدي الوجود المتزايد للولايات المتحدة في المنطقة ودعمها العسكري المتزايد لإسرائيل إلى تحويل الموارد بعيدا عن أوكرانيا. وحتى إذا لم تقع تخفيضات رسمية في التمويل، فإن الطلب المتزايد على الأسلحة الأميركية قد يدفع واشنطن إلى إعطاء الأولوية لعمليات تسليم السلاح إلى تل أبيب بدلا من أوكرانيا أو تقسيم الإمدادات بين الجبهتين. وقد يؤدي هذا الوضع إلى تأخير شحنات الأسلحة إلى أوكرانيا، وهو ما يثير قلق كييف، التي بدأت الإمدادات إليها تنخفض بالفعل.
وفوق ذاك، تعتقد روسيا أن الصراع بين إسرائيل و”حماس” سيشغل بتداعياته صناع السياسات والجمهور الغربيين، فيصرف الانتباه عن الحرب الواقعة في أوكرانيا والفظائع التي ترتكبها روسيا هناك. وهي تحسب أن زيادة التوترات في أوروبا بشأن ردود الفعل على الحرب بين إسرائيل و”حماس”، وتصاعد المشاعر المناهضة للولايات المتحدة بسبب موقفها المؤيد لإسرائيل بشكل لا لبس فيه في جميع أنحاء الشرق الأوسط والجنوب العالمي، سوف يضران بالدبلوماسية الأميركية وصورتها، وهو ما تعتبره موسكو انتصارات إضافية.
وليس على روسيا- لتحقيق هذه المكاسب- سوى أن تجلس وتترقب سير الأحداث.
——————————
غزة تحسم قضية فلسطين… والفلسطينيين/ إبراهيم حميدي
06 نوفمبر 2023
غزة تحسم قضية فلسطين. إن المآلات التي تنتهي إليها الحرب بين إسرائيل و“حماس”، ستترك أثرا كبيرا في مستقبل الفلسطينيين وإسرائيل ومنطقة الشرق الأوسط.
في العدد السابق تناولنا، في “المجلة”، أبعاد هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول، و“المفاجأة” التي أوقعتها في إسرائيل. ونخصص قصة الغلاف لشهر نوفمبر/تشرين الثاني، لتقصّي “اليوم التالي” في غزة، وأبعاد الحرب ونتائجها من جميع الجوانب المتعلقة بأفق السلام ومستقبل القضية والشعب والنزاع الفلسطيني- الإسرائيلي، والتداعيات الإقليمية. وأخترنا التركيز، عبر خبراء وصحافيين، على مسارات محددة للمرحلة المقبلة:
بادئ ذي بدء، التوقف عند نيران الحرب ولوعة التهجير وحملة القصف الإسرائيلية المكثفة على غزة وبنيتها التحتية والطبية، قُتل وجرح فيها آلاف المدنيين، ودُفع أكثر من نصف السكان البالغ عددهم 2.4 مليون نسمة للنزوح إلى جنوب القطاع. لا شك أن استمرار كرة النار ولدغات الرعب، سيفاقم جروح المدنيين. لكنه أعاد، في الوقت نفسه، إحياء مشروع قديم لدى بعض المسؤولين الإسرائيليين بتهجير مئات الآلاف إلى سيناء المصرية.
مشروع التهجير، أيقظ لدى الفلسطينيين والعرب “سيناريو النكبة” عام 1948، عندما دُفع الناس للجوء مع مفاتيح بيوتهم ودفاتر ذكرياتهم وآهاتهم إلى مناطق ودول مجاورة. إحياء المشروع الجديد- القديم، قوبل بقمم ولقاءات عربية للتنسيق لوأده في مهده. الطموح، أن تقف دول رغم حروبها الأهلية ونكباتها الاقتصادية، سداً ضده، مقابل حملة إسرائيلية منظمة لكسب دعم غربي عبر الضغوط والإغراءات على دول مجاورة لقبول اقتلاع الناس من أرضهم ورميهم في مجهول الصحارى وربما في “قوارب الموت”.
الترقب الثاني هو زلزال الضفة الغربية. وأمام تدفق مشاهد القتل في غزة، وضيق الأوضاع الاقتصادية والحصار الإسرائيلي، وتهديدات المستوطنين وسلاحهم وحملة الاعتقالات، الأوضاع على فوهة بركان. وفي حال تطاير لهيبه، فإن المرحلة الأولى في الضفة، ستقابل بتعاضد الآلام والخيبات، لكن لن يطول ظهور شقوق الخلافات في السلطة وأجهزة الأمن و”فتح”، خصوصا مع تنامي سؤال خلافة رئيس السلطة محمود عباس.
كل هذا سيشكل تهديدا على الأردن، خصوصا مع وجود أعضاء في الحكومة الإسرائيلية الحالية يحملون برنامج التهجير وتفجير أسس أي هيكل فلسطيني، حيث يجد هؤلاء “فرصة تاريخية” في “نكبة جديدة” وخوض “حرب استقلال ثانية”.
مع لهيب القطاع والضفة، لا بد أن تصل الشظايا إلى إسرائيل. من جهة، هناك توقع بتنامي الجدل الإسرائيلي حول المسؤول عن “مفاجأة” أكتوبر/تشرين الأول والفشل الرهيب بالتوقع والاستجابة والردع. التوحد تحت مظلة “الخطر الوجودي”، سيخضع لاختبارات كثيرة بعد بدء وصول جثث الجنود والأسئلة عن مصير عشرات الأسرى لدى “حماس”. ومن جهة ثانية، هناك اختبار جديد لفلسطينيي إسرائيل الذين يشكلون 20 في المئة.
بالتوازي مع كل هذا، وهو غير قليل، يبقى اتساع الحرب اقليميا أمرا مقلقا وملحا. ورغم الهجمات التي شنتها تنظيمات تابعة لإيران، في سوريا والعراق واليمن ولبنان، على مصالح أميركية أو إسرائيلية، فإن السؤال يبقى عن قرار إيران بفتح “حرب شاملة” أو جبهة جنوب لبنان. نقل وسطاء كثر رسائل تحذير إلى طهران و”حزب الله”. كما أن أميركا أرسلت قطعا عسكرية ضخمة إلى البحر المتوسط. ردت باستهداف تنظيمات إيرانية في سوريا بالتوازي مع قصف إسرائيل لمطاري دمشق وحلب عدة مرات. بمعنى آخر، عادت أميركا إلى الشرق الأوسط الذي أرادت الخروج منه قبل سنوات. ونعرض في الملف، أولويات أميركا في المنطقة، الخاصة بأمن إسرائيل. كما نعرض الفرق بين وضع “حزب الله” في حرب 2006 ووضعه في 2023.
هذه المسارات جميعا، تعرضها أقلام خبيرة مغموسة بحبر المعرفة. المفتاح لها جميعا، هو الوضع الميداني في غزة و”اليوم التالي”. ما تريده إسرائيل، بات معروفا. والغطاء الغربي لها متوفر. هناك افتراض بأن “حماس” ستهزم عسكريا وتفكك تنظيميا. مقترحات كثيرة لما سيحصل لدى توقف صوت القنابل. إعمار القطاع ونشر قوات شرطة أو مراقبة عربية وتشكيل إدارة لحكم القطاع قد تساهم بها السلطة الفلسطينية أو مؤسسات أممية ووجهاء محليون. وفي هذا الملف، يقدم المبعوث الأميركي السابق جيمس جيفري تصوره لــ “اليوم التالي”.
في هذا العدد، كلمات على وقع نزيف غزة وجروح أهلها ونهر من القلق في عروق النازحين وخطط لشرق أوسط جديد، ورهانات على بزوغ السلام من الركام، ورسائل تحذير وطمأنة بين “اللاعبين”.
التاريخ سيقرر في أي صفحة يضع هجمات 7 أكتوبر، وبصمتها على قضية فلسطين والفلسطينيين.
—————————
غزة وأهلها بين حدين/ إبراهيم حميدي
30 أكتوبر 2023
تاريخ غزة لم يبدأ يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول. هناك تواريخ سابقة، فيها الكثير من المآسي والمعاناة والعذابات والمعارك والهدن والصفقات. لم يبدأ أيضا مع احتلالها عام 1967، واتفاقات أوسلو عام 1993، وحديث مسؤولين إسرائيليين عن حلمهم في أن “يبتلعها البحر”، ولا مع الانسحاب منها في 2005 أو سيطرة “حماس” عليها عام 2007 أو العمليات العسكرية الإسرائيلية في السنوات الأخيرة.
لكن لا شك أن 7 أكتوبر/تشرين الأول يوم مفصلي، وحجم المفاجأة التي فجرتها “حماس” غير مسبوق. ورد إسرائيل أيضا مفصلي، والخطة التي أعلنها قادتها لمستقبل غزة و”حماس” غير مسبوقة. اليوم، غزة وأهلها بين حدين.
بنيامين نتنياهو يريد وحكومته اليمينية المتطرفة، إجراء “تحولات كبيرة”. حصل على دعم غربي استثنائي ودفع أميركا للعودة العسكرية إلى الشرق الأوسط بعد 15 سنة من الخروج من هذه المنطقة. وأعلن أنه يخوض “حرب الاستقلال الثانية”، أي إنه يريد إجراء “تغيير استراتيجي” في المنطقة انطلاقا من غزة.
الهدف المعلن، هو القضاء على البنية العسكرية لـ”حماس” وقيادتها وتهجير أهلها من الشمال إلى الجنوب حاليا، وترك هدف تهجيرهم إلى سيناء مطروحا. التهجير والتفكيك عبر الاغتيالات والقصف والغارات، أو عبر التسويات والترحيل، كما حصل عند ترحيل قادة “فتح” من الأردن إلى لبنان بعد “أيلول الأسود” قبل خمسين سنة، ومن لبنان إلى تونس قبل أربعين سنة.
وفق هذا “الحد” ولإنجاز هذه “المهمة”، لن تكون الكلفة البشرية من أهالي غزة أمرا مهما. أما عن اليوم التالي، فيجري تداول أفكار مختلفة، بعضها جديد وبعضها الآخر قديم، تتضمن إما عودة السلطة وحركة “فتح” وإما تشكيل إدارة مدنية لحكم غزة مع تدفق استثمارات عربية وغربية لإعمار القطاع ونشر سلطة وقوات مراقبة وفتح طريق المفاوضات لتسوية سياسية.
هناك حد آخر؛ حيث ترى “حماس” أنه “لن يتحقق أي شيء من الخطة الإسرائيلية”، سوى زيادة عدد الضحايا المدنيين. عشرة آلاف ضحية من المدنيين والعدد قابل للزيادة. أما موضوع التهجير إلى سيناء، فلن يتحقق، “ولن تحصل نكبة جديدة ولن يركب أهالي غزة سفنا مهترئة كما حصل عام 1948”. وترى، أن المقارنة بينها وبين داعش في الموصل أو الرقة، وبينها وبين “فتح” في الأردن ولبنان “غير دقيقة، لأن حركة حماس جزء من المجتمع الغزي”، “وحتى لو هُجرت قيادات، فهناك جيل جديد”، إضافة إلى احتمال أن يملأ المتطرفون الفراغ “الحمساوي”.
هناك عتب كبير مضمر لدى قيادة “حماس” من عدم تدخل “حزب الله” وإيران بشكل مباشر عبر فتح معركة واسعة جنوبي لبنان. وجرى نقل هذا العتب في جلسات مغلقة. أحد تجليات الخيبة، كان انتقادات مسؤول سابق في الحركة خارج غزة، خالد مشعل، لإيران وجماعاتها، أعقبها رد مقربين من “حزب الله” في لبنان.
لكن رهان “حماس” لا يزال على “إغراق الجيش الإسرائيلي في أنفاق غزة”، وعلى أن يخفض نتنياهو سقف مطالبه مع مرور وقت العمليات العسكرية وارتفاع الخسائر بين صفوف جنوده وتنامي الضغط الشعبي عليه.
هناك فرق بين “الحدين”. كثير من التاريخ والجغرافيا والآلام. لاتجوز المساواة بينهما. لكن المدخل الآني للجمع بينهما في هذه المرحلة، هو الأسرى. هناك مفاوضات واقتراحات لتبادل أسرى بين “حماس” وإسرائيل. هناك احتمالان: صفقة كاملة تتضمن إطلاق آكثر من 200 أسيرة من غزة مقابل ستة آلاف من سجون إسرائيل. صفقة جزئية، النساء والأطفال مقابل النساء والأطفال. أما عن الأجانب المحتجزين في غزة، فإن “حماس” تطالب بوقف إطلاق النار وفتح ممرات إنسانية وتقديم مساعدات ووقود، فيما ترفض أبيب هذا العرض وتمضي في… غاراتها وتوغلاتها.
التوغلات في شمال غزة والمفاوضات في عواصم عدة، تدل على أن الحرب لا تزال في بدايتها رغم مرور ثلاثة أسابيع. إسرائيل، ترى أنها تخوض “حرب بقاء” ولديها “فرصة تاريخية” لإحداث تغييرات كبيرة، وهي لا تأبه لاتهامها بجرائم حرب أو حصار أو مطالبتها بوقف إطلاق نار أو بهدنة إنسانية.ويتحدث قادتها العسكريون عن “حرب طويلة”. أما “حماس”، فترى أن “منحى الأحداث يدل على أن الاحتلال في حالة تراجع والفلسطينيين في حالة صعود”، وترسم خطا بيانيا من عقود خلت وعقود قادمة وتاريخ طويل، لتثبيت تفسيرها.
عليه، أسابيع وأشهر بطيئة وثقيلة ودامية تحشر غزة وأهلها… بين حدين.
—————————-
غزة ليست بخير… لكن “حماس” بخير/ عالية منصور
29 أكتوبر 2023
منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة بعد عملية “طوفان الأقصى” التي قامت بها حركة حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، والمنطقة تعيش على حافة الحرب. تنتظر ولا أحد على يقين إن كان سيستيقظ صباح اليوم التالي على أصوات الطيران والقذائف، أم إنه سيمضي يوما آخر يحبس أنفاسه وينتظر.
في لبنان، مصير البلاد والعباد بيد أمين عام “حزب الله” حسن نصرالله، هو لم يظهر على الإعلام إلا بصورة وحيدة وخبر لقاء مع قيادت من “حماس”، و”الجهاد الإسلامي”، وهو الذي اعتاد في السنوات الأخيرة أن يكثر من إطلالته الإعلامية حتى صار كلامه تكرارا مملا لمؤيديه كما لخصومه. لم ينطق منذ ذلك اليوم، فيما اللبنانيون وغيرهم، شعوبا وحكومات ينتظرون هل سيقرر الدخول في الحرب أم سيبقى ملتزما بسياسة الاشتباكات المحدودة مع إسرائيل وفق قواعد الاشتباك لا وفق ما نص عليه القرار 1701.
وفي مقابل صمت حسن نصرالله، كان وزير خارجية الجمهورية الإسلامية في إيران حسين أمير عبداللهيان لا يترك مناسبة إلا ويتحدث عن لبنان ويقرر عن لبنان وكأنه المندوب السامي، فقد صرح في حديث إذاعي من نيويورك أن “حزب الله” وحلفاء طهران “يضعون إصبعهم على الزناد”، ليعود بعدها بساعات ويقول “لا نريد أن تتسع هذه الحرب”، وبين التصريحين ساعات عصيبة مرت على لبنان واللبنانيين.
وبين التصريحين أيضا انقطعت الاتصالات عن غزة التي تتعرض لأبشع أنواع الجرائم وحرب إبادة يشنها الجيش الإسرائيلي بذريعة معاقبة “حماس” على عملية طوفان الأقصى، قصف بري وبحري وجوي، محاولات دخول غزة بريا، وآلاف من الضحايا المدنيين أغلبهم من الأطفال.
“حزب الله” كان يهدد بلسان المسؤولين الإيرانيين أنهم سيدخلون الحرب إن دخل الجيش الإسرائيلي إلى غزة، اليوم لم نعد نفهم ما المقصود بالدخول البري، وكم عدد الأمتار التي ستسمح إيران وأذرعها لإسرائيل بالتغلغل البري فيها. غزة خارج التغطية وأهالي غزة متروكون لمصيرهم، كذلك المنطقة وأهلها.
لافت صمت حسن نصرالله، ولافتة مناشدة قيادات “حماس” لإيران وأذرعها في المحور وعلى رأسهم “حزب الله” بالتدخل في الحرب لتخفيف الضغط العسكري عن غزة.
يقول مصدر مقرب من صناع القرار في طهران ومن قيادات في “حزب الله”، إن العملية استغرقت تحضيراتها نحو عامين، فالمحور كان يحضر لعملية واسعة وشاملة ضد إسرائيل، إلا أن قيادتي “القسام” و”حماس” في غزة فاجأتهم جميعا وقامت بعملية “طوفان الأقصى” دون إعلامهم بتوقيتها، ويستدل على ذلك بارتباك إيران وكل من يدور بفلكها في ساعات العملية الأولى، وبتصريح نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس موسى أبو مرزوق، الذي سبق وأعلن أن العملية تمت من دون إطلاع المحور. إيران تريد القول إن التوقيت جرى تحديده في أنقرة. وهذا موضوع آخر يحتاج كلاما آخر.
لكن الأكيد ليس فقط أنه ومنذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول لم تكف إيران عن القول إنه لا علاقة لها بالعملية، فيما قيادات “حماس” تؤكد أن طهران هي من تدعم وتمول، بل إنه حتى وإن صح الأمر فإن طهران ببرغماتيتها المعهودة استطاعت أن تجعل الأمر برمته يدور بفلك مصالحها. وزير خارجيتها الذي قام بزيارة مفاجئة لنيويورك في الولايات المتحدة، وهو أمر نادر الحصول لكبار المسؤولين الإيرانيين، كشف من هناك أن قادة “حماس” مستعدون لإطلاق سراح الأسرى المدنيين وتسليمهم لطهران. لم تنف “حماس” الأمر.
الهجمات على القواعد الأميركية في سوريا والعراق من قبل ميليشيات إيران، والتي أدت إلى إصابة 24 أميركيا، لم تمنع البيت الأبيض من التأكيد مرارا أنه غير معني بالصراع مع إيران، مع تأكيد البنتاغون أن ميليشيات تابعة لإيران هي من تقوم بهذه الهجمات وأنهم يردون عليها، إلا أن الأمر لن يتجاوز ما يحصل في جنوب لبنان، حيث يبدو أن هناك أيضا قواعد اشتباك بين القوات الأميركية والميليشيات الإيرانية في المنطقة.
إذن غزة وحيدة، ملايين البشر متروكون لمواجهة الموت، بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي وجد الحرب على غزة فرصة تعطيه الوقت للمماطلة بما كان يواجهه من استحقاقات في الداخل الإسرائيلي. “حماس” بخير، هذا ما قاله رئيس مكتبها السياسي إسماعيل هنية. أهل غزة ليسوا بخير، ولكن كما ذكر لي المصدر نفسه، الدم ليس مهما في سبيل تحقيق المصالح الأكبر.
لمَ لا؟ هل حاسبت هذه المنطقة يوما من تسبب في إراقة دماء أبنائها؟ هل حاسب أحد نصرالله بعد حرب يوليو/تموز 2006 عما لحق بلبنان من دمار وخراب وموت؟ دم أبناء هذه المنطقة غير مهم، فـ”حزب الله” بعد الحرب بات أقوى في الداخل اللبناني وفي الإقليم، بقوة السلاح.
والخطوة المقبلة لهم، سحب حصرية تمثيل منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة للشعب الفلسطيني. إيران تريد أن تجلس إلى الطاولة أيضا، فهل تفاوض بالمباشر أم عن طريق “حماس”؟ الأيام مليئة بالانتكاسات، انتكاسات لنا نحن “السذج” الذين نرفض إراقة الدماء من أجل مصالح الآخرين، ومليئة بالحوافز لتجار الدم.
حمى الله غزة وأهلها من العدو ومن “الحليف”.
——————————
=========================
مواقع سورية
—————————————–
كيف يخسر بايدن صوت الشباب بسبب غزة؟/ رضوان زيادة
2023.11.27
الحرب الإسرائيلية على غزة أصبحت بمعنى من المعاني حربا أميركية داخلية مع ازدياد عدد المظاهرات في شوارع المدن الأميركية المختلفة المطالبة بوقف إطلاق النار وتخفيف المعاناة الإنسانية للفلسطينيين في غزة والعدد الأكبر الخارج في هذه المظاهرات خاصة داخل الجامعات الأميركية هم من الشباب الذين كانوا يصوتون تاريخيا للحزب الديمقراطي.
لقد دعم جيل Z (هو الجيل المولود بعد عام 2000) والناخبون من جيل الألفية – الذين تم تعريفهم بأنهم أولئك الذين ولدوا في الفترة من 1997 إلى 2012 ومن 1981 إلى 1996 على التوالي – المرشحين الديمقراطيين، وكان الشباب أساسيين في قلب الولايات المتأرجحة مثل ميشيغان وتأمين فوز بايدن في عام 2020.
ولذلك خسارة بايدن لهذا الصوت الشباب قد يكلفه البيت الأبيض مجددا في عام 2024 حيث تشير كل استطلاعات الرأي أن تعامل بايدن مع الحرب يهدد بتقليل الحماس له بين الناخبين الشباب قبل انتخابات عام 2024، مع انقسام العديد من الطلاب وغيرهم من الشباب حول كيفية استخدام أصواتهم وقوتهم التنظيمية، وعلى خلفية المخاوف بشأن عمر بايدن، أعرب الكثير من الطلاب الليبراليين عن انفتاحهم على مرشحي الطرف الثالث وإحباطهم من إعادة المباراة المحتملة بين ترامب وبايدن عام 2024 مما يشير إلى أنهم سيغيرون تركيزهم على التصويت التطوعي نتيجة لذلك.
ظل بايدن غير متردد في دفاعه عن إسرائيل، حيث كتب في مقال افتتاحي لصحيفة واشنطن بوست مردداً “طالما أن حماس تتمسك بأيديولوجيتها التدميرية، فإن وقف إطلاق النار ليس سلاما”.
وبالرغم من أن الأميركيين بشكل عام يقفون بقوة إلى جانب إسرائيل، لكن استطلاعات الرأي تظهر أن هذه الآراء أصبحت مستقطبة بشكل متزايد عبر الحزب والجيل منذ ما قبل الحرب. فقد أظهر استطلاع للرأي أجرته NPR/PBS NewsHour/Marist في وقت سابق من هذا الشهر أن 48 في المئة من جيل Z والبالغين من جيل الألفية قالوا إن الرد العسكري الإسرائيلي كان “أكثر من اللازم”، مقارنة بـ 38 في المئة من الجمهور بشكل عام. ولا يوافق معظم الشباب على تعامل بايدن مع الحرب في غزة، وفقًا لاستطلاعات الرأي الوطنية التي أجرتها شبكة فوكس نيوز وجامعة كوينيبياك وكلية ماريست هذا الشهر. وأظهر استطلاع للرأي أجرته شبكة إن بي سي نيوز مؤخرًا أن 70 في المئة من الناخبين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و34 عاما لا يوافقون على طريقة تعامل بايدن مع الحرب.
يعزى هذا الانقسام بشكل كبير إلى عدم موافقة الأجيال الشابة على السياسات اليمينية لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، والحصار الإسرائيلي على غزة واحتلال الضفة الغربية، والمقارنات بين معاملة الأقليات في إسرائيل والولايات المتحدة والفلسطينيين في غزة والضفة الغربية.
من المتوقع أن يشكل الناخبون من جيل Z وجيل الألفية ما يقرب من 40 في المئة من الناخبين في عام 2024، وقد استعرضوا بالفعل تأثيرهم على الانتخابات. وأظهرت استطلاعات الرأي أن الناخبين الشباب كانوا متحمسين جداً لقضايا مثل الإجهاض، حيث يوجد تناقض واضح بين موقفي بايدن وترامب، المرشح الأوفر حظا لترشيح الحزب الجمهوري.
لكن تضاؤل نسبة المشاركة بين الناخبين الشباب قد يؤدي إلى تعقيد محاولة إعادة انتخاب بايدن، خاصة في الولايات الحاسمة الرئيسية مثل ميشيغان. فقد قلب بايدن الولاية في عام 2020، ووجدت استطلاعات الرأي التي أجرتها الشبكة أن 61 في المئة من ناخبي ميشيغان الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عاما يؤيدون حملته. لكن الدعم لبايدن بين الشباب كان يتضاءل قبل فترة طويلة من الحرب – حيث عبر طلاب جامعة ميشيغان عن خيبة أملهم بسبب الوعود التي لم يتم الوفاء بها بشأن سياسات مثل تغير المناخ والإعفاء من قروض الطلاب والمخاوف بشأن عمره.
هذا تأثير مضاعف للحرب على غزة على مستقبل الرئيس بايدن بين الجالية العربية المسلمة المتركزة في ميتشغان وبين جيل الشباب وهو ربما ما يضغط على الإدارة من أجل إعادة التفكير في طريقة تعامل بايدن مع الحرب في غزة.
تلفزيون سوريا
————————–
هدنة غزة.. مهلة للتنفس/ إبراهيم العلوش
26/11/2023
يقرّ أطراف الصراع الهدنة كمساحة تكتيكية لا علاقة لها بمعاناة الناس، فالحروب الإسرائيلية الحالية مثلًا، كانت دائمًا ضد وجود الشعب الفلسطيني الذي يعرقل أحلامها الاستيطانية، ويفسد عليها مظاهر الديمقراطية والرفاهية، وما إلى ذلك من “مكياجات” تجمّل بها وجهها الاستعماري الخَرِف.
بعد قرابة الـ50 يومًا من القصف المتواصل، تنفسنا الصعداء صباح الجمعة 24 من تشرين الثاني الحالي، ونحن نراقب شاشات التلفزة ومواقع “الميديا” بعد إعلان الهدنة التي تعيد لسكان غزة بعضًا من وجودهم الذي تنفيه إسرائيل، وفي أحسن الأحوال إذا اعترفت بهم، فإنهم بنظرها مجرد حيوانات بشرية، تقطع عنهم الماء والطعام والكهرباء والاتصالات، وتحتل المستشفيات التي قد تؤوي جرحاهم، وتدمّر المدارس التي يلجؤون إليها بعد تدمير بيوتهم.
ومثل هذا التوقف المؤقت للقصف جربناه في سوريا، جربه المحاصرون في غوطة دمشق وحمص وحلب ودير الزور ودرعا وفي الشمال السوري، حيث تقصف الطائرات والصواريخ والمدفعية مستهدفة المدنيين بحجة أن الإرهابيين يختبئون بينهم، وتهجّرهم من بيوتهم لتطهير البلاد من الإرهاب.
وبعدها تتفرغ للهندسة الطائفية التي تديرها الميليشيات الإيرانية، بعد أن قام الروس بكل ما يلزم من قصف صاروخي وجوي وتدمير المدارس والمستشفيات والأسواق الشعبية، بحجة مكافحة الإرهاب أيضًا!
عندما يتوقف القصف كنا نخرج إلى الشارع ونركض غير مصدقين توقف الانفجارات، نبحث عن “بقالية” أو عن بائع متجول نشتري منه الخبز أو الطحين أو أي شيء يؤكل، فالحرب التي يخوضها النظام وروسيا وإيران ضدنا لم تكن تأبه بنا كمدنيين، وهي مثل حرب إسرائيل اليوم على الفلسطينيين في غزة وفي الضفة الغربية، حرب معنية بالأهداف السياسية والاستراتيجية المزعومة ولا علاقة لها بالبشر إلا كمعوقات تقف حائلًا أمام تحقيق الأهداف الخيالية التي لن تجلب إلا المزيد من الحروب والأحقاد.
في هذه الهدنة بدأ الفلسطينيون يبنون خيام اللجوء بعد تهجيرهم من شمال غزة إلى جنوبها، وبدؤوا يتزاحمون على أبواب الأفران، وقد يستغرق الطابور عشر ساعات أو أكثر في مناظر تشبه مشاهد وقوف السوريين أمام الأفران، وعلى طوابير الغاز ومازوت التدفئة وبنزين السيارات، في وجوه غاضبة وحزينة تبحث عن الأمل في الخلاص من محنتها.
سوف تستأنف الطائرات الإسرائيلية قصف من استطاعوا أن يأكلوا أو من لم يستطيعوا، ستقتلهم أو تهجرهم من جديد أو تقترح طرقًا “فانتازية” للخلاص منهم، كأن يهاجر أكثر من مليوني غزاوي إلى صحراء سيناء في مصر، أو حتى إلى القطب الجنوبي، من أجل أن يرتاح قادة إسرائيل وأن يحققوا نصرًا يرقع فشلهم بحماية مستوطنيهم في 7 من تشرين الأول الماضي.
هذه الهدنة قد تفتح باب الأمل في زيادة الضغط العالمي على إسرائيل من أجل احترام القوانين الإنسانية والدولية، وإيقاف عقلية القبيلة الغاضبة التي تسحق الفلسطينيين متجاهلة أحقيتهم في الحياة على أرضهم.
العالم ينتظر هذه الهدنة لعلها تعيد بعضًا من المفاهيم الإنسانية إلى قادة أمريكا وألمانيا وبريطانيا، الذين رفضوا خلال أسابيع جهنمية قرارات وقف إطلاق النار ضد الفلسطينيين، وتمسكوا بحجة دفاع إسرائيل عن نفسها، حتى ولو حطمت كل القيم الإنسانية التي كانوا يتباكون عليها في الجبهة الأوكرانية، مع احترامنا لكل نفس بشرية وحقها في الحياة الآمنة والكريمة مهما كان انتماؤها.
وإذا فشل العالم في إجبار إسرائيل على وقف الحرب فإن الطائرات ستقلع من جديد، وتستعد الصواريخ والتصريحات الكاذبة لاحتلال الفضاء الإعلامي، ويستعد الفلسطينيون للبحث عن مكان آمن لأطفالهم أو البحث عن مستشفيات لجرحاهم، ويستعد قادة الجيش الإسرائيلي لتلاوة ادعاءاتهم عن عدم استهداف المدنيين رغم أن أكثر من ثلث مساكن الفلسطينيين قد تم تدميرها بقذائفهم الأرضية والجوية وهم ينشرون شعارات الانتقام الذي يودي بمئات ألوف الناس إلى البؤس والحاجة والخوف والحقد.
في نفس الوقت فإن الطائرات الروسية والقذائف المدفعية من جيش الأسد لا تترك للاجئين السوريين في الشمال مهلة للتنفس، وهي تنطلق حينما يشتهي قادتها غير آبهين بحالة اللاجئين وبؤس حياتهم، مستفيدين من انشغال العالم بأخبار فلسطين، مستعملين نفس التبريرات الإسرائيلية وهم يقصفون الخيام والمستشفيات والأسواق.
الحروب التي تجري في منطقتنا العربية هي حروب ضد الشعوب وليست ضد الجيوش الغازية أو المحتلة، فالبنادق الموجهة إلى الخارج صدئت بسبب عدم الاستعمال، أما البنادق الموجهة إلى الداخل فهي دائمة الانشغال بالقتل والتهجير.
حرب نظام الأسد ضد السوريين واللبنانيين والفلسطينيين لم تهدأ منذ أن استولى حافظ الأسد على الحكم في سوريا، أما الحرب ضد إسرائيل أو غيرها فلم تكن إلا خطوات تكتيكية وغير جدّية، وكثيرًا ما تكون مشوبة بالخيانة وطعن المقاتلين في ظهورهم، ولعل حادثة تسليم القنيطرة عام 1967 من قبل حافظ الأسد عندما كان وزيرًا للدفاع دليل يفقأ الأعين.
اليوم نشارك الفلسطينيين لحظات الهدوء والهدنة، ونراقب الخوف في أعينهم وفي أعين أطفالهم مثلما نراقب الخوف في أعين سكان الشمال السوري، نتنفس معهم لحظات السلام المفقود، ونصرّ معهم ومع محمود درويش على الأمل رغم كل هذا الجحيم:
على هذه الأرض ما يستحق الحياة: عشب على حجر، أمهات يقفن على خيط ناي، وخوف الغزاة من الذكريات!
عنب بلدي
———————————–
الكتابة على الجسد من سوريا إلى غزة/ لمى قنوت
26/11/2023
دفعت آلة الاستعمار الصهيونية المتوحشة الأمهات الفلسطينيات في غزة إلى كتابة أسماء أطفالهن على أجسادهم، بعد أن أرعبتهن صور الأكفان البيضاء المكتوب عليها “طفل مجهول”، بعضهن كتبن الأسماء على الأقدام، وبعضهن كتبنها على البطون، لأن الصاروخ يفتت الأطراف في أغلب الأحيان، كما قالت رجاء محمد (أم لثلاثة أطفال)، أما عبير (أم أحمد وراشد وهبة) فقد كتبت في كل مكان على جسدها ما سبق، وأضافت بأنها زوجة الشهيد فهمي صالح، وكتبت على كفي وذراعي وفخذي وظهر وبطن وصدر وباطن قدمي ابنها أحمد، اسمه وعمره وزمرة دمه واسم أبيه واسمها، وكذلك فعلت مع ابنتها هبة ذات الخمس سنوات، لكن جسد ابنها راشد ذي الثلاث سنوات لم يتسع لكل تلك الكلمات، لكنها كانت مطمئنه بأنه سيظل في حضنها، ثم قالت لأبنائها الثلاثة مع ابتسامة هادئة: “تخافوش، سيجمعوننا معًا ولو كنا أشلاء”.
كتابة الأسماء على الأجساد أو على كل عضو من أعضاء الجسد هي شكل من أشكال مقاومة الإفناء والإبادة الجماعية والتهجير القسري التي يركز عليها المستعمر، لإبقاء استعماره “أبديًا، مُؤنسنًا وحضاريًا” بوجه “الحيوانات البشرية” التي تقاومه وتعوق مخططاته وسردياته، فيطمرها تحت الركام، ويسعى أن تتحول إلى أشلاء، وتُدفن دون شواهد وفي مقابر جماعية.
في سياق آخر، تُرَقِمُ آلة النظام الأمنية السورية جثامين من قتلتهم في المعتقلات والمستشفيات العسكرية، وتكتبها على جباههم، وتدفنها في مقابر جماعية، وتحرص على عدم تسليم الجثمان لأسرته، وتدخل أسر المعتقلين والمخفين قسرًا في رحلة تيهٍ للبحث عن أحبائها. لا يكتفي النظام بمحو هوية الجثمان وتشييئه عبر ترقيمه فحسب، بل يغدو التنكيل به وإذلاله هدفًا لأجهزة الأمن، كوضع الرأس في حفرة الحمام العربي، فمثلًا، يروي عمر، وهو كاتب مسرحي، شهادته خلال فترة اعتقاله، كيف طُلب منه ومن آخرين، نقل جثامين المعتقلين من طابق سفلي في المعتقل إلى سيارة نقل: “كانوا ينظرون إلينا ويقولون (أنت تعال وأنت وأنت)، نذهب معهم إلى الطابق السفلي حيث الجثث ممددة على البطون، والرؤوس داخل حفرة الحمام العربي، وعلى الأجساد مكتوبة أرقام ملفاتهم ومهاجعهم”.
حتى في السجلات الرسمية، بقيت الأرقام تلازم جثامين المعتقلين والمعتقلات، فمن خلال البيانات التي جمعها “سيزر/قيصر” (وهو لقب لمصور الطب الشرعي بالشرطة العسكرية في سوريا) وسربها بعد انشقاقه عن النظام، قسمت “هيومن رايتس ووتش” الصور إلى ثلاث فئات، ضمت الأولى وهي الأكبر، ما لا يقل عن 6786 جثة، تعود لأشخاص توفوا أو قتلوا تحت التعذيب وهم رهن الاعتقال في أي من مراكز الاعتقال أو بعد نقلهم إلى مستشفى عسكري، كل جثة تحمل أرقام تعريف (عبارة عن ثلاثة أرقام)، وتضم الفئة الثانية، جثث الجيش أو عناصر الأمن، التقطت في مشارح مستشفيات عسكرية، لكنها عكس الفئة الأولى، تتضمن بطاقات باسم الشخص المتوفى وأحيانًا تاريخ وفاته (في العديد من الحالات، تسبق اسمه كلمة شهيد والرتبة العسكرية للمتوفى). وفق ما سبق، فحتى الجثامين تخضع لمعايير “سوريا المتجانسة” التي هندسها رأس النظام في سوريا، أي بين الاعتراف بمواطنية الأفراد ومكانتهم وبين تشييئهم ونزع إنسانيتهم.
تستبيح العدسات والعيون الفاحصة صور الأجساد/الجثامين المجساة جراء التعذيب في المعتقلات أو القصف والبراميل المتفجرة، ولكن من قال إن أصحابها، لو كانوا من الناجين والناجيات، أو أسرهم سيوافقون على عرضها للفرجة أو لإثبات جرمية القتلة. لقد سبب النشر العشوائي لصور “قيصر” في الإعلام صدمات ورضات قاسية للعديد من الأسر الباحثة عن أحبائها، فآثار التجويع والتعذيب والجلد المسلوخ والعيون المقلوعة وتعرية الأجساد ستبقى صورًا مؤبدة تستدعيها الذاكرة عن أحبائهم الذين قتلهم نظام الأسد.
دائرة تشييء الأجساد/الجثامين لا تكتمل دون الحديث عن المقابر الجماعية المستمرة والمفتوحة حتى الآن، كما ورد في شهادة “حفار القبور”، وهو لقب موظف إداري كان يعمل في بلدية دمشق، وعمل مع أجهزة أمنية بين عامي 2011 و2017 لدفن معتقلين في مقابر جماعية، وذلك قبل فراره من سوريا في عام 2018.
الكتابة على الأجساد كفعل مقاوم ضد آلة التوحش الصهيونية التي تحصد حيوات السكان في غزة، والكتابة على أجساد/جثامين المعتقلين وترقيمهم كجرم نازع لهويتهم ومواطنيتهم، هادر لكرامتهم، كالتي يمارسها النظام في سوريا بشكل منهجي ونسقي، لن تتوقف ما لم يحاسب المجرمون على جرائمهم، وأي نضال ضد الأنظمة الشمولية والاستبدادية الأبوية لا يشمل النضال ضد الاستعمار، أو العكس، لا يعول عليه.
عنب بلدي
————————-
حراك السويداء وأحداث غزة وما قبلها/ حسن النيفي
2023.11.25
ما من شك بأن انطلاقة الحراك الشعبي السلمي في مدينة السويداء منذ العشرين من شهر آب الماضي، قد جسّدت منعطفاً نوعياً في سيرورة ثورة السوريين، من جهة نجاح الاحتجاجات الشعبية على إعادة الحيوية إلى فكرة الثورة وإمكانية ديمومتها واعتبارها حاملاً شديد القدرة على التجدّد والإبداع المستمر لوسائل النضال والمقاومة، وما من شك أيضاً بأن السلطة الحاكمة واجهت هذا الحراك السلمي بمزيد من الارتباك والحرج، إذ يدرك رأس النظام وحاشيته وحلفاؤه أن مواجهة حراك السويداء بالأساليب الوحشية ذاتها التي استخدمها في بقية المدن السورية ربما لن تكون مجدية، بل ربما ترتدّ عليه وبالاً لأسباب ربما تكون معلومة لدى الكثيرين ولا فائدة لعرضها الآن، الأمر الذي دفع بسلطات دمشق إلى النبش بالإرث الأسدي للاستعانة بالاستراتيجيات التي برع بها الأسد (الأب) في مواجهة أزماته الداخلية، ونعني بتلك البراعة قدرة حافظ الأسد على استثمار وتوظيف الأحداث النوعية – سواء أكانت داخلية أم إقليمية – في إشغال الرأي العام عن الأزمات الحرجة التي يواجهها نظام حكمه، ولعل هذا ما دفع سلطات دمشق لإبداء احتفاء بالغ بالقتال الذي نشب بين سلطة قسد وقسم من عشائر دير الزور في شهر أيلول الماضي، وسواء أكان للنظام دور مباشر أم لا في القتال المشار إليه، إلّا أنه لم يكن غريباً ادعاؤه بتبنّي مطالب العشائر وكذلك لم يكن مفاجئاً أن تحاول وسائل إعلامه إيهام الرأي العام السوري بأن رأس النظام ما يزال يمسك بزمام المبادرة حتى في المناطق التي تقع خارج سيطرته، وحين لم تفلح تلك البروبغاندا الإعلامية في تحقيق الهدف، إذ إن حراك أحرار السويداء بدأ يعلو صوته ويمتدّ صداه وتأثيرة حتى إلى المدن والمناطق التي تُعدّ الحاضنة الأولى لنظام الحكم، حين ذاك أقدم على افتعال عملية الكلية الحربية في حمص التي أودت بحياة العشرات من ضبّاطه إضافة إلى إصابة العشرات أيضاً، وعلى الرغم من افتضاح تلك المسرحية التي لم تنطل على مؤيدي النظام قبل معارضيه، إلّا أن رأس النظام أصرّ على أن يجعل من عمليته الإجرامية بحق مواليه ذريعةً لإجرامٍ أكثر امتداداً وشمولاً تمثّل بشنّ هجومٍ جوي على مدينة إدلب ومحيطها وريف حلب الغربي، إذ كان هذا الهجوم هو الأكثر وحشية منذ شباط عام 2020 حين هاجم بلدات ومدن ريف إدلب وهجّر وشرّد أكثر من مليون مواطن سوري إلى مخيمات وبلدات الشمال المحاذي للحدود التركية.
لم يكن تعاطي السلطات الأسدية مع الحرب على غزة بعيداً عن سياق تعاطيه مع ما سبقها من أحداث، فما يتطلع إليه نظام الأسد هو أن تتيح له عملية طوفان الأقصى التي انطلقت شرارتها في السابع من تشرين الأول الماضي هامشاً لترحيل أزماته، أملاً في توقّع عملية (خلط أوراق) جديدة من شأنها أن تتيح له تموضعاً جديداً على المستوى الإقليمي فيما لو وجد هذا التوجّه تأييداً من جانب واشنطن وتل أبيب، وربما هذا ما جعل رأس النظام يستمر بالعضّ على الحجر الذي ألقمته إياه إسرائيل ويواظب على الانضباط بقواعد الاشتباك المرسومة له من قبل، وبالطبع يمكن تخريج كل هذا الخنوع والإذلال تحت مقولات ضبط النفس وعدم الاستجابة للاستفزازات الإسرائيلية والتعاطي بحكمة وسوى ذلك من الابتذال الإعلامي الذي لم يعد غريباً على السوريين، علماً أن الحرب الهمجية التي يشنها الكيان الصهيوني على غزّة لم تكن فاضحةً للتوحّش الصهيوني فحسب، بل فاضحة أيضاً للنهج (الممانع ) الذي تدّعيه إيران والأسد ومشتقاتهما في المنطقة، إلّا أن استساغة الفضيحة لم تعد هاجساً مقلقاً لتيار ( المخادعة) طالما أنها تتيح المزيد من الاستثمار في القضايا العادلة في سبيل خدمة أنظمة الحكم التي أفرعت وتنامت بالأصل على مبدأ الإبادة.
ولئن كان الحراك الشعبي لمدينة السويداء يجسّد مبعث قلق موجع لنظام الأسد في المرحلة الراهنة، وبالتالي تصبح عملية الالتفاف على هذا الحراك أو احتواؤه بغية الحدّ من تأثيره هي الاستحقاق الأول لدى سلطات دمشق، فإنه من المفترض أن يكون المسعى في الطرف الآخر، أي لدى خصوم الأسد الافتراضيين، وعلى وجه التحديد المعارضات الرسمية، متجهاً ببوصلته نحو البؤرة الثورية الأكثر توهّجاً في الوقت الراهن، أي موجة الحراك الشعبي في السويداء، حرصاً على استمرارها والمساهمة في انتشارها بغيةَ تحوّلها إلى حالة عامة وعدم السماح لنظام الأسد بمحاصرتها وإشغال الرأي العام عما يجري من حراك في سوريا، ولكن واقع الحال يؤكد أن نشوة الظفر لدى قيادة الائتلاف الجديدة بعد تجاوز المعارك الداخلية التي أفضت إلى استبعاد الخصوم بل طردهم ، نتيجة للحكم الذي أصدرته اللجنة القضائية المتشكلة حول مقولة (الصرماية)، قد كانت باعثاً قوياً لدى قيادة الائتلاف للتفكير بالاستحقاق الأهم المتمثل بتوطيد السلطة عبر بناء علاقات جديدة مع جميع المستفيدين من سلطة الأمر الواقع، وهذا يقتضي القيام بجولات عديدة للقاء مجالس العشائر وقادة الفصائل والرموز الاجتماعية، ليس للبحث عن مصادر شرعية السلطة، لأن السلطة قد تم تعيينها بل فرضها من أطراف خارجية، ولكن لشراء ولاءات كانت سابقاً مُباعةً لسلطات سابقة، ويبدو أن مسألة (أمن السلطة) ليست أولوية عند الطغاة فحسب، بل عند جميع طالبي السلطة وهواة حيازتها أيضاً، وفي الوقت ذاته اتجهت هيئة التفاوض إلى جنيف لتنعى أمام ممثلي الدول الموت البطيء للجنة الدستورية، ولتشتكي من عدم استجابة نظام الأسد للتفاعل مع القرارات الأممية، علماً أن البحث عن أوراق قوّة جديدة يقتضي العمل على مبادرات ثورية ووطنية جديدة، ومن باب أولى أن يكون العمل على دعم وتطوير الحراك الشعبي على رأس هذه الأولويات، ولعل هذا السلوك لمعارضي الأسد الرسميين يؤكّد أن حراك السويداء وسواه من سيرورات نضالية لدى السوريين تواجه عداءً مركّباً، تارةً بالمحاربة العلنية من جانب نظام الحكم، وتارة أخرى بتجاهل المعارضة الذي لا يمكن اعتباره موقفاً محايداً أو مجانياً.
تلفزيون سوريا
———————————
كيف تخرج إيران من ورطة حرب غزة؟/ عدنان علي
2023.11.25
لعبة “المناوشات المنضبطة” التي يديرها “محور المقاومة” مع إسرائيل والولايات المتحدة في إطار “جبهة المساندة” للمقاومة الفلسطينية في غزة، قد تحقق أهدافها بالنسبة لجميع الأطراف في حال أمكن التوصل إلى وقف مستدام لإطلاق النار في قطاع غزة خلال فترة قصيرة، لكنها قد تتحول إلى لعبة خطرة، إذا طال أمد الحرب، وأوغلت إسرائيل أكثر في مجازرها ضد المدنيين بالقطاع.
وفي هذا السياق، تتحدث جميع الأطراف، وتحذر من “التدحرج” إلى حرب أوسع سواء بشكل غير مقصود، كرد فعل مبالغ فيه أو يتخطى “الخطوط الحمر” أم عن سابق تصميم من جانب أحد الأطراف، وإسرائيل على وجه التحديد، التي طرح بعض أعضاء حكومتها منذ وقت مبكر لحرب غزة شن هجوم متزامن على حزب الله في لبنان، للاستفادة من الدعم الدولي المتشكل آنذاك لإسرائيل. كما أن الأصوات من داخل الحكومة ما تزال عالية، التي تدعو لمهاجمة حزب الله وإبعاده عن الحدود إلى ما بعد نهر الليطاني وفق قرار مجلس الأمن 1701، وعدم الخضوع لحرب الاستنزاف التي يجر الحزب إليها إسرائيل. وفي السياق، أعلن كثير من سكان المستوطنات في شمالي فلسطين المحتلة ممن تم إجلاؤهم إلى العمق، أنهم لن يعودوا إلى منازلهم ما لم يتم إبعاد عناصر حزب الله عن الحدود.
وقد شهدنا في الأيام الأخيرة تجاوزا متصاعدا لـ”الخطوط الحمر”، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى خروج الأمور عن السيطرة، وهذا ما دفع واشنطن إلى إرسال أحد مسؤوليها الكبار إلى إسرائيل لبحث سبل تلافي التصعيد، لأن توسع الحرب سوف يضع الولايات المتحدة في قلب المخاطر، خاصة أن جنودها ينتشرون في العديد من بلدان المنطقة، وهم يتعرضون بالفعل لهجمات متكررة في سوريا والعراق، فضلا عن ظهور العامل الحوثي في المعادلة بعد خطف سفينة تعود ملكيتها لرجل أعمال إسرائيلي، وبروز مخاطر تهديد الملاحة الدولية في مضيق باب المندب، وهذا سوف يدفع الولايات المتحدة للانخراط أكثر في تلقي تبعات الحرب والتصادم مع الحوثيين أيضا إضافة إلى الساحتين السورية والعراقية.
والواقع أنه ربما يمكن القول إن إيران وحزب الله، باتا بسبب ما يجري في غزة في ورطة كبيرة، سواء قررا التدخل العسكري نصرة لأحد أضلع “حلف المقاومة” في غزة، والذي يخوض معركة “تحرير فلسطين وكسر شوكة إسرائيل” أم امتنعا عن التدخل.
ووفق كلام حسن نصر الله، فإن الحزب يربط توسيع مشاركته في الحرب بأمرين: الأول مهاجمة إسرائيل للحزب نفسه أو للمدنيين في لبنان، والثاني تطورات الحرب في غزة، وهذا عنوان عريض لا يمكن القياس عليه، أي أنه ترك لنفسه حرية تقدير الموقف ما إذا كان يستدعي تدخلا أوسع من جانب الحزب أم لا. لكن كل المؤشرات تفيد أن حسبة حزب الله، ولأسباب مختلفة، هي محاولة تجنب دخول واسع للحرب، مع الحفاظ قدر الإمكان على صورة الداعم والحليف الذي لم يتخل عن المقاومة في غزة.
وهنا نعود للفرضية الشهيرة، هل قرار رفع مستوى التدخل في الحرب يتخذ في الضاحية الجنوبية أم في طهران؟ وبغض النظر عن ذلك، فإن الحسابات قد تكون متشابهة في بعض الأوجه، ومتفاوتة في أوجه أخرى. وبالنسبة لطهران، فان دخول الحزب الحرب سيجعلها أقرب بكثير إلى أتونها، لأن للحزب مكانة أرفع لدى إيران من فصائل غزة، وهو يشكل أفضل استثماراتها الخارجية على الاطلاق، وإذا مسه خطر كبير، ستكون في حرج كبير إذا لم تتدخل بطريقة أو بأخرى. غير أن الحسابات الأهم هي تلك الموجودة عند الحزب نفسه، بالنظر إلى كم التهديدات الصادرة عن قادة إسرائيل والولايات المتحدة والغرب بإعادة لبنان إلى القرون الوسطى، والمقرونة بتحريك قطع بحرية ضخمة إلى السواحل الشرقية للبحر المتوسط، بل وإلى منطقة الخليج نفسها، قريبا من إيران. ويضاف إلى ذلك الضغط الداخلي على الحزب من معظم اللبنانيين، بمن فيهم حاضنته الشعبية، لتجنب الحرب التي تعني قتلى ودمارا هائلا ومئات آلاف النازحين الذين وجدوا عام 2006 ملاذا لهم في الجارة سوريا، لكن ظروف اليوم اختلفت، حيث إن سوريا نفسها مدمرة، وثمة أكثر من مليون من مواطنيها لاجئون في لبنان.
ومن هنا، يبدو أن الجهد الإيراني يتساوق مع الجهود الدولية للتهدئة، ومنع إسرائيل من مواصلة سياسة الانتقام الجنوني من قطاع غزة، وصولا إلى تخفيض سقف أهدافها في غزة بحيث تتنازل عن الهدف الأول المعلن وهو السحق التام لحركة حماس، وإنهاء حكمها للقطاع والاكتفاء بتوجيه ضربات قوية لحماس تمكن قادة إسرائيل من ادعاء النصر، خاصة إذا ترافق ذلك مع نجاح صفقات إطلاق الأسرى والمخطوفين من كلا الجانبين، وهو ما بدا أن إيران تعمل عليه بجد، بل وعرضت علنا وساطتها في هذا السياق.
ومع قرب انتهاء الرخصة الدولية، بما فيها الأميركية، لإسرائيل لتفعل ما تشاء في غزة، تتزايد الضغوط عليها لحسم الأمور بسرعة ووقف الضربات الجوية التي تتسبب يوميا بسقوط مئات القتلى والجرحى من المدنيين، وسط مؤشرات إلى أن إسرائيل خفضت حقا بفعل صمود المقاومة في غزة، وتنامي السخط الدولي إزاء جرائمها ضد المدنيين، من سقف أهدافها من إنهاء وجود حماس في غزة إلى الاكتفاء بمحاولة ضرب بنيتها العسكرية وتصفية ما تستطيع من قياداتها، مع ملاحظة أن نتنياهو وقادة آخرين في إسرائيل باتوا يرددون كثيرا اسم قائد حركة حماس في غزة يحيى السنوار لاغتياله، أو اغتيال قادة آخرين من حماس خارج غزة، كإنجاز يعفيهم من مواصلة عمليتهم العسكرية المتعثرة. وفي كل حال، تبقى هذه أهدافا غير نهائية، قد ترتفع أو تنخفض تبعا للتطورات على الأرض، وعلى الساحتين الإقليمية والدولية.
وفي حال أصرت إسرائيل على هدف تدمير حماس وإنهاء حكمها للقطاع، فإن ذلك سيزيد الحرج على طهران، وقد تضطر إلى رفع مستوى تدخلها عبر حليفها حزب الله وميليشياتها في سوريا والعراق واليمن دون الوصول إلى درجة الانخراط الكامل في الحرب.
ولمزيد من الفهم بشأن المعادلة التي تحكم موقف إيران، وبالتالي حزب الله، لا بد أن ندرك أن نجاح إسرائيل في تحقيق أهدافها المعلنة في غزة، سوف يصيب إيران بخسارة استراتيجية ثقيلة، ويؤدي إلى حصول تضعضع كبير في الحلف الذي تقوده إذ جرى شطب أحد أعمدته أمام أعين “الأخ الأكبر” الإيراني، ما يجعل بقية الأعضاء يتلمسون على رؤوسهم، حيث سيكون حزب الله هو الهدف التالي لإسرائيل حالما تتخلص من كابوس غزة، وهو ما ألمح إليه وزير دفاع إسرائيل بقوله إن ما يجري في غزة هو رسالة إلى حزب الله.
يضاف إلى ذلك، فإن مثل هذه الفرضية ستقود إلى خسارة إيران لـ “الورقة الفلسطينية” التي تشكل المظلة السياسية لكل نفوذها في المنطقة. كما أن “انتصار” إسرائيل في الحرب، سوف يفتح عهدا جديدا في المنطقة تنتفي معه ثقافة “المقاومة” التي ترعاها إيران، وقد تنفتح أبواب التسويات السياسية، وهي البيئة المنافية للخطاب السياسي الإيراني القائم على مواجهة “الصهيونية وقوى الاستكبار العالمي”، ما يجعل المنطقة برمتها تفلت من يدي إيران، وتخضع للمزاج الجديد القائم على السير في ركب إسرائيل، واستعادة حركة التطبيع معها زخمها، تحت شعارات إحياء عملية السلام.
أخيرا لا بد من القول إن انكفاء إيران عن المنطقة، قد لا يكون في مصلحة إسرائيل أيضا، لأن من شأن ذلك إطفاء جذوة الصراعات في المنطقة القائمة على أساس مذهبي (سنة وشيعة) ما قد يولد تكتلات ومحاور خارج هذا الإطار، قد لا تكون مريحة للمخططين الإسرائيليين والأميركيين الذين يريدون مواصلة التركيز على التناقضات المختلفة بعيدا عن ثنائية الصراع العربي – الإسرائيلي، حيث تشكل سياسات إيران التي تعتبرها كثير من دول المنطقة توسعية وبأذرع طائفية، عامل استقطاب واستنزاف للدول والمجتمعات العربية، وليس من مصلحة إسرائيل انتهاء هذا الدور الإيراني، حتى لو كان يعوم على شعارات محاربة إسرائيل.
تلفزيون سوريا
————————————
من الأرض مقابل السلام.. إلى “السلام عليكم” يا عرب/ منير الربيع
2023.11.24
أما آن للتشاؤم أن يترجّل. بعيداً عن بطولة المقاومة الفلسطينية في القتال والتصدي. وبعيداً عن عمليات نوعية تم تنفيذها ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي. إلا أن القوة ليست صنواناً للعدل والحق.
في معايير العالم القائم ونظامه يبقى الانتصار “لقرار سياسي”، لا لبسالة شعب يطالب بحقه. ما يجري في قطاع غزة، كان قد سبقه ما جرى في سوريا. سوريا التي لم يثبت شعبها الثائر إلا كل معايير الصمود والتحمل والصبر على الأحمال والأثقال والمجازر وعمليات التهجير التي حصلت بطريقة ممنهجة على مرأى العالم. فيما بقي نظام بطش بشعبه بذريعة أن البديل لم يتوفر. ليتبين أن بقاءه يرتبط بمشروع ها هو يبقى ماثلاً أمام أعين الجميع من تهجير سوريا إلى تهجير غزة، وربما إنهاء القضية الفلسطينية.
على الرغم من الهدنة، والدخول في مفاوضات، إلا أن ثمة مشروعاً إسرائيلياً دولياً، لن يكون من السهل التخلي عنه، وإن تم تأجيله. وفي أحد أشكاله يحاكي ما كان مقترحاً سياسياً في السابق بصفقة القرن، في سبيل تهجير الفلسطينيين من أراضيهم ومناطقهم واختلاق مساحة جغرافية لهم وابتداع عاصمة جديدة. ها هو المشروع الذي تأخر سنوات يعاود الإطلالة برأسه، ويمكن تصفح ما يقوله الإسرائيليون وبعض الأميركيين للتأكد من ذلك.
الهدف تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، تدمير ما تبقى من مقومات للحياة فيها، وربما يلتحق المشروع فيما بعد بالضفة الغربية.
لا يمتلك العرب سوى مواقف التنديد، بلا أي رؤية سياسية واضحة لبناء دولة فلسطينية، ثمة مواقف تصدر حول ضرورة الذهاب إلى حل الدولتين، بدون طرح أي سؤال أو تقديم أي جواب حول جغرافية الدولة الفلسطينية المستقلة ولا ديمغرافيتها. بينما لا تملك المقاومة الفلسطينية سوى شجاعة القتال والاستبسال في العمل العسكري بدون القدرة على استثماره سياسياً بما يخدم مشروع الدولة الفلسطينية، لأن القرار الدولي مناقض لمطالب الشعوب، وفق مقتضيات المصالح الاستراتيجية للدول.
ليس هذا الكلام، في سياق الاستسلام، لكنه ضروري لتوضيح الصورة، بحثاً عن إجابات أو عن مشاريع بديلة.
وللأسف، أن ما يجري في غزة كان قد سبقه ما حصل في سوريا التي هجّر نصف شعبها على مرأى العالم بدون أي ردة فعل. فيما لم يعد من أي أثر للدول في لبنان، سوريا، العراق واليمن. وهذا ما يدعو إلى التشاؤم في إمكانية الوصول إلى دولة فلسطينية، خصوصاً بعد كل المجازر التي ترتكبها إسرائيل وعمليات التهجير الممنهجة، والتي على ما يبدو أنها لن تتوقف على الرغم من الهدنة وبانتظار انتهائها. فيما الخوف أصبح مشروعاً بقوة على الضفة الغربية، لا سيما في ظل ضعف السلطة الفلسطينية، وصراعاتها وخلافاتها وانعدام الرؤية السياسية.
كل حرب خاضها العرب في سبيل فلسطين، كانت نتائجها عكسية. وكل ثورة فجرها العرب كانت تواجه بالحمم والبراكين في سبيل القضاء على الأحلام. وبالعودة بالذاكرة، فإن حرب الخليج الثانية، دفع ثمنها الفلسطينيون بقوة. والدخول السوري إلى جانب الأميركيين لتحرير الكويت أسهم بإضعاف الموقف الفلسطيني واستشراس النظام السوري وحافظ الأسد ضد ياسر عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية، وهذا ما أجبر عرفات على الهرب سياسياً والاتجاه إلى أوسلو، وهي الاتفاقية التي لم يطبق منها شيء وتنامى على ضفافها وما بعد اغتيال إسحاق رابين اليمين الإسرائيلي الذي برز مؤخراً في أبرز تجلياته، والذي يسعى إلى القضاء على الفلسطينيين ككل، وفق معادلة الفلسطيني المقبول هو الفلسطيني المقتول.
ثورات الربيع العربي والتي انطوت على أحلام ومشاريع وطموحات مستقبلية سحقت في مهدها، وسحقها يعكس النتائج الواضحة في قطاع غزة، في استكمال مشروع التدمير والتهجير، والقضاء على ما تبقى من مشرق عربي. أسهم إجهاض الربيع العربي في سحق الشعوب العربية، على وقع تراجع الأدوار السياسية للدول العربية.
تقدّمت إيران، على وقع سياسة أميركية شرق أوسطية أنتجت فوضى أسهمت في تدمير الدول والمجتمعات، وهو ما لا تزال أميركا تغطيه، في مقابل تبرئة إيران من أي مسؤولية والبحث عن التفاوض معها. ما يعني أن المشروع مستكمل، في ظل انعدام أي مؤشر أو رؤية حول تصحيح الأميركيين لخطاياهم في المنطقة، وأقصى ما سيعودون إليه، هو “إيران منضبطة.. إسرائيل آمنة ومستقرة”. أما العرب والذين آمنوا يوماً بمعادلة “الأرض مقابل السلام” فجاء من يردّ عليهم بـ”السلام عليكم”.
تلفزيون سوريا
———————————-
“تصعيد مدروس” بين “حزب الله” وإسرائيل.. ماذا عن سورية؟
18/11/2023
حَمل خطاب زعيم “حزب الله” اللبناني، حسن نصر الله الأخير إعلاناً ضمنياً بعدم الدخول في معركة ضد إسرائيل للتخفيف عن قطاع غزة الفلسطيني، ورغم المناوشات التي تحصل بين يوم وآخر بالقذائف والصواريخ يرى خبراء وباحثون أنها تصب في “إطار التصعيد المدروس والمنضبط”.
يعتبر “حزب الله” أحد أبرز وكلاء إيران في المنطقة ولبنان بالتحديد، ومنذ هجوم حركة “حماس” في السابع من أكتوبر ضد إسرائيل تسلطت الأضواء عليه كثيراً عليه، وأثيرت التساؤلات حول ما إذا كان سينخرط في المواجهة أم لا.
وبقيت التساؤلات دون إجابة حتى خرج نصر الله في خطابه، نافياً علمه بالهجوم بشكل مسبق، وكذلك الأمر بالنسبة لإيران… تحدث عن سياقات الحرب التي تلت ضربة حماس واستعرض المآلات، دون أن يعلن موقفاً حاسماً كما روّجت إليه أوساطه الإعلامية والسياسية.
“وسيلة ضغط”
ويشير تقرير نشرته وكالة “بلومبيرغ“، يوم الجمعة، إلى أن “حزب الله وحماس قريبان من إيران، وكلاهما يساعدن طهران على توسيع نفوذها في المنطقة”.
لكن المجموعة اللبنانية “هي الأهم” بحسب جوزيف ضاهر، مؤلف كتاب “حزب الله.. الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني”، إذ يقول إن “إيران لا تريد أن ترى جوهرة تاجها تضعف”.
ويضيف ضاهر أن هدف طهران الجيوسياسي “ليس تحرير الفلسطينيين”، بل استخدام مثل هذه الجماعات كوسيلة ضغط، خاصة في علاقاتها مع الولايات المتحدة.
و”حزب الله”، الذي تأسس قبل أربعة عقود للدفاع عن لبنان بعد الغزو الإسرائيلي، لديه أجندة خاصة به أيضاً “لا ينبغي لنا أن ننظر إليه فقط كأداة بسيطة لإيران” وفق ضاهر.
وتتمتع الجماعة الشيعية بقوة أكبر من حماس، حيث يقول “حزب الله” إن لديه 100 ألف مقاتل، بينما يقدر محللون مخزونه من الصواريخ بما يتراوح بين 130 ألفاً و150 ألفاً.
وعلى مدى الأسابيع الخمسة الماضية، استخدم “حزب الله” صواريخه لضرب مواقع الجيش الإسرائيلي على طول الحدود التي تبلغ 120 كيلومتراً.
وفي خطابه المتلفز الأخير في 11 نوفمبر، قال نصر الله إن جماعته بدأت في نشر أسلحة أكثر فعالية، بما في ذلك الطائرات بدون طيار والقنابل التي يصل وزنها إلى نصف طن.
وبحسب نصر الله، يهدف حزبه إلى الحفاظ على الجبهة الشمالية لإسرائيل كنقطة ضغط، وقال معبراً عن ذلك “هذا هو المسار العام للعمل”.
“تصعيد مدروس”
وظلت الاشتباكات بين “حزب الله” وإسرائيل على نطاق واسع ضمن ما يسمى بقواعد الاشتباك، التي تقصر القتال على المناطق اللبنانية المحتلة، وعلى أهداف عسكرية “لكن الخطر الأكبر هو أن ضبط النفس لن يدوم”، حسب ما توضح “بلومبيرغ”.
ويقول علي فايز، مدير مشروع إيران في مجموعة الأزمات الدولية “لا إيران ولا حزب الله يريدان اندلاع صراع إقليمي من شأنه أن يكون مكلفاً بالنسبة لهما”.
وتابع: “الطريقة التي يبدو أنهما يديران بها الوضع هي التصعيد المدروس والمتزايد.. لكن هذه الاستراتيجية تحت رحمة حادث واحد أو سوء تقدير لتتطور”.
أحد الأمثلة على ذلك، قول إسرائيل الأسبوع الماضي إنها ضربت هدفاً على بعد 40 كيلومتراً داخل لبنان، وهو ما يتجاوز بكثير ما تنص عليه القواعد المعتادة، لذلك تشير بعض الدلائل على أن الولايات المتحدة حذرت الجانبين من مغبة التصعيد.
وأفاد موقع “أكسيوس” أن وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، أعرب عن قلقه لنظيره الإسرائيلي نهاية الأسبوع الماضي بشأن دور إسرائيل في إثارة التوترات على الحدود اللبنانية.
في المقابل، التقى المبعوث الأميركي الخاص، عاموس هوشستين، مع حلفاء “حزب الله” في بيروت، وحثهم على الهدوء.
ماذا عن سورية؟
في مقابل المناوشات العسكرية بين “حزب الله” وإسرائيل كان لافتاً خلال الأيام الماضية أن الأول لم يترك الساحة السورية.
وبمعنى أدق أنه لم يسحب قواته من هناك، بعدما كانت قد دعمت نظام الأسد لعدة سنوات وفي مناطق واسعة ضد فصائل المعارضة.
وتحدثت شبكات إخبارية محلية خلال الأيام الماضية أن الحزب اللبناني أدخل قوات إلى محافظة دير الزور، وشكّلت رأس حربة الهجمات التي استهدفت القواعد الأمريكية في سورية.
وفي غضون ذلك قتل 7 عناصر من “حزب الله” بضربة إسرائيلية في ريف حمص، بعدما أطلقوا طائرة بدون طيار باتجاه مدينة إيلات الواقعة جنوب إسرائيل.
ويوضح الباحث في الشأن الإيراني، محمود البازي أن “دور حزب الله قوي وكبر بعد اغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني قبل 3 سنوات”.
وبعد عام 2020 اضطلع “حزب الله” بمهام أكبر، أبرزها العمل على التنسيق والربط بين المجموعات التي تدعمها إيران على الأرض من جهة وبين “الحرس الثوري” الإيراني، من جهة أخرى.
يعتبر “حزب الله” في الوقت الحالي أقوى المجموعات التابعة لإيران في سورية، ويقول البازي لموقع “السورية.نت” إنه “يعمل على تقوية الجماعات المحلية وغير المحلية على الأرض”.
وكانت الجماعات قد تفرعت بشكل واسع للغاية، بحيث أصبح من الصعب السيطرة وتنظيمها بشكل كبير من جانب إيران.
ولذلك يوضح الباحث في الشأن الإيراني أن “حزب الله لعب دوراً في هذه الحالة، من خلال الدعم المباشر الذي قدمه للواء الإمام الحسين في سوريا وكذلك قوات الرضا والغالبون ولواء الإمام الباقر، وهي مجموعات شيعية التركيب ومحلية مؤلفة في غالبها من السوريين”.
ويرى البازي أن “ما يسمى محور المقاومة يحاول استنساخ نموذج التصعيد المدروس في الجبهة اللبنانية ونقله إلى العراق وسوريا واليمن”، ويحاول أيضاً “إبقاء إسرائيل منشغلة بهذه الجبهات” دون التحول إلى أي مواجهة مباشرة.
————————–
السّخط الشعبي والحرب على غزة.. بواعثه ومدلولاته/ حسن النيفي
2023.11.18
لعله بميسور المرء أن يهتدي بسلاسة إلى مقاربة الأسباب الكامنة وراء السخط العام الذي تبديه الشعوب العربية والإسلامية وكذلك الشعوب والجماعات المناهضة للصهيونية حيال أنظمة الحكم العربية وتقاعسها عن نصرة الشعب الفلسطيني في غزة من جرّاء ما يتعرض له من حرب إبادة يشنها الكيان الصهيوني على المدنيين بهدف إجلاء سكان غزة وإعادتها تحت السيطرة الإسرائيلية مزامنةً مع تفكيك واستئصال جميع أشكال المقاومة وليس حركة حماس فحسب، ولكن السؤال الذي يُطرح دائماً هو هل كانت تلك الشعوب على ثقة سابقة باستعداد الحكومات الرسمية، ليس لنصرة أهالي غزة فحسب، بل لنصرة أية قضية من قضايا الشعوب العادلة؟ وهل نسبة الأذى الذي طال الشعب الفلسطيني، والقضية الفلسطينية على العموم من جانب بعض الأنظمة العربية، هو أقل مما مارسه الكيان الصهيوني بحق الشعب الفلسطيني؟ بل ما هو مؤكد أن الذاكرة الفلسطينية ما تزال تختزن كثيراً من جرائم نظام دمشق في تل الزعتر (1976) ومجازر مخيمي نهر البارد والبداوي (1983)، علماً أن جميع مبادئ الحفاظ على النفس البشرية وحرمة قتلها أو الاعتداء عليها لا تميّز بين الضحية التي لاقت حتفها على يد حاكم طاغية عربي أو جلّاد صهيوني، فكلاهما قاتلٌ في النتيجة.
موجة السخط الشعبي ذاتها التي نراها اليوم تجتاح كبرى العواصم العالمية والمدن ووسائل الإعلام وقنوات التواصل الاجتماعي، قد شهدها العالم في شهر حزيران من العام 1982 إبان الاجتياح الإسرائيلي لبيروت ومحاصرة قوات منظمة التحرير الفلسطينية لأكثر من شهر، وسط خذلان تام من جانب أنظمة الحكم العربية، ولم ينته ذاك الحصار إلّا بفرض إسرائيل لشروطها التي أفضت إلى إبعاد منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت نحو تونس. ولعل مشهد النقمة الشعبية ذاته قد تكرّر في العام 2003 حين أقدمت الولايات المتحدة الأميركية على احتلال العراق وقتلت من شعبه أكثر من مليون مواطن، ومن ثم تركته عالقاً بنزيفه حتى الوقت الحاضر، وسط صمت عربي ربما وصل إلى درجة التواطؤ الفاضح. ولا يمكن اعتبار استمرار المذبحة السورية على امتداد أكثر من عقد من الزمن استثناءً عمّا جرى من أحداث سابقة، إذ إن نبرة الاستنكار وصرخات الاحتجاج والإدانة لممارسات نظام الأسد بحق السوريين لم تتمكن من ردع الجلّاد ولا من التأثير على سياسات الأنظمة وسلوكها حيال السلطة الحاكمة في دمشق. ولكن على الرغم من ذلك فإنه لا يمكننا بحال من الأحوال اتهام مشاهد السخط الشعبي على النظام الرسمي العربي بالتكرار النمطي، ولا يجوز النظر إليها باعتبارها تعبيراً عاطفياً أنياً تجاه الأحداث، وكذلك من السذاجة اعتبارها نتاجاً لندرةٍ في معرفة ماهيّة الأنظمة الحاكمة وجهلاً شعبياً باستراتيجياتها السلطوية، بل لعله ليس بجديد الذهاب إلى أن صيحة الشعوب وارتفاع نبرة غضبها يتجاوز ردّة فعلها على الحدث كواقعة طارئة، بل إن الحدث – كالحرب على غزة مثلاً – لم يجسّد سوى حالة انفجار لاحتقانات هائلة لدى الشعوب ليس بسبب الموقف المتخاذل حيال غزة فحسب، بل بسبب الخذلان الذي طال تلك الشعوب من حكوماتها قبل أن يطول الفلسطينيين في غزة، إذ إن معاناة الشعوب العربية مع حكامها هي معاناة مركّبة، من جهة تسلّط تلك الحكومات واغتصابها لحقوق مواطنيها واعتبار مصالحها الأمنية فوق مصالح الشعوب أولاً، ومن جهة تخاذلها حيال معظم أشكال العدوان الخارجي الذي جعل منها في أغلب الأحيان أدوات لتحقيق مصالحه ثانياً، ولهذا ربما جاز الذهاب إلى اعتبار المواجهة بين معظم الأنظمة الحاكمة ومحكوميها هي مواجهة وجودية لا يمكن اختزالها بتناقض جزئي أو محدود حيال مسائل عابرة، ولعل استمرار هذه المواجهة هو ما يجعل أي موجة استنكار شعبي حيال حدث ما، تتجاوز حدودها الطبيعية، بل ربما تفضي إلى حالات من انفلات الغضب والعنف الذي تصعب السيطرة عليه.
ولئن انتهت مناورات أنظمة الحكم التسلّطية حيال شعوبها وعلى امتداد عقود من الزمن إلى مواجهة وجودية، فهل ستمتد تلك المواجهة ذاتها لشمل إيران أيضاً؟ ثمة إرهاصات كثيرة توحي بذلك، ليس بسبب سياسات إيران الرامية إلى هدم الاستقرار في المنطقة العربية فحسب، وكذلك ليس لدور إيران في قتل السوريين واستهداف أمنهم وسعيها لمصادرة مستقبلهم، بل لأن إيران ببساطة تريد من الآخرين – عرباً ومسلمين – أن يسلّموا لها بريادة المقاومة ومصادرة قضية فلسطين وتصدّرها لتيار (ممانع) سبق أن بان زيفه وافتُضحتْ أباطيله وبات كذبةً نائية عن التصديق، وربما كانت قضية فلسطين بالذات هي أبرز المحطّات الفاضحة لمنطق المتاجرة والمزايدة التي باتت السمة الأبرز في نهج إيران السياسي. فمنذ السابع من شهر تشرين أول الماضي حين انطلقت عملية طوفان الأقصى خُيّل لكثيرين بأن إيران وأدواتها سوف تكونان الدريئة الأولى لحماية الدم الفلسطيني، بل ربما اعتقد كثيرون أن معركة “ما بعد حيفا” قد حان أوانها، وأن الصواريخ الباليستية الإيرانية ستنطلق من مخابئها لتقصف تل أبيب، ولكن واقع الحال يحيل إلى أن إيران تثبت مرةً أخرى كفاءة عالية في “ضبط النفس” لتحوز على ثناء أميركي وتبرئة مبكرة بعدم ضلوع قادة طهران في عملية طوفان الأقصى، ولا شك في أن إيران تدرك أن الترجمة الحقيقية لغيوم الرضا الأميركي يمكن أن يكون خراجها في طهران أو سوريا أو اليمن، ولكنها – من دون أدنى ريب – لن تمطر إلّا الموت على سكان غزة. ربما كان من الطريف المبكي تصريح قائد الحرس الثوري الإيراني إسماعيل قاآني يوم السادس عشر من الشهر الجاري، وفقاً لوكالة فارس الإيرانية، مخاطباً قائد كتائب عز الدين القسام : (إخوانكم في محور القدس والمقاومة متحدون معكم ولن يسمحوا للعدو بالوصول إلى أهدافه في غزة وفلسطين، إننا نؤكد العهد والميثاق والالتزام الإيماني والأخوي الذي يجمعنا لنطمئنكم بأننا وضمن استمرارنا في الحماية والدعم المؤثرين للمقاومة سنقوم بكل ما يجب علينا في هذه المعركة التاريخية). لا شك لو أن قاآني صرّح بهذا الكلام في الأسبوع الأول من العدوان الإسرائيلي على غزة لاستطاع إيهام الآخرين بالتعويل على مشاركة إيرانية داعمة لحركة حماس، أمّا أن يأتي هذا الكلام بعد توغل إسرائيلي في عمق غزة وارتكاب مجازر متتالية بحق المدنيين، وتصل القوات الإسرائيلية إلى مخيم الشاطئ، وتتمكن من فصل قطاع غزة إلى شطرين، وتحاصر المشافي وتقصف معظم مراكز الخدمات والبنى التحتية، إذاً فما الذي تنتظره إيران بعد؟ هل تنتظر الإجهاز على حماس وإخراجها من غزة، كما خرجت منظمة التحرير من بيروت وحلّ محلّها حزب الله؟.
تلفزيون سوريا
————————————–
مستقبل غزة هو مستقبل المنطقة/ فارس الذهبي
2023.11.18
اشتعلت التحليلات السياسية في أروقة الدبلوماسية العالمية، غداة اشتعال الحرب اللامنطقية بين حماس وحكومة نتنياهو، والتي راح ضحيتها آلاف المدنيين، فمن يحاكم من، ومن يقرر عن من، بكل تأكيد فإن أزمة قطاع غزة المشتعلة منذ عقود إبان استلام حركة حماس السلطة في انقلاب قادته في 2007، وحتى اليوم، تشكل رأس جبل الجليد للقضية الفلسطينية برمتها، قضية الشعب الذي يعاني من ظلم وويلات احتلال دام لعقود طويلة، وبكل تأكيد فإن القضية الفلسطينية تشكل بدورها رأس جبل الجليد لأزمات الشرق الأوسط برمتها، فدول الجوار جميعاً، دول الطوق الأول والطوق الثاني، بالإضافة إلى كل القوى الإقليمية والدولية التي تشارك في إدارة الأزمة، والتي شكلت نسقاً دولياً أفضى إلى الواقع الذي تعيشه شعوب المنطقة ومن ضمنها الشعب الفلسطيني، تدرك أن جميع حلول المنطقة تبدأ وتنتهي بحل شامل وعادل للقضية الفلسطينية، المسألة السورية، والاستعصاء العراقي، الأزمة اللبنانية، والتعنت الإيراني، الركود الاقتصادي في دول الاعتدال، ومشاريع التنمية الرؤيوية لدول الخليج، جميعها لا يمكن أن تمر أو تجد لنفسها مخرجاً دون وجود حل للقضية الفلسطينية.
زعماء العالم، لم يوافقوا على منهج إسرائيل الدموي في القضاء على حركة حماس، بتلك الطريقة الهمجية، ولكن زعماء أوروبا وأميركا وتحت ضغط من اللوبيات انحازوا بشكل غير مسبوق للموقف الإسرائيلي في الأسابيع الأولى، لكن لم يعد في وسعهم الاستمرار في التغطية على حجم الدمار والدم الذي تقوم به إسرائيل تجاه الفلسطينيين، فاليسار الأميركي يضغط بشدة في كواليس الحزب الجمهوري على الرئيس بايدن، وأحزاب المعارضة الأوروبية تستغل القضية لتربط بين موقف الحكومات من حرب أوكرانيا والتورط في حرب غزة، وبالتالي تسعى لإسقاط الحكومات في حال استمرت الحرب، الأمم المتحدة والمنطقة العربية تشعران بالخذلان من شدة العنف الذي استخدمته إسرائيل والذي بات يهدد الاستقرار في عموم المنطقة، دون الحاجة إلى ذكر أن الحرب إن استمرت على ما هي عليه فإن احتمالية توسعها واردة، ودخول أطراف إقليمية حسب مبدأ “وحدة الساحات” الذي سقط سقوطاً مدوياً وجارحاً لما يعرف بـ “محور المقاومة” حتى الآن. مايزال مطروحاً بعيداً عن المحور آنف الذكر، فهناك محاولات حثيثة لتوريط الجيش المصري أو الأردني مثلاً في تلك الحرب.
الدبلوماسية بدأت بالعمل منذ اللحظة الأولى للحرب، فليس هناك مبدأ بإمكانه تحريك عملية السلام المتوقفة منذ عقود، سوى الحرب ذاتها. هذا ما يدركه كبار الدبلوماسية في العالم، وعليه فقد انطلقت التداولات حول ما بعد الحرب على غزة، وكيف يمكن للمنطقة أن تعيش بسلام دون حرب، ودون إغفال لحقوق الشعب الفلسطيني المضطهد والمحروم من أبسط مقومات الحياة.
يتحدث العرب عن مبدأ الدولتين، ويؤيدهم في ذلك بشدة الأوروبيون، والأمم المتحدة، وفرقة كبيرة من العالم. ولكن نتنياهو الذي يقود فريقاً من اليمين المتطرف في حكومته، يرفض هذا المبدأ بشدة، ويحاول أن يناور بشتى الطرق من أجل إيجاد حل لن يسعفه الوقت لإنجازه، فهو يعلم أن نهايته السياسية قد حانت، وأن ما يفعله اليوم سيكون هو السطر الأخير في كتابه السياسي وحياته العملية، فعشرات المحاكمات والتحقيقات بانتظاره حال توقف الحرب، ولن يمكنه هو أو أي وزير متطرف في الحكومة أن يفرض ترحيلاً شاملاً للشعب الفلسطيني من أرضه، وهنا يأتي دور الجيل الجديد في الشعب الإسرائيلي على الأرض المحتلة، وهل بإمكانهم إيصال حكومة منفتحة تجاه القضية الفلسطينية، ستوقع على مبدأ حل الدولتين؟
تتحدث التسريبات الأخرى عن حلول مختلفة تتمثل بدخول قوات فصل عربية، أو قوات فصل دولية لإدارة القطاع بعد “سقوط حركة حماس” إن حصل، ألمانيا مثلاً اقترحت إدارة دولية للقطاع، الأمم المتحدة افترضت إرسال قوات مماثلة لقوات اليونيفيل في جنوب لبنان، أحزاب اليسار الإسرائيلي تحدثت عن فرض سيطرة مصرية على القطاع، وكل هذه السيناريوهات قد خرج مسؤولون كبار من الدول العربية ونفوها، بل ورفضوها إن وجدت.
أما نتنياهو فقد تحدث عن سيطرة أمنية إسرائيلية على القطاع، بما يشبه واقع الحال في الضفة الغربية، ولكنه تجاهل دور السلطة الوطنية الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وبدورها فإن الأخيرة رفضت أي حل لا تكون مضطلعة فيه على إدارة شؤون غزة، لذلك يدرك الجميع وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأميركية بأن فرصة السلام فيما بعد الحرب، لن تتكرر، ويدرك بايدن بأن السنة الأخيرة لحكمه قد تمنحه فرصة تاريخية لإحقاق السلام في الشرق الأوسط، مرة وإلى الأبد، هذا الحلم الذي راود كل رئيس أميركي منذ أكثر من سبعة عقود، ولم يقدر أي منهم على إنجازه.
حينما انسحب أحد أكبر الجنرالات الإسرائيليين من قطاع غزة وفق ما عرف حينها بـ “خطة فك الارتباط الأحادية” لم تحقق عملية “أيام الغضب” أياً من أهدافها، بل تكللت بالانسحاب الذي سيخرج 8500 مستوطن من قطاع غزة، لتبدأ مرحلة جديدة في حياة القطاع عنوانها حروب متتالية كل بضعة سنوات، وعلى عكس ما أراد شارون، لم يفض انسحابه إلى عزل غزة ومشاكل غزة عن المجتمع الإسرائيلي، بل على العكس، فقد نمت مقاومة مختلفة في القطاع استفادت من دروس الأمس وأدخلت مناهج مختلفة في تفادي الاختراق الإسرائيلي، بمعنى أن الإسرائيلي قد استخدم كل أساليب المناورة التي تمنحه القدرة على تفادي خيار السلام العادل، من حروب إلى انسحابات ومجازر وعمليات سلام مجهضة، وتنصل من الاتفاقيات، لكنه في النهاية سيواجه نتائج أفعاله وسيواجه حائطاً مسدوداً لن ينفرج إلا بعملية سلام شاملة تعيد للفلسطينين حقوقهم وتعلن فيها دولتهم المنشودة.
تبقى الأيام حبلى بالتحولات الميدانية، ويبقى الخيار العسكري المفتوح، قابلاً لأي انقلاب، ولكن الدبلوماسية تراقب، وتتبع مسار الأمور، ضمن مؤشرات انكفاء ما يسمى بـ “حلف المقاومة ” الإيراني عن تطبيق مبدأ وحدة الساحات والذي اعتبرته الولايات المتحدة مؤشراً جيداً، وبين رغبة دول الاعتدال العربية في إيجاد حل نهائي لأزماتها وأزمات المنطقة العربية.
تلفزيون سوريا
————————————
إيران: فلسطينُ ليست حربَنا/ د. أسامة عثمان
2023.11.17
كشفت “عملية طوفان الأقصى”، 7 أكتوبر/ تشرين الأول، الفائت، وحربُ الإبادة التي أعقبتها على قطاع غزة حجمَ الاستعداد الإيراني لتحمّل كُلَف المواجهة مع دولة الاحتلال، ومستوى التصعيد الذي ترتضيه طهران.
وبالمقارنة بين حماس، من جهة، وإيران وحزب الله، من جهة أخرى، يظهر أن قادة حماس في فلسطين لم يستسيغوا أن يبلغ التهديد على مستقبل فلسطين والقدس والمسجد الأقصى ذاك الحدّ البالغ الخطورة، حين كانت دولة الاحتلال على وشك الإجهاز على المسجد الأقصى، وفرض السيادة عليه، وعلى وشك الدخول في منعطف يُنهي أيّ آفاق لوجود فلسطيني حرّ، في الضفة الغربية؛ فقررت تنفيذ تلك العملية الفائقة النوعية؛ مع علمها بالنتائج على (مكتسباتها) السُّلْطوية في قطاع غزة، ومجمل وجودها، ومصيرها في فلسطين، وخارجها، قَبِلَتْ تعريض نفسها لحربِ وجود، جِدِّية، وقبلت أن يُستهدَف رأسُها، لا من إسرائيل المطعونة في كرامتها، وفي هيبة جيشها، وفي معنى وجودها، بل إن حركة حماس قبلت أيضًا أن تقف في مواجهة واسعة ومصيرية مع المعسكر الغربي الرسمي، من أميركا إلى الدول الغربية الأخرى.
هذه اللحظة كشفت، مساحات المساومة والاستثمار، عند حماس، مقابل المنطقة المبدئية، والصُّدقية، فقررت المغامرة على مصيرها، وربما كانت تعلم أن إيران وحليفها، حزب الله، لن يمضيا معها إلى هذا المستوى، برغم أن إيران تستفيد من أيّ حرب تُضعِف إسرائيل، أو تصرفها عن ملاحقة إيران، في مشروعها النووي، أو للحدِّ من توسُّعها في المنطقة العربية.
لم ترتدع قيادة حماس، فخاضت هذه الحرب، وارتدعت إيران، وحزب الله، فأبقيا المواجهة مع إسرائيل عند حدود المناوشات (المقبولة) إسرائيليًّا، بالطبع، مع إمكانية أن تضطر الأخيرة إلى توسيع الحرب، في معرِض الرد على هجمات حزب الله، مع أن قادتها لا ينفكُّون يكرِّرون حرصهم على تجنُّب تلك الحرب، وهو الهدف الذي تشاركه إيران وحزب الله.
حتى هذا اليوم، وبعد ما يزيد على أربعين يومًا على العدوان الإسرائيلي البالغ الهمجية، والمحطِّم لكلّ القواعد والأعراف المرعية في مثل هذه السياقات، ما تزال إيران وحزب الله على رأيهما أنه لا سببَ موجبًا للدخول في تلك الحرب، وذلك عبّرت عنه قيادات إيرانية رسمية؛ أنّ هذه الحرب ليست حربَنا، وأننا لن نحارب بالنيابة عن حماس، كما ظهر ذلك، صريحًا في أقوال سفير طهران السابق في الأردن ولبنان، أحمد دستمالجيان، في معرض تأييده الموقف الإيراني الرافض دخول إيران الحرب؛ بـ”أن دعم الجمهورية الإسلامية للقضية الفلسطينية لا يعني خوض معركة تحرير الأقصى المبارك، بالنيابة عن أهل الأرض المباركة”. ثم أوضح عقيدة بلاده العسكرية بأنها “دفاعية وردعية تتبنَّى عنصر الضربة الثانية”، إذا تعرَّضت سيادة البلاد إلى تهديد، ومن ثم فإنها لا تسمح بخوض المعارك، قبل الاعتداء على الأراضي الإيرانية”.
هذا، لا بدّ، يأخذنا، سريعًا، إلى حربها في سوريا؛ كيف أنها قبِلتْ أن تقاتل بالنيابة عن بشار الأسد، بل كيف أنها استحوذت على القرار الفعلي، في أكثر من مرحلة من مراحل الصراع في سوريا، والسؤال: لماذا؟
القضية، بالطبع، ليست مبدئية، في رفْض النيابة عن طرف، لو أنه معدود في محور الممانعة والمقاومة، لأنها قبلت أن تلغي، تقريبًا، النظام الحاكم في دمشق، في حمأة انخراطها في محاربة الإرادة الشعبية السورية لتغييره، وإنما يكمن السبب، ظاهريًّا، في الثمن المطلوب دفعه، ففي سوريا، استطاعت الإمعان في القتل والتدمير، وهي تعلم، أنْ لا ثمنَ حقيقيًّا يترتَّب عليها، بل إن الولايات المتحدة مضت في اتفاقات مع إيران، بعد كل الذي فعلته في سوريا والمنطقة، ولولا بعض المحاذير الداخلية لإدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، لمضت الانفراجة في العلاقات الأميركية الإيرانية إلى نقطة أبعد.
أما في موضوع فلسطين فالثمن المتوقَّع أكبر وأخطر، فلذلك، بدَتْ قائدة الممانعة والمقاومة، والحاملة لشعار القدس، في منتهى العقلانية، وهي ترى استئساد دولة الاحتلال، وغطرستها، وحتى تحذير مسؤوليها وتبجُّحهم بقدرتهم على ضرب أي بلد في المنطقة؛ ما يذكِّر إيران وغيرها بالخطر الذي يصبح أكثر احتمالًا، فيما لو حققت إسرائيل إنجازات مهمة في غزة، يمكّنها من شغْل دائرة نفوذ وتأثير أكبر في الإقليم؛ من شأنه التضييق على النفوذ الإيراني فيه.
إيران، ببساطة، استقوت على السوريين، واستعرضت قوتها على ثورة لم تكن في السياق الأميركي، حين لم تقدّر واشنطن، مع تعاقُب عددٍ من الإدارات؛ من باراك أوباما، إلى دونالد ترامب، وحتى جو بايدن، أنَّ تغيير نظام الأسد مصلحة أميركية، أو على الأقل، أمرٌ ملحّ، ونهائي، ولكن أميركا، على اختلاف رؤسائها من الجمهوريين إلى الديمقراطيين يرون وجود إسرائيل، وحمايتها، مصلحة استراتيجية غير قابلة للمساومة، أو التنازع حولها، وهذا ما عبَّرت عنه ردّةُ الفعل الأميركية، بالأقوال والأفعال والحشد العسكري، حتى بدا المشهد، وكأن أميركا تتولَّى بنفسها قيادةَ الحرب، فهي حربُها. وهنا وقفتْ إيران على مقادير الخطورة.
ويحجّم إيران اعتبار آخر قريب من السبب السابق؛ أنَّ النطاق الذي ترى فيه نفسها هو النطاق الإقليمي بالتنافُس مع قوى إقليمية، كتركيا، أو عربية، كالسعودية، ومصر.
فهنا مرحلة مهمة، في التصوُّرات عن دور إيران وأولوياتها الحقيقية، يُظهِر أن إيران لا ترى فلسطين، (حتى لو بلغت مخاطر استهدافها؛ بمقدّساتها ومقدّراتها مرحلة مصيرية) مصلحةً تستدعي الاستنفار الكلي، الحاسم، حجتها في ذلك أنها لن تحارب بالنيابة عن أهل فلسطين، أو قوى المقاومة فيها، مع علمها بأن المعركة بين الطرفين غير متكافئة؛ وهي بشكل واضح لصالح دولة الاحتلال، إن لم يكن بالانتصارات العسكرية فبكافّة أساليب التفوُّق الميداني، بالتضييق، الاقتصادي، والمعيشي، من خلال التحكُّم بالمعابر ومجمل الحياة الفلسطينية، اليومية، والمستقبلية، كما يتجلى في الاستيطان الذي لا تقوى حتى الآن قوى المقاومة على وقفه، أو تهويد القدس، مثلًا، وغير ذلك.
ثم إن المسألة ليست الحرب بالنيابة عن أهل فلسطين، أو حماس، وإنما بالمشاركة والانضمام إلى هذا المجهود الحربي، في هذا الوقت والظرف والعصيب، حيث يستفرد الاحتلال، بكل همجيته بأهل غزة، وحتى الضفة الغربية، مُوقِعًا المجزرة تلو المجزرة، على مرأى من العالم الإسلامي والعربي، والعالم أجمع؛ ما يرفع فاتورة الدم، في صفوف المدنيِّين، بوصفهم، وَفْقَ الاحتلال، الحاضنةَ الشعبية التي تحمي، وتُنْجِب هذه الظاهرة القتالية، المتمثلة في حماس وفصائل المقاومة الأخرى، هذا فضلًا عن تدمير كل المراكز الطبية، والروحية، من مساجد وكنائس، والتعليمية، من مدارس وجامعات؛ ما يعني استهداف الكيان الاجتماعي الفلسطيني كلّه؛ سعيًا إلى تهجير الفلسطينيين، وفق المخططات الإسرائيلية المُبَيَّتة.
هذا الأمر، وهو استنصار القوى الإسلامية والعربية، واستنفارها، كرَّرت الدعوة إليه قياداتُ حماس، وعلى رأسهم القائد العسكري، محمد الضيف، مع بدء “عملية طوفان الأقصى”، على اعتبار أنها ليست معركة حماس وحدها، وكذلك الناطق العسكري الرسمي لكتائب القسام، أبو عبيدة، بوصْف ذلك واجبًا، تُمليه معاني الانتماء.
فهل، بعد اليوم، تكفُّ إيران عن مبالغاتها الاستثمارية في شأن فلسطين والقدس، وتقول إنها مجرد دولة إقليمية طامحة، تحترم التواضُعات الدولية، ولا سيما المتعلقة بإسرائيل، والدور المخوّل لها، غربيًّا؟
تلفزيون سوريا
————————————
إسرائيل ومحاولة عكس عقارب الزمن/ فراس رضوان أوغلو
2023.11.17
نجحت إسرائيل على مدى عقود بتدوير عقارب الزمن وفق بوصلتها الاستراتيجية ومصالحها السياسية ابتداءً من اتفاقية السلام مع مصر (كامب ديفيد 1978) وصولاً لاتفاق (أوسلو 1993) مع حركة فتح الفلسطينية وما تبعها بعد ذلك من اتفاقيات سلام بين عدة دول عربية وإسرائيل، منذ ذاك الوقت وحتى فترة قريبة نجحت من خلالها إسرائيل بإيجاد موطئ قدم لها سياسياً وإعلامياً واقتصادياً من أقصى الغرب العربي (المملكة المغربية) حتى أقصى الشرق (دولة الإمارات العربية المتحدة)
ومما لا شك فيه أن عملية طوفان الأقصى التي قامت بها حركة حماس ومن معها من فصائل في السابع من أكتوبر قد أوقفت عقارب الزمن التي نجحت إسرائيل بتوجيهها نحو مصالحها، بل إن هذه العقارب الزمنية راحت تتحرك عكس المصالح الإسرائيلية بعد أن بدأت إسرائيل عمليتها العسكرية ضد قطاع غزة، فهذه العملية طردية كلما زادت مدة الحرب والقتل ضد هذا القطاع زادت معه الخسائر الإسرائيلية، وهنا لن أتكلم عن الخسائر العسكرية بل خسائرها في كل مجالات التقرب من المجتمعات العربية والإسلامية التي نجحت فيها خلال العقد الماضي، حتى إنها أصبحت جزءاً يؤثر ويتأثر بما يحصل في المنطقة العربية وكان هذا جلياً في الثورة السورية.
إسرائيل التي نجحت في زرع نفسها في اللاوعي الفكري المجتمعي في المنطقة العربية (ولو بشكل جزئي) على حساب بعض الأنظمة التي شهدت انهياراً مجتمعياً قبل أي انهيار آخر مثل ليبيا وتونس وسوريا والسودان، مما فسح المجال للإعلام الإسرائيلي بالوجود، ومما جعل فكرة ارتباط ساحات المصالح الإسرائيلية مع بعض المصالح العربية أمراً واقيعاً ومقبولاً في التفكير المنطقي عند شريحة كبيرة من بعض المجتمعات العربية، مثل منتدى شرق المتوسط والصراع بين شرق ليبيا وغربها على السلطة، حتى إن إسرائيل أصبحت جزءاً من صراع المحاور وصراع الاستراتيجيات في المنطقة العربية (صراع النفوذ العربي الإيراني) الصراع العربي العربي في قضية الصحراء بين المغرب والجزائر.
في خضم ما يحصل في قطاع غزة يمكن القول إنه لا يمكن لإسرائيل وقف عجلة الزمن أو أن تظل إلى ما لا نهاية تتلاعب بمصير الشعب الفلسطيني، منطق كهذا ليس مجرد موعظة من فوق أحكام التاريخ أو طرح مجاف للحقيقة خارج حتمية التدافع الحضاري، فالواقع اليوم يقول إن الخط البياني لعملية طوفان الاقصى يشير بما لا يدع للشك أن هناك تقدماً هائلاً فاق جميع الحسابات في قدرة المقاومة الفلسطنينة على الردع، وأن حدثاً مدوياً أربك الجيش الإسرائيلي وأحبط معنوياته متجاوزاً فلسفة الدفاع إلى الأخذ بزمام المبادرة بالمفهوم الاستراتيجي للمعركة، واللذين يصنعان الحقب الحضارية الموسومة بعنصر المفاجأة بينما توقف تكتيك الجيش الإسرائيلي في ارتكاب مجازر بحق الأطفال والنساء لتحقيق أي نصر ممكن، رغم توغله داخل قطاع غزة لكن القضية اليوم ليست لصالحه كما كانت في السابق، فالعالم الحر لم يعد يقبل بإغفال الضمير والوعي كي يبرر انتهاكات إسرائيل للقوانين والأعراف الدولية وارتكاب جرائم حرب كما أنه سيضيف عليها نمط النهج الإجرامي، وهو العبء الذي لم يعد بمقدور إسرائيل تحمله دون أثمان باهظة لن تقوى على دفعها، فالمظاهرات المؤيدة لأهل غزة والقضية الفلسطينية خرجت من قلب الدول التي دعمت إسرائيل في حربها اليوم بيمنا لم يشاهد مظاهرات بالاتجاه المعاكس.
القيادة الإسرائيلية تعلم تماماً أن الوقت ليس لصالحها لذلك هي تسعى لثغرة نصر في غزة تبني عليها معادلات جديدة تكون نقطة انطلاق لانتصارات لاحقة لإسرائيل تُقطف ثمارها على المدى البعيد، فما خسرته اليوم هو خسارة لعمل عدة عقود من الزمن كانت تنجح في جعل عقارب الزمن تدور لصالحها، بيمنا اليوم نجحت حماس في خطف انتصار زمني يُبنى عليه كثير من استراتيجيات دول المنطقة وفي الوقت نفسه تسعى إسرائيل لاستغلال هذا الأمر لتغيير واقع غزة سواءً بالتهجير أو التدمير، وكل هذا يحتاج لوقت قد لا يُسعف تل أبيب التي تسعى لعكس عقارب الزمن.
تلفزيون سوريا
———————————–
“دمشق تل أبيب” الرعب كمحرّك لآلة القتل/ مالك داغستاني
2023.11.16
قبل أيام قليلة، تصادف لي أن اطلعت، عبر صديق، على “مجموعة خاصة” في وسائل التواصل لأفراد إسرائيليين. فتاة في تلك المجموعة، سألتْ أصدقاءها، كيف عليها أن تتصرف وهي عائدة من إسرائيل إلى برلين، حيث تقوم بتدريس مادة التطوير الصوتي في إحدى الأكاديميات، ولديها في الصف طالبة عربية! كانت تخشى إن كانت تلك الطالبة تعرف أنها قادمة من إسرائيل، وتتساءل أو تطلب النصيحة، هل عليها أن تسأل المدير الوجود معها في الصف عند وصولها بسبب أن لديها خوفا وجوديا من تلك الطالبة، حسب تعبيرها حرفياً. أخيراً تقترح على النساء الإسرائيليات الموجودات في برلين أن يلتقين على تطبيق “زوم” لتبادل الخبرات حول مخاوفهن من العرب.
صيف عام 2011، شاهدت بنفسي، في مدينتي حمص، عشرات الشبّان يحملون العصي الغليظة، وما تيسّر لهم من أدوات، ويقفون على مدخل “شارع الحضارة”، بهدف حماية أحيائهم، بعد أن سرت شائعة تفيد بأن أهالي حي بابا عمرو سوف يهاجمون أحياء العلويين. انتظر هؤلاء الشبان المستنفرون حتى المساء، دون أن يساورهم الشك بأن العدوان حاصل لا محالة. انتظروا عدواً لم يأتِ ولن يأتي. تكرر الأمر بعدها كثيراً، وفي كل مرة كانت تلك الاستنفارات تحصل عقب تحذيرٍ، مصدره أمني كما سيعلم الجميع فيما بعد، يقول إن “الإرهابيين” قادمون لقتلكم واغتصاب نسائكم. وفي كل تلك المرات تصادف أن العدو المنتظر لم يحضر.
لا أعرف بالطبع كيف سارت الأمور مع الفتاة الإسرائيلية فيما بعد، ولكني أكاد أجزم أنها دخلت الصف وأعطت درسها، وكانت الطالبة العربية كغيرها من الزملاء تصغي باهتمام، وتدوّن الملاحظات على دفترها. وأعرف أكثر، أن خوف تلك المدرّسة كان يشبه إلى حد كبير حال الشبان الذين انتظروا هجوماً من بابا عمر ولم يحدث. المثالان في الحالتين، كما يسهل الاستنتاج، كانا نتيجة تعبئة مسبقة مشغول عليها، ترسم صورة نمطية عن الآخر العدو، بل عن مجاميع بشرية من الأعداء، الذين يتحضّرون لقتلكَ في اللحظة التالية، ولا هدف لهم في الحياة سوى فعل ذلك.
يحتاج أي نظام إباديّ إلى دبِّ الرعب في قلوب وعقول من يعتبرهم مجموعته البشرية، غالباً رعبٌ محمول على سوابق تاريخية حدثت خلال اعتداءات فعلية. رعبٌ سيساعد في تشكيل منظومة من أفرادٍ يهجسون بالدفاع عن وجودهم، فيتحول جزء منهم إلى قتلة مرتاحي الضمير، بحسب تركيبةٍ نفسية نمت معهم منذ النشأة الأولى، ويستسيغ البقية، ممن لن يشاركوا مباشرة بالإبادة، قتلَ المختلفين الدفاعي حسب قناعتهم باعتباره يهدف للحفاظ على الوجود. قلائل هم من ينجون، فينأون بأنفسهم عن الوقوع في هذا الفخّ المريع إنسانياً.
من تابع حسابات الموالين لنظام الأسد على وسائل التواصل الاجتماعي، منذ عام 2011، بدايات الثورة السورية، لا بدّ لاحظَ كمية الخوف التي كانت تنِزُّ من تعابيرهم. بدا الأمر وكأنه ينطوي على خوف أصيل من الآخر المختلف طائفياً. الآخر الذي ينتظر اللحظة المؤاتية لينقض عليهم ويقتلهم، بل ويبيدهم عن آخرهم. من هنا تماماً تبدأ الحرب المزعومة للدفاع عن النفس، التي تبيح انتهاك أية أعراف ومعايير. تبيح القتل والتدمير، بل وتذهب بتلك المجموعات البشرية لأن تطلب المزيد منه، باعتباره غير كافٍ للحفاظ على الوجود المهدَّد.
شاب إسرائيلي يعرض قضيته، فيخبر الأصدقاء أنه قادم إلى ألمانيا قريباً، ويتساءل هل هناك مشكلة مع السائقين الأجانب (طبعاً يقصد العرب أو المسلمين) على تطبيق “أوبر”؟. “هل من الأفضل أخذ سائق أعرفه شخصياً حتى أشعر بالأمان؟”. سيدة إسرائيلية لديها مشكلة أكثر هولاً: “أعيش في إسرائيل، ومن المفترض أن أصل إلى برلين نهاية شهر نوفمبر، لحضور حفلة مادونا. إنني مرتبكة للغاية بسبب تحذيرات السفر إلى جميع أنحاء العالم، المنشورة في إسرائيل. لدي جواز سفر بولندي. بافتراض أنني بالطبع لن أسير في الشارع والعلم الإسرائيلي على ظهري ولن أتحدث العبرية. ما مدى خطورة التجول هناك؟ خصوصاً أن معي أطفالا لا أريد تركهم في البلاد خلال الأوضاع الحالية”.
وددتُ لو أني استطعت التعليق على ما جاء في منشور تلك السيدة، بل ورغبت أكثر لو استطعت الإجابة على الشاب الإسرائيلي بورا شاماي الذي تساءل “كيف سمحت أوروبا لهذا العدد الكبير من البدائيين الهمج من العالم الثالث بتدميرها من الداخل؟”. في سوريا أيضاً كان هناك من يتحدث عن مواطنين متحضرين مرعوبين، يوالون الأسد ويؤيدون قصفه بالبراميل والكيماوي للهمج المتخلفين في غوطة دمشق وإدلب وعشرات المناطق الأخرى. مع مرور السنوات اكتشف مئات الآلاف من هؤلاء، في فترات متفاوتة، أن الأسد كان يتاجر برعبهم ويغذّيه، فعادوا إلى حياتهم الفقيرة، لتأمين حياة الكفاف لأسرهم. لكن بالتأكيد كان من ضمن هؤلاء من سيُعرَفون تحت مسمى “الشبيحة” الذين اشتركوا مع الأسد، كلٌّ من موقعه، في كامل جريمة الإبادة.
ربطاً بما سبق، فإن ما يحدث في غزّة اليوم يؤكد أن منظومة الرعب المشغولة بإتقان هي التي تحرك المجتمع الإسرائيلي لتجعله، بأغلبيته، موافقاً على الإبادة التي تطحن القطاع في كل لحظة. وحتى لا أقفز من فوق الوقائع، فإنَّ حَدَثَ السابع من أكتوبر، وقتل حماس لعشرات الإسرائيليين، وأخذ الكثيرين منهم رهائن، ليس المحرك الأساسي لهذا الرعب. هو ساهم فقط في زيادة حدّته، لأنه رعب مشغولٌ عليه تاريخياً، وما كان من حماس، بفعلتها المغامِرة تلك، إلا أن دفعت به إلى الواجهة، وعلى الفور استلمت الحكومة المتطرفة في تل أبيب الدفَّة لتغذيته.
البيئة الاستعصائية التي يولّدها الظلم، هي المكان الأمثل لولادة التطرف المقابل. ما يستتبع أن الطرف الآخر يقدّم، عبر ممارساته المتطرفة، مادةً مثالية لتغذية الرعب المحلي والعالمي. حدث هذا في سوريا عبر الجهاديين الذين تقاطروا إليها من كل أطراف الأرض، ومارسوا كل ما ساهم بوسم الثورة السورية في الإعلام الدولي، بأنها ثورة متطرفين، ليتم إجهاض كل تضحيات السوريين، ولتصبح المقارنة بين نظام إجرامي وجماعات جهادية راديكالية. اليوم يشتغل الإعلام الدولي على ذات المنوال، للمقارنة بين إسرائيل وحماس، فيصف الأخيرة على أنها داعش، ويشبِّه ما حدث في غلاف غزّة بعملية الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، متجاهلاً إلى حدٍّ كبير عدالة القضية الفلسطينية.
استذكار بعض القادة الإسرائيليين اليوم لجرائم الأسد ليس أمراً نافلاً، حين يقولون إنهم لم يفعلوا أكثر مما فعله الأسد بالسوريين. وهذا يدلل أكثر على التشابه في آلية تضخيم الرعب واللعب عليه، الذي يؤدي إلى ذات النتائج من استسهال القتل والتدمير، بما فيه تفجير المدارس والمستشفيات وقتل الأطفال والنساء، كما استمر في الحدوث في سوريا خلال أكثر من عقد، وكما يحدث في قطاع غزّة منذ أكثر من شهر.
يبدو لي، أن التواطؤ البشري مع الجريمة يرافقه، بالعمق وربما باللاشعور لدى صاحبه، الإحساس بأنه قد حصل على ما ليس من حقه. دولةٌ عل حساب حرمان السكان الأصليين من دولتهم وأراضيهم وبيوتهم في حالة إسرائيل. واحتكار السلطة ومنافعها، ولو كانت فتاتاً، في حالة السوريين الموالين. يعرف كل إسرائيلي أن أصحاب الأرض الأصليين يتوازعون مشارق الأرض ومغاربها، لاجئين بعد أن شردهم الاحتلال. كما يعرف الموالون السوريون لنظام الأسد الإباديّ أن ملايين السوريين قد هُجِّروا قسراً من بلادهم، بعد قتل مئات الآلاف منهم، وأكثر من ذلك يعلم الطرفان، أن أصحاب الحق، لا المتطرفين، هم المرعبون ولا بدَّ من إبادتهم.
تلفزيون سوريا
———————————–
كيف ستنتهي الحرب على غزة؟/ رضوان زيادة
2023.11.16
بدأ يطرح هذا السؤال بعد عملية الاجتياح البري التي قامت بها إسرائيل ضد سكان القطاع والتي أصبحت واضحة في همجيتها واستهدافها السكان المدنيين والمنشآت الطبية والحيوية، فضلا عن قطع الكهرباء والطعام والماء عن السكان منذ اليوم الأول من العملية العسكرية، كما أن القصف الجوي العشوائي لم يتوقف يوما عن إنزال القنابل بكل أنواعها ضد المدنيين بشكل لم يسبق له مثيل.
لكن السؤال ماذا تريد إسرائيل من كل هذا الخراب والتدمير، هل تتوقع إسرائيل القضاء على حماس كليا بعد هذه الحرب وهو ما يستبعده الجميع بسبب قدرة حماس على تجميع قواها، وعدم قدرة إسرائيل على الانتهاء من العملية البرية كما خططت من قبل.
لكن السؤال إذا متى سينتهي الصراع، وكيف ستكون نهاية هذه الحرب غير المتكافئة أبدا بين جيش كبير مدعوم من قبل الولايات المتحدة، ومنظمة عسكرية قوامها من المدنيين المدربين بشكل محدود، وهو ما قاله الرئيس أوباما أن مشكلة هذا الصراع أن أحد الطرفين يبدو قويا بشكل لا محدود والطرف الآخر يبدو ضعيفا بشكل لا محدود أيضا، لكن تجب الإضافة أن الطرف الأول يجد نفسه محميا من قبل القانون الدولي بدون أي رادع ومدفوعا بغرور القوة العمياء التي يمكن أن تبطش بدون أي توقف أو محاسبة.
بدت فظائع القوات الإسرائيلية على أشدها في قصف المستشفيات وحصارها وقطع الكهرباء عنها ووفاة الرضع الخدج في هذه المستشفيات، وقد قامت إسرائيل بحصار القطاع منذ اليوم الأول وقطعت إمدادات المياه والكهرباء والوقود والغذاء عن سكانها الفقراء البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة.
إن نتيجة الحرب غير مؤكدة بالنسبة لإسرائيل فهي كما ذكرت لن تستطيع تحقيق نتائجها فيما يتعلق بالقضاء على حماس أو تحرير الرهائن بدون عملية لتبادل الأسرى بين الطرفين، وهو الهدف الذي وضعته حماس من الطرف الأول.
بدأ الضغط الدولي من أجل وقف إطلاق النار يتصاعد من قبل الدول الأوروبية وداخل الولايات المتحدة التي ما تزال إدارة بايدن تتردد في المطالبة بوقف إطلاق النار، لكن الضغط عليها يتصاعد من قبل نشطاء السلام وأعضاء الحزب الديمقراطي داخل الكونغرس ولذلك أعتقد أنها مسألة وقت قبل الحديث عن وقف إطلاق النار.
وبالتالي هدف إسرائيل بـ “القضاء” على حماس مرة واحدة وإلى الأبد، ووعد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بـ “هزيمتهم حتى الموت” لن يتحقق، والكل يدرك أنه مستحيل التحقق على الأرض.
تشير إسرائيل أنه لن تكون هناك عودة إلى الوضع الراهن المتمثل في أعمال العنف المتفرقة والهجمات الصاروخية والمناوشات والقتال قصير الأمد بسبب سيطرة حماس على قطاع غزة في عام 2007 بعد انسحاب إسرائيل من القطاع في عام 2005. فقد أصبح إيقاع الصراع بين إسرائيل وحماس روتينيا على نحو متزايد، مع قيام حماس بعمليات عسكرية محدودة تليها أعمال انتقامية إسرائيلية يمكن التنبؤ بها وهو ما ترغب إسرائيل أن تنهيه، وهو ما يبدو مستحيل التحقق حيث زادت شعبية حماس بشكل كبير داخل القطاع وربما زادت نسبة التطوع العسكري داخلها بشكل كبير.
لكن التكلفة البشرية لمحاولة إسرائيل القضاء على حماس – نظراً لأن الفلسطينيين غير قادرين حالياً على مغادرة غزة – غير مسبوقة ولا أعرف إذا كانت إسرائيل كما في كل مرة يمكنها أن تتجاوز القانون الدولي بفضل الحماية الغربية لها.
لقد سويت أحياء بأكملها بالأرض في غزة بالفعل، مع بلوغ عدد الشهداء أكثر من 11 ألف شهيد وأكثر من 4000 طفل، وهو ما يبدو واضحا أن المدنيين هم من دفع الثمن الأكبر من هذه العملية العسكرية وأن الادعاء الإسرائيلي بتحييد المدنيين يبدو غير مطابق للواقع أبدا.
باختصار، إن إسرائيل تستطيع أن تبدأ الحرب لكنها لن تنتهي كما تتوقع وربما يكون الثمن الذي ستدفعه إسرائيل سياسيا في المستقبل مع تصاعد الاحتجاجات أكبر بكثير مما تخيلته قبل الحرب.
تلفزيون سوريا
—————————————-
عن انشغال السوريين بالحرب الإسرائيلية على غزة/ عمر كوش
2023.11.15
ليس مستغرباً أن يكون السوريون من أكثر شعوب العالم انشغالاً وتأثراً بالحرب العدوانية التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، بالنظر إلى اعتبارات وحيثيات عديدة دفعتهم إلى متابعة ما يجري للشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية، وإبداء معظمهم التضامن معه، وجاءت مواقفهم مستندة إلى عدالة القضية الفلسطينية واعتبارها قضية مركزية، وإلى الترابطات والتقاطعات بين ما يُرتكب من جرائم في كل من فلسطين وسوريا، وتطلع الفلسطينيين للخلاص من الاحتلال الاستيطاني الصهيوني وتطلعهم إلى الخلاص من نظام الأسد الإجرامي.
كما أنه ليس مستغرباً أن يستغل نظام الأسد التركيز الدولي والعربي على الحرب الإسرائيلية، كي يصعد من حربه على مناطق إدلب وجوارها، فقد تعود على استغلال كل الظروف الدولية والإقليمية من أجل الإمعان في قتل السوريين، في حين آثر هذا النظام النأي بنفسه حيال ما يجري للفلسطينيين، ولم تسمح سلطاته لأي مظهر تضامني معهم، حيث فرضت أجهزته الأمنية على الفصائل الفلسطينية حصولها على “موافقة أمنية” مسبقة قبل تنظيم أي فعالية تضامنية، ورفض تنظيم أي مظاهرة تضامنية مع أهل غزة. وباستثاء إطلاق ميليشيات إيرانية وفلسطينية بعض الصواريخ والمسيرات باتجاه الجولان المحتل، فإنه لم يصدر عن نظام الأسد أي تصريح، إلا بعد مجزرة المستشفى المعمداني، التي وصفها بإحدى أبشع المجازر ضد الإنسانية، متناسياً الهجمات البشعة والمتعددة، التي قامت بها قواته والقوات الروسية، ودمّرت خلالها عشرات المستشفيات والمراكز الصحية في مناطق سيطرة المعارضة، خلال الحرب المستمرّة التي يشنّها عليها منذ 2011.
لم يتوقف النظام عند انشغال العالم والعرب بالحرب الإسرائيلية على غزة، بل أيضاً استغل بشار الأسد دعوته إلى القمة العربية الإسلامية، التي عقدت في الرياض السبت الماضي، كي يتشدق بعبارات تنطبق عليه أيضاً، حين تحدث عن تفوق الصهيونية على نفسها في الهمجية، وكل من سمعه يعلم جيداً أن همجيته ضد السوريين والفلسطينيين لا يمكن إغماض العيون عنها، حيث ما تزال حفرة التضامن وسواها شاهدة عليها، فضلاً عن مجزرة غوطتي دمشق بالسلاح الكيمياوي، التي ارتكبها ضد المدنيين العزل في 2013. كان عليه أن يخجل من نفسه لو بقي لديه ذرة ضمير إنساني، والأهم أنه كان على منظمي القمة ألا يدعو مجرماً مثله لحضورها، خاصة وأنها عقدت لاتخاذ مواقف ضد جرائم إسرائيل، التي لا تفترق عن جرائم الأسد.
لم يأت الأسد على ذكر “وحدة الساحات”، وقد سبقه في ذلك حزب الله اللبناني، عندما تنصل أمينه العام من تبعاتها، واعتبر عملية “طوفان الأقصى”، التي قامت بها حركة حماس في 7 من أكتوبر/ تشرين أول الماضي، عملية فلسطينية مئة بالمئة، كي يبرر تنصله، وبالتالي، فإن الحرب الإسرائيلية على غزة كشفت زيف شعارات المقاومة والممانعة التي يرفعها المحور الإيراني، وبات قواها الأخطبوطية في حلّ من تبعات ما يجري في غزة، وغير معنية بالرد على إسرائيل، التي لم تتوقف عن قيامها بقصف شبه يومي لمواقع إيرانية في سوريا ولمواقع قوات الأسد أيضاً. ولم يعد في وسع نظام الأسد الاستمرار في المزاودة على الفلسطينيين، واللعب بقضيتهم، بوصفها ورقة في يديه، خاصة بعد انكشاف وجهه الطائفي، وانحسار مزاوداته بالشعارات القومية العربية.
بالمقابل، كان طبيعياً أن يركز معارضو نظام الأسد على الترابط بين الحربين، الإسرائيلية على غزّة والأسدية على إدلب، على الرغم من تباين مواقفهم حيال العملية التي قامت بها حماس، لذلك أثروا إبراز الروابط العميقة بين القضيتين الفلسطينية والسورية، خاصة في ما يتعلق بجوهر الممارسات والسياسات بين الاحتلال والاستبداد، التي تهدف إلى القتل والتدمير، والسيطرة على الأرض وتهجير ساكنيها قسرياً. وهو أمر لم يخفيه ساسة الاحتلال الإسرائيلي، حيث أجبرت آلتهم العسكرية معظم سكان شمالي غزة على ترك أماكن عيشهم والنزوح إلى جنوبها، وما زالوا يسعون إلى تسويق مخططهم الرامي إلى تهجيرهم نهائياً من غزة نحو سيناء، وهو أمر رفضته مصر.
تنتاب السوريون في مناطق سيطرة النظام مشاعر متناثرة، فهم لم يخرجوا من الكارثة التي ألمت بهم، نتيجة ممارسات النظام والاحتلالين الإيراني والروسي، لكن ذلك لم يمنع تمسك معظمهم بالموقف الرافضة لهمجية إسرائيل والتمسك بعدالة القضية الفلسطينية، ولعل ما يجري يعمق المظلومية التي أحاقت بأهل فلسطين، وأحاقت بهم كذلك، فضلاً عن مأساوية الأوضاع الداخلية التي يعانون منها، لكنها لا تمنعهم من التمسك بفلسطين، انطلاقاً من أبعاد وجودية وإنسانية، تتخطى السياسة الضيقة، وخاصة تغيير مواقف حركة حماس من النظام السوري الثورة السورية.
لا شك في أن شراسة استهداف نظام الأسد إدلب ومناطق الشمال الغربي في سوريا بالتزامن مع الحرب الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني، وتشابه السياسات والممارسات، تشير بوضوح إلى أن الخلاص من الطغيان لا يفترق عن السعي إلى التحرّر من الاحتلال، وأن دم الضحايا واحد، ومن غير الممكن الفصل بين حقّ الشعوب في التحرر، وحقها في العيش بحرية وكرامة، فضلاً عن أن الصور الفظيعة لجرائم إسرائيل، التي تتناقلها وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، تشير بشكل جلي إلى فداحة المجاز وهمجية المعتدي الإسرائيلي، ولعل الدعم الذي يتلقاه ساسة اليمين العنصري المتطرف في إسرائيل من طرف أغلب ساسة دول الغرب ووسائل إعلامها، يدلّ على ضياع الإنسانية وغياب الضمير الإنساني لديهم، إنه عار يلحق بكل من يحاول تبرير جرائم الإبادة الجماعية.
السوريون ليسوا وحدهم من ينشغل بما يجري في غزة، وليسوا كذلك وحدهم من يتضامن مع الشعب الفلسطيني ضد همجية إسرائيل، بل شعوب كثيرة في العالم عبرت عن تضامنها بخروج أعداد كبيرة منهم في مظاهرات حاشدة، عمت شوارع واشنطن ونيويورك ولندن وباريس وبرلين وسواها من المدن في العالم، لكن ما يميز السوريين هو أن مشاهد القتل والدمار التي تخلفها الآلة العسكرية للاحتلال الصهيوني، تذكرهم بما حلّ بهم وببلادهم، من جراء الحرب التي شنها عليهم نظام الأسد، بدعم إيراني وروسي، منذ أكثر من 12 عاماً، والتي أفضت إلى تحويل معظم مدنهم وبلداتهم وقراهم إلى خرائب، وإلى تهجير أكثر من نصف السوريين من أماكن عيشهم وسكناهم.
تلفزيون سوريا
————————————–
بشار الأسد في القمة الطارئة.. ضحكات صبيانية على وقع الكارثة/ عبد القادر المنلا
2023.11.15
قبل أكثر من عشر سنوات، كان زعماء الدول العربية والإسلامية مشغولين بعقد مجموعة من القمم الطارئة لمناقشة جرائم الأسد بحق السوريين، وها هم اليوم يجتمعون لمناقشة جرائم بنيامين نتنياهو بحق الأهالي في غزة، ولكن بحضور بشار الأسد هذه المرة، أي بحضور المجرم ذاته الذي كانوا يجتمعون لإدانة جرائمه قبل عدة سنوات..
لم يكن على زعماء العالم العربي والإسلامي وهم يتأهبون للسفر للمشاركة في اجتماع القمة الطارئة المخصصة لبحث تداعيات الحرب في غزة، أن يتجشموا عناء كتابة كلمات أو خطابات جديدة، فيكفي أن يسترجعوا خطاباتهم التي ألقوها في قممهم التي خصصوها لإدانة جرائم الأسد، وما عليهم سوى تغيير اسم المكان واسم المُدان، فجوهر خطابات الزعماء المشاركين في القمة العربية والإسلامية تركز على المذابح والقصف والدمار والتهجير وقصف المستشفيات والبيوت وتدميرها على رؤوس ساكنيها، واستخدام القوة المفرطة ضد المدنيين، وذلك كله مكتوب سلفاً في خطاباتهم السابقة التي تناولوا فيها جرائم بشار الأسد، ويبدو أن هذا هو بالضبط ما فعله القادة العرب، إذ لم تختلف كلمات الإدانة التي استخدموها بحق نتنياهو عن تلك التي استُخدمت سابقاً بحق الأسد..
ولو أحصينا أعداد الضحايا الفلسطينيين الذين قتلتهم إسرائيل منذ تأسيسها حتى الآن، لما وصلت إلى عدد الضحايا السوريين الذين قتلهم بشار الأسد وحده خلال سنوات الثورة عليه، ناهيك عمن قتلهم أبوه سابقاً، ولو تأملنا حجم الدمار في غزة فلن يكون سوى صورة مصغرة عن حجم الدمار الذي خلفه الأسد في المحافظات والبلدات والقرى السورية، والأمر ذاته ينطبق على أعداد المعتقلين وأعداد المهجرين، رغم أن إسرائيل تتعامل مع الفلسطينيين على أنهم أعداء وليسوا مواطنين تمردوا على نتنياهو..
رغم بشاعة جرائم الاحتلال الإسرائيلي وقسوتها المفرطة، فإن ما ارتكبه الأسد بحق الشعب السوري لم يكن أقل إجراماً، وتلك الجرائم هي بالحد الأدنى سبب كافٍ لاستبعاد الأسد من حضور القمة صوناً لبعض الصِدقيَّة.
وفي الوقت الذي يصل فيه الأسد إلى جدة للمشاركة في القمة التي تدين جرائم إسرائيل، تستمر قواته بقصف مناطق متفرقة في سوريا، وبشكل خاص في إدلب وتوقع ضحايا ودماراً لا يقل عما يحدث في غزة، والذرائع التي تختبئ وراءها إسرائيل هي ذاتها الذرائع التي يعتمدها الأسد، فكلاهما يدّعيان محاربة الإرهاب، فكيف لمن يقتل هنا أن يعترض على قتل هناك؟
لم يتغير شيء في الواقع السوري يمكن أن يكون مبرراً للعرب لطيّ صفحة الأسد الإجرامية، لم يكتشف العرب أن جرائم الأسد كانت مجرد خيالات أو ادعاءات ثبت أنها باطلة مثلاً، وسجلّ جرائم الأسد لا يزال مفتوحاً يخرق عين كل من يحاول إنكارها، ومع ذلك لم يتردد العرب بدعوته والقبول بحضوره في قمة من المفترض أنها تنتصر للضحايا، تنتصر للشعوب وحقها في الحياة وتقف ضد الظلم والإجرام..
إن حضور الأسد للقمة العربية الإسلامية حوّل الاجتماع الجاد إلى مشهد كوميدي، إلى صورة كاريكاتورية مشوهة مفعمة بالسخرية، إلى جملة مفككة لا يمكن قراءتها، ومجموعة من الأحرف يستحيل تجميعها في عبارة تنتظم في سياق ذي معنى، فحضور مجرم حرب لاجتماع يدين مجرم حرب آخر يفقد الحالة برمّتها صدقيَّة نيّاتها، على افتراض أن ثمة نيّات حقيقية لفعل شيء من العرب تُجاه القطاع المنكوب.
وأياً كانت مبررات العرب وظروفهم التي حتمت عليهم دعوة الأسد إلى هذه القمة بالذات، فإنها لن تقنع الجمهور العربي بصدق تلك النيات، بل إنها ستكون مَدعاة شكوك لا تنتهي لأبناء غزة ذاتهم الذين يَعُون جيداً ما يعنيه ذلك الحضور ومدى الضرر الذي يلحقه بمأساتهم..
وإذا تجاوزنا هذه النقطة -التي لا يمكن تجاوزها- فستواجهنا المشكلة الأكبر التي تكشف عن مدى ورطة الزعماء العرب في استقبال الأسد في هذه القمة العربية الإسلامية، وتتمثل في موقف الأسد ذاته من العرب والمسلمين، فقد أعلن الأسد صراحة انشقاقه عن كليهما خلال سنوات الثورة، اتهم العرب ذاتهم الذين يقودون هذه القمة الأخيرة بشتى الاتهامات وعاداهم لسنوات طويلة -باستثناء الدول العربية التي دعمته وتوافقت مع روايته- وأعلن ولاءه للفرس والروس واعتبرهم حليفاً بديلاً عن العرب، وأكد ذلك في كلمته التي ألقاها في القمة العادية التي انعقدت في جدة أيضاً منذ عدة أشهر، والتي أثارت استياءً كبيراً حينذاك، فمن أين له اليوم أن يشارك في قمة تناقش شأناً عربياً صِرفاً.
أما عن البُعد الإسلامي، فقد أمضى الأسد سنوات ليثبت أنه يحارب الإسلاميين وتحديداً الإخوان المسلمين، وحارب الثورة السورية بكل عنف تحت ذريعة ارتباطها بالإخوان، فكيف يمكن للدول الإسلامية استقباله باعتباره يمثل دولة ذات طابع إسلامي؟
وإذا توقفنا عند حركة حماس التي قادت الهجوم على إسرائيل، فسنجد أنها حركة تنتمي مباشرة وصراحة إلى الإخوان المسلمين الذين يعتبرهم الأسد أعداءه اللدودين، الأمر الذي يعمّق الإحساس بكذب نيات الأسد واستعداده للمتاجرة بالقضايا بصرف النظر عن موقفه الحقيقي منها.
وبعيداً عن هذه الاعتبارات، فإن ضحكات الأسد التي أطلقها في وجه مستقبليه منذ لحظة وصوله، كانت تكفي سبباً لطرده، فليس ثمة مبرر للفرح والسعادة على خلفية المأساة الفلسطينية، يمكن لأي رئيس أن يطلق ابتسامات مجاملة، ولكن ضحكات الأسد الصبيانية عبّرت عن فرحة كبيرة وكشفت مدى غياب إحساسه بالألم وزيف نيّاته.
في هذا السياق لا يمكننا أن نستبعد مشاعر الفرح التي تنتاب بشار الأسد على خلفية أحداث غزة، على الأقل كونها صرفت الاهتمام الإعلامي عما يحدث في السويداء، فضلاً عن أنها كانت سبباً لخروجه من جحره، وفرصة على ما يبدو لتناول المرطبات في جوّ السعودية الحارّ.
إن الإدانات التي وجهها الزعماء العرب إلى إسرائيل في القمة العربية الإسلامية في حضور بشار الأسد، أمر من شأنه أن يعطي انطباعاً واحداً للجمهور العربي يتلخّص في إمكانية نسيانهم لإداناتهم تلك بعد فترة من الزمن، وإمكانية قبولهم بحضور نتنياهو قمة عربية يشارك فيها في إدانة مجرم آخر، وأن جرائم إسرائيل الحالية قابلة للسقوط من الذاكرة، وأن من الممكن إعادة النظر من قبل العرب بنتنياهو وطيّ جرائمه تماماً كما استطاعوا نسيان جرائم الأسد.
إذا كانت إعادة الأسد إلى الجامعة العربية بهدف إعادة تدويره خطأً كبيراً وإهانة بحق السوريين، فإن دعوته لحضور القمة الطارئة كان خطأً استراتيجياً من شأنه أن يذهب بما تبقى من مساحة الاحترام للزعماء العرب لدى شعوبهم، أما الأسد فإنه يعزز حالة انفصاله عن الواقع وتركيزه في مشروعه الوحيد وهو البقاء في السلطة على حساب أي شيء آخر، ولو كان الأسد حريصاً على غزة وعلى فلسطين، لرفض حضور تلك القمة لكي لا يفسد ثقة الجمهور العربي بزعمائه، ولكي لا يترك ذريعة لنتنياهو يكرر من خلالها أن ما فعله ويفعله في غزة، لا يوازي جزءاً مما فعله الأسد في سوريا.
تلفزيون سوريا
———————————-
كارثية الوضع الإنساني في غزة/ محمود سمير الرنتيسي
2023.11.14
مع كتابة سطور هذا المقال، استهدفت قوات الاحتلال الإسرائيلي مجموعة مواطنين فلسطينيين قرب مخازن وكالة الغوث “أونروا” التي تحتضن عدداً كبيراً من النازحين في تل السلطان غرب مدينة رفح جنوبي غزة لتقتل مجموعة من المواطنين، كما استهدف الاحتلال ساحة مدرسة تؤوي نازحين في بيت لاهيا شمالي غزة، صباح السبت الفائت، وهذه فقط أمثلة قليلة مما حدث خلال يوم واحد فقط.
في ذات الوقت كان الصحفي بشار خيار يناشد زملاءه الصحفيين عبر مجموعة واتساب للاتصال بالإسعاف للوصول إلى أقاربه المصابين داخل منزلهم منذ 48 ساعة في منطقة العباس وسط مدينة غزة حيث توجد إصابات خطيرة وهناك 3 قتلى في داخل البيت، ولا تستطيع أي جهة للوصول إليهم حتى الآن.
وعلى ذكر المناشدات ناشد المواطن ماجد أبو رمضان كل قلب رحيم مساعدة أمه وهي مقعدة تم احتجازها هي وأخيه من قبل الجيش الإسرائيلي في أحد البيوت.
وفي الحقيقة هناك كثير من القتلى لا يمكن الوصول إليهم، منذ أيام، ويمكن تخيّل ماذا يعني هذا الأمر وقد وردت شهادات مأساوية تفيد بأنّ بعض الجثث باتت طعاماً للطيور والكلاب الضالة.
جانب آخر أكده لي أحد الأطباء وهو أن المصابين والمرضى في أقسام العناية المركزة في المستشفيات يموتون بسبب نقص الإمدادات الطبية والوقود، وهناك أكثر من 20 مستشفى قد خرج عن الخدمة في غزة. 36 طفل خداج يمكن أن يفقدوا خلال الأيام المقبلة بعد فقدان 3 منهم خلال الأيام الماضية.
استهدف الاحتلال المستشفيات منذ بداية الحرب عندما قصف المستشفى الأهلي وحالياً يهدّد معظم المستشفيات في غزة والتي من المفترض أن تحظى بحماية خاصة في القانون الدولي الإنساني، كما هدد الاحتلال المشافي والمرضى من خلال حظره لدخول الوقود منذ أكثر من 36 يوماً.
ومع ذلك زعم الاحتلال، السبت الفائت، أنه استعد لوضع 300 لتر وقود لصالح مستشفى الشفاء من أجل الترويج لصورته أمام العالم، وحقيقة هذه من الأمور الهزلية لأن هذه الكمية لا تكفي لتشغيل المستشفى 25 دقيقة، حيث يستهلك مشفى الشفاء 8000 لتر على الأقل، وهناك أمران حقيقة لا نعرف كيف نصفهما في ظل هذا الوضع المأساوي وهو أن الاحتلال قصف عدداً من المولدات الكهربائية، كما أنه قصف سيارات إسعاف على مدخل مشفى الشفاء، والأمر الآخر هو أن العدو قطع الوقود عن مشافي غزة بحجة أنّه يذهب لقيادة حركة حماس وها هو الآن يعرض كميات محدودة وهو الأمر الذي يظهر زيف ادعاءاته.
بالنسبة للوضع الصحي هناك أكثر من 50 ألف امرأة حامل تفتقد الرعاية الصحية، هناك مرضى الكلى والقلب والسرطان، كما أن انقطاع المياه والكهرباء أدى لانتشار عدد من الأمراض المعدية وقد سبب شرب الماء الملوث إلى حالات الإسهال الشديد لدى كثير من المواطنين.
ما يزال قرابة 900 ألف مواطن في غزة والشمال في ظل عدم انتقال المساعدات إلى شمالي غزة بعد قطع أوصال القطاع من قبل الدبابات الإسرائيلية، أما عن الوضع في مدن الجنوب رفح وخانيونس فهو مأساوي جداً حيث تضاعفت أعداد السكان في المحافظتين مع نزوح أكثر من 800 ألف مواطن من الشمال للجنوب وفراغ محال البقالة والسوبرماركت من المنتجات، ومع أن هناك توزيعاً لمساعدات محدودة من الدقيق إلا أنه بسبب عدم وجود الوقود أو الغاز فإن الناس تحاول إعداد الخبز بشكل يدوي عبر إشعال النار حيث تم تقطيع الكثير من أغصان الأشجار واستخدام كل أوراق الكرتون الملقاة في الشوارع خلال الأيام الماضية.
ومع نزول درجات الحرارة منذ بداية تشرين الثاني وهطل الأمطار في غزة، فإن المعاناة تصبح مضاعفة خاصة على الأطفال والمرضى.
يخوض الشعب الفلسطيني معركة مع عدو من أكثر الأعداء انعداماً للأخلاق وتجاهلاً للقيم الإنسانية بل دوساً عليها أيضاً، وهو المشهد الذي عبر عنه قائد جرافة صهيونية داس بجنازيرها جسد أحد القتلى الفلسطينيين في غزة، ولهذا لا بد من عدم الاستسلام لعنجهية هذا الاحتلال وعدم التماهي والتعود على هذه الصور، وإنقاذ المدنيين والأطفال من التعرض لمزيد من الكوارث خاصة أنّه خلال الأيام المقبلة إذا استمر هذا الوضع، فسيسفر عن نتائج أكثر كارثية وأكثر خطورة بشكل لم يشهد له مثيل.
تلفزيون سوريا
—————————————
حرب غزة وفصام مثقفي النظام السوري/ رشا عمران
2023.11.14
خلال الشهر الماضي وأنا أتابع صفحات مثقفين سوريين، بعد عملية طوفان الأقصى وما تلاها من حرب مجنونة على غزة، أدهشني التناقض المهول بين مواقفهم من الحدث السوري خلال عقد كامل وبين موقفهم الحالي من أحداث غزة.
ذلك أن معظم هؤلاء كانوا وما زالوا يشتمون الثورة السورية، ويعتبرونها ثورة إسلامية لا تتناسب مع سوريا (العلمانية)، وكانوا وما زالوا يشتموننا نحن -زملاءهم- مَن كانوا يوماً أصدقاءهم، على مواقفنا المؤيدة للثورة والمعارضة لنظام الأسد، على اختلافات مواقفنا، فمنّا مَن كان ضد العسكرة والأسلمة ومنّا مَن رحّب بهم، ومنّا أيضاً مَن لم ينخرط في أي مؤسسة معارضة ومنّا من اقتحم هذا العالم بكل تفاصيله، ومنا مَن تغيرت طبيعة تفكيره منذ 2011 وحتى الآن، ومن أصبح أكثر راديكالية في معاداة نظام الأسد ومَن أصبح أقل تشدداً.
حتى في العلاقة مع كتلة المؤيدين للنظام اختلفت مواقفنا، لم نكن يوماً كتلة واحدة متشابهة منذ بدأت الثورة وحتى الآن، ومع ذلك يصر هؤلاء المثقفون الذين كان بعضهم بمنزلة الأصدقاء على وضعنا جميعاً في شتيمة وتهم متشابهة كالعمالة لإسرائيل والغرب والتحالف مع الإسلاميين وبيع الثورة والهروب خارج سوريا والرغبة في استمرار الثورة ونحن في الخارج، إلى آخر هذه الاتهامات والشتائم التي نقرؤها يومياً على صفحاتهم وتمس كل من يعمل في مجال الفن والثقافة والكتابة والصحافة ممن أيد الثورة السورية منذ اللحظة الأولى.
لا بأس! لنفترض جدلاً أن الثورة السورية كانت ثورة إسلامية ولا تتناسب مع (علمانية) سوريا، مع أنها لم تكن كذلك في بداياتها ومع أن المجتمع السوري هو مجتمع مسلم وسطي مديني وريفي، ووجود أقليات فيه لا ينفي هذه الحقيقة مطلقاً.
هل إسلامية الثورة تستحق وصمها بالإرهاب لتبرير كل الإجرام الذي حصل ضد السوريين الثائرين؟ هذا سؤال أود توجيهه إلى كل شخص منهم، هل العقيدة تستوجب القتل؟ فإذا كانت كذلك فيجب عليكم عدم استنكار أية جريمة قتل يرتكبها الناس بسبب اختلاف العقيدة؟ يجب عليكم عدم إدانة إسرائيل في جرائمها ضد الفلسطينيين والعرب، فإسرائيل تتكئ على العقيدة في حربها ضد الفلسطينيين، خاصة في الحرب الأخيرة على غزّة التي يبررها الكثير من الحاخامات اليهود ويجدون لها الذرائع من قلب التوراة.
هل يختلف ما تفعله إسرائيل بمباركة من الحاخامات عما فعله حزب الله والميليشيات التابعة لإيران في سوريا وبمباركة من ولي الفقيه في إيران؟ ألم يستخدم هؤلاء أيضاً راية الحسين ونصرة زينب لتبرير جرائمهم ضد السوريين؟ قبل عدة أعوام أيضاً باركت الكنيسة الروسية الرئيس الروسي بوتين وباركت جيشه واعتبرت حروبه في سوريا حروباً مقدسة؛ هذا كله يجعلنا نتساءل عن الفرق الذي وجده مثقفون سوريون بين العقيدة التي برّرت أسلمة الثورة السورية وعسكرتها/ السنية أو اليهودية وبين العقيدة الشيعية أو المسيحية، وكل هذه العقائد تبرر القتل وتمنح القتلة الذرائع والحجج المناسبة لاستمرار الحروب وتبرير الجرائم.
يتسابق اليوم هؤلاء المثقفون في إعلان عدائهم لإسرائيل وتضامنهم مع الفلسطينيين، ويزايد بعضهم على بعض في تأييد المقاومة، وهي تتمثل اليوم في حماس وكتائب شهداء الأقصى والجهاد الإسلامي، وكلها حركات تتبع الإسلام السياسي، الذي لطالما اتهم هؤلاء الكثير من مثقفي الثورة السورية بالعمالة له وببيع الثورة السورية له.
يبرّر هؤلاء موقفهم بأن هدف الإسلام السياسي في فلسطين هو دحر الاحتلال بينما في سوريا فهدفه هو استلام السلطة، لهذا فهم يدعمونه في فلسطين ويعادونه في سوريا، ويتهمون الفلسطينيين السوريين الذين وقفوا مع الثورة بأنهم تابعون له، لهذا يستحقون القتل والحصار والتجويع والتنكيل والحرق الذي مورس عليهم في المخيمات الفلسطينية بدمشق ودرعا واللاذقية وحمص، فهم بالنسبة لهؤلاء المثقفين، داعمون للإرهاب، والنظام السوري وميليشيات إيران والقوات الروسية لديهم مهمة نبيلة هي القضاء على الإرهاب بمباركة من كبار رجال الدين في دمشق وإيران وروسيا؛ هل من براغماتية وميكيافيلية أكثر من ذلك؟
ويتقاطع ذلك أيضاً مع ميكيافيلية الإسلام السياسي، ألم يشكر إسماعيل هنية إيران وسوريا وحزب الله؟ مع أنّه لا إيران ولا سوريا ولا الحزب تدخّلوا في الحرب، ولولا الدقائق القليلة التي أُعطيت لبشار الأسد في قمة الرياض الأخيرة لقول بعض الجمل الإنشائية لما كان هناك موقف سوري رسمي واضح من الحرب.
وبالمناسبة قد تكون من أكثر المواقف سوريالية حاليا هو وجود بشار الأسد في قمة استثنائية طارئة للبحث في سبل وقف المجازر المرتكبة بحق الفلسطينيين، ذلك أنه في الوقت الذي كان يتحفنا بكلامه عن جرائم إسرائيل، كانت قواته تواصل قصف المدارس والمشافي والمخيمات في إدلب، والضحايا معظمهم أطفال ونساء وأغلبهم ممن هُجّروا سابقاً في صفقات تمت بين الكتائب المسلحة التابعة للإسلام السياسي في مناطق الثورة وبين النظام والقوات الروسية والإيرانية، هل يختلف هذا عما تفعله قوات الاحتلال في غزة؟
طبعاً الحديث عن جرائم نظام الأسد بحق الفلسطينيين في سوريا بات من النوافل وأيضاً على مرأى ومسمع العالم ومرأى ومسمع الزعماء العرب والمسلمين، الذين كانوا يصافحونه ويصفقون لكلامه في السعودية، قبل أيام، وعلى مرأى ومسمع المثقفين السوريين الذين يعتبرون كل من أيد الثورة السورية تابعا للإسلام السياسي، الإرهابي في سوريا والمقاوم في غزة.
لكن بالطبع علينا أن نفهم أن موقف هؤلاء المثقفين ناطق عن الهوى، والهوى هنا الأيديولوجية أو العقيدة الحزبية أو المذهبية، وفي كثير من الحالات تختلط العقيدتان مع محاولات أصحابها التطهر من المذهبية لصالح الحزبية، لكن الاتجاهات التي يسلكونها في مواقفهم والتي تتبع اتجاهات النظام السوري بالخطوة تكشف هذا التطهر وتفضحه وتعريه؛ يُضاف إلى ذلك أن مواقفهم الصاخبة والحماسية ضد العدو الصهيوني هذه الفترة والمؤيدة لحماس بوصفها مقاومة هي محاولات جديدة للتعمية على مجازر النظام المتواصلة في إدلب، ولصرف النظر قليلاً عن الحراك السلمي المتواصل منذ أشهر في السويداء والذي يطالب بتغيير النظام.
كما أن هذه الحماسة تبيّض صفحتهم قليلاً أمام جمهور عربي يتابعهم أو يقرأ لهم، فالموقف من العدو الإسرائيلي وأنت في سوريا لن يكلفك دفع أي ثمن ولن يعرضك لأي شيء، بل العكس تماما سيجعلك مناضلا ووطنيا أمام مجموعة من السذج الذين يعتقدون على طريقة الزعماء العرب أن “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”، وأن الحديث عن الفساد والجوع والقهر والقمع والإجرام والقتل والتهجير ما لم تكن إسرائيل هي من تقوم به فصاحبه طابور خامس وخائن وعميل.
رغم أن هؤلاء مكشوفون منذ زمن إلا أن حرب غزة عرّتهم أكثر وأظهرت ازدواجيتهم أكثر وكشفت براغماتيتهم أكثر، ولولا أن الموقف من العدو الإسرائيلي هو موقف أخلاقي وإنساني ولولا أن إخوتنا في غزة يظلمون كما ظُلم سوريو الثورة ممن بقوا في الداخل طيلة السنوات الماضية لصمت أغلبنا عن التعليق على الحرب تاركين لهؤلاء ولأمثالهم من الفلسطينيين والعرب من داعمي نظام الأسد الجعجعة المتواصلة التي يتحفوننا بها على وسائل التواصل.
تلفزيون سوريا
—————————
الانعكاسات الاستراتيجية لعملية طوفان الأقصى على مستقبل منطقة الشرق الأوسط/ محمود عثمان
2023.11.13
الهجوم المفاجئ والاختراق المباغت لكتائب القسام الذراع العسكرية لحركة حماس على مناطق غلاف غزة، وأسر عدد كبير من الإسرائيليين، شكَّل مفاجأة استراتيجية وتحولًّا جوهريًّا على طبيعة العمل العسكري لفصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة، وكشف عجزاً استخبارياً واضحاً لدى الطرف الإسرائيلي (وحتى الأميركي)، الذي كان يتباهى بمنظومته العسكرية والاستخبارية التي لا تقهر.
التحولات الاستراتيجية الكبرى في منطقة الشرق الأوسط
شكَّل مجيء المرشد الإيراني الخميني إلى طهران على متن طائرة فرنسية، وسقوط نظام الشاه في إيران، إشارة البداية لعملية هندسة جيوسياسية بدأتها الولايات المتحدة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط. فما إن ثبّت نظام الملالي أركان نظامه الجديد، بعد سلسلة طويلة من التصفيات والإعدامات، حتى بدأ بتصدير ثورته لدول الجوار، ما أدى إلى نشوب حرب ضروس مع العراق استمرت لأكثر من ثماني سنوات، وكلفت المنطقة أكثر من 500 مليار دولار عدا الخسائر البشرية والمآسي الإنسانية.
بعد اضطرار الخميني لقبول إنهاء الحرب العراقية الإيرانية، أصبح لدى العراق فائض قوة باتت تشّكل مصدر قلق لإسرائيل وبعض دول المنطقة. فقامت الولايات المتحدة الأميركية باستدراج صدام حسين الذي بلع الطعم ووقع في الفخ الأميركي ضارباً عرض الحائط بجميع التحذيرات، فغزا الكويت ووقعت الكارثة.
عقب احتلال صدام للكويت، بادرت واشنطن إلى تشكيل تحالف دولي قوامه 32 دولة، شاركت فيه دول عربية عديدة في مقدمتها مصر ودول الخليج وسوريا، كان الهدف المعلن لهذا التحالف تحرير الكويت، وإعادة الأمور إلى نصابها. لكنه في المقابل كان يشكل خطوة أساسية، على صعيد إعادة تصميم ورسم خريطة منطقة الشرق الأوسط الجديد جيوسياسياً.
أدى تدمير العراق الذي كان يعتبر أحد أهم أركان العمق الاستراتيجي العربي، وتسليم الدولة العراقية لميليشيات متناحرة ذات طابع ديني أيديولوجي مدمر، وخروج مصر من المنظومة العربية نتيجة معاهدة كامب، وعجز مجلس التعاون الخليجي عن ملء الفراغ الاستراتيجي الكبير الذي تركه غياب مصر والعراق، وتحالف نظام الأسد مع إيران منذ الثمانينيات، ثم تهجير أكثر من نصف الشعب السوري، وسيطرة إيران على أربع عواصم عربية، إلى انهيار مفهوم الأمن القومي العربي، وسقوط نظرية الدفاع العربي المشترك، ولم يبق أمام الأنظمة العربية سوى توجيه بوصلتها باتجاه التطبيع مع تل أبيب.
كانت الانهيارات الاستراتيجية على صعيد الساحة العربية، تعني أن خطة موشيه شاريت وبن غوريون التي تقضي بتجزئة الوطن العربي كأحد أهم أركان التفكير الاستراتيجي الاستعماري الصهيوني، تأخذ طريقها إلى حيز التنفيذ. يقول بن غوريون:”إنّ عظمة إسرائيل ليست في قنبلتها الذرّية ولا ترسانتها المسلّحة، ولكن عظمة إسرائيل تكمن في انهيار دول ثلاث هي مصر والعراق وسوريا”.. ويضيف “ليست العبرة في قيام إسرائيل بل في الحفاظ على وجودها وبقائها وهذا لن يتحقّق إلاّ بتفتيت سوريا ومصر والعراق”.
ما زالت نظرية بن غوريون تشكّل الركن الثابت في استراتيجية الكيان الإسرائيلي وسياساته، وهي تفسر سبب إصرار نتنياهو على بقاء بشار الأسد على رأس الحكم في سوريا.
الأبعاد الاستراتيجية لعملية طوفان الأقصى
صحيح أن هجوم حماس لم يكن متوقعاً، لكن أسبابه وإرهاصاته كانت حاضرة بقوة، حيث لم تدّخر حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة جهداً في استفزاز الفلسطينيين ودفعهم نحو الانفجار، من خلال حصار قطاع غزة، وقضم مزيد من أراضي الضفة الغربية، والاقتحام المستمر للمسجد الأقصى، حتى فقدت القضية الفلسطينية مركزيتها وخرجت من دائرة الاهتمام، بالتزامن مع موجة تطبيع عربي – إسرائيلي غير مسبوقة تشي بالقفز على الحقوق الفلسطينية وتجاوزها.
في الأثناء لم تقدّم إدارة الرئيس بايدن أي تصوّر أو مشروع جديد للتسوية السلمية، بل على النقيض من ذلك بدا واضحاً أنّها تسير على خطى إدارة الرئيس دونالد ترامب، فيما سمّي بصفقة القرن التي تقضي باستبدال مشروع السلام الإقليمي بالحل النهائي للقضية، واختزال القضية الفلسطينية، وحصرها في مسألة “تحسين حياة الفلسطينيين”، من دون منحهم أية حقوق سياسية أو إنسانية.
في ظل هذه الظروف المتشابكة، جاء هجوم حماس غير المسبوق على المستوطنات الإسرائيلية، ليحدث زلزالاً ضخماً ستكون له ارتداداته الكبيرة، ليس على صعيد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي فحسب، إنما على صعيد التموضع الجيوسياسي والسياسات الإقليمية والدولية.
نتنياهو يبحث عمن ينزله من الشجرة وواشنطن عاجزة
تكمن معضلة القيادات السياسية الإسرائيلية في تبنيها سقف أهداف مرتفع جداً، معتدّة بقوتها العسكرية وغريزتها الانتقامية والدعم الغربي اللامحدود. لذا جاء رد حكومة نتنياهو على هجوم حماس رداً فوقياً عنجهياً مضطرباً، معتمداً على خطة من ثلاثة محاور.. الأول: تهجير أهل غزة إلى دول الجوار، والثاني: سحق حماس، والثالث: تحرير الرهائن.. الهدف الأول قوبل بموقف عربي قوي صارم متضافر، فقد رفضت كل من مصر والأردن والسعودية فكرة تهجير أهل غزة ولو مؤقتاً.. أما الهدف الثاني المتمثل بسحق حماس وتطهير غزة من المقاتلين، فهو هدف يبدو مستحيلاً، خصوصاً مع استبسال المدافعين الذي أفشل جميع المحاولات الإسرائيلية للاقتحام البري، وعِظَم الخسائر المدنية التي تسببت بها الهجمات الإسرائيلية. وأما هدف تحرير الرهائن من دون تفاوض، فقد عمّق مأزق تل أبيب العسكري، إذ تعلم إسرائيل أنه لا قواتها الخاصة ولا قوات الدلتا الأميركية، قادرة على تحرير الرهائن بالقوة، لأنها لا تملك المعلومات الاستخبارية الضرورية، كما تفتقر إلى عنصر المفاجأة.
لم يبق أمام نتنياهو سوى ارتكاب مزيد من المجازر، باستهداف المستشفيات والمدارس والمباني السكنية، وقتل ألوف المدنيين، والتدمير الأعمى للمرافق والموارد البشرية في غزة، من أجل كسر معنويات الفلسطينيين ودفعهم للاستسلام، مع العلم المسبق بأن إنجازات إسرائيل لا تقاس بعدد قتلى الفلسطينيين من المدنيين، ولا بمستوى الخراب الذي ألحقته بمرافق الحياة، بل ستقاس بمدى تحقيق الأهداف السياسية وهو ما يبدو بعيد المنال.
انعكاسات عملية طوفان الأقصى على مستقبل منطقة الشرق الأوسط
من المبكر لأوانه التكهن بما ستصير إليه الأمور في غزة. لكن من المؤكد أن هجوم حماس أدى إلى صدمة كبيرة في واشنطن وعواصم الاتحاد الأوروبي التي هبّت لنجدة إسرائيل، وسارعت إلى تقديم كل أشكال الدعم السياسي والعسكري، وحشد الأساطيل وحاملات الطائرات، وإنزال الجنود للمشاركة باجتياح غزة. مقابل ذلك ارتفعت وتيرة الغليان الشعبي في جميع أرجاء العالم، ضد وحشية العدوان الإسرائيلي، رافقها إدانات رسمية وشبه رسمية من شخصيات لها حضورها على الساحة الدولية، فقد دان الأمين العام للأمم المتحدة غوتيرش عدم السماح بإدخال المساعدات الإنسانية لغزة، وقامت العديد من الدول بسحب سفرائها من إسرائيل، واستقال العديد من الموظفين في وزارة الخارجية الأميركية احتجاجاً على الدعم الأميركي المطلق لإسرائيل، ولا تزال ردود الفعل الشعبية والرسمية في تصاعد مطَّرد.
ما سبق يؤكد أن الكيان الإسرائيلي سوف يضطر إلى دفع ثمن سياسي معتبر هذه المرة. وتقديم تل أبيب (ومن ورائها واشنطن) تنازلات سياسية سوف تكون لها انعكاساتها الكبيرة ليس على مستقبل القضية الفلسطينية فحسب، بل على صعيد رسم مستقبل الشرق الأوسط كلّه.
تلفزيون سوريا
———————————
“الدولة الفلسطينية” هل هي مجرد شعار؟/ عدنان علي
2023.11.12
قبل أن تضع الحرب على غزة أوزارها، تتعالى الأصوات التي تدعو لإقامة دولة فلسطينية مستقلة كمخرج وحيد للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، ولعل هذا يحسب للمقاومة الفلسطينية في غزة التي أعادت إحياء الاهتمام العالمي بالقضية الفلسطينية بعد أن تحولت إلى ملف منسي في زحمة القضايا العالمية الساخنة.
وهذا الاهتمام بالبحث عن “حلول” في غزة بعد أن يهدأ صوت الانفجارات، هو محاولة لتقديم تصورات لإسرائيل المنشغلة بتدمير قطاع غزة والانتقام من أهله، دون التفكير في “اليوم التالي” للحرب التي تقول، ويردد معها الأميركيون، إنها لن تتوقف إلا بعد إنهاء حكم “حماس” للقطاع.
والواقع أن إسرائيل التي اكتفت بتقديم تصورات مقتضبة وغير عملية لمصير قطاع غزة في حال تمكنت بالفعل من تغيير الإدارة الحاكمة هناك، من قبيل أن تتولى هي السيطرة الأمنية مع إدارة دولية أو بمظلة السلطة الفلسطينية للقطاع، لم يصدر عن قادتها أي تعليق بشأن اللغط الدولي الخاص بـ “حل الدولتين”، لكن الجميع يدرك من التجربة التاريخية السابقة، المفهوم الإسرائيلي لما قد يسمى دولة فلسطينية، والذي لا يخرج عن إطار “الحكم الذاتي” دون سيادة سياسية أو أمنية.
وقبل أسبوع واحد فقط من هجوم 7 أكتوبر الماضي، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام لجنة الخارجية والأمن بالكنيست الإسرائيلي أنه “يجب العمل على اجتثاث فكرة إقامة الدولة الفلسطينية، وقطع الطريق على تطلعات الفلسطينيين لإقامة دولة مستقلة لهم”، وهو التصريح الذي لم يلق أي اكتراث من المجتمع الدولي، في غمرة الإهمال الدولي للقضية الفلسطينية، برغم تعارض التصريح مع المواقف المعلنة لغالبية الدول التي تتبنى “حل الدولتين”.
لقد كان مقررا بموجب اتفاق أوسلو الموقع عام 1993 البت في قضايا “الوضع النهائي”، أي القدس واللاجئين والترتيبات الأمنية ومصير المستوطنات، بعد ثلاث سنوات من بدء العمل بالسلطة الفلسطينية الانتقالية، على أن تنتهي هذه المفاوضات خلال سنتين من بدئها، أي بعد خمس سنوات من إنشاء السلطة الفلسطينية، وينتج عنها حل دائم للقضية الفلسطينية بحلول منتصف العام 1999. وطبعا لم ينجز شيء من ذلك بسبب المماطلة الإسرائيلية، لتبدأ بعد ذلك رحلة طويلة من المفاوضات بين الجانبين تنقلت بين عواصم وأماكن عدة، دون أن تسفر عن شيء، وكانت أبرز المحطات مفاوضات “كامب ديفيد2″في ولاية ميرلاند الأميركية والتي جمع فيها الرئيس الأميركي بيل كلينتون عام 2000 كل من رئيس السلطة الفلسطينية الراحل ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك، ووصفت بأنها “الفرصة الضائعة” الأخيرة لإبرام اتفاق سلام بين الجانبين. وقد سوقت المصادر الإسرائيلية أن الجانب الفلسطيني هو المسؤول عن فشل المفاوضات، بينما الحقيقة أن إسرائيل لم تقدم عرضا يمكن للفلسطينيين القبول به، وخاصة بشأن مصير مدينة القدس. وقد أراد الفلسطينيون أن تكون لهم السيادة على المدينة التي ستكون عاصمة الدولة الفلسطينية الوليدة، وخاصة المسجد الأقصى، مع موافقتهم على وضع الحي اليهودي والجدار الغربي تحت السلطة الإسرائيلية، وأن تكون القدس مدينة مفتوحة ويتعاون الجانبان في الخدمات البلدية، بينما أصر الإسرائيليون على إعطاء الفلسطينيين مجرد سيادة رمزية على الأماكن الإسلامية والمسيحية المقدسة.
وبعد فشل مفاوضات كامب ديفيد، أطلقت اللجنة الرباعية للشرق الأوسط والتي تضم الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة عام 2003 “خارطة الطريق” التي تنص على إقامة دولة فلسطينية بحلول 2005 مقابل إنهاء الانتفاضة الفلسطينية آنذاك وتجميد الاستيطان في الأراضي الفلسطينية. وقبلها كانت مبادرة السلام العربية التي طرحت في قمة بيروت عام 2002 واقترحت إقامة دولة فلسطينية مقابل إقامة علاقات طبيعية بين الدول العربية وإسرائيل.
ويتضح من الطروحات الإسرائيلية السابقة، والتي جاءت في مرحلة سيطرة “اليسار” الصهيوني على الحكم في إسرائيل المتمثل في حزب العمل وشركائه، أن أقصى ما طرح على الفلسطينيين هو نوع من الحكم الذاتي على السكان، بينما تبقى السيادة الإسرائيلية على الأرض.
واليوم بعد 30 عاما على توقيع اتفاق أوسلو، فقد تضاعف الاستيطان في الضفة الغربية 7 مرات، وباتت المستوطنات مع مناطق نفوذ المجالس الإقليمية للمستوطنات، تستحوذ على 42 بالمئة من مساحة الضفة الغربية، وتضم نحو 750 ألف مستوطن، صعودا من 140 ألف مستوطن عند توقيع اتفاق أوسلو.
والأخطر من اتفاق أوسلو، هو ملحقه “اتفاق طابا” عام 1995 والذي قسم الضفة الغربية إلى 3 مناطق، (أ) وهي المدن والبلدات الفلسطينية الكبيرة، و(ب) التي تضم القرى والبلدات الصغيرة، و(ج) وهي المساحة الأوسع وتساوي نحو 62 في المئة من مساحة الضفة الغربية، وتخضع إدارياً وأمنياً للسيطرة الإسرائيلية الكاملة. وهذا التقسيم عكس المطامع الإسرائيلية في هذه المنطقة المسماة (ج) بوصفها المجال الحيوي لمشروعها الاستيطاني، حيث لا يحق للفلسطينيين ممارسة أي نشاط في مجمل المنطقة التي تضم معظم الموارد الطبيعية في الضفة الغربية. أما مناطق “أ” و”ب” الخاضعة لسيطرة السلطة الفلسطينية، فقد تحولت إلى كانتونات معزولة عن بعضها البعض بالكتل الاستيطانية والشوارع الالتفافية وبعض أجزاء الجدار الفاصل الذي بني عام 2002.
ومع صعود اليمين الإسرائيلي المتطرف إلى الحكم في إسرائيل نهاية العام الماضي، استهدفت خطط الحكومة رفع عدد المستوطنين في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية إلى نحو مليون مستوطن خلال العامين المقبلين.
والواقع إن برنامج الحكومة القائمة اليوم في إسرائيل والتي يعتبر حزب الليكود اليميني برئاسة بنيامين نتنياهو الأقل تطرفا فيها، هو البحث عن سبل مصادرة الأراضي الفلسطينية وإقامة المستوطنات وتهويد القدس والمسجد الأقصى، دون أن يلحظ أي اهتمام من جانبها بعملية السلام مع الجانب الفلسطيني. وبمجرد نيلها ثقة نهاية العام الماضي، أعلن نتنياهو أن حكومته ستعمل على تعزيز الاستيطان بالضفة الغربية، ومنذ ذلك الحين، تزايدت وتيرة اعتداءات المستوطنين في الأراضي الفلسطينية.
لقد تسبب المستوطنات والسياسات الإسرائيلية المتبعة لتطويرها وتوفير الأمن لها، إلى القضاء على فرصة قيام دولة فلسطينية متصلة جغرافيا وقابلة للحياة، فضلا عن الآثار المدمرة للوجود الفلسطيني والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، خاصة مع سيطرة الاحتلال على أهم الموارد الاقتصادية الفلسطينية في الضفة الغربية. وأدت هذه السياسات إلى تعميق تبعية المجتمع الفلسطيني لإسرائيل ولاقتصاد المستوطنات في الضفة الغربية الذي تسخر له الحكومة كل الموارد المتاحة في الضفة، وتحول الفلسطينيون إلى مجرد عمال في المستوطنات، وعليه فإن إقامة دولة فلسطينية تتمتع بالحد الأدنى من المقومات غير متوفرة ضمن المعطيات الراهنة، الميدانية منها، والسياسية المتصلة بعدم جاهزية إسرائيل للتخلي عن سياستها الثابتة والرامية دوما إلى الاستحواذ على أكبر ما يمكن من الأرض الفلسطينية، بأقل ما يمكن من السكان العرب.
تلفزيون سوريا
————————————-
روسيا والحرب على غزة.. من التفاعل الحذر إلى الانخراط الحذر/ إياد الجعفري
2023.11.11
إن تأكدت المعلومات المتداولة عن سماح روسيا لإيران بتمرير شحنات أسلحة لميليشياتها في سوريا ولبنان، عبر مطار حميميم باللاذقية، إلى جانب تسهيل انتشار الميليشيات المدعومة إيرانياً، قرب الجولان المحتل، فهذه قد تكون نقطة التحول -التي تنبأ بها بعض المتخصصين- في الموقف الروسي من تطورات الحرب الإسرائيلية على غزة.
فـروسيا، التي اعتمدت سياسة التفاعل الحذر -مع إظهار ميل أكبر نسبياً للجانب الفلسطيني- حيال مجريات الحرب في غزة، منذ بداياتها، مع العمل على استغلالها دبلوماسياً وسياسياً وإعلامياً، لتسجيل النقاط على الولايات المتحدة الأميركية والأوروبيين، ربما تكون قد تجاوزت هذه المرحلة. وقد تكون في طور تعزيز الجهود الإيرانية الرامية إلى خلق حالة ضغط متصاعدة على واشنطن، بغية دفع هذه الأخيرة لإيقاف عجلة الحرب الإسرائيلية الشرسة على غزة.
وفيما نفت روسيا، رسمياً، المعلومات التي أوردتها وسائل إعلام أميركية عن تخطيط مجموعة المرتزقة فاغنر، لتزويد حزب الله بنظام “بانتسير” للدفاع الجوي الروسي.. لم يصدر أي نفي روسي حتى الآن، بخصوص المعلومات عن نقل أسلحة إيرانية عبر مطار حميميم أو تساهل روسيا حيال انتشار الميليشيات المدعومة إيرانياً، على تخوم الجولان المحتل. وقد يكون سبب ذلك، أن هذه المعلومات جاءت من مصادر محلية سورية معارضة، وإعلامية إسرائيلية، وإعلامية عربية (صحيفة الشرق الأوسط السعودية). ولم تحظ بانتشار في الإعلام الغربي، وتحديداً الأميركي، حتى الآن. ويبدو أن هناك مراقبين يقللون من دقّة هذه الأنباء، في الوقت الراهن. وذلك رغم تواتر المعطيات عن تكثيف الوجود الميداني الإيراني في الجنوب السوري، منذ بدء عملية “طوفان الأقصى”، قبل أكثر من شهر.
ورغم الحاجة إلى التعامل الحذر مع هذه المعلومات، بانتظار دعمها من مصادر أخرى، يبقى أن متخصصين كانوا قد ألمحوا منذ الأسبوع الثاني للحرب، أن الموقف الروسي قد يشهد تحولاً نوعياً، يخرج به من خانة الموازنة بين علاقات موسكو الوطيدة بإيران وإسرائيل، على حدٍ سواء، إلى خانة يقترب فيها أكثر من الموقف الإيراني. وقد تشكلت مقدمات لهذا التحوّل، خلال الحرب في أوكرانيا، وانخراط إيران في دعم روسيا، بالمسيّرات، وتعزيز التعاون العسكري بين الطرفين بصورة متصاعدة، ومن ثم، انخراط إسرائيل في دعم كييف لوجستياً وسياسياً واستخباراتياً (في سياق مكافحة الطائرات المسيّرة الإيرانية)، مما نقل العلاقة بين موسكو وتل أبيب إلى مستويات غير مسبوقة من التوتر.
وانعكس هذا التوتر، مع بدء رد الفعل العسكري الإسرائيلي على عملية “طوفان الأقصى”، في 7 تشرين الأول/أكتوبر الفائت، حينما أوقفت تل أبيب تحذيرها المسبق لروسيا قبل شن هجماتها في الأراضي السورية. وهو التنسيق الأمني والعسكري الروسي – الإسرائيلي، الذي صَمَد –رغم كل الخلافات بين الطرفين- منذ أكثر من ست سنوات.
وهكذا يبدو أن معادلة “الفوائد الروسية” من الحرب في غزة، قد تجاوزتها الأحداث. فروسيا التي كانت ممتنة لابتعاد الاهتمام الإعلامي عن الأحداث بأوكرانيا، ولارتفاع مستوى الدعم العسكري والمادي الأميركي لإسرائيل، مما سينعكس إيجاباً لصالحها في أوكرانيا أيضاً، ناهيك، عن اقتناصها فرصة مناكفة واشنطن في مجلس الأمن الدولي، وتسجيل النقاط السياسية عليها في علاقاتها مع الشعوب العربية والإسلامية المستاءة من الانحياز الغربي المطلق لإسرائيل، إلى جانب رهانها على قفزات في أسعار النفط، تفيد ميزانيتها المخصصة للحرب في أوكرانيا، من جراء تصاعد التوترات في الشرق الأوسط.. كل تلك “الفوائد”، تبدو أن الأحداث تجاوزتها. فروسيا، باتت أمام معضلة مشابهة –وإن كانت أقل حدّة- لتلك التي باتت أمامها إيران، وتتمثّل في أن الإجهاز الإسرائيلي على حماس، لو تحقق، فإنه يعني مكسباً لـ “الجبهة الغربية”، في مواجهة “المحور” الصاعد، المناوئ للهيمنة الغربية، وخاصة الأميركية، على السياسة الدولية، وفق المنظور الروسي. إلى جانب، أن عودة الانخراط العسكري الأميركي في المنطقة، استجابةً لتطورات الحرب الإسرائيلية في غزة، عبر إرسال مقاتلين وحاملات طائرات وغواصات نووية، كل ذلك يعني أن على روسيا بذل تكاليف لموازنة هذا الانخراط المستجد لواشنطن، وإلا، فإنها قد تعرّض تحالفها المثمر مع إيران، ومع قوى أخرى في المنطقة، لخسائر فادحة.
لذلك، ورغم عدم تأكّد المعلومات –بعد- بخصوص الضوء الأخضر الروسي لتمرير شحنات أسلحة إيرانية عبر مطار خاضع للسيطرة الروسية، ولانتشار الميليشيات الإيرانية قرب الجولان المحتل، فإن تلك المعلومات تبدو مفهومة، بل ومتوقعة من جانب شريحة من المتخصصين، الذين ذهبوا إلى أن موسكو، عند نقطة ما من تطور الحرب على غزة، ستضطر للخروج من خانة التعامل الحذر، إلى خانة الانخراط الحذر. وعند النقطة الأخيرة، تبدو موسكو في وضع من لا يحبّذ اتساع نطاق الحرب لتتحول إلى إقليمية في المنطقة. ويبدو التحذير الروسي من ذلك، حقيقياً، وليس مجرد حرب نفسية أو مزاودة سياسية على الأميركيين. ذلك أن استمرار الحرب الإسرائيلية الشرسة على غزة، قد يهدد بتقويض واحدة من جوانب النفوذ الإقليمي لإيران، وبدرجة أقل، لروسيا. لذا نعتقد أن موسكو بدأت بالفعل، في الانخراط مع طهران، لتعزيز موقف هذه الأخيرة، في تصعيد ضغطها الحذر على مواضع القوة العسكرية الأميركية في المنطقة، بغية إقناع واشنطن بضرورة وقف الحرب، سريعاً. وهو ما اقتربت واشنطن من الاقتناع به، بالفعل. أن وقف الحرب في غزة، في وقت قريب، ضروري، لتجنب احتمالية انزلاق المنطقة نحو مواجهة أوسع.
ما سبق لا يعني أن موسكو معنية بتعزيز القدرة الإيرانية على تهديد الأمن الإسرائيلي انطلاقاً من الحدود الشمالية للأراضي المحتلة. وهو ما تدعمه المعلومات المتوافرة –غير المؤكدة بعد – عن مفاوضات روسية – إيرانية استمرت ثلاثة أسابيع، قبل موافقة موسكو على استخدام طهران لمطار حميميم، واشتراط الروس أن تكون الأسلحة الممررة، دفاعية، لا هجومية. فموسكو معنية بالضغط على الولايات المتحدة وإسرائيل، لوقف الحرب على غزة، قبل أن تتحوّل إلى حرب اقتلاع لإحدى القوى المتحالفة مع المحور الإيراني، الحليف بدوره، لموسكو.
هذا التحوّل، إن تأكدت معطياته، سيمثّل ضرراً سيصعب إصلاحه في العلاقة الروسية – الإسرائيلية. وسينعكس في سوريا، مكسباً لإيران، عبر انحياز أكبر من جانب روسيا، باتجاهها، على حساب تلك العلاقة غير المثمرة مع تل أبيب، في أكثر الملفات حساسية بالنسبة للقيادة الروسية، أوكرانيا، من وجهة نظر صانع القرار بالكرملين.
تلفزيون سوريا
——————————–
الحرب على غزة.. لا مجال للعرب للتهرب من قدرية الجغرافيا/ منير الربيع
2023.11.10
شهر مضى على عملية طوفان الأقصى. لم يستطع الإسرائيليون حتى الآن من تحقيق إنجاز عسكري جدّي وحقيقي بغض النظر عن تسجيل بعض الاقتحامات البرية إلى أطراف القطاع، ومحاولات تقسيمه إلى قسم واحد جنوبي وآخر شمالي. وإذا كانت أي حرب أو معركة عسكرية تخاض في سبيل تحقيق مكاسب سياسية، وهذا ما تثبته تجارب التاريخ، فلم تنجح إسرائيل حتى الآن في تكوين هدف سياسي حقيقي لعملياتها العسكرية، إنما ترتكز على عمليات الانتقام والتجزير بهدف التهجير. وهذا مكمن حقيقي لخلاف آخذ بالتوسع بين الإسرائيليين والأميركيين الذين يطرحون أسئلة كثيرة على بنيامين نتنياهو لسؤاله عن المخرج الاستراتيجي والرؤية السياسية لديه لكنه لا يجيب لعدم توفرهما.
غالباً في مثل هذه الحالات، يكون الطرف المهاجم خاسراً سلفاً، خصوصاً بعدما وضع أهداف غير واقعية لعمليته العسكرية، كمثل سحق حركة حماس وتدميرها عسكريا أو تهجير فلسطينيي القطاع إلى الخارج، فيما بعد تدرجت الأهداف نزولاً إلى حصر المسؤولية برئيس المكتب السياسي للحركة في غزة يحيى السنوار. بينما لم يقدم الإسرائيليون أن رؤية لمرحلة ما بعد انتهاء العملية العسكرية، وهذا يوسع المشكلة الحقيقية بين الإدارة الأميركية ونتنياهو، وهي ما تزال غير ظاهرة حتى الآن. يسعى نتنياهو إلى إطالة أمد الحرب لأقصى مدة ممكنة، في حين لن تتمكن واشنطن من الموافقة على ذلك. خصوصاً في ظل التظاهرات، والاختلافات التي تضرب الحزب الديمقراطي، وصولاً إلى استطلاعات الرأي التي تشير إلى تراجع شعبية جو بايدن، وصولاً إلى احتمالات خسارته.
قد يغض الأميركيون النظر عن بعض الضربات التي توجه إلى إسرائيل من محور الممانعة، وذلك لتشكيل عناصر ضغط جديدة على الحكومة الإسرائيلية ونتنياهو شخصياً لتحذيره من أن ما يجري سيؤدي إلى حرب إقليمية وهذه ليست من مصلحة أي طرف، وبالتالي لا بد من إنزال الإسرائيليين عن الشجرة ضمن سياسة الاحتواء التي يمارسونها. فيما البحث الأساسي ما يزال يتركز على خلق بديل لنتنياهو، وهو ما سيفرض تدخلاً أميركياً بالتفاصيل الإسرائيلية الداخلية، وفق دوره كدينامو ومحرك للعبة.
في هذا الإطار تأتي تحركات إيران وحلفائها في توجيه ضربات مضبوطة ومدروسة فيغض الأميركيون النظر عنها على قاعدة تبرئة إيران من مسؤوليتها عن ذلك، بهدف عدم توسيع إطار الصراع، بينما ما يزال الإسرائيليون يبحثون عن تحقيق أي مكسب، وهو مسار متعذر بالمعنى العسكري وبدأ يضيق بالمعنى الدولي وعلى مستوى الرأي العام العالمي. سيبحث الإسرائيليون عن أي مخرج، بضغط أميركي للخروج من هذا المأزق العسكري. أما سياسياً، فإن النقاش الأبرز هو مستقبل قطاع غزة والقضية الفلسطينية ككل، وهو السؤال الذي لا يمتلك أي طرف جواباً عليه، إذا كانت منظمة التحرير هي التي ستتولى ذلك، أم أنه سيعاد إنتاج تركيبة السلطة وتكون حماس ضمنها لتتكون قدرة على إدارة الضفة والقطاع.
بالنظر إلى السياسة الأميركية الحريصة على مسايرة إيران ومسايرة كل القوى، فهذا يعني أنها لديها رؤية أوسع من مجرد النظرة الإسرائيلية، لكن ذلك سيكون بحاجة إلى فتح مسار طويل في نهايته أفق وحلّ للقضية الفلسطينية والضغط في سبيل إنشاء دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية، فمن دون حل هذا الأمر وتحقيق طموحات وآمال الشعب الفلسطيني لا يمكن الحديث عن حلّ لقضايا الشرق الأوسط. خصوصاً أن الأميركيين لا يريدون الذهاب إلى اعتماد سياسة الحروب، وهنا لا يمكن إغفال وجود منافسين دوليين للولايات المتحدة الأميركية، أبرزها روسيا والصين، وكلام كثير يقال في روسيا إن الحرب على قطاع غزة والموقف الروسي منها في أحد جوانبه رد على الحرب الروسية الأوكرانية والموقف الغربي منها، وهذا سيحرج الأميركيين أكثر ويجبرهم على البحث عن حلول على قاعدة موازنة علاقاتهم مع الجميع، ولذلك فإن ما تريده واشنطن هو البقاء على علاقة مع طهران، ولعدم وضعها بشكل كامل في الحضن الروسي الإيراني.
كل هذه الوقائع، يفترض أن تدفع الدول العربية إلى تكوين مشروع متكامل يقوم على حلّ عادل للقضية الفلسطينية والضغط في سبيل تحقيقها، إذ لا يمكن للعرب ترك القضية من دون حلّ، ولا الهروب من قدرية الجغرافيا السياسية، فأي هزيمة فلسطينية ستكون تداعياتها خطيرة عربياً في المرحلة المقبلة، كما كان الحال بالنسبة إلى خسارة العراق، وسوريا ولبنان من قبل فانتقل الصراع إلى اليمن على حدود الأمن القومي الخليجي.
تلفزيون سوريا
——————————
غابَ الأسد عن خطاب نصر الله: لن نُضحّي بالنّظام من أجل أحد/ إبراهيم ريحان
2023.11.09
حضَرَ اليمن والعِراق ولبنان في خطاب الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله الجمعة الماضي. وغابَ النّظام السّوريّ.
على مدى أكثر من ساعةٍ تحدّثَ نصر الله عن الوضع في المنطقة والحدود الجنوبيّة للبنان. لكنّ المُفارقة أنّ النّظام السّوريّ كانَ الغائب الأبرز عن كلمته. لم ترِد كلمة سوريا ولو مرّة، أو على الهامش.
دائماً ما كانَ حزب الله يُسمّي النّظام السّوريّ بـ”عماد محور المُقاومة”. ويكيلَ له قصائد المديح وأهازيج “الانتصارات”. لكنّ الوضع كان مُختلفاً هذه المرّة. فالذي يجري في المنطقة كبيرٌ جدّاً. ونتائج أيّ حسابات خاطئة ستكون كارثيّة بالنّسبة لإيران ومحورها.
كثيرة هي الأسباب التي غيّبَت دمشق عن كلمةِ نصر الله، وعن المشهد الميدانيّ أيضاً.
أوّلاً: اتصلَ رئيس دولة الإمارات محمّد بن زايد برئيس النّظام السّوريّ بشّار الأسد يومَ الثّامن من تشرين الأولّ / أكتوبر، في اليوم التّالي لعمليّة “طوفان الأقصى”.
نقلَ بن زايد “نصائح” للأسد بأن يُبقي جبهة الجولان هادئة، وأن يعمل على ضبطِ أيّ عملٍ قد تقوم به الفصائل الإيرانيّة انطلاقاً من الأراضي السّوريّة.
كذلك سُجِّلَ اتصالٌ بين الأسد والرّئيس الرّوسيّ فلاديمير بوتين. حملَ هذا الاتصال الرّسالة عينها للأسد، على أساس أنّ أيّ عملٍ من الجولان سيُقابله ثمنٌ باهظٌ.
ثانياً: خرجَ الأسد قبل أشهر قليلة في مُقابلة مُتلفزة، ليصِفَ حركة “حماس” بالنّفاق والغدر. ومن منّا لا يذكر المشاهد المُصوّرة من مجزرة التّضامن والتي يقول بها أحد عناصر مخابرات الأسد لأحد السّجناء “أنت من حماس؟” قبل أن يُجهِزَ عليه بالرّصاص.
ثالثاً: لم يتغيّر موقف النّظام من “حماس”، على الرّغم من محاولات إيران وحزب الله إعادة العلاقة بينهما إلى سابق عهدها. من يعرف كيف يُفكّر نظام الأسد، يُدرِك مدى “الحقد” الذي يحمله ضدّ كل من يخالفه، وإن حاول “المُصالحة”.
رابعاً: لم يُسجّل في مناطق سيطرة النّظام السّوريّ أيّ “تحرّكات شعبيّة” جدّيّة لدعم المُقاومة الفلسطينيّة في غزّة. وهذا إن دلّ علي شيء، فيدُل على أنّ النّظام منَعَ أيّ تضامن مع حركة حماس.
خامساً: تُعتبَر جبهة الجولان خاصرةً رخوة بالنّسبة لمحور إيران. إذ تبعدُ الهضبة المُحتلّة 60 كم فقط عن العاصمة دمشق. ويُمكن القول إنّ هذه المنطقة تُعتبر “ساقطة عسكريّاً”. إذ عبرها الجيش الإسرائيلي في حرب تشرين 1973 وكادَ يصل إلى قلب العاصمة لولا التنازلات التي قدّمها النّظام السّوريّ، وتدخّل الجيش العراقيّ في اللحظات الأخيرة.
سادساً: لا يُنكر اثنان خطورة الوضع الدّاخليّ بالنّسبة للنظام السّوريّ. فقبل أيّام قليلة من بدء الحرب في قطاع غزّة، كانَت السّويداء مُنتفضة لأسابيع، وصارَت يدُ النّظام ملويّة بسقوط سرديّة “حماية الأقليّات”. وكان الوضع في الجنوب السّوريّ، وتحديداً في درعا آخذ بالتّصاعد ويُنذر بتجدّد الثّورة من مهدها.
يُضاف إلى كلّ هذا التّململ الذي يسود الأوساط المؤيّدة للنظام السّوريّ بفعل الوضع الاقتصاديّ المُتردّي، وظهور حالات الثّراء الفاحش على قادة الميليشيات وتجّار المُخدّرات والشّخصيات المُستفيدة بعلاقتها به.
سابعاً: زارَ وفدٌ من قيادة ميليشيات الحشد الشّعبيّ العراقيّ العاصمة السّوريّة دمشق، وسمعوا من مسؤولي النّظام رفضاً قاطعاً لأيّ محاولة لاستعمال الأراضي السّوريّة ضدّ إسرائيل. وهذا ما دفَع قادة الحشد الشّعبيّ لتحويل أنظارهم نحوَ الحدود العراقيّة – الأردنيّة.
ثامناً والأهمّ: وصلَت تحذيرات جدّية من الولايات المُتحدة وإسرائيل إلى إيران وحزب الله والنّظام السّوريّ.
تُفيد هذه التحذيرات أنّ توسيع الحرب أو محاولة توسيعها في المنطقة، أو تحريك جبهة الجولان سيُقابل بردٍّ إسرائيليّ مباشر على النّظام السّوريّ قد تصل إلى حدّ إسقاط النّظام، وكذلك إغلاق طريق البوكمال – بيروت مرّةً وإلى الأبد.
وصلَت هذه الرّسائل بالنّار إلى المعنيين. فقصفت إسرائيل منذ السّاعات الأولى لبدء حربها ضدّ غزّة مطاريْ دمشق وحلب غير مرّة.
دفعَت إيران وأذرعها اللبنانيّة والعراقيّة والأفغانيّة أثماناً كبيرة، بشريّة وماليّة واقتصاديّة باهظة لحماية النّظام السّوريّ منذ تدخّلها الواسع في سنة 2012. الواضح أنّ محور إيران ليسَ على استعدادٍ للتضحية بالنّظام السّوريّ لحماية “حماس”.
الفارقُ كبيرٌ بين الطّرفيْن من حيث الأهميّة للمحور الإيرانيّ:
– يُعتبر النّظام السّوريّ ركناً أساسيّاً في مشروع الهلال الشّيعي الذي تقوده إيران.
– يُشكّل الوضع الدّاخليّ في سوريا مصدرَ قلقٍ لطهران وموسكو. إذ تتخوّفان من تحرّك القوّات الأميركيّة وفصائل “قسد” بشكلٍ واسع في حال اشتعلت جبهة الجولان.
– دائماً ما كانَت سوريا الممرّ الأساسيّ والخطّ اللوجستي الرّئيسي لحزب الله الذي يستعمله لنقل وتصدير السّلاح والذّخائر والمُقاتلين.
– تُعتبر سوريا بوّابة إيرانيّة نحوَ العمق العربيّ، وورقةً تستعملها لابتزاز الأميركيين عبر استهداف قواعدهم أو التلويح بالمساس بأمن إسرائيل.
النّتيجة أنّ سرديّة “المقاومة” سقطَت عند أّوّل اختبارٍ حقيقي لنظريّة “وحدة السّاحات” و”تماسك محور إيران”. غُيِّبَ “النّظام السّوريّ” عن خطابات قادة المحور، وصارَت حمايته أولى من حماية غزّة التي تُباد عن بكرة أبيها بعد أن ظنّ “الغزّيون” أنّ لديهم سنداً حديديّاً، ليكتشفوا أنّ هذا السّندَ لا يكون إلّا لقمع الشّعوب، لا لنصرتها.
تلفزيون سوريا
—————————–
الموقف الأميركي من الحرب على غزة/ رضوان زيادة
2023.11.08
أخذ الرئيس بايدن موقفا سريعا في تأييد إسرائيل فيما اعتبره “حقها في الدفاع عن النفس” هذا الموقف كان شخصيا إلى حد كبير حيث كرر بايدن أكثر من مرة أنه “لا تحتاج إلى أن تكون يهوديا كي تكون صهيونيا”، و”أننا نحتاج إلى اختراع إسرائيل حتى ولو كانت غير موجودة”.
ثم جاءت زيارته إلى إسرائيل المباشرة للتعبير عن “التضامن” معها بالرغم من الحملة العسكرية التي بدأت بها إسرائيل في غزة في اليوم التالي لهجوم حماس ضمن حملة جوية وبرية لا تميّز بين عسكري ومدني، وتقوم بشكل كبير على تهجير الفلسطينيين وقطع الماء والكهرباء عنهم وإدخال المساعدات الغذائية لهم عبر القطارة، مما يضاعف معاناة كل سكان القطاع الذي كان تحت حصار لمدة ستة عشر عاما، إنه شكل من أشكال العقاب الجماعي لكل الفلسطينيين القاطنين في غزة، وهو ما يبدو واضحا في طريقة ردة الفعل الإسرائيلية في الاجتياح البري أيضا.
لكن بايدن _ومع ازدياد الضغوط عليه من قبل أعضاء الحزب الديمقراطي وخاصة السيناتور عن ولاية فيرمونت ساندرز المنحدر من عائلة يهودية، والذي تحدث عن “هدنة إنسانية مؤقتة” من أجل السماح بإدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة_ غيّر موقفه قليلا ما انعكس فورا على خطاب الرئيس بايدن الذي تحدث بعدها عن الحاجة إلى هدنة إنسانية وأرسل وزير خارجيته بلينكن من أجل التسويق لهذه الفكرة لدى العرب والإسرائيليين، لكن الرأي العام في واد آخر مختلف وهو يرى الفظائع التي ترتكب بحق الفلسطينيين في غزة، وهو ما دفع الآلاف من العرب والفسطينيين والأميركيين للخروج في مظاهرات تطالب بوقف فوري لإطلاق النار في سابقة ربما لم تشهدها الولايات المتحدة من قبل، وهو ما يعكس تغير المزاج العام في أميركا لصالح رؤية المعاناة التي يعيشها الشعب الفلسطيني، وهو ما عبر عنه الرئيس أوباما علنا حين قال في مقابلة “إن هجوم حماس كان “مروعا”. لكنه تابع أن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية و”ما يحدث للفلسطينيين” هو أيضًا “أمر لا يطاق”.
“إذا كنت تريد حل المشكلة، عليك أن تتقبل الحقيقة كاملة”. وقال: “عليك بعد ذلك أن تعترف بأن لا أحد يداه نظيفة، وأننا جميعا متواطئون إلى حد ما”، معتبراً أن العالم بأسره يتحمل مسؤولية السماح للصراع المستمر منذ عقود بالتفاقم.
من المعروف أن علاقة أوباما كانت فاترة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي تجاهل محاولات الرئيس الأميركي لتخفيف التوترات في المنطقة، والتي تضمنت الضغط من أجل وضع حد للتوسع الاستيطاني الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية، وتحذيرات في أيامه الأخيرة كرئيس من أن التحرك قد يؤدي إلى عواقب وخيمة. إن نقل السفارة إلى القدس سيكون “متفجراً” ويقوض جهود السلام طويلة المدى وتبني حل الدولتين الذي يعترف بدولة فلسطينية حرة على أساس حدود عام 1967.
لذلك يمكن القول إن القضية الفلسطينية تتفاعل داخل الرأي العام الأميركي بشكل لم يسبق له مثيل من قبل، وهو ما يحتاج إلى جهود متواصلة من أجل تغيير على مستوى السياسة الأميركية كي تكون أكثر توزانا فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية.
فعبارات الرئيس أوباما تشكل صفعة للرئيس بايدن الذي احتفظ بتأييد إسرائيل كما أن كلمات أوباما هذه تتعارض مع عقود من الدعم القوي لإسرائيل من قبل الولايات المتحدة، حتى بين القادة الديمقراطيين في واشنطن، على الرغم من أن بعض أعضاء مجلس الشيوخ الديمقراطيين بدؤوا في الأيام الأخيرة في الدعوة إلى وقف إطلاق نار إنساني للهجوم الإسرائيلي بغية مساعدة الفلسطينيين.
هناك تغير ما بفضل ساندرز وأوباما داخل الحزب الديمقراطي وهو ما يجعله مهما لدرجة أنه يمكن البناء عليه سياسة تضمن حلاً عادلاً للقضية الفلسطينية.
تلفزيون سوريا
————————–
المواقف الدولية خلال شهر من الحرب على غزّة
7 تشرين الثاني 2023
ليس جديداً أن تكون الساحة الدبلوماسية الدولية قاصرة أمام جرائم الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان، لكن مراجعة الشهر المنقضي منذ هجمة «طوفان الأقصى» التي شنّتها حماس على كيبوتزات ومواقع عسكرية في غلاف غزّة، وللحرب الانتقامية الشرسة التي تشنّها إسرائيل على القطاع، تشير إلى مستوىً جديد من الجمود الدبلوماسي العام، وإلى تخلّي أقطاب عالمية كبرى عن الرهان على الدبلوماسية والوساطات حتى على المستوى اللفظي، واحتضانها بشكل سافر لجرائم حرب موصوفة تُرتكَب أمام أعين مليارات البشر. شهرٌ كامل وما يزال السجال الدولي واقفاً عند الحديث عن «هدن إنسانية»، وسط تشنج دبلوماسي كبير عند مصطلحات «وقف إطلاق النار» أو «وقف العدوان»، وغياب تام لنقاش مسألة الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي وانتهاك حقوق الشعب الفلسطيني دون أي حساب.
الولايات المتحدة وبريطانيا
«منذ حصول العمليات الإرهابية رأينا كيف وُصِفت على أنها 11 أيلول (سبتمبر) الإسرائيلية، لكن وحدات القياس مختلفة بالنسبة لأمة بحجم إسرائيل، إذ كانت بحجم خمسة عشر 11 أيلول مجتمعة». يفيد هذا التصريح للرئيس جو بايدن، في مؤتمر صحفي عُقد في البيت الأبيض في 18 تشرين الأول (أكتوبر)، في تصوير مدى التماهي الأميركي مع الصدمة الإسرائيلية إثر عملية «طوفان الأقصى». قبلها بأسبوع كان الرئيس بايدن قد وصف هجوم حماس على مواقع عسكرية وكيبوتزات في غلاف غزة بأنه «الأعنف ضد اليهود منذ الهولوكوست» في اليوم ذاته الذي أوضح فيه وزير الخارجية أنطوني بلينكن لدى وصوله إلى إسرائيل أنه «قادمٌ كيهودي». تنفع هذه التصريحات كنموذج عن الموقف الأميركي خلال الحرب الإسرائيلية على غزّة: هذه ليست مجرد «جولة جديدة»، إذ أن هَول ما حصل على إسرائيل يقتضي خطوات أميركية إضافية من أجل خلق واقع جديد في قطاع غزّة. تُشير تقارير صحفية إلى وجود تباينات أميركية-إسرائيلية حول شكل هذا «الواقع الجديد» في غزة وفي الشرق الأوسط عموماً، لكن عنوان «هزيمة حماس» ما زال مشتركاً بينهما.
وضعت الولايات المتحدة دفعات عديدة من معدات عسكرية ومعونات مالية تحت تصرّف إسرائيل، وضمنت تقديم الدعم لها حتى تحقيق الأهداف من المعركة. وعدا ذلك، حرّكت الولايات المتحدة، بالتنسيق مع بريطانيا، جزءاً من أسطولها في المتوسط، بما فيه حاملة طائرات، بغية توجيه رسالة حازمة لإيران وحزب الله بعدم التصعيد ومدّ نطاق الحرب إقليمياً، كما عززت معداتها ومضاداتها الجوية في قواعدها في سوريا والعراق لحمايتها من هجمات الفصائل الموالية لإيران في البلدين، التي تضاعفت خلال الأسابيع الأخيرة.
وعدا العون العسكري والمالي المتدفق نحو إسرائيل، تولّت الولايات المتحدة مهمة صدّ الضغوطات لفرض وقف إطلاق نار، حتى لو كان مؤقتاً ولأسباب إنسانية في المحافل الدولية. وفي حين ليست هذه المهمة بالأمر الجديد على الإدارات الأميركية، إلا أن المدى الزمني والبشري للصلابة في رفض المساعي الدبلوماسية أكبر بكثير من أي جولة سابقة، كما أن عدد القوى الغربية المنضوية بوضوح حاسم تحت الجهود الأميركية لرفض وقف إطلاق النار غير مسبوق، فلطالما قامت الولايات المتحدة بهذه المهمة لوحدها لصالح إسرائيل خلال العقود الماضية.
ومع التقارير عن التباينات حول تفاصيل الأهداف العسكرية، تتالت في الأيام الأخيرة علامات خلافات ضمن الحزب الديمقراطي الحاكم حول التكتيكات والأهداف العسكرية والسياسية لإسرائيل، وانتقادات لطريقة الدعم الأميركي الحالي لها. وقد عبّرَ الرئيس السابق باراك أوباما في مناسبتين عن مواقف أقل حسماً في انحيازها لإسرائيل وأكثر تفهُّماً للواقع الفلسطيني من خطاب الإدارة الأميركية الحالي، الرافض لأي شرح سياقي لهجمة حماس في السابع من تشرين الأول. ورغم أن هذه السجالات مُرشّحة للنمو في الأيام والأسابيع المقبلة مع طول أمد الحرب وازدياد الكلفة الإنسانية لها، إلا أنها لا تبدو الآن قريبة من أن تحقق تحولاً في الدعم الأميركي الحاسم للأهداف الإسرائيلية العسكرية والسياسية.
وكما هو معتاد، تماهت المملكة المتحدة مع الولايات المتحدة بالكامل، أكان على صعيد الموقف السياسي، كما تبدّى في زيارة رئيس الوزراء البريطاني إلى إسرائيل بُعيد هجوم حماس؛ أو بالدعم اللوجستي والعسكري الذي قدّمته بريطانيا لإسرائيل. وعدا ذلك، تماهت أوساط حزب المحافظين مع النقد الذي وجَّهته إسرائيل على لسان رئيسها لشبكة بي بي سي لما اعتبره تغطية غير منصفة لإسرائيل. وثمة بُعدٌ محلّي في نهج حزب المحافظين خلال هذه الأزمة، إذ يسعى الحزب الحاكم، والذي يعيش أدنى درجات الدعم الشعبي حسب استطلاعات الرأي، للاستثمار في تصدّعات ممكنة ضمن الحزب العمّالي المنافس على خلفية الحرب على غزّة، فهو من جهة حزبٌ يساريٌ والتعاطف مع فلسطين ضمنه أعلى منه في الأوساط اليمينية، ومن جهة أخرى فهو يحوي في صفوفه أعداداً كبيرة من ذوي الأصول العربية والمسلمة، ومن ناحية ثالثة ما زال يعاني ارتدادات قضية «معاداة السامية» التي عصفت به خلال نصف العقد الأخير، وأضعفت زعيمه السابق جيرمي كوربن بشكل كبير. لم يحد كير ستريمر، زعيم الحزب العمالي، عن خطّ الحكومة البريطانية الداعم لإسرائيل، واستنكر الدعوات لوقف إطلاق النار، لكن السجال داخل حزبه بات علنياً، وتتالت أخبار الاستقالات في صفوفه احتجاجاً على موقف الحزب من الحرب على غزة.
الاتحاد الأوروبي: شأن داخلي
ثمة سجالات سياسية داخلية كثيرة حول الموقف من الحرب الإسرائيلية على غزّة ضمن الاتحاد الأوروبي كمؤسسات، وضمن دوله الأعضاء كذلك. لكن تَغيُّرَ نبرة الخطاب وحدّته ضمن الاتحاد الأوروبي مقارنةً بمواجهات عسكرية سابقة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، أو مع حزب الله في حرب عام 2006، هو الأكبر ضمن الطيف الغربي. قسمٌ كبيرٌ من هذه التحوّلات ناتجٌ عن موقف غير مسبوق في قسوته من ألمانيا، كبرى دول الاتحاد الأوروبي، أكان عبر مواقف وتصريحات المستشار أولاف شولتز في البرلمان الاتحادي أو خلال زيارته إلى إسرائيل. وقد تُرجم هذا الموقف الحاد في تضامنه مع إسرائيل داخلياً عبر تضييق على الاحتجاجات المُتضامنة مع فلسطين، ومداولات بقيادة الحزب المسيحي الديمقراطي المعارض تطالب بتشديد قوانين اللجوء والهجرة والجنسية لتحوي مواداً تُطالب بالاعتراف بإسرائيل من أجل «مكافحة العداء للسامية». وفي وقتٍ يشهد التحالف الحاكم أزمة في دعمه الشعبي، ويصعد حزب البديل من أجل ألمانيا في استطلاعات الرأي إلى المرتبة الثانية بعد المسيحي الديمقراطي وقبل أحزاب التحالف الحاكم الثلاثة، باتت هناك أوانٍ مستطرقة واضحة ما بين الموقف الرسمي المنحاز لإسرائيل وتبنّي خطاب عدائي ومتشكك تجاه المهاجرين العرب-المسلمين من قبل التحالف الحاكم والحزب المسيحي الديمقراطي بطريقة أوضح وأكثر حدّية مما قبل 7 تشرين الأول (أكتوبر). نجد أمثلة على ذلك في تصريحات شولتز نفسه عن الحاجة لـ«توسيع نطاقات الترحيل»، وفي خطاب نائبه روبرت هابك، من حزب الخضر، والذي خصَّصَ خطاباته وتصريحاته في الأيام الماضية لمُساءلة الجمعيات الإسلامية ولإدانة «المظاهرات الإسلامية» في برلين وغيرها، والتي تقتضي «إجراءات حازمة»، حسب قوله. بدورها، أصدرت فرنسا مواقف رسمية حازمة في انحيازها لإسرائيل، إلى درجة مطالبة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بمدّ صلاحيات التحالف الدولي لمحاربة داعش ليكون قادراً على تقديم الدعم لإسرائيل في حربها ضد حماس. وقد تزامن هذا الموقف الدولي لفرنسا مع هجومٍ قاسٍ لوزير الداخلية الفرنسي، جيرالد دارمانين على كريم بنزيمة، على خلفية موقف اللاعب الفرنسي ذو الأصول الجزائرية الداعم لفلسطين. وبنزيمة، بمظهره وسيرته وتديّنه ومواقفه السياسية، هو هدف معتاد لهجمات اليمين الفرنسي المعادي للهجرة. وقد امتدت مفاعيل الحرب الإسرائيلية على غزّة في السياسة الفرنسية لتصل إلى أزمة كبرى داخل التحالف اليساري المناهض لماكرون، بقيادة جان لوك ميلانشون. وفي ديناميكية مشابهة من الربط بين الانحياز التام لإسرائيل والقسوة تجاه المهاجرين العرب-المسلمين، تنشط جورجيا ميلوني رئيسة الوزراء الإيطالية على الساحة الدولية في سعيها للاستثمار داخلياً وأوروبياً في الانحياز لإسرائيل للتخلص من أشباح الأصول الفاشيّة لحزبها، ولبناء تحالفات أوروبية تتجاوز أسرة اليمين المتطرف الأوروبي نحو أجزاء من اليمين المحافظ التقليدي إزاء الانتخابات الأوروبية العام المقبل. وفي حين تأخذ دول مثل إسبانيا وإيرلندا ولوكسمبورغ مواقفاً متمايزة عن ثلاثي ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، تقود هنغاريا الانحياز الأوروبي الشرقي لحكومة نتنياهو، في استمرار لعلاقة توثّقت خلال السنوات السابقة.
وثمة أربعة أمثلة توضح مدى التباينات بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي حول السياسة المتّبعة حيال الحرب على غزّة. وقد ظهر أولها مع إلغاء قرارٍ بوقف تمويل المؤسسات الفلسطينية أصدره مفوّض التوسّع والجوار، الهنغاري أوليفر فارهيلي، بعد اجتماع لمجلس وزراء خارجية الدول الأعضاء؛ وثانيها مع استياءات متعددة المستوى صدرت ضمن مؤسسات الاتحاد للمواقف الحادّة والمنفردة التي قدّمتها أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، وظهرت للعلن وبوضوح غير معتاد ضمن السياسة الاتحادية خلال جلسة في البرلمان الأوروبي على لسان المفوض السامي للسياسة الخارجية، الإسباني جوزيب بوريل؛ وثالثها في الاستعصاء الكبير الذي عاشه المجلس الأوروبي (مجلس قادة الدول الأعضاء) للخروج بموقف موحّد، ما أخّرَ 19 يوماً صدور «موقف حدود دنيا ومتجنّب للعبارات الإشكالية» (مثل المطالبة بوقف إطلاق النار)؛ ورابع الأمثلة نجده في تباين تصويتات الدول الأعضاء على قرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة المُطالب بهدنة إنسانية في القطاع، فمع أنه لا توجد أعراف تُجبر الدول الأعضاء على التصويت باتجاهٍ واحد في المحافل الدولية، إلا أن المعتاد هو التصويت كمجموعة واحدة، ويندر أن يُكسَر هذا الإجماع، وخصوصاً بالشكل الذي تم في السادس والعشرين من تشرين الأول (أكتوبر)، يوم التصويت على القرار.
ليست الخلافات الأوروبية الداخلية، وعطالة المؤسسات الاتحادية عند حصولها، بالأمر الجديد، لكن قلّما أبدت المؤسسات الاتحادية ومجموع الدول الأعضاء هذا القدر من التخبّط والتناقض. والجديد أيضاً هو هذا القدر من رفض الدبلوماسية والحلول التفاوضية، والإصرار على أولوية الحسم العسكري الكامل ضمن أوساط أوروبية معاصرة، بُني خطابها وبنكُ مفرداتها في فترة ما بعد انهيار جدار برلين على أولوية «خفض التصعيد» دوماً لصالح «المسارات التفاوضية»، واعتبار المواجهات العسكرية «فشلاً» بالتعريف. قد يكون استفظاعُ ما حصل في كيبوتزات غلاف غزّة والتماهي مع الضحايا والمخطوفين، ذو العتبة المنخفضة مقارنةً بالتماهي مع الضحايا الفلسطينيين، سبباً أساسياً في هذا الموقف الحازم والقاسي، ولكن لا شك أن ثمة دوراً كبيراً للحرب الروسية على أوكرانيا في إدخال المنطق العسكريتاري التعبوي في الخطاب الأوروبي. الحرب الإسرائيلية الحالية على غزّة هي أول أزمة كبرى تحصل في المجال الحيوي الأوروبي بُعيدَ الغزو الروسي لأوكرانيا، وثمة ضرورة لفحص ارتدادات هذه الحرب على طريقة تعاطي الأوروبيين مع أزمات أخرى، أكان مع الأزمة نفسها، أو ارتداداتها داخل السياسة الاتحادية أو سياسة الدول الأعضاء نفسها.
الدول العربية
عربياً كان الموقفان المصري والأردني حاسمَين لجهة رفض أي طروحات ومشاريع لتهجير الفلسطينيين من غزة إلى سيناء، ويبدو أن هذا الموقف الحاسم نجح في إخراج المسألة من النقاش، لكنه لم ينجح حتى الآن في فرض المعادلة التي توقف تمهيد الأرض أمام مشروع الإبادة والتهجير الإسرائيلي، بمعنى أنه لم ينجح في تقديم مشروع أو خطة يمكن أن تقود فعلاً إلى وقف المذبحة، ولا في فرض إدخال المساعدات الإنسانية اللازمة إلى غزة.
إلا أنه تكوّنَ حولَ هذا الموقف المصري الأردني موقفٌ عربيٌ يحمل لواء المطالبة بوقف النار، ويرفض نقاش «مستقبل غزة بعد القضاء من حماس» على نحو ما طرحَ وزير الخارجية الأميركية مؤخراً في عمّان، عندما رفض الجانبان المصري والأردني نقاش هذه المسألة، وكرّرا إصرارهما على تنفيذ مطلب وقف إطلاق النار قبل نقاش أي شيء آخر. تبدو المواقف العربية إجمالاً داعمة لهذا الخط رغم وجود تباينات مرتبطة أساساً بالموقف من حماس والموقف من التطبيع مع إسرائيل، وإن كانت هذه المواقف لا تزال غير فعّالة لجهة وقف المذبحة حتى الآن، إلّا أنها تتكون حولها عودة إلى «محور اعتدال عربي» أكثر تصادماً مع الدعم الأميركي المطلق لإسرائيل مما كانت عليه نسخة محور الاعتدال القديمة.
تنعقد قمة عربية طارئة في الحادي عشر من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري من أجل غزة، وستكون هذه القمة استحقاقاً مهماً لأن نتائجها ستحدّد ما إذا كانت الفعالية السياسية العربية ستتجاوز رفض تهجير الفلسطينيين من ديارهم مجدداً.
روسيا: إبعاد الأنظار عن أوكرانيا
بُعيد زيارة إلى موسكو أجراها وفد من حركة حماس، يرأسه موسى أبو مرزوق عضو المكتب السياسي للحركة، قال وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف إنّ القضاء على حركة حماس سيؤدي إلى دمار قطاع غزة وقتل معظم من فيه من المدنيين، وحثَّ الإسرائيليين على التفاوض لوقف إطلاق النار، مذكراً بأنّ حل الدولتين أصبح اليوم أبعد مما كان سابقاً.
لم تلتفت موسكو للاحتجاجات الإسرائيلية على استقبال وفد حركة حماس، وتابعت انتقادها للقصف الإسرائيلي على غزة، كما كانت قد تقدمت في الأيام الأولى للحرب بمشروع قرار إلى مجلس الأمن لوقف إطلاق النار، علمت بأنّه سيواجَه بفيتو أميركي.
لم تؤيد موسكو سابقاً العمليات العسكرية التي تقوم بها إسرائيل في غزة، وسبق أن وجهت انتقادات لها في الحروب التي جرت سابقاً، لكنّ حضور نائب وزير الخارجية الإيراني خلال زيارة وفد حماس، والحديث عن تنسيق ثلاثي بين الأطراف، يخرق على ما يبدو خطَّاً لم ترغب روسيا بتجاوزه سابقاً بهدف الحفاظ على علاقات مع إسرائيل، وهي علاقات وصلت إلى مستويات عالية من التنسيق بعد فوز بنيامين نتنياهو مجدداً في انتخابات عام 2015 وبدء التدخل الروسي في سوريا في ذات العام، لكنّ موقف تل أبيب الرافض للحرب على أوكرانيا، وإن بتحفظ وبحرارة أقل بكثير من الموقف الغربي، أدَّى تدريجياً إلى تراجع مستوى هذه العلاقة بين الطرفين.
بالمقابل، فإنّ القطيعة الغربية مع موسكو والعقوبات الاقتصادية عليها بعد غزو أوكرانيا كانت أحد الأسباب التي جعلتها تعتمد بشكل كامل على تحالفاتها مع دول مثل إيران والصين، وهو ما يجعل موقفها ينزاح بشكل تلقائي نحو دعمٍ أكبر لحلفاء هذه الدول في المنطقة. وقبل كل شيء فإنّ فلاديمير بوتين، الذي يحلم باستعادة أمجاد الاتحاد السوفييتي في المنطقة، عليه أن يخطو خطوات أكبر تجاه ما يسمى بحلف المقاومة في المنطقة للحصول على فرصة للمشاركة أكثر في صناعة سياسة المنطقة.
كما أنّ موسكو ستستفيد بلا شك من التصعيد في غزة، إذ ستُبعد هذه الحربُ الأنظار عن أوكرانيا وما يجري فيها، سواءً من انتهاكات تقوم بها قواتها أو أي تطورات عسكرية لصالحها أو بالعكس، وهو ما يفيد في تخفيف الضغط السياسي على قواتها هناك.
تركيا الحائرة
لعلّ أحسن ما يُوصف به الموقف التركي من الحرب في غزة هو الحيرة والتردد، خاصةً خلال الأيام الأولى من الحرب، حيث فضَّلت أنقرة اتخاذ موقفٍ مناهض للعملية بحياء، مقابل عدم الانخراط بالتضامن الغربي مع إسرائيل تماماً. لكنّ هذا الموقف الذي لم يفِ بالغرض مع الإسرائيليين أضرّ بموقف أنقرة بين حلفائها في المنطقة، والتي كانت حركة حماس ولسنوات طويلة تُعَدُّ جزءاً منهم.
وأمام اقتراب استحقاق الانتخابات البلدية التي يعول فيها حزب العدالة والتنمية على استرجاع بلديات رئيسية خسرها سابقاً مثل بلديات أنقرة وإسطنبول، وتصاعد الغضب الشعبي في الشارع التركي ضد الانتهاكات الإسرائيلية في غزة، أصبح التحول التام نحو الموقف الناقد لإسرائيل لا بد منه بالنسبة لرئيس شعبوي مثل أردوغان.
وعلى الرغم من أنّ هذا الموقف قد يعود عليه بنتائج إيجابية سريعة من حيث ارتفاع شعبيته بين الأتراك، إلا أنّه قد يقود إلى خسارة تركيا فرصة توقيع اتفاقية مستقبلية مع إسرائيل لإيصال غازها إلى أوروبا عبر تركيا، وهو ما يعني خسارة اقتصادية كبيرة بالنسبة لأنقرة.
قد يكون أردوغان مدركاً لذلك، لكنّ الاصطفاف الحدي والعنيف للمواقف الدولية بخصوص هذه الحرب وعملية «طوفان الأقصى» لم يترك مجالاً كبيراً لتركيا لاتخاذ موقفٍ وسطي، وما كان يمكن الاستمرار فيه دون خسارة الكثير في الداخل والمنطقة، في الوقت الذي لم تكن مكاسب مثل هذا الموقف مؤكدةً أبداً.
إيران وميليشياتها
سارعت طهران بعد عملية «طوفان الأقصى» إلى نفي علمها بمخطط حماس لتنفيذ هذه العملية، على أنّ بعثتها إلى الأمم المتحدة أصدرت بياناً في التاسع من شهر تشرين الأول (أكتوبر) الماضي أشارت فيه إلى أن عملية حماس «تشكل دفاعاً مشروعاً تماماً في مواجهة 7 عقود من الاحتلال القمعي والجرائم البشعة التي ارتكبها النظام الصهيوني غير الشرعي».
وعقب التحذيرات الغربية، وخصوصاً الأميركية، لإيران من «محاولة توسيع الصراع»، وبعد وصول تعزيزات عسكرية أميركية تشمل مقاتلين وحاملات طائرات وأخيراً غواصة نووية إلى منطقة الشرق الأوسط، قال وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان إن بلاده «لا تسعى لتوسيع دائرة الحرب في المنطقة، لكن مواصلة قتل النساء والأطفال ستؤدي إلى نفاد صبر قوات المقاومة وشعوب المنطقة».
من جهتها، قالت الولايات المتحدة الأميركية على لسان وزير خارجيتها أنتوني بلينكن إنه «لا دليل على وقوف إيران وراء الهجوم الذي شنته كتائب القسام التابعة لحركة حماس على إسرائيل، رغم وجود علاقات بين حماس وطهران».
وبموازاة ذلك، تقوم ميليشيات تتبع لإيران أو تتلقي الأوامر والتمويل منها بعمليات استهدافٍ محدودة ضد قواعد أميركية في العراق وسوريا بشكلٍ متكرر، كما أطلقت ميليشيا الحوثي في اليمن عدداً من الصواريخ البالستية والطائرات المُسيَّرة نحو ما وصفتها «بالأهداف الأميركية والإسرائيلية» دون أن تتسبب بأضرار.
وتتركّز الجبهة الأكثر سخونةً لأتباع طهران في الجنوب اللبناني، إذ تشهد المنطقة عمليات قصف متبادلة محدودة النطاق ضمن ما يُعرف بـ«قواعد الاشتباك»، على أن هذه القواعد باتت أعلى سقفاً من تلك التي سادت منذ حرب تموز (يوليو) 2006، إذ سقط 11 ضحية من المدنيين اللبنانيين وإسرائيلي واحد نتيجةً لذلك، بالإضافة إلى قتلى وجرحى من عناصر ميليشيا حزب الله ومن جيش الاحتلال الإسرائيلي. كما سمح حزب الله لكتائب القسام-لبنان التابعة لحماس بإطلاق عددٍ من الصواريخ باتجاه المستوطنات الإسرائيلية في الجليل.
ويوم الجمعة الفائت، ألقى حسن نصر الله زعيم ميليشيا حزب الله كلمةً في تعليقٍ أول له على العدوان الإسرائيلي على غزة، لم تحمل أكثر من قراءة تحليلية لما يحصل على الجبهتين الفلسطينية واللبنانية، متوعداً إسرائيل «بردٍّ لم تشهد مثله في تاريخها في حال شنّت حرباً على لبنان»، نافياً هو الآخر أية صلةٍ أو معرفة بمخطط كتائب القسام لاقتحام مستوطنات غلاف غزة في السابع من تشرين الأول (أكتوبر).
وبالرغم من حِدّة التصريحات الصادرة عن المؤسسات الإيرانية الرسمية وقيادات الميليشيات العربية التابعة لها، فمن الواضح عدم وجود نية لدخول الحرب أو توسيع ساحتها، في حين يبقى النظام السوري حليف إيران الوحيد الذي لم يصدر عنه أي تصرفٍ لافت طوال شهر من الحرب الإسرائيلية على غزة.
«الجنوب العالمي»
حافظت الصين خلال هذه الأزمة على مقاربتها الحذرة للصراع العربي-الإسرائيلي، مكتفية بإشارات عامة للقوانين الدولية والسبل التفاوضية، ومعبّرة عن استعدادها للعب دور إيجابي للوصول إلى حلول سياسية على غرار وساطتها في المصالحة السعودية- الإيرانية. وقد صوّتت الصين لصالح قرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة بخصوص الهُدن الإنسانية في السادس والعشرين من الشهر الماضي. وعلى القرار ذاته، امتنعت الهند عن التصويت في موقفٍ بدا أكثر وسطية مما تُظهره السياسة الهندية خلال الأسابيع الأخيرة، فقد شهدت الهند خلال فترة حكم نارندرا مودي تحوّلاً كبيراً باتجاه الانحياز لإسرائيل في أوانٍ مستطرقة، هنا أيضاً، مع السياسة الداخلية المعادية للمسلمين في الأوساط القومية الهندوسية التي يتزعّمها مودي. ويتجاوز أثر الهند في الصراع موقفها السياسي كدولة كبرى، نحو دور فاعل وضخم للنشطاء القوميين الهندوس في حرب الفضاء الافتراضي لصالح إسرائيل.
أما في أميركا اللاتينية فقد صعَّدَت غالبية الدول من انتقاداتها لإسرائيل، إذ صدرت مواقف تدينُ للعدوان على غزة وتطالب بوقف لإطلاق النار من المكسيك والبرازيل والأرجنتين، وصولاً لسحب دبلوماسييها وقطع العلاقات، كما فعلت تشيلي وبوليفيا بالترتيب. وفي حين حافظت إسرائيل على دعم الباراغواي، خسرت في هذه الجولة كولومبيا، حليفتها التاريخية الوثيقة في القارة، التي استدعت سفيرها للتشاور.
أفريقياً، صوّتت غالبية دول الاتحاد الأفريقي لصالح قرار الجمعية العمومية لصالح الهُدن الإنسانية، وأصدر الاتحاد الأفريقي بياناً مشتركة مع جامعة الدول العربية، أدان فيه بشدّة القصف الإسرائيلي على قطاع غزّة. وقد أعلنت جنوب أفريقيا والتشاد يوم أمس استدعاء سفرائها في إسرائيل «للتشاور».
الأمم المتحدة
منذ اللحظات الأولى للحرب، عبّرت إسرائيل عن تبرّم من تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيرش، حين عبّر عن «ذعره» من مخططات تطويق غزّة التي عبّرت عنها القوات الإسرائيلية حينها، ليتحول هذا إلى غضب شديد ومطالبة بالاستقالة وتهديد باتخاذ إجراءات ضد الأمم المتحدة إثر تعبير غوتيرش عن أن «هجمات حماس لم تحصل في فراغ»، وإشارته إلى سياق الاحتلال والاستيطان والاعتداءات المتواصلة على الفلسطينيين طوال عقود.
وقد صعّدت الأمم المتحدة ووكالاتها الإنسانية من حِدّة انتقاداتها لإسرائيل خلال أسابيع الحرب، وصولاً إلى بيان مشترك غير مُعتاد لرؤساء الوكالات تطالب إسرائيل بوقف حربها، تزامنت مع تصريحات أكثر حزماً من المعتاد لمارتن غريفيث، وكيل الأمين العام للشؤون الإنسانية. ورغم علو صوت التصريحات والبيانات ورسائل الاستقالة احتجاجاً على الحرب الإسرائيلية على غزّة، إلا أن الأمم المتحدة عاجزة على إحداث تغيير حقيقي على الأرض، بل إنها عجزت حتى عن حماية الأبنية التابعة لها في القطاع، وعن تحقيق أدنى قدر من الحصانة لكوادرها، فالحرب الإسرائيلية الحالية هي الأكثر حصداً لأرواح كوادر الأمم المتحدة حتى الآن، وذلك خلال شهر واحد فقط.
تتوالى المواقف الدولية المستنكرة للفظائع التي ترتكبها إسرائيل في غزة، آتية بشكل أساسي نتيجة ضغط الرأي العام الذي يشاهد الموت اليوم لمدنيي غزّة، وخصوصاً الأطفال، بذعر، حتى ضمن الأوساط التي استهولت عملية حماس والفصائل والجماعات الأخرى في غلاف غزّة. وثمة تساؤلات عن مدى مقدرة حلفاء إسرائيل على الصمود في موقفهم المتصلّب مع توالي المجازر والفظائع وازدياد الضغوطات لوقف المذبحة. يرى إيهود باراك، رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، في حوار مع بوليتيكو أن لدى إسرائيل أسابيع فحسب قبل أن تضطر للرضوخ للضغوط الدولية، ويزيد بعض المحللين من هذه المدّة أو ينقصون منها حسب معطياتهم وزوايا تحليلهم. ما لا شك فيه أن العطالة الأممية في هذه الجولة، بعجزها عن إنجاز هُدن إنسانية أو إدخال مساعدات غذائية ودوائية ومياه، أو حتى الحفاظ على حد أدنى من الرهان على الدبلوماسية، حتى لو كان رهاناً لفظياً، كانت أشد وطأة وأكثر عنفاً من العطالة المزمنة أمام أي جولة سابقة، وبشكلٍ يبدو أنه تأسيسيٌ لمرحلة جديدة من الاحتضان الدولي للفظاعة.
موقع الجمهورية
——————————
خيارات إسرائيل ومُمكنات حماس بعد شهر من المواجهة/ صادق عبد الرحمن , عروة خليفة
7 تشرين الثاني 2023
شهرٌ على عملية «طوفان الأقصى» كانت حصيلته الأبرز حرب إبادة إسرائيلية وحشية على سكّان غزة تعجز الكلمات عن وصفها، يتم بثّ وقائعها على الشاشات ويعترف مرتكبوها بمحطات منها في وضح النهار. وبينما تتواصل الحرب دون أن يظهر أفقٌ لنهايتها، فإن طرفيها الأساسيين يواجهان خيارات ومُمكنات صعبة، بعد أن بدأت بما هو غير مسبوق على صعيد الهجمات التي تعرّضت لها إسرائيل في تاريخها، واستمرّت بما هو غير مسبوق على صعيد حجم العنف الإسرائيلي والدعم غير المحدود لهذه العنف من حلفاء إسرائيل.
حماس التي «نجحت» أكثر من اللازم
ما تزال كتائب القسام قادرة على إطلاق الصواريخ من غزة وصولاً إلى تل أبيب، ويواصل مقاتلوها خوض اشتباكات مباشرة في كل مكان تقدّمَ إليه جيش الاحتلال في غزة، وذلك رغم أطنان المتفجرات وحشود الدبابات وقوات المُشاة. يعني ذلك أن الجناح العسكري لحركة حماس قد أعدّ نفسه فعلاً لمعركة طويلة الأمد، ولكن هل يكفي هذا للقول إن حركة حماس أعدّت لعملية طوفان الأقصى بشكل جيد وكانت مستعدة لكل تبعاتها المُحتملة؟
بالعودة إلى يوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، فإن ثمة وقائع كثيرة تشير إلى أن العملية «نجحت» أكثر ممّا كان مُتوّقعاً، أو بعبارات أخرى فإنه يمكن الافتراض أن العملية خرجت عن سيطرة القسّام لأسباب شتى لعلّ أبرزها أن الجيش الإسرائيلي واستخباراته لم يكونوا مستعدين. تُشير إلى هذا مشاهدُ لفلسطينيين يقتحمون السياج الفاصل بملابس مدنية وجرافات وبعضهم لا يحمل سلاحاً حتى، وكذلك أَسْرُ إسرائيليين على يد فصائل أخرى أبرزها الجهاد الإسلامي رغم عدم علم أي من هذه الفصائل بالعملية قبل بدئها، ووقائع أخرى كثيرة من بينها اعتراف قادة في حماس نفسها بأن جهات أخرى دخلت على خط العملية، ومشاهد إجرامية لقتل وأسر مدنيين حاولت قيادة حماس القول إنها من فعل جهات أخرى غير مُنظّمة، وحاولت التخلّص من عبئها بالقول إن الأسرى المدنيين «ضيوف» وليسوا موضوع تفاوض. يعني كلّ هذا أن عدد القتلى والأسرى الإسرائيليين كان أكبر ممّا توقّعته وخطّطت له القسّام، وهو قد يعني بالتالي أن حركة حماس لم تكن قد أعدّت نفسها لردّ الفعل الرهيب الذي نشاهد فصوله الآن.
تحكم حماس قطاع غزة الذي يسكنه أكثر من مليوني فلسطيني، نصفهم لم يعد لديهم بيوت يعودون إليها في حال توقّفت الحرب اليوم، وهي لم تتوقف بعد. وقد مات منهم أكثر من عشرة آلاف وأُصيب أكثر من خمسة وعشرين ألفاً وتم تدمير حياة مئات الآلاف على نحو لا يمكن تَداركُه، والحرب لم تتوقف بعد. لكن هل توقعت كتائب القسام ثمناً كهذا ومع ذلك خطّطت لعمليتها ونفذتها؟
وفضلاً عن الخسائر المدنية المهولة في الأرواح والمنشآت، يبدو أن القضاء على كتائب القسّام هدفٌ إسرائيلي أميركي مشترك، وهو ممكن التنفيذ إذا سمحت الظروف الدولية والإقليمية باستمرار حرب الإبادة وسمحت التوازنات الداخلية الإسرائيلية لنتنياهو بمواصلتها، ما يعني أن وجود كتائب القسّام في غزة بات على المحكّ. هل توقعت القسّام أن تواجه حرباً كهذه ومع ذلك خطّطت لعمليتها ونفذّتها؟
يبدو غريباً فعلاً أن يتوقع فصيلٌ مسلّحٌ نتائجَ كهذه لعمل يُخطط له ثم يقوم به مع ذلك، ولعلّ هذا ما يجعل التحليل القائل بأن العملية «نجحت» أكثر ممّا كان متوقّعاً تحليلاً معقولاً جداً. وإذا صح هذا التحليل، فإن ما يبدو «نجاحاً» هو «فشلٌ» بشكل أو بآخر؛ وهو «فشلٌ» باهظ الثمن.
لكن ما الذي تملكه حماس اليوم لمواصلة المواجهة؟ يملك قادتها أوراقاً ثلاث. أقواها هو ثبات القسّام في المعارك بحيث تعجز إسرائيل عن تجريف البنية العسكرية للكتائب، ويتكبّدُ جيشها خسائر تفضي إلى قيام جهات في إسرائيل أو في الدول الحليفة لها بإيقاف خطة نتنياهو، وهي الورقة التي ما تزال حماس تستخدمها بقوة لافتة، لكن قوتها ستتراجع مع الوقت إذا نجح نتنياهو في مواصلة الحرب مهما كانت خسائرها ومهما تطّلبت من وقت، ذلك أنه ليس لحماس خط إمداد مفتوح ومستقرّ بالعتاد والذخيرة ومستلزمات الحرب.
ورقة حماس الثانية تصنعها الوحشية الإسرائيلية، ذلك أن استمرار الجرائم المروعة يُراكم رأياً عاماً عالمياً وعربياً قد ينجح أخيراً في فرض وقف إطلاق للنار إذا استطاع التأثير في سياسات الدول الفاعلة في الإقليم والعالم، وقد يفسح المجال أمام نجاح مبادرات لدول راغبة في إيقاف الحرب. أما ورقة حماس الأخيرة فهي الأسرى الإسرائيليون، وهي الورقة التي يحاول نتنياهو إفراغها من محتواها عبر إصراره على أن استعادتهم ستكون بالحرب لا بالتفاوض، الأمر الذي قد يتغيّر إذا تسبَّبَ استمرارُ الحرب وارتفاع كلفتها بضغوط داخلية يعجز نتنياهو عن مقاومتها.
ثمة ورقة رابعة هي حلفاء حماس في محور الممانعة الذي تقودة طهران، لكن يبدو أن فعاليتهم لن تُسهم في تغيير مسار الحرب في غزة ضمن الوضع الراهن، ذلك أنهم ليسوا بصدد خوض حرب شاملة، وعملياتهم الراهنة تربك إسرائيل وتضغط عليها لكنها لن تؤثّر في مصير حماس في غزة، والأرجح أنها لم تَعُد ورقة يمكن لقيادة حماس الرهان عليها ما لم تحدث تحولات دراماتيكية في الأيام والأسابيع القادمة.
هذا ما تملكه حماس لمواجهة الحرب الإسرائيلية التي لا يزال يعلنُ قادتها أن هدفهم إنهاء كتائب القسّام في غزة، ولكن ماذا عن إسرائيل؟
إسرائيل التي قد تفشل مجدداً
منذ تشكيل الحكومة الإسرائيلية الحالية في شهر أيار (مايو) من العام الماضي كان من الواضح للجميع، بما في ذلك الولايات المتحدة، أنّ نتنياهو فضَّلَ التحالف مع أكثر الخيارات تطرفاً مقابل استمراره في الحكم وتفادي ملاحقته قضائياً بتُهم فساد، وهو الملفّ الذي تصاعدَ داخلياً إلى حدّ خروج مظاهرات كبيرة في تل أبيب وعدد من المدن الإسرائيلية رفضاً لمشروع قانون يحد من السلطات القضائية، كان نتنياهو بصدد تقديمه للكنيست من أجل وقف متابعة ملفات فساده الخاصة. هكذا وصل رئيس الوزراء الإسرائيلي، الذي قضى أطول مدة في الحكم بين نظرائه منذ تأسيس إسرائيل عام 1948، إلى تدهور شعبيته بين الإسرائيليين إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق.
كانت تلك الشهور جنة اليمين الصهيوني الديني الأكثر تطرفاً، والذي يمثله إيتمار بن غفير وزير الأمن القومي في الحكومة الحالية وحزبه «القوة اليهودية». واليوم، تقول التسريبات التي حصلت عليها صحيفة نيويورك تايمز إنّ أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية حذَّرت نتنياهو لأشهر من أنّ هذه الحكومة المتطرفة ستقود الأوضاع إلى الانفجار. لكن يبدو واضحاً أن هذا لم يكن هذا مهماً لرئيس الوزراء الإسرائيلي الذي كان مرتاحاً لدفن أي فرصة للحل السياسي، مدفوعاً بالمبادرة التي بدأها الرئيس الأميركي دونالد ترامب للتطبيع بين إسرائيل ودول عربية.
كان فجر السابع من أكتوبر الماضي هو لحظة انفجار جميع تلك التناقضات في إسرائيل، إذ كان واضحاً أنّ فشلاً استخباراتياً إسرائيلياً هائلاً كان وراء الخسائر الضخمة التي ألحقتها كتائب القسّام بإسرائيل، ذلك بينما كانت الحكومة الهشّة التي يقودها نتنياهو عاجزة عن اتخاذ القرارات بسرعة، ما جعل الذهول يسيطر على الجيش والاستخبارات الإسرائيلية لساعات طويلة من نهار ذلك اليوم، قبل قيام الدبابات الإسرائيلية بسد الثغرات التي ألحقتها الهجمات بالسياج الأمني المحيط بغزة.
شبّهَ مسؤولون إسرائيليون العملية بهجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) عام 2001، ورغم أن أصحاب التشبيه يهدفون بلا شك لاستغلال صداه عند الأميركيين وتجييش الرأي العام العالمي لصالحهم، لكن التشبيه لم يكن في غير محلّه من ناحية عدم قدرة أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية على رصد التحضيرات لهجوم لا بدّ أنّ التجهيز له استغرق أشهراً طويلة، وكذلك من حيث دفع الأطراف السياسية في إسرائيل للتحالف في مواجهة هذا التحدي.
أعلنت الحكومة الإسرائيلية الأمنية المُصغَّرة قرار الحرب على الفور، ثمّ انتقل نتنياهو إلى الكنيست حيث حصل على موافقة معارضيه على الدخول في حكومة حرب ائتلافية، يبدو أنّها ستسمح له بتوزيع النتائج السلبية للحرب التي يخوضها اليوم على الجميع بدل أن يتحمّل وحده تبعاتها. وقد أعلن نتنياهو والمسؤولون العسكريون الإسرائيليون بشكل واضح وفي مناسبات عديدة أنّ هدفهم الأساسي هو تفكيك قدرات حماس العسكرية والقضاء عليها تماماً، وهو هدفٌ أيدته بلا تردد كل من واشنطن والعواصم الغربية الكبيرة الأخرى، كما حصلت تل أبيب على دعمٍ عسكري من الولايات المتحدة كان هدفه الرئيسي تهديد إيران وحزب الله للحيلولة دون دخولهما المعركة.
مدفوعةً برغبة جارفة بالانتقام واستعادة الهيبة، وبالتناقضات الداخلية التي تدفع نتنياهو لمحاولة إنقاذ نفسه عبر تحقيق إنجاز عسكري، وبدعم غير مسبوق لها في الغرب وخاصة الولايات المتحدة وألمانيا، أعلنت إسرائيل هدفاً كبيراً جداً هو إنهاء حماس في غزة واستعادة أسراها دون تفاوض مع الحركة، وراحت ترتكب شتى أنواع جرائم الحرب بشكل علني دون أن تحفل بتأثير ذلك على سياسات حلفائها وخصومها على حد سواء .
حتى اللحظة لم يوافق نتنياهو على أي عرض لوقف إطلاق النار ولا على التفاوض بشأن مصير الأسرى، وسيكون القضاء على كتائب القسّام في غزة رهناً بقدرة إسرائيل على تحمّل أعداد كبيرة من القتلى في صفوف جنودها، يبدو أنها ستكون الأكبر منذ غزو لبنان عام 1982، كما سيكون رهناً بقدرة المجتمع الدولي على الصمت أمام هول المذابح وجرائم الحرب التي ترتكبها القوات الإسرائيلية في غزة، ورهناً بقدرة نتنياهو وقادة جيشه على مقاومة الضغوط الداخلية سواء بشأن قضية الأسرى أو بشأن استمرار الحرب والكلفة اللازمة لإنجاز أهدافها المُعلنة.
بعد تأخر العملية البرية لأسابيع، فضّلَ الجيش الإسرائيلى عدم الدخول بزخمٍ كبير في المعارك، واتّجه للقيام بخطوات صغيرة ومتتابعة في سبيل عزل شمالي قطاع غزة الذي تقول تل أبيب أنّه يضم التهديد الأكبر لكتائب القسام. وفي حين أنه لا يمكن توقع مسار العمليات العسكرية المقبلة بدقة وسط استمرار الاشتباكات من المسافة صفر شمالي قطاع غزة، فإنّ خيار انفجار الأوضاع في الجبهة الشمالية مع لبنان ما يزال قائماً، بينما يستمر إجلاء الإسرائيليين في الجليل الأعلى بعيداً الحدود مع لبنان دون أفق واضح لعودتهم، وبينما يقول مسؤولون إسرائيليون إن الذين جرى إجلاؤهم من غلاف غزة لن يعودوا قبل نهاية العام على الأقل، وهو ما يرسم خطاً زمنياً طويلاً للعمليات العسكرية التي ليس واضحاً كيف ستقود إلى تحقيق هدفها المُعلن وبأي ثمن.
تدمير قطاع غزة وقتل أعداد كبيرة من أهله وتهجير سكان شماله إلى جنوبه مع طروحات غير رسمية لتهجير بعضهم أو كلهم إلى مصر، وخنق كتائب القسّام في مساحات محاصرة أو شبه محاصرة وتدمير مواقعها وأنفاقها وقتل عناصرها بكل صنوف الأسلحة؛ هذه هي الإجراءات الإسرائيلية الهادفة إلى إنهاء القسّام واستعادة الأسرى دون تفاوض. أما الهدف الثاني فهو ليس جدياً لأن هذه الخطة ستُفضي إلى مقتل الأسرى كلّهم أو أغلبيتهم الساحقة، وأما الهدف الأول فهو غير ممكن دون حرب طويلة جداً ودموية جداً ومفتوحة على احتمالات الاتساع، وليس مؤكداً أن إسرائيل قادرة على مواصلتها إلى آخرها.
أي نهايات لهذه الحرب؟
يصعب تصوّر شكل لنهاية هذه الحرب. ذلك أن الأهداف الإسرائيلية الكبيرة صعبةُ التحقيق، وفي الوقت نفسه يصعب التراجع عنها دون أن يبدو هذا هزيمة كبرى لإسرائيل عموماً ونتنياهو وفريقه خصوصاً. وحماس من جهتها ليس لديها خيارات سوى القتال، وليس مطروحاً عليها حتى الآن خيارٌ غير هذا أصلاً، وهي بالتأكيد لا تستطيع القتال إلى ما لا نهاية في ظروف غزة. يبدو كما لو أن الطرفين عالقان في حرب لا مخرج منها غير هزيمة أحدهما، وهزيمة إسرائيل تكون بإيقاف الحرب قبل تدمير كتائب القسّام واستعادة أسراها، وهزيمة حماس تكون بإنهاء القدرات العسكرية للقسّام في غزة وإنهاء حكمها للقطاع دون صفقة لتحرير الأسرى الفلسطينيين. ليس لدينا بعد معالم لصفقة أو مبادرة تُشكّلُ مخرَجاً من هذا الوضع عبر حلّ وسط يعطي لكل طرف بعض المكاسب، وليس لدينا بالمقابل ما يؤكّد أن أياً من الطرفين قريبٌ فعلاً من تحقيق انتصاره.
ليس هناك مخرجٌ معروف من هذه الحرب حتى الآن، أما المخرج من المعارك والمذابح المتكررة في فلسطين فهو معروفٌ مهما حاول الإسرائيليون وحلفاؤهم البحث عن مخارج غيره: إنهاء الاحتلال والذهاب إلى حلّ عادل يمنح الفلسطينيين حقوقهم في تقرير المصير والحياة الكريمة.
موقع الجمهورية،
———————–
هل اقتربت لحظة وقف الحرب؟/ صهيب جوهر
2023.11.07
شهر مرّ على الحرب والإبادة الجماعية التي يتعرّض لها سكّان قطاع غزة من دون ظهور أي نتائج سياسية فعلية تسمح في الخروج باستنتاجات عن قرب انتهائها.
فلا حركة حماس استطاعت ترجمة ضربتها العسكرية الخاطفة والمؤلمة في العبور إلى غلاف غزة من خلال “طوفان الأقصى”، في ظل مساندة دولية واسعة لنتنياهو وحكومة اليمين الفاشي، ولا إسرائيل نجحت حتى الآن في توجيه ضربة قاضية للبنية العسكرية المتماسكة لحماس كمدخل إلى تغيير مسار الصراع في الشرق الأوسط، وهو الهدف الذي حددته حكومة الحرب الإسرائيلية، منذ 7 تشرين الأول.
لذا يرى المراقبون أن أفق الحرب بات مفتوحاً وهو ما لا يمكن استمراره إلى ما لا نهاية، لا بل إن الهامش الدولي المُعطى للحكومة الإسرائيلية بدأ يقترب من النفاد، فالتعاطف العارم للمجتمعات الغربية بدأ يتبدّل بشكل كبير إثر المشاهد المروعة للمجازر اليومية الحاصلة.
وما يُحرج الحكومات المنخرطة في منح إسرائيل دعماً مفتوحاً وعلى رأسها الإدارة الأميركية، ويدفع باتجاه توقع الاقتراب من إرغام إسرائيل على القبول بوقف إطلاق النار، قبل نهاية الشهر الحالي، يجعلها ملزمة بالسعي لتحقيق أهدافها خلال الأسابيع القليلة المقبلة.
وفي حين دعت إدارة ماكرون لعقد مؤتمر دولي بشأن إقرار وتأمين مساعدات إنسانية عاجلة لغزة في التاسع من هذا الشهر، والمؤتمر الذي سيسبق القمة العربية الاستثنائية في السعودية، ستحضره مصر والأردن والسعودية وقطر، وعلى الرغم من أن طابعه سيكون إنسانياً بحتاً إلا أنّ كواليس هذا الاجتماع ستكون سياسية بامتياز وهو ما يفسّر استثناء باريس لـ”تل أبيب” من الدعوة لحضوره.
من هنا يمكن فهم خلفيات استثناء الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله لفرنسا من هجومه الذي طال أبرز الدول الأوروبية وبالاسم، ولهذا الأمر دلالاته من دون شك، فالواضح أن “حزب الله” يريد المحافظة على تواصله مع المجتمع الدولي من خلال إدارة ماكرون، رغم تصنيف البعض لموقف ماكرون خلال زيارته إلى إسرائيل بالمنحاز والذي تحمّس في الأيام الأولى للحرب عبر دعوته إلى تشكيل تحالف دولي شبيه بالذي شُكّل لمحاربة داعش.
وعلى الرغم من أن ماكرون فتح حسابا جاريا في السياسة والمخابرات لـ نتنياهو، لكنه في الوقت نفسه يسعى عبر مستشاريه للشؤون الإسلامية والمسؤولين عن متابعة العلاقة مع الجالية المسلمة والعربية لإرسال رسائل إيجابية عن تعاطفه مع آلاف الغزاويين، فالجالية الإسلامية في فرنسا تتجاوز 8 ملايين مواطن فرنسي.
لكن في المقابل هنالك زهاء نصف مليون يهودي يحمل معظمهم الهوية الفرنسية، صحيح أن الفارق كبير بين حجم الجاليتين، لكن الجالية اليهودية تعتبر فاعلة جداً وهي تُمسك بمفاصل مهمة في فرنسا ما يجعلها الجالية اليهودية الثانية الأكثر تأثيراً على المستوى الدولي بعد مجموعة الضغط اليهودي في الولايات المتحدة الأميركية.
ومع اندلاع الحرب في غزة ببشاعتها وقساوة المشاهد التي يراها العالم على الهواء مباشرة، كان من المنطقي أن تأخذ الإدارة الفرنسية في عين الاعتبار هذا التوازن الداخلي الدقيق، خصوصا مع اندفاع اليمين المتطرف الفرنسي الصاعد لصالح إسرائيل، ففي السابق انطلق هذا اليمين المتطرف على أساس عدائه للجالية اليهودية، لكن الأمور تبدلت خلال السنوات الماضية مع اللقاءات المستمرة بين أحزاب اليمين المسيحي الفرنسي وأشباهه من اليمين الصهيوني.
وبات مرجحاً أن القلق الفرنسي اليميني من ملف الهجرة الذي يعتبره الفرنسيون بأنه بات يشكل تهديداً وجودياً للهوية الفرنسية هو سبب هذه الانعطاف الفرنسي، خاصة أن ماكرون الذي بات أقرب في التوجهات الداخلية إلى اليمين الفرنسي، يروّج لسردية أن حكومته تعيش مواجهة صعبة مع الجالية الجزائرية والتي يشيع مقربون من دوائره أن موسكو دخلت على خط دعمها لحسابات الحرب الحاصلة في أوكرانيا، لا بد أن تكون قد شعرت بالخشية من عودة الاضطرابات ولكن بشراسة أكبر هذه المرة، وخاصة أن هذه الجالية هي من تقود وتنظم الجزء الأكبر من الاحتجاجات في باريس ومدن أخرى دعماً لقطاع غزة.
وأمام كل هذه الوقائع بات السؤال الأهم لدى الدول الغربية لا سيما الولايات المتحدة، هو كيف ستكون نهاية هذه الحرب؟ وهل تملك إسرائيل صورة واضحة للاتجاه الذي تسير به الحرب وما إذا كانت قادرة على تحقيقه خلال الأسابيع المعدودة المقبلة قبل نفاد الوقت المعطى لها؟
وخاصة أن صواريخ المقاومة الفلسطينية ما تزال تتساقط على البلدات الإسرائيلية وصولاً إلى “تل أبيب” نفسها، والقدرات القتالية البرية لحماس ما تزال قوية وفاعلة، كما أن شبكة الأنفاق ما تزال في جزئها الأساسي تعمل بصورة سليمة وآمنة وحتى تلك التي تربط القطاع بمصر، في ظل ما يحكى عن استمرار تدفق السلاح إلى القطاع عبر سيناء.
وهذا المسار يتزامن مع تشبّث القيادة العسكرية الإسرائيلية بالحديث عن قدرتها على تحقيق الأهداف الموضوعة تحت عنوان “اجتثاث حماس”، ومن هذا المنطلق بات لدى الإدارة الأميركية بكل تفرعاتها السياسية والعسكرية والمخابراتية قناعة راسخة أن إسرائيل تراوغ وتطيل أمد المعركة خوفاً من اليوم التالي لأي مشروع وقف إطلاق للنار.
ومن هذا المنطلق أجرت القيادة العسكرية الأميركية رسائل تحذير لإسرائيل من أن تكون حماس تعمل على استدراج قوات النخبة الإسرائيلية إلى أزقة غزة وإنزال خسائر جسيمة بها حتى في ظل الدمار الحاصل، وبالتالي العمل على إطالة أمد الصراع والاستفادة من استنفاد كامل التأييد الدولي لصالح إسرائيل.
وبات لدى القيادة العسكرية الإسرائيلية عبر ما يتسرّب من الإعلام الإسرائيلي والغربي تخوّف من أن واشنطن ستفرض على حكومة الحرب الإسرائيلية وقفاً سريعاً لإطلاق النار في ظل المواقف العربية والإقليمية المتصاعدة، لذا هناك مَن يعتقد أن “تل أبيب” تحاول استفزاز “حزب الله” في المعركة الشمالية لتوسيع نطاق الجبهة، وهي بذلك تستدعي تدخلاً أميركياً عسكرياً إلى جانبها.
على اعتبار أن الحرب الإقليمية وتصعيد الجبهات من قبل محور الممانعة سيؤدي إلى تعزيز سردية إسرائيل وإعادة اعتبارها في سياق الاستهداف من قبل أكثر من طرف، كما أنّه سيجعل الصراع إقليمياً بين إيران وإسرائيل، ما سيؤدي إلى إضعاف موقف حركة حماس والمقاومة الفلسطينية وتحويل المشروعية الفلسطينية إلى إلتحاق إقليمي وهذا ما ترفضه واشنطن من اللحظة الأولى عبر رفض اتهام إيران، وهذا بالضبط ما تلقفته إيران وترجم في خطاب حسن نصر الله حين لم يعلن الانخراط في الحرب، وشدّد على أن عملية حماس هي في إطار استقلالية خيارها السياسي في سبيل قضيتها الفلسطينية، وهذا ما اعتُبر تحييد للبنان عن الصراع، وحماية البنية العسكرية للحزب، ونزع أي ذريعة للإسرائيليين للاستمرار في المجازر، وبالتالي زيادة منسوب الضغوط على نتنياهو المأزوم.
وعليه، فإنّ المشاريع القائمة لترتيب مرحلة ما بعد الحرب ترتكز على خريطة فلسطينية جديدة تتضمن شراكات إقليمية ودولية، وهو ما يعني استطراداً التأسيس لإعادة رسم خريطة نفوذ سياسي في الشرق الأوسط وإعادة رسم استراتيجيات جديدة أيضاً، هذا إذا لم تحصل تطورات ميدانية غير متوقّعة من الآن وحتى موعد تثبيت وقف إطلاق النار، وهو ما سيؤدي إلى نتائج سياسية أخرى ومختلفة، ومع عدم إغفال القناة التفاوضية القطرية بين واشنطن وطهران والتي بَدا واضحاً أنها تعمل بنشاط وتقدّم بسرعة الضوء.
تلفزيون سوريا
——————–
مكاسب روسيا في سوريا بعد الحرب الإسرائيلية على غزة وتحولات الموقف الإيراني/ حسن الشاغل
2023.11.07
لم يعد يخفى على أحدٍ محدودية أو عدمية وجود أي دور أو نفوذ إيراني على كتائب القسام في غزة، إذا ما استثنينا حركة الجهاد الإسلامي التي هي جناح إيران في غزة، ولم تلعب طهران أي دورٍ حقيقي على القسام لإنجاح تنفيذ عملية طوفان الأقصى ضد الاحتلال الإسرائيلي في غلاف غزة، يوم السابع من شهر تشرين الأول من العام الحالي.
لم تتبنّ إيران ولم يُسمع كما جرت العادة صوتها بشأن عملية طوفان الأقصى، لأن هذه العملية ليست عادية وخلفياتها وخسائرها المتوقعة ضخمة ومؤثرة على من هم ضمن إطار تنفيذها، وعلى الرغم من امتلاك إيران لأجنحة موالية لها في غزة، فإنه بغالب الظن لم يكن لديها علمٌ بالعملية حتى لحظة وقوعها.
وهذا يدل على تراجع أو ضعف الدور الإيراني على كتائب القسام، ويمكن القول إنّها قد بدأت في الابتعاد عن استخدام ورقة محاربة ومواجهة إسرائيل، فأصبحت السياسة الخارجية الإيرانية تسعى إلى تحقيق نوع من الاستقرار في علاقاتها مع الولايات المتحدة الأميركية للحفاظ على مسار المفاوضات ولتخفّف من ضغط العقوبات.
وبما أننا قد نشهد فراغاً أو تقلّصاً في الدور الإيراني تجاه القوات العسكرية في غزة، فقد يرافق ذلك تراجعٌ في سوريا يؤدي بطبيعة الحال إلى تنامي الدور الروسي، انطلاقاً من ذلك نسلط الضوء في سطور هذه المقالة على مكاسب روسيا في سوريا بعد عملية طوفان الأقصى والتحول في الموقف الإيراني تجاه العملية.
معادلة تقلّص النفوذ الإيراني وتوسّع النفوذ الروسي في سوريا بعد طوفان الأقصى بتنسيق روسي إسرائيلي، حيث وجّهت إسرائيل على مدار سنواتٍ عديدةٍ ضربات جوية مكثفة استهدفت مناطق النفوذ العسكري الإيراني في مواقع متفرقة من سوريا.
وفي ظل الحملة العسكرية الإسرائيلية على غزة ما زالت الضربات الإسرائيلية مستمرة على مواقع النفوذ العسكري الإيراني في مطاري حلب ودمشق، وهذه الضربات لم تقلّص في طبيعة الحال النفوذ والمصالح الايرانية في سوريا، بقدر ما بعثرت القوات الإيرانية وأبقتها في موقع المدافع والمترقب للضربات.
وقد بيّنا في مقدمة هذه المقالة تراجع وتقلّص النفوذ الإيراني لدى المقاومة الفلسطينية وخاصة على كتائب القسام، وقد ظهر هذا التراجع نتيجة تغيّر في السياسة الخارجية الإيرانية تجاه الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها في منطقة الشرق الأوسط.
واشنطن وطهران ضمنياً ملتزمتان بالحفاظ على مسار المفاوضات لا سيما إيران التي أنهكتها الضغوطات والعقوبات الدولية، ولا بد من الإشارة إلى أنه قبل أيام معدودة من عملية الطوفان أفرجت واشنطن عن 6 مليارات دولار لإيران بوساطة قطرية.
ومن ناحية أخرى فإن عدم تدخل إيران بأي شكل من الأشكال نابع من عدم رغبتها أو من عدم قدرتها على تحمل أعباء عملية الطوفان التي دفعت الولايات المتحدة الأميركية إلى إرسال حاملات الطائرات المدججة بالأسلحة، مع دعم غربي غير محدود -غير أخلاقي لإسرائيل- وبطبيعة الحال ترى طهران أنه من غير الوارد الدخول في صراع خاسر، حتى لو كان التدخل غير مباشر ضد القوى الدولية.
إلى جانب العوامل المذكورة فإن قرار عدم المواجهة الذي التزمت به إيران وأذرعها في سوريا ولبنان قد يكون استراتيجيا لعدم إنهاك قواها في معركة تقف فيها كل الدول الغربية مع إسرائيل، إلا أن هذا القرار إلى جانب استمرار الضربات الإسرائيلية والأميركية الأخيرة على القوات الإيرانية في سوريا من شأنه أن يضعف تمركزهم العسكري والسياسي والاقتصادي في سوريا، ويؤدي ذلك بطبيعة الحال لضعف الجناح الإيراني داخل مؤسسات الدولة السورية، والأقدر على تعويض تقلص النفوذ الإيراني المتوقع هم الروس الذين يحاولون السيطرة أكثر على سوريا.
وبهذه المعادلة فإن النظام الذي يعمل على الموازنة بين الجناح الروسي والإيراني للحفاظ على حكمه وسيطرته على الدولة عندما يدرك أن الإيرانيين تحت حالة من الضغط والتراجع عن دعمه، سيدفعه ذلك إلى الاتكاء على الروس، بمعنى أننا قد نشهد توسعاً لمصالح الجناح الروسي في داخل مؤسسات الدولة السورية وما يرتبط بها.
المكاسب الروسية
على المستوى العسكري من الوارد عندما يحصل تقلّص لقواعد ومراكز القوات الإيرانية أن يملأ الفراغ قوات مدعومة من روسيا وليس من الضروري أن تكون روسية.
ومن المهم الإشارة إلى أنّ القوات الإيرانية لم تعد ضرورية بالنسبة لروسيا بنفس القدر الذي كانت عليه قبل سنوات، لأن التفاهمات الدولية أصبحت هي المحرك الأساسي للملف السوري بدلاً من العمليات العسكرية.
ومن المتوقّع أن يكون المكسب الأكبر لروسيا هو تعاظم نفوذها الجيوسياسي على سوريا، بمعنى أن مسألة مستقبل النظام السوري ستكون بيد موسكو بشكل أكبر من السابق، وستكون مسؤولة عن قواعد الاشتباك وضبط الحدود على جبهة إسرائيل بشكل كامل، مما قد يعظم من دورها في الشرق الأوسط بشكل موسع بالشراكة مع إسرائيل.
والأهم من ذلك قدرة روسيا على ضبط واحتواء النظام السوري والميليشيات المنتشرة في مناطق سيطرته، قد يكسبها ورقة ضغط للتفاوض مع الدول الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة، بمعنى تعهد الروس بالتنسيق مع الأطراف الدولية لحماية الحدود الإسرائيلية من طرف سوريا ولبنان مقابل التنازل رسمياً عن القرم أو مقابل رفع جزء من العقوبات الدولية المفروضة عليهم.
وسيكون توسع النفوذ السياسي والعسكري الروسي في سوريا مقترناً بالتوسع الاقتصادي، فما يزال النظام السوري يوقع العقود والاتفاقيات الاقتصادية مع إيران، وعلى الرغم من المعاناة الاقتصادية في مناطق سيطرة النظام السوري، ما يزال في جعبته ما يعطيه لحلفائه، فعلى سبيل المثال قد يقدم للروس الاستثمار أو الاستحواذ على مؤسسات كبرى في الدولة مثل مؤسسات المياه ومصافي البترول والكهرباء.
في النتيجة، نحن الآن أمام مشهدٍ وتحولٍ جديدٍ في سوريا خلّفته عملية طوفان الأقصى وما تبعها من تحولات إقليمية لا سيما الموقف الإيراني، مشهد تصوغه روسيا لتحقيق أكبر قدر من المكاسب على المستوى الداخلي في سوريا، باستغلال ضعف النفوذ الإيراني المتوقّع، وحاجة النظام لتعويض الفراغ الذي قد تخلفه إيران، وسيناريو توسع النفوذ العسكري والجيوسياسي والاقتصادي الروسي ستتضح ملامحه بعد فترة من الزمن، بعد احتواء موسكو النظام السوري أكثر والتنسيق بشكل أكبر مع إسرائيل.
تلفزيون سوريا
—————————-
خطاب نصر الله وتفكك مقولة وحدة الساحات/ عمر كوش
2023.11.06
منذ اليوم الأول للحرب التي بدأتها إسرائيل ضد قطاع غزة، على إثر عملية “طوفان الأقصى التي شنتها حركة حماس ضدها، برز التساؤل عن إمكانية دخول إيران وتابعها حزب الله اللبناني في الحرب ضد إسرائيل، تحقيقاً للشعار الذي لم تتوقف أطراف المحور الإيراني عن طرحه طوال سنوات عديدة حول “وحدة الساحات”، لكن خلافاً لكل ذلك نأى نظام الحكم الإيراني بنفسه عن عملية حماس، وتنصل من أي مسؤولية بالاشتراك معها في التحضير أو التخطيط، بل حاول مسؤولون في هذا النظام تجيير دماء أهل غزة، والاستثمار فيها، لصالح مشروعهم التوسعي في المنطقة، في حين لم يتجاوز الأمر قواعد الاشتباك المعروفة على جبهة حزب الله اللبناني، عبر التحكم بالمناوشات، والسيطرة على عمليات تبادل القصف مع إسرائيل، كي لا ينكشف تخلي الحزب ومن ورائه إيران عن دعم حماس عبر الإيحاء باشتراكهم في الحرب، مع الحرص على ألا يبلغ ذلك درجة التصعيد المتدرّج نحو معركة مفتوحة مع إسرائيل.
اللافت هو أن الأمين العام “لحزب الله” اللبناني، حسن نصر الله، لاذ بالصمت طوال ما يقارب الشهر على عملية طوفان الأقصى، ليخرج أخيراً في خطاب سبقته مشاهد استعراضية وتسويقية، وانتظره كثيراً أنصار محور الممانعة والمقاومة، لكنه خيّب آمالهم وتوقعاتهم، حين اعتبر أن العملية “فلسطينية مئة في المئة”، وأخفتها حماس عن الجميع، بمن فيهم إيران وأتباعها في المنطقة، مع التشديد على نفي أي دور لإيران في عملية حماس، تماهياً مع تبرئة الساسة الأميركيين لها من المشاركة في العملية. وكان واضحاً أن جهد نصر الله الأساسي في خطابه، انصبّ على تأكيد صدقية الرواية الإيرانية، التي تزعم وقوفها في صف أطراف وقوى محور المقاومة، ولا تتخذ القرارات نيابة عنها، وأنّها “بريئة” من الهجوم الذي نفذته حماس على إسرائيل، ولا علاقة لها على الإطلاق بقرار حزب الله الدخول في مناوشات محدودة مع إسرائيل، والتي أراد تصويرها على أنها دخول في الحرب منذ اليوم التالي لعملية حماس.
لم يكترث نصر الله في خطابه بما حملته مواقف بعض قادة حماس السابقين، مثل خالد مشعل وموسى أبو مرزوق، من انتقاد وعتب على حزبه، نتيجة عدم انخراطه أكثر في الحرب مع إسرائيل، إضافة إلى عتب إسماعيل هنية الشديد على إيران التي اكتفت بإرسال وزير خارجيتها، حسين عبد اللهيان، أكثر من مرة إلى بيروت والدوحة، ليطلق العديد من العبارات المعسولة، التي لا تخرج عن سياق التضامن الدبلوماسي مع حماس.
على الأرجح أن نصر الله أراد التنصل مما حملته الانتقادات الحمساوية، والنأي بنفسه عن أي تبعات، لذلك لم يأت أبداً على ذكر مقولة “وحدة الساحات”، التي كان يرددها سابقاً في جميع المناسبات، بل يبدو أنه تخلى عنها بالقول إن المعركة الجارية هي بالدرجة الأولى معركة حركة حماس، وهي التي تقرر حاجات الانخراط فيها، ودرجة الانخراط. في حين اكتفى بترداد معزوفة أن كل الخيارات مفتوحة، ومرهونة بتطورات الحرب على قطاع غزة، لكن الأهم هو أنه أكد على النأي بحزبه عن الانخراط بالحرب، وكأنه أراد طمأنة ساسة إسرائيل وجنرالاتها بأنه يلتزم بتحذيراتهم وتهديداتهم، وبالحدود المعينة من المناوشات في المناطق الحدودية، وبعيداً عن العمق الإسرائيلي. إضافة إلى تأكيد حرصه على عدم إطلاق أي تهديدات للأميركيين على الرغم من حشدهم الأساطيل في البحر المتوسط، ودعهم الكبير لها، بل واشتراكهم في الحرب إلى جانب إسرائيل.
كان واضحاً منذ البداية أن قرار انخراط حزب الله في الحرب من عدمه هو شأن إيراني، وأن كل الميليشيات الموجودة في لبنان وسوريا والعراق، التزمت بمرجعيتها الإيرانية في ضبط عملياتها ضمن خطوط معينة، وألا تتجاوزها الهجمات المحدودة التي تنفذ على الحدود اللبنانية الإسرائيلية، وتلك تقوم بها الميليشيات في العراق وفي اليمن من قبل الحوثيين، وحتى التحرشات من سوريا التي تقوم بها قوى وميليشيات مرتبطة بإيران، وذلك على الرغم من أن مسؤولين إيرانيين سبق أن تحدثوا عن خطوط حمر ستضطرهم إلى الدخول في الحرب، من دون تحديد ماهية الخطوط، ما يضع تصريحاتهم في خانة الاستهلاك الرخيص، الموجهة لقواعد وأنصار محور الممانعة.
لا شك في أن غالبية اللبنانيين يهمهم كثيراً عدم دخول حزب الله في حرب، لأنها تعني إلحاق دمار كبير ببلدهم، وأنهم سيدفعون الثمن الباهظ لها، مثلما دفعوه في حرب 2006، خاصة في ظل التحذيرات الأميركية والإسرائيلية من مغبة إقدام الحزب ومن خلفه إيران على ذلك، كونه سيستدعي هجمات مضادة مباشرة ضدهما، وقد تكون مدمرة، وبالتالي عدم دخول حزب الله أو إيران في مواجهة مع إسرائيل دافعه الأساسي هو تفادي التكاليف الباهظة التي قد يدفعانها، لذلك أراد نصر الله إيصال رسالة إلى إسرائيل والولايات المتحدة بعدم رغبته في التصعيد، وهو ما يفسر أن إدارة بايدن باتت مطمئنة ومسرورة لعدم دخول حزب الله في المعركة بشكل مباشر، وعدم رغبته في توسيع نطاق الاشتباك على الحدود، وبالتالي فإن الخاسر الوحيد هو الشعب الفلسطيني الذي تشن ضده إسرائيل حرب إبادة جماعية وترتكب أبشع المجازر بحقه.
إذاً، تمزقت يافطة “وحدة الساحات”، وظهر أن حماس وكأنها حقاً في ورطة، يدفع ثمنها أهالي غزة، في حين بدأ، بالمقابل، البازار الإيراني لقبض الثمن لقاء قبول ساستها أو على الأقل تخليهم عن وحدة الساحات، وعما يحاك للفلسطينيين في قطاع غزة، وربما يريد النظام الإيراني من الإدارة الأميركية قبض الثمن في سوريا، والأمر يتعلق بمدى استعداد هذه الإدارة، التي لا تكترث بمشاريع إيران التوسعية إلا إذا اقتربت من إسرائيل.
لا يبدو أن توسيع دائرة الحرب يصب في مصلحة إيران، لذلك فهي غير عابئة بما تقوم به إسرائيل، بل مستفيدة من سعي الإدارة الأميركية لاحتواء المواجهة الحالية، وبقائها متقصرة على فلسطين، وتفهم هذه الإدارة جيداً الرسائل الإيرانية الساعية إلى التفاوض أكثر بكثير من سعيها إلى توسيع نظاق الحرب، لكن كل ما يهمها حالياً هو التغطية على ما تقوم به إسرائيل من جرائم ضد الفلسطينيين.
تلفزيون سوريا
——————————-
حزب الله بين سوريا وفلسطين/ محمد فواز
2023.11.06
منذ أسبوع أعلن حزب الله عن كلمة لأمينه العام حسن نصر الله يوم الجمعة الثالث من نوفمبر، بعد قرابة شهر من انطلاق معركة طوفان الأقصى.
منذ الأيام الأول كثرت الأسئلة حول موقف حزب الله الرسمي وأفق حركته. عبّر عدد من ممثلي الحزب عن موقفه، ولكن ظل انتظار الأمين العام طاغيا على المشهد. كثرت الأسئلة حول موعد خطاب نصر الله. أعلن عن الخطاب بشكل مبكر وتجهزت المناطق الموالية لحزب الله بشكل غير مسبوق لاستقبال الخطاب، فأقفلت المدارس وارتفعت أصوات المقربين من الحزب مؤكدين بأن نصر الله سيخرج بخطاب الفصل.
تجهزت الساحات في لبنان وبعض الدول المجاورة كما أطلقت مجموعة فيديوهات قصيرة متتالية كل يوم تزيد الهالة الإعلامية للخطاب.
هذه الأجواء الإعلامية أوحت بما لا يظهره التحليل الهادئ الذي مال إلى الاعتقاد بخطاب لا يتجه نحو التصعيد الشامل في المنطقة انطلاقا من لبنان.
بالفعل جاء الخطاب المنتظر ليثبت ما توقعه التحليل الهادئ على حساب الضخ الإعلامي السابق الذي أضر بالخطاب أكثر بكثير مما أفاده. كان الساخطون على نصر الله بعد خطابه أكثر من الراضين بكثير- إذا تكلمنا عن الجمهور غير الحزبي.
بشكل نظري وبغير تحليل دقيق يمكن اعتبار السخط سببه ارتفاع التوقعات مقارنة مع ما قدمه الخطاب، خاصة أن المتعاطفين مع غزة يريدون دعمها بكل الطرق وتوقعوا أن يأتي الدعم من حزب الله الأقرب للأراضي المحتلة.
لكن المدقق في الواقع والمتابع لآراء الجمهور يعرف بأن ردة الفعل لا تتعلق فقط بوتيرة الخطاب المنخفضة عن المتوقع، ولكنها مرتبطة بالصورة التي تشكلت عن حزب الله في الخمس عشرة سنة الأخيرة.
ففي معركة الدفاع عن فلسطين بما تمثل بالنسبة للأمة العربية والإسلامية والإنسانية العالمية، يعتبر حزب الله أن سمو القضية سيدفع الجماهير الداعمة لها للوقوف خلفه باعتباره الداعم الوحيد لها على الصعيد العسكري ومن خلفه إيران ولكن الواقع أنبأ عكس ذلك!
حتى هذه القضية الإنسانية السامية لم تسهم في وضع الخلافات السابقة جانبا في النظر لحزب الله. هذا السخط الشعبي العارم على كلام نصر الله وعدم تقدير أي جهد يقوم به حزب الله يجب أن يدفع الحزب لمراجعة حقيقية بما كسبه وخسره في موقفه تجاه الثورة السورية. فموضوع الاستهجان بالتأكيد غير مرتبط بالخطاب، بل مرتبط بمواقف ومجازر حزب الله في سوريا ولبنان والتي جعلت الجمهور الأعرض من الأمة العربية والإسلامية لا يقبل منهم أي وقف بالمطلق لأن الثقة فقدت بل أكثر من ذلك.
ربح حزب الله في سوريا تثبيت خط الإمداد الاستراتيجي، حتى إشعار آخر، ولكنه خسر حاضنة الأمة وأبعد من ذلك. وإن ربح عسكريا، ولكنه خسر الأهم استراتيجيا وهو الامتداد الشعبي الذي لم تستطع تليينه حتى أكبر القضايا الإسلامية والعربية. ولو أن حزب الله لم يتخذ الطريق الذي اتخذه لوجد الأمة اليوم تدافع عن خطاب أمينه العام مهما كان فيه. فكما يقال في المثل الشعبي “القصة مش قصة رمانة، القصة قصة قلوب مليانة”.
لا يعتبر الموضوع الشعبي نظرياً ومرتبطاً بالتأييد والكلام على مواقع التواصل الاجتماعي، بل مرتبط حتى بالأمور الميدانية فعلى سبيل المثال: في حرب تموز فتحت كل القرى أذرعها للنازحين من الجنوب أما اليوم فإن المناطق المنفتحة على استقبال بيئة حزب الله الحاضنة متراجعة، وحتى إعلان الزعيم الدرزي وليد جنبلاط عن فتح بيوت الجبل للنازحين لقي صدى محدوداً فارتفعت الإيجارات في جبل لبنان الجنوبي للضعف ووصلت الإيجارات العادية إلى 2000$، وهذا للعوائل التي رضخت أساسا لتوجيهات جنبلاط. إضافة إلى ذلك فإن المجموعات المقاومة غير المنضوية في إطار الحزب لا تكفّ عن الإعلان عن عدم تنسيقها مع حزب الله في عملياتها كتكرار الجماعة الإسلامية التبرئة من التنسيق مع حزب الله لخوفها من الأثر الشعبي عليها. ليس ذلك فحسب، بل إن بعض المناطق الحدودية التي لا تتبع لحزب الله تقوم بحواجز تفتيش لمنع دخول مسلحي الحزب إليها.
الواقع لم يكن كذلك بتاتا في حرب عام 2006. فعلى الرغم حينها من كون الحرب أتت بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وارتفاع الاحتقان السني-الشيعي إلا أن الأمة بما فيها من طوائف اصطفت خلف الحزب في حربه فكان التسابق على استقبال الجنوبيين في كل المناطق.
لذا، تشكل الأزمات اللبنانية والموقف العام من حزب الله تعقيدا إضافيا في حساباته في الحرب، وحاجزاً رئيساً من غير المتوقع أن ينهار أو يخرق حتى. لذلك لا تعتبر مواقف الشعوب تفصيلا في الصراع، بل معيارا سياسيا مؤثرا في عملية اتخاذ القرار والمعيار الاستراتيجي الأول في توسع أو انحسار أي مشروع.
يعتبر البعض أن فتح الملفات السابقة لحزب الله اليوم يضر ب”واجب الوقت” وهو فلسطين ومقاومتها إلا أن التمييز هنا مهم بين الرأي الشعبي العام الذي يميل للمبدئية وبين مواقف الكيانات السياسية الذي يميل ويجب أن يميل للموازنة بين المصلحة والمفسدة. فالسياسي مجبور على الموازنة بين الإيجابية والسلبية على عكس العوام الذين يعبرون عن النبض ويذكرون بالأسس. وإن كانت سهام اللوم ستوجه في المسألة فلن تكون للشعب صاحب ردة الفعل بل ستكون باتجاه الفاعل الذي قرر بملء إرادته خسارة الجمهور لمصلحة رآها.
تلفزيون سوريا
—————————
بين قرار السلم والحرب.. نصر الله يضبط إيقاع الشمال/ ريان سعيد
2023.11.05
تحضّر اللبنانيون على وجه الخصوص والشعوب العربية عامة منذ أيام قليلة لخطاب أمين عام حزب الله حسن نصر الله الذي لجأ إلى الدعاية في سابقة لم تحدث من قبل، ترويجا لخطاب طال انتظاره وفقا لتوقيت غزة، والذي تم تبريره بأنه جزءً من مواجهة المعركة، بدت الشوارع في لبنان في أثناء خطابه شبه فارغة في انتظار ما سيعلنه نصر الله في خطابه الذي امتد لأكثر من ساعة وهو في توقيت شمال غزة كثلاث سنوات متواصلة من القصف.
يستمد هذا الخطاب أهميته -فقط – من الشعب اللبناني الذي لم يضمر قلقه وخوفه من جبهة حرب اعتقدوا أنها ستفتح على مصراعيها، وهو ما هدد فيه نصر الله ضمن شروط محددة، إلا أن خطابه كان واضح المعالم، أن لا نية حقيقية له في خوض المعركة، مشددا على أنها معركة الفلسطينيين، نافيا علاقتها بأي ملف إقليمي ودولي.
أوجز نصر الله في خطابه الذي اعتاد التوجه فيه إلى حاضنته الشعبية معلنا مكاسبه وحلفاءه في المعارك التي يديرها في سوريا والعراق واليمن، 27 يوما من القصف المستمر على غزة، حاول فيه سرد الحدث كأنه يتوجه إلى شعوب عصر المذياع، والتي كانت تنتظر لأيام لسماع خطاب مطول ينتهي إما بإعلان صريح عن الدخول في حرب على العدو أو الانتصار عليه، وهو ما لم يحدث في كلتا الحالتين.
هدد نصر الله في خطابه والتهديد في خطاباته أمر شائع، رافعا إصبعه وهو أمر أكثر شيوعا، وبملء صوته، حذر الجانب الإسرائيلي من أي سلوك تجاه لبنان، وأن دخوله الكامل أي -حزب الله- في المعركة يتحدد من مسار وتطور الأحداث في غزة، لكن يبدو أنه سقط سهوا منه تحديد شكل التطورات، هل مجزرة أخرى؟ أم استخدام المزيد من الأسلحة؟ أم اعتداء مباشر على العاصمة اللبنانية؟
بين حرب ولا حرب، رمى نصر الله في خطابه صنارة اشتعال فتيل الحرب الشاملة للجانب الإسرائيلي الذي يدرك حزب الله بأن لا نية له ولا قدرة رغم تهديداته بالتدمير الشامل للبنان بالدخول في جبهة ثانية، فالخطر الكامل على الاحتلال يكمن في غزة وليس في شمال إسرائيل، إذ لا مصلحة لإيران إلى هذه اللحظة بخوض حرب مجهولة، وهي التي تحدد حروبها ومواقيتها، بدايتها ونهايتها، مكاسبها وخساراتها المحتملة، وهي التي تسيّر فصائلها كمسيراتها، تجد طريقها في العواصم العربية وتضيعها في طريقها إلى القدس، معتقدة أنها تمارس الأمر نفسه مع من أعلنتهم حلفائها سياسيا، لكن، للجناج العسكري لحركة حماس توقيت منفصل، تحدده دون الرجوع لمن اضطرت للتحالف معهم وهو ما سيترتب عليه لاحقا مباحثات بين الجانبين.
لم يأت خطاب نصر الله مفاجئا، فهو الذي أعد خطابه بتأن وظهر هادئا نسبيا، شاحب الوجه، ينفعل عاليا كلما تراجع مستوى الخطاب مع اندماجه في استعراض مجريات المعركة كرواية، ولعل ما ظهر جليا كعين الشمس هو تشديد نصر الله وتكرراه حول مسألة الغياب التام للتنسيق بين حركة حماس وإيران في عملية طوفان الأقصى، وهو ما يبدو واضحا أنه أربك من تعلن نفسها حليفة للقضية الفلسطينية، معلنا نصر الله أن السرية المطلقة لم تزعج الأطراف الداعمة لحماس، وهو على مباركته وإشادته ببطولة عناصر حماس، أرسل لقياداتها رسالة واضحة ومبطنة في آن معا يصرح فيها، أنها حربكم وحدكم، وأنتم أصحابها وفي مضمونها يستكمل رسالته بالقول، ندعمكم وفق ما تترتب عليه مصالحنا، وما يترتب علينا أمام جمهورنا، ودعايتنا، والأهم، وفق توقيتنا، لا ما يفرض علينا. إذاً لا حرب شاملة تلوح في الأفق، وهذا لا يعني الانسحاب، ولا يعني أيضا الاستمرار وفق قواعد الحرب، إذ لا يبدو الأمر محسوما من الجانب الإيراني، ولا تجهيز مسبق لحرب محتملة، ورغم ذلك وجد نصر الله لحزبه موقعا في الحرب على غزة مستعرضا ما جذبته الجبهة اللبنانية من قوة عسكرية وجوية وبحرية إسرائيلية يشير فيها إلى التهديد الذي يمثله على الكيان الإسرائيلي شمالا والأميركي في الشرق الأوسط على وجه الخصوص ولعله التهديد الأكثر جدية في معركته الأصيلة التي يقودها إلى جانب إيران وبالنيابة عنها أحيانا.
يجيد نصر الله الخطاب على وقع الحروب والأزمات، كما يجيد التعاطف حصرا مع الدم الفلسطيني، تراه يتعاطف ويظهر ألمه وغضبه على مشاهد الإجرام في غزة، فيجبرك رغما عنك على التساؤل، هل كانت جثث الأطفال في حمص مثلا من ورق؟ أم أن النساء في إدلب كن دمى؟ ماذا عن ممارسة حزبه عمليات التطهير العرقي في مختلف الأراضي السورية؟ ماذا عن حصار المدنيين وتجويعهم واستهزاء جمهوره الذي يلبيه بالتقاطه صور الموائد؟ هل خيَلت له حمص تل أبيب مثلا؟ هل اختلفت الجوامع في سوريا عن تلك الموجودة في غزة والذي استنكر بأشد العبارات الاعتداء عليها، لماذا لا يخبرنا “السيد” وهو الذي يجيد تشريح مجريات الأحداث تماما كما العواصم حول الفروقات بين فلسطين وسوريا، بين غزة وإدلب، هل تختلف ملامح الأبرياء؟ هل تختلف وجوه أصحاب الأرض؟ ثم ماذا عن الغزاة حين تختلف لغاتهم وملامحهم وعقائدهم، كيف يمارسون الأساليب نفسها!.
هي إذاً حرب فلسطينية وفلسطينية فقط، يواجه فيها سكان غزة مصائرهم أمام مرأى العالم، يتخذ الداعم لهم قبل العدو وضعية المتفرج المشاكس، إيران التي أطلقت على نصف ألويتها ومعاركها اسم القدس والأقصى، ولأجلها احتلت لبنان وشرذمت سوريا وشرحت اليمن وأنهت العراق، ظهرت اليوم معلنة أنها معركة الشعب الفلسطيني، الفلسطينيون وحدهم، فهل سمعت أميركا؟
تلفزيون سوريا
———————————-
وحدة الساحات أم وحدة المصالح الإيرانية؟/ غسان ياسين
2023.11.04
بعد تشويق استخدمت فيه تقنيات هوليودية لإنتاج فيديوهات قصيرة تشويقة (برومو) لخطاب حسن نصر الله زعيم ميليشيا حزب الله، خرج الخطاب بلغة فاجأت كثيرين ممن كانوا يظنون أن ميليشيا حزب الله ستدخل المعركة وتفتح جبهة في شمالي فلسطين المحتلة للتخفيف عن الفصائل الفلسطينية التي تقاتل في غزة، ولإشغال العدو بجبهة جديدة، فاجأ كلام زعيم ميليشيا حزب الله البعض لأنهم متوهمون بأن ما يسمى بمحور المقاومة تعنيه حقاً قضية تحرر فلسطين من الاحتلال.
جاءت كلمة نصر الله تجاه إسرائيل ناعمة ولينة وتحدث كأنه ناشط إعلامي حين بدأ بسرد ما يحدث في غزة منذ 7 تشرين الأول وحتى اليوم، ثم أسهب في شرح أنهم مشاركون بالعمليات منذ 8 تشرين الثاني، أي بعد يوم على بدء المواجهات التي بدأتها الفصائل الفلسطينية، في كلامه أراد زعيم ميليشيا حزب الله إرسال رسالتين واحدة لقادة حماس والثانية للولايات المتحدة الأميركية؛ رسالته لحماس أنتم من قررتم خوض المعركة وأنتم من بدأها دون تنسيق معنا ويجب عليكم خوضها وحدكم أي أن تتحملوا تبعات قراركم هذا وتبعات عدم التنسيق معنا، لأنه تحدث بوضوح عن أن هذه المعركة فلسطينية خالصة في تنصل مباشر من أي مسؤوليات له ولإيران عن تداعيات ما يحدث في فلسطين المحتلة، ورسالته لأميركا تقول نحن ملتزمون بقواعد الاشتباك التي وضعتموها منذ بداية المعركة الحالية، وطالما أن إسرائيل ملتزمة بقواعد الاشتباك هذه فنحن ملتزمون بها حرفياً.
أي متتبع للتصريحات الإيرانية منذ بدء المواجهات في فلسطين يرى بوضوح أن إيران لا تريد الانخراط بشكل مباشر أو حتى غير مباشر عبر ميليشياتها في هذا الصراع لأسباب عديدة، أهمها هو الحفاظ على مكاسبها التي حصلت عليها في السنوات العشر الأخيرة والمتمثلة بوجود أذرع عسكرية لها في سوريا والعراق واليمن ولبنان، والتي استطاعت من خلال هذه الأذرع أن تقدم نفسها كلاعب إقليمي قوي يستطيع أن يفاوض الأميركان وبيديه كل هذه الأوراق الرابحة، والسبب الآخر هو أنها لا تريد التشويش على المفاوضات المستمرة بينها وبين الولايات المتحدة الأميركية والتي يسعى الطرفان من خلالها إلي إعادة إحياء الاتفاق النووي أو إبرام اتفاق نووي جديد، لأن هذا الاتفاق حاجة إيرانية بقدر ما هو حاجة لبايدن وفريقه الرئاسي، إيران تريد حصد مكاسب اقتصادية من خلال هذا الاتفاق وأيضا اعتراف رسمي أميركي بنفوذها ومناطق توسعها الجديدة، وبايدن يستعجل هذا الاتفاق لأجل تحقيق مكاسب انتخابية تعينه على خوض سباقه القادم نحو البيت الأبيض، والطرفان يدركان جيداً أن قدوم الجمهوريين لحكم البيت الأبيض يعني أن كل هذه المساعي لعقد اتفاق نووي جديد ستذهب أدراج الرياح.
هناك كثر من غير المعجبين بميليشيا حزب الله كانوا يريدون أيضاً أن تفتح جبهة جنوبي لبنان لأجل أن يخف الضغط على الفصائل الفلسطينية في غزة، لكن يجب أن نرى الأمور من عدة زوايا حتى تكون الصورة واضحة وجلية بعيداً عن الأمنيات والتحليل الرغبوي العاطفي، حزب الله منذ نشأته قالها بكل وضوح قبل سنوات بأنه ميليشيا إيرانية وأن كل ما قام به وسيقوم به لاحقاً لن يكون سوى لخدمة مشروع إيران في المنطقة، وأفعال هذه الميليشيا تؤكد ذلك فإرهاب الحزب لم يبدأ فقط عندما ساند نظام الأسد بقمع الشعب السوري وارتكب مذابح كثيرة في عموم سوريا، ولا عندما شارك الحوثي في العدوان على المملكة العربية السعودية، إرهاب هذه الميليشيا بدأ قبل سنوات وهناك أمثلة كثيرة مثل محاولة اغتيال أمير الكويت عام 1985 وحين اغتال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري 2005، وأيضا حين أرهب المجتمع اللبناني في 7 أيار 2008، والحزب يجيد ترديد اللغة الإيرانية والتي تريد محو إسرائيل من الخريطة والقضاء عليها لأن هذه اللغة هي جزء أساسي من الخطاب السياسي الإيراني، رغم أن إيران لم تدخل في مواجهة مع إسرائيل ولا مرة واحدة منذ نشأة هذا الكيان. إيران لديها مشروعها التوسعي القائم على أساس طائفي وتنفذه عبر شبكة ميليشيات متوزعة في عدة دول وهي لن تغامر بهذا المشروع من أجل حماس أو لغيرها من الفصائل، فحماس لا تعني لإيران مثلما يعنيه الحوثي وحزب الله لأنها تتحالف مع الفصائل الفلسطينية لمصلحة مشروعها هي وليس لمصلحة الفلسطينيين، وهذا ما يجب على الجميع إدراكه والتعامل على أساسه.
فلسطين تتعرض الآن لحرب إبادة يمكن أن ينتج عنها نكبة ثانية بعد نكبة 1948 وإسرائيل ترتكب مذابح يومية بحق المدنيين وتدك البيوت فوق ساكنيها، وإذا لم يتم تطبيق شعار وحدة الساحات بشكل عملي في مثل هذه اللحظة متى إذاً؟ وحدة الساحات كذبة اخترعها الإيرانيون لأجل المتاجرة في قضية فلسطين، إيران بعد بسط نفوذها في دمشق وحلب وبغداد والموصل وبيروت وصنعاء تسعى للسيطرة على عاصمة عربية جديدة قد تكون الرياض أو عمان، ولا يعنيها كل ما يحدث في غزة اليوم، أهل فلسطين تركوا وحيدين في مواجهة الاحتلال وداعميه وهم معذورون إن كانوا يعولون على أي جهة تريد مساعدتهم والوقوف بجانبهم لكن الخذلان هو عنوان المرحلة، لأن الجميع خذل غزة وخصوصا الأنظمة العربية. ويجب على الفصائل الفلسطينية وكل القوى السياسية في فلسطين أن تعي أن ما يسمى وحدة الساحات انتهت في لحظة حقيقة كاشفة، وهي منذ إطلاقها كان هدفها وحدة الساحات لخدمة المشروع الإيراني وحده، فحين يخرج زعيم ميليشيا حزب الله بعد أربع أسابيع ليتحدث كأي موظف في الخارجية الإيرانية ويقول باختصار: لن نهاجِم إذا لم نهاجَم. هذا يعني أن الغزل الأميركي الإيراني مستمر وأن الطرفين يسعون لتحقيق مكاسب من هذا العدوان، وأن لا أحد يكترث لأصوات المكلومين المفجوعين في فلسطين. ونحن لا نملك أن نقول لأهل فلسطين سوى ما قاله محمود دوريش: كسروكَ، كم كسروكَ كي يقفوا على ساقيك عرشا، وتقاسموك وأنكروك وخبَّأوك وأنشأوا ليديكَ جيشا، حطُّوك في حجرٍ… وقالوا: لا تُسَلِّمْ، ورموك في بئرٍ.. وقالوا: لا تُسَلِّمْ، هم يسروقون الآن جلدكْ، فاحذرْ ملامحهم.. وغمدَكْ.
تلفزيون سوريا
——————————
هل يحصل نظام الأسد على مكافأة أميركية لـ “حياده” في الحرب على غزة؟/ عدنان علي
2023.11.03
إذا تجاوزنا الجدل حول طبيعة العلاقة بين حركة حماس وفصائل غزة مع إيران، فلا شك بأن العملية، وما أعقبها من تطورات حتى الآن، تسببت بحرج كبير لإيران، وحلفها (محور المقاومة)، وهو ما يرجح فرضية عدم التنسيق المسبق مع إيران بشأن العملية أو توقيتها على الأقل.
ولعل الحلقة الأضعف في هذا “الحلف” هو النظام السوري الذي ورغم حرصه على تجنب أي استفزاز لإسرائيل، لكن الأخيرة لم تكف عن توجيه الضربات له دون مناسبة، وخاصة مطاري حلب ودمشق اللذين كف النظام كما يبدو عن إصلاح مدرجاتهما لكثرة ما تتعرض للقصف الإسرائيلي.
وما جرى يبدو أنه وضع “محور المقاومة” كله في مأزق، سواء التزم موقف المتفرج واكتفى بالضجيج الإعلامي، وهذا سيفقده كل مصداقية، ويفرغ شعاراته السابقة من كل مضمون، أم جازف بفتح جبهة جنوب لبنان، وهي الوحيدة المؤهلة جديا لمثل هذا التحدي، وعندها قد تخرج الأمور عن السيطرة، ويكون النظام في دمشق هو الضحية الأول، باعتباره الحلقة الأضعف، خاصة إذا فرض عليه فتح جبهة الجولان، وهو ما لا يريده، ويسعى إلى تجنبه بكل السبل، بعد أن وصلته تحذيرات إسرائيلية بأن رأسه سيكون هو الثمن.
إذا، وخارج إطار التباكي الإعلامي وبدرجة أقل السياسي، فإن نظام بشار الأسد غير معني بما يجري في فلسطين، خاصة أن الطرف الأبرز هناك هو حركة حماس التي وصمها الأسد قبل أسابيع قليلة بالخيانة لنظامه. وطبعا، لن يكون الأمر مختلفا لو أن الطرف الفلسطيني كان غير حماس، لأن نظام الأسد، ومنذ عهد الأب حافظ، امتهن المتاجرة ب “الورقة الفلسطينية” وتوظيفها لاكتساب بعض الشرعية في الساحة العربية، تماما كما تفعل إيران اليوم، مع تفاهمات تحت الطاولة مع إسرائيل والولايات المتحدة بشأن “الخطوط الحمر” لدى كل جانب، وهي بالنسبة للنظام كرسي الحكم، وبعض المساحة السياسية ليتسنى له مواصلة لعب دور المقاوم والممانع، لكن بشار الأسد لم يعد يحظى اليوم بهذه الرفاهية، بسبب تجرده خلال سنوات الحرب الماضية من معظم أوراق القوة لديه، لدرجة بات يخشى حتى من إصدار الإدانات السياسية لسلوك إسرائيل، ولعل بشار الأسد، العضو المفترض في “محور المقاومة” هو الزعيم الوحيد الذي لم يخرج إلى الإعلام بتصريح واحد حول ما يجري في غزة، باستثناء كلمات عمومية نقلت عنه خلال اجتماعه مع أحد الوفود الهامشية التي تزور دمشق. وحتى أن قادة إسرائيل، يتجاهلون ذكر الأسد وسوريا في معرض تحذيراتهم الدورية التي يطلقونها لإيران ومحورها، من عواقب التدخل بما يجري في غزة.
ودون الاستفاضة في شرح العلاقة بين حكم آل الأسد، والكيان الإسرائيلي منذ عهد الأسد الأب وصفقة تسليم الجولان عام 67 مقابل وصوله للحكم، مرورا بدوره في ضرب فصائل الثورة الفلسطينية في لبنان والتي توجت بمجزرة تل الزعتر، ثم شق حركة فتح عام 1983، وصولا إلى حكم بشار الابن الذي كان من أبرز إسهاماته على هذا الصعيد تهجير فلسطيني سوريا وتدمير مخيماتهم، فمن الثابت أن حكم بشار الأسد ما كان ليصمد في وجه العواصف التي تعرض لها خلال ال 12 عاما الماضية، دون وجود رضا ومباركة أميركية، مدفوعة بمباركة إسرائيلية. والهدف الذي أراده الإسرائيليون وعمل عليه الأميركيون، هو عدم السماح بانتصار أي طرف في سوريا، بغية تمكين بشار الأسد من تدمير سوريا فوق رؤوس أبنائها، عبر استدامة الصراع إلى أجل غير مسمى، بحيث ينتفي تاليا أي تهديد لإسرائيل من الجبهة السورية لعشرات السنين، كما حصل في العراق من قبل.
هل انتهت مهمة بشار الأسد في تدمير سوريا؟ نعم أنجز هذه المهمة على أكمل وجه، لكن ربما ما زال لديه ما يفعله من وجهة نظر المخططين في إسرائيل، وهو تقسيم سوريا جغرافيا كما حصل في العراق أيضا، وإن كانت مقسمة اليوم بحكم الأمر الواقع، لكن ربما يريدون تكريس ذلك بشكل رسمي، ما دام على رأس السلطة حاكم دمية، يمكن أن يفعل كل ما يريدون، مقابل التمديد لحكمه بضعة أشهر أخرى، أو مقابل إعفائه من الملاحقات القضائية على الجرائم التي ارتكبها ضد شعبه خلال السنوات الماضية.
ويبقى السؤال، هل يستطيع نظام بشار الأسد مواصلة سياسة “النأي بالنفس” التي يتشبث بها حيال ما يجري في غزة والمنطقة، وما إذا لو تدحرجت الأوضاع باتجاه مزيد من التدخل لمحوره المفترض؟ هل سيتمكن من مواصلة صد محاولات تفعيل الجبهة السورية ضد إسرائيل؟
لا شك أن ما يريح بشار الأسد هو إدراكه عدم جدية حليفه الإيراني في التدخل، وعلمه اليقين أن ما تثيره إيران لا يتعدى الضجيج الإعلامي. وتشير معظم التقديرات إلى أن الحرب لن تنتهي كما تريد إسرائيل بتدمير حركة حماس وفصائل المقاومة، وسوف تعمل الضغوط الدولية الناجمة عن تزايد المجازر المرتكبة بحق المدنيين في غزة، على تبريد الرؤوس الحامية في تل أبيب، وحملهم على قبول مخارج أخفض سقفا، في حين ستطرح إيران نفسها مع حليفها حزب الله، بوصفهما القوة الرادعة التي أرغمت إسرائيل على وقف عدوانها، ومنعتها من تدمير المقاومة في غزة، تحت طائلة التهديد بدخول الحرب في حال تجاوزها “الخطوط الحمر” التي أبقتها إيران غير واضحة بشكل متعمد، حتى أن الرئيس الإيراني رئيسي تهرب مرارا من سؤال مذيع قناة الجزيرة عن هذه الخطوط، برغم طرحه 3 مرات بصيغ مختلفة من جانب المذيع.
وفي حال أصرت إسرائيل على تحقيق “انتصار كامل” أي سحق حركة حماس والمقاومة الفلسطينية في غزة وإنهاء حكمها للقطاع، وهذا مستبعد، فإن ذلك سوف ينزع من إيران “الورقة الفلسطينية”، ويزيح العضو “السني” الوحيد في حلف المقاومة، ليبقى حلفا شيعيا طائفيا. لكن من غير المرجح أن تتمكن إسرائيل من بلوغ هذا الهدف، وقد تنتهي الأمور على نحو يسمح لكل طرف بادعاء الانتصار، كما حصل في حرب لبنان 2006 بين إسرائيل وحزب الله، والتي أعلنت إسرائيل وقتها أيضا أن هدفها هو القضاء على حزب الله وتجريده من سلاحه، لكنها قبلت بما دون ذلك. ولعل الجهود التي تبذلها اليوم الأطراف العربية والأوروبية وحتى الأميركية، تتركز على تخفيض سقف الأهداف الإسرائيلية، ليس رأفة بحماس والمقاومة الفلسطينية، ولا حتى بالمدنيين في غزة، بل رأفة بإسرائيل نفسها، وحرصا على مصالح هذه الأطراف التي تدرك أن إمعان إسرائيل في استهداف المدنيين قد يخرج الوضع في المنطقة عن السيطرة، وينزلق الجميع إلى حرب وفوضى لا أحد يريدها، أو يقوى على تحمل نتائجها.
والواقع أن نظام الأسد بوضعه الراهن بات هو العضو المعطوب في “محور المقاومة”، أو لعله بات عبئا على هذه المحور، فهو لا يستطيع تقديم أية خدمات له إلا بوصف سوريا ممراً جغرافياً لنقل أسلحة محتملة من إيران لحزب الله. وفي ظل المراقبة الإسرائيلية اللصيقة لهذا الممر، واستهدافها المتكرر لما تقول إنها شحنات أسلحة أو مواقع إيرانية في سوريا، فان الأسد ربما يتمنى الانسحاب من هذا الحلف، أو على الأقل التحلل من أية التزامات خارجية تجاهه، ليتفرغ لحربه ضد السوريين في إدلب والسويداء ودرعا وبقية المناطق، فضلا عن مواجهة التذمر الشعبي من التردي الاقتصادي والمعيشي. وربما أن الأسد الذي أسعفته حرب غزة في إبعاد التركيز على احتجاجات السويداء المحرجة لنظامه، يتوقع من إسرائيل والولايات المتحدة أن تتم مكافئته على انضباطه خلال الحرب، وعدم سماحه إلا بإطلاق بضعة قذائف في أماكن مفتوحة لم تتسبب في جرح إسرائيلي واحد أو حتى تضرر عامود، مثل ذلك الذي يصوب عليه حزب الله معظم الوقت في جنوب لبنان. والمكافأة التي ينتظرها الأسد، قد تتعلق بالتخفيف من العقوبات الأميركية على نظامه، أو السماح لبعض اللاعبين الإقليميين بالانفتاح الجدي عليه، مثل الإمارات التي كانت أول من نقل إليه التحذيرات الأميركية من عواقب التدخل في حرب غزة.
تلفزيون سوريا
—————————-
غزّة ومنّزلتها التاريخية/ طالب الدغيم
2023.11.03
“غزّة” ابنة تاريخ طويل، شهدت صروف الدهر المتقلبة، واعتبرها نابليون: “بوابة آسيا، ومدخل إفريقيا”؛ احتفظت باسمها ومنزلتها، رغم كل ما مرّ بها من حوادث، وتعاقَب عليها من ملوك وغزاة وطامعين. ووصفها المؤرخ المقدسي عارف العارف في كتابه (تاريخ غزة): “غزّة ليست وليدة عصرٍ من العصور، وإنما هي بنت الأجيال المنصرمة كلها… لم يبق فاتح ولا غازٍ، إلا ونازلتْه، فإمّا يكون قد صرعها، أو تكون هي قد صرعتْه”.
غزّة.. المكان والمعنى
في المنطقة الجنوبية من الساحل الفلسطيني على البحر الأبيض المتوسط، وعلى مساحة لا تزيد على 360 كم2 تتربع مدينة غزّة. وقد بُنيت على تلٍ يرتفع زهاء (45م) فوق سطح البحر، وعلى حافة الأراضي الخصبة، التي تأتي مباشرة بعد برّية سيناء، لتكون المحطة الطبيعية لكل القادمين من مصر، ووجهتهم إلى الشام، ومن الشام إلى مصر.
تبدل اسم “غزّة” بتبدل الممالك والقوى التي استولت عليها، فقد كان الكنعانيون يسمونها “هزاتي”، والعبرانيون “عزة”، والفرس “هازاتو”، وسماها المصريون القدامى “غاداتو”. وفي المعجم اليوناني “أيوني”، وعند الأتراك “غزة”، وعند الإنجليز “غازا”. وسماها العرب المسلمون “غزة” أو “غزة هاشم”. فقد ارتبط اسم “غزّة” عند العرب، باسم هاشم بن عبد مناف الذي مات فيها، وهو عائد بتجارته منها نحو مكة عام 524م، إذ كانت غزة محط رِحاله، ومأوى ضريحه، ولم يغب عن أهل غزة تقدير ذلك الشرف، والرابطة بينهم وبين قريش ومكة، حيث تؤوي مدينتهم ضريح الجد الثاني للرسول الكريم محمد (صلى الله عليه وسلم)، وسموا أكبر مساجدهم باسمه. كما ولد في هذه المدينة أحد أئمة الإسلام وفقهائها الكبار، وهو الإمام محمد بن إدريس الشافعي (رحمه الله).
وذَكر ياقوت الحموي غزّة في كتابه (معجم البلدان): “غزّة مدينة في أقصى الشام من ناحية مصر، وغزة كانت امرأة صور الذي بنى صور مدينة الساحل قريبة من البحر، والشام حدها من الفرات إلى العريش المتاخم للديار المصرية”. وعلى هذا النحو يذهب ابن بطوطة في رحلته، فيقول: “ثم سِرنا حتى وصلنا إلى مدينة غزة، وهي أول بلاد الشام مما يلي مصر، متسعة الأقطار، كثيرة العمارة، حسنة الأسواق، بها المساجد الكثيرة، والأسوار عليها”.
وإن المؤرخ المقدسي عارف العارف (ت: 1973l)، يُورد في كتابه عدة احتمالات لمعنى اسم غزّة، فقد يكون من القوة والمنعة والشدة، وقد يكون من الثروة، وفيما يستصوب العارف الرأي الأول، فإن المؤرخ الفلسطيني مصطفى مراد الدباغ في حاشية موسوعته عن الديار الغزّية، يُرجح المعنى بين المخزن والكنز، وما يمكن ادخاره، وهذا رأي أخذ به المؤرخ اللبناني أنيس فريحة في كتابه “أسماء المدن والقرى اللبنانية وتفسير معانيها”.
وتطور عمران غزّة أسفل التل من نواحي الشمال والشرق والجنوب، حتى تكونت غزّة في وقتنا الحاضر من خمسة أحياء رئيسية، وهي: الدرج، والتفاح، والشجاعية، والتركماني، وحي الزيتون وهو أقدمها. ويعيش في غزة أكثر من 1.72 مليون نسمة، أيّ بمعدل 27 ألف نسمة في الكيلومتر المربع الواحد، وترتفع هذه الكثافة في مخيمات غزّة إلى 56 ألف ساكن بالكيلومتر المربع تقريباً. والجدير بالذكر، بأن غزّة استقبلت عدداً كبيراً من النازحين الفلسطينيين إثر نكبة عام 1948، ونكسة 1967م، ومنهم نحو 76 ٪ ينحدرون من مناطق بئر السبع ومدينة يافا والمجدل وعسقلان والنقب، والتي احتلتها إسرائيل، وهَجّرت سكانها الأصليين.
غزّة: رحلة طويلة تحت ظِلال الممالك والغُزاة
كان لغزّة منذ عقود قبل الدعوة الإسلامية، تاريخ وطيد وآصرة رحم مع العرب، حيث كانت قوافلهم تجوب غزة والمناطق حولها، ثم كانت بعد ذلك أول مدينة فلسطينية تفتحها الجيوش الإسلامية عام 13ه/ 635 م، وقد تعاقب عليها سلطان مختلف دول الخلافة الإسلامية، وقد كتب لها الاستقرار بُعيد الفتح الإسلامي فترة طويلة، قبل أن يحتلها الصليبيون عام 1099م، حيث حكموها بالحديد والنار والعسف نحو ثمانية عقود، قبل أن يستعيدها الفتح الإسلامي مرة أخرى بقيادة الناصر صلاح الدين الأيوبي عام 1187 م، ليحولها إلى مركز إداري استراتيجي بين مصر والشام.
وطوال الفترة ما بين حكم الأيوبيين والمماليك، ومن ثم العثمانيون، كانت غزة شرياناً حيوياً للتجارة، وسورَ حماية لما يليها من البرّ الفلسطيني. وتواصلت سيطرة الباب العالي عليها، ودخلتها لأكثر من مرة وحدات مختلفة من الجيوش العثمانية.
وخلال الحرب العالمية الأولى، استولت القوات الإنجليزية على غزّة في 7 من نوفمبر 1917م حتى شهر مايو 1948م، ويصف المؤرخ مصطفى الدباغ تلك المرحلة من تاريخ غزّة، بقوله: “اشتركت جميع مدن وقرى وبدو لواء غزّة في الجهاد ضد البريطانيين واليهود؛ ففي ثورة 1929م، غادر اليهود الذين كانوا يقيمون في غزّة بحراسة الجند، ولم يعد منهم أحد بعد ذلك التاريخ”. وفي عام 1936، شارك سكان قطاع غزة في الثورة الفلسطينية، والإضراب الكبير الذي استمر 173 يوماً. وقُبيل انسحاب البريطانيين عام 1948، وقعت عدة معارك بين أهالي غزّة، والقوافل الإسرائيلية التي كانت تزود المستوطنات المنتشرة في جنوبي البلاد بالمؤن والعتاد.
غزّة.. صخرة صلبة أمام المحتل الإسرائيلي
عاشت غزّة في ظل الاحتلال الإسرائيلي أحلك أيامها وأكثرها دموية ومعاناة، وفي سرده للمواجهات التي لم تنقطع بين أهالي غزّة والفلسطينيين النازحين قسراً فيها وقوات الاحتلال الإسرائيلي، يقول الكاتب هارون رشيد: “كانت غزّة، ومنذ اللحظات الأولى للنزوح الفلسطيني، بؤرة للتأجج الوطني، فهؤلاء النازحون الذين وفدوا إليها، حملوا في عيونهم وقلوبهم، صور مدنهم وقراهم ومزارعهم ومدارسهم، ظلت تُحفزهم على التسلل إليها، والعودة إلى مرابعها”.
واتسعت حركة الفدائيين الفلسطينية، والهجمات المباغتة لأهل غزّة، وخاصة في فترة الخمسينيات من القرن العشرين، فكان نشاطاً فدائياً ملحوظاً، فخلال أعوام 1955 – 1956م، شنَّ أهل غزّة أكثر من 300 هجوم فدائي على عدة مواقع ومستوطنات إسرائيلية.
وبعد احتلال إسرائيل لغزّة عقب حرب الخامس حزيران/ يونيو 1967، عَرفت غزة نمطاً جديداً من العمل الفدائي، ففي السنوات الثلاث التي أعقبت الاحتلال، كان الفدائيون يسيطرون على غزّة في الليل، والإسرائيليون يستعيدونها في النهار، وهو أمر حققت به صحيفة “صاندي تايمز” البريطانية في أحد أعدادها الصادرة عام 1969م، وكان تحقيقاً بعنوان “غزة في الليل للفدائيين”. وبالاستناد إلى دراسة بعنوان “المقاومة المسلحة في قطاع غزة (1967 – 1974)” لزكريا العثامنة، رأى أن المقاومة المسلحة في قطاع غزة نمت باضطراد، وخلال تلك الفترة، بلغ مجموع ما وقع في فلسطين نحو 971 اشتباكاً مع الاحتلال، كان نصيب غزّة وحده 730 اشتباكاً.
ومن مخيم جباليا الغزّاوي انطلقت انتفاضة الحجارة عام 1987م، وفي تلك الفترة، أسست حركة حماس ليبدأ منعطف جديد في قضية فلسطين، وبشكل خاص في تاريخ غزّة الذي طبعته الحركة بصبغتها الفكرية، وجعلته مع الزمن منطلق نضالها ضد المحتل الإسرائيلي. وفي عام 2000م، كان لانتفاضة الأقصى دورٌ في تطور أساليب المواجهة بين المقاومة والمحتل الإسرائيلي في غزة، والتي أدت إلى انسحاب إسرائيل من غزّة عام 2005م. وبعدها، شنت إسرائيل أربع حروب على غزّة بعد الانسحاب منها؛ الأولى في ديسمبر 2008، وسمتها “الرصاص المصبوب”، والثانية في نوفمبر 2012، واسمتها “عمود السحاب”، وفي يوليو 2014، كانت حرب “الجرف الصامد” على غزّة. وهجمات مدفعية وصاروخية إسرائيلية في عام 2019 أدت إلى مقتل عشرات المدنيين.
وفي ساعات فجر يوم السبت في 7 من أكتوبر عام 2023، كانت عملية “طوفان الأقصى” التي نفّذتها المقاومة الغزّاوية ضد المحتلين، وشملت هجوماً شاملاً للمقاومة على مستوطنات غلاف غزّة، بأكثر من 5000 صاروخ وقذيفة، وأعقبتها هجوم شامل على المستوطنات براً وبحراً وجواً. واعتبر أكبر هجوم على إسرائيل في تاريخها، وبلغت خسائر إسرائيل البشرية ما يزيد على 2000 مستوطن وجندي، وأكثر من 2500 جريح، ونحو 240 أسيراً إسرائيلياً في غزّة، وخسائر مادية بمليارات الدولارات نتيجة ضرب البنى التحتية للمستوطنات، وهروب المستوطنين، وشلل الاقتصاد الإسرائيلي. ولكن الرد الإسرائيلي بما سمته عملية “السيوف الحديدية”، وبغطاء عسكري ومالي وسياسي أميركي وأوروبي ضخم، ليكون المدنيون الأبرياء في غزّة الضحايا لهذه الحرب. وأدى الانتقام الإسرائيلي إلى مقتل أكثر من 8000 فلسطيني، وإصابة أكثر من 20 ألفاً من المدنيين، بحسب مصادر طبية فلسطينية، وتدمير عدد كبير من المساجد والكنائس والمستشفيات، والمراكز الإغاثية، والمدارس، والأحياء السكنية، وتجمعات النازحين. وأعلنت إسرائيل عن هدفها بالقضاء على المقاومة الفلسطينية في غزّة، وتهجير أهل غزّة الفلسطينيين إلى صحراء سيناء في مصر.
غزّة؛ المدينة التي تمنى رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحاق رابين أن يصحو يوماً، فيجد البحر قد ابتلعها، لكن غزة والبحر رضعا لبان التاريخ والقوة والمنعة قبل وجود إسرائيل بقرون، ويحضرها حديث بنيامين نتنياهو في كتابه “مكان تحت الشمس” عن حوار دار بينه وبين رجل فلسطيني عجوز من مخيم جباليا الغزاوي: نتنياهو: من أين أنت؟ الفلسطيني: من المجدل (مستوطنة أشكلون). نتنياهو: هل ستعود إلى المجدل؟ الفلسطيني: إن شاء الله يَحل السلام، ونعود إلى المجدل. نتنياهو: إن شاء الله يَحل السلام، وأنت تزور المجدل، ونحن نزور جباليا، فردّ الفلسطيني: نحن نعود إلى المجدل، وأنتم تعودون إلى بولندا. انتهى الحوار.
تلفزيون سوريا
————————-
مصر والأردن في الحرب الراهنة
31 تشرين الأول 2023
منذ بداية الحرب الإسرائيلية المفتوحة على قطاع غزة، بدأ محللون وسياسيون وعسكريون إسرائيليون يتحدثون عن ضرورة توجُّه الفلسطينيين إلى سيناء المصرية، ريثما يتسنّى للجيش الإسرائيلي إنهاء حركة حماس ردّاً على عملية طوفان الأقصى. وليست هناك تصريحات رسمية من جهات إسرائيلية رفيعة المستوى تتحدث عن خطة إسرائيلية مُعلَنة لتهجير الفلسطينيين إلى مصر، باستثناء ما قاله متحدث عسكري إسرائيلي هو ريتشارد هيخت في اليوم الرابع للحرب عن أن «معبر رفح لا يزال مفتوحاً»، وأنه ينصح «أي شخص يمكنه الخروج بالقيام بذلك». سيتراجع هيخت عن تصريحه لاحقاً، ثم سيقول أفيخاي أدرعي، المتحدث الرسمي باسم الجيش الإسرائيلي، إنه «لا توجد أي دعوة إسرائيلية رسمية» بهذا الشأن. لكن مع ذلك، يبدو واضحاً أن المسألة مطروحة فعلاً بصيغ متنوعة، وأنها تُشكِّلُ العنوان الأبرز للتحرك السياسي المصري والأردني بخصوص الحرب المستمرة في غزة.
سياقات مشتركة بين البلدين
يشترك البلدان في أن لديهما اتفاقيات سلام قديمة مع إسرائيل، وحدوداً مشتركة مع الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية بالنسبة للأردن وفي غزة بالنسبة لمصر. وقد جاءت اتفاقيات السلام تلك في محاولة لإيجاد حلول لجملة من الملفات التاريخية الشائكة والمتشابكة بين البلدين وإسرائيل، من بينها مصير الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية وتمثيلهم ودور البلدين في مستقبل الفلسطينيين السياسي.
علينا أن نتذكّر أن الضفة الغربية كانت تحت الإدارة الأردنية وأن قطاع غزة كان تحت الإدارة المصرية قبل حرب العام 1967، وقد ترك هذا تبعات طويلة المدى بالنسبة للبلدين وعلاقتهما بإسرائيل والفلسطينيين على حد سواء، حتى أن فكّ الارتباط الأردني مع الضفة الغربية لم يحدث بشكل رسمي حتى العام 1988. ويمكن القول إن الدعم المصري والأردني لمنظمة التحرير الفلسطينية، ولاحقاً للسلطة الفلسطينية بعد قيامها، يرجع في جزء منه إلى أن التوجه العام للبلدين يقوم على أن فلسطين هي شأن الفلسطينيين ومن يمثلونهم سياسياً، وأن البلدين لا يريدان تحمّل تبعات مباشرة لصراع الفلسطينيين مع إسرائيل. في الحقيقة، تُهدّد طروحات تكرار تهجير الفلسطينيين بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء على هذا الصعيد، وهو ما أشار إليه السيسي بوضوح عندما قال في 18 تشرين الأول (أكتوبر) إن «نقل الفلسطينيين من قطاع غزة إلى سيناء هو نقلٌ لفكرة المقاومة والقتال من غزة إلى سيناء، لتكون الأخيرة قاعدة لانطلاق الهجمات ضد إسرائيل».
يشترك البلدان أيضاً في علاقتهما السيئة بحركة حماس وانحيازهما إلى السلطة الفلسطينية في نزاعها مع الحركة، ويشتركان في طبيعة اتفاقيات السلام التي تجمعهما بإسرائيل في غياب أي سند شعبي في البلدين، وهذا ما تشير إليه بوضوح تلك المظاهرات الضخمة التي تخرج في البلدين مع كل عدوان إسرائيلي على الفلسطينيين. كما يشتركان في أن العلاقات الدبلوماسية والتجارية والأمنية بين كل من البلدين وإسرائيل لم تتطور أبداً إلى علاقات تطبيع ذات أبعاد شعبية ولو بالحدّ الأدنى، ما يعني أن مذابح كبرى وضربات تهجير تاريخية جديدة في فلسطين لا يمكن أن تمرّ دون ارتدادات كبرى داخل البلدين وتقويض لشرعية النظامين فيهما، فضلاً عمّا ستُلحقه موجة من اللاجئين الفلسطينيين إليهما من ارتدادات اجتماعية وسياسية كبرى.
هذه الاعتبارات المشتركة تقف إلى حد بعيد وراء التنسيق المصري الأردني في التعاطي مع الحرب الراهنة، وهو ما نجده بوضوح في القمة المشتركة بين قادة كل من مصر والأردن والسلطة الفلسطينية مع الرئيس الأميركي جو بايدن، قبل أن يتم إلغاؤها نتيجة مجزرة المشفى المعمداني في مدينة غزة.
رفض «السلام الجديد»
تُلقي العوامل المُشار إليها أعلاه بظلّها على موقف البلدين في هذه الحرب، المُتمايز عن مواقف دول عربية أخرى تجمعها اتفاقيات سلام مع إسرائيل مثل الإمارات والبحرين. وبينما كانت كلٌّ من الإمارات والبحرين قد منحت إسرائيل اتفاق سلام دون مقابل يُذكَر، ودون اشتباك سابق يحتاج اتفاقاً لفك تعقيداته، تُواجه كل من الأردن ومصر تحديات معقدة لعلّها كانت السبب وراء الموقف المصري البارد والموقف الأردني الرافض لمشروع «صفقة القرن» الذي طرحه ترامب عام 2019، والذي يمكن اعتباره تمهيداً لاتفاقات السلام الإبراهيمي التي بدأت مع الإمارات عام 2020.
رغم أن صفقة القرن كانت تُقرّ بحق الفلسطينيين في دولة، إلا أنها كانت دولة منزوعة السلاح ومُقطّعة الأوصال، وعاصمتها ليست القدس، وتسلب الفلسطينيين معظم الضفة الغربية وتتحدث عن دور غامض لمصر بشأن مستقبل غزة وأهلها. وبينما كان الموقف الإماراتي أكثر المواقف العربية حماساً للخطة التي اعتبرها «جديّة»، جاء الموقف مصري بارداً عندما اكتفى بدعوة الإسرائيليين والفلسطينيين إلى «دراسة مُعمّقة» للخطة، فيما جاء الموقف الأردني رافضاً لها على لسان مسؤولين عديدين، وعلى رأسهم الملك عبدالله الثاني.
رفضت السلطة الفلسطينية بدورها على لسان رئيسها محمود عباس صفقة القرن، وأدّى موقفها مع الموقف الأردني، مدعومَين بموقف مصري صار لاحقاً أوضح في تأييده للرفض الفلسطيني، إلى عدم وضع الخطة موضع التنفيذ، بحيث لم يبقَ منها إلّا اتفاقات السلام والتطبيع التي تم توقيعها في العام 2020 مع الإمارات والبحرين والسودان والمغرب تباعاً. وقد كان وراء الرفض الأردني والبرود المصري اعتبارٌ أساسيٌ، هو أن عدم قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة سيُجبر البلدين على التعامل مراراً وتكراراً مع حروب ومذابح على حدودهما، وربما ضربات تهجير إلى أراضيهما.
في كل النقاشات التي رافقت صفقة القرن، كان شبح تصفية القضية الفلسطينية عبر تهجير الفلسطينيين إلى مصر والأردن حاضراً، وهو الشبح الذي لا يتردد سياسيون وعسكريون إسرائيليون في الحديث عنه علناً مع كل مواجهة تندلع بين إسرائيل والفلسطينيين في الأراضي المحتلة، وإن كان لا يُطرَح علناً بشكل رسمي على لسان مسؤولين إسرائيليين، فإنه محفورٌ في طريقة إنشاء إسرائيل التي ترافقَت مع جريمة تهجير كبرى بحق الفلسطينيين، وفي كل خطاب وسلوك من الإسرائيليين تجاه الفلسطينيين، وفي القلب من ذلك استمرار الاستيطان وإنكار حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم، فضلاً عن عشرات المشاريع والطروحات التي تضمّنت أحاديثَ عن «وطن بديل» للفلسطينيين في الأردن أو سيناء أو غيرهما.
سيناريو التهجير في الحرب الراهنة
في اليوم الرابع للحرب، العاشر من تشرين الأول (أكتوبر)، قال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إن «مصر لن تسمح بتصفية القضية الفلسطينية على حساب أطراف أخرى»، وفي اليوم التالي نقلت رويترز عن مصدرين أمنيين مصريين أن «مصر تتحرك لمنع نزوح جماعي من غزة إلى شبه جزيرة سيناء». وفي الأردن، الذي شهد مظاهرات ضخمة داعمة للفلسطينيين منذ بدء العدوان، بدا واضحاً أن هذه المسألة باتت تحتلّ حيزاً أساسياً في حراك السلطات الأردنية منذ الثاني عشر من تشرين الأول، عندما حذَّرَ وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي «من أي محاولة لتهجير الفلسطينيين من غزة إلى مصر وترحيل الأزمة إلى دول الجوار»، وهو التحذير الذي كرّره الملك الأردني نفسه في اليوم التالي.
مع تصاعد المذابح الإسرائيلية في غزة، باتت تصريحات القادة والمسؤولين والإعلام الرسمي وشبه الرسمي في البلدين أكثر حدّة، وتتالت الإدانات لإسرائيل وسلوكها، وبدا أن اتفاقيات السلام الموقعة بين البلدين وإسرائيل فاقدة لفعاليتها كقنوات للتأثير والتواصل الدبلوماسي، وحلّ محلّها حراك دبلوماسي نشط من جانب البلدين على المستويات الإقليمية والدولية، يسعى إلى الضغط على إسرائيل أولاً وأساساً بشأن طيّ الحديث نهائياً عن فكرة خروج الفلسطينيين من غزة إلى سيناء، وثانياً من أجل إدخال المساعدات إلى غزة ومحاولة التوصُّل إلى وقف إطلاق نار لا يزال الجانب الإسرائيلي يرفضه بشدة.
وفي موقفه الصلب ضد طروحات التهجير، يأخذ الأردن في حسبانه أن السماح بتهجير سكّان غزة إلى مصر سيكون له ما بعده في الضفة الغربية، وبالفعل قام مستوطنون بتوزيع منشورات في الضفة الغربية تهدد بـ«نكبة» جديدة، فيما قال وزير الخارجية الأردني قبل أيام إن بلاده ستعتبر أي محاولة لتهجير الفلسطينيين من الضفة الغربية «إعلان حرب».
فضلاً عن الرفض الحاسم، شملت الجهود الأردنية والمصرية لإنهاء طروحات التهجير حراكاً دبلوماسياً نشطاً لوقف إطلاق النار وإدخال المساعدات، وعدم فتح معبر رفح أمام الفلسطينيين الراغبين في مغادرة القطاع لتجنّب القصف، وضغطاً مصرياً لربط خروج الرعايا الأجانب من غزة بإدخال المساعدات إلى القطاع بهدف تخفيف الكارثة الإنسانية، التي قد تكون أحد أساليب إسرائيل لدفع الفلسطينيين إلى مصر.
عودة مختلفة لـ«محور الاعتدال»؟
اعتادت مصر خلال العقدين الماضيين أن تلعب دور الوسيط بين حماس والإسرائيليين في ترتيب الهُدن والاتفاقات الإنسانية، إلا أنها تبدو في هذه الجولة وكأنها نفسها تفتقد لوسيط مع إسرائيل، ومع الولايات المتحدة حتى. بدوره، يلعب الأردن دوراً عالي الصوت في المبادرات الدبلوماسية ضمن المجموعة العربية، ما تبدّى في قيادته مشروع قرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة لتحقيق «هدنة إنسانية» وإدخال مساعدات إلى قطاع غزّة الأسبوع الماضي. وفي أفق هذه الصورة نجد موقفاً سعودياً انتقل من الإقرار، العلني والمتبادل، بوجود مشروع اتفاق سلام وشيك مع إسرائيل، إلى مشاركة فاعلة ضمن «المجموعة العربية» في الهيئات الأممية بالتنسيق مع الأردن، وإصدار موقف رسمي ضد «التهجير القسري للشعب الفلسطيني من غزّة» يتلاقى مع الهواجس المصرية والأردنية. وقد أُعلن هذا الموقف في تصريحات عديدة لمسؤولين سعوديين، سيّما وزير الخارجية، وفي بيانٍ للوزارة طالبت السعودية عبره برفع الحصار عن غزّة وإجلاء المصابين، و«الدفع بعملية السلام وفقاً لقرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة، ومبادرة السلام العربية، الرامية إلى إيجاد حلٍ عادل وشامل، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967م، عاصمتها القدس الشرقية». وقد فصّلَ هذا البيان مطالب محددة وعالية السقف مقارنةً ببيانٍ سابق تلا هجوم حماس على كيبوتزات ومواقع عسكرية في غلاف غزّة في السابع من أكتوبر، حيث اكتفى بدعوة الطرفين لـ«ضبط النفس»، ومطالبة المجتمع الدولي بـ«تفعيل عملية سلمية ذات مصداقية تفضي إلى حل الدولتين بما يحقق الأمن والسلم في المنطقة». لم تُعلن السعودية تجميد مسارها التفاوضي المتقدم مع إسرائيل حول اتفاق سلام، لكنها اختارت حالياً تبنّي شعارات رفض التهجير والمطالبة بوقف إطلاق النار، ومشاركة وزير خارجيتها بفاعلية في الجهد العربي المشترك في الأمم المتحدة.
بمواقفها المعلنة، تبدو الكويت قريبة جداً من هواجس مصر والأردن. كذلك تبدو قطر، وإن دون أن تفقد «تمايزها» الذي تحرص عليه بشدّة.
ثمة تلاقٍ عربي رسمي، لا مثيل له منذ المبادرة العربية في قمة بيروت 2002، على «الخط الأحمر» الذي رسمته مصر والأردن أمام أي طرح تهجيري للفلسطينيين إلى أراضيهما. ولا يبدو أن هناك أي خطاب سياسي يرفع السقف بوضوح ما بعد هذا الخط الأحمر، ولا حتى عند المكونات العربية في محور الممانعة؛ أما ما دونه، فتظهر ملامح كائن قديم، «محور الاعتدال».
بعد أن هزّته الثورات العربية قبل عقد، ومزقته الأزمة الخليجية وارتداداتها قبل نصف عقد، وزادت دبلوماسية «صفقة القرن» الترمبية من تشرذُمه، تسمح انسجامات وتنسيقات الأسابيع الثلاثة الماضية، وخصوصاً التلاقيات عند التضامن مع مواقف مصر والأردن، بتلمُّس ملامح إعادة تشكّل «محور الاعتدال» العربي القديم حول الهواجس الأردنية-المصرية، وإنْ بانكفاء إماراتي وبحريني لا يصل إلى حدود السلبية تجاهه. لكن ثمة فارقٌ جوهري بين نُسختي «محور الاعتدال» سيحدد ممكِناته السياسية خلال الأسابيع والشهور المقبلة: القديم قام على موقف إيجابي من اتفاقات سلام كل من مصر والأردن (ومنظمة التحرير الفلسطينية) مع إسرائيل، وعلى مقاربة «واقعية» لأُسس التفاهم مع الولايات المتحدة، وعبرها مع إسرائيل. إلا أن المحور الجديد، لو تبلور، فسيقوم على أساس انقطاع سبل الوصال مع إسرائيل بشكلٍ لن يكون جَسرُه سهلاً بعد حرب غزّة؛ و«أزمة ثقة» غير مسبوقة لدول هذا المحور، متعددة الأسباب وسابقة في جزئها الأكبر على حرب غزة، مع الولايات المتحدة الأميركية.
موقع الجمهورية،
————————–
إيران التي تفاوض بدماء السوريين والفلسطينيين/ جمال الشوفي
2023.10.31
لطالما كانت وما زالت فلسطين حمّالة أوجاع وآلام جسام. فلسطين التي تلامس وجداننا العربي بقضيتها ومصير شعبها، بتنا كسوريين نعيش آلامها منذ اثني عشر عامًا حياة يومية من التشرد والتهجير والقتل الجماعي والفردي. في المقابل كان الوعي العربي يقع تحت وطأة تناقض حاد بين شعوره العميق بالوجع الفلسطيني وبين مقاربته لطرق الحل الممكنة على مستويات السياسة الدولية والإقليمية والعربية. حيث باتت تتكشف مدى تحول قضية الشعب الفلسطيني لمجرد أداة تتلاعب بالوجدان الشعبي مقابل جني المكاسب السياسية لحكام المنطقة من سلطة الاستبداد والعسكر، والتي طالما رفعت راية تحرير القدس لكنها كانت تهجر سكان حلب والغوطة وداريا وتدمر المدن السورية.
إيران اللاعب الأساسي الأخطر في المنطقة تمتد أذرعها في كل مدن الشرق العربي خاصة في سوريا والعراق ولبنان، وفي فلسطين في غزة. إيران صاحبة المشروع التوسعي السياسي المرفوع على حوامل عقائدية والتي تعمل على بزار دول العالم من خلال تموضعها في عواصم دول الشرق وعلى حساب قضاياهم ومصير شعوب المنطقة برمتها.
فما إن بدأت عملية طوفان الأقصى، حتى تلقفتها الإدارة الأميركية بالقول على لسان بلينكن إن إيران لا علاقة لها بما يجري في غزة، وذلك في إشارة لاستثناء إيران من أية معادلة حرب إقليمية قد تحدث في المنطقة. والسؤال المطروح، ماذا ستستفيد إيران من العملية بذاتها؟ وماذا يعني تلقيها للإشارة الأميركية التي تشير إلى بدء مرحلة جديدة من التفاوض الإيراني الأميركي؟
في الخلفية التاريخية، لم يكن التمدد الإيراني في سوريا، ومن قبله في العراق مجرد صدفة أو رغبة فقط لدى قادة ما يسمى بهتانًا “الثورة الإيرانية”، وهي التي سعت لتصدير شرعياتها العسكرتارية “الثوروية” لكل دول الجوار. بل كان تحت العين الأميركية مباشرة خاصة منذ عام 2003، منذ غزو العراق ومن ثم احتلاله. فسواء كان ثمة اتفاق مبطن أو التقاء مصالح بين كل من طهران وواشنطن ولندن، فقد تم استثمار الدور الإيراني في تفكيك العراق وتحويله إلى مستنقع للمحاصصة الطائفية والإجهاز على كامل مقدراته العلمية وثروته الطبيعية. وهذا لا يعني أبدًا أن العراق لم يكن يعاني من ديكتاتورية نظام حكمها، بل يعني تمامًا أن التمدد الإيراني كان وظيفيًا فيه تم استثماره من قبل واشنطن ولندن، وهو ذاته ما يفسر غض النظر الذي مارسته واشنطن عن تمدد الميليشيات التابعة لإيران في سوريا وتحت عينها.
الإجابة عن سؤال المتحولات الإقليمية في الشرق الأوسط سؤال ليس بحكم المتاح الإجابة عليه ببساطة. لكن عند تدقيق الدور الإيراني منذ عام 2011، فهي كانت المساهم الأكبر في بتر الربيع العربي وقطعه في اليمن وسوريا ولبنان والعراق. وليس فقط، بل تأجيج الصراع الديني وتغليب لغة القتل الدينية بمرجعية شعائر وطقوس تعود لما قبل 1400 عام. فقد عملت على شيطنة العنف والعنف المضاد لدرجة العودة لكل أشكال القتل الهمجية ومفهوم الغزوات والتهجير أيضًا. فإن كانت موسكو هي من ساعدت هذه المرة بغطائها الجوي هذا التمدد الإيراني بعد عام 2015 في سوريا، فإنه كان مرقوبًا جيداُ وملحوظًا أيضا من قبل واشنطن وصناع القرار العالمي قبله، وهي التي فاوضت إيران على ملفها النووي مقابل هذا التمدد وقتها! في حين إن الاتفاق الذي تم توقيعه بين موسكو وواشنطن وبعض عواصم العالم وأهمهما “تل أبيب” في إسرائيل على ضرورة تحجيم الدور الإيراني في المنطقة عام 2018، كان أشبه بلعبة في دماء أبناء المنطقة وشعوبها. فبعد الإجهاز على معظم مقومات الشعب السوري ومشروعه الوطني وحوامله، واستفراد روسيا في الملف السوري جزئيًا بموافقة كل من تركيا وإيران على حصص جزئية فيه، أتت التوافقات الدولية على تحجيم الدور الإيراني في سوريا وكأنها تحمل عنوان كفاية الدور الوظيفي لإيران في تفتيت المنطقة والاجهاز على مشروع الدولة الوطنية في سوريا، وتعطيل أي مثيل لها في العراق ولبنان، وتعطيل مشروع حل الدولتين في فلسطين. لكن إيران تفاوض بحكم الوجود العسكري على الأرض، وأية محاولة لتحجيم هذا الوجود تقابله بتهديد أمن الخليج العربي وافتعال حرب إقليمية واسعة في المنطقة وهذا ما يتفادها الجميع لليوم، وهو سر الرسالة التي أرسلتها أميركيا عبر بلينكن لإيران.
منذ بدء الحديث عن محاولة أميركا لقطع طريق البوكمال، المنفذ البري للميليشيات الإيرانية للعمق السوري واللبناني بدايات هذا العام، عادت معادلات التحول الإقليمي في المنطقة للظهور مجددًا. وعادت إيران لمحاولة التفاوض على مناطق وجودها فيها بأكثر من طريقة. يبدو أن آخرها قبض ثمن تهجير سكان غزة، مقابل أن تبقي على مناطق نفوذها سوريا. فهل هذه هي المعادلة التي ستفرضها إيران وتلقفتها أميركيا لمنع اندلاع حرب إقليمية واسعة بالمنطقة؟ وهل دول الخليج العربي سترضى بهذه الشروط، وهي المتضررة من تحويل سوريا لبؤرة لتهريب المخدرات إليها، وزيادة الخطر الإيراني على أمنها وهي المهددة بالخليج ومن اليمن؟
ورقة غزة اليوم بيد إيران ورقة للهروب للأمام، فهي بذلك تضحي بذراعها المتحركة حماس، مقابل بقائها في سوريا، فهي تدرك أنها مقبلة للتفاوض على رفض وجودها في الجنوب السوري برمته بناء على إصرار الأردن ودول الخليج على ذلك، واشتداد المظاهرات السلمية في السويداء المطالبة بالتغيير السياسي العام في سوريا. وليس أمام إيران عندها زج كل من النظام السوري وحزب الله في معادلة الحرب القابلة للتمدد وبقائها ضابط إيقاعها من بعيد. لتبقى إيران تعتمد على سياسة المتحورات البينية وإدارة أذرعها واستخدامها في عمليات عسكرية جزئية تهدد أمن المنطقة واستقرارها، وتجهض أية بوابة للحلول السياسية الممكنة، وذلك لتبقِ على تمددها العسكري فيها تفاوض من خلاله وبدماء شعوبنا بدل انكفائها لداخلها ويصبح التفاوض في عقر دارها.
لم يزل الشعور والوجدان الشعبي العربي عامة والسوري والفلسطيني بخاصة، محط صهر وسحق يقع في تناقض حاد بين حق الشعب الفلسطيني وبين أدوات الصراع العسكرية المستثمرة فيه وعلى حسابه ضد الشعب ذاته. والرابح الوحيد هو إيران والنظام السوري لليوم، والخاسر هم الشعوب. بينما خروج إيران وميليشياتها من المنطقة وتحقق مشروع الدولة الوطنية في كل من سوريا ولبنان والعراق وحل الدولتين في فلسطين سيغير وجه المنطقة تجاه الاستقرار والسلام. وهذا ما ستحدده سير الوقائع في الأيام المقبلة والتي تنذر بمتغيرات مفصلية في شكلها المقبل، وعلى شعوب المنطقة أن تحسم أمرها تجاه استحقاق بناء دولها الوطنية وهذا لا يتناقض أبداً مع جوهر القضية الفلسطينية بل يعزز من قيمتها ويغير طريقة إدارة صراعها.
تلفزيون سوريا
—————————
حصاد السلام الإبراهيمي في حرب غزة/ صادق عبد الرحمن
26 تشرين الأول 2023
خلال زيارته القصيرة جداً إلى الإمارات العربية المتحدة في 14 تشرين الأول (أكتوبر) الجاري، خصّصَ وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن وقتاً لزيارة البيت الإبراهيمي في أبو ظبي، وقال عنه في تغريدة إنه «شهادة حقيقية على التزام دولة الإمارات بالتعايش السلمي بين الديانات الإبراهيمية، وهذا هو ما ينبغي أن يبدو عليه مستقبل المنطقة». جاءت تلك الزيارة في سياق جولة بلينكن في المنطقة العربية بعد عملية طوفان الأقصى وما تلاها من عدوان إسرائيلي مفتوح على غزة، وكان هدف الزيارة الواضح هو حشد كل دعم ممكن لعملية عسكرية إسرائيلية تهدف لإنهاء حركة حماس.
نستطيع أن نستنتج من تخصيص وقت للبيت الإبراهيمي، في زيارة من ساعات قليلة تهدف للتعامل مع حدث تنزف فيه دماء الآلاف على جانبي الصراع، أن بلينكن ومُستضيفيه في الإمارات يرون أن الحروب الإسرائيلية العربية المستمرة منذ عقود ناتجة عن سوء تفاهم ديني، وأنها يمكن أن تتوقف بنشر التسامح الديني في المنطقة والعالم. في هذا التوصيف بعض الاختزال الساخر لكنه ليس نسخة كاريكاتورية تماماً عن رؤيتهم تلك، فاتفاقات السلام العربية الإسرائيلية التي افتتحتها دولة الإمارات في آب (أغسطس) 2020 حملت اسم إبراهيم، النبي الذي تتفق عليه الديانات السماوية الثلاث، وسارت على «النهج الإبراهيمي» بعدها دول البحرين ثم السودان ثم المغرب، في اتفاقات مع إسرائيل تم إبرامها في العام نفسه.
إذن، بالإضافة إلى الإيحاء اللغوي بأن الصراع يمكن اختزاله إلى بُعده الديني، كان عرّابو الاتفاقات الإبراهيمية في واشنطن وتل أبيب وأبو ظبي يتحدثون عنها بوصفها بوابة سلام في المنطقة كلّها، لكن ما الذي حلّ بتلك البوابة اليوم؟
وعود السلام الإبراهيمي
عربياً، حاولت الإمارات تقديم الاتفاق على أنه ليس فقط فرصة للتعاون الاقتصادي والاستقرار في المنطقة، بل أيضاً أن فيه توسيعاً لقدرة العرب على الضغط على إسرائيل لصيانة حقوق الفلسطينيين. قالت النسخة العربية من بيان إماراتي إسرائيلي أميركي مشترك إن الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي أدّى إلى «وقف» خطط إسرائيل لضمّ مساحات من الضفة الغربية، وقال أنور قرقاش وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية إن «خطة الضم الإسرائيلية كانت ستقضي تماماً على حلّ الدولتين». سيتبيّنُ أن النسخة الإنكليزية من البيان الثلاثي استخدمت كلمة «تعليق» بدلاً من «وقف»، وسيُعلن نتنياهو لاحقاً أن خطط الضم تم تأجيلها فقط، دون أن يستدعي ذلك أي تغيير في خطة السلام من جهة الإمارات.
بعد أقل من شهر جاء الاتفاق البحريني الإسرائيلي، الذي تضمّنَ بيانُه المشترك كلاماً عن سعي البحرين لـ«سلام عادل وشامل، كخيار استراتيجي، وفقاً لحلّ الدولتين»، فيما فاضت الصحف البحرينية شبه الرسمية بالدفاع عن الاتفاق، بل والقول إن سياسة البحرين تصبّ في مصلحة القضية الفلسطينية.
بعدها، في تشرين الأول (أكتوبر) من العام نفسه، تم الإعلان عن اتفاق لتطبيع العلاقات بين السودان وإسرائيل، لكنه لم يترافق بالكثير من التبشير بـ«السلام»، أولاً بسبب عدم استقرار الحكم في السودان وثانياً لأنه لم يكن اتفاقاً ناجزاً، فالأخير «ستتخذه المؤسسات التشريعية عقب اكتمال تكوينها» بحسب وزير الخارجية السوداني وقتها عمر قمر الدين. ثم في كانون الأول (ديسمبر) تم الإعلان عن تطبيع كامل للعلاقات المغربية الإسرائيلية، في صفقة يبدو أن طرفها الآخر كان الولايات المتحدة وليس إسرائيل نفسها، إذا أعلن ترامب في اليوم نفسه اعتراف الولايات المتحدة بسيادة المغرب على الصحراء الغربية.
في الحقيقة، ورغم كل الكلام الذي رافق هذه الاتفاقات عن سلام شامل ومبادئ إنسانية وتسامح ديني، كانت الروح الطاغية على تلك الاتفاقيات هي تلك التي يُمثِّلها ترامب كرجل أعمال ناجح وتُمثِّلها الإمارات كميدان صفقات ناجحة، كما لو أنها صفقات مالية يمكن إحصاء أرباحها المُحتمَلة رياضياً. لكن حتى بهذا المعنى، هل فكّرَ أطرافُ الصفقة ملياً في خسائرها المُحتملة؟ لعلّهم فعلوا فقرروا ألّا يأخذوا في اعتبارهم أكثر من الربح العاجل الذي بدا مؤكّداً بالنسبة لهم كلٌّ من موقعه. ترامب يدخل التاريخ كصانع سلام ويُحسّن حظوظه في البقاء في البيت الأبيض، واليمين الإسرائيلي يكسب أمام جمهوره على كل صعيد، وحكّام الإمارات والبحرين يحسّنون موقعهم في مواجهة إيران ويصبحون أكثر حظوة في الولايات المتحدة، والعسكر في السودان يُمكِّنون موقعهم في سلطة ضعيفة، والمغرب ينتزع اعترافاً أميركياً بسيادته على الصحراء الغربية.
لكن يبدو أن السعودية فكّرت في الأمر إلى أبعد من ذلك بقليل، ولعلّها اتخذت موقعاً مختلفاً في المسار الإبراهيمي لهذا السبب.
محطة إبراهيم الخامسة
كانت المحطة الخامسة في السعودية، التي حرصت منذ البداية على اتخاذ موقع متمايز عن الإمارات في هذا الملفّ، حتى أن التصريحات السعودية بعد الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي قالت إنه «لا تطبيع مع إسرائيل دون سلام مع الفلسطينيين». لكن مسار التطبيع السعودي الإسرائيلي عاد إلى الواجهة في 2023، وتحدَّثَ ولي العهد السعودي قبل أقل من شهر من عملية طوفان الأقصى عن أن المباحثات مستمرة مع إسرائيل، قائلاً إن هذا المسار «يحقق تقدّماً» في مقابلة مع فوكس نيوز في 21 أيلول (سبتمبر) الماضي.
كانت السعودية أكثر حزماً في ربط مسارها للسلام مع إسرائيل بحلّ للقضية الفلسطينية، وفي المقابلة مع فوكس نيوز قال بن سلمان إن الاتفاق المُحتمَل: «يجب أن يمنح الفلسطينيين احتياجاتهم ويجعل المنطقة هادئة». وليس هناك ما يثبت أن القيادة السعودية كانت جادة فعلاً في عدم توقيع اتفاق دون حلّ للقضية الفلسطينية، لكن الأرجح أن القيادة السعودية كانت تريد مكاسب تتجاوز حسابات الربح السريعة، آخذة في الحسبان موقعها القيادي في العالم الإسلامي، وإلى جانب ذلك وربما قبله صراعها مع إيران، حتى أن برنامجاً نووياً سعودياً محتملاً كان في صلب المباحثات، وذهبت تحليلات إلى أن هذه المسألة كانت البند الأساسي فيها. في المقابلة مع فوكس نيوز، قال بن سلمان إنه إذا حصلت إيران على سلاح نووي فيجب أن تحصل السعودية عليه «لأسباب أمنية».
جاءت عملية طوفان الأقصى بعد أقل من ثلاثة أسابيع على مقابلة بن سلمان، وأعقبتها حرب إسرائيلية وحشية إبادية الطابع على قطاع غزة. أدّى ذلك إلى إعلان السعودية إيقافها مباحثات التطبيع مع إسرائيل بالتزامن مع زيارة بلينكن إليها في سياق جولته إياها في المنطقة، وذلك بعد يوم واحد من بيان سعودي يرفض تهجير الفلسطينيين ويُدين مذابح إسرائيل في غزة.
الطوفان
طوال الوقت، كان الخطاب المُرافِقُ لـ«المساعي الإبراهيمية» يتحدث عن سلام سيجلب ازدهاراً اقتصادياً على المنطقة، وكان المعلقون المحسوبون على الأنظمة العربية الساعية لتوقيع اتفاقيات سلام يُذكِّرون مراراً بحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة كلازمة تتكرر في الخلفية، ودون إعلان سياسة واضحة بشأنها. ثم جاء يوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، والمذابح التي أعقبته، ليكون اختباراً حاسماً لفعالية المشروع الإبراهيمي.
الدرس الأول الذي يمكن استخلاصه من مآل مشروع السلام بشكله الإماراتي الترامبي أنه يكاد لا يعني شيئاً خارج المكاسب السريعة المذكورة أعلاه، فقد كانت الفعالية السياسية للإمارات قريبة من الصفر، ولم تترك علاقات الإمارات والبحرين والمغرب مع إسرائيل أثراً على مسارات الحرب أو المساعي لتسويات مُحتمَلة (السودان خارج احتمالات التأثير بينما يعاني شعبه جراء صراع البرهان-حميدتي على السلطة)، بل العكس، يبدو أن هذه الاتفاقات بالذات عطّلت كل قدرة إماراتية على التأثير.
بالمقابل، بدت السعودية أكثر تأثيراً في حرب غزة من بقية دول المسار الإبراهيمي، وهي التي كانت أكثر تأنيّاً في السير على طريقهم، فيما كانت المواقف المصرية الأردنية الرافضة لتهجير الفلسطينيين حاسمة لجهة تعطيل مساعي إسرائيل على هذا الصعيد، وكانت مدعومة على طول الخط بالموقف السعودي الواضح بهذا الشأن.
وطبعاً، لم تفعل السعودية ومصر والأردن ما يمنع إسرائيل من مواصلة حربها الهمجية، ولم تضغط بكل ما لديها من قوة وأوراق على الولايات المتحدة لمنعها من تقديم دعم مفتوح لحرب الإبادة الإسرائيلية، لكن المقصود أن مسار السلام الإبراهيمي، الذي يقوم على تسويق إسرائيل في المنطقة تحت شعارات التسامح الديني والمصالح الاقتصادية، دون أن يقع على عاتق إسرائيل تقديم أي شيء على الصعيد السياسي بالمقابل، هو مسارٌ عقيمٌ على كل صعيد، حتى على صعيد تأثير هذه الدول في مآلات الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. لم تمنح الاتفاقات الإبراهيمية أصحابها العرب قدرة أعلى على التأثير في السياسات الأميركية والإسرائيلية، بل تشرح الأيام الماضية أن العكس هو ما حصل.
لا شكّ أن دروساً كثيرة ينبغي استنتاجها من عملية السابع من تشرين الأول (أكتوبر) وما تلاها، ومن أبرزها أنه لا يمكن بناء سلام في المنطقة عبر تجاهل حقوق الفلسطينيين، وأنه لا يمكن أن تزدهر المنطقة بينما يتم الدوس على حقوق وكرامات الملايين من سكّانها بالعنف والقتل والطائرات الحربية، وأنَّ كل «اتفاق سلام» مع إسرائيل لا يُجبرها على تقديم تنازلات حقيقية لا معنى له خارج المكاسب المحدودة والمؤقتة لأطرافه.
لا يتعلق الأمر بأن لدى الدول العربية واجباً «قومياً» تجاه الفلسطينيين، ولا واجباً دينياً، ولا حتى واجباً إنسانياً أو أخلاقياً، وبالطبع هو لا يتعلق بالموقف من حماس وخطابها وأساليبها وتحالفاتها، بل يتعلق بحقيقة أنه تمت إقامة دولة يهودية بالقوة في قلب المنطقة وعلى حساب الشعب الفلسطيني وشعوب الدول العربية المجاورة له، وأن مأساة الشعب الفلسطيني لا تزال مفتوحة في كل مكان يوجد فيه فلسطينيون داخل الأراضي الفلسطينية وخارجها، وأنه بدون إنهاء هذه المأساة فإن كل سلام وازدهار إقليمي هو مجرّد وهم في رؤوس أصحابه.
لكن لعلّ القادة وصانعي السياسات في دول «السلام الإبراهيمي» لا يسعون للسلام والازدهار أصلاً، بل يسعون إلى مكاسب لحظية ينفقونها في تحصين مواقعهم السياسية، بالمعنى الضيق للتحصين وبالمعنى الضيق للمواقع السياسية. الأرجح أن الأمر كذلك، ولهذا فإن الكلام أعلاه ليس مُوجَّهاً لهم، لكن لعلّه يكون مفيداً للتذكير بأن القضايا السياسية الكبرى لا يتمّ حلّها بتجاهلها أو القفز فوقها، وبأنه كلّما تمّ دفنها بالتجاهل فإنها ستعود لتنفجر في وجوه الجميع. هذا صحيحٌ بشأن فلسطين، وصحيحٌ أيضاً بشأن القضية الكردية، وهو صحيحٌ كذلك بشأن القضية السورية التي يحاول «الإبراهيميون» أنفسهم دفنها بالتطبيع مع بشار الأسد.
موقع الجمهورية
——————————
بيروت تُتابع غزة: غضب وحذر/ المعتصم خلف
28 تشرين الأول 2023
الوجوه المذهولة قادمةٌ من أمام الشاشات بعيون ممتلئة بالحزن، لتلبي الدعوات التي انتشرت للتظاهر والاحتجاج في الشوارع الرئيسية والساحات العامة لوسط بيروت ومداخل المخيمات الفلسطينية، وإدانة الإبادة الجماعية التي يتعرض لها أهالي قطاع غزة المحاصر. مئات النساء والرجال يهتفون بأعلى أصواتهم، يدينون الجريمة المستمرة والتطبيع العربي والصمت العالمي، يطالبون بفتح معبر رفح، ويحيون فلسطين وأهلها.
المشهد يتكرر منذ بداية العدوان على غزة، المظاهرات والوقفات الاحتجاجية ورسائل الإدانة الرسمية، لتشملَ حالةُ الغضب والتضامن أشكالاً ومستويات جديدة للاحتجاج لم تشهد بيروت مثلها منذ سنوات نصرةً للقضية الفلسطينية، وذلك بالتزامن مع جدال أدى لانقسام الشارع حول احتمالات دخول حزب الله في المعركة.
القصف مستمر على غزة، والاحتجاجات أيضاً
في اليوم الخامس من العدوان على غزة، انطلقت أولى الدعوات من الناشطين للتوجه نحو السفارة المصرية، وتلاه في اليوم التالي تجمعٌ أمام مدخل مخيم مار الياس للتظاهر.
الأعداد كانت تزداد أمام السفارة المصرية، بينما أحاول أنا وأصدقائي إجراء اتصالات في محاولات متكررة للاطمئنان على أصدقائنا وعائلاتهم في غزة. محاولات فاشلة للاتصال مع القطاع المحاصر، بينما أصوات الهتاف تعلو من حولنا، تطالب بفتح معبر رفح وفك الحصار عن القطاع الذي قطعت إسرائيل عنه الماء والكهرباء والمساعدات، لتبدأ بعدها جولات من القصف الوحشي.
ارتبطت وتيرة التظاهر بشكل أساسي بتصاعُد الأحداث في غزة، وبمدى تفاعل المجتمع الدولي والعربي معها، لتنفجر على شكل غضب عارم في شوارع بيروت ومخيماتها بعد ساعات من مجزرة المشفى المعمداني في قلب مدينة غزة، والتي راح ضحيتها 500 شهيد. لم تكن المجزرة نقطة تَحوُّل في مسار العدوان على غزة فقط، بل أيضاً في المزاج الشعبي المتضامن وقدرته على التفاعل مع الأحداث. لم تهدأ الهتافات المنددة بالاحتلال والداعمة لفلسطين وغزة حتى ساعات متأخرة من الليل في ساحات وشوارع وسط بيروت، وفي شارع رياض الصلح وبشارة الخوري حتى كورنيش المزرعة ومحلة البربير وبرج أبي حيدر، وكذلك طريق الجديدة التي دعت لتجمع فوري أمام الملعب البلدي.
انتهت تلك التحركات بمواجهات مع قوى الأمن اللبناني أمام السفارتين الأميركية والفرنسية، الدولتان الداعمتان لإسرائيل في حربها على قطاع غزة. تقول مريم، المشاركة في المظاهرات والناشطة في المجتمع المدني اللبناني، للجمهورية نت: «هاد مش بس تضامنّا، هذا غضبنا كمان. بالتأكيد لازم نتضامن ولكن من واجبنا كمان نراكم هاد الغضب، مش بس على إسرائيل بل على مين بيدعمها وبيحميها وبيغطي جرائمها. وغضبي الشخصي الأكبر، على كل مين قسَّمنا وتركنا بهشاشتنا ما فينا نقدم لفلسطين أكثر من التنديد بعد استشهاد أصدقاءنا بغزة».
أينما ذهبتَ اليوم في بيروت، الحمرا، الجميزة، مار مخايل، كورنيش المزرعة، لا يكاد يخلو المشهد من الكوفيات الملفوفة على عجل حول الأكتاف. متظاهرون عائدون إلى بيوتهم، أو ذاهبون نحو تحرُّك جديد. إنه غضبٌ جعل من المخيمات الفلسطينية والساحات العامة والشوارع الرئيسية للعاصمة نقاطاً للتجمُّع والتظاهر، بعضها بناءً على دعوات متعددة من ناشطين وجمعيات وأحزاب وحركات شعبية، متفقة بشكل أساسي على التنديد بالجريمة والتضامن الكامل مع أهالي غزة، وأخرى شعبية باتت معتادة نسبياً لعشرات الشبان على دراجات نارية يحملون الأعلام الفلسطينية.
كرَّسَ لبنان الرسمي الأيام التي تلت المجزرة للتضامن مع غزة والتنديد بالجريمة، مع إقفال لجميع الجامعات والمدارس ودعوات من البلديات لوقفات احتجاجية، كما أصدرت نقابات ومؤسسات أهلية ومدنية دعوات للمشاركة في الإضراب العالمي من أجل فلسطين، ودعا وزير الصحة فراس أبيض إلى وقفة احتجاجية أمام وزارة الصحة، شارك فيها الأطباء والممرضون، وكذلك رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي الذي قال: «أصبحنا اليوم في شريعة الغاب فالقوي يأكل الضعيف والمجتمع الدولي يقف مع الجلاد ورسالتنا نقولها من باب الإنسانية». بينما تجمّعت النقابات الفنية أمام مقر الإسكوا (لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا)، بالإضافة إلى نقابات التعليم والعمل والمهن الحرة.
كذلك خرجت مظاهرات حاشدة من أغلب مساجد بيروت للمشاركة في «جمعة الغضب» التي أعلن عنها خالد مشعل، الرئيس السابق للمكتب السياسي لحركة حماس، والتي تقاطعت من دعوة «حركة الأمة» التي انطلقت مظاهرتها من مسجد أحمد كفتارو في منطقة المصيطبة. في حين شارك المئات في دعوة منظمة التحرير الفلسطينية للتجمع أمام الملعب البلدي، ونظَّمَ طلاب الجامعات والناشطون العديد من المظاهرات، وأغلقت بعض المقاهي والمطاعم والمحال أبوابها للمشاركة في الإضراب. كما أدانَ مجلس كنائس الشرق الأوسط في بيانه الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، معتبراً أنه «لم يَعُد خافياً على القاصي والداني أن ما يتعرض له الشعب الفلسطيني في غزة ليس رد فعل عسكري على فعل عسكري، وإنما إبادة جماعية وتطهير عرقي».
حتى الآن لم تتوقف دعوات الناشطين للتظاهر أمام السفارة المصرية للمطالبة بفتح معبر رفح، وكذلك أمام السفارتين الفرنسية والألمانية رداً على دعمهما المستمر للاحتلال الإسرائيلي، ومحاولات السلطات في البلدين قمع التحركات الداعمة لفلسطين على أراضيهما.
أدّى القصف الوحشي المتصاعد على قطاع غزة إلى استمرار التظاهر، وإلى تجاوز الخلافات الإيديولوجية والسياسية والدينية بين التوجهات المتعددة للمتظاهرين والناشطين والمنظمات والحركات والتيارات الفلسطينية واللبنانية، وذلك نظراً للوضع الإنساني الصعب في قطاع غزة. جاء الهتافات منددة بـ«التطبيع العربي» مع إسرائيل و«التنسيق الأمني الذي تقوم به السلطة الفلسطينية»، معلنة كامل التضامن مع غزة وأهلها وداعية لإنهاء الاحتلال ومؤكدة على حق المقاومة الشعبية ضده. وعلى عكس المعتاد في العاصمة بيروت، سهَّلت القوى الأمنية حركة المتظاهرين، لكنها نصبت حواجز أمنية تمنع دخول مسيرات الدراجات النارية إلى مناطق في العاصمة يُحتمل أن تشهد توترات أمنية نتيجتها.
وقالت منّصة أخبار الساحة، التي تعمل على تغطية وأرشفة التحركات والاحتجاجات، للجمهورية نت: «الاحتجاجات كثيفة جداً وتجاوزت الناشطين لتشمل جميع أطياف المجتمع، واعتمدت أشكالاً جديدة مثل التوجه للسفارة الفرنسية والألمانية، والاحتجاج أمام السفارة المصرية، وأمام بعثة الاتحاد الأوروبي والإسكوا، وتنوعت الأساليب مثل الإضراب الذي شارك به التجار والجمعيات والنقابات».
منذ بداية التصعيد، كانت المخيمات الفلسطينية ومداخلها الرئيسية في حالة تظاهر مستمر، في فعل سياسي شعبي يُعبِّر عن تكاتف عفوي ولحظي، دعا من خلاله المتظاهرون إلى فك الحصار عن غزة، موجهين نداءات تطالب بالتحرك الدولي وتندد بالتطبيع العربي وتهتف ضد الاحتلال. وقد كانت المظاهرات في المخيمات مساحة للاجئين السوريين للتعبير عن غضبهم، إذ أصبحت ملجأهم بعد حملات الترحيل والتضييق والعنصرية الأخيرة.
«مو نحن مثلهم شفنا موت»؛ بهذه الكلمات بدأت أم محمد كلماتها عندما سألتُها عن سبب مشاركتها في إحدى المظاهرات المتضامنة مع غزة: «مو هوي ما في أصعب من أنو تموت وما حدا يسأل عنك. يلّي عم يصير إجرام، صعب الموت تحت القصف، والله صعب، كنت عم شوف الفيديوهات على موبايلي وأتذكر أهلي يلي ماتوا بسوريا، وأبكي. أجيت عالمظاهرة لأنو بعرف أديه صعب يلي عم يصير بغزة».
الحرب التي لا ينتظرها أحد
منذ الأيام الأولى للعدوان على غزة لم يغب السؤال السياسي والعسكري بشأن احتمالية فتح الجبهة الشمالية لإسرائيل من قبل حزب الله. ما زالت وتيرة القصف المتبادل منضبطة، لكنها لا تُلغي احتمالات الحرب المفتوحة خاصة في حال الاجتياح البري لغزة، وهو ما زاد من وتيرة التصريحات الرسمية والتحركات الداخلية والخارجية التي أعلن عنها رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي في بيان قال فيه: «الاتصالات الدبلوماسية التي نقوم بها دولياً وعربياً واللقاءات المحلية مستمرة، في سبيل وقف الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان وجنوبه تحديداً ومنع تمدد الحرب الدائرة في غزة إلى لبنان»، وذلك بالتزامن مع تهديدات مستمرة من الجيش الإسرائيلي حول مدى خطورة تورط لبنان في حرب مُدمِّرة.
ورغم التعاطف والتضامن الواسع والإدانة المستمرة للوحشية الإسرائيلية ضد أهالي قطاع غزة، لكن أسئلة تورط حزب الله في حرب مع إسرائيل قسمت الشارع بشكل جذري، وهو ما بدا واضحاً إعلامياً في التقارير التلفزيونية والصحفية. يبدو واضحاً أنها الحرب التي لا ينتظرها أحدٌ في لبنان، ورغم التأكيد الدائم من جمهور حزب الله على استعدادهم نفسياً واجتماعياً واقتصادياً، إلا أن الجميع يدركون أن نتائج المعركة ستكون كارثية، خاصة أنها سوف تأتي في حال اندلاعها ضمن ظروف اقتصادية وسياسية معقدة جداً، بينما الانهيار الاقتصادي أثَّرَ بشكل مباشر على واقع الخدمات والقطاعات الصحية والمديريات العامة للدفاع المدني. ولعلّ هذا ما دفع وزير الخارجية اللبنانية عبدالله بو حبيب إلى إبلاغ دول غربية برغبته في أن «تعلن إسرائيل وقفاً لإطلاق النار خلال 48 ساعة للنظر في إمكانية احتواء التصعيد مع المقاومة في جنوب لبنان».
بعض المظاهرات يدعو لها ناشطون مناهضون للنظام الطائفي في لبنان، ومظاهراتهم هذه تخلو من هتافات التأييد أو النقد لحزب الله على حد سواء، ولكن في الحلقات التي تتشكل قبل وبعد انتهاء المظاهرات، لا تختلف آراؤهم كثيراً بشأن الموقف من حزب الله. يقول أحد هؤلاء الناشطين، وقد فضّل عدم ذكر اسمه: «معارك حزب الله تخضع لمصالح وحسابات إيرانية بالدرجة الأولى، لذلك من الصعب أن أتوقع، بعد كل ما فعله الحزب في العشر سنوات الأخيرة في المنطقة، أنه سيخوض معركة من أجل الشعب الفلسطيني، فالتحرك الوحيد للحزب كما أراه سيكون في حال تعرضت مصالحه أو مصالح إيران للخطر المباشر».
تعيش الفئات المهمشة والهشة في المخيمات خوفاً متراكماً من الحرب، التي تقترب احتمالاتها بدون أي استعدادات رسمية من المنظمات أو الفصائل الفلسطينية، وهذا ما يُنذر بوضع كارثي على جميع الأصعدة قد تعيشه المخيمات الفلسطينية التي تضم اليوم لاجئين سوريين أيضاً، خاصة بعد موجة الترحيلات الأخيرة والحملة العنصرية ضدهم.
رغم المظاهرات والوقفات التضامنية ورسائل الاحتجاج المستمرة، إلا أن أهالي المخيمات يعيشون غضبهم وحماستهم الشخصية وسط أسئلة كبيرة حول أوضاعهم الإنسانية ومدى جاهزيتهم الاقتصادية والخدماتية في حال اشتعال جبهة الجنوب وتعرض المخيمات الفلسطينية لقصف إسرائيلي بحجة ضرب الفصائل الفلسطينية، خاصة بعد التقليصات الأخيرة للدعم من الأونروا والأمم المتحدة، وشح دعم المؤسسات غير الحكومية.
عن أوضاع المخيمات واستعداداتها في حال المواجهة مع إسرائيل، تحدّثت الجمهورية.نت إلى الوليد يحيى، المحرر المختص بشؤون المخيمات الفلسطينية في موقع بوابة اللاجئين الفلسطينيين: «تعاني المخيمات اليوم من أزمة بنى تحتية حقيقية تعيق حياة اللاجئين. ينهار القطاع الصحي مع التقليصات المستمرة للدعم، ولا نملك اليوم إلّا عيادات صغيرة. الدفاع المدني مُهدَّد بالإغلاق حتى الآن، ونحن غير جاهزين لمواجهة كارثة حرب حالياً. حتى لو لم تُقصَف المخيمات، سيكون لدينا أزمة غذائية كارثية على الأهالي فيها لأنها تعيش على المعونات، وإذا اندلعت الحرب وانسحبت المؤسسات غير الحكومية سوف نواجه فراغاً هائلاً. سوف تكون النتائج كارثية؟».
«جاهزين لشو!! أنا من دون حرب مش ضامن أضل مع ولادي لآخر الشهر»؛ لم يكن ردّ أبو خالد هذا على سؤالنا بشأن احتمالات الحرب منفرداً أو معزولاً، بل هو يعبر أيضاً عن مئات العائلات السورية التي تعيش في المخيمات الفلسطينية. أبو خالد أحد اللاجئين السوريين الذين لجؤوا إلى مخيم شاتيلا للاجئين الفلسطينيين تجنباً للحملة التي تشنها السلطة اللبنانية.
مازال الغضب مستمراً في شوارع بيروت حتى وقت كتابة هذا التقرير. عشرات المظاهرات على دراجات نارية تمرّ من أمامنا أنا وأبو خالد الجالسَين على طرف مقهى شعبي صغير. يُلقي أبو خالد التحية عليهم من بعيد، بينما أحاول أن أسأله: «ماذا سوف يحدث لو اندلعت الحرب وتم قصف المخيمات التي تأويكم؟»، لم يتردد أبو خالد وهو يقول: «رح نموت، إذا مو من القصف من الجوع، متل ما عم يصير بغزة هلأ ومتل ما صار معنا بسوريا، وبالنهاية رح يقول إعلامنا أنو انتصرنا، ورح تروح علينا وعلى ولادنا».
موقع الجمهورية
—————————
“التكلفة القيمية” لجرائم الأسد في سوريا.. وانعكاسها في غزة/ إياد الجعفري
2023.10.28
فيما يتم، شعبياً، وعلى نطاق واسع، تحميل دول عربية مُطبّعة مع الكيان الإسرائيلي، إلى جانب الدعم الغربي اللامحدود، خاصة، الأميركي، مسؤولية الجرائم التي يرتكبها الكيان ضد أهالي غزة، في هذه الساعات، يتحمّل، ما يُعرف بـ “محور المقاومة”، بالتوازي، مسؤولية مباشرة، في خلق ظروف نفسية وسياسية مؤهِّلة لارتكاب هذه الجرائم.
والمسؤولون في هذا “المحور”، هم تحديداً، كلٌ من نظام الأسد وحزب الله، ورأس المحور وقيادته، في طهران. إذ وبوحيّ من تجربة هذا “المحور” في تهجير جانب كبير من مناوئي النظام والثائرين عليه، وتغيير توزيعهم الديمغرافي، تحت بصر العالم أجمع، وفي عصرٍ تلاحق فيه الصورة الحدث بصورة مباشرة، بات قادة الكيان الإسرائيلي يراهنون على قدرتهم، في تكرار هذه التجربة، بغزة، في إحياءٍ لـ “الترانسفير” التاريخي الذي نفّذوه، قبيل نشأة الكيان، عام 1948، في زمنٍ كان الخبر فيه يصل متأخراً، خاضعاً لقيود الصور المحدودة، المضبوطة في معظمها، والنص المكتوب أو الإذاعي المُمسَك به، بقوة، من جانب صانعي القرار ومراكز القوى في العواصم الغربية.
في كانون الأول 2022، نشر مركز كارنيغي تحليلاً لأستاذة في جامعة كامبريدج، تُدعى بوركو أوزليك، تحت عنوان “التكلفة القيمية للتطبيع مع نظام الأسد”. حذّرت فيه من جهود إعادة تأهيل نظام الأسد، والضرر الذي تلحقه بمبدأ المساءلة، وانعكاس ذلك على مساعي المجتمع الدولي لمساءلة روسيا بخصوص انتهاكات مماثلة في أوكرانيا. أي أن عدم مساءلة الأسد، شجّعت روسيا على تكرار تجربته في أوكرانيا. أما من جانبنا، فنذهب إلى أبعد من ذلك، ونعتقد أن تجاوز جرائم النظام السوري التي عُرضت مراراً وتكراراً، على الهواء مباشرة، خلال العقد المنصرم، وصولاً إلى التطبيع معه، والإقرار ببقائه واستمراره، يخلق وحياً لأنظمة حكم أخرى، بالقدرة على الإفلات من العقاب، وتنفيذ سيناريوهات تطهير عرقي وتهجير نوعي للبشر. وذاك ما يحدث الآن في غزة. وإن كانت مسؤولية من تجاوزَ هذه الجرائم، كبيرة، في التسبب بتكرارها، فإن مسؤولية من ارتكب هذه الجرائم، أساساً، أكبر بمرات.
في بداية الحرب الإسرائيلية الشرسة على غزة، قالها الدبلوماسي والنائب السابق لوزير الخارجية الإسرائيلي، داني أيالون، صراحةً، وعلى الهواء مباشرةً، عبر الجزيرة الإنكليزية، إنه “أمر تم التفكير فيه ملياً”، وطرح سيناريو تهجير سكان غزة إلى سيناء، على أن تبني إسرائيل بالتعاون مع “المجتمع الدولي”، مدن لجوءٍ “مؤقتة”، مجهزة بالماء والطعام والبنى التحتية. وشدّد أنها “ليست المرة الأولى التي تم القيام فيها بمثل هذا الأمر”. مستشهداً بفرار السوريين من مجازر الأسد قبل سنوات، واستقبال تركيا لهم. وقال إن تركيا استقبلت “2 مليون منهم”. وهو عدد يماثل تقريباً عدد الفلسطينيين في غزة.
وهكذا يفكر قادة الكيان الإسرائيلي، من جديد، بتنفيذ سيناريو “ترانسفير” جديد للفلسطينيين. وهو الطرح الذي تجدد في العام 2000، في المؤتمر الذي عقده “المركز متعدد التخصصات” في هرتسليا. إذ طُرحت وثيقة أعدتها قيادات عسكرية وأمنية وسياسية إسرائيلية رفيعة المستوى، تتحدث عن “ترانسفير” جديد للفلسطينيين، كحلٍ في مواجهة التكاثر السكاني العربي.
ورغم أن “الترانسفير” شكّل أساساً للمشروع الصهيوني منذ مطلع القرن العشرين، لكن تنفيذه الفج والمباشر، لم يحدث إلا قبيل نكبة العام 1948. حينما نفّذت العصابات الصهيونية 25 مذبحة بحق الفلسطينيين، رافقتها دعاية “سوداء” روّجت لمذابح أخرى قادمة، مما دفع نصف مليون فلسطيني إلى الهرب.
في السنوات التالية لتأسيس الكيان، لم تنفّذ إسرائيل “ترانسفيراً” جديداً مباشراً. لكنها نفّذت أشكالاً “باردة” و”تدريجية” و”هادئة” منه. تقوم على التضييق على سبل حياة الفلسطينيين، وهدم البيوت ومصادرة المنازل، وتوسيع المستوطنات، بصورة دفعت مئات آلاف الفلسطينيين على مدى العقود التي تلت العام 1948، إلى النزوح من فلسطين، بالفعل.
لكن ذلك لم يكن كافياً في الفكر الصهيوني، فالخشية من النمو الديمغرافي السريع للفلسطينيين، تحديداً منذ العام 2000، أعاد إحياء أفكار “الترانسفير” المباشر، لترتفع أصوات عديدة داخل الكيان، للحديث عن سيناريوهاته المحتملة. وبقيت تلك الآراء حبيسة المؤتمرات والجدل الداخلي، في ضوء عدم إمكانية تكرار ما حدث من فظاعات مباشرة قبيل العام 1948، من جراء التطور الإعلامي ودور الصورة في نقل الحقيقة سريعاً، والخشية من انقلاب الرأي العام الغربي ضد الكيان.
إلا أن تجربة الأسد، الذي نفّذ “ترانسفيراً” بحق مناوئيه من السوريين، على الهواء مباشرةً، بصورة أدت إلى تهجير 5.5 ملايين سوري إلى خارج البلاد، أنعشت هذه الفكرة في أذهان القادة الإسرائيليين. إذ أغراهم توصيف “الانسجام” الذي رافقها.
ففي تشرين الثاني 2016، قال الأسد لصحيفة “بوليتكا” الصربية، إن المجتمع بات أكثر انسجاماً مما كان عليه قبل الحرب. يومها، أثار حديثه هذا موجة من السخرية، بوصفه انفصالاً عن الواقع. وقد يكون هذا التفسير لمقصد الأسد دقيقاً. لكن قد يكون هناك تفسير آخر، ربما. فـ “الترانسفير” كمصطلح، يُعرَّف بأنه يعني نقل سكان من منطقة سكنهم الأصلية إلى منطقة أخرى، بهدف إقامة منطقة تتمتع بانسجام سكاني من شعب أو عرق واحد. هل كان الأسد يقصد ذلك حقاً، حينما تحدث عن “الانسجام” الذي طرأ على المجتمع السوري، بعد حربه ضد هذا المجتمع؟ لسنا واثقين من الإجابة. لكن ما نحن واثقون منه، أن إسرائيل اليوم تعمل بوحي من تجربة الأسد، الذي نفّذ واحدة من أعتى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، بدعم من حزب الله ومن إيران، وعلى مرأى من العالم أجمع، وأفلت، حتى الساعة، من العقاب. فلمَ لا تكرر إسرائيل التجربة؟ هكذا يفكرون في تل أبيب الآن.
تلفزيون سوريا
————————–
حرب غزة.. في العودة إلى صراع الحضارات/ منير الربيع
2023.10.27
غزة 2023، بعد سوريا منذ عام 2011، بعد الموصل 2017، بعد بغداد 2003، وما قبلهم وما سيأتي بعدهم. كلها محطات تشير إلى النزعة الاستعمارية الغربية في التعاطي مع الشرق ومع العرب بالتحديد. إنه انكسار التاريخ. وما يرتبط بتناقضات في طروحات الغرب، حول ما يحق له وهو محرّم على غيره. تُسهم المواقف الغربية من الحرب على غزّة في زيادة منسوب الشرخ الهائل بين المجتمع العربي والغرب. ما يجدد صراعاً حول الهويات، والقابلة لأن تصبح قاتلة. أو أنها حقبة تعيد إنتاج مفهوم صراع الحضارات. وقد أسهم الغرب نفسه في إعادة إحياء هذه الصراعات وتكريسها، بنتيجة مواقفه المنحازة لصالح إسرائيل في مواجهة العرب.
في السنوات العشرين الأخيرة، ومنذ الاجتياح الأميركي للعراق، تكرس الشرخ إلى حدوده البعيدة، ولم ينجح الغرب في إعادة إنتاج سياسة تتلاقى مع مصالح العرب وتطلعاتهم. في حين تعامى هذا الغرب عن عمليات قتل وتهجير ممنهجة شهدتها الدول العربية بسواعد عربية أيضاً، وكأنهم أرادوا في ذلك تبرير ما يمكن أن تفعله إسرائيل لاحقاً في أي عملية تهجير أو تطهير عرقي أو قومي أو طائفي. في الموروث العربي، ثقافة راسخة تعود إلى ما تعرض له العرب من غدر إبان الحرب العالمية الأولى، والذي تجلى في مسألتين مهمتين، الأولى خديعة دعم قيام دولة عربية متحدة، واللجوء إلى تقسيم المنطقة. والثانية، وعد بلفور وإنشاء دولة إسرائيل. تجددت الخيبة العربية من المشروع الغربي في العراق، وفي سوريا بالتحديد. إذ ترك الشعب السوري للقاء مصيره المحتوم من عمليات قتل وتهجير، على مرأى العالم، وهو ما يسنح للكثيرين الخروج وتبرير ما تقوم به إسرائيل من عمليات قضم للأراضي الفلسطينية وتوسيع الاستيطان وصولاً إلى التجرؤ على فكرة تهجير أهالي قطاع غزة.
وما جرى في سوريا ينطبق على العراق، والموصل تحديداً التي هجرت من سكانها في أشنع عمليات القتل الطائفي والمذهبي على مرأى العالم، بذريعة محاربة داعش. في حين كانت أبرز تجليات تقاطعات المصالح بين الغرب وإيران هي قتال إيران وجماعتها على الأرض في مقابل قتال الأميركيين من الجو. تكرس الحرب على غزة الانقسام مجدداً. في حين يحاول الغرب بنزعة استشراقية أن يقدم وجهة نظر ترتكز على أنه خلال 150 سنة مرّت، لم يقدم العالم العربي والإسلامي إلى العالم أي شيء يتعلق بالتطور أو الحداثة، في حين كان جزء كبير من العرب يواجه الفكرة الغربية، ومواجهة الحداثة، بناء على قناعة قائمة على بقاء مشروع استعماري قديم جديد ومستمر وهو بقاء إسرائيل في المنطقة. وهو المبرر الشرعي والواضح لتجديد العدائية للغرب.
بالنسبة إلى العالم العربي فإن الغرب يُترجم بأنه مشروع إسرائيل في المنطقة، وهي التجربة القوية والواضحة والجارحة إلى حدّ النزيف المستمر نحو القتل. ليس من المبالغة القول وفي معرض التعليق على كل ما يُطلق من مواقف غربية في أن إسرائيل هي آخر إمارة صليبية في المنطقة. ما يحّتم جموح الخيال العربي للبحث عن صلاح الدين الجديد.
وبنتيجة هذه الأزمة، خُلقت إشكاليات كثيرة في العالمين العربي والإسلامي على طريق مواجهة الغرب، وهو اللجوء إلى التطرف أو التنظيمات المتطرفة في سياق ترجمة الصراع عسكرياً ودموياً، من دون تقديم برنامج واضح يتعلق بإصلاح الوضعية السياسية والاجتماعية في المنطقة، ولا تقتصر فقط على ضرورة تحرير فلسطين، إنما العنوان الأكبر هو العدائية للغرب. لكنها عدائية مستمدة من الفوقية الغربية والعنصرية المعطوفتين على نظرية استشراقية، تتجلى في كلام الكثير من رؤساء الدول الغربية، وصولاً إلى حد وصف حركة حماس بأنها إرهابية، إذ وصل الأمر بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الدعوة لتحويل التحالف الدولي لمحاربة داعش إلى محاربة حركة حماس، في تجاوز هائل لمنطق التاريخ، وللاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تحصيل حقوقه، وفك الحصار المفروض عليه والإعلاء من شأن قضيته، إنه صراع جديدة من شأنه أن يتأبد ويفتح السنوات المقبلة على المزيد من الصراعات وتكريس العدائية لذاك الغرب.
تلفزيون سوريا
——————————–
حماس وخيارات ما بعد “طوفان الأقصى”/ محمد حاج بكري
2023.10.26
في مطلع عام 1976 بدا واضحاً اهتمام حافظ الأسد وقتها بالسيطرة على لبنان، وتقدم بمقترح يهدف للتدخل في لبنان بهدف تطويع المقاومة الفلسطينية وحلفائها من الحركة الوطنية اللبنانية، المقترح الذي لاقى قبولا لدى التشكيلات المارونية المدعومة من الأسد، وبدأ زحف القوات السورية إلى لبنان، وكانت أولى عملياته الكبرى ضرب المقاومة الفلسطينية في تل الزعتر، ذلك الحصن المنيع للمقاومة الفلسطينية، ثم أتت عملية اغتيال زعيم الحركة الوطنية اللبنانية كمال جنبلاط في آذار 1977 ضربة قاصمة وموجعة للمقاومة الفلسطينية، ونقطة فاصلة في تغيير مسار الحركة الوطنية اللبنانية التي بدأ فرط عقدها منذ ذلك اليوم الأسود.
سعى حافظ الأسد منذ دخوله إلى لبنان إلى إضعاف أي مقاومة تواجه إسرائيل، وجاء الاجتياح الإسرائيلي للبنان في حزيران 1982، أي بعد ست سنوات من دخول الجيش السوري الجغرافيا اللبنانية، والذي كانت معاركه خلالها أشبه بعمليات تنظيف سابقة لذلك الاجتياح، وبمشاركة بعض الفصائل المحلية الموالية لإسرائيل كحزب الكتائب وجيش لبنان الجنوبي اللذين ارتكبا مجزرتي صبرا وشاتيلا خلال الاجتياح، حتى استطاعت إسرائيل تقليص خسائرها في تلك الحرب كثيرا، ووصلت إلى مبتغاها بإخراج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، بعد رفض ياسر عرفات الانسحاب باتجاه دمشق، خشية تسليم ملف المقاومة الفلسطينية لحافظ الأسد، والذي كان بالباطن مطلباً أميركياً أوروبياً إسرائيلياً.
بعد حرب لبنان كان لا بد من ضبط المقاومة الفلسطينية وتطويعها، وقد فشل حافظ الأسد بالسيطرة عليها نتيجة موقف عرفات الصلب من الأسد، هنا بدأت التحولات في تطييف المقاومة اللبنانية وتشييعها، بعد أن كانت مقاومة يسارية، الخطوة جاءت نتيجة الظرف الحاصل قبل سنوات من الحرب، وهو بروز الخميني في إيران القادم بدعم المخابرات الإنكليزية وهي ذات الجهة التي يشير إليها باحثون بأنها كانت وراء بروز نجم حافظ الأسد في سوريا وصعوده إلى السلطة.
وصول الخميني إلى هرم السلطة في إيران كان نقطة فاصلة في تاريخ المنطقة، حيث بدأ من تلك اللحظة تحالف غربي أميركي مع إيران تحت اسم الإسلام السياسي الشيعي، ضد العرب السنة، فكان تطييف المقاومة في لبنان جزءا من خطة مدروسة لتوسيع وجود إيران بالمنطقة، والتي أطلقت ثورتها شعارات براقة بالظاهر كمحاربة أميركا الشيطان الأكبر، ودحر إسرائيل ودعم المقاومة ضدها، ويروي الراحل ميشيل كيلو عن المفكر السوري إلياس مرقص، قوله حول وصول الخميني إلى طهران بعد نجاح الثورة (هذا الرجل سيجعل المنطقة تعوم على بحر من الدماء).
وهنا بدأ التركيز على حزب الله كفصيل مقاوم متجانس طائفياً، وتحويل المقاومة اللبنانية من خلاله إلى جناح إيراني شيعي وسط لبنان وعلى حدود إسرائيل، منضبط بحسب التوجيهات الإيرانية، والظروف التي تتطلب التصعيد والتهدئة بما يخدم المصالح الإسرائيلية دائما.
ومع التحولات الحاصلة في الملف الفلسطيني خلال التسعينيات، كان لا بد لإيران أن يكون لها دور للسيطرة على المقاومة داخل الجغرافيا الفلسطينية، والذي من الصعب تطييفه بسبب تركيبة الشعب الفلسطيني، فكانت حركتا حماس والجهاد الإسلامي هما الأنسب للدعم الإيراني لإضعاف قوة فتح في الشارع الفلسطيني، أو إيجاد كفة ميزان موازية لها على الأقل، حتى تغيب القيادة الفلسطينية الموحدة، وقد برزت تلك الظاهرة فعلا بعد وفاة عرفات.
ووجدت حماس نفسها أمام أبواب العالم المغلقة باستثناء البوابة الإيرانية، لتتوطد العلاقة مع حكم الولي الفقيه وتصل إلى مستوى واسع، خاصة أن التصريحات الإسرائيلية تجاه إيران لا تدع مجالا للشك في عدائية واضحة بين الطرفين.
إذاً إيران باسم دعم المقاومة والقضاء على إسرائيل توسعت في الحواضر العربية، وسيطرت بقوة في العراق بعد الإطاحة بنظام صدام حسين عام 2003، كما توسع نفوذها في بيروت نتيجة سياسة حزب الله وتعاظم قوته المسلحة التي هدد بها الحياة السياسية هناك، خاصة بعد اغتيال الشهيد رفيق الحريري، وخروج الجيش السوري عام 2005، ليغدو لبنان تحت الوصاية الإيرانية والسورية غير المباشرة.
جاء الربيع العربي عام 2010 وتوسعت رقعته عام 2011 في سوريا واليمن، كفرصة تاريخية لإيران للدخول إلى البلدين عبر نظام الأسد مباشرة في سوريا وبدعم للحوثيين في اليمن، لتغدو الحواضر العربية الأربع تحت السيطرة الفارسية (بغداد، صنعاء، دمشق، بيروت).
كل تلك التحولات في التمدد الإيراني لم تلق أي تحرك غربي أميركي لكبح جماحها، على العكس، بدت الميلشيات الشيعية أو المدعومة إيرانيا في تلك الدول تنتشر كالفطر، ولم تسجل لها بشكل واضح أي انتهاكات تدينها على الرغم من كثرة جرائمها، وبالمقابل كانت الميليشيات المحسوبة على التيار السني تسجل انتهاكاتها بنفسها بفيديوهات مصورة تدينها، وهو ما يعطي صورة فجة عن إرهاب التنظيمات السنية حسب تصنيفات دول الغرب وأميركا.
ومن هنا أصبحت الصورة المشوهة للإسلام السياسي تنصبّ على التيارات السنية حصرا، على الرغم من أنها ليست ذات منهج أو مشرب واحد، فالإخوان المسلون يختلفون في منهجهم عن القاعدة والتي تختلف عن تنظيم الدولة بفكرة الجهاد العام، كما أنها تختلف عن التنظيمات الجديدة صاحبة فكرة الجهاد المحلي كهيئة تحرير الشام، لكن رغم كل تلك الخلافات بين التنظيمات السنية المختلفة، إلا أنها ومن وجهة نظر الغرب تصب في خانة واحدة ومنشأ واحد وتصنيف واحد (الإرهاب السني المتطرف).
بينما في المقابل لا وجود لتوصيف دقيق حول الإسلام السياسي الشيعي، والذي أصبح أكثر توسعا في المنطقة، وأكثر مركزية، حيث إن ميليشياته على طول تلك الجغرافيا تقاد من طهران وبأمر الولي الفقيه، ولا تختلف أيديولوجيات ميليشياته المتعددة، بل تبدو جيشاً واحداً ينتشر من إيران إلى بيروت على البحر المتوسط.
الحالة الفلسطينية وواقع حماس
بعد اتفاق أوسلو، أصبحت حماس رقماً صعباً في المعادلة الفلسطينية، وتعاظمت قوتها بعد سيطرتها على غزة، وانفرادها في حكمها، واستمرارها بالمقاومة ضد الاحتلال على الرغم من عداء المحيط والجوار العربي لها، خاصة مصر، ونتيجة خفوت نجم فتح وعملها العسكري تصدرت حماس واجهة النضال الفلسطيني، لتغدو الرمز الفلسطيني الأبرز كما كانت منظمة التحرير في ثمانينيات القرن الماضي.
اليوم وبعد عملية طوفان الأقصى، والتي كانت أبرز العمايات في تاريخ الكفاح الفلسطيني وأوسعها، باتت حماس بعد ما يقارب العشرين يوماً على العملية باتت وحدها في المشهد المقاوم، وانكفأ عن مناصرتها محور المقاومة من حزب الله إلى إيران ونظام بشار الأسد، لتصبح أمام خيارات الحرب الواسعة والتي ربما ستكون خسائر إسرائيل فيها كبيرة، لكن نهايتها ستكون سلبية النتائج على حماس، والتي ربما ستلقى مصير منظمة التحرير عام 82 بتهجير مقاتليها من غزة إلى خارج التراب الفلسطيني.
المطالبات الإسرائيلية هي بتهجير أهالي غزة مع حماس باتجاه سيناء، وهو ما رفضه الرئيس المصري، والذي اقترح التهجير إلى صحراء النقب.
وعملية الحديث عن التهجير ما زالت بين أخذ ورد، لكن من الواضح أن دول الجوار لن تقبل بتهجير الفلسطينيين إليها، ويبدو أن عملية ضبط المقاومة التي تحدثنا عنها في أول المادة تمضي بمقاتلي حماس إلى سيناريو مختلف، إي ستمضي بهم إلى مكان تستطيع إيران فيه التحكم بهم وضبطهم باعتبار أنها الدولة شبه الوحيدة التي تقف إلى جوارهم من حيث الظاهر، ولن تستطيع نقلهم إلى تراب فارس، ومن الخيارات المحتملة هو الخيار في اليمن، الدولة التي تحكمها ميليشيا ما دون الدولة، وتصبح بذلك قوة على أبواب الخليج مدعومة إيرانياً تبتز بها المنطقة، ولن يكون السيناريو مرفوضا أميركيا، خاصة بعد توتر العلاقات بين السعودية والولايات المتحدة، وربما سيكون باباً أوسع لابتزاز الخليج لدفع أموال لها مقابل الحماية على غرار ما حصل في عهد الرئيس السابق ترامب.
إذاً تهجير المقاتلين إلى اليمن مصلحة أميركية إسرائيلية إيرانية ثلاثية الأبعاد، تبقى معلقة على قرار حماس في الموافقة عليه عند الحديث عنه، أو أنها ستتخذ موقفاً مشابها لموقف ياسر عرفات بعد اجتياح بيروت من حافظ الأسد وتسليمه ملف المقاومة، الأيام القادمة حبلى بالكثير من التفاصيل، والتي ربما ترى حماس من خلالها أن حلفاء الحرب ضد إسرائيل كانوا حلفاء تمرير أجندة لا أكثر.
تلفزيون سوريا
————————-
============================
تحديث 31 تشرين الأول 2023
—————————
مصر والأردن في الحرب الراهنة
الجمهورية.نت
منذ بداية الحرب الإسرائيلية المفتوحة على قطاع غزة، بدأ محللون وسياسيون وعسكريون إسرائيليون يتحدثون عن ضرورة توجُّه الفلسطينيين إلى سيناء المصرية، ريثما يتسنّى للجيش الإسرائيلي إنهاء حركة حماس ردّاً على عملية طوفان الأقصى. وليست هناك تصريحات رسمية من جهات إسرائيلية رفيعة المستوى تتحدث عن خطة إسرائيلية مُعلَنة لتهجير الفلسطينيين إلى مصر، باستثناء ما قاله متحدث عسكري إسرائيلي هو ريتشارد هيخت في اليوم الرابع للحرب عن أن «معبر رفح لا يزال مفتوحاً»، وأنه ينصح «أي شخص يمكنه الخروج بالقيام بذلك». سيتراجع هيخت عن تصريحه لاحقاً، ثم سيقول أفيخاي أدرعي، المتحدث الرسمي باسم الجيش الإسرائيلي، إنه «لا توجد أي دعوة إسرائيلية رسمية» بهذا الشأن. لكن مع ذلك، يبدو واضحاً أن المسألة مطروحة فعلاً بصيغ متنوعة، وأنها تُشكِّلُ العنوان الأبرز للتحرك السياسي المصري والأردني بخصوص الحرب المستمرة في غزة.
سياقات مشتركة بين البلدين
يشترك البلدان في أن لديهما اتفاقيات سلام قديمة مع إسرائيل، وحدوداً مشتركة مع الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية بالنسبة للأردن وفي غزة بالنسبة لمصر. وقد جاءت اتفاقيات السلام تلك في محاولة لإيجاد حلول لجملة من الملفات التاريخية الشائكة والمتشابكة بين البلدين وإسرائيل، من بينها مصير الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية وتمثيلهم ودور البلدين في مستقبل الفلسطينيين السياسي.
علينا أن نتذكّر أن الضفة الغربية كانت تحت الإدارة الأردنية وأن قطاع غزة كان تحت الإدارة المصرية قبل حرب العام 1967، وقد ترك هذا تبعات طويلة المدى بالنسبة للبلدين وعلاقتهما بإسرائيل والفلسطينيين على حد سواء، حتى أن فكّ الارتباط الأردني مع الضفة الغربية لم يحدث بشكل رسمي حتى العام 1988. ويمكن القول إن الدعم المصري والأردني لمنظمة التحرير الفلسطينية، ولاحقاً للسلطة الفلسطينية بعد قيامها، يرجع في جزء منه إلى أن التوجه العام للبلدين يقوم على أن فلسطين هي شأن الفلسطينيين ومن يمثلونهم سياسياً، وأن البلدين لا يريدان تحمّل تبعات مباشرة لصراع الفلسطينيين مع إسرائيل. في الحقيقة، تُهدّد طروحات تكرار تهجير الفلسطينيين بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء على هذا الصعيد، وهو ما أشار إليه السيسي بوضوح عندما قال في 18 تشرين الأول (أكتوبر) إن «نقل الفلسطينيين من قطاع غزة إلى سيناء هو نقلٌ لفكرة المقاومة والقتال من غزة إلى سيناء، لتكون الأخيرة قاعدة لانطلاق الهجمات ضد إسرائيل».
يشترك البلدان أيضاً في علاقتهما السيئة بحركة حماس وانحيازهما إلى السلطة الفلسطينية في نزاعها مع الحركة، ويشتركان في طبيعة اتفاقيات السلام التي تجمعهما بإسرائيل في غياب أي سند شعبي في البلدين، وهذا ما تشير إليه بوضوح تلك المظاهرات الضخمة التي تخرج في البلدين مع كل عدوان إسرائيلي على الفلسطينيين. كما يشتركان في أن العلاقات الدبلوماسية والتجارية والأمنية بين كل من البلدين وإسرائيل لم تتطور أبداً إلى علاقات تطبيع ذات أبعاد شعبية ولو بالحدّ الأدنى، ما يعني أن مذابح كبرى وضربات تهجير تاريخية جديدة في فلسطين لا يمكن أن تمرّ دون ارتدادات كبرى داخل البلدين وتقويض لشرعية النظامين فيهما، فضلاً عمّا ستُلحقه موجة من اللاجئين الفلسطينيين إليهما من ارتدادات اجتماعية وسياسية كبرى.
هذه الاعتبارات المشتركة تقف إلى حد بعيد وراء التنسيق المصري الأردني في التعاطي مع الحرب الراهنة، وهو ما نجده بوضوح في القمة المشتركة بين قادة كل من مصر والأردن والسلطة الفلسطينية مع الرئيس الأميركي جو بايدن، قبل أن يتم إلغاؤها نتيجة مجزرة المشفى المعمداني في مدينة غزة.
رفض «السلام الجديد»
تُلقي العوامل المُشار إليها أعلاه بظلّها على موقف البلدين في هذه الحرب، المُتمايز عن مواقف دول عربية أخرى تجمعها اتفاقيات سلام مع إسرائيل مثل الإمارات والبحرين. وبينما كانت كلٌّ من الإمارات والبحرين قد منحت إسرائيل اتفاق سلام دون مقابل يُذكَر، ودون اشتباك سابق يحتاج اتفاقاً لفك تعقيداته، تُواجه كل من الأردن ومصر تحديات معقدة لعلّها كانت السبب وراء الموقف المصري البارد والموقف الأردني الرافض لمشروع «صفقة القرن» الذي طرحه ترامب عام 2019، والذي يمكن اعتباره تمهيداً لاتفاقات السلام الإبراهيمي التي بدأت مع الإمارات عام 2020.
رغم أن صفقة القرن كانت تُقرّ بحق الفلسطينيين في دولة، إلا أنها كانت دولة منزوعة السلاح ومُقطّعة الأوصال، وعاصمتها ليست القدس، وتسلب الفلسطينيين معظم الضفة الغربية وتتحدث عن دور غامض لمصر بشأن مستقبل غزة وأهلها. وبينما كان الموقف الإماراتي أكثر المواقف العربية حماساً للخطة التي اعتبرها «جديّة»، جاء الموقف مصري بارداً عندما اكتفى بدعوة الإسرائيليين والفلسطينيين إلى «دراسة مُعمّقة» للخطة، فيما جاء الموقف الأردني رافضاً لها على لسان مسؤولين عديدين، وعلى رأسهم الملك عبدالله الثاني.
رفضت السلطة الفلسطينية بدورها على لسان رئيسها محمود عباس صفقة القرن، وأدّى موقفها مع الموقف الأردني، مدعومَين بموقف مصري صار لاحقاً أوضح في تأييده للرفض الفلسطيني، إلى عدم وضع الخطة موضع التنفيذ، بحيث لم يبقَ منها إلّا اتفاقات السلام والتطبيع التي تم توقيعها في العام 2020 مع الإمارات والبحرين والسودان والمغرب تباعاً. وقد كان وراء الرفض الأردني والبرود المصري اعتبارٌ أساسيٌ، هو أن عدم قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة سيُجبر البلدين على التعامل مراراً وتكراراً مع حروب ومذابح على حدودهما، وربما ضربات تهجير إلى أراضيهما.
في كل النقاشات التي رافقت صفقة القرن، كان شبح تصفية القضية الفلسطينية عبر تهجير الفلسطينيين إلى مصر والأردن حاضراً، وهو الشبح الذي لا يتردد سياسيون وعسكريون إسرائيليون في الحديث عنه علناً مع كل مواجهة تندلع بين إسرائيل والفلسطينيين في الأراضي المحتلة، وإن كان لا يُطرَح علناً بشكل رسمي على لسان مسؤولين إسرائيليين، فإنه محفورٌ في طريقة إنشاء إسرائيل التي ترافقَت مع جريمة تهجير كبرى بحق الفلسطينيين، وفي كل خطاب وسلوك من الإسرائيليين تجاه الفلسطينيين، وفي القلب من ذلك استمرار الاستيطان وإنكار حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم، فضلاً عن عشرات المشاريع والطروحات التي تضمّنت أحاديثَ عن «وطن بديل» للفلسطينيين في الأردن أو سيناء أو غيرهما.
سيناريو التهجير في الحرب الراهنة
في اليوم الرابع للحرب، العاشر من تشرين الأول (أكتوبر)، قال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إن «مصر لن تسمح بتصفية القضية الفلسطينية على حساب أطراف أخرى»، وفي اليوم التالي نقلت رويترز عن مصدرين أمنيين مصريين أن «مصر تتحرك لمنع نزوح جماعي من غزة إلى شبه جزيرة سيناء». وفي الأردن، الذي شهد مظاهرات ضخمة داعمة للفلسطينيين منذ بدء العدوان، بدا واضحاً أن هذه المسألة باتت تحتلّ حيزاً أساسياً في حراك السلطات الأردنية منذ الثاني عشر من تشرين الأول، عندما حذَّرَ وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي «من أي محاولة لتهجير الفلسطينيين من غزة إلى مصر وترحيل الأزمة إلى دول الجوار»، وهو التحذير الذي كرّره الملك الأردني نفسه في اليوم التالي.
مع تصاعد المذابح الإسرائيلية في غزة، باتت تصريحات القادة والمسؤولين والإعلام الرسمي وشبه الرسمي في البلدين أكثر حدّة، وتتالت الإدانات لإسرائيل وسلوكها، وبدا أن اتفاقيات السلام الموقعة بين البلدين وإسرائيل فاقدة لفعاليتها كقنوات للتأثير والتواصل الدبلوماسي، وحلّ محلّها حراك دبلوماسي نشط من جانب البلدين على المستويات الإقليمية والدولية، يسعى إلى الضغط على إسرائيل أولاً وأساساً بشأن طيّ الحديث نهائياً عن فكرة خروج الفلسطينيين من غزة إلى سيناء، وثانياً من أجل إدخال المساعدات إلى غزة ومحاولة التوصُّل إلى وقف إطلاق نار لا يزال الجانب الإسرائيلي يرفضه بشدة.
وفي موقفه الصلب ضد طروحات التهجير، يأخذ الأردن في حسبانه أن السماح بتهجير سكّان غزة إلى مصر سيكون له ما بعده في الضفة الغربية، وبالفعل قام مستوطنون بتوزيع منشورات في الضفة الغربية تهدد بـ«نكبة» جديدة، فيما قال وزير الخارجية الأردني قبل أيام إن بلاده ستعتبر أي محاولة لتهجير الفلسطينيين من الضفة الغربية «إعلان حرب».
فضلاً عن الرفض الحاسم، شملت الجهود الأردنية والمصرية لإنهاء طروحات التهجير حراكاً دبلوماسياً نشطاً لوقف إطلاق النار وإدخال المساعدات، وعدم فتح معبر رفح أمام الفلسطينيين الراغبين في مغادرة القطاع لتجنّب القصف، وضغطاً مصرياً لربط خروج الرعايا الأجانب من غزة بإدخال المساعدات إلى القطاع بهدف تخفيف الكارثة الإنسانية، التي قد تكون أحد أساليب إسرائيل لدفع الفلسطينيين إلى مصر.
عودة مختلفة لـ«محور الاعتدال»؟
اعتادت مصر خلال العقدين الماضيين أن تلعب دور الوسيط بين حماس والإسرائيليين في ترتيب الهُدن والاتفاقات الإنسانية، إلا أنها تبدو في هذه الجولة وكأنها نفسها تفتقد لوسيط مع إسرائيل، ومع الولايات المتحدة حتى. بدوره، يلعب الأردن دوراً عالي الصوت في المبادرات الدبلوماسية ضمن المجموعة العربية، ما تبدّى في قيادته مشروع قرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة لتحقيق «هدنة إنسانية» وإدخال مساعدات إلى قطاع غزّة الأسبوع الماضي. وفي أفق هذه الصورة نجد موقفاً سعودياً انتقل من الإقرار، العلني والمتبادل، بوجود مشروع اتفاق سلام وشيك مع إسرائيل، إلى مشاركة فاعلة ضمن «المجموعة العربية» في الهيئات الأممية بالتنسيق مع الأردن، وإصدار موقف رسمي ضد «التهجير القسري للشعب الفلسطيني من غزّة» يتلاقى مع الهواجس المصرية والأردنية. وقد أُعلن هذا الموقف في تصريحات عديدة لمسؤولين سعوديين، سيّما وزير الخارجية، وفي بيانٍ للوزارة طالبت السعودية عبره برفع الحصار عن غزّة وإجلاء المصابين، و«الدفع بعملية السلام وفقاً لقرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة، ومبادرة السلام العربية، الرامية إلى إيجاد حلٍ عادل وشامل، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967م، عاصمتها القدس الشرقية». وقد فصّلَ هذا البيان مطالب محددة وعالية السقف مقارنةً ببيانٍ سابق تلا هجوم حماس على كيبوتزات ومواقع عسكرية في غلاف غزّة في السابع من أكتوبر، حيث اكتفى بدعوة الطرفين لـ«ضبط النفس»، ومطالبة المجتمع الدولي بـ«تفعيل عملية سلمية ذات مصداقية تفضي إلى حل الدولتين بما يحقق الأمن والسلم في المنطقة». لم تُعلن السعودية تجميد مسارها التفاوضي المتقدم مع إسرائيل حول اتفاق سلام، لكنها اختارت حالياً تبنّي شعارات رفض التهجير والمطالبة بوقف إطلاق النار، ومشاركة وزير خارجيتها بفاعلية في الجهد العربي المشترك في الأمم المتحدة.
بمواقفها المعلنة، تبدو الكويت قريبة جداً من هواجس مصر والأردن. كذلك تبدو قطر، وإن دون أن تفقد «تمايزها» الذي تحرص عليه بشدّة.
ثمة تلاقٍ عربي رسمي، لا مثيل له منذ المبادرة العربية في قمة بيروت 2002، على «الخط الأحمر» الذي رسمته مصر والأردن أمام أي طرح تهجيري للفلسطينيين إلى أراضيهما. ولا يبدو أن هناك أي خطاب سياسي يرفع السقف بوضوح ما بعد هذا الخط الأحمر، ولا حتى عند المكونات العربية في محور الممانعة؛ أما ما دونه، فتظهر ملامح كائن قديم، «محور الاعتدال».
بعد أن هزّته الثورات العربية قبل عقد، ومزقته الأزمة الخليجية وارتداداتها قبل نصف عقد، وزادت دبلوماسية «صفقة القرن» الترمبية من تشرذُمه، تسمح انسجامات وتنسيقات الأسابيع الثلاثة الماضية، وخصوصاً التلاقيات عند التضامن مع مواقف مصر والأردن، بتلمُّس ملامح إعادة تشكّل «محور الاعتدال» العربي القديم حول الهواجس الأردنية-المصرية، وإنْ بانكفاء إماراتي وبحريني لا يصل إلى حدود السلبية تجاهه. لكن ثمة فارقٌ جوهري بين نُسختي «محور الاعتدال» سيحدد ممكِناته السياسية خلال الأسابيع والشهور المقبلة: القديم قام على موقف إيجابي من اتفاقات سلام كل من مصر والأردن (ومنظمة التحرير الفلسطينية) مع إسرائيل، وعلى مقاربة «واقعية» لأُسس التفاهم مع الولايات المتحدة، وعبرها مع إسرائيل. إلا أن المحور الجديد، لو تبلور، فسيقوم على أساس انقطاع سبل الوصال مع إسرائيل بشكلٍ لن يكون جَسرُه سهلاً بعد حرب غزّة؛ و«أزمة ثقة» غير مسبوقة لدول هذا المحور، متعددة الأسباب وسابقة في جزئها الأكبر على حرب غزة، مع الولايات المتحدة الأميركية.
موقع الجمهورية
—————————
نحن بين مظلومية إيران ومظلومية إسرائيل/ عمر قدور
أتت التعزيزات العسكرية “الأمريكية وغيرها” إلى الشرق الأوسط بهدف صريح، هو ردع إيران عن فتح جبهة جنوب لبنان، وربما جبهة الجولان إذا سمحت لها موسكو بحرية التصرف فيها. وكلما استُخدم تعبير توسيع رقعة النزاع فُهِم منه أن المقصود هو اندلاع حرب ضخمة بين تل أبيب وطهران حصراً، رغم أن دولتين عربيتين مهددتان بتهجير الفلسطينيين إليهما هما مصر والأردن.
وصل بعض التحليلات إلى اختزال عملية طوفان الأقصى بكونها رداً إيرانياً على التطبيع العربي مع إسرائيل، بينما ذهب بعض آخر إلى إدراجها كردّ على قصف إسرائيلي متكرر لمواقع وشحنات أسلحة إيرانية في سوريا. التركيز على العامل الإيراني في الحرب على غزة يخدم العديد من الأهواء، وأولها أهواء محور الممانعة الذي أتت لأنصاره فرصة التغنّي بالقوة الإيرانية مقابل “التخاذل العربي”، في حين يزداد التعاطف الغربي مع إسرائيل بوصفها مهدَّدة من قوة إقليمية كبرى “إيران” تمتلك ترسانة ضخمة من الأسلحة، وغير بعيدة عن امتلاك النووي. أما الردّ الشعبوي لدى خصوم المحور بأن هناك قواعد للعبة بين طهران وتل أبيب، وأن طرفي اللعبة متواطئان على العرب والفلسطينيين، فهو ردّ يقدّم فقط السلوى لأصحابه من دون تقديم معرفة مفيدة بالخطر ومكامنه.
في نيروز 1935 اعتمد الشاه رضا بهلوي تسمية إيران التي تشير إلى العرق الآري، بدلاً من فارس، واقتراح التسمية الجديدة أتى أولاً من سفارته في برلين حيث كانت ألمانيا تخضع للحكم النازي. لم يكن ذلك مجرد تغيير شكلي، فالعنصرية الفارسية حقيقية، وبكونها موجَّهة إلى “الساميين” العرب ثم اليهود فهي أشمل من نظيرتها الغربية التي اقتصرت حينذاك على اليهود. التعالي على العرب موجود بوفرة في الأدبيات الإيرانية، ومحمولٌ على المشاعر القومية أو المذهبية، أو على الاثنتين معاً، ومصدره في الحالتين الهزيمة القديمة أمام ذلك الجار العربي الإسلامي الصاعد.
ما لا يأخذ حقّه من الانتباه والبحث أن التشيّع الإيراني صار بمثابة قومية تتغذّى على ذلك الجرح النرجسي القديم، بينما تضع في المقدمة منه “مظلومية آل البيت”. وهذا الإطار القومي-الديني هو أشمل من القومي الفارسي السابق عليه، لأن الثاني يرضي فقط الفرس وهم غالبية غير عظمى من السكان، بمعنى أن عدد الشيعة في إيران أكبر من عدد الفرس. مكمن الخطورة في التوليفية الإيرانية أن التشيّع الإيراني أحكم سيطرته على التشيّع العربي الذي كان لمظلوميته مطالبات مختلفة في كل بلد من بلدان تواجده، ليصبح جزءاً من الاستراتيجية الإيرانية للهيمنة الإقليمية، والتي لا يمكن إلا أن تصطدم بمنافسين إقليميين أو دوليين ومنهم إسرائيل.
الذين أنشأوا الحركة الصهيونية كانوا بجزء معتبر منهم غير متدينين، لكنهم وجدوا الحل للمظلومية اليهودية في أوروبا بإنشاء وطن قومي لليهود، ليأتي هتلر بالمحرقة ويصبح مشروع الدولة اليهودية “أكثر إلحاحاً” من قبل. منذ المؤتمر اليهودي الأول حتى الآن، ما زال سارياً القول أن هذا الوطن اليهودي هو لجميع اليهود أينما كانوا، وأن لهم “حق العودة” إليه متى شاؤوا.
الاستعداد لاستقبال هؤلاء، بل حثّهم على العودة، يضمر دائماً طرد الفلسطينيين من أراضيهم والتوسّع بما يقتضيه العدد المتزايد لليهود في إسرائيل؛ هذه العقيدة الثابتة ليست مطروحة للتعديل، بل تم استباق أي تفكير فيها بقانون الدولة اليهودية الذي أقرّه الكنيست. ورغم أن اليهودية ليست ديانة تبشيرية فإن العقيدة السابقة تُبقي إسرائيل على أهبة التوسع، ليأتي فائض قوتها العسكرية متطلباً توسع نفوذها الإقليمي كما يحدث عادة لكل فائض قوة.
لم تعد المظلومية اليهودية قائمة في الغرب، لكنّ عقلية الغيتو بقيت موجودة لأن أصحابها والعنصريين الغربيين يريدون بقاءها، كلٌّ منهما لأسبابه. الانحياز الغربي إلى إسرائيل، ومحاباة اليهود في الغرب، تجاوزا كونهما نتاج عقدة ذنب بسبب المحرقة، ولعلنا لا نجافي الواقع بالقول أن التمييز الإيجابي الفاقع لا يختلف في جذره العميق عن ذلك السلبي، وهو ما يؤازر طوال الوقت إصرارَ تل أبيب على المظلومية اليهودية وكأن المحرقة تحدث للتو.
لا يُظهر الغرب اكتراثاً بآثار المظلوميتين الإيرانية واليهودية على المنطقة، ساعده بلا شك صعودُ الإرهاب الإسلامي السني، بدءاً بتنظيم القاعدة الذي نفّذ أول عملياته الكبرى قبل ثلاثة عقود، لتصبح الحرب على الإرهاب عنواناً “مشروعاً” لأولويات الغرب طيلة هذه المدة، ولتكون المفاضلة حتى الآن بين إسلام شيعي ذي مرجعية واحدة منضبطة وآخر سني منفلت. كانت بداية نشأة الإسلام السياسي السني “إحيائيةً نهضوية”، بموجب رؤى روّاده، ولا تصعب ملاحظة استلهامهم النموذج القومي الحداثي لبناء نموذجهم الخاص. المظلومية السنية لم تكن هي الأساس في البدايات، لذا لم يكن الإرهاب الذي يستهدف الغرب حاضراً، والمفارقة أن النار الأفغانية التي التهمت الاتحاد السوفيتي نضج عليها عدو الغرب الجديد.
في الحرب الحالية على غزة يتصرف الغرب وفق ما صار سياسة تقليدية، فالرئيس الفرنسي ماكرون اقترح توسيع دور التحالف الدولي ضد داعش ليشمل حماس، وهكذا يكون العنف من نصيب الأخيرة “بحكم سنيتها” رغم أنها لم تستهدف يوماً المصالح الغربية ولم تحرّض على استهدافها. التحذير الذي وجهه ماكرون لحزب الله وطهران من الانخراط في الحرب لا يرقى إلى مستوى دعوته إلى تحالف دولي ضد حماس، حتى مع توفر القناعة الغربية بأن طهران كانت وراء هجوم السابع من أكتوبر.
تمارس قوى نافذة في الغرب انتقائية في عنصريتها، ومن المؤسف أن نسبة الغربيين الذين لهم مواقف نقدية من هذه الانتقائية، ومن المظلوميات على قدم المساواة، قد لا تتجاوز نسبة المسلمين الشيعة أو السنة الذين لديهم مواقف نقدية من حكم ولاية الفقيه وحرسه الثوري ومن تنظيمات الإسلام السياسي أو الجهادي السني. ماكرون نفسه كان قد قال يوماً أن الأسد خطر على شعبه، بينما داعش خطر على العالم. رؤية العالم من هذا الثقب الصغير جداً تُترجم سراً بأن إسرائيل خطر على الفلسطينيين فقط، ولا بأس في ذلك، وإيران خطر على بعض دول المنطقة، ولا بأس في ذلك طالما أنها لا تتخطى الخطوط الإسرائيلية الحمراء.
قد لا تقتضي مصالح الغرب في المدى المنظور فهماً أفضل من الحالي، فهو ليس متضرراً مباشرةً من وقوع بلدان شرق المتوسط بين دولتين دينيتين، أو بالأحرى تقوم كلّ منهما على مظلومية ذات طابع ديني أو مذهبي، بما ينطوي عليه ذلك من دوافع ثأرية وتوسعية. التنظيمات السنية التي استلهمت فكرة المظلومية لا تبدو “بالمقارنة” أكثر من كاريكاتير بدائي مبتذل لهاتين القوتين الإقليميتين، والرهان الخاطئ هو على تقوية الكاريكاتير ليقارعهما، في حين أن الخلاص منه هو خطوة لازمة وغير كافية كي لا تتكاثر علينا وحوش المظلوميات.
المدن
—————————–
كل هذا الاستهتار بالعرب؟/ غازي دحمان
لا تخفي التوصيفات التي يصدرها عسكر إسرائيل وسياسيوها بحق حركة حماس والفلسطينيين حمولاتها من ازدراء لقيمة العرب والاستهتار بهم، فالصراع، في نظرهم، مع عرب يوجدون في قطاع غزّة وبقية فلسطين، وهم جزء عضوي من هذا العالم العربي المحيط بهم، وهؤلاء “المتوحّشون” هم من ذاك النسيج العربي الممتدّ الذي يشبههم ويشبهونه.
هذه رسالة إسرائيل التي تريد من خلالها تعزيز سردية المظلومية، وإثبات أن مشكلتها لا تنحصر مع بضعة ملايين في غزّة والضفة الغربية وداخل أراضي 1948، بل مع طوفان عربي، تعدادُه مئات الملايين من المتوحّشين والهمج ينتظرون اللحظة المناسبة للفتك باليهود، يريدون فعل ذلك بسبب عدائهم الحضارة الغربية، أكثر من عدائهم إسرائيل بحد ذاتها. وعلى ذلك، العالم المتحضر مُجبرٌ على الوقوف خلف إسرائيل، وعلى تأييد سلوكها واستراتيجيتها للقضاء على هؤلاء الوحوش.
لكن السؤال، في هذه اللحظة العصيبة، ليس على أهل غزّة وحسب، وإنما على العالم العربي الذي يرى كل هذا التنكيل بقيمه وإنسانيته والتزوير المهول الذي يُمارس على مساحة واسعة من العالم بحقّ الشخصية العربية، كيف صدّق الغرب بسرعة كامل السردية الإسرائيلية ولم يعمد حتى على التخفيف من غلوائها وبعض دبلوماسياته لها خبرة أكثر من مائة عام مع العرب، وكثير من مفكّريه وخبرائه وتقنييه عملوا مع العرب، وتعاملوا معهم في حقولٍ كثيرة، ولماذا تجاهل الغرب مصالحه الكبيرة مع العرب بهذه الخفّة والتسرّع إن لم نقل بالإنكار؟
لقد طرحت حرب غزّة، وما أثارته من كراهية واستهتار غربي بالعرب، السؤال عن الاستثمارات العربية الهائلة في الدبلوماسية والعلاقات العامة وفي الإعلام ومراكز الأبحاث ومستويات صنع القرار في الغرب، وعن مليارات الصناديق الاستثمارية العربية في استمارات الغرب، وكيف أن ذلك كله لم يدعم أصواتا تكون موضوعية على الأقل لا منحازة للعرب؟ والأهم كيف لم يُحسّن هذا الاستثمار الضخم من صورة العرب في الذهنية الغربية التي لا تفتأ مع كل حادثةٍ أن تخرج من أدراج ذاكرتها نسخا سوداوية لهذه الصورة!
الأهم من ذلك كله أيضا أن غالبية الدول العربية إما باتت مطبعة مع إسرائيل أو في طريقها لسلوك هذا المسار، رغم رفض إسرائيل تقديم أي تنازلٍ يدعم هؤلاء، من قبيل وقف مصادرة أراضي الفلسطينيين وإنهاء حصار غزّة ووقف تعاملها العنصري مع فلسطيني الداخل ومنع المستوطنين من استباحة القرى والمدن في الضفة الغربية والتنكيل بأهلها، بمعنى أن إسرائيل بعد كل هذا الترويض للعرب لا يحقّ لها الحديث عن توحّش وهمجية، فيما تمارس هي سياساتها تجاههم بشكل غرائزي مقزّزٍ غارقٍ في الأسطرة والأيديولوجيا وينتخب شعبها ممثليه بناء على حجم كرههم للعرب.
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو: عندما توسلت إسرائيل التطبيع مع العرب، وأيد الغرب الخطوات العربية وصفق لها، هل كانوا على علم أنهم يطبعون مع وحوش، أم أن إسرائيل والغرب كانوا يطبّعون مع نخب بعينها بهدف تحقيق مكاسب أمنية واقتصادية وحسب؟ أليس هذا اعترافا منهم بانفصال تلك النخب عن شعوبها المتوحّشة الذين لا ترغب إسرائيل لا برؤيتهم ولا التداخل معهم تحت أي سببٍ كان؟.
ثم ماذا عن الديمقراطية، والتي، من كثرة التلطي وراءها في مرحلة الحرب على غزّة، بات كثيرون من دعاتها والمتحمّسون لها في العالم العربي في حالة خجل أمام مناصري الاستبداد وجماعات نظرية المؤامرة؛ فالحرب هي حرب الديمقراطيات ضد المتوحّشين، وإسرائيل جزء من العالم الديمقراطي الذي يتألم لما أصابها. وهكذا، في المقابل لا يرى ضمير هذا العالم الموت الفائض الذي تحقّقه إسرائيل في غزّة، بل إنهم يشكّكون في أرقام القتلى، مثلما يشكّكون بالقتلى أنفسهم.
بعيدا عن الموقف من “حماس”، صارت العلاقة بين العالمين الغربي والعربي تحتاج إلى إعادة تعريف ووضع أسس جديدة لها، فهذه العلاقة التي لم تكن أصلا متوازنة قبل “7 أكتوبر” شهدت خللا فاضحا، وخصوصا مع نضح الغرب كل هذا الاحتقار والكراهية. صحيح أنه سبق التعبير عن هذه الكراهية بمناسبات متفرّقة، لكن كنا نظن أنها ردّات فعل معينة على بعض التصرفات، وربما تجاه مسائل محدّدة، لكنها اليوم تتجاوز كل حدود المنطق والمعقول. وثمّة معادلة يُراد تثبيتها اليوم من الغرب تقوم على الحقّ في إيلامنا واستحقارنا، هكذا لأن بيولوجيتنا لا يليق بها أكثر من ذلك، ولا يحقّ لنا الاعتراض أو التذمّر، وإلا ماذا يعني كل هذا الاستهتار بدم الملايين في غزّة وتشجيع إبادتهم والتنكيل بهم من دون توجيه أدنى لوم لإسرائيل، بل أكثر من ذلك أصدرت دول غربية أوامر بسجن كل من يرفع علم فلسطين واعتباره مؤيدا للإرهاب!
ماذا باستطاعتنا، نحن الشعوب، أن نفعل طالما أن حكّامنا ونخبنا لا يرون فيما يحصل إهانة واحتقاراً لهم؟ يمكننا مقاطعة بضائعهم ومنتجاتهم وقد أثبت هذا الفعل جدواه وفعاليته، حينها سيتذكّرون أن أموالنا تساهم بدرجةٍ كافية في رفاهيتهم، بل ربما تساهم في تذكيرهم أننا كنا نستهلك منتجاتهم الحضارية والثقافية والفكرية المعولمة، وأننا جزء من ثقافة هذه الحضارة، ولسنا منكفئين في غيتواتنا، وأن ملايين منا مندمجون في أوروبا وأميركا، ونشكل جزءا معتبرا من طاقتهما التشغيلية.
العربي الجديد
—————————
مجزرة غزة : سقوط مدوّ لقيم العالم الحديث
شركاء كبار لإسرائيل، على رأسهم الولايات المتحدة الأميركية، وقطاع واسع من عواصم وإعلام غربي، جزء من آلة الحرب ومن وقائعها وتفاصيلها.
ليست إسرائيل وحدها من يقف وراء المجزرة المتواصلة منذ ثلاثة أسابيع في غزة، فالتفويض الذي منحه الغرب لبنيامين نتانياهو كان له الدور الأكبر في تعاظم الجريمة وفي تحولها من واقعة انتقام إلى فرصة إبادة منهجية لها وظيفة صارت واضحة، وتتمثل في عملية “ترانسفير”.
وصار واضحاً بفعل الوتيرة المتصاعدة للقتل أن “حماس” ليست الهدف الوحيد لآلة الحرب الإسرائيلية، انما أيضاً سكان القطاع، لا بل ما يضمه هذا القطاع من بنية تجعله مؤهلاً لأن يكون منطقة تصلح للعيش فيها مستقبلاً.
ما تعيشه غزة اليوم ليس حرباً بين الجيش الإسرائيلي وحركة حماس، ذاك أن أكثر من مليوني فلسطيني مستهدفون تحت أنظار العالم، وفي اللحظة التي كانت تُسقط فيها الطائرات الحربية الإسرائيلية آلاف الأطنان من المتفجرات على رؤوسهم، كان البيت الأبيض يرتكب بحقهم جريمة موازية تتمثل في رفضه قراراً بهدنة إنسانية في الجمعية العامة للأمم المتحدة!
أليس هذا كافياً للقول بأن شركاء كبار لإسرائيل، على رأسهم الولايات المتحدة الأميركية، وآخرين من بينهم قطاع واسع من عواصم وإعلام غربي، هم جزء من آلة الحرب ومن وقائعها وتفاصيلها.
لم يسبق أن شهدنا في العصر الحديث، ومنذ الحرب العالمية الثانية، هذا المقدار من التواطؤ الدولي على مجموعة بشرية، سيقت إلى المصير الذي يعيشه الفلسطينيون اليوم في غزة. فالعالم بأجمعه ضرب صفحاً عن مسارٍ طويل من رفض “السلام” الذي أبدته إسرائيل بحكوماتها المتتالية منذ ثلاثة عقود، أي منذ أقدم الإسرائيلي ايغال عمير على اغتيال إسحاق رابين معلناً رفض إسرائيل السلام، واعتبر العالم أن واقعة 7 تشرين/ أكتوبر في غلاف غزة هي مؤشر رفض الفلسطينيين، وليس حماس، السلام!.
ما يجري في غزة لم يعد يحتمل تأويلاً آخراً غير أننا حيال عملية تطهير القطاع من سكانه. من يبقى على قيد الحياة عليه أن يشعر أن هذه الأرض لا تصلح لمواصلة الحياة فيها. عليه أن يوقن أن أحداً لا يريده أن يبقى في مدينته أو مخيمه أو مزرعته.
ما يجري ليس أقل من سقوط مدوٍ لقيم دأب العالم على الإطناب بها منذ الحرب العالمية الثانية. فإشاحة الوجه عن جريمة حرب ترقى لأن تكون إبادة، هو الفشل الأكبر لهذه القيم منذ الهولوكوست. قد لا تفوق أرقام قتلى مجزرة غزة قرينتيها في سوريا أو العراق مثلاً، لكن الأخيرتين لم تجريا على وقع جلسات تطبيع مع المجزرة في دوائر صناعة القرار في الغرب.
نعم آلة الحرب الإسرائيلية تتحرك اليوم في غزة بدعم من أميركا، ولكن أيضاً برعاية جزء كبير من الدول الأوروبية، وبانعدام حساسية جزء من العرب حيال الظلامة الفلسطينية. هذا العالم يتجاهل حقيقة أن الفلسطينيين، ومنذ الانتفاضة الثانية كانوا عرضة لانتهاكات حكومات اليمين الإسرائيلي المتتالية.
من يقول اليوم أن “حماس” ضد السلام، يضرب صفحاً عن ممارسات إسرائيلية كانت أشد وضوحاً في رفض السلام وفي استدراج العنف. ضم القدس وتوسيع البؤر الاستيطانية في الضفة الغربية وإحكام الحصار على غزة ومصادرة المنازل وقتل الصحافيين، كل هذه الممارسات سبقت 7 تشرين الأول/ أكتوبر، وإدانة عملية غلاف غزة من دون النظر إلى مقدماتها ينطوي على تمييز في الانحياز إلى الضحية أياً كانت هويتها.
واليوم، وتحديداً ليلة السبت- صباح الأحد، عُزل القطاع عن العالم. قطعت الانترنت، وطبعاً الكهرباء والماء والوقود، وأتيحت للطائرات الحربية الإسرائيلية أن تقتل من دون النقل المباشر، والمصادفة أن ذلك جرى على وقع جلسة للجمعية العامة للأمم المتحدة رفضت فيها واشنطن قراراً بهدنة إنسانية!.
هذا بالإضافة إلى عناصر أخرى في المشهد تؤكد أن المرتكب ليست تل أبيب لوحدها، فقد تزامن ذلك مع قرارات لمؤسسات دولية مانحة بوقف تمويل مشاريع إنسانية فلسطينية، وبتشكيك بهوية الضحية وبأرقام الجريمة.
ثم أن مسارعة واشنطن إلى تبني الرواية الإسرائيلية وتشكيكها بأرقام الضحايا مثلاً، كان بمثابة شد عزيمة نتنياهو على مزيد من القتل، وهنا نتحدث عن المدنيين، وليس غير المدنيين.
ما يجري في غزة لم يعد يحتمل تأويلاً آخراً غير أننا حيال عملية تطهير القطاع من سكانه. من يبقى على قيد الحياة عليه أن يشعر أن هذه الأرض لا تصلح لمواصلة الحياة فيها. عليه أن يوقن أن أحداً لا يريده أن يبقى في مدينته أو مخيمه أو مزرعته. والأشد قسوة أن أحداً لم يعطه خريطة نزوح أو لجوء أو نجاة. عقاب رهيب ليست حماس المستهدفة به، بل الفلسطينيون العزل والمحاصرون منذ ما يزيد عن 17 عاماً!.
قبل أشهر قليلة، وفي مؤتمر صحافي له، رفع نتانياهو خريطة إسرائيل التي لا أثر فيها لدولة فلسطينية، وقال إن التطبيع مع الدول العربية لن تعيقه الضغوط الفلسطينية. العالم الذي يقف إلى جانبه اليوم في حربه على أهل غزة، لم يستعد هذا المشهد في قوله إن “حماس” عقبة أمام السلام يجب إزالتها. العقبة الفعلية أمام السلام هي إسرائيل، وما يجري اليوم ليس “إزالة حماس”، انما إزالة سكان القطاع.
——————————–
“نحن الهمج الذين نكره اليهود”/ رشا عمران
مقالتان نُشرتا في مجلة لو بوان (la point) الأسبوعية الفرنسية، المنتمية لليمين الوسطي، في الأسبوعين الماضيين، الأولى للكاتب الجزائري الفرنسي كمال داود “رسالة إلى صديق يهودي”، والثانية للسوري، حديث العهد بالجنسية الفرنسية، عمر يوسف سليمان “ترعرعت على كره اليهود”. واثنتاهما عن فكرة قد تبدو في القراءة الأولى صحيحة، وتعرفها الشعوب العربية جيداً، وهي موضوع العلاقة مع “اليهود”، فما كُتب في المقالتين عن علاقتنا، نحن العرب، مع اليهود حقيقي، ذلك أن الذاكرة الجمعية الشعبية العربية بعد عام 1948 ربطت بين الصهيونية واليهود مباشرة، بسبب أن الصهيونية، بعد الهولوكوست، روّجت فكرة أن أرض الميعاد فلسطين هي وطن لليهود، ما جعل الهجرة اليهودية من كل العالم تتدفّق نحو فلسطين. هكذا تم ربط الأيديولوجي السياسي بالديني في فكرة أرض الميعاد. تصاعد هذا الترابط أيضاً لدى العرب بعد احتلال فلسطين، في ربط أيديولوجي مقابل بين العروبة والإسلام.
يتحدّث الكاتبان عن كيف تحوّل اليهودي في الذاكرة العربية إلى رمزٍ لكلّ ما هو شرير وسيء، فالعرب حين يريدون شتم أحد يقولون عنه: يهودي، حين يصفون أحداً بالبخل يقولون إنه بخيل كاليهود. العرب أيضاً مؤمنون بأن العالم يُدار بمؤامرة يهودية تستهدف الإسلام. العرب أيضاً يصفون معارضي أنظمتهم باليهود أو بعملاء اليهود، يتحالفون مع أنظمتهم الاستبدادية في وصم كل من تكرهه الأنظمة بهذه الوصمة. باختصار، يشكّل اليهودي في ذاكرتنا الجمعية العربية والإسلامية كل ما هو سيء وبشع وشرّير، من دون التمييز بين اليهودية ديناً، والصهيونية حركة أيديولوجية سياسية تستخدم الميثولوجيا اليهودية لتحقيق غاياتها.
لا يتطرّق الكاتبان إلى هذه الفكرة، لا يذكران شيئاً عن الحركة الصهيونية ولا عن أهدافها ولا عن أن الدولة الناشئة عنها محتلة وفاشية ومجرمة واستعمارية، ومارست وتمارس منذ تأسيسها جرائم إبادة بحقّ الفلسطينيين لا تقل هوْلاً عن جرائم الهولوكوست. لا يأتي الكاتبان على هذا. يكتبان فقط أن هناك جرائم تُرتكب ضد اليهود، يرتكبها المسلمون العرب (الهمجيون) الكارهون لليهود لمجرّد أنهم يهود.
تأتي المقالتان، وقبلهما مقالة لا تقلّ سوءاً للطاهر بن جلون، في المجلة نفسها، في وقت تنهج فيه السياسة الغربية نهجاً ينسف كل ديمقراطيتها المزعومة، ليس فقط بسبب دعمها المعنوي والمادي والعسكري لإسرائيل في حرب الإبادة التي تشنّها ضد غزّة بحجّة إرهاب حركة حماس، بل بمنعها كل أشكال التعبير والتضامن مع الفلسطينيين، تحت طائلة الاعتقال أو الحظر أو سحب الجنسية، على طريقة الأنظمة الديكتاتورية التي يدّعي الكاتبان معاداتها.
يتطوّع كتّاب عرب مسلمون لتكريس سردية الصهيونية عن كره العرب والمسلمين لليهود، من دون أي وازع أو ضمير أخلاقي، في وقتٍ يشاهد فيه العالم بأكمله على الهواء مباشرة ما تفعله إسرائيل بأهل غزّة من إبادة جماعية تستهدف المدنيين أينما كانوا. واللافت أن الكاتبيْن يشيران إلى معارضتهما أنظمة الاستبداد العربية التي يرون أنها تغذّي حقد شعوبها ضد اليهود، في فهمٍ بالغ الركاكة (ربما ركاكة مقصودة للتأكيد على همجية العرب والمسلمين) لتركيبة هذه الأنظمة وعلاقتها المركّبة مع الاحتلال منذ عام 1948، خصوصاً بعد سيطرة الدولة العسكرية الأمنية على كل الدول الحدودية الكبرى مع فلسطين المحتلة.
لا يستثني الكاتبان سوى نفسيهما من كراهية العرب والمسلمين اليهود، يعمّمان نظريتهما علينا جميعاً، يجعلاننا نبدو كأميين همَج أغبياء، يعمينا الحقد والجهل عن رؤية “الصديق اليهودي الجيد المتحضر”. هكذا هما يبرّران لإسرائيل حرب إبادتها غزّة وأهلها، فهي تدافع عن وجودها المستهدف من مجموعة بشرية تتغذّى من الحقد على اليهود، هكذا أيضاً يجب القضاء على الطفل قبل الشيخ، ذلك أن هذا الطفل إن كبُر فسوف يقتل يهودياً.
يتقمّص الكاتبان عقدة الذنب الأوروبية تجاه اليهود، بسبب الهولوكوست، ويتناسيان أن العرب والمسلمين لم يشاركوا في الهولوكوست، وليست لديهم عقدة ذنب بسببها، بل كانوا ضحية أخرى لتلك الإبادة، ذلك أن الصهيونية، بدلاً من معاداة متسبّبي الإبادة، عَقدت صفقة معهم لإنزال العقاب بشعوبٍ لطالما كان اليهود مواطنين يعيشون فيها، مثل المسلمين والمسيحيين.
المضحك في المقالتين المثيرتين للاشمئزاز الصورة التي اعتمدها عمر يوسف سليمان، والتي يبدو فيها كيهودي من بدايات القرن العشرين، ربما ليؤكّد ما ذكره في المقالة عن أصوله اليهودية التي اكتشفها مصادفة.
العربي الجديد
———————-
مكارثية جديدة للتماهي الغربي مع إسرائيل/ عمر كوش
ليس غريباً ما ساد من حالة تماهي مواقف معظم ساسة الغرب والمسؤولين فيه مع مواقف ساسة إسرائيل وجنرالاتها، في حرب الإبادة الجماعية التي يشنونها ضد الشعب الفلسطيني، وخصوصا في قطاع غزة، لكن الغريب ألا ينحصر هذا التماهي على مستوى السياسة فقط، بل أن يتحوّل إلى مكارثية جديدة، طاولت وسائل الإعلام ومؤسّسات الثقافة وسواهما، حيث راحت تلاحق مناهضي هذه الحرب، في محاولةٍ لإسكات صوت كل من يقف ضدّها، ومنع كل من ينتقد جرائم إسرائيل، وسعيها إلى التهجير القسري لفلسطينيي قطاع غزّة، ووصلت إلى حدّ إصدار قوانين وتشريعات تحدّ من حرية التعبير، وتقيّد من حقّ التظاهر، وبما يهدّد مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، التي لطالما تغنّى بها معظم ساسة الغرب الشعبويون تزلفاً وتدليساً، فيما هم، في حقيقة الأمر، لم يكفّوا عن توظيفها وفق ما تقتضيه مصالحهم، مع أن هذه المبادئ والحقوق هي نتاج نضال مرير وشاقّ، خاضه مفكرون وفلاسفة إلى جانب قوى إنسانية كثيرة، وخصوصا في الغرب الحديث، ضد قوى التسلّط والاستبداد والعبودية، وضد كل مظاهر القهر والقمع ومصادرة الحريات.
لم يكتف مسؤولون وقادة في الغرب بمواقفهم المؤيدة والداعمة لمواقف نظرائهم الإسرائيليين فقط، بل الأدهى أنهم اصطفّوا فوراً خلفهم، ثم تقاطروا سريعاً إلى تل أبيب، وكأنها تحوّلت إلى وجهة للحج بالنسبة إليهم، ولمباركة ما تقوم به من مجازر، وتبريرها بادّعاء حقّ الدفاع عن النفس، والرد على هجوم حركة حماس، وغضّ النظر عن استهداف المدنيين الفلسطينيين، بل وذهب بعضها إلى القول إنهم يخوضون الحرب نفسها مع إسرائيل، فضلاً عن إمداد جيشها بمختلف أنواع الأسلحة الفتاكة، وتخصيص ملايين الدولارات من أموال دافعي الضرائب لتمويل حربها. وعليه، لم تكتف الولايات المتحدة بحشد حاملتي طائرات وإقامة جسر جوي إلى إسرائيل، بل شارك وزير دفاعها لويد أوستن في اجتماع لمجلس الحرب الإسرائيلي، فضلاً عن مشاركة وزير خارجيها أنتوني بلينكن في أحد اجتماعات حكومة الحرب لإسرائيلية. أما المستشار الألماني أولاف شولتز، فقد سارع إلى وقف المساعدات الإنسانية لمحتاجيها من الفلسطينيين، وذهب إلى حدّ اعتبار أن “أمن إسرائيل جزء من وجود ألمانيا”، ومنعت سلطات بلاده كل أشكال التضامن مع الشعب الفلسطيني، وكذلك فعلت فرنسا التي توعد فيها وزير العدل كل من يتضامن مع الشعب الفلسطيني بالسجن خمس سنوات، فيما تمادى رئيس الكتلة المعارضة في البرلمان الألماني إلى حدّ المطالبة باشتراط الاعتراف بإسرائيل للحصول على الجنسية الألمانية.
اللافت أن الأمر لم يتوقّف على الساسة والمسؤولين، بل انتقل مباشرة إلى معظم وسائل الإعلام وبعض مؤسّسات الثقافة، حيث انتشر خبر قطع رؤوس 40 طفلاً إسرائيلياً كالنار في الهشيم، وغطّى الصفحة الأولى في عدّة صحف عالمية، من دون القيام بأي تحقّق أو بحث عن مصادر وأدلّة كافية، وعلى الرغم من تكذيب الخبر (ردّده الرئيس الأميركي جو بايدن قبل أن يتراجع عنه)، إلا أن بعض وسائل الإعلام لم تعتذر لقرّائها ومشاهديها، بل إن بعضها لم يحذف الخبر من موقعه الإلكتروني. وجرى خلط مريب في بعض وسائل الإعلام المؤثرة في الرأي العام الغربي بين حركة حماس وعموم الفلسطينيين، وأوغل بعضها في نشر أخبار زائفة وتحريضية ضد الفلسطينيين، وطاول الأمر أيضاً معظم وسائل التواصل الاجتماعي، فيسبوك وتيك توك مثلا. وفصلت وسائل إعلام من يشبته بتعاطفهم مع الفلسطينيين، حيث فصلت شبكة إم إس إن بي سي الأميركية ثلاثة من مذيعيها، فيما حقّقت هيئة الإذاعة البريطانية مع ستّة من صحافييها بسبب تغريدات نشروها عن فلسطين. في المقابل، لم تجرؤ وسائل الإعلام الغربية حتى على إدانة إسرائيل لقتلها مصوّر وكالة رويترز عصام عبدالله في أثناء أدائه عمله في جنوب لبنان، إلى جانب إصابة ثلاثة من زملائه الذين كانوا معه في المكان ذاته.
عادت المكارثية في صورتها البوليسية الجديدة إلى معظم دول الغرب، وخصوصا الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وبريطانيا، ولم تقتصر على السياسة ووسائل الإعلام، بل وصلت إلى ميدان الثقافة سريعاً، حيث حرم منظّمو معرض فرانكفورت الدولي للكتاب الروائية الفلسطينية عدنية شِبلي من جائزتها التي كان المفترض أن تُمنح لها عن روايتها المترجمة إلى الألمانية “تفصيل ثانوي”، بل اتهمتها أوساط ألمانية بمعاداة السامية. وامتدّت يد المكارثية إلى ميدان الرياضة أيضاً، عبر ملاحقة مشاهير الرياضيين الذين يبدون تعاطفهم مع أهالي غزّة، وخصوصا اللاعب الفرنسي ذا الأصول الجزائرية كريم بنزيمة، الذي قال: “كل صلواتنا من أجل سكّان غزة الواقعين مرّة أخرى ضحايا لهذا القصف الظالم”، وقد سارع وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانين إلى اتهامه بالارتباط مع الإخوان المسلمين، وطالب بمعاقبته، والتفكير بسحب الكرة الذهبية منه، وحتى التفكير بسحب الجنسية الفرنسية منه، كما طالبت بذلك أيضاً عضو البرلمان الفرنسي فاليري بوييه، فيما ذهب المرشّح السابق للرئاسة الفرنسية اليميني المتطرّف إيريك زيمور إلى مهاجمة بنزيمة واتهامه بوجود صلة مباشرة له في مقتل المدرس الفرنسي دومينيك برنارد.
في المقابل، لم تصمت أصواتٌ حيّة عديدة في دول الغرب، ولم تقف مكتوفة الأيدي، بالرغم من حمّى المكارثية الجديدة الطاغية، إذ على الرغم من سطوة البروباغندا الإسرائيلية والأبواق المساندة لها، رفضت شخصياتٌ عالميةٌ ممارسات الاحتلال الإسرائيلي. ورفضت كذلك عمليات التسويق لاستباحة الدم الفلسطيني. ووسط عبثية المكارثية، واصلت الممثلة الأميركية الشهيرة سوزان سارندون، الحائزة على جائزة أوسكار عام 1995، إظهار دعمها وتضامنها مع الشعب الفلسطيني، عبر إعادة نشر تغريدات لناشطين غربيين وعرب داعمين للقضية الفلسطينية، وفضح الحرب الإسرائيلية، عبر نشر صور استخدام إسرائيل ذخائر الفوسفور الأبيض ضد أهالي غزّة، وانضم مشاهير آخرون لدعم الفلسطينيين في غزّة، من بينهم الممثل الأميركي مارك رافالو، والملاكم النيوزلندي سوني بيل ويليامز، والمغنية السويدية زارا لارسون، ولاعب المنتخب الفرنسي السابق فرانك ريبري، وغيره.
لا تنحصر أهداف المكارثية الجديدة في دعم إسرائيل وإسكات أصوات معارضي سياساتها وممارساتها فقط، بل تمضي إلى تهديد قيم الديمقراطية ومبادئها. وهي لا تعمل كستار خلف تزايد الفوبيا حيال العرب والمسلمين، بل تريد إعادة الاعتبار لأشكال مما بعد النازية، التي يستغلها اليمين المتطرّف والشعبوي من أجل نشر الكراهية والعنصرية، وشيطنة كل المتضامنين مع القضية الفلسطينية.
————————–
كيف قلبت حرب غزة حسابات أردوغان وتركيا في الشرق الأوسط
نشر الخبير في شؤون الأمن القومي والسياسة الخارجية بمعهد “نيو لاينز” في واشنطن، قمران بخاري، تحليلا بعنوان “حرب غزة تدمر سياسة تركيا في الشرق الأوسط” بموقع “جيوبوليتيكال فيتشرز”، أكد فيه أن العدوان الإسرائيلي على غزة يمثل معضلة كبرى بالنسبة لتركيا، فقد أدى إلى إحباط جهود أنقرة الأخيرة لتجنب التورط في الشرق الأوسط، وأجبر الأتراك على العودة إلى الساحة الإقليمية. واعتبر أنه يعد بإمكان أنقرة الابتعاد عن التشابكات الإقليمية، بعد أن بدا أنها ركزت اهتمامها على جناحها الشمالي، وكانت تأمل في الاستفادة الجيوسياسية من الانتصار الكبير الذي حققته حليفتها أذربيجان على منافستها أرمينيا في إقليم “ناجورنو قره باغ” المتنازع عليه، كما أنها بدا أنها تستكشف فرص توسيع نفوذها في حوض البحر الأسود في ضوء ضعف روسيا بسبب الحرب في أوكرانيا.
لكن العدوان على غزة قلب حسابات أنقرة، حسب الكاتب، وقد أصبحت الخيارات المتاحة أمام تركيا محدودة وستكون مقيدة بتصرفات منافستها التاريخية، إيران، التي تتمتع بنفوذ أكبر بكثير على حماس وبالتالي على نتيجة هذا الصراع.
وذكر الكاتب أن في 25 أكتوبر/تشرين الأول، قال الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان: “إن حماس ليست منظمة إرهابية، إنها حركة تحرر وطني تدافع عن أراضيها”، وأعلن، في كلمته أمام حشد من نواب حزب العدالة والتنمية الحاكم، أنه ألغى خططه لزيارة إسرائيل بسبب حربها غير الإنسانية”.
وفي الوقت نفسه، وخلال مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره القطري في الدوحة، اتهم وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، إسرائيل بارتكاب “جريمة ضد الإنسانية” في غزة.
وفي وقت سابق، كان فيدان في أبو ظبي للتشاور مع قيادة دولة الإمارات العربية المتحدة حول كيفية إيصال المساعدات الإنسانية إلى المدنيين الفلسطينيين في القطاع.
ويشير الكاتب إلى أنه فيما يتعلق بالشرق الأوسط، شهدت سياسة تركيا تحولا كبيرا في السنوات الأخيرة، حيث تحاول أنقرة تحسين العلاقات مع إسرائيل وكذلك الدول العربية. وجاء هذا التحول في السياسة بعد عدة انتكاسات في نهج أنقرة السابق، على النحو التالي:
أولاً: لم يتمكن حلفاء تركيا، وخاصة القوى الإسلامية، مثل الإخوان المسلمين، من الاستفادة من انتفاضات الربيع العربي، وساعدت السعودية والإمارات الدول العربية والفصائل المناهضة للإسلاميين.
ثانياً: ساعدت إيران وروسيا نظام بشار الأسد على هزيمة المعارضين المسلحين المدعومين من تركيا، ما قيد تقدم تركيا في سوريا، وأدى إلى حصر القوات التركية في وجود محدود بشمالي البلاد.
ثالثًا: كان دعم واشنطن للقوات الكردية في شمال شرقي سوريا بمثابة عقبة رئيسية أخرى أمام أنقرة.
وأخيرًا: ساهمت الأزمة السياسية والاقتصادية الداخلية التي شهدتها أنقرة وسط الانقلاب الفاشل عام 2016، في حدوث أزمة مالية.
وبحسب الكاتب أجبرت هذه العوامل الأربعة تركيا على إعادة التفكير في استراتيجيتها عام 2021، وتحركت حكومة أردوغان لتطبيع العلاقات مع إسرائيل بعد أن توترت في عام 2010 عندما حاول أسطول تركي كسر الحصار الإسرائيلي على غزة، ما أدى إلى اشتباك مع الجيش الإسرائيلي قُتل فيه 10 جنود، وقتل فيه نشطاء أتراك وأصيب عدد آخر.
وفي الوقت نفسه، بدا أن الظروف الإقليمية بدأت تستقر، وأنه تم احتواء الصراع بين إسرائيل وحماس، خاصة بعد توقيع لدول العربية، بقيادة الإمارات العربية المتحدة، على اتفاقيات إبراهيم وإقامتها علاقات دبلوماسية مع إسرائيل.
ويشير الباحث إلى أن إيران كانت آنذاك في موقف دفاعي بسبب إلغاء الاتفاق النووي المقترن بعقوبات إضافية، واستهداف إسرائيل لبرنامجها النووي، واغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري، قاسم سليماني، في غارة جوية أمريكية، والتصاعد المتزايد للاضطرابات المحلية على وقع زيادة وتيرة المعارضة الداخلية.
وسمح هذا الوضع الإقليمي للأتراك بالتركيز على إعادة بناء اقتصادهم السياسي، وهو ما كان ذا أهمية خاصة بالنظر إلى تراجع شعبية أردوغان، بحسب بخاري.
بينما كان لدى إيران وحماس ضرورة مشتركة لمنع هذا الترتيب الإقليمي المتطور، خاصة مع إحراز السعودية وإسرائيل تقدماً سريعاً نحو تطبيع العلاقات.
ويرى الباحث أن عملية “طوفان الأقصى” استهدفت “هز المنطقة وإجبار أصحاب المصلحة الرئيسيين على تغيير سلوكهم، وخاصة تجاه إسرائيل، وبالتالي تقويض الاستراتيجية الأمريكية لإدارة المنطقة”.
ويقول الكاتب إن حماس، المدعومة من طهران، كانت تعرف جيداً عواقب هجوم بهذا الحجم، الأمر الذي من شأنه أن يصعب على الأتراك والدول العربية تطبيع العلاقات مع إسرائيل، مشيرا إلى أن “حماس وإيران حققتا نجاحاً أكبر بكثير مما كانتا تأملان فيه”، حيث أجبرتا اللاعبين الإقليميين، ليس فقط على النأي بأنفسهم عن إسرائيل، بل أيضًا على اتخاذ موقف صارم ضدها.
فالسعودية ومصر والأردن انتقدت إسرائيل بشدة، لكن هناك حدود للمدى الذي قد تتمكن الدول العربية من إعادة تموضعها فيه، بحسب بخاري.
وفي هذا السياق، فبرأي الكاتب لا تستطيع تركيا تحمل الاستمرار في سياسة التطبيع، نظراً لتاريخها وموقفها في ظل نظام أردوغان، الذي سعى إلى لعب دور بارز في العالمين العربي والإسلامي الأوسع.
ولذا، يرى الباحث أن تركيا كانت بحاجة إلى اتخاذ موقف صارم للحفاظ على أوراق اعتمادها كبطل للقضية الفلسطينية والحفاظ على مكانتها داخل العالم العربي، والدوائر الإسلامية، والأوساط الإسلامية العالمية، مشيرا إلى أن “المعضلة التي تواجهها هي أن حجم الأزمة من المرجح أن يتجاوز قدراتها الدبلوماسية”.
وبحسبه فمن “غير المرجح أن تمنع تركيا إسرائيل من القيام بعملية عسكرية تهدف إلى طرد نظام حماس من غزة، ولذا فإنها ستضطر إلى اتخاذ موقف دبلوماسي أكثر صرامة ضد إسرائيل والولايات المتحدة، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى تفاقم الأمور بالنسبة لوضع أنقرة الجيوسياسي”.
ويخلص الكاتب للقول إن مثل هذا السيناريو يعمل لصالح طهران، التي تهدف إلى الاستفادة من تفاقم الأزمة الحالية، بينما تسعى تركيا، على النقيض، إلى تجنب المخاطرة، حسبما يرى بخاري، الذي خلص إلى أن إيران أجبرت الأتراك، من خلال حماس، على اتخاذ موقف لم يكونوا يخططون لاتخاذه، مشيرا إلى أن تركيا “ستكافح لتحرر نفسها من فخ إيران” على حد تعبيره.
——————————
بشار الأسد مضرب المثل في إسرائيل
—————————–
بيروت تُتابع غزة: غضب وحذر/ المعتصم خلف
الوجوه المذهولة قادمةٌ من أمام الشاشات بعيون ممتلئة بالحزن، لتلبي الدعوات التي انتشرت للتظاهر والاحتجاج في الشوارع الرئيسية والساحات العامة لوسط بيروت ومداخل المخيمات الفلسطينية، وإدانة الإبادة الجماعية التي يتعرض لها أهالي قطاع غزة المحاصر. مئات النساء والرجال يهتفون بأعلى أصواتهم، يدينون الجريمة المستمرة والتطبيع العربي والصمت العالمي، يطالبون بفتح معبر رفح، ويحيون فلسطين وأهلها.
المشهد يتكرر منذ بداية العدوان على غزة، المظاهرات والوقفات الاحتجاجية ورسائل الإدانة الرسمية، لتشملَ حالةُ الغضب والتضامن أشكالاً ومستويات جديدة للاحتجاج لم تشهد بيروت مثلها منذ سنوات نصرةً للقضية الفلسطينية، وذلك بالتزامن مع جدال أدى لانقسام الشارع حول احتمالات دخول حزب الله في المعركة.
القصف مستمر على غزة، والاحتجاجات أيضاً
في اليوم الخامس من العدوان على غزة، انطلقت أولى الدعوات من الناشطين للتوجه نحو السفارة المصرية، وتلاه في اليوم التالي تجمعٌ أمام مدخل مخيم مار الياس للتظاهر.
الأعداد كانت تزداد أمام السفارة المصرية، بينما أحاول أنا وأصدقائي إجراء اتصالات في محاولات متكررة للاطمئنان على أصدقائنا وعائلاتهم في غزة. محاولات فاشلة للاتصال مع القطاع المحاصر، بينما أصوات الهتاف تعلو من حولنا، تطالب بفتح معبر رفح وفك الحصار عن القطاع الذي قطعت إسرائيل عنه الماء والكهرباء والمساعدات، لتبدأ بعدها جولات من القصف الوحشي.
ارتبطت وتيرة التظاهر بشكل أساسي بتصاعُد الأحداث في غزة، وبمدى تفاعل المجتمع الدولي والعربي معها، لتنفجر على شكل غضب عارم في شوارع بيروت ومخيماتها بعد ساعات من مجزرة المشفى المعمداني في قلب مدينة غزة، والتي راح ضحيتها 500 شهيد. لم تكن المجزرة نقطة تَحوُّل في مسار العدوان على غزة فقط، بل أيضاً في المزاج الشعبي المتضامن وقدرته على التفاعل مع الأحداث. لم تهدأ الهتافات المنددة بالاحتلال والداعمة لفلسطين وغزة حتى ساعات متأخرة من الليل في ساحات وشوارع وسط بيروت، وفي شارع رياض الصلح وبشارة الخوري حتى كورنيش المزرعة ومحلة البربير وبرج أبي حيدر، وكذلك طريق الجديدة التي دعت لتجمع فوري أمام الملعب البلدي.
انتهت تلك التحركات بمواجهات مع قوى الأمن اللبناني أمام السفارتين الأميركية والفرنسية، الدولتان الداعمتان لإسرائيل في حربها على قطاع غزة. تقول مريم، المشاركة في المظاهرات والناشطة في المجتمع المدني اللبناني، للجمهورية نت: «هاد مش بس تضامنّا، هذا غضبنا كمان. بالتأكيد لازم نتضامن ولكن من واجبنا كمان نراكم هاد الغضب، مش بس على إسرائيل بل على مين بيدعمها وبيحميها وبيغطي جرائمها. وغضبي الشخصي الأكبر، على كل مين قسَّمنا وتركنا بهشاشتنا ما فينا نقدم لفلسطين أكثر من التنديد بعد استشهاد أصدقاءنا بغزة».
أينما ذهبتَ اليوم في بيروت، الحمرا، الجميزة، مار مخايل، كورنيش المزرعة، لا يكاد يخلو المشهد من الكوفيات الملفوفة على عجل حول الأكتاف. متظاهرون عائدون إلى بيوتهم، أو ذاهبون نحو تحرُّك جديد. إنه غضبٌ جعل من المخيمات الفلسطينية والساحات العامة والشوارع الرئيسية للعاصمة نقاطاً للتجمُّع والتظاهر، بعضها بناءً على دعوات متعددة من ناشطين وجمعيات وأحزاب وحركات شعبية، متفقة بشكل أساسي على التنديد بالجريمة والتضامن الكامل مع أهالي غزة، وأخرى شعبية باتت معتادة نسبياً لعشرات الشبان على دراجات نارية يحملون الأعلام الفلسطينية.
كرَّسَ لبنان الرسمي الأيام التي تلت المجزرة للتضامن مع غزة والتنديد بالجريمة، مع إقفال لجميع الجامعات والمدارس ودعوات من البلديات لوقفات احتجاجية، كما أصدرت نقابات ومؤسسات أهلية ومدنية دعوات للمشاركة في الإضراب العالمي من أجل فلسطين، ودعا وزير الصحة فراس أبيض إلى وقفة احتجاجية أمام وزارة الصحة، شارك فيها الأطباء والممرضون، وكذلك رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي الذي قال: «أصبحنا اليوم في شريعة الغاب فالقوي يأكل الضعيف والمجتمع الدولي يقف مع الجلاد ورسالتنا نقولها من باب الإنسانية». بينما تجمّعت النقابات الفنية أمام مقر الإسكوا (لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا)، بالإضافة إلى نقابات التعليم والعمل والمهن الحرة.
كذلك خرجت مظاهرات حاشدة من أغلب مساجد بيروت للمشاركة في «جمعة الغضب» التي أعلن عنها خالد مشعل، الرئيس السابق للمكتب السياسي لحركة حماس، والتي تقاطعت من دعوة «حركة الأمة» التي انطلقت مظاهرتها من مسجد أحمد كفتارو في منطقة المصيطبة. في حين شارك المئات في دعوة منظمة التحرير الفلسطينية للتجمع أمام الملعب البلدي، ونظَّمَ طلاب الجامعات والناشطون العديد من المظاهرات، وأغلقت بعض المقاهي والمطاعم والمحال أبوابها للمشاركة في الإضراب. كما أدانَ مجلس كنائس الشرق الأوسط في بيانه الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، معتبراً أنه «لم يَعُد خافياً على القاصي والداني أن ما يتعرض له الشعب الفلسطيني في غزة ليس رد فعل عسكري على فعل عسكري، وإنما إبادة جماعية وتطهير عرقي».
حتى الآن لم تتوقف دعوات الناشطين للتظاهر أمام السفارة المصرية للمطالبة بفتح معبر رفح، وكذلك أمام السفارتين الفرنسية والألمانية رداً على دعمهما المستمر للاحتلال الإسرائيلي، ومحاولات السلطات في البلدين قمع التحركات الداعمة لفلسطين على أراضيهما.
أدّى القصف الوحشي المتصاعد على قطاع غزة إلى استمرار التظاهر، وإلى تجاوز الخلافات الإيديولوجية والسياسية والدينية بين التوجهات المتعددة للمتظاهرين والناشطين والمنظمات والحركات والتيارات الفلسطينية واللبنانية، وذلك نظراً للوضع الإنساني الصعب في قطاع غزة. جاء الهتافات منددة بـ«التطبيع العربي» مع إسرائيل و«التنسيق الأمني الذي تقوم به السلطة الفلسطينية»، معلنة كامل التضامن مع غزة وأهلها وداعية لإنهاء الاحتلال ومؤكدة على حق المقاومة الشعبية ضده. وعلى عكس المعتاد في العاصمة بيروت، سهَّلت القوى الأمنية حركة المتظاهرين، لكنها نصبت حواجز أمنية تمنع دخول مسيرات الدراجات النارية إلى مناطق في العاصمة يُحتمل أن تشهد توترات أمنية نتيجتها.
وقالت منّصة أخبار الساحة، التي تعمل على تغطية وأرشفة التحركات والاحتجاجات، للجمهورية نت: «الاحتجاجات كثيفة جداً وتجاوزت الناشطين لتشمل جميع أطياف المجتمع، واعتمدت أشكالاً جديدة مثل التوجه للسفارة الفرنسية والألمانية، والاحتجاج أمام السفارة المصرية، وأمام بعثة الاتحاد الأوروبي والإسكوا، وتنوعت الأساليب مثل الإضراب الذي شارك به التجار والجمعيات والنقابات».
منذ بداية التصعيد، كانت المخيمات الفلسطينية ومداخلها الرئيسية في حالة تظاهر مستمر، في فعل سياسي شعبي يُعبِّر عن تكاتف عفوي ولحظي، دعا من خلاله المتظاهرون إلى فك الحصار عن غزة، موجهين نداءات تطالب بالتحرك الدولي وتندد بالتطبيع العربي وتهتف ضد الاحتلال. وقد كانت المظاهرات في المخيمات مساحة للاجئين السوريين للتعبير عن غضبهم، إذ أصبحت ملجأهم بعد حملات الترحيل والتضييق والعنصرية الأخيرة.
«مو نحن مثلهم شفنا موت»؛ بهذه الكلمات بدأت أم محمد كلماتها عندما سألتُها عن سبب مشاركتها في إحدى المظاهرات المتضامنة مع غزة: «مو هوي ما في أصعب من أنو تموت وما حدا يسأل عنك. يلّي عم يصير إجرام، صعب الموت تحت القصف، والله صعب، كنت عم شوف الفيديوهات على موبايلي وأتذكر أهلي يلي ماتوا بسوريا، وأبكي. أجيت عالمظاهرة لأنو بعرف أديه صعب يلي عم يصير بغزة».
الحرب التي لا ينتظرها أحد
منذ الأيام الأولى للعدوان على غزة لم يغب السؤال السياسي والعسكري بشأن احتمالية فتح الجبهة الشمالية لإسرائيل من قبل حزب الله. ما زالت وتيرة القصف المتبادل منضبطة، لكنها لا تُلغي احتمالات الحرب المفتوحة خاصة في حال الاجتياح البري لغزة، وهو ما زاد من وتيرة التصريحات الرسمية والتحركات الداخلية والخارجية التي أعلن عنها رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي في بيان قال فيه: «الاتصالات الدبلوماسية التي نقوم بها دولياً وعربياً واللقاءات المحلية مستمرة، في سبيل وقف الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان وجنوبه تحديداً ومنع تمدد الحرب الدائرة في غزة إلى لبنان»، وذلك بالتزامن مع تهديدات مستمرة من الجيش الإسرائيلي حول مدى خطورة تورط لبنان في حرب مُدمِّرة.
ورغم التعاطف والتضامن الواسع والإدانة المستمرة للوحشية الإسرائيلية ضد أهالي قطاع غزة، لكن أسئلة تورط حزب الله في حرب مع إسرائيل قسمت الشارع بشكل جذري، وهو ما بدا واضحاً إعلامياً في التقارير التلفزيونية والصحفية. يبدو واضحاً أنها الحرب التي لا ينتظرها أحدٌ في لبنان، ورغم التأكيد الدائم من جمهور حزب الله على استعدادهم نفسياً واجتماعياً واقتصادياً، إلا أن الجميع يدركون أن نتائج المعركة ستكون كارثية، خاصة أنها سوف تأتي في حال اندلاعها ضمن ظروف اقتصادية وسياسية معقدة جداً، بينما الانهيار الاقتصادي أثَّرَ بشكل مباشر على واقع الخدمات والقطاعات الصحية والمديريات العامة للدفاع المدني. ولعلّ هذا ما دفع وزير الخارجية اللبنانية عبدالله بو حبيب إلى إبلاغ دول غربية برغبته في أن «تعلن إسرائيل وقفاً لإطلاق النار خلال 48 ساعة للنظر في إمكانية احتواء التصعيد مع المقاومة في جنوب لبنان».
بعض المظاهرات يدعو لها ناشطون مناهضون للنظام الطائفي في لبنان، ومظاهراتهم هذه تخلو من هتافات التأييد أو النقد لحزب الله على حد سواء، ولكن في الحلقات التي تتشكل قبل وبعد انتهاء المظاهرات، لا تختلف آراؤهم كثيراً بشأن الموقف من حزب الله. يقول أحد هؤلاء الناشطين، وقد فضّل عدم ذكر اسمه: «معارك حزب الله تخضع لمصالح وحسابات إيرانية بالدرجة الأولى، لذلك من الصعب أن أتوقع، بعد كل ما فعله الحزب في العشر سنوات الأخيرة في المنطقة، أنه سيخوض معركة من أجل الشعب الفلسطيني، فالتحرك الوحيد للحزب كما أراه سيكون في حال تعرضت مصالحه أو مصالح إيران للخطر المباشر».
تعيش الفئات المهمشة والهشة في المخيمات خوفاً متراكماً من الحرب، التي تقترب احتمالاتها بدون أي استعدادات رسمية من المنظمات أو الفصائل الفلسطينية، وهذا ما يُنذر بوضع كارثي على جميع الأصعدة قد تعيشه المخيمات الفلسطينية التي تضم اليوم لاجئين سوريين أيضاً، خاصة بعد موجة الترحيلات الأخيرة والحملة العنصرية ضدهم.
رغم المظاهرات والوقفات التضامنية ورسائل الاحتجاج المستمرة، إلا أن أهالي المخيمات يعيشون غضبهم وحماستهم الشخصية وسط أسئلة كبيرة حول أوضاعهم الإنسانية ومدى جاهزيتهم الاقتصادية والخدماتية في حال اشتعال جبهة الجنوب وتعرض المخيمات الفلسطينية لقصف إسرائيلي بحجة ضرب الفصائل الفلسطينية، خاصة بعد التقليصات الأخيرة للدعم من الأونروا والأمم المتحدة، وشح دعم المؤسسات غير الحكومية.
عن أوضاع المخيمات واستعداداتها في حال المواجهة مع إسرائيل، تحدّثت الجمهورية.نت إلى الوليد يحيى، المحرر المختص بشؤون المخيمات الفلسطينية في موقع بوابة اللاجئين الفلسطينيين: «تعاني المخيمات اليوم من أزمة بنى تحتية حقيقية تعيق حياة اللاجئين. ينهار القطاع الصحي مع التقليصات المستمرة للدعم، ولا نملك اليوم إلّا عيادات صغيرة. الدفاع المدني مُهدَّد بالإغلاق حتى الآن، ونحن غير جاهزين لمواجهة كارثة حرب حالياً. حتى لو لم تُقصَف المخيمات، سيكون لدينا أزمة غذائية كارثية على الأهالي فيها لأنها تعيش على المعونات، وإذا اندلعت الحرب وانسحبت المؤسسات غير الحكومية سوف نواجه فراغاً هائلاً. سوف تكون النتائج كارثية؟».
«جاهزين لشو!! أنا من دون حرب مش ضامن أضل مع ولادي لآخر الشهر»؛ لم يكن ردّ أبو خالد هذا على سؤالنا بشأن احتمالات الحرب منفرداً أو معزولاً، بل هو يعبر أيضاً عن مئات العائلات السورية التي تعيش في المخيمات الفلسطينية. أبو خالد أحد اللاجئين السوريين الذين لجؤوا إلى مخيم شاتيلا للاجئين الفلسطينيين تجنباً للحملة التي تشنها السلطة اللبنانية.
مازال الغضب مستمراً في شوارع بيروت حتى وقت كتابة هذا التقرير. عشرات المظاهرات على دراجات نارية تمرّ من أمامنا أنا وأبو خالد الجالسَين على طرف مقهى شعبي صغير. يُلقي أبو خالد التحية عليهم من بعيد، بينما أحاول أن أسأله: «ماذا سوف يحدث لو اندلعت الحرب وتم قصف المخيمات التي تأويكم؟»، لم يتردد أبو خالد وهو يقول: «رح نموت، إذا مو من القصف من الجوع، متل ما عم يصير بغزة هلأ ومتل ما صار معنا بسوريا، وبالنهاية رح يقول إعلامنا أنو انتصرنا، ورح تروح علينا وعلى ولادنا».
موقع الجمهورية
———————
حاشية على ما قالته وزيرتان إسبانية وإماراتية/ عمار ديوب
أعلنت وزيرة الحقوق الاجتماعية الإسبانية بالإنابة إيوني بيلارا موقفاً حادّاً من الكيان الصهيوني، وحثت دول الاتحاد الأوروبي على قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل وفرض الحظر على الأسلحة وعقوبات اقتصادية وتقديم رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو، وجميع القادة السياسيين الذين قصفوا المدنيين في غزّة، إلى المحكمة الجنائية الدولية. ووصفت ما تقوم به إسرائيل بجرائم حرب، وإبادة جماعية مبرمجة، واتهمت الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بتشجيع إسرائيل على ممارسة سياسة التفرقة العنصرية والعدوان. بينما، وعكس ذلك، أعلنت الدول الـ27 الأوروبية في بيان مشترك أنّها تدين حركة حماس، ووصفت هجماتها على إسرائيل بالإرهابية والعنيفة، كما الموقف الأميركي تماماً، ورفضت مجتمعة وقف إطلاق النار والعدوان.
أما وزيرة الدولة والتعاون الإماراتية ريم الهاشمي، فقد قالت في مجلس الأمن إن هجمات “حماس” في 7 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي بربرية وشنيعة، وطالبت الحركة بالإطلاق الفوري وغير المشروط للأسرى. وحين تنعقد أيّة مقارنة، نرى أن تصريحات الهاشمي تتطابق مع اتهامات دول الاتحاد الأوروبي لـ”حماس”، بينما تعدّ تصريحات الوزيرة الإسبانية، الشجاعة، أقوى الأصوات عالميّاً، بل وعربيّاً، لمواجهة الدولة الصهيونية في هذه اللحظة، وهو ما يجب أن تقتدي به الدول العربية، ولا تكتفي بالتنديد بالعدوان والمطالبة بإيقاف النار وضرورة إدخال المساعدات وإنهاء الاحتلال. أي يجب قطع كل العلاقات الدبلوماسية مع دولة الاحتلال، وطرد السفراء من القاهرة وأبوظبي والمنامة وعمّان والرباط. وبالتالي، يصبح مبرّراً، وبسبب همجية الدولة الصهيونية وعنصريّتها وفاشيّتها، ورفضها كل الأصوات المطالبة بإيقاف العدوان وإدخال المساعدات، القيام بقطع تلك العلاقات.
مهم وصحيح رفض الدول العربية التهجير من غزّة والتنديد بالعدوان والتأكيد على ضرورة إنشاء دولة الفلسطينية في الأراضي المحتلة في 1967، كما أكّد وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي، في الجلسة الطارئة للأمم المتحدة، وبيان وزراء الخارجية العرب التسعة. ولكن اتخاذ خطوات سياسية قوية ضد العدوان، وضد الاتحاد الأوروبي والإدارة الأميركية، والتهديد بقطع كل العلاقات في هذه الآونة، هو الضروري، حيث تتشارك الدول الغربية بما يشبه الحلف مع “إسرائيل” في ذلك العدوان، وقد اقترح الرئيس الفرنسي تشكيل حلف دولي ضد “حماس”، وهناك خطة أميركية لتجفيف مصادر تمويل “حماس”! الإدارة الأميركية والاتحاد الأوروبي يرفضان تبنّي قرارٍ دولي من مجلس الأمن بإيقاف العدوان وإطلاق النار وبدء التفاوض أو مؤتمر دولي لحل القضية الفلسطينية، بل وتصرّح الإدارة الأميركية بأن إيقاف إطلاق النار لم يحن موعده بعد. وفي هذا الوقت، تجاوز عدد الشهداء سبعة آلاف، والجرحى 16 ألفاً، وجرى تدمير أكثر من 180 ألف وحدة سكنية.
المشكلة في ضعف الموقف العربي، وهذا ما تعتبره الدولة الصهيونية صكّاً قانونياً باستمرار المذبحة في غزّة، وفي الضفة الغربية، تجاوز عدد الشهداء في أسبوعين المائة. ولهذا لا تجد إسرائيل مبرّراً لتهديد الدول العربية، وتتركّز تصريحاتها ضد إيران ومليشياتها في المنطقة، وبأنها ستعيد لبنان إلى ما قبل العصر الحجري. وتتحدّث بعض الأخبار أنّها هدّدت الرئيس السوري بتصفيته. وما زالت المناوشات مستمرّة بين حزب الله و”إسرائيل”، وسقط له أكثر من 47 قتيلاً، وهناك تقديرات عن إمكانية دخول الحزب الحرب في حال تفاقمت الأمور في غزّة، والمباشرة بالغزو البري الموسع، أو في حال تصاعد الخلاف الأميركي الإيراني، لا سيما أن الخطاب يتشدّد من الجهتين، والرسائل ترسل عبر المناوشات العسكرية في سورية والعراق واليمن.
ولا يعبّر حديث الوزيرة الإماراتية في مجلس الأمن عن موقف الدول العربية، حيث لم تنتقد أي عاصمة عربية حركة حماس أو عملية طوفان الأقصى بشكل مباشر، وظلّت الانتقادات تتعلق برفض مقتل المدنيين من الطرفين. كما أن موقف الوزيرة الإسبانية لا يعبّر عن موقف الدول الأوروبية، لكن التحالف الحاكم في هذا البلد يشارك في التظاهرات في إسبانيا تنديداً بالعدوان الصهيوني، وتتعاظم التظاهرات في أوروبا وأميركا، ويشارك فيها مثقفون وفنانون وسياسيون ضد العدوان ذاته. ويربط التيار الأوروبي والأميركي الرافض للعدوان ذلك بالحصار والاحتلال والاستيطان والاقتحامات المستمرّة للبلدات وللمسجد الأقصى بالتحديد، واعتقال المدنيين وقتلهم، وكذلك بالتمييز العنصري الصهيوني، وضرورة إيقاف العدوان مباشرة. وهناك تيار عربي، محدود، يكرّر الموقف الخاطئ الذي عبرت عنه الوزيرة الإماراتية ريم الهاشمي، ويبالغ في إعلانه بوقاحة، فيتبنّى مواقف الكيان الصهيوني ذاته في اجتثاث “حماس”، ويرى المشكلة الفلسطينية كلّها في “حماس”، بينما الصهاينة والفلسطينيون يفضلون السلامّ!.
لم تكن مشكلة غزّة حركة حماس أبداً، كانت دائماً مشكلة الاحتلال الاستيطاني، ونظام الأبارتهايد في الكيان الصهيوني، وهو بالضبط ما أفشل كل اتفاقيات التطبيع بدءا بمصر، وحتى الاتفاقيات الإبراهيمية، حيث لم يعط الفلسطينيون حقوقهم في أراضي الـ67، وأَفشل بشكل قاطع اتفاقيات أوسلو، حتى أصبحت حكومة رام الله حكومة تنسيقٍ أمنيٍّ لاعتقال المناضلين ورافضي هذا الكيان، وربما لسلطة أوسلو. إن عدم إقامة دولة فلسطينية هو ما منع العرب، وفي مقدمتهم المصريون، من إقامة علاقات طبيعية مع هذا الكيان. ولهذا تخصّ كل اتفاقيات التطبيع الأنظمة، ومن أجل حمايتها، وضد مصلحة الشعوب العربية، وضد الفلسطينيين.
ليس موقف الوزيرة الاسبانية، وكل ما يقول كلامها، أهوج، أو عاطفياً، أو ميّالاً إلى العنف، ويرفض الحل العادل للقضية الفلسطينية أو يفضّل السلاح، أو ليس لديه انتقادات على “حماس”. موقفها دقيق لجهة مواجهة العدوان الحالي؛ ففي لحظة الحروب هناك سياسات، وفي لحظة السلم سياساتٌ أخرى؛ عربياً، هناك ضرورة لموقفٍ رافضٍ للعدوان، وإيقاف كل أشكال العلاقات واتفاقيات التطبيع، وتهديد الإدارة الأميركية والأوروبية بقطع العلاقات الاقتصادية وسحب السفراء مثلاً.
رخصة الإبادة الجماعية الجارية للفلسطينيين، والمعطاة من الإدارة الأميركية والأوروبية تستدعي ما ورد أعلاه، والتأكيد على أن الحل الوحيد للقضية الفلسطينية هو تفكيك دولة الاحتلال وإيجاد حل عادل وديمقراطي للقضية الفلسطينية، للعرب ولليهود بآن واحد. هل هذا منطق طوباوي؟ بالتأكيد لا، ولكن، وفي حال صعوبة تحقيق ذلك، تجب إعادة تأكيد ما اتفقت عليه الدول العربية، أي مبادرة السلام العربية المعلنة في 2002، وهناك عشرات القرارات الدولية لحل القضية، وهناك إعادة تطبيق اتفاقية أوسلو. ومن دون ذلك، يجب السير بقطع كل العلاقات مع الدول الداعمة للكيان الصهيوني، كي يبدأ الاعتراف بالمشكلة، والتفاوض على حلّها.
العربي الجديد
———————-
الدور التكاملي لقضيتيْ فلسطين وسوريا/ حسن النيفي
منذ اندلاع شرارة عملية (طوفان الأقصى) في السابع من شهر تشرين الأول الجاري، انفلت العنف الصهيوني من جميع عقالاته ولم يعد يستوقفه أي رادع قيمي سواء أكان إنسانياً أو قانونياً، ولعل هذا المسار المتوحّش هو الأكثر تماهياً مع طبيعة دولة إسرائيل التي نشأت وتنامت على نهج الاستئصال القائم على القتل واستمراء الجريمة في أبشع تجلياتها قذارةً. كما أنه لا غرابة في أن يتزامن ارتفاع وتيرة التوحش الصهيوني مع استمرار الشهوة العارمة لمزيد من التوحّش الموازي لنظام الأسد، فمنذ بدأ الطيران الإسرائيلي باستهداف السكان المدنيين في غزة، بدأ نظام دمشق حريصاً على زيادة منسوب العدوان من خلال طائراته وقذائف المدفعية باستهداف مدينة إدلب وأريافها إضافة إلى ريفي حلب وحماة، كما بدا حريصاً على أن تكون مشاهد الدمار وإزهاق الأرواح متماثلة سواء في غزة أو في الشمال السوري.
مسألة التناغم الأسدي الإسرائيلي في استهداف الشعبين السوري والفلسطيني لم تعد استنتاجاً مُستمدّاً من تحليلات السياسيين أو من انطباعات آنية عابرة، مثلما لم تكن أيضاً وليدة الصدفة أو ثمرة لتقاطع ظروف وأحداث محدّدة، بل الأدقّ أنها باتت حقيقة تؤكدها سيرورة تاريخية مليئة بالوقائع والأحداث التي أفصحت باستمرار عن ترابط المصالح بين نمطين من التوحّش كلاهما لا يجد مقوّمات وجوده ودوام استمراره في السلطة إلّا من خلال إمعانه المستمر في الإجرام بحق الشعوب، إذ يدرك الفلسطينيون بجميع انتماءاتهم الفكرية والسياسية أن التنكيل الذي طالهم من نظام دمشق منذ أواسط سبعينيات القرن الماضي، أي منذ مجازر تل الزعتر ومروراً بمجازر مخيمي البداوي ونهر البارد، وصولاً إلى مجازر مخيم اليرموك ومجزرة التضامن، لم يكن بأقلّ فداحةً ومأسويةً عما ارتكبته قوات الكيان الصهيوني بحق أهل فلسطين من جرائم، كما يدرك الفلسطينيون أيضاً أنه ما من نظام عربي مارس عليهم الابتزاز وحاول الاستثمار بقضية الشعب الفلسطيني كنظام الأسد، تماماً مثلما يدرك السوريون أن سجلّ الإجرام الأسدي لا يبدأ من آذار عام 2011، وإنما التداعيات المأسوية لمجازر حماة وسجن تدمر وحلب وجسر الشغور ما تزال قائمة حتى هذه اللحظة، وأن جميع ما ارتكبه بشار الأسد بحق السوريين من فظائع إنما هو نتيجة لاستمرار المنهج الاستئصالي الذي انبثق مع نشوء الحكم الأسدي في بداية سبعينيات القرن الماضي.
لعله من الصحيح أن الحديث عن تماثل التوحّش بين حكم الصهاينة والحكم الأسدي لم يعد ينمّ عن كشف جديد، أي لم يعد القصد منه التدليل على علاقة تماهٍ جديدة بين طرفين مجهولين، إلّا أنه في الوقت ذاته لا يمكن تجاوز هذه المسألة باعتبارها تجسيداً لمفصلٍ نضالي شديد الأهمية بين قوى التحرر للشعبين السوري والفلسطيني، وهذا يعني أن التجلّي الناصع لتخادم المصالح بين كياني الأسد وإسرائيل واغتصابهما معاً لحقوق الفلسطينيين والسوريين إنما يوجب على قوى التحرر الوطني في كلا البلدين أن يجدا في التخادم الأسدي الصهيوني منعطفاً نضالياً جديداً ليس بالضرورة أن يكون متماهياً في التنظيم والإدارة والاستراتيجيات العملية والميدانية التي تحكمها الجغرافيا والمعطيات السياسية المحايثة لكل قضية، بل المعني في ذلك هو تكامل التجربتين النضاليتين لشعبي فلسطين وسوريا، باعتبارهما حركتي تحرر تسعيان للدفاع عن حقوق وجودية متماثلة، إذ لا يختلف المسعى الإسرائيلي نحو إبادة سكان غزة أو اقتلاعهم من أرضهم وبيوتهم ورمي من تبقى حياً منهم إلى مصر أو الأردن، عن المسعى الأسدي في صنيع لا يقل شناعة عن نظيره الإسرائيلي حين طرد سكان حلب الشرقية والغوطة وبلدات الريف الدمشقي ودرعا من بلداتهم وبيوتهم، إذ قام بحشر أكثر من أربعة ملايين مواطن سوري في الشريط الشمالي المتاخم للحدود التركية، وها هو اليوم يجعل من مخيماتهم هدفاً ثابتاً لطائراته وقذائف مدفعيته التي تحصد كل يوم عدداً من أرواحهم.
ربما تجيز لنا هذه الإشارات الموجزة عن تماثل المسعيين التحرريين لشعبي فلسطين وسوريا، أن نشير بإيجاز أيضاً إلى أن الدعوة إلى تكامل التجربتين النضاليتين غالباً ما تصطدم بمفارقات مؤلمة لدى كل من السوريين والفلسطينيين، وهي ذات صلة بتشظيات القوى الوطنية وغياب المشروع الجامع وتعدد الولاءات الإقليمية والدولية ودور النزعات الإيديولوجية في تغييب حالة الإجماع الوطني، كل هذه الأمور وسواها الكثير لا يمكن إنكار دورها الكابح لأي مسعى نضالي تحرري، ولكن ما هو ناصع للعيان أيضاً أن جميع هذه الشروخات التي لم تكن حالة مستحدثة لدى القوى الفلسطينية، إلّا أن تأثيرها أو انعكاساتها السلبية تتقلّص أو تزول إلى حدودها الدنيا حين تبدأ المواجهة الميدانية لقوات الاحتلال الإسرائيلي، إذ لا يستطيع أحد إنكار الفجوة الواسعة بين حركة حماس مثلاً وبقية القوى الفلسطينية، ولكن معركة غزة تجعل الجميع يدرك أن الخطر الوجودي الذي يهدد الجميع هو قوات الاحتلال الصهيوني، وهذا ما يدعو جهود الجميع أن تتلاقى في المعركة بمواجهة حرب الإبادة الإسرائيلية، في حين أن المشهد السوري – على الرغم من مأساويته – لا يبدو أنه قادر على إحداث أي تغيير في منهجية وسلوك قوى المعارضة الرسمية السورية، سواء العسكرية منها أو السياسية، فمنذ اشتداد وتيرة القصف الجوي على إدلب وريف حلب الغربي في السابع من الشهر الجاري، وعلى الرغم من تصاعد عدد الضحايا من المدنيين، فلم تشهد الجبهات التي تتموضع فيها جيوش كبيرة تابعة لسلطتي الأمر الواقع أي مبادرة ميدانية، باستثناء ردّات فعل خجولة تقع ضمن ما هو مسموح به من الحكومة التركية، أمّا على المستوى السياسي فيبدو أن الرئاسة الجديدة للائتلاف ما تزال في غمرة نشوتها بالنصر من جرّاء إبعاد خصومها وانتزاع الرئاسة بـ (الصرماية)، لذلك لا يبدو أن ما يجري في إدلب أو غزة، ولا كذلك ما يجري في السويداء من حراك شعبي عارم يعنيها، بقدر ما يهمها استكمال المشوار وإعادة إعمار ما تصدّع من علاقات، إذ بالتوازي مع الحرب القائمة على السوريين يقوم فريق الائتلاف بزيارة تل أبيض وبعض القرى والبلدات والاجتماع بالعشائر والمجالس ومواضع النفوذ الشعبي أملاً بحيازة ولاءات جديدة وسعياً إلى سماع وعود من الجماهير الوفية بمبايعةٍ إلى الأبد، بعيداً عما يجري في البلد.
————————–
“التكلفة القيمية” لجرائم الأسد في سوريا.. وانعكاسها في غزة/ إياد الجعفري
فيما يتم، شعبياً، وعلى نطاق واسع، تحميل دول عربية مُطبّعة مع الكيان الإسرائيلي، إلى جانب الدعم الغربي اللامحدود، خاصة، الأميركي، مسؤولية الجرائم التي يرتكبها الكيان ضد أهالي غزة، في هذه الساعات، يتحمّل، ما يُعرف بـ “محور المقاومة”، بالتوازي، مسؤولية مباشرة، في خلق ظروف نفسية وسياسية مؤهِّلة لارتكاب هذه الجرائم.
والمسؤولون في هذا “المحور”، هم تحديداً، كلٌ من نظام الأسد وحزب الله، ورأس المحور وقيادته، في طهران. إذ وبوحيّ من تجربة هذا “المحور” في تهجير جانب كبير من مناوئي النظام والثائرين عليه، وتغيير توزيعهم الديمغرافي، تحت بصر العالم أجمع، وفي عصرٍ تلاحق فيه الصورة الحدث بصورة مباشرة، بات قادة الكيان الإسرائيلي يراهنون على قدرتهم، في تكرار هذه التجربة، بغزة، في إحياءٍ لـ “الترانسفير” التاريخي الذي نفّذوه، قبيل نشأة الكيان، عام 1948، في زمنٍ كان الخبر فيه يصل متأخراً، خاضعاً لقيود الصور المحدودة، المضبوطة في معظمها، والنص المكتوب أو الإذاعي المُمسَك به، بقوة، من جانب صانعي القرار ومراكز القوى في العواصم الغربية.
في كانون الأول 2022، نشر مركز كارنيغي تحليلاً لأستاذة في جامعة كامبريدج، تُدعى بوركو أوزليك، تحت عنوان “التكلفة القيمية للتطبيع مع نظام الأسد”. حذّرت فيه من جهود إعادة تأهيل نظام الأسد، والضرر الذي تلحقه بمبدأ المساءلة، وانعكاس ذلك على مساعي المجتمع الدولي لمساءلة روسيا بخصوص انتهاكات مماثلة في أوكرانيا. أي أن عدم مساءلة الأسد، شجّعت روسيا على تكرار تجربته في أوكرانيا. أما من جانبنا، فنذهب إلى أبعد من ذلك، ونعتقد أن تجاوز جرائم النظام السوري التي عُرضت مراراً وتكراراً، على الهواء مباشرة، خلال العقد المنصرم، وصولاً إلى التطبيع معه، والإقرار ببقائه واستمراره، يخلق وحياً لأنظمة حكم أخرى، بالقدرة على الإفلات من العقاب، وتنفيذ سيناريوهات تطهير عرقي وتهجير نوعي للبشر. وذاك ما يحدث الآن في غزة. وإن كانت مسؤولية من تجاوزَ هذه الجرائم، كبيرة، في التسبب بتكرارها، فإن مسؤولية من ارتكب هذه الجرائم، أساساً، أكبر بمرات.
في بداية الحرب الإسرائيلية الشرسة على غزة، قالها الدبلوماسي والنائب السابق لوزير الخارجية الإسرائيلي، داني أيالون، صراحةً، وعلى الهواء مباشرةً، عبر الجزيرة الإنكليزية، إنه “أمر تم التفكير فيه ملياً”، وطرح سيناريو تهجير سكان غزة إلى سيناء، على أن تبني إسرائيل بالتعاون مع “المجتمع الدولي”، مدن لجوءٍ “مؤقتة”، مجهزة بالماء والطعام والبنى التحتية. وشدّد أنها “ليست المرة الأولى التي تم القيام فيها بمثل هذا الأمر”. مستشهداً بفرار السوريين من مجازر الأسد قبل سنوات، واستقبال تركيا لهم. وقال إن تركيا استقبلت “2 مليون منهم”. وهو عدد يماثل تقريباً عدد الفلسطينيين في غزة.
وهكذا يفكر قادة الكيان الإسرائيلي، من جديد، بتنفيذ سيناريو “ترانسفير” جديد للفلسطينيين. وهو الطرح الذي تجدد في العام 2000، في المؤتمر الذي عقده “المركز متعدد التخصصات” في هرتسليا. إذ طُرحت وثيقة أعدتها قيادات عسكرية وأمنية وسياسية إسرائيلية رفيعة المستوى، تتحدث عن “ترانسفير” جديد للفلسطينيين، كحلٍ في مواجهة التكاثر السكاني العربي.
ورغم أن “الترانسفير” شكّل أساساً للمشروع الصهيوني منذ مطلع القرن العشرين، لكن تنفيذه الفج والمباشر، لم يحدث إلا قبيل نكبة العام 1948. حينما نفّذت العصابات الصهيونية 25 مذبحة بحق الفلسطينيين، رافقتها دعاية “سوداء” روّجت لمذابح أخرى قادمة، مما دفع نصف مليون فلسطيني إلى الهرب.
في السنوات التالية لتأسيس الكيان، لم تنفّذ إسرائيل “ترانسفيراً” جديداً مباشراً. لكنها نفّذت أشكالاً “باردة” و”تدريجية” و”هادئة” منه. تقوم على التضييق على سبل حياة الفلسطينيين، وهدم البيوت ومصادرة المنازل، وتوسيع المستوطنات، بصورة دفعت مئات آلاف الفلسطينيين على مدى العقود التي تلت العام 1948، إلى النزوح من فلسطين، بالفعل.
لكن ذلك لم يكن كافياً في الفكر الصهيوني، فالخشية من النمو الديمغرافي السريع للفلسطينيين، تحديداً منذ العام 2000، أعاد إحياء أفكار “الترانسفير” المباشر، لترتفع أصوات عديدة داخل الكيان، للحديث عن سيناريوهاته المحتملة. وبقيت تلك الآراء حبيسة المؤتمرات والجدل الداخلي، في ضوء عدم إمكانية تكرار ما حدث من فظاعات مباشرة قبيل العام 1948، من جراء التطور الإعلامي ودور الصورة في نقل الحقيقة سريعاً، والخشية من انقلاب الرأي العام الغربي ضد الكيان.
إلا أن تجربة الأسد، الذي نفّذ “ترانسفيراً” بحق مناوئيه من السوريين، على الهواء مباشرةً، بصورة أدت إلى تهجير 5.5 ملايين سوري إلى خارج البلاد، أنعشت هذه الفكرة في أذهان القادة الإسرائيليين. إذ أغراهم توصيف “الانسجام” الذي رافقها.
ففي تشرين الثاني 2016، قال الأسد لصحيفة “بوليتكا” الصربية، إن المجتمع بات أكثر انسجاماً مما كان عليه قبل الحرب. يومها، أثار حديثه هذا موجة من السخرية، بوصفه انفصالاً عن الواقع. وقد يكون هذا التفسير لمقصد الأسد دقيقاً. لكن قد يكون هناك تفسير آخر، ربما. فـ “الترانسفير” كمصطلح، يُعرَّف بأنه يعني نقل سكان من منطقة سكنهم الأصلية إلى منطقة أخرى، بهدف إقامة منطقة تتمتع بانسجام سكاني من شعب أو عرق واحد. هل كان الأسد يقصد ذلك حقاً، حينما تحدث عن “الانسجام” الذي طرأ على المجتمع السوري، بعد حربه ضد هذا المجتمع؟ لسنا واثقين من الإجابة. لكن ما نحن واثقون منه، أن إسرائيل اليوم تعمل بوحي من تجربة الأسد، الذي نفّذ واحدة من أعتى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، بدعم من حزب الله ومن إيران، وعلى مرأى من العالم أجمع، وأفلت، حتى الساعة، من العقاب. فلمَ لا تكرر إسرائيل التجربة؟ هكذا يفكرون في تل أبيب الآن.
———————
إيران وأمريكا.. هل تتحول “نيران المضايقة” إلى مواجهة مباشرة؟
عندما أصدر الرئيس الأمريكي، جو بايدن أمراً الخميس الماضي بشن غارتين جويتين، كانت الأهداف في شرق سورية، لكن المتلقي المقصود لم يكن كذلك.
واستهدفت الغارات مستودع أسلحة ومخزن ذخيرة يتبعان لـ”الحرس الثوري” الإيراني، وقال مسؤولون أمريكيون إن الأخير استخدم قوات بالوكالة لتنفيذ سلسلة من الهجمات ضد القواعد الأمريكية في المنطقة.
ويورد تقرير نشرته مجلة “تايم” الأمريكية، اليوم السبت، أن “بايدن يأمل في إقناع طهران بإنهاء الصراع قبل أن تذهب الأمور إلى أبعد من ذلك”.
لكن التصعيد لمنع الأمور من المزيد من التصعيد يتطلب “لمسة حساسة”، في وقت يخشى بعض المراقبين في المنطقة أن “قادة إيران ليس لديهم مصلحة في الانسحاب الآن”، وفق المجلة الأمريكية.
ومنذ هجوم حماس المفاجئ على إسرائيل في 7 أكتوبر الحالي، انجذبت القوات الأمريكية بشكل متزايد إلى اشتباكات ساخنة مع قوات مسلحة ومدربة ومستشارة من قبل القادة في طهران.
وعلى مدى الأسابيع الثلاثة الماضية، شنت الميليشيات المدعومة من إيران 19 هجوماً بطائرات مسيرة باليستية على قواعد أمريكية في العراق وسورية، مما أدى إلى إصابة حوالي 21 جندياً أمريكياً.
وفي الأسبوع الماضي، فجرت سفينة تابعة للبحرية الأمريكية في البحر الأحمر صاروخاً بعيد المدى كان متجها نحو إسرائيل، وأطلقته القوات المدعومة من إيران في اليمن (الحوثيون).
ماذا وراء تصرفات إيران؟
يقول رايان كروكر، وهو دبلوماسي متقاعد وشغل منصب سفير في الشرق الأوسط إن “تصرفات إيران تهدف إلى جر الولايات المتحدة بشكل أعمق إلى صراع مباشر”.
ويضيف لـ”تايم” الأمريكية: “إذا نجح هجوم شنته الجماعات المسلحة الإيرانية في قتل أي جندي أمريكي، فإن بايدن سيكون تحت ضغط هائل للرد بقوة، مما يجعل الولايات المتحدة أقرب إلى حرب مباشرة مع طهران”.
ويتابع كروكر: “إذا حالف الحظ القوات المدعومة من إيران وقتلت 20 جندياً أمريكياً أيضاً، فستضطر الإدارة إلى القيام برد كبير، وفي هذه المجموعة المستهدفة يجب أن تكون أهدافاً داخل إيران نفسها”.
ويوضح ما سبق مدى السرعة التي قد يتحول بها الصراع الذي بدأ بهجوم “حماس” في غلاف غزة إلى حرب أوسع نطاقاً، مع عواقب مدمرة.
“في حالة تأهب”
والقوات العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط في حالة تأهب قصوى تحسباً لهجمات إضافية.
ونشر بايدن مجموعة حاملة الطائرات القوية “يو إس إس جيرالد فورد” في شرق البحر الأبيض المتوسط، في استعراض للقوة يهدف إلى منع الصراع في المنطقة من الانتشار إلى أبعد من ذلك، بين إسرائيل وحماس.
ويقول مسؤولون دفاعيون إن مجموعة حاملة طائرات أخرى، وهي “يو إس إس دوايت دي أيزنهاور”، تبحر باتجاه البحر الأبيض المتوسط، وستنتقل في النهاية إلى الخليج العربي، لتضعها في المياه قبالة سواحل إيران.
وإلى جانب مجموعات حاملات الطائرات، لدى الولايات المتحدة أيضاً طائرات متمركزة في قاعدة إنجرليك الجوية في جنوب تركيا، وأضافت طائرات مقاتلة إضافية إلى المنطقة.
كما أن مجموعة “باتان” البرمائية الجاهزة المكونة من ثلاث سفن، والتي تضم ألف جندي من مشاة البحرية، في حالة تأهب قصوى في مكان قريب.
وتوجد أيضاً قوات أمريكية متمركزة في قاعدة “عين الأسد” الجوية في العراق، وفي حامية التنف في سورية، للمساعدة في مواجهة تنظيم “الدولة الإسلامية” في المنطقة.
وكانت القوات الأمريكية في هاتين القاعدتين قد تعرضت، هذا الشهر، لهجوم متكرر من القوات المدعومة من إيران.
“رسالة نادرة”
وقبل ساعات من شن الضربات الأمريكية على منشآت “الحرس الثوري” في سورية استخدم بايدن القنوات الدبلوماسية، لإرسال رسالة نادرة مباشرة إلى المرشد الأعلى الإيراني، آية الله علي خامنئي.
وقال الرئيس بايدن في البيت الأبيض يوم الخميس: “إن تحذيري لآية الله هو أنهم إذا واصلوا التحرك ضد تلك القوات، فسوف نرد، وعليه أن يكون مستعداً”.
وأضاف وزير الدفاع لويد أوستن، في بيانه الخاص يوم الخميس، محذراً من أن “هذه الهجمات المدعومة من إيران ضد القوات الأمريكية غير مقبولة، ويجب أن تتوقف”.
وقال أوستن: “إيران تريد إخفاء يدها وإنكار دورها في هذه الهجمات ضد قواتنا”.
وتابع: “لن نسمح لهم. إذا استمرت هجمات وكلاء إيران ضد القوات الأمريكية، فلن نتردد في اتخاذ المزيد من الإجراءات اللازمة لحماية شعبنا”.
“مخاطر قادمة”
ويقول جوناثان بانيكوف، مدير مبادرة “سكوكروفت” لأمن الشرق الأوسط في برنامج الشرق الأوسط التابع للمجلس الأطلسي: “لقد قامت الإدارة حتى الآن بالأمر الصحيح”.
لكنه يضيف أن “المخاطر في هذه اللحظة الحالية تتجاوز مجرد قيام القادة على كلا الجانبين بتنظيم هجمات مستهدفة في المنطقة”.
ويتابع بانيكوف: “إن أكبر ما يقلقني هو احتمالات التصعيد غير المقصود”.
وأمضت إيران سنوات في تمويل وتسليح وتدريب الميليشيات في العراق وسورية واليمن، فضلاً عن دعم “حماس” في غزة و”حزب الله” في جنوب لبنان، الذي يمتلك ترسانة قوية من الصواريخ الباليستية التي يمكن أن تصل إلى عمق إسرائيل.
ويقول بانيكوف إن “وابل الصواريخ من حزب الله يمكن أن يقتل جنوداً إسرائيليين عن غير قصد، أو يُنظر إليه على أنه أكثر شدة مما كان مقصوداً”.
وقد يؤدي ذلك إلى إطلاق سلسلة من الأحداث التي سيكون من الصعب إيقافها، ويشير ذات المتحدث: “إنني أشعر بالقلق في المقام الأول بشأن احتمال أن ينتهي الأمر بالصراع الذي لم يكن يرغب فيه أي شخص”.
وكثيراً ما يتبادل “حزب الله” والجيش الإسرائيلي إطلاق النار على الحدود الشمالية لإسرائيل.
وحتى الآن، بينما تركز إسرائيل على غزة في جنوبها، لا توجد إشارة إلى أن إيران تريد من “حزب الله” أن يشن هجوماً كبيراً على الجناح الآخر لإسرائيل.
“ما يخيم على حافة الهاوية في المنطقة هو طموحات إيران لامتلاك سلاح نووي”.
وعندما تولى بايدن منصبه، حاول البدء في دعم الاتفاق النووي المصمم لتقييد تقدم إيران نحو القنبلة النووية التي ألغاها الرئيس دونالد ترامب، لكن تلك الجهود تعثرت.
ويقول كروكر، الدبلوماسي الأمريكي السابق لفترة طويلة: “أنا واثق من أن لديهم القدرة الداخلية على إنتاج سلاح نووي، لذا فإن الأمر ببساطة هو السؤال عما إذا كانوا سيقررون سحب الرافعة من ذلك وتطوير سلاح”.
———————-
جيجيك في غزّة: الراقص والضحية/ صبحي حديدي
جانب الكثيرون الصواب حين اعتقدوا أنّ سلافوي جيجيك، الفيلسوف والناقد الثقافي السلوفيني الشهير، قد بلغ ذروة قصوى في العروض الفلسفية البهلوانية حين «أفتى» بوجوب انتخاب الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، سنة 2018. لكنّ موقفه من العدوان الإسرائيلي الهمجي الحالي ضدّ قطاع غزّة وسكانه الفلسطينيين كان مناسبة جديدة للتأكد من أنّ جيجيك بدأ، ويستحق باضطراد، استعارة «إلفيس برسلي الفلسفة»، في إحالة إلى شخصية المغنّي الأمريكي الراحل المقترنة بالاهتزاز والنواس والتذبذب؛ ولجهة التحقّق الدائم لمنهجية الرجل في مزج فلسفة هيغل بالنكتة القديمة السلافية أو اليهودية، وخَلْط طرائق التحليل النفسي عند الفرنسي جاك لاكان بفيديوهات السخرية من الألبان والبوسنيين.
وثمة ما يُغضب بالفعل، أو هو بالأحرى أشبه بدعوة إغضاب مفتوحة، تبدأ من إلصاق توصيف «البربرية» بأفعال «حماس» وتنتهي إلى «التشدّد» لدى رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو؛ وبالتالي فإنّ هذا الخيار في المقارنة لن يرضي «جمهور» جيجيك على الضفتَين، الفلسطينية/ اليسارية والإسرائيلية/ اليمينية. الضحية الفلسطينية، التي تجاوزت أعدادها 7000 ثُلثهم على الأقلّ من الأطفال، مضيَّعة ومكمَّمة ومعوَّمة تحت هذه المقولة الفضفاضة من المقارنة الرخوة؛ وليس لأية خلاصة فعلية أن تبيّن الفارق بين القاتل الإسرائيلي الذي يقود القاذفة في سماء غزّة، والقتيل الفلسطيني على الأرض وفي المشافي والمخابز والمساجد.
فإذا غادر المرء أرض فلسطين واستعاد «فتاوى» جيجيك حول سوريا، مثلاً، كما تضمنتها مقالة شهيرة بعنوان «سوريا صراع زائف»، نشرتها صحيفة الـ«غارديان» البريطانية، فسيكون التالي هو الحصيلة عملياً: «حسناً، هنالك دكتاتور سيء يستخدم (كما زُعم) الغاز السامّ ضدّ سكان دولته ذاتها ـ ولكن مَن الذي يعارض نظامه؟ يبدو أنّ ما بقي من المقاومة الديمقراطية ـ العلمانية غارق الآن، كثيراً أو قليلاً، في فوضى المجموعات الإسلامية الأصولية». وفي المقابل، واستكمالاً للصورة الموازية، على جانب النظام، يتابع جيجيك: «سوريا بشار الأسد ادّعت أنها دولة علمانية على الأقلّ، ولهذا فلا عجب أنّ المسيحيين والأقليات الأخرى تميل اليوم إلى الاصطفاف معه ضدّ المتمردين السنة».
تلك كانت حصيلة لأنّ جيجيك التزم الصمت خلال 30 شهراً من وقائع الانتفاضة الشعبية السورية، حين كان الحراك الشعبي سلمياً تماماً وقبل لجوء النظام السوري إلى إطلاق غلاة الإسلاميين من السجون في ترخيص لتأسيس هذه أو تلك من التنظيمات الجهادية المسلحة؛ ثمّ خرج بـ«فورمولا» تبسيطية مسطحة وسطحية، أسوأ من الكليشيهات الأردأ التي ساقها النظام ذاته في توصيف المشهد السوري بعد آذار (مارس) 2011. وهي التوليفة التي تتيح له إغماض العقل عن حقيقة أنّ الأسد «علماني» زائف، وريث نظام قام على التزلف للأديان وتجنيد الطوائف واعتماد سياسات التمييز والتفريق والمحاباة، وبالتالي فهو ليس محض «دكتاتور سيء»، بل في عداد أشرس طغاة عصرنا.
ليس أقلّ فضائحية أنّ جيجيك أعاد النظر في أطروحاته السابقة، والمبكرة التي اقترنت بانتفاضتَيْ تونس ومصر تحديداً، حول الدور «التحرري» الذي يمكن أن يلعبه الإسلام السياسي. فهو، بصدد سوريا بالأمس وفلسطين اليوم، لا يرى ديناميات حضور التيارات الإسلامية في قلب قواعد شعبية لا تمارس التحزّب فقط، بل تنحرط فعلياً في مستويات شتى من الاجتماع السياسي والاقتصادي والتنظيمي؛ بمحاسنها ومساوئهاـ وبامتيازاتها ومظانّها.
وخذوا خاتمة التوليفة: «قد يبدو هذا طوباوياً، ولكنّ الصراعين [الإسرائيلي والفلسطيني] قطعة واحدة. في وسعنا، وعلينا بلا تحفظ، مساندة حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضدّ الهجمات الإرهابية. ولكن علينا أيضاً وبلا تحفظ أن نتعاطف مع الظروف اليائسة حقاً التي يواجهها الفلسطينيون في غزّة والأراضي المحتلة».
مساندة، إذن، مقابل تعاطف؛ حيث هذه الواجهة الأخلاقية، التبسيطية والابتسارية والاختزالية، لا تُسقط فقط الموازين الأوضح بين الحقّ والباطل والمسؤوليات الدنيا تجاه جرائم الحرب الإسرائيلية، وإنما تشدّد مجدداً على شخصية جيجيك: «الفيلسوف» الهزّاز الراقص أبداً.
القدس العربي
————————–
النظام السوري غير مستعد للانخراط بالحرب في حال توسعها خارج غزة/ منهل باريش
علمت «القدس العربي» أن النظام السوري أبلغ عدة دول «التزامه بعدم توسعة الحرب الجارية في غزة والحفاظ على الجبهة السورية هادئة ومنع حزب الله اللبناني وإيران استخدامها في حال امتداد الصراع خارج إسرائيل وغزة». وأفاد مصدر عربي أن وزير خارجية النظام، فيصل المقداد ورئيس مكتب الأمن الوطني اللواء علي مملوك أجريا عدة اتصالات على المستويين الدبلوماسي والأمني شملت كل من روسيا وإيران والإمارات العربية ومصر، إضافة إلى «حزب الله» اللبناني. وشدد المصدر على سعي النظام إلى تجنب شرر نيران المعركة. كما أبلغ طهران أن سوريا تعاني أوضاعا اقتصادية سيئة للغاية ولا يمكنها تحمل نتائج امتداد المعركة إلى أراضيها. وأضاف أن اللواء علي مملوك أبلغ قيادة الحرس الثوري الإيراني في سوريا بضرورة وقف هجماتها ضد إسرائيل انطلاقا من أراضي جنوب سوريا. ويأتي قرار النظام بعد توسع دائرة القصف الإسرائيلي لعدة مناطق في سوريا وخصوصا مطاري حلب ودمشق المدنيين الذين تستخدمهما طهران لنقل شحنات الأسلحة لـ«حزب الله» وباقي الميليشيات التابعة لها في سوريا.
ميدانيا، يشير القصف الصاروخي الذي انطلق من ريف درعا الغربي ليل الجمعة، إلى مناورة النظام وإيصال رسائل إلى إسرائيل تفيد برغبته بالنأي بالنفس عن التصعيد الحاصل وأن الاستهداف تقوم به الميليشيات الإيرانية وليست القوات السورية الرسمية، ويخشى النظام من رد فعل إسرائيلي عنيف ضده مع تطور الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط في مقبل الأيام بسبب العملية البرية التي بدأها الجيش الإسرائيلي ليل الجمعة ضد قطاع غزة جنوب فلسطين.
وكان الجيش الإسرائيلي قد أعلن صباح الأربعاء، أن مقاتلاته الجوية أغارت على «بُنى تحتية عسكرية ومدافع هاون تابعة للجيش السوري ردا على إطلاق صواريخ من سوريا باتجاه إسرائيل» الثلاثاء. والمكان المستهدف يتبع للواء 12 في جيش النظام قرب بلدة ازرع حيث يعتقد أن الميليشيات الإيرانية أطلقت منه صواريخ كاتيوشا باتجاه الجولان.
وفي سياق القصف الإسرائيلي، أعلنت وزارة النقل السورية، الأسبوع الماضي «خروج مطاري دمشق وحلب عن الخدمة جراء تعرضهما لقصف إسرائيلي متزامن». وهو القصف الثاني منذ بدء معركة «طوفان الأقصى» التي أطلقتها «كتائب القسام» الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية «حماس» في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الجاري.
القواعد الأمريكية في سوريا والعراق
وفي التصعيد المترافق مع حرب غزة، تعرضت القواعد الأمريكية في سوريا والعراق في عشرة أيام إلى 13 هجوما، وهو أكبر هجوم من ناحية العدد تتعرض له القوات الأمريكية خلال فترة قصيرة. أصيب خلال الهجمات 24 جنديا حسب ما نقلت شبكة «إن بي سي نيوز» عن القيادة المركزية، فيما أكدت وزارة الدفاع الأمريكية «البنتاغون» وقوع إصابات طفيفة إثر الهجمات.
ويبدو أن الجرحى اصيبوا في هجومين منفصلين بالطائرات المسيرة على قاعدة التنف السورية في 18 تشرين الأول (اكتوبر) الجاري وقاعدة عين الأسد غرب العراق، حيث تضم القاعدتان القوات الأمريكية وأخرين من التحالف الدولي للقضاء على تنظيم «الدولة الإسلامية».
وتتركز الهجمات على القواعد الأمريكية في العراق أكثر من سوريا، حيث جرى استهداف القواعد الأمريكية في العراق عشر مرات، مقابل ثلاث هجمات على القواعد الأمريكية في سوريا. وهو ما رصدته «القدس العربي» سابقا وأكده المتحدث باسم البنتاغون، باتريك رايدر.
وشملت الهجمات في سوريا إضافة إلى قاعدة التنف قرب مثلث الحدود السورية-العراقية-الأردنية، قاعدة حقل العمر النفطي وقاعدة حقل كونيكو للغاز وتقع القاعدتان على الضفة اليسرى لنهر الفرات أو ما يعرف محليا بمنطقة الجزيرة. وحصلت «القدس العربي» الأسبوع الماضي على معلومات خاصة تؤكد ان استهداف حقل العمر حصل بقذائف صاروخية وليس بالطائرات المسيرة. انطلقت الصواريخ من مناطق سيطرة النظام وحلفائه في مدينة دير الزور.
وتنتشر القوات الأمريكية في خمس قواعد رئيسية في سوريا هي: التنف والرميلان وكونيكو والعمر وقاعدة خراب عشق الواقعة على طريق «ام4» بين عين عيسى ومنبج وتتبع إداريا لمنطقة عين العرب (كوباني). وهي القاعدة التي انطلقت منها مروحيات قوات النخبة المعروفة باسم «دلتا» في الهجوم الذي أدى لمقتل زعيمي تنظيم الدولة الإسلامية ابو بكر البغدادي وخلفه ابو ابراهيم القرشي (عبد الله قرداش).
وأكد المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية باتريك ريدر أنّ «ميليشيات يدعمها الحرس الثوري الإيراني هي مَن نفّذت الهجمات ضد القواعد والقوات الأمريكية، وتحمل الهجمات بصمات إيران».
وعلق الرئيس الأمريكي جو بايدن، السبت أن الضربات الجوية في يوم 26 تشرين الأول (اكتوبر) جاءت بتوجيه شخصي منه، مشيرا إلى أن الضربات «استهدفت منشآت يستخدمها الحرس الثوري الإيراني ومجموعات تابعة له لأغراض عسكرية».
وتبنت ما تعرف باسم «المقاومة الإسلامية في العراق» الهجوم على قاعدة التنف بطائرتين مسيرتين، وذكر البيان الذي نشر فجر السبت على معرفات مقربة من الحشد الشعبي أن الطائرتين «أصابتا أهدافهما بشكل مباشر». وتناقل نشطاء محليون خبر استهداف القاعدة الأمريكية في تل كوجر بريف محافظة الحسكة بطائرتين مسيرتين ليل الجمعة.
من جهة أخرى، استمرت الميليشيات الإيرانية بإطلاق قذائف الهاون من مناطق تمركزها في ريف درعا الغربي، تحديدا من التلة الواقعة غربي بلدة تل الجابية العسكري (تعرف تل الجابية) وهو من التلال العالية المواجهة للجولان السوري، ويعتبر ضمن مجال تشكيلات اللواء 61 مشاة وهو أكبر الألوية المستقلة في الجيش السوري يتبع إداريا للفرقة الخامسة ويعد الأكبر انتشارا فهو يمتد بين وادي اليرموك جنوبا وصولا إلى حدود اللواء 90 في خان ارنبة حيث يعد اللوائين خط المواجهة الأول مع الجيش الإسرائيلي ويتكون اللواء من ثلاث كتائب مشاة (121- 23 ـ 26) وكتيبة مدفعية وكتيبة مضاد دروع وسرية الهندسة وسرية طبية. وتعتبر التلال منطقة النشاط الرئيسي لحزب الله والميليشيات الإيرانية وتعزز مواقعها في تل الجموع قرب تسيل أيضا.
من الواضح أن النظام السوري أدرك تماما سعي إيران إلى تطويق الحرب وعدم السماح لها بالانتشار خارج الحدود وأن ما تقوم به إيران من استخدام أذرعها للرد هو محاولة تحسين شروط التفاوض على حساب أهل غزة و«حماس». ويأمل الأسد من ذلك وقف استهداف مطاري حلب ودمشق المدنيين، دون ان يمانع استهداف مقرات الميليشيات أو شحنات الأسلحة الإيرانية في باقي المناطق، فأثر قصف المطارين أصبح ثقيلا عليه من ناحية توقف حركة الطيران وصورته أمام جمهوره وحاضنته.
————————–
العالم مجدداً أمام ضرورات القضية الفلسطينية/ عبد الباسط سيدا
موضوع استخدام الأماكن المقدسة مادة للتجييش والتعبئة والتسويغ والشرعنة ليس بالأمر الطارئ الجديد في بقاع كثيرة من العالم، خاصة في شرقنا حيث مهد الديانات السماوية الثلاث التي توافقت على اعتبار القدس من أهم مقدساتها على المستويين المكاني والزماني؛ استمدت منها الشرعنة، واستخدمتها السلطات السياسية التي اتخذت من الدين ايديولوجية أداة فعالة لشد العصب وإسباغ هالة من القداسة على الحروب التي كانت، وما زالت أدوات في مشاريع توسعية، سوّقت تحت شعارات التحرير والخلاص والتخليص باسم تحقيق مشيئة الله.
فالشرق، وبالتحديد الشرق الأوسط، الذي يشمل سوريا وفلسطين والأردن ولبنان ومصر، كان، وما زال، منطقة جاذبة للقوى الدولية والإقليمية التي ترى فيها مجالاً حيوياً استراتيجياً يتوسط العالم القديم. كما تتسم هذه المنطقة بمناخها المعتدل، وشواطئها الدافئة، وثرواتها المتجددة، إلى جانب وقوعها على الطرق التجارية الأهم في العالم. ولهذا كله كانت باستمرار هدفاً للسيطرة والتحكّم من جانب القوى الدولية والإقليمية. ويُشار هنا على وجه التحديد إلى الأكاديين والبابليين والآشوريين، والحثيين والحوريين، والفرس، واليونان والرومان، والعرب لا سيما بعد انتصار الإسلام في شبه الجزيرة العربية. فقد اتخذ الإسلام من المسجد الأقصى في القدس قبلته الأولى؛ هذا في حين أن المسيحية تعتبر المدينة ومحيطها مهد السيد المسيح، وساحة رسالته، وموقع محاكمته وقتله وقيامته، بينما وجد اليهود في الأرض المقدسة، أرض الميعاد، ويعتبرون أنهم الأقدم والأكثر شرعية، وأصحاب الحق في أرض منحها الرب لهم.
أما حكام دول أوروبا المسيحية في العصور الوسطى الذين كانوا يستمدون شرعيتهم من الكنيسة المهيمنة، فقد وجدوا في موضوع تحرير القدس والأرض المقدسة مادة حيوية للتجييش بغية توجيه الأنظار نحو الخارج، وتثبيت القواعد في منطقة واعدة على صعيد الخبرات والثروات.
وكان وعد بلفور في 2 تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1917 الخاص بتأسيس وطني قومي لليهود في فلسطين. وفي أعقاب انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الأولى 1914-1918 كانت الجهود البريطانية مركزة لتنفيذ الوعد المشار إليه، وهو الأمر الذي تحقق بموجب قرار التقسيم الذي اتخذته الأمم المتحدة عام 1947 بعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية 1939-1945.
وبعد التقسيم وإلاعلان عن دولة إسرائيل، كانت الحروب المتعاقبة بين الدول العربية والأخيرة بدءا من حرب 1948 مرورا بحرب 1967 وحرب تشرين الأول (كتوبر) 1973، وصولاً إلى حرب لبنان عام 1982، التي كان من بين نتائجها إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، وتعزيز سلطة حافظ الأسد على مفاصل الدولة والمجتمع اللبنانيين عبر قواته وأجهزته الأمنية التي ما كان لها أن تدخل إلى لبنان من دون ضوء أخضر أمريكي وإسرائيلي. والجدير بالذكر هنا أن هذه المرحلة حرب مذابح صبرا وشاتيلا في ايلول (سبتمبر)1982، وهي المذابح التي كانت وراءها القوات الإسرائيلية بمساعدة حلفائها من اللبنانيين؛ كما كانت حرب المخيمات التي قادتها القوات السورية بمشاركة حركة أمل والفصائل الفلسطينية المرتبطة بالأجهزة الأمنية السورية؛ ويشار هنا على وجه التحديد إلى منظمة الصاعقة، والجبهة الشعبية – القيادة العامة، وفتح الثورة، وقوى أخرى فلسطينية ولبنانية أصطفت مع نظام حافظ الأسد ضد منظمة التحرير الفلسطينية ورئيسها ياسر عرفات.
ومع ترسخ العلاقات بين النظام الإيراني ونظام حافظ الأسد، ومساندة الأخير لنظام الخميني في الحرب مع العراق 1980-1988 تحت شعار المحافظة على التوازنات، ومنع الأوضاع من التوجه نحو المزيد من التدهور، تم التوافق بين النظامين المذكورين على تأسيس حزب الله في لبنان، ليصبح مستقبلاً متعهد ملف «المقاومة» بعد إزاحة الفصائل والقوى اللبنانية والفلسطينية الأخرى بمختلف الأساليب. كما تم التوافق بين الطرفين على تبني حزب العمال الكردستاني- التركي ليكون المتحكّم بالورقة الكردية في كل من إيران وتركيا وسوريا؛ وخلق المشكلات للقوى الكردية الأساسية في كردستان العراق، خاصة الحزب الديمقراطي الكردستاني.
ومع الوقت حاول حافظ الأسد، عن طريق فصائل فلسطينية موازية كان قد أوجدها بين الفلسطينيين في لبنان وسوريا، وذلك لإبعاد منظمة التحرير عن ملف التفاوض مع إسرائيل، حتى يبقى هذا الملف المهم المؤثر هو الآخر ورقة من بين أوراقه الإقليمية التي كان يستخدمها لتعزيز دور نظامه الإقليمي.
ومع ظهور حماس على الساحة الفلسطينية، لا سيما في غزة عام 1987، وجد حافظ الأسد فرصة لممارسة المزيد من الضغط على منظمة التحرير، خاصة في مؤتمر مدريد، عام 1991، الذي انعقد بعد حرب تحرير الكويت، شباط (فبراير) عام 1991، ولم يُسمح لمنظمة التحرير المشاركة باسمها. إلا أن ياسر عرفات حسم الموضوع هذه المرة عبر مفاوضات أوسلو السرية مع إسرائيل؛ وكان التوصل إلى اتفاقية سلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وهي الاتفاقية التي تم التوقيع عليها في واشنطن برعاية الرئيس الأمريكي بيل كلينتون في 13 ايلول (سبتمبر) عام 1993.
وبعد ذلك، كان اغتيال رابين في 4 تشرين الثاني (نوفمبر) 1995، وهو ما اعتُبر مؤشراً لتنامي قوة اليمين الإسرائيلي الشعبوي المتشدد الذي يحكم إسرائيل حالياً. وهو اليمين الذي لم يؤمن بمشروع حل الدولتين، بل أفرغه عملياً من محتواه عبر دعم سياسة الاستيطان الشمولي، والتضييق على السلطة الفلسطينية، واتخاذ ورقة حماس ذريعة لتهديد المجتمع الإسرائيلي بها لتسويغ تشدده، والتغطية على سياساته العنصرية. وما مكّن هذا اليمين أكثر هو الموقف الأمريكي غير الحاسم في ميدان محاولات ايجاد حل لمشكلة النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، وانعكاسات هذا التوجه على مواقف الأوروبيين أيضاً، الذين يبدو أن دورهم في هذا الملف يقتصر على الهوامش التي تسمح بها الولايات المتحدة الأمريكية.
وكان من اللافت عزم الإدارة الأمريكية في عهد ترامب على حسم الموضوع لصالح اليمين الإسرائيلي المتشدد من خلال القضاء على فكرة مشروع حل الدولتين عبر الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على المناطق المختلف عليها، ومنها القدس الشرقية؛ إلى جانب غض النظر عن النزوع الإسرائيلي نحو توسيع نطاق سياسة بناء المستوطنات ومصادرة الأراضي الفلسطينية؛ وتشجيع التطبيع الثنائي بين الدول العربية وإسرائيل، وذلك في مواجهة صارخة مع مشروع السلام العربي الذي اقترحه الملك السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز أيام ولايته للعهد، هو المشروع الذي تم تبنيه من القمة العربية التي انعقدت في بيروت عام 2002.
وفي أجواء التحركات والاتصالات وصدور تصريحات حول امكانية التوصل إلى تطبيع في العلاقات بين إسرائيل والسعودية، مقابل شروط سعودية تخص الحقوق الفلسطينية، مع ضمانات أمريكية، وبعد موافقة السلطة الفلسطينية في رام الله، أحس النظام الإيراني أن الورقة الفلسطينية هي في طريقها إلى الخروج من يده، الأمر الذي كان سيفقده امكانية توظيف قضية الأقصى التي طالما دغدغ بها المشاعر في العالمين الإسلامي والعربي لصالح مشروعه التوسعي الإقليمي؛ فجاءت الهجمة الحمساوية غير المتوقعة وغير المسبوقة لتخلط الأوراق مجددا، وتقطع الطريق على مشروع التطبيع السعودي الإسرائيلي، ووضع المنطقة أمام مختلف الخيارات الصعبة، وذلك في أجواء إقليمية ودولية وفلسطينية داخلية ليست في صالح الفلسطينيين وقضيتهم العادلة بامتياز.
من الصعب التكهن حاليا، بناء على المعطيات المتوفرة، بمسار الأحداث في المستقبل القريب، ولكن الأمر المؤكد هو أن ما حدث قد وضع العالم مجددا أمام ضرورة الاعتراف بوجود قضية تستوجب حلاً، وهي قضية تخص شعبا سُلبت أرضه، ومُنع عنه كل شكل من أشكال التعبير عن شخصيته الوطنية والقومية عبر مؤسسات سيادية تكون صمام الأمن في سلام متوازن عادل مستدام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وهو سلام إذا ما تحقق ستكون له تبعاته الإيجابية على واقع المنطقة بأسرها، وسيساهم في حل الكثير من القضايا الأخرى التي تثقل كاهل المنطقة على مستوى الأفراد والجماعات والشعوب، ومن أهم هذه القضايا: السورية والكردية واللبنانية واليمنية والعراقية، وقضايا أخرى كثيرة أصبح عددها يساوي تقريبا عدد دول المنطقة وشعوبها.
ولكن الحكومة الإسرائيلية الحالية ليست مستعدة اليوم للاعتراف بالحق الفلسطيني، وقد تجسد هذا الأمر بآخر صوره في رد فعلها السلبي القوي على ما دعا إليه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش حول ضرورة الاعتراف بالظلم الذي يعيشه الفلسطينيون وتأثير ذلك في تنامي نزعة التطرف لديهم.
وفي ظروف كهذه، وفي غياب العقلانية الحكيمة البعيدة النظر الباحثة عن الحلول الواقعية العادلة، من الطبيعي أن تكون المنطقة مهددة بكل الخيارات السيئة ما لم تحدث معجزة في زمن يفتقر إلى الأنبياء والمصلحين.
*كاتب وأكاديمي سوري
القدس العربي
—————————-
ادانتير من إلغاء حكم الإعدام إلى إعدام شعب/ سلام الكواكبي
سجّل التاريخ الفرنسي الحديث اسم المحامي روبير بادانتير كالانسان الذي عمل على إلغاء حكم الإعدام في فرنسا إبّان الولاية الرئاسية الأولى لفرانسوا ميتيران في 17 سبتمبر/ أيلول 1981، التزامًا بوعد ميتران نفسه إبّان حملته الانتخابية. وقد شهد البرلمان الفرنسي مرافعة المحامي بادانتير، والذي اختاره ميتران وزيرًا للعدل بين عامي 1981 و1986، لإعلان هذا التحوّل التاريخي الذي، وإن استُفتي العامة عليه، فلن يحصل على إجماع الرأي حوله. وقد شكّلت مرافعته درسًا تاريخيًا في الديمقراطية، حيث ارتباطها أساسًا بحقوق الإنسان، وليس، بالضرورة، حصر ارتباطها بالتصويت وصناديق الاقتراع. وكذا، أثبتت هذه الواقعة بأنه مطلوبٌ من القائمين على صياغة القوانين أن يتمتّعوا، ليس بالقدرة التقنية والتشريعية المناسبتين فحسب، بل وأيضًا، بالوعي الإنساني العالي. وفي ما يخصّ العالم العربي، فقد ندّد بادانتير بإعدام الرئيس المخلوع صدّام حسين، لسببين رئيسيين، بأن هذا الإعدام قد حرم العدالة من محاكمة صدّام على جرائم عدّة، وبأنه سيكون سببًا لتأجيج الانشقاق في المجتمع العراقي والرغبة في الانتقام التي ستؤثّر على الاستقرار في العراق.
صار هذا الإنجاز الذي ارتبط باسم روبير بادانتير علمًا في التشريعات الأوروبية التي سرعان ما تبنّته. وصارت أوروبا عمومًا تسكّ القوانين التي تلغي الحكم بالإعدام. وصار لهذا الإلغاء فلسفته القانونية والإنسانية التي طغت على القوانين الوضعية والدينية التي كانت سائدة.
تزوّج بادانتير، والذي ارتبط اسمه بأهم التشريعات ذات الحمولة الإنسانية في القرن العشرين، سنة 1961 من الفيلسوفة المختصة بعصر الأنوار وحقوق المرأة، إليزابيت بلوشتاين. وقد زاولت التدريس، خصوصًا في حقل الإنسانيات. وكباحثة، اهتمّت بالتعمّق في أبعاد الذكورية والنسوية، حيث أضحت رمزًا مهمًا في مجال النضال النسوي على المستويين، الأوروبي والعالمي. ومع تقدّمها بالعمر وبالشهرة، صارت أيضًا من رموز النضال العلماني الذي برز خصوصًا في دعمها منع حجاب الفتيات في المدارس وفي الدفاع عن نشر الرسوم المسيئة للرموز الدينية الإسلامية. وقد طوّرت أدبيات واضحة في نقد تهمة “الرهاب من الإسلام”، مُعتبرةً أنها هرطقة وأسلوبٌ ملتوٍ لرفض العلمانية.
شريكة حياة صاحب أهم التشريعات الإنسانية في القرن العشرين، وفيلسوفة النسوية الأهم على قيد الحياة، خرجت على الإعلام أخيرا لتأييد عمليات القتل الإسرائيلية في غزّة من دون أي تحفّظ. لا ترى السيدة بادانتير، والتي تترأس عدة جمعيات مهتمة بالسلام ونشر قيمه، أي رادع أخلاقي أو إنساني في ما يخصّ قتل المدنيين الفلسطينيين. تبريرها الأساسي، أن ذلك يجري في ظل حقٍ طبيعيٍ في الدفاع عن النفس أمام “إرهاب” المتطرّفين الإسلاميين في حركة حماس، والذين قارنتهم عناصر تنظيم الدولة الإسلامية. وفي حديث متلفز، نوّهت بالبعد الأخلاقي الذي تتمتّع به القوات الإسرائيلية التي تقوم، حسب زعمها، بإعلام المدنيين قبل قصفهم، وتدعو آخرين منهم إلى المغادرة باتجاه مصر وهم يرفضون المغادرة، أو أن “حماس” تستخدمهم دروعا بشرية. وأخيرا، رفضت الدعوة إلى وقف إطلاق النار مقارنةً هذا الطلب بالطلب بوقف إطلاق النار في أوكرانيا، وبالتالي، تتم معاملة المعتدي والمعتدَى عليه بالتساوي. وبالنسبة للسيدة الإنسانية، فالمعتدي هو الفلسطيني. وهاجمت بشدة كل أشكال التضامن مع غزّة ومدنييها، لأنها تعتبر أن هذا الموقف يُخفي تأييدًا لـ”حماس”، لتخلص إلى أنه من أنواع معاداة السامية المتجدّدة.
السؤال هنا: ما الذي يدفع شخصيةً عامة، من هذا المستوى الفكري والانتمائي الرفيع، إلى تبنّي موقف القاتل والمحتل والمستوطن؟ ما الذي يمنع رمز النسوية الحديثة عن التطرّق، ولو تلميحًا، إلى وجود احتلال منذ عقود مع ما يرافقه من استيطانٍ وتدمير شعبٍ بأكمله؟ ما الذي يحرم شريكة الشخص الذي ارتبط اسمه بأهم القوانين الإنسانية، لتُضحي مؤيدةً إعدام آلاف الفلسطينيين انتقامًا؟ هل مجرد انتمائها، وهي العلمانية الأقرب إلى الإلحاد، الى عائلة يهودية معروفة، وكذا زوجها، مُبرّرٌ كافٍ لهذا الموقف وغير الإنساني والمشوّه للحقائق وللوقائع والمنحاز لدولة الاحتلال التي تقودُها مجموعة من المتطرّفين اليمينيين؟.
يبقى هذا السؤال خطيرا في المفهوم الفرنسي لارتباطه بتابوهات يُسبب التطرّق إليها سيلاً من الاتهامات غير المبرّرة وغير المسندة، وأهمها معاداة السامية. وفي المقابل، يجب ألا يشكّل التهرّب من طرحه، كنعامة تدفن رأسها في الرمال، القاعدة. ولكي ألعب دور محامي الشيطان، أكاد أميل إلى التردّد في اعتماد السبب الوارد أعلاه، لأفضّل عليه موقفًا أكثر ارتباطًا بالإرث الاستعماري والفوقية الحضارية، فقد كان أحد رموز الاشتراكية الفرنسية، جول فيري، يعتبر أن الاستعمار سيرفع من مستوى الحضاري للمسلمين المتخلفين. وقد برز هذا البعد لدى السيدة بادانتير خصوصًا، في تطرّفها في رفض خيارات المرأة المسلمة، واعتبارها مجرّد جارية تخضع لذكوريةٍ مرتبطةٍ بالدين.
في جدل حاد مع شاعر سوري يعتبره بعضهم مهما، وتعليقًا على موقفه الطائفي من الحراك السوري، أجابني بغضب بأنه ملحد فكيف أصفه بالطائفية، فكان جوابي: الإلحاد لا ينفي الطائفية.
سيسجّل التاريخ أن عائلة بادانتير، “الملحدة والطائفية” معًا، تجمع النقيضين: إلغاء عقوبة الإعدام الفردي، والتشجيع على عقوبة الإعدام الجماعي.
العربي الجديد
————————-
روسيا وحماس/ فاطمة ياسين
ورثت روسيا علاقات الاتحاد السوفييتي مع إسرائيل التي شابها بعض الاضطراب، رغم أن الاتحاد السوفييتي قد صوّت بالموافقة على إنشاء دولة إسرائيل في 1948، وافتتحت السفارتان في العام نفسه، ثم قطعت العلاقة بينهما في 1953 بعد تفجير السفارة السوفييتية في تل أبيب وقطعت أيضاً بعد حرب السويس عام 1956، وشهد 1967 آخر مرة تُقطع فيها العلاقات السوفييتية الإسرائيلية، حيث استمرّ الانقطاع على مستوى القنصليات حتى 1987 وعلى مستوى كامل حتى عام 1991، عندما أعاد غورباتشوف العلاقات، وسقط الاتحاد السوفييتي كله بعد شهرين، وورثت روسيا السفارة وما بقي من علاقات. وشهدت التسعينيات أكبر موجة هجرة يهودية من روسيا إلى إسرائيل تجاوزت المليون مهاجر، شكّلوا كتلة سكانية كبيرة ومؤثرة داخل إسرائيل.
بعد الربيع العربي، بدا واضحاً التنسيق بين إسرائيل وروسيا في الحرب السورية. فقد تجاهلت موسكو كل الاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي السورية التي وُجهت أساساً إلى أهداف إيرانية. وبعد هجوم كتائب عزّ الدين القسام التابعة لحركة حماس على منطقة غلاف غزّة في السابع من شهر أكتوبر/ تشرين الأول، شنّ الطيران الإسرائيلي عدّة هجمات على المطارات السورية، حتى خرجت عن الخدمة غير مرّة، وتحولت الرحلات فيها إلى مطار حميميم في اللاذقية. والملاحظ أن هذا المطار لم يحدُث أن تعرّض لأي إغارة إسرائيلية، لا خلال الأزمة الحالية، ولا في أي وقت، منذ تمركزت القوات الروسية فيه. كذلك بقي ميناء طرطوس الذي تمتلك فيه روسيا حقوقاً دولية طويلة الأجل، في منأى عن أي هجوم أو استهداف إسرائيلي، بما يعني أن هناك مستوىً عالياً من التنسيق بين الجانبين، يحافظ على مصالحهما على الأراضي السورية. ورغم الموقف الملتبس لروسيا من الأزمة الحالية الناشئة بين حركة حماس وإسرائيل، استمرّت الأخيرة بأخذ المصالح الروسية بالاعتبار، فبقيت بعيدة عن نقاط السيطرة الروسية في سورية.
يمكن أن تعدّ العلاقات الروسية الإسرائيلية أفضل من التي كانت بين السلطة السوفييتية وإسرائيل، فقد كان السوفييت أكثر اهتماماً بمشاعر العرب، وحرصوا على مجاملتهم في أوقات عديدة بشأن إسرائيل، كذلك شكل التحالف الإسرائيلي الأميركي سبباً آخر لتحجيم العلاقة، بعد أن فشل السوفييت في إيجاد موطئ قدم لهم في إسرائيل، وأُصيبوا بضربة في كبريائهم خلال حرب 1967 عندما رفضت إسرائيل وقف إطلاق النار، فقطع السوفييت العلاقات معها إلى غير رجعة، فيما أصبحت العلاقة بعد الحقبة السوفييتية مع إسرائيل جدّية، وقد تحسّنت كثيراً خلال العصر البوتيني، وتبادل الزعماء الزيارات في مناسبات عدة. وربما وصلت العلاقات إلى عصرها الذهبي في عهد الرئيس الأميركي الأسبق أوباما، لكن الغزو الروسي أوكرانيا فرمل تطوّر العلاقات، فقد سارع وزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك، ليبيد، إلى إدانة الغزو الروسي، وبعدها جرى لغطٌ كبير بشأن تزويد إسرائيل أوكرانيا بمعدّات عسكرية وعربات.
جاء المتغير الثاني بعد عملية “حماس” في غزّة في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، وكأن روسيا ترغب في ردّ الصفعة التي تلقتها عقب أوكرانيا، أو ترغب في توظيف ما حدث لصالحها، فرغم أن بوتين دان هجمات “حماس”، إلا أن مشروع القرار الروسي في مجلس الأمن الذي يدين العنف ويدعو إلى وقف إطلاق النار خلا من ذكرها، فيما يبدو أن روسيا حريصة أكثر على علاقاتها مع إيران التي تقف، بمعنى ما، خلف “حماس”، أكثر من حرصها على إسرائيل. وتُعَدّ إيران داعماً أساسياً وفعالاً لروسياً في الحرب ضد أوكرانيا، وهي تمدّها بالمسيَّرات التي تُستخدم في قصف الأراضي الأوكرانية. لم يبدُ أن التفاهم الروسي الإسرائيلي أصابه العطب في سورية، ولكن اتّساع رقعة المواجهة يمكن أن يجعله في خطر، ولن ترغب إسرائيل، رغم جبهتها المفتوحة مع “حماس”، في أن تشاهد اللاعب الإيراني ينتصر ويتمدّد في سورية.
العربي الجديد
———————
نحن بين مظلومية إيران ومظلومية إسرائيل/ عمر قدور
أتت التعزيزات العسكرية “الأمريكية وغيرها” إلى الشرق الأوسط بهدف صريح، هو ردع إيران عن فتح جبهة جنوب لبنان، وربما جبهة الجولان إذا سمحت لها موسكو بحرية التصرف فيها. وكلما استُخدم تعبير توسيع رقعة النزاع فُهِم منه أن المقصود هو اندلاع حرب ضخمة بين تل أبيب وطهران حصراً، رغم أن دولتين عربيتين مهددتان بتهجير الفلسطينيين إليهما هما مصر والأردن.
وصل بعض التحليلات إلى اختزال عملية طوفان الأقصى بكونها رداً إيرانياً على التطبيع العربي مع إسرائيل، بينما ذهب بعض آخر إلى إدراجها كردّ على قصف إسرائيلي متكرر لمواقع وشحنات أسلحة إيرانية في سوريا. التركيز على العامل الإيراني في الحرب على غزة يخدم العديد من الأهواء، وأولها أهواء محور الممانعة الذي أتت لأنصاره فرصة التغنّي بالقوة الإيرانية مقابل “التخاذل العربي”، في حين يزداد التعاطف الغربي مع إسرائيل بوصفها مهدَّدة من قوة إقليمية كبرى “إيران” تمتلك ترسانة ضخمة من الأسلحة، وغير بعيدة عن امتلاك النووي. أما الردّ الشعبوي لدى خصوم المحور بأن هناك قواعد للعبة بين طهران وتل أبيب، وأن طرفي اللعبة متواطئان على العرب والفلسطينيين، فهو ردّ يقدّم فقط السلوى لأصحابه من دون تقديم معرفة مفيدة بالخطر ومكامنه.
في نيروز 1935 اعتمد الشاه رضا بهلوي تسمية إيران التي تشير إلى العرق الآري، بدلاً من فارس، واقتراح التسمية الجديدة أتى أولاً من سفارته في برلين حيث كانت ألمانيا تخضع للحكم النازي. لم يكن ذلك مجرد تغيير شكلي، فالعنصرية الفارسية حقيقية، وبكونها موجَّهة إلى “الساميين” العرب ثم اليهود فهي أشمل من نظيرتها الغربية التي اقتصرت حينذاك على اليهود. التعالي على العرب موجود بوفرة في الأدبيات الإيرانية، ومحمولٌ على المشاعر القومية أو المذهبية، أو على الاثنتين معاً، ومصدره في الحالتين الهزيمة القديمة أمام ذلك الجار العربي الإسلامي الصاعد.
ما لا يأخذ حقّه من الانتباه والبحث أن التشيّع الإيراني صار بمثابة قومية تتغذّى على ذلك الجرح النرجسي القديم، بينما تضع في المقدمة منه “مظلومية آل البيت”. وهذا الإطار القومي-الديني هو أشمل من القومي الفارسي السابق عليه، لأن الثاني يرضي فقط الفرس وهم غالبية غير عظمى من السكان، بمعنى أن عدد الشيعة في إيران أكبر من عدد الفرس. مكمن الخطورة في التوليفية الإيرانية أن التشيّع الإيراني أحكم سيطرته على التشيّع العربي الذي كان لمظلوميته مطالبات مختلفة في كل بلد من بلدان تواجده، ليصبح جزءاً من الاستراتيجية الإيرانية للهيمنة الإقليمية، والتي لا يمكن إلا أن تصطدم بمنافسين إقليميين أو دوليين ومنهم إسرائيل.
الذين أنشأوا الحركة الصهيونية كانوا بجزء معتبر منهم غير متدينين، لكنهم وجدوا الحل للمظلومية اليهودية في أوروبا بإنشاء وطن قومي لليهود، ليأتي هتلر بالمحرقة ويصبح مشروع الدولة اليهودية “أكثر إلحاحاً” من قبل. منذ المؤتمر اليهودي الأول حتى الآن، ما زال سارياً القول أن هذا الوطن اليهودي هو لجميع اليهود أينما كانوا، وأن لهم “حق العودة” إليه متى شاؤوا.
الاستعداد لاستقبال هؤلاء، بل حثّهم على العودة، يضمر دائماً طرد الفلسطينيين من أراضيهم والتوسّع بما يقتضيه العدد المتزايد لليهود في إسرائيل؛ هذه العقيدة الثابتة ليست مطروحة للتعديل، بل تم استباق أي تفكير فيها بقانون الدولة اليهودية الذي أقرّه الكنيست. ورغم أن اليهودية ليست ديانة تبشيرية فإن العقيدة السابقة تُبقي إسرائيل على أهبة التوسع، ليأتي فائض قوتها العسكرية متطلباً توسع نفوذها الإقليمي كما يحدث عادة لكل فائض قوة.
لم تعد المظلومية اليهودية قائمة في الغرب، لكنّ عقلية الغيتو بقيت موجودة لأن أصحابها والعنصريين الغربيين يريدون بقاءها، كلٌّ منهما لأسبابه. الانحياز الغربي إلى إسرائيل، ومحاباة اليهود في الغرب، تجاوزا كونهما نتاج عقدة ذنب بسبب المحرقة، ولعلنا لا نجافي الواقع بالقول أن التمييز الإيجابي الفاقع لا يختلف في جذره العميق عن ذلك السلبي، وهو ما يؤازر طوال الوقت إصرارَ تل أبيب على المظلومية اليهودية وكأن المحرقة تحدث للتو.
لا يُظهر الغرب اكتراثاً بآثار المظلوميتين الإيرانية واليهودية على المنطقة، ساعده بلا شك صعودُ الإرهاب الإسلامي السني، بدءاً بتنظيم القاعدة الذي نفّذ أول عملياته الكبرى قبل ثلاثة عقود، لتصبح الحرب على الإرهاب عنواناً “مشروعاً” لأولويات الغرب طيلة هذه المدة، ولتكون المفاضلة حتى الآن بين إسلام شيعي ذي مرجعية واحدة منضبطة وآخر سني منفلت. كانت بداية نشأة الإسلام السياسي السني “إحيائيةً نهضوية”، بموجب رؤى روّاده، ولا تصعب ملاحظة استلهامهم النموذج القومي الحداثي لبناء نموذجهم الخاص. المظلومية السنية لم تكن هي الأساس في البدايات، لذا لم يكن الإرهاب الذي يستهدف الغرب حاضراً، والمفارقة أن النار الأفغانية التي التهمت الاتحاد السوفيتي نضج عليها عدو الغرب الجديد.
في الحرب الحالية على غزة يتصرف الغرب وفق ما صار سياسة تقليدية، فالرئيس الفرنسي ماكرون اقترح توسيع دور التحالف الدولي ضد داعش ليشمل حماس، وهكذا يكون العنف من نصيب الأخيرة “بحكم سنيتها” رغم أنها لم تستهدف يوماً المصالح الغربية ولم تحرّض على استهدافها. التحذير الذي وجهه ماكرون لحزب الله وطهران من الانخراط في الحرب لا يرقى إلى مستوى دعوته إلى تحالف دولي ضد حماس، حتى مع توفر القناعة الغربية بأن طهران كانت وراء هجوم السابع من أكتوبر.
تمارس قوى نافذة في الغرب انتقائية في عنصريتها، ومن المؤسف أن نسبة الغربيين الذين لهم مواقف نقدية من هذه الانتقائية، ومن المظلوميات على قدم المساواة، قد لا تتجاوز نسبة المسلمين الشيعة أو السنة الذين لديهم مواقف نقدية من حكم ولاية الفقيه وحرسه الثوري ومن تنظيمات الإسلام السياسي أو الجهادي السني. ماكرون نفسه كان قد قال يوماً أن الأسد خطر على شعبه، بينما داعش خطر على العالم. رؤية العالم من هذا الثقب الصغير جداً تُترجم سراً بأن إسرائيل خطر على الفلسطينيين فقط، ولا بأس في ذلك، وإيران خطر على بعض دول المنطقة، ولا بأس في ذلك طالما أنها لا تتخطى الخطوط الإسرائيلية الحمراء.
قد لا تقتضي مصالح الغرب في المدى المنظور فهماً أفضل من الحالي، فهو ليس متضرراً مباشرةً من وقوع بلدان شرق المتوسط بين دولتين دينيتين، أو بالأحرى تقوم كلّ منهما على مظلومية ذات طابع ديني أو مذهبي، بما ينطوي عليه ذلك من دوافع ثأرية وتوسعية. التنظيمات السنية التي استلهمت فكرة المظلومية لا تبدو “بالمقارنة” أكثر من كاريكاتير بدائي مبتذل لهاتين القوتين الإقليميتين، والرهان الخاطئ هو على تقوية الكاريكاتير ليقارعهما، في حين أن الخلاص منه هو خطوة لازمة وغير كافية كي لا تتكاثر علينا وحوش المظلوميات.
المدن
———————–
في تحوّط التاجر السوري من”الحرب”/ إياد الجعفري
من الفكاهة، بالنسبة للكثيرين، أن نُحمّل الحرب على غزة والتوتر الأمني “الإيراني – الأمريكي” في شرق سوريا، مسؤولية ارتفاع سعر ربطة البقدونس في أسواق دمشق، إلى الضعف، وقفزات الأسعار في مختلف أصناف الخضار والفواكه، ومعظم السلع الغذائية الأخرى. خاصةً، وأن متوالية التضخم المتواصل لم تكن تحتاج لحربٍ في المنطقة، كي تسجّل قفزاتٍ لتكاليف المعيشة في مناطق سيطرة النظام، تجاوزت الـ 67%، خلال الثلث الثالث من العام الجاري، فقط. لكن في المقابل، لا يمكن تجاهل الأثر النفسي لحرب غزة ودوره في الدفع باتجاه التحوّط من جانب النشطاء الاقتصاديين في البلاد، وفي مقدمتهم التجار.
وحتى ساعة كتابة هذه السطور، لا يُبدي السوريون أي مظهرٍ للهلع أو الخشية الجدّية من أن تنجر سوريا إلى حرب شاملة على وقعِ تطورات الهجمة الإسرائيلية الشرسة على غزة. أو أن تتفاقم المناوشات “الإيرانية – الأمريكية” في شرق البلاد، بحيث تتجاوز السقوف المعتادة على مدار سنوات. ولا يمكن رصد أي علامات لتخزين مواد غذائية أو أدوية، أو أي خضات نوعية في النشاط الاقتصادي، توحي بذلك. لكن في الوقت نفسه، لا يمكن إنكار الآثار الواضحة لهذه الحرب، على الاقتصاد السوري، وإن كانت محدودة، حتى الآن.
قبل أيام، نشرت صحيفة “الوطن” الموالية للنظام تقريراً طغت على مقدمته نبرة اتهامية للتجار، بوصفهم يبحثون عن أية ذريعة لرفع الأسعار، وها قد استجدت لديهم ذريعة جديدة. إنها الحرب في غزة، والتوترات المرافقة لها في الإقليم. والتي تسببت بارتفاع أسعار معظم السلع في الأسواق السورية. ونقلت الصحيفة عن عضو في لجنة مصدّري الخضار والفاكهة بدمشق، نفيه لأي أثر للحرب أو التوتر الأمني على الأسعار. لكن ارتفاعات الأسعار لم تنحصر بالخضار والفواكه، بل طاولت أيضاً اللحوم، خاصة الدجاج. وهو ما يدفعنا للتساؤل: هل من المعقول مطالبة التاجر بعدم التحوّط في وضع ضبابي مفتوح على احتمالات عديدة؟ هل رفض هذا التحوّط، ينسجم مع منطق الاقتصاد، ومنطق الربح والخسارة، الذي يحكم عقل التاجر؟
في إعلام النظام، وخطاب مسؤوليه، يسود الانفصال عن الواقع، كالعادة. أكثر ما يتضح ذلك، في نفي وزير السياحة بحكومة النظام، قبل أسبوع، أن يكون الاستهداف الإسرائيلي المتكرر لمطارَي دمشق وحلب، قد أثّر في الوضع السياحي والقدوم إلى سوريا، بذريعة أنه تم تأمين البدائل بشكل فوري، إما عن طريق مطار اللاذقية، أو عبر المعابر البرية. تصريحات وزير السياحة تلك، جاءت بعد يوم واحد فقط من إعلان “منظمة الحج والعمرة” الإيرانية، تعليق “رحلات زوار المراقد” إلى سوريا، حتى إشعار آخر، جراء الاضطرابات الناجمة عن الحرب في غزة. ورغم إنكار النظام، فإن السياحة “الدينية” المتأتية من الزوّار الشيعة القادمين من إيران والعراق ولبنان، توفّر أكبر مصدر دخل متأتي من السياحة الخارجية إلى سوريا. ووفق أرقام وزارة السياحة، فقد زار البلاد في النصف الأول من العام الجاري، 96 ألف زائر ل”المواقع المقدّسة”.
لكن انعكاسات الحرب في غزة على الاقتصاد السوري، لا تقف عند “السياحة الدينية”. بل تتعداها إلى أثر ارتفاع السعر العالمي للنفط، على أسعار المحروقات في البلاد، والتي أصبحت معوّمة، أو شبه معوّمة. إذ من المرتقب أن ترفع وزارة التجارة الداخلية أسعار البنزين والمازوت والفيول والغاز، على وقع ارتفاع السعر العالمي للنفط، في نشرة الأسعار القادمة، مطلع تشرين الثاني/نوفمبر. وهو ما سيعطي دفعة جديدة للأسعار النهائية للسلع والبضائع في الأسواق.
أما أبرز أثر للحرب على الاقتصاد السوري، فيتمثّل في سعر الصرف. إذ تراجعت الليرة بنسبة 7% خلال الأسابيع الثلاثة الفائتة. لكنها لم تتجاوز سقوفاً غير مسبوقة، وبقيت ضمن هامش سبق أن وصلته قبيل الحرب، مما يؤشر إلى محدودية الأثر، حتى الآن. لكنه أثرٌ يمكن قياسه. وله انعكاساته على أسعار السلع والبضائع في الأسواق، أيضاً.
وبناء على ما سبق، فإن خطاب النظام القائم على تجاهل الآثار النفسية للحرب والتوتر الأمني الإقليمي، على معيشة السوريين، بل وإدانتها، واعتبارها، جشع تجار لا أكثر، تبدو انفصالاً غير مسؤول عن الواقع. وبدلاً من ذلك، على السلطات المعنية في البلاد، اعتماد تدابير طوارئ للاحتياط من احتمال خروج الصراع في المنطقة -بل وعلى التراب السوري ذاته- عن السيطرة. ويجب الإعداد لكل السيناريوهات، حتى أسوأها، وأقلها احتمالاً. لذا يجب توفير مخزون من الأدوية والأغذية والمحروقات، استعداداً لذلك. والعمل على تجهيز المرافق العامة لهذا الاحتمال أيضاً. ونحن هنا لا ندعو للهلع، أو لاندفاع الناس لتخزين السلع، ونرجّح ألا تنخرط سوريا بأي صراع يتجاوز السقوف المعتادة، لكننا في الوقت نفسه، نتفهم دوافع التجار للتحوّط، ونقول إن هذا المنطق الاقتصادي السليم، يجب أن ينعكس على أداء السلطات المعنية، بدلاً من إدانته.
المدن
————————
إسرائيل وأميركا… حرب المناوشات مع إيران في سوريا/ كارمن كريم
يبدو النظام السوري بعيداً عن اتخاذ خطوات عسكرية تجاه إسرائيل، فبينما تقصف الأخيرة غزة، ينشغل هو وحليفته روسيا بقصف مدينة إدلب، معقل المعارضة السورية المسلحة، في شمال غربي سوريا.
المخاوف من حرب إقليمية في المنطقة ما زالت قائمة إلى حد تداول أقاويل عن حرب عالميّة ثالثة. عملية “طوفان الأقصى” فتحت أبواب الانتقام الإسرائيلي على غزة، كما فتحت حرباً غير معلنة تماماً على سوريا، حرب المناوشات والأخذ والرد والحفاظ على مسافة الأمان الوهمية التي قد تؤدي إلى حرب إقليمية.
إنها حرب “من الأقوى؟”، والتي تضم سوريا وإيران وأميركا وإسرائيل، وفي الحقيقة سوريا هي المسرح، ولا تشكّل طرفاً يستهان به في هذا الصراع. تسارعت حدة الضربات وزمنها في سوريا بعد بدء الحرب على غزة، وكانت على محورين أساسيين، ضرب إسرائيل مواقع ومطارات، واستهداف القواعد الأميركية في سوريا.
تذكير أميركا بقوتها العسكرية في الشرق الأوسط
تتعرض القواعد العسكرية التابعة لقوات التحالف الدولي بقيادة أميركا في سوريا والعراق، منذ بداية “طوفان الاقصى”، إلى استهدافات متكررة عبر طائرات مسيّرة أو صواريخ. المتحدث باسم وزارة الدفاع الأميركية، جون كيربي، قال إن إيران ووكلاءها يقفون خلف ارتفاع هذه الهجمات على القواعد الأميركية، لكن وزير الخارجية الإيراني عبد اللهيان قالفي، قال في مقابلة مع وكالة “بلومبيرغ” الأميركية أمس، إن لا علاقة لبلاده بالجماعات التي هاجمت القوات الأميركية في سوريا، وإن الميليشيات المنتشرة في المنطقة تتصرف من تلقاء نفسها ولم تتلقّ أي توجيهات من طهران، كما نفى توجيه أي قوات جديدة إلى سوريا، لافتاً الى أن بلاده تتصرف تبعاً لما تتطلبه “الحكومة السورية” من مساعدة في ما يُدعى “الحرب على الإرهاب”.
منذ 8 تشرين الأول/ أكتوبر الحالي، استُهدفت قواعد أميركية في سوريا والعراق لأكثر من 13 مرة، وتبنت “فصائل المقاومة العراقية” جزءاً من هذه الاستهدافات، بحسب وكالة سانا السورية الرسمية. وفي سوريا، تركزت الاستهدافات على قاعدتين رئيستين، وهما قاعدا “التنف” شرق حمص، و”حقل كونيكو” شرق محافظة دير الزور. وأدت الهجمات إلى إصابة ما لا يقل عن 24 جندياً أميركياً ومقتل مقاول مدني. وكان أحدثها اليوم، إذ استهدفت طائرات مسيرة قاعدة “الشدادي” الأميركية في الحسكة، شمال شرقي سوريا، وتبنت “المقاومة الإسلامية في العراق” الضربة، كما تعرضت ثلاث قواعد أميركية أمس، على مقربة من الحدود العراقية، إلى قصف مشابه.
في أول تدخل عسكري أميركي من نوعه منذ اندلاع الحرب بين “حماس” وإسرائيل في 7 تشرين الأول، شن الجيش الأميركي في 27 تشرين أول غارات جوية على موقعين في شرق سوريا مرتبطين بالحرس الثوري الإيراني، في تطور جديد، ينطوي على إظهار أميركا استعدادها لمشاركة قواتها بشكل مباشر في الأزمة التي عقبت “طوفان الأقصى”. وقال البنتاغون إنها أصابت منشأة لتخزين الأسلحة وأخرى لتخزين الذخيرة يستخدمها الحرس الثوري الإيراني وميليشيات يدعمها.
الغياب الأميركي في الشرق الأوسط وتخفيض قوته بشكل ملحوظ بعد الانسحاب من أفغانستان، قد يدفعان أميركا الى ردات فعل عسكرية عنيفة للحفاظ على آخر قواعدها وعلى هيبتها العسكرية في الوقت ذاته، في ما يبدو رسائل تذكير لإيران، التي حصلت على مجد إضافي في ظل الغياب الأميركي من جهة والتحالف الاستراتيجي مع النظام السوري من جهة أخرى، ناهيك بروسيا التي استضافت ممثلين من حركة “حماس” التي ترى روسيا” بلداً صديقاً جداً”، بلداً يحتل سوريا وله قواعد فيها ما زال دورها غير واضح.
أبرز ما تقوله الضربات الأميركية الأخيرة إن واشنطن موجودة، وغض بصرها عن الضربات المتكررة لا يعني بأي حال ضعفها ولا يتعلق الأمر بشكل أساسي بإسرائيل، بل بالقوة الأميركية في الشرق الأوسط، ولذلك أمر بايدن بتوجيه حاملتي طائرات إلى المتوسط. ووصف وزير الدفاع لويد أوستن ضربات أميركا يوم الجمعة بأنها “ضربات الدفاع عن النفس”، وقال إن بايدن وجه الضربات “لتوضيح أن الولايات المتحدة لن تتسامح مع مثل هذه الهجمات وستدافع عن نفسها وأفرادها ومصالحها”.
قال تشارلز ليستر، مدير برامج سوريا ومكافحة الإرهاب والتطرف في معهد الشرق الأوسط في واشنطن، لصحيفة الغارديان، إن الهجمات أظهرت أن إيران لديها شبكة واسعة ومسلحة بشكل جيد وعدوانية ومنسقة بشكل جيد في جميع أنحاء المنطقة، فيما يرى محللون أن ما تفعله إيران هو المخاطرة بالدخول في المستوى الثاني من حرب غزة.
ما زال الحضور الإيراني غير واضح، إذ لم تتبنَّ إيران مشاركتها في عملية “طوفان الأقصى” رغم الشكوك الإسرائيلية في أن لإيران الدور الأكبر في ذلك، وهذا ما تؤكده تقاريرأفادت بأن إيران حذرت إسرائيل عبر الأمم المتحدة من أنها ستضطر إلى “التدخل” إذا غزت إسرائيل غزة.
منشورات تحذيرية لنظام الأسد
في العادة، لا تُصدر إسرائيل أي بيانات حول استهدافها نقاطاً في سوريا، لكنها قالت إنها استهدفت مطاري حلب ودمشق، في 12 تشرين الأول الجاري، وإن الهدف من الضربات هو “توجيه رسالة إلى إيران بألا تتدخل في حرب غزة”، والتي تزامنت مع زيارة وزير الخارجية الإيراني إلى دمشق، ما اضطر طائرته إلى تغيير مسارها لتعود إلى طهران، بعد تعذر هبوطها في المطارات السورية جراء القصف الإسرائيلي.
كانت لمطار حلب حصة كبيرة من الضربات الإسرائيلية، إذ استُهدِف أربع مرات خلال أسبوعين فقط، كان آخرها يوم 25 تشرين أول. ويعتبر مطار حلب ثاني أكبر مطار بعد مطار دمشق الدولي وله مدرج طيران واحد، ولا يلبث أن يعود المطار الى العمل حتى يقصف مجدداً، وقصف منذ بداية العام نحو ثماني مرات.
اعترافات إسرائيل باستهداف نقاط في سوريا، يبدو كتذكير للنظام بحدوده، هو الذي لم يقم بأي ردة فعل على الضربات سوى “الاحتفاظ بحق الرد”، ففي يوم 25 أيضاً، قامت إسرائيل بغارة استهدفت نقاطاً عسكرية في محافظة درعا جنوب سوريا، ما أدى إلى مقتل ثمانية عسكريين وجرح سبعة آخرين، إلى جانب بعض الخسائر المادية بحسب رواية النظام الرسمية، لكن المرصد السوري لحقوق الإنسان أشار إلى مقتل 11 من العسكريين السوريين، بينهم 4 ضباط، بينما أصيب ما لا يقل عن 10 آخرين بجروح، وبعد القصف ألقت طائرات إسرائيلية منشورات ورقية في ريف درعا تحذّر النظام السوري، وتتهمه بالمسؤولية عن إطلاق صواريخ باتجاه الجولان.
وجاء في المنشورات، بحسب موقع “الحرة“: “إلى قادة وعناصر الجيش السوري، تستمر الفصائل الفلسطينية الإرهابية بإطلاق الصواريخ من الأراضي السورية تجاه الأراضي الإسرائيلية. إن قادة الجيش وبالأخص قائد اللواء 112 (في مدينة نوى) يتحملون المسؤولية الكاملة عن كل الأعمال التخريبية التي تنطلق من سوريا… وكل عمل تخريبي باتجاه دولة إسرائيل سيقابل بيد من حديد وقد أعذر من أنذر”.
لاحقاً، تبنت إسرائيل القصف، مشيرة إلى أنه جاء رداً على إطلاق الصواريخ من سوريا باتجاه أراضيها، وقصفت الطائرات المقاتلة البنية التحتية العسكرية وقاذفات هاون تابعة للجيش السوري.
تستهدف إسرائيل نقاطاً، تقول إنها تابعة لإيران وميليشياته في سوريا، منذ 13 عاماً، وبحسب موقع Times of Israel، في تقرير له، يبدو أن إسرائيل تستهدف المطارات السورية لمواجهة استخدام إيران الرحلات الجوية التجارية لجلب الإمدادات العسكرية إلى سوريا، والتي يتم نقلها لاحقاً إلى لبنان لاستخدامها من “حزب الله”. من جهة أخرى، استهدفت الكثير من ضربات إسرائيل قياديين فلسطينيين يقيمون في سوريا، معظمهم أعضاء في “حركة الجهاد الإسلامي”.
بحسب مركز “جسور للدراسات”، كان عدد الضربات الإسرائيلية على سوريا خلال عام 2022، 28 ضربة، واستهدفت 235 موقعاً، منها 68 نقطة لقوات النظام السوري، و224 هدفاً للميليشيات الإيرانية.
يبدو النظام السوري بعيداً عن اتخاذ خطوات عسكرية تجاه إسرائيل، فبينما تقصف الأخيرة غزة، ينشغل هو وحليفته روسيا بقصف مدينة إدلب، معقل المعارضة السورية المسلحة، في شمال غربي سوريا، وهي إشارة الى انشغال نظام الأسد بالداخل، وعدم رغبته أو قدرته على الزج بنفسه في حرب ليس جاهزاً لها لا عسكرياً ولا اقتصادياً، فلا قدرة له على خطوة كهذه مع انهيار الاقتصاد السوري من جهة وما تبقى لديه من الجيش المتهلهل من جهة أخرى. وتبقى القذائف التي انطلقت من الداخل السوري أشبه بتحقيق انتصارات وهمية على حساب الحرب الكبيرة على غزة.
درج
———————–
من غرناطة إلى غزة/ خليل النعيمي
فكرة الاستعمار ليست أخلاقية.. ومعالجتها بطريقة أخلاقية لا معنى لها. الاستعمار يقوم على مفهوم السَلْب: سلب الأرض، وسلب الحياة، وسَلْب التاريخ. فماذا تنفع المفاهيم الأخلاقية في هذه الحال؟ وماذا تنفع البيانات والإدانات؟ نحن لسنا مع العنف، ولا ندعو له، لكننا نحاول أن نقارب الموضوع بشكل خالٍ من الانفعالات، ومجرّد عن العواطف، وبالخصوص، تلك العواطف الزائفة، المبنية على المقولات الفارغة. وباختصار، الاحتلال يعني المقاومة. وغزة لم تفعل شيئاً غير مقاومة احتلال بلا قيود طال أمده.
«الغرب» الذي نعرفه، اليوم، والذي يتشدّق بالديمقراطية عندما تتناسب مع مشروع هيمنته الكاسحة على العالم، هو الذي أسس الاستعمار الحديث: القتل الهمجيّ، والاستيلاء على الثروات والأرض وما تنتجه، والاستيطان القسري، وتبديل الهويّات القومية، وفرض لغته وطرائق تفكيره على الآخرين. وقد بدأ ذلك منذ عام 1492 للميلاد، العام الذي اكتسحت فيه قوات «كولومبس» الغازية قارة الهنود: «الإنكا، والمايا، والآزتيكْ» رغم حضارتهم العظمى السائدة، آنذاك، التي سلَبها حتى اسمها فأصبحت «أمريكا»، بعد أن قام هو، وأتباعه من بعده، وعلى رأسهم القائد الدموي «كورتيس» بإبادة شعوبها، واحتلالها بالكامل. وهو العالم نفسه الذي سقطت فيه «غرناطة»، آخر حواضر الأندلس، بعد أن كانت محاصرة منذ سنوات، وهُجِّر سكانها إلى أصقاع أخرى، كما يحاولون أن يفعلوا اليوم، بلا رحمة، مع غزة.
منذ ذلك التاريخ والغرب ينهب ثروات الكون، ويبيد الشعوب، ويمزق العالم، ولا يتورّع عن تغيير التاريخ، وتزويره. فهو الذي حوّل شبه القارة الهندية إلى دويلات متناحرة دينياً وسياسياً، وهو الذي قسّم الصين، وهو الذي جَزّأ افريقيا، وهو الذي فَتّت العالم العربي، وأوصَلَه إلى الحال الذي هو عليه الآن. وهو الذي زرع في أرضنا العربية «مستوطنة» إسرائيل المبنية على الأساطير الدينية، ووَهْم نَقاء العرق، والمشكّلة على نموذج «إسبارطي» عدائي تحرّكه الرغبة الحادة في التوسّع والسيطرة، وأكثر من ذلك، هو الذي اصطنع دُولنا وفَصّلها على قَدّ شهيته لنهب ثرواتنا والسيطرة على أقدارنا، عَبْر استعمارنا بشكل مباشر، أولاً، ومن بعد، بشكل غير مباشر، لا يزال.
وأتصوّر أننا لن نستطيع التخلّص منه، أبداً، ما دامت عندنا ثروات وموارد حيوية هو بحاجة إليها. واليوم، رأينا، وسمعنا، وشاهدنا، رد فعل هذا الغرب الفوري والحميم في مساندة إسرائيل، وتشجيعها على تدمير ما تبقّي من فلسطين في غزة. لذا لا جدوى من استمالته بتواقيع عرائض المناشدة والاستعطاف، من أجل الوقوف مع غزة. لا يُحرّر غزة إلا أهلها، رغم العوائق والصعوبات، وأهم العوائق التي تواجه هذا التحرير هو تغلغل الغرب الخبيث في أعماق الشعوب العربية، وبالخصوص في سلطاتها على اختلاف أنواعها، وهو تغلغل جهنميّ، لن يقاومه إلا وعي عربي جديد يقوم على فكر حر، وسياسة مستقلة، وابتعاد عن التقليد الأعمى. وبالخصوص، الكفّ عن تبذير الطاقة العربية بشكل عبثي، وبلا أدنى حساب. والطاقة، كما تعلمون، أيّاً كان شأنها، معنوية أو مادية، فكرية أو سياسية، محدودة. ولا يمكن استعادتها ولا تعويضها منذ أنْ تُهْدَر. وفي هذا الشأن، يبدو لي بلا معنى توقيع العرائض من قبل بعض المثقفين العرب، وتوجيهها إلى مثقفي الغرب، أحفاد «كولومبس» مُبيد هنود أمريكا، ومدمّر حضارتهم الرائعة، لاستثارة عواطفهم، لكأن مثقفينا يجهلون وقائع التاريخ الكوني التراجيدية، ولا يعرفون مصائر أُمم العالَم الذي بدأ الغرب نَهْبَه منذ أواخر القرن الخامس عشر، والمستمر إلى اليوم. ولا تدل هذه العرائض والاستغاثات البدائية إلاّ على اكتمال استلابنا بالغرب ثقافياً وسياسياً.
كتب سوري
القدس العربي
———————-
إدوارد سعيد في الليلة الظلماء/ صبحي حديدي
الراحل الكبير إدوارد سعيد (1935 – 2003) يُفتقد كثيراً، كما يليق بمفكّر وناقد أدبي/ ثقافي رفيع الإسهام وعميق الرؤية؛ في ميادين شتى لا تبدأ من القضايا السياسية والإنسانية الكبرى (التي باتت تُحمّل صفة «الخاسرة»)، ولا تنتهي عند المنحنى الراهن في أحقاب ما بعد الاستعمار القديم/ الجديد وفجر الإمبريالية الأحدث، وتمرّ دائماً بالانشغال الأهمّ والأعمق والأكثر إفصاحاً عن شجاعة الرجل وتَميُّز سجالاته وعمق بصيرته: القضية الفلسطينية.
وبين كتاباته الكثيرة الغزيرة عن فلسطين والفلسطينيين، وبالتالي عن دولة الاحتلال الإسرائيلي وماضي وحاضر ومستقبل الحركة الصهيونية، تجد هذه السطور دلالات عديدة في التوقف عند واحد من أهمّ أعماله في هذا الصدد، ولعله بين الأخطر والأجدى والأبكر استشرافاً لمآلات الصراع العربي – الإسرائيلي، ولاصطفافات الغرب الرسمي والشعبي خلف الكيان الصهيوني؛ وهو من جانب آخر مؤسف عمل غير معروف على نطاق واسع، أو بما يكفي ويستوجب، لدى الشرائح الأوسع من قرّاء سعيد العرب على نحو خاص. وأمّا ثالثاً، وليس أخيراً بالطبع، فهو أنّ محتويات العمل تخاطب الراهن على نحو مذهل؛ سواء لجهة انفلات الهمجية الإسرائيلية من كلّ لجام خلال العدوان على قطاع غزّة وسكانه المدنيين الفلسطينيين، أو لجهة انحطاط الغالبية الساحقة من ديمقراطيات الغرب إلى الدرك الأقصى من السكوت عن جرائم الحرب أو التواطؤ معها أو حتى تشجيعها.
الكتاب هو «لَوْم الضحايا: الأبحاث الزائفة والقضية الفلسطينية»، الذي أشرف سعيد على تحريره بمشاركة الكاتب البريطاني الراحل كريستوفر هتشنز، وصدر بالإنكليزية ضمن منشورات Verso في لندن، سنة 1988؛ وفي حدود ما تعلم هذه السطور، ليست للكتاب سوى ترجمة عربية واحدة أنجزتها «الهيئة العامة للاستعلامات» في القاهرة سنة 1991، وصدرت تحت عنوان «إلقاء اللوم على الضحايا: الدراسات الزائفة والقضية الفلسطينية»، من دون ذكر اسم المترجم. ولائحة المساهمين، إلى جانب المحرّرَين، ضمّت نورمان فنكلستين، بيريتز كيدرون، نوم شومسكي، ج. و. بويرسوك، إبراهيم أبو لغد، رشيد خالدي، جانيت أبو لغد، محمد حلاج، وإيليا زريق. سعيد كتب المقدمة وشارك في مقالة مشتركة حول صورة الشعب الفلسطيني وثلاث مساهمات: «مؤامرة إطراء»، «قراءة كنعانية»، و»الإرهابي الضروري» الجديرة هنا بتفصيل خاصّ.
ذلك لأنّ المقالة كُتبت في أواسط ثمانينيات القرن المنصرم، خلال سياقات أمريكية وأوروبية شهدت شحن مفهوم «الإرهاب» بما هبّ ودبّ من معانٍ وتأويلات مصطنَعة غالباً، أو مصنَّعة وزائفة استهدفت استبدال الشيوعية كـ»عدوّ الشعب الأوّل» بأيّ وكلّ ما يمكن إدراجه من نزاعات وصراعات ومواقف مناوئة للغرب عموماً وللإمبريالية الأمريكية خصوصاً، تحت خانة الإرهاب العامة والمعممة والغائمة. هدف ثانٍ لمقالة سعيد كان مساجلة كتاب صدر خلال الفترة ذاتها، وسرعان ما انقلب إلى «إنجيل» من الأقوال المأثورة، المفخخة والضحلة والمغلوطة، بصدد «قياس» الإرهاب و»تشخيص» الإرهابيين؛ الذين تمّ حصرهم، بأقصى درجات الاستخفاف، في الإسلام أوّلاً، ثمّ في تفريعاته التي يأتي الفلسطينيون على رأسها.
ولم تكن مصادفة، كما أثبتت الوقائع اللاحقة أنّ محرّر الكتاب ذاك الذي صدر بالإنكليزية في نيويورك سنة 1986 بعنوان «الإرهاب: كيف يمكن للغرب أن ينتصر»، لم يكن سوى… بنيامين نتنياهو، وكان آنذاك مندوب دولة الاحتلال لدى الأمم المتحدة. ولا عجب كذلك أن يتصدّر المساهمين «خبراء» من أمثال بنصهيون نتنياهو (والد المحرّر الهمام، وكان يومها أبرز الإسرائيليين الأحياء المناصرين علانية لأفكار زئيف جابوتنسكي، خاصة خلال أطوار هيام الأخير بالفاشية الإيطالية)؛ أو إسحق رابين (بطل حثّ الجيش الإسرائيلي على استخدام الصخور في دقّ عظام الفلسطينيين)؛ صحبة جورج شولتز، برنارد لويس، بول جونسون، جين كيرباترك، وموشيه أرنز. ولا غرابة، ثالثاً، أن تتوزع فصول الكتاب على عناوين مثل «تحدّي الديمقراطيات»، «الإرهاب والتوتاليتارية»، «الإرهاب والعالم الإسلامي» بالطبع، و… «الركائز القانونية للحرب ضدّ الإرهاب».
لافت إلى هذا أنّ تعريف الإرهاب الذي يقترحه نتنياهو يبدو، لسخرية التاريخ، منطبقاً كلّ الانطباق على جرائم الحرب التي واصل الجيش الإسرائيلي ارتكابها في سائر فلسطين، على امتداد 75 سنة من عمر الكيان الصهيوني؛ ويواصلها اليوم أيضاً على النحو الأشدّ وحشية وهمجية وفاشية، ضدّ 2,2 مليون آدمي فلسطيني في قطاع غزّة، من دون استثناء المشافي والمخابز والمساجد والمدارس. الإرهاب، كتب نتنياهو في تقديم الكتاب، هو «الإجرام المتعمد والمنهجي، والتشويه، والتهديد، بحق الأبرياء لزرع الخوف لأسباب سياسية»؛ الأمر الذي يعني أنّ التعريف ليس قاصراً عن توصيف إرهاب الدولة الإسرائيلي القديم والمتجدد فقط، بل يبدو ألطف وأرقّ من أن يُقارَن بأيّ من مذابح الكيان، منذ تأسيسه وحتى الساعة. الأرجح، استطراداً أنّ نتنياهو محرّر الكتاب آنف الذكر سوف يكون أوّل المعترضين على التعريف ذاك، المراجعين له بما يغسل أيدي الاحتلال الإسرائيلي من دماء آلاف الفلسطينيين؛ ومن غير المستبعد أن يكون رجل مثل الرئيس الأمريكي جو بايدن ثاني المعترضين على ذلك التعريف… الفقير!
يُفتقد سعيد، إذن، في ليالٍ ظلماء مثل هذه التي ترخي سدولها الدامية على أرض فلسطين؛ ومع افتقاده يزدحم المشهد بخطابات الانحياز الأعمى والانحطاط الأخلاقي وتسطيح المفاهيم وتزييف الحقائق والتهليل لإراقة الدماء…
——————–
اليأس من العدالة/ فوّاز حداد
هل ثمّة من جديد في القضية الفلسطينية؟ نعم، الكثير من الأحداث، لم تتقادم، أغلبها جديد وساخن؛ عملية “طوفان الأقصى” المُذهلة، وانكسار الأمان الإسرائيلي، والقصف الوحشي على غزة، واصطفاف الغرب إلى جانب “إسرائيل”، الذي يُمكن وصفه بشكل أكثر دقة، هرولة الدول الأوروبية المذعورة لإعلان تأييدها لـ”حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، وكأن المصاب مصابها، بينما لم يكن سوى امتثال لدعوة بايدن في إعطاء الضوء الأخضر بالردّ، بما لا يقلّ عن عملية إبادة.
أظهر التأييد الغربي منذ اللحظات الأولى، بعدما استفاقت أوروبا من الصدمة، الدعم المُطلَق لـ”إسرائيل”، بينما تماهت أميركا معها، عبر إطلاق سلسلة من الأكاذيب كي تُساعدها على استعادة توازنها بإيقاع أكبر قدر من القتل، ومحاولة تبرئتها من قصف “المستشفى المعمداني”.
كذلك التشكيك بعدد الضحايا الفلسطينيين الذين زادت أعدادهم من المدنيّين عن ثمانية آلاف، وإنكار أن تكون البوارج الأميركية التي حلّت في المنطقة لها علاقة بالحرب، وإنما منع خطر “داعش” من العودة. وهي الأكذوبة الكبرى التي تلقّفها نتانياهو وضباطه الفاشيون وبالغوا في استهلاكها إلى حدّ المساواة بينهما، تحت شعار “حماس هي تنظيم الدولة”. وبما أن أوروبا استساغت لعب دور التابع، تاجرت بالشعار نفسه، فأكّد الرئيس الفرنسي ماكرون الاستعداد للانضمام للتحالف الجديد ضدّ حماس على أنها تنظيم الدولة، وزاد وزير الدفاع الأميركي ووصف ما فعلته حماس بأنه أسوأ ممّا فعله تنظيم الدولة. ولا عجب، إنه موسم الأكاذيب.
منح بايدن الضوء الأخضر ليس للحرب فقط، وإنما لارتكاب المجازر على مدار الساعة، بذريعة أنّ حماس، تمثّل الفرع الفلسطيني لداعش العدمية، لا تهتمّ بحياة المدنيّين ولا حياة الأطفال والنساء، حماس تنشد الموت لا الحياة. وباتت الحملة على غزة انتقامية مسعورة بلا رحمة، ما أعفاهم من أي حسٍّ أخلاقي، وحسب وزير الحرب الإسرائيلي لم يعد المدنيّون الفلسطينيون إلّا “حيوانات بشرية”.
ليست حماس منظمة عدمية، ورغم الخلاف حولها، يجب العودة إلى القضية الفلسطينية، فهي كانت وما زالت قضية تحرّر وطني لشعب يقاوم الاحتلال، ولو أنّ أعداءها اعتبروها حركة إرهابية لمجرّد أنها ذات طابع إسلامي، ما يعزّز مهزلة الفوبيا من الإسلام. إنها كأغلب حركات التحرُّر تُناضل بجميع الوسائل، بالسياسة والسلاح؛ لم تفلح السياسة، فكان لا بدّ من السلاح، ليست حماس منظّمة إرهابية ولا مهووسة بالموت، بل بالحياة الكريمة، وتُدافع عن هذا الحقّ إلى حدّ التضحية بالروح في سبيل التخلّص من الاحتلال، دائماً ما كانت الحرّية مُكلفة في زمن الاستعمار، خاصة الاستيطاني.
من هنا يُمكن فهم الإعلام الغربي الذي وجدها حجّة للسير على الإيقاع الأميركي الإسرائيلي، من دون التقيّد بأخلاقيات المهنة، بتلفيق المعلومات، وبإهمال المصادر الموثوقة، والافتقاد إلى النزاهة والمصداقية، وتلقّي تعليمات حكوماتهم بعدم التركيز على الضحايا المدنيّين وقتل الأطفال في غزة، وكأنها حرب بلا ضحايا سوى مستوطني غزة.
وفي برامج “التوك شو”، أصبح السؤال الأول للمتعاطفين والمدافعين عن الحقوق الفلسطينية: هل تدين عملية السابع من تشرين الأول/ أكتوبر؟ يريدون الحصول منهم على اعتراف يدين حماس، كذريعة تبيح للإسرائيليّين التدمير والقتل العشوائيَّين، واعتبار المدنيِّين هدفاً مشروعاً للانتقام الوحشي، في دفاع “إسرائيل” عن النفس، دونما النظر إلى الضحايا الفلسطينيين من الأطفال والنساء.
الحملة الكثيفة ضدّ غزة على جميع المستويات، أحبط زخمها الحملة المُعاكسة للشعوب في مختلف بلدان العالم، ضمّت مئات الآلاف من المناصرين للحرّيات، ما أعاد فلسطين إلى واجهة القضايا العالمية، وأكّد استحالة استمرار “المجتمع الدولي” في تجاهل حقوق الفلسطينيّين القومية والسياسية والإنسانية المشروعة، وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، ما دامت المقاومة مستمرّة. أما وقوف الشعوب العربية مع فلسطين ففرض نفسه بشكل واضح.
وضع الفلسطينيون أمام الرأي العام الحقيقة الوحيدة التي يعملون عليها، لا للاحتلال والعنصرية والقمع والتمييز والأبارتهايد، مهما مرّ من الزمن، على المدى الطويل الزمن يعمل لصالحهم، والتفوّق العسكري الإسرائيلي لن يحسم الصراع، ولا الالتفاف على الفلسطينيين، والتطبيع مع الحكومات العربية، أو تمرير الاتفاقيات السرية والعلنية، على أنها الأمر الواقع.
ليست الإنسانية كذبة إنها حقيقة، مهما حاول الغرب التلاعب بها باستعمال السياسة للمراوغة وقلب الحقائق، إلى حد الاعتقاد بأن العدالة عدالتهم وحدهم، وأنهم نجحوا في دفع الفلسطينيين إلى اليأس المُطلق.
بيد أنهم لم يدركوا، أن العدالة ليست احتكاراً غربياً، كما لم يدركوا ربما حتى الآن، أن عملية حماس يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، كانت إحدى نتائج اليأس من عدالتهم، حتى اليأس كان سلاحاً. أما العدالة فإنسانية، تلك التي لن تعرف فلسطين غيرها.
* روائي من سورية
العربي الجديد
————————-
إدانة الجرائم بحقّ الإنسانية موقف أخلاقي/ سوسن جميل حسن
عرضت فضائية الجزيرة، قبل نحو عشرين عامًا، استطلاع رأي مرتجلا في بعض المدن العربية، شمل عيّنات من الشباب في الشوارع والمجمّعات التجارية، قام على سؤال وحيد: ماذا تعرف عن نكسة حزيران؟ كانت الردود الصادمة، في غالبيتها الساحقة، صمتا واستغرابا وتلكؤا أمام سؤال غريب لأنهم لم يسمعوا بتلك النكسة. كان هذا قبل شيوع وسائل التواصل الاجتماعي، وفي بلدانٍ عربيةٍ لا تصنّف بأنها مما تسمّى “دول المواجهة”.
الوضع اليوم مختلف، لم يعد هناك حدث يمكن أن يقع في أي بقعة من الأرض، إلّا وتصل الأخبار والصور والمشاهد الحية عنه في الدقائق الأولى لوقوعه، فكيف بحربٍ كالتي تشنّها إسرائيل على قطاع غزّة؟ لقد تحرّكت الشعوب في الدول العربية وفي عواصم ومدن عديدة تطالب بوقف الحرب، بحماية المدنيين، بحماية الأطفال، بفكّ الحصار، وتجاوزتها إلى شعار جامع يردّده المتظاهرون “الحرّية لفلسطين”، وهذا مؤشّر طيب، يبشّر بأن هناك وعيًا بدأ يتشكّل حول قضية شعبٍ يعاني من الاحتلال والتهجير والتشريد وشنّ الحروب، ومحاولات محو الهوية، وبدأ الاهتمام بها.
غالبية المتظاهرين في العالم من جيل الشباب، هذا عدا الفيديوهات التي تتدفّق بغزارة على “يوتيوب” ومنصّات التواصل المختلفة، ينتمي قسم كبير من معدّيها إلى جيل الشباب، ولهذا دلالاته الإيجابية، فما يحصل اليوم في العالم من حروب وأزمات في الدول وفي الاقتصادات الكبيرة، وينعكس على حياة الشعوب، جعل جيل الشباب يطرح أسئلته الخاصة، بل دفعه إلى تحطيم يقينيّاته التي نشأ عليها، والسرديات التي تشربها بواسطة الثقافة السائدة في محيطه برعاية الأنظمة المسيطرة، سياسيًّا كان أو اجتماعيًّا أو حتى دينيًّا، وراح يتقصّى الحقائق، مدفوعًا بقيم نشأ عليها، وطالما سعت تلك الأنظمة إلى رفعها عنوانًا يحمل قيم العدالة والحرية والمساواة وحقوق الشعوب والأفراد، بينما أظهر الواقع ازدواجية المعايير عندما تعلق الأمر بالحرب على غزّة، وأن التحالفات دائمًا تتبع المصالح في صراعها على سيادة العالم ولو بالقوة.
في الوقت نفسه، نرى أن فاتحة أي نقاش أو تحليل لما يجري في غزّة، في العالم الغربي بشكل صريح، وفي معظم الدول العربية بشكل موارب، هو إشهار النيّات بإعلان الموقف تجاه ما قامت به حركة حماس في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، ليكون الموقف المعلن، أو المفنّد، عتبة الدخول إلى نقاش وقائع الميدان، وما يقترف من جرائم بحق الإنسانية.
من الطبيعي أن يكون هناك خلافٌ بشأن ما قامت به “حماس”، فالشارع الفلسطيني منقسمٌ منذ أول خلاف نشأ بين الطرفين بعد قيام السلطة الفلسطينية في العام 1994، وانضواء قطاع غزّة تحت سلطتها، إذ تعمّقت الفجوة بين السلطة و”حماس”، ونفّذت السلطة حملات اعتقالات واسعة تركّزت على قيادات حركة حماس وعناصرها وجهازها العسكري، خصوصا الحملة الكبيرة في فبراير/ شباط 1996 عندما قامت الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة بأوسع حملة اعتقالات ضد عناصر حركتي حماس والجهاد الإسلامي في الضفة الغربية وقطاع غزّة استمرّت عدة أشهر، تبعها اعتقال قيادات في “حماس”، في مقدمتهم محمود الزّهار وأحمد بحر وغازي حمد وإبراهيم المقادمة. إلى أن قامت انتفاضة الأقصى في العام 2000، فاتحد الفلسطينيون حولها ضد الاحتلال، وفتحت أبواب الحوار الداخلي برعاية مصر وانتهى باتفاق القاهرة بين الفصائل في مارس/ آذار 2005.
وفي العام 2006 جرت الانتخابات التشريعية الثانية الفلسطينية، شاركت فيها “حماس” للمرّة الأولى، وفازت بأغلبية المقاعد في المجلس التشريعي، ما لم ترضَ عنه السلطة أو حركة فتح، شكّلت الحركة حكومتها برئاسة إسماعيل هنيّة، وكل ما تلا ذلك معروف، ومعروفة الخلافات التي وصلت إلى حد المواجهات والاغتيالات أحيانًا، وماثل في البال احتلال إسرائيل لها، والحروب التي شنّتها منذ ذلك التاريخ، مضافة إلى حروبها السابقة.
يقابل هذا الانقسام بالتوازي انقسام بين الأنظمة العربية أيضًا، بين مؤيّد نهج “حماس” في المقاومة ومؤيد لسياسة السلطة في الضفة، هذا معروف، بل إن دولا عربية عديدة اتخذت لنفسها مسارات أخرى، وذلك بالتطبيع مع إسرائيل، تزامن هذا الحراك السياسي، وتوالي التطبيع والعلاقات مع إسرائيل مع اشتعال المنطقة العربية في أكثر من منطقة بما سمّي الربيع العربي، والحروب التي اشتعلت من دولةٍ إلى أخرى، اليمن، سورية، ليبيا، تونس المتعثرة، العراق قبلها، السودان، وقبلها الجزائر، ما جعل القضية الفلسطينية تنزاح بعض الشيء إلى هامش المشهد.
أمّا ما يحصل اليوم من إجرام إسرائيلي بحقّ سكّان قطاع غزّة، وبحقّ فلسطينيي الضفة الغربية والمخيمات فلا يمكن وضعه في الميزان نفسه، لا قيمة لتفنيد ما قامت به “حماس” أمام ما يحصل، مهما اختلف بعضهم معها، ولا يوجد تناسبٌ بين الفعل وردّة الفعل، لقد ذهبت المشكلة إلى ساحة أخرى. ما يحصل يرقى إلى إبادة شعب، فالدمار الذي يقع بالغارات المتلاحقة منذ اليوم الأول شمل أكثر من نصف أبنية القطاع ومرافقه العامة وبنيته التحتية ومشافيه ومراكز الإيواء والمراكز الصحية وغيرها، وحصد خلال فترة قصيرة ما يقارب تسعة آلاف شخص جلهم من الأطفال والنساء وكبار السن، عدا المفقودين، وهجّر الباقين على حافّة الموت المحدق بحياتهم إلى مناطق أخرى لاحقهم القصف إليها.
كيف يقبل إنسانٌ يعيش في هذا العصر، عصر الحقوق الإنسانية التي تتبجّح بها أنظمة العالم “المتحضّر”، أن يُنظر إلى شعبٍ على أنه مجموعة من “الحيوانات البشرية” غير جديرة بالحياة، ما يبرّر إبادتها؟ أم أن النزعة الاستعلائية ما زالت في وجدان هذا العالم، عندما اقتاد المستعمرون الإنكليز “عيّنات” من “الحيوانات البشرية” من السكان الأصليين لأميركا، وعرضوهم في أقفاص أمام شعوبهم؟
إبادة ممنهجة لبذور الحياة، تستهدف النساء والأطفال، هل يفهم العالم هذه المعادلة البسيطة للأم الفلسطينية؟ الأم التي ترهن حياتها من أجل إنجاب الشهداء، لا تقوى على أن تعيش أمومتها وتفرح بضناها، الأم الفلسطينية مرهونةٌ لواجب الولادة كي لا ينقرض شعبها المظلوم، عندما نعرف أن هناك خمسين ألف حامل في القطاع اليوم، وأن خمسة آلاف منهن على أبواب الولادة خلال أيام، وأن ما ينتظر هؤلاء المواليد، وفقًا للجرائم التي ترتكب، هو الموت. نفهم لماذا يولد طفل في غزّة كل عشر دقائق، فلو حسبنا عدد الضحايا من الأطفال والمفقودين منهم، لفهمنا المعادلة، إذ يقتل كل عشر دقائق طفل، وكل ربع ساعة امرأة.
الموقف مما يجري في غزّة واجب أخلاقي إنساني، وليس موقفًا سياسيًّا، هذا ما يدفع الشعوب إلى التظاهر في مدن كثيرة. السياسة تأتي لاحقًا، لو كانت الحكومات المتلاحقة منذ النكبة في 1948 في الدول العربية، منتخبة فعليًّا من شعوبها، ولو أنها كانت تعمل لأجل شعوبها، ولم تمارس طغيانها وإقصاء الشعب عن صنع القرارات والسياسات، هل كانت قضية فلسطين وصلت إلى كل هذا الاستعصاء؟ هل كانت مساراتها ربما اتخذت احتمالات أفضل؟ وهل كانت الشعوب ترزح، في بعضٍ منها، تحت مقصلة الرقيب فيما لو انتفضت لتصرخ في وجه الحرب والغطرسة الإسرائيلية والصمت العربي؟
—————————-
وكان الطوفان فهل من حلّ؟/ عبد الباسط سيدا
عادت القضية الفلسطينية إلى واجهة الاهتمامات الكبرى المحلية والإقليمية والدولية، بعد عملية “طوفان الأقصى” التي نفذها الذراعان العسكريان لكل من حركتي حماس والجهاد الإسلامي في 7 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري. فبعد تجذّر الانشقاق الفلسطيني، واعتماد الدول العربية أسلوب التطبيع الثنائي مع إسرائيل، وهو الأسلوب الذي كانت الأخيرة تفضّله، وتطالب به دائماً، إلى أن تمكّنت من فرضه بأساليب مختلفة (منها التأشير إلى الخطر الإيراني) على سائر الدول العربية التي طبّعّت العلاقات معها.
ومع انشغال غالبية الدول العربية بقضاياها الداخلية، ومعاناتها من الصراعات البينية، وحتى من الصراعات الإقليمية والدولية، كما سورية مثلاً، إلى جانب تمركز اهتمام العالم على الحرب الروسية على أوكرانيا وتفاعلاتها، والتسابق الأميركي الصيني إلى مفاتيح السيطرة، وضبط التوازنات في منطقة الشرق الأقصى.، وذلك تحسّباً لاحتمالات المستقبل في ضوء المنافسة الشديدة على التكنولوجيا والتجارة والطرق التجارية والأسواق ومصادر الطاقة الأكثر أهمية.
بناء على كل ما تقدم، اعتقد الجميع أن القضية الفلسطينية باتت جزءاً منسيّاً من ملفات الحرب الباردة، وأن إسرائيل، بوجهها اليميني المتشدّد، تمكّنت من حسم الأمور عبر ترويج زعم مفادُه بأن حقّ الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة، وعاصمتها القدس الشرقية، وذلك بموجب قرار مجلس الأمن 242 عام 1967، بات مجرّد وهم من الأوهام المستحيلة التحقّق بعد إغراق الأراضي الفلسطينية بموجب القرار الأممي المشار إليه بالمستوطنات التي غدت أشبه بالمعسكرات، يفرض سكّانها سيطرتهم على أرض ليست لهم بقوّة السلاح والقانون الأساسي الإسرائيلي الذي يعتبر إسرائيل دولة يهودية، مع اعترافٍ خجولٍ بحقوق المكوّنات المجتمعية الأخرى، سواء الثقافية أم الإدارية، ولكن بشروط صارمة تحدّدها السلطات الإسرائيلية.
ما حصل بعد عملية طوفان الأقصى إدراك الرأي العام المحلي داخل إسرائيل وفلسطين، وداخل كل دول عربية، إلى جانب الرأي العام الإقليمي والدولي، حقيقة وجود قضية فلسطينية لا يمكن أن تستقر الأمور في المنطقة من دون معالجتها، إلى جانب قضايا أخرى تخصّ مجتمعات المنطقة ودولها، لا سيما بعد التدخّلات الإيرانية المستمرّة الهادفة إلى زعزعة الأمن والاستقرار في مختلف أنحاء الإقليم، تمهيداً للأرضية أمام التمدّد والتوسّع، اعتماداً على الأذرع المليشياوية التي شكّلها النظام الإيراني من القوى المحلية، بالإضافة إلى تلك التي جلبها وأدخلها إلى دولٍ في الإقليم تحت يافطات مذهبية.
ولكن الأسئلة التي تفرض ذاتها بخصوص “طوفان الأقصى”: هل كانت هذه العملية بموجب اتفاق وتنسيق كاملين متكاملين بين حركتي حماس الجهاد الإسلامي من جهة والقيادة الإيرانية ومعها حزب الله من جهة أخرى؟ هل أرادت “حماس” بهذه العملية تحريك الأجواء عبر إعادة خلط الأوراق، خصوصا بعد بروز مؤشّرات لحصول تطبيع في العلاقات بين السعودية واسرائيل؟ وكان من شأن هذا الأمر، في حال تحققه، التضييق على الماكينة الإعلامية الإيرانية التي اتخذت من شعارات تحرير الأقصى، ومناصرة الحقوق الفلسطينية؛ وسيلة لتصوير إيران قوة إقليمية قادرة على اختراق الحدود البرّية والبحرية وحتى الجوية لدول المنطقة، وإيصال الأسلحة والتقنيات إلى “حماس” و”الجهاد الإسلامي”، ودعمهما في عمليتهما، على أن تعرض لاحقا خدماتها للحدّ من التوتر والتصعيد، وحتى المساهمة في جهود إطلاق سراح الرهائن – الأسرى من العسكريين والمدنيين الإسرائيليين، والمدنيين ممن يحملون جنسياتٍ مزدوجة، أميركية وأوروبية غربية، وهي الجهود التي تضطلع قطر بدور محوري فيها، بناء على توافق سائر الأطراف، بمن فيهم الأميركان، وذلك في مقابل التساهل معها (مع إيران) في ملفّات أخرى تخصّ دورها الإقليمي مستقبلاً، ومنظومتها الصاروخية، وحتى ملفّها النووي، أم أن “حماس” استغلّت الدعم الإيراني لها الذي كان مخصّصاً لإيصال رسائل إيرانية تحريكية من حين إلى آخر إلى إسرائيل، في هيئة قصف صاروخي غير مجدٍ، أو القيام بعمليات إبهارية إعلامية في المقام الأول، لتكون من بين نقاط دعم الموقف على طاولة المفاوضات مع الولايات المتحدة والقوى الغربية ومعها إسرائيل، وقامت “حماس” بعملية نوعية لحسابها الخاص؟ هذا رغم ما رافق العملية المعنيّة من أحداث وصور وأخبار أساءت إلى “حماس” كثيراً، ودعمت الرواية الإسرائيلية التي تبنّتها الولايات المتحدة ومعها الدول الأوروبية الغربية الأساسية. هل أرادت “حماس” بعمليتها تسليط الأضواء مجدّدا على القضية الفلسطينية، وتأكيد أولويتها، وإبراز دور الحركة وأهميتها في الوسط الفلسطيني والأوساط العربية، ومحاولة تحريك الرأي العام الغربي عبر المظاهرات والاحتجاجات؟
ولعل ما صرح به الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس عن التقصير في معالجة القضية الفلسطينية، يعكس وجهة نظر كثير من القوى الشعبية والسياسية، وآراء الباحثين المتابعين لتطورات القضية الفلسطينية، والمطّلعين على جذورها وأبعاد الخلاف الإسرائيلي الفلسطيني، ومظاهره المسلحة والقمعية، هذا إلى جانب السياسات التمييزية التي ترهق الفلسطينيين، سواء في الضفة الغربية أم في غزّة وفي القدس وغيرها من المناطق الفلسطينيّة الخاضعة لسلطات الاحتلال بموجب توصيفات الأمم المتحدة.
ومهما كانت مضامين الأجوبة عن الأسئلة المطروحة، وبغض النظر عن التحليلات الكثيرة التي قدمت منذ انطلاقة العملية (قبل نحو ثلاثة أسابيع)، لن تعود الأمور على صعيد التعامل مع القضية الفلسطينية إلى سابق عهدها، فهذه القضية غير قابلة للوأد، على نقيض ما تصوره كثيرون، حتى من بين أشد المناصرين للحقوق الفلسطينية، وإنما هي قضية تخص ملايين الناس من الذين تعلّموا من كيسهم إذا صح التعبير، وأدركوا أن التمسّك بالأرض هو المدخل الضامن لتثبيت الحقوق؛ هذا بالإضافة إلى المستوى التعليمي المتقدّم الذي يتمتع به الجيل الفلسطيني الجديد، فضلاً عن الوعي الثقافي الرفيع بفضل وجود نخبٍ متميّزة في مختلف الميادين الأدبية والفنية. ومن شأنه ذلك كله ترسيخ الهوية الفلسطينية الوطنية بين الأجيال الشابة والمقبلة التي يزداد حجمها العددي، إلى جانب التنامي النوعي في مستوى وعيها بنسبٍ تفوق كثيراً ما يحصل في المجتمع الإسرائيلي؛ وهذا معناه ضرورة التوصل إلى حلولٍ واقعية توافقية في أي سعي جاد يرمي إلى قطع الطريق على حروبٍ مستقبلية ستكون بالتأكيد ما لم يتخلّ السياسيون الإسرائيليون عن الاعتقاد الذي يقوم على استدلال زائف، فحواه أن عاقبة التجاهل والإهمال أو عدم الاعتراف بالمشكلة ستتمثل في نسيانها ومن ثم إلغائها أو زوالها.
الحلّ الشامل في وقتنا الحالي للقضية الفلسطينية هو من باب التمنيّات البعيدة المنال، لكونها قضية كبيرة ومعقدة، ومصحوبة بالعواطف القوية، وتعاني من الجروح المزمنة الملتهبة، ومحمّلة بأبعادٍ دينيةٍ اعتقاديةٍ قوية التأثير. وفي المقابل، هناك إمكانية لتجزئة المشكلة إلى جملة مشكلاتٍ أصغر، ومحاولة تقديم الحلول الواقعية لكل مشكلةٍ بمفردها، إذا امتلكت الأطراف المعنية الإرادة، وأكّدت قدرتها على اتخاذ القرارات السياسية الصعبة وقت اللزوم ورغبتها في ذلك، عوضاً عن اللجوء إلى القتل والتدمير والتهديد بمزيد من الخراب. فإلى جانب اقتراح حلّ الدولتين، الذي نص عليه قرار مجلس الأمن 242، وهو مشروع الحل المعتمد دولياً وعلى المستويين العربي والإسلامي، يمكن أن تبحث في أوضاع الأماكن المقدّسة لجان مهنية محلية ودولية مشتركة، تضم باحثين ضليعين مطّلعين على التفاصيل الخاصة بتاريخ تلك الأماكن وحاضرها، كما تضم رجال دين معتدلين يمثلون الديانات السماوية الثلاثة من المطالبين بتحسين قواعد العيش المشترك بين اليهود والمسلمين والمسيحيين، بالإضافة إلى سياسيين يبحثون عن الحلول، لا إثارة المشكلات لاستغلالها في مشاريع شعبوية. ويمكن الاستئناس في هذا المجال بما ورد في قرار التقسيم، وبآراء المختصّين من الدول العربية والإسلامية، وممثلين عن الفاتيكان والكنائس الأرثوذكسية.
وعلى صعيد آخر، يمكن إيجاد صيغة أو صيغ إدارية مناسبة لتأمين ربط انتخابي بين الفلسطينيين الذين يعيشون في المناطق التي اعتبرت جزءاً من إسرائيل بموجب قرار التقسيم والفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزّة، وفلسطينيي الشتات، أو الاستمرار في الصيغة الحالية التي تعتبرهم جزءا من الدولة الإسرائيلية، واعتماد القواعد التي تبّدد هواجس الطرفين، وتضع أسساً لتعزيز الثقة، وتلتزم بآلية واضحة متّفق عليها لحل الخلافات عن طريق المؤسسات وبصورة سلمية. وعلاوة على هذا، يمكن تنظيم الأمور في الميادين الاقتصادية والخدمية والانتقال السلس للعمال والمزارعين بين الجانبين.
يمكن تناول كل هذه المسائل وغيرها، وهي قابلة للعلاج بالحلول الواقعية الممكنة، شرط توفر الإرادة والرغبة لدى الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، على قاعدة الالتزام بالقرارات الدولية، وعدم الاستهتار بها من هذا الجانب أو ذاك. ويوجب ذلك كله توحيد الموقف الفلسطيني، واختيار قيادة شرعية عبر انتخابات نزيهة شفّافة بإشراف دولي وعربي، الأمر الذي سيضع حدّاً لمسألة التشكيك في الشرعية أو ادّعائها من هذه الجهة أو تلك، لتأتي بعد ذلك الخطوة التالية، أي ضرورة تأمين موقف عربي قوي مساند وداعم للحقّ الفلسطيني.
تبقى كل هذه الآراء في إطار التمنّيات ما لم تهدأ المعركة المستعرة ويتم إطلاق سراح جميع الرهائن والمعتقلين لدى الجانبين كبادرة حسن نية تؤكّد وجود رغبة حقيقية لدى الجهتين في التوصل إلى حلٍّ مستدامٍ يكون في صالح الطرفين وصالح الأمن والاستقرار في الإقليم كله، الأمر الذي سيفتح الآفاق أمام مزيدٍ من الفرص للعيش الحرّ الكريم لشعوب المنطقة وأجيالها المقبلة.
العربي الجديد
————————-
السوريون الغارقون في طوفان الأقصى/ أيمن الشوفي
تجيء غزّة في سردٍ بصريّ طويل وموجع، يتسلّقه موتٌ أحمق من كل الاتجاهات، منذ أن قُصف مستشفى الأهلي المعمداني يوم 18 أكتوبر/ تشرين الأول، بضحاياه الذين قاربوا 500 مدنيّ، وحتى قبل ذلك، وربما بعده أيضاً. وذاك سردٌ بصريٌّ فجٌّ يتكّئ على معنى “الإبادة الجماعية” بمعناها الوافر والغزير، ويبثّها من دون هدنة، خصوصا حين يأتي محمولاً من شاشاتٍ لا تملّ إرساله إلى الجميع. وحين يحضر إلى سورية، فإنه يصير مرئياً أكثر من أي مكانٍ آخر، وكأنه يُبثُّ من سورية نفسها بلا أيّ مغالطاتٍ تُذكر، كما لو أنّ السوريين يقفون أمام مرآة تُجاهرُ بصورة فنائهم منذ تطوّع بشّار الأسد لتدمير البلاد قبل 12 عاماً.
يتساوى السوريون والفلسطينيون إذاً في تلقّي فعل الإبادة، ويتدرّبون على تخطّيه مراراً، ذلك أن السلطة في سورية ومثلها السلطة في إسرائيل تبرعان بإنتاج دمارٍ ممنهج، يمكن الاستدلال عليه ومراقبته حال تتبّع نمطي سلوكهما السلطويّ في سياقات تعامله مع الآخر المختلف، إما سياسياً مثلما هو الحال في سورية، حين صفّى النظام خصومه من المجتمع المعارض لسلطته، أو إثنيّاً مثلما هو الحال في إسرائيل التي تحاول على نحوٍ حثيث تصفية الفلسطينيين المعارضين لعنصرية سلطة الاحتلال هناك. غير أن رئيس حكومة دولة الاحتلال، نتنياهو، وحين يتفقّد إحدى القواعد العسكرية التابعة للجيش، بعد عملية السيوف الحديدية التي ردّت بها إسرائيل على عملية طوفان الأقصى، نجده طيّعاً لكل الانتقاد المُكال إليه، حيث يكون بإمكان جنديّ هناك أن ينهره لأن “أصدقاءه تمَّ ذبحم” وأن يلومه لأنه “خرّب إسرائيل”. فيما يواصل بشار الأسد مزاولة لعبة اختفائه عن المشهد العام، اللعبة التي يبرع بها من دون أن ينافسه أحد عليها، ومن خلالها يعلن للملأ إفلاسه السياسي، وكيف صار دميةً مضحكة للغاية، ولو قرّر أن يزور إحدى القواعد العسكرية التابعة لجيشه، فلن يجد فيها جنديّاً ينهره، أو يلومه لأنه تسبب بذبح الجميع، وكان بحق عرّاب خراب سورية.
ولعلّ فراس، نجل رفعت الأسد، قد تنبّه، مثلما تنبّه آخرون، إلى غياب بشّار الأسد، وهو غيابٌ يشبه الهروب المشين على أيّ حال، اختفاءٌ يمكن تصديقه وفهم دلالاته النابعة من شخصية رئيس نظامٍ يمكن التكهن مسبقاً بسلوكه السياسي، وبخطابه الكلاميّ أيضاً، وهذه المرّة قرّر بشّار أن يتعكّز على صمته، حتى لا يتفوّه بشيءٍ فيه آثارٌ تدّلُ على “محاربة الإرهاب” و”النيْل من العدو الصهيوني”، وحتى لا يتقيّأ كلاماً ملَّ السوريون رائحته، ثم بقي متوكّئاً على صمته ذاك، بعد أن قصفت إسرائيل مطاري دمشق وحلب ثلاث مرّات متتالية خلال أسبوعين فقط.
يفيده الصمت كثيراً، إذ يحجُب معه فضيحة تواطئه المستتر، وربما المعلن مع خيارات حكومة الاحتلال الإسرائيلي حيال فلسطينيي غزّة، ومع خياراته هو، بوصفه رئيس نظام ديماغوجيّ يحتلُّ الفضاء السياسي لبلدٍ تقسّم، ويواصل عناق تقسيمه على نحوٍ حثيث، ثم يفيده صمته أكثر لئلا يتبجّح بأنه ونظامه جزءٌ من “محور المقاومة” وبأن حركة حماس التي تصالح معها تعنيه، وتعنيه خياراتها، وكي لا ينطق بما يدين فيه “انتفاضة السويداء” في جنوب البلاد، المتواصلة ضدّه وقد دخلت شهرها الثالث، ومواصلة اتهامها بأنها منجذبة إلى “مشروع انفصالي” عن جسد البلاد، المجزّأ أصلاً إلى مناطق نفوذ للأكراد والإيرانيين والروس والأميركيين والأتراك. غير أن السوريين يتبرّأون من صمت بشّار ذاك، يعتبرون أن الدمَ المُراق في غزّة كأنما هو دمهم المراق على حيطان 12 سنة مثّلت عمر ثورتهم، يَحْكُون ذلك على صفحات تواصلهم الاجتماعي المدرّبة جيداً على استمراء التعاطف، أو يخطّون الفكرة على لافتاتٍ يرفعونها في الأماكن القادرة على الحراك السياسي، كأن ألمهم لا يكفيهم ليستعيروا آخرَ يشبهه، وربما يكون هذا وجهُ الحكاية الثاني لمنطقةٍ مقبلةٍ على إعادة تدوينٍ لمكوّناتها وصياغة جديدةٍ لحدودها وكياناتها قد تنقُضُ شكلها الراهن كلّياً.
لذا نجد أنّ إسرائيل تنفقُ بسخاء على إبادة الشعب الفلسطيني، إذ تجاوز عدد من قتلتهم بآلتها العسكرية في قطاع غزّة ستة آلاف مواطن منذ بداية “طوفان الأقصى”، ثلثهم على الأقل من الأطفال بحسب أرقام “يونيسيف” مثلما أنفق بشّار الأسد ونظامه بسخاءٍ أيضاً على إبادة الشعب السوري، فوصل عدد من قتلتهم آلة النظام العسكرية وحلفاؤها قرابة نصف مليون شخص بين عامي 2011 و2018، بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان.
يظهر نتنياهو أمام مجتمعه، فيما يغيب بشّار عن المشهد، وربما يكون هذا هو الفارق الطازج الوحيد بين “الحليفين”، حتى وإن قصفت إسرائيل، أخيرا، نقاطاً عسكرية لجيش النظام السوري في ريف درعا، وكبّدته أكثر من 11 قتيلاً، فإن رأس النظام السوري يظلُّ نائماً، أو ربما مغشيّا عليه، أو لعل حليفه الإسرائيلي يريد منه ذلك، أن يتطبّع بالصمت، ويحتذي به، خصوصا أن جبهة الجنوب السوري بدأت تنشط فعلياً من خلال المليشيات الإيرانية التي تسكُن هناك، وأخذت تقصف من تلك المواقع الأراضي الإسرائيلية، ولأن إيران ومليشياتها الرديفة هي التي تتحرّش بإسرائيل، نجد كثيراً من حياد السوريين إزاءها، فلا هم معها، ولا هم ضدها، وكأن الأمر برمّته لا يعنيهم. ما يعنيهم فقط دماءُ الغزّيّين، ونعوات موتهم اليومية، والتي تشبه في صياغة مفرداته نعوات موت السوريين المتواصلة منذ أكثر من عقد.
ليس صعباً إذاً أن نجد غزّة وقد التصقت بملامح السوريين، المعارضين منهم نظام بشّار، والمؤيدين، تفعل غزّة ذلك بلا مشقّة، مع كلّ الموت والخراب اللذيْن يتجوّلان بين أعصابها المنهكة، فالسوريون خبراء بإعراب الموت والخراب ومنحنياتهما أينما يحلّان، كما حال الفلسطينيين أيضاً.
في كتابه “فلسفة الفوضى” لا يمانع الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك من تناول فنجان قهوة مع جوليان أسانج، الأب الحقيقي لموقع ويكيليكس، لكنه يحذّر من مخاطر ذلك الإجراء، ونجده أيضاً يتساءل بعمق وكفاءة عالية عن حدود الديمقراطية وانقلاباتها المتلوّنة وإيهاماتها التي لا تنتهي، وهل من الممكن إحياؤها مع الرئيس الأميركي جو بايدن؟! ولو قُدّر لجيجيك أن يؤلف كتابه ذاك في عامنا الحالي، لوجدناه أكثر انبهاراً وتلاعباً بماهيّة الأشياء، وبضرورة إنباتها في مزارع سخريته. ربما سيكون غير ودود مع عملية السيوف الحديدية، وأكثر ودّاً مع المخيّلة العالية التي أنتجت “طوفان الأقصى”، وجعلته يرتدي ثياباً مرئية، وربما سيكون مهتمّاً أيضاً بميلاد حدود جديدة في المنطقة تكنس كل الرومانسية السياسية، وتستبدلها بكثير من الشقاء والبؤس القادمين إلينا. … يا ليته فعل
العربي الجديد
———————————
ما يمكننا القيام به/ بطرس المعرّي
يسأل صحافيُّ قناة “دويتشه فيله” الألمانية الكاتبَ سلمان رشدي عمّا يُمكنه تحقيقه بالأدب في مثل هذا “الوضع الصعب للصراع”، في ظلّ الحرب الدائرة بين “إسرائيل وحماس”، فيُجيب الكاتب الشهير: “للأسف القليل جدّاً. الكلمات لا تُنهي الحروب، ما يمكنه للكاتب فعله حتى الآن هو محاولة التعبير عن الألم الذي يشعر به الكثير من الناس، وربما هذا أفضل ما يمكننا القيام به لتوضيح طبيعة المشكلة”.
سؤال الصحافي الألماني، المدروس بعناية إن لم نقُل بخُبث، يُحيلنا إلى تساؤلات حول سلامة خياراتنا في طريقة تقديمنا لطبيعة الصراع مع الكيان المحتلّ. لقد اختصر مذيع القناة، الناطقة بعدّة لغات، ماهية الصراع الأساسية، في حرب بين دولة وبين منظَّمة ذات صبغة دينية، يَعدُّها الغرب منظَّمة إرهابية، لا حرباً بين صاحب أرض وحقّ يدافع عن وجوده منذ عشرات السنين من جهة وغريب مغتصِب في الجهة المقابلة.
كانت الإجابة عامّةً حيادية، ولكن فيها، برأينا، فكرة أساسية في كيفية تقديم هذه القضية إلى العالم: “التعبير عن الألم الذي يشعر به الكثير من الناس (كلّ الفلسطينيّين)” لتوضيح المشكلة؛ فالمشكلة إنسانية وليست دينية، كما يحلو لهم ولنا أيضاً تصويرها (طوفان الأقصى)، بل هي قضية أرض انتُزعت من أهلها، لتُقام عليها دولةٌ لا حقّ شرعيّاً لها فيها. وهذه هي مهمّة وسائل الإعلام العربية، في معرفة أساليب التأثير على مشاعر الشعوب الغربية التي لا تستمع، ولا تُصدّق، إلّا إلى ما يقوله مذيع نشرة الأخبار المسائية، وتُردّده كالببغاوات.
لا شكّ في أنّ جزءاً من المَهمّة يقع على عاتق المثقَّف، لكن الجزء الأكبر يقع برأينا على عاتق وسائل الإعلام، والتي عليها أن تُحسن اختيار كوادرها وأرشيفها المصوَّر وتتجنب في خطابها ما يستفز، مجّاناً، الغرب؛ فالأمر ليس تحدّياً وعناداً، بقدر ما هو لعبة فُرضت علينا، وعلينا مهمّة كسبها.
في يومنا هذا، على ما أرى، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي تلعب دوراً كبيراً في تشكيل ثقافة الأجيال الشابّة، وربما هو دورٌ أكبر ممّا تلعبه الصحف والدوريات والمواقع الرصينة ودُور النشر… حَلّ المنشور والفيديو القصير محلّ المقالة والكتاب والبرنامج الثقافي. وهذه الثقافة، المليئة بالخفّة والابتذال، لا تعرف الحدود، فتصل إلى شرائح واسعة من مجتمعاتنا، وأصبح لكلّ مشترك فيها الحقّ في صناعة محتواها. ونجد هنا، إن كان المثقَّف مهتمّاً فعلاً بالعمل للصالح العام، أنّ هذه المنصّات هي إحدى الطرق المثلى حالياً للوصول إلى “الجماهير”. وبرأينا، يجب أن يكون النشر والمشاركة فيها، وباللغات التي يجيدها، جزءاً من اهتماماته، فهي، كصدى لفكره، بأهمّية عموده اليومي أو الأسبوعي في صحيفته، أو بأهمّية ندوته أو معرضه أو كتابه الذي يُعد. وإنّ إهمال هذه المنصات ترفُّعاً (ويمكن لنا أن نُبرّر له بعض أسبابه)، ليس في صالح الثقافة، ولا في صالح خلق وتوجيه جيل واعٍ لما جرى أو يجري في المنطقة. ففي خضمّ هذه الفوضى، هناك دائماً قارئ مهتمّ علينا ألّا نهمله. ومن هنا نبدأ، فمع زيادة الوعي، نستطيع مخاطبة الآخَر بلغة ومنطق يفهمهما.
قبل فترة، وجدنا أنّ منشورات فيسبوك لم تعد تصل إلّا إلى جمهور ضيّق، كما أنّ هناك منشورات لا تمرّ على الصفحات كونها تحمل صبغة سياسية مناهضة للمشروع الصهيوني… فما العمل؟ هل نحن قادرون، ولدينا النية، في إنشاء منصّات مستقلّة عن تلك التي تتحكّم بنا، نصل بها إلى “الآخر” الذي يجهل أساس الصراع، ويعادينا بسبب جهله؟ أم أنّ أولوياتنا في مكان آخر؟!
نعود إلى الفكرة التي بدأنا بها، فنستعيد حادثةً سبق وكتبنا عنها في “العربي الجديد”: قبل سنوات، وزّعَت مدرسة ابتدائية باريسية على طلّابها، ومنهم ابنتي، قصّة مصوَّرة أنيقة الإخراج مجّاناً. تدور حول جنودٍ يُزيّن زيّهم العسكري صليب معكوف، قاموا باعتقال عائلة يهودية… إلى آخر الرواية، وكان التركيز في القصّة على صورة ولد صغير حزين حُرم من عائلته… قصّة حقيقية، لا نشكّ بها، قد عرفوا استغلالها كغيرها من القصص وكسب التعاطف.
بالطبع، هناك كاتب لهذه القصّة، لكن الأمر لا يقف عند حدّ الكتابة، فهذه لعبة مؤسَّسات تستكتب وتدعم وتُموّل وتُسوّق في سبيل هدف محدَّد؛ فهل وصلت إلينا تلك الفكرة “الناعمة”؟ وما هي إمكانية تطبيقها؟ الأمر برسم أصحاب المال لا برسم كتّابنا ومثقّفينا، ممن لا يغازل أو يستجدي إعلام ومؤسَّسات البلاد التي هاجر أو لجأ إليها.
* فنّان تشكيلي سوري مقيم في ألمانيا
————————
غزّة كتبتْ لي بالليل/ نبيل سليمان
قبل أن أتجرّع الجرعة السمية الأولى هذا الضحى – أي قبل أن ألهث خلف أخبار الحرب – دوّمت في صدري الأغنية: “غزة كتبتْ لي بالليل/ والكهاربْ مقطوعة/ شفت برغم العتمة الويل/ ما شاف الليل دموعا/ كتبت غزة للأحرار/ بعد الليل يطلّ نهار/ ما في غير نشدّ الحيل/ ما في غير نشدّ الحيل”.
بين جملة وجملة كانت تسطع صورة الشاعر أحمد دحبور الذي كتب غُرَر الأغاني الفلسطينية، ومنها لهذه الأيام تلك الأغنية، وهذه أيضًا أغنية (غزة والضفة).
بينما راحت الجرعة تسري امتلأت عيناي بصورة أحمد طفلًا يرغط في ساحة المخفر في القرية الشركسية عين زاط من سوار مدينة حمص، والتي عُرّب اسمها إلى (عين النسر)، وعشت فيها من طفولتي مثلما كان لأحمد. لكن عين زاط/ عين النسر لم تجمع الطفلين اللذين ستجمعهما كبيرين دمشق وبيروت طويلًا، وتونس لمامًا، وغزّة الآن الآن.
كنت قد بدأت منذ أيام أستعين على الجرعات السمية بالعودة إلى الروايات الفلسطينية التي كانت غزة فضاءها. بدأت برواية غسان كنفاني (ما تبقى لكم)، واستعدت بطلها حامد المسكون بأمه وقد فرقت بينهما هزيمة 1948 أو نكبة 1948: سمّ كما تشاء. ومع حامد هي ذي شقيقته مريم التي حملت سفاحًا من زكريا، وما أدراك (ما) زكريا؟
سقطت يافا عام 1948، فسقط الأب شهيدًا، وارتمى حامد ومريم في غزة، بينما ارتمت الأم في الأردن. والآن، بات على حامد أن يطأطئ ويزوج مريم من (النتن) كما لقّب زكريا. وزكريا كان عينًا إسرائيلية ليرشد العدو إلى المقاوم سالم الذي خاطبه بعد أسبوع من احتلال غزة: ما اشتهيت يا زكريا تطلق رصاصة؟ قتلوا والدك. تعال معنا. وحرم سالم النتنَ من الظفر به، فتصدى لعدوه وجهًا لوجه.
بسبب مريم اندفع حامد ينشد لقاء أمه. وعليه إذًا أن يقطع ما بين غزة والأردن. عليه أن يجتاز الحواجز الإسرائيلية، وأن يقتل هذا العسكري الذي اعترض سبيله. وقبل أن أنتهي من الرواية التي صدرت عام 1966، تسمّرت أمام النبأ الذي أعلن فيه ربعي المدهون عن أسماء ستة وعشرين شهيدًا من ذويه. وبدلًا من أن أسرع فأعزيه، أسرعت إلى روايته (السيدة التي من تل أبيب) التي بلغت سنة 2010 القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر). وكانت الرواية هي التي عرفتني – بعد الصحافة – على ربعي المدهون، قبل أن تجمعنا القاهرة في ملتقاها للإبداع الروائي. ومن اللقاء في رواية إلى اللقاء وجهًا لوجه كنت أتقرى في ملامح ربعي الذي أهلَّ على الدنيا في المجدل من سوار عسقلان، حتى إذا وقعت واقعة 1948 (هزيمة أم نكبة؟) أسرع مع أسرته إلى خان يونس. وبينما كنت أعيد قراءة (السيدة من تل أبيب) كنت أنقّب الشاشة عن مطرح لربعي في خانيونس، دكّته الطائرات أو سوف تدكه. وكانت الرواية تقتلعني من الشاشة لأرى ربعي يطير إلى لندن عقودًا أربعة قبل أن يعود إلى غزة: هو أم وليد دهمان الذي يكتب في رواية ربعي روايةَ (ظلال لبيت واحد)؟
تجمع الطائرة القادمة من لندن بين وليد دهمان الغزاوي والإسرائيلية دانا أهوفا. وفي مطار بن غوريون – ها هو صاروخ ينفجر قرب المطار – افترقا، هي إلى بيتها، وهو إلى غزة. وبينما تشرب دانا القهوة على شرفة بيتها، بهناء وسرور، كان على وليد في معبر إيريز أن يقضي تسع ساعات من الإذلال، ويقطع مائة متر. ولأمه إذًا الحق في أن تسأله عندما رن هاتفها من لندن: “أني جاي غزة يمّه… راجع ع لبلاد” فقالت التي ظلت تعدّ لابنها الفطور كل صباح ثمانيةً وثلاثين عامًا: “وإيش بدو يجيبك بعد هالغيبة يمّه؟”.
مقابل وليد دهمان هو ذا عادل البشيتي يعود إلى غزة أيضًا، ولكن عبر معبر رفح، ومنه سيغادرها، بينما يغادر وليد دهمان بعد ثلاثة أسابيع عبر مطار بن غوريون – ها هي صفارات الإنذار تدوّي فيه – ولكن بعد أن تستجوبه شابة عشرينية كأنها تدربت في واحد من فروع المخابرات العربية، ثم ترميه إلى أخرى، فيصفعها بكلمات غسان كنفاني: ولدت قبل إسرائيل، وأنا أكبر منها عمرًا.
تركت وليد دهمان يَعِدُ دانا أهوفا بغلاف الرواية التي يكتبها (ظلان لبيت واحد)، رمزًا للتعايش بين شعبين، إذا ما قبل الآخر. لكن الآخر لا يقبل، لا في الرواية ولا على الشاشة ولا في الهولوكوست الذي يقيمه في غزة منذ دهمه طوفان الأقصى.
في ضحى آخر، وقبل أن أتجرع الجرعة السمية الأولى، دوّمت في صدري كلمات محمود درويش: إذا سألوك عن غزة، قل لهم: بها شهيد، يسعفه شهيد، ويصوره شهيد، ويودّعه شهيد، ويصلي عليه شهيد.
ولأن الجرعة راحت تسري لجأت إلى رواية عاطف أبو سيف (حياة معلقة) التي بلغت عام 2015 القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية. وكما في قراءتي الأولى للرواية، رأيت رأي العين أطفالًا يدمرون بالحجارة الدبابات الإسرائيلية في الانتفاضة الأولى، ورأيت جحافل السلطة الوطنية تملأ غزة حتى حلّت محلها السلطة الحمساوية. ولكن ما لذلك وللرواية؟
مع شخصية نعيم بن إبراهيم الورداني أرى عاطف أبو سيف طفلًا في مخيم جباليا، يتقرى نسبًا يصله بيافا التي هُجّر أهله منها، ومستقبلًا يصير فيه الطفل وزيرًا للثقافة الفلسطينية، ومن بعد يصير الكاتب الغزاوي: “مسكينة غزة، لا أحد يريدها، الكل يريد أن يتركها” كما يقول الراوي في رواية (حياة معلقة)، ثم يقول أنه/ أنك في مدينة معلقة بين حاجزين: إيريز شمالًا ورفح جنوبًا، لذلك: “أنت لست في حرية، بل أنت في سجن”.
هي غزة المعابر المغلقة، غزة حظر التجول وقطع الكهرباء والماء والغاز، غزة التعذيب والاعتقال والأسرى و… وكم من مدينة عربية هي غزة إذًا!
لنعيم بن إبراهيم الورداني المطبعة الوحيدة في المخيم، والتي طالما طبعت صور الشهداء. وكما ينقل عنه ابن سليم كان الحزن يفريه عندما يرى الشباب صورًا على الجدار، ويتحولون إلى بوسترات مثل يافطات الشوارع، يعبر العابرون بها، لذلك رفض سليم أن يطبع لأبيه صورة عندما قتلته رصاصة القناص الإسرائيلي وهو يفتح المطبعة.
ولد نعيم سنة النكبة التي شتتت الأسرة بين مخيمات الضفة ولبنان والأردن وغزة التي لجأ إليها مع والدته. ولنعيم بكره السجين، وسليم الذي يدرس في جامعة بيرزيت، وسيتابع الدراسة في إيطاليا. وقد تسمّرت قراءتي على ما تقول الرواية في الموت: “ليست البطولة أن تموت مجانًا، أن تموت بسبب خطأ وسوء تدبير، بل هي أن تعرف ماذا تفعل، وأن تفعله بطريقة سليمة حتى لو كلفك ذلك حياتك”. ولأنها غزة الآن الآن، تسمّرتْ قراءتي على: “الناس في غزة ضحايا آلة القتل التي تعمل رصاصها في أجسادهم، وتحصدهم بين وقت وآخر مثل سنابل في بيدر قمح تنهال تحت مقص آلة الحصاد. ليس لهم رغبة في رحيلهم المفاجئ أو في اختيار موتهم”.
ولأنها غزة الأنفاق جاء في رواية (حياة معلقة) رجلٌ يدعى خميس، يستلف ليحفر نفقًا، ويبيعه، ويربح، ويحفر ويبيع ويربح ويحترف الأنفاقية، ويصير مليونيرًا…
لكن غزة الآن الآن هي هذه التي تمطرها إسرائيل بالقنابل الاسفنجية التي تفجر سائلًا ورغوة فتسدّ النفق. وغزة الآن الآن هي هذه التي تمطرها إسرائيل بالقنابل الزلزالية التي تخترق الأعماق عشرين مترًا، قل ثلاثين. ولكن ألا يخشى من سماها بالقنابل الزلزالية من أن يضبطهم من حرموا القول بالزلزال مجازًا؟
بعد (حياة معلقة) تابعت يوميات عاطف أبو سيف التي سمّاها (الزنانة تأكل معي) والزنانة، مجازًا أيضًا، هي باللسان الفلسطيني طائرة دون طيار.
أما اليوميات التي قدم لها نعوم تشومسكي فهي لواحد وخمسين يومًا من القصف الإسرائيلي لغزة صيف 2014، كما ستكون لأحد عشر يومًا – مثلًا – من القصف الإسرائيلي لغزة بالأمس القريب (2021) أو الآن الآن.
بعد (الزنانة تأكل معي) هي ذي رواية (الحاجة كريستينا). وكما ناديت بيسان وأمها ريم من ليل الزنانة إلى نهارنا هذا، ناديت فضّة بنت عوني السعيد التي طارت من يافا إلى لندن، وصارت كريستينا التي ستعود ثمانينيةً إلى غزة، وكانت الحرب تطوي يومًا آخر على المدينة العربية الأجمل على شاطئ المتوسط – كما قال عاطف أبو سيف نفسه – وكان صوتٌ مجّرح يغالب جحيم الحرب في السماء والأرض، وينبض: غزّة كتبتْ لي بالليل/ والكهارب مقطوعة/ شفت برغم العتمة الليل/ ما شاف الليل دموعا/ كتبت غزة للأحرار/ بعد الليل يطل نهار/ ما في غير نشدّ الحيلْ/ ما في غير نشدّ الحيل.
ضفة ثالثة
—————————
هل يُقبض ثمن غزة في سوريا؟/ عمر قدور
سواءً كان لطهران علاقة بقرار عملية “طوفان الأقصى” أو لم يكن فإن طهران فرضت نفسها عقب العملية شريكاً رئيسياً في قرار الحرب والسلم، بل انصبّ قسم ضخم من المجهود العسكري والدبلوماسي الغربي لردع إيران عن المشاركة في المعركة. الوقائع على الأرض تفيد حتى الآن بأن تبادل القصف على جبهة جنوب لبنان يبقى تحت السيطرة، فلا هو في منزلة التخلّي القاطع عن إشعالها، ولا هو في مرتبة التصعيد المتدرِّج نحو معركة كبرى.
في الغضون، لمّح مسؤولون إيرانيون إلى خطوط حمر ستضطرهم إلى الدخول في الحرب، من دون تحديد هذه الخطوط أيضاً، ما يضع تصريحاتهم في خانة الاستهلاك المحلي لأنصار محور الممانعة. إلا أن أقوالهم تكتسب بعض الجدية، غير الحربية، لمجيئها مدعومة بهجمات ميليشيات إيرانية على مواقع أمريكية في سوريا، ليبدو التحرّش بالقوات الأمريكية استئنافاً لإطلاق قذائف على إسرائيل من جهة الجولان.
وما يتوجّب الانتباه إليه في استخدام الساحة السورية أن أيدي طهران ليست طليقة في جهة الجولان، ولموسكو حسابات مختلفة مع تل أبيب، بل كانت العلاقة بينهما وبين بوتين ونتنياهو “خلال حكومته السابقة” في أفضل حالاتها، ولطالما أثار الصمت الروسي على قصف إسرائيل مواقع إيرانية في سوريا حنقَ أنصار المحور الإيراني. أي أن برود سطح العلاقات الروسية-الإسرائيلية حالياً لا يضمر موافقة على استهداف إسرائيل جدياً لاعتبارين؛ أولهما العلاقة التي تبقى رغم كل شي متينة ولها حساباتها الخاصة بوجود عدد ضخم من الإسرائيليين من أصل روسي، وثانيهما أن موسكو لا تريد الظهور عاجزة مقابل انفراد إيران بالنفوذ في جهة الجولان، والاتفاق هناك بين الطرفين غير ممكن إلا إلى الحد الذي يخدم الأولى لتطرح ضرورة وجودها كوسيط بين أطراف النزاع.
يختلف الأمر مع استهداف الميليشيات الإيرانية مواقع للقوات الأمريكية في شرق الفرات، إذ من المؤكد أن موقف موسكو يدعم أي استهداف للقوات الأمريكية، وربما يتخطى الرضا إلى تقديم معلومات استخباراتية أو دعم لوجستي للميليشيات سراً. بخلاف الظاهر والمنطق، قد تكون هجمات الميليشيات على المواقع الأمريكية في سوريا أكثر جدية من تلك المقذوفات الموجّهة إلى إسرائيل، وهذا ما يفسّر الرد الإسرائيلي الذي لا يفوق بالعنف غاراته المعتادة في سوريا، وإن كان لا يفسّر الرد الأمريكي المحدود أيضاً.
ثمة اختلاف آخر يجدر الانتباه إليه، ففتح جبهة الجنوب من قبل حزب الله ليس مصلحة إسرائيلية، رغم القدرة غير المشكوك فيها على إيقاع دمار هائل في الجانب اللبناني وفي غزة معاً. في المقابل، توسيع دائرة الحرب “باستهداف المواقع الأمريكية في سوريا” لا يبدو لمصلحة إيران، إذا كانت حقاً تريد الضغط على إسرائيل من دون إعطاء واشنطن ذريعة قوية “أو حتى إحراجها” كي تدخل الحرب. يلزم غشاوة سميكة جداً على الأعين للظنّ أن طهران غير عابئة، بل مستفيدة، بتطور المعركة إلى حرب عظمى.
تستفيد طهران حتى الآن، إذ يأتي الرد متناسباً مع حجم تحرشاتها، لا مع القوة الأمريكية العظمى، ليُفهَم منه وجود تحدٍّ إيراني يقابله “تخاذل” أمريكي. ومن المؤكد أن واشنطن لا تريد التصعيد، وقد سعت منذ البداية إلى احتواء المواجهة الحالية لتقتصر فعلياً على عزة، وهي تفهم جيداً الرسائل الإيرانية التي تؤشّر إلى التفاوض أكثر بكثير مما تؤشّر إلى الحرب. بل لا يمكن، ضمن ميزان القوى المعروف جيداً، أن تهدف هذه الهجمات إلى الحرب، خاصة مع وجود حالة استنفار قصوى لدى القوات الأمريكية في عموم المنطقة وتوافد المزيد منها.
منذ هجوم حماس في السابع من الشهر، راح يُستخدم تعبير “وحدة الساحات” بوصفه داعماً الحركة أو فلسطينيي غزة. ذلك في الوقت الذي اتجه فيه الردع الغربي لا إلى تفكيك تلك الوحدة المزعومة فحسب، بل أيضاً إلى حماية الاستفراد الإسرائيلي بغزة بلا قيد أو شرط. إن عملية التفاوض التي بدأت منذ الأيام الأولى للمعركة هي هنا، هي في الثمن الذي تريد طهران قبضه بتلويحها بوحدة الساحات، والتي يدفع أهالي غزة ثمنها الذي لا نجد وصفاً له لشدّة ما هو باهظ.
تعني وحدة الساحات لدى أنصار المحور الإيراني أن أي مكسب يتحقق في أية ساحة هو مكسب كلي، وهذا مقترن دائماً بالتصويب على خسائر العدو “أي عدو كان” مع الإعلاء من قيمة المكسب. وفي الواقع لا وظيفة منطقية لاستهداف المواقع الأمريكية في سوريا سوى الإشارة إلى المكان الذي تقبل فيه طهران الثمن لقاء قبولها ما يُدبَّر لغزة، أي أنها تريد من واشنطن ثمناً في سوريا. وكي لا يكون هناك شطط في التوقعات؛ لن يكون المطلوب انسحاباً أمريكياً تاماً.
لعل تخلّي واشنطن عن مواقع نفطية في سوريا، والإبقاء على قواعد عسكرية مع انحسار مظلتها التي تحمي قسد، يكونان بمثابة ثمن تطمح إليه طهران، ويصبّ ريعه في خزائن مؤسسة “خاتم الأنبياء” التي تتولى في سوريا تحصيل ما أمكن من الديون الإيرانية المقدَّرة بخمسين مليار دولار، بينما يُصرف الريع السياسي بوصفه انتصاراً على “الشيطان الأكبر”. وكي لا يكون هناك شطط مقابل، من المستبعد جداً أن تحقق إسرائيل أهدافها المعلنة في غزة، بل لقد بدأ التراجع عن بعضها فعلاً، وربما ينتهي المطاف “مثلاً” بالقضاء على حكم حماس، من دون القضاء عليها نهائياً كما توعّد قادة تل أبيب في الأيام الأولى لحربهم على غزة. وبطبيعة الحال هناك مَن يتحفّز إلى هذه الخاتمة ليعلنها نصراً فوق الأشلاء للمحور إياه، فقط لأن العدو لم يحقق سقف أهدافه المعلنة.
الاستثمار في القضية الفلسطينية عمره من عمرها تقريباً، وبالطبع ينبغي عدم التشكيك في دوافع الفلسطينيين “أو في أحقية التضامن معهم” رغم أن العديد من الأطراف استفاد أو سيستفيد من مأساة غزة. مثلاً تهليل الأسديين للحرب مفهوم لأن أخبار الوحشية الإسرائيلية تغطي على أخبار إدلب، وتُنسى مؤقتاً وحشية الأسد المستمرة منذ 12 عاماً. على صعيد متصل، تستفيد موسكو من الحماية الأمريكية للانتقام الإسرائيلي لتذكّر بأن حمايتها الأسد في مجلس الأمن ليست استثناء، وبأن واشنطن تدافع عن تجويع الفلسطينيين كما دافعت هي عن تجويع السوريين. وغداً، عندما يحين موعد انتهاء المعركة، سيظهر في رأس قائمة المستفيدين أولئك الذين يتاجرون بقضية القدس، من أجل الاستحواذ على نصيب من الطريق إليها ليس إلا. لنأملْ ألا يحدث هذا، وأن تعود صدارة المستفيدين لمستحقيها.
المدن
——————–
احتلال المفردات/ سلام الكواكبي
في مداخلة لها أمام مجلس النواب الفرنسي منذ عدة أشهر، انتقدت رئيسة المجموعة النيابية لحزب فرنسا الأبية “ماتيلد بانو”، لجوء رئيسة الوزراء، “اليزابيت بورن”، للمادة 49 من دستور الجهورية الخامسة وبفقرتها الثالثة والتي تسمح للحكومة بتشريع قانون دون الرجوع للتصويت عليه في المجلس التشريعي. ويتم ذلك بعد مداولات في مجلس الوزراء والذي يُقرر من خلالها إقحام مسؤولية الحكومة في إقرار القانون المُبتغى، وذلك وفق شروط معينة ولعدد محدود من المرات. وغالبًا ما يتم هذا الأمر عندما تُقَدِّر الحكومة بأن المصلحة الوطنية توجب اتخاذ مثل هذه الخطوة، خصوصًا إن كان الشعور الغالب بأن التصويت عليه لن يحصد الأغلبية اللازمة لإقراره. وغالبًا ما يُثير اللجوء الى هذه المادة انتقادات واسعة من السياسيين ومن الدستوريين الذين يجدون فيه إخلالا بالعمل الديمقراطي.
النائبة اليسارية السيدة بانو، وفي معرض تنديدها بمثل هذا الاستعمال الذي اعتبرته غير ديمقراطي، أشارت إلى فشل الحزب الحاكم المتتالي في الانتخابات على أنواعها مشيرة الى أن رئيسة الحكومة السيدة بورن نفسها قد نجت من الانتخابات العامة الأخيرة بصعوبة.
وعلى إثر هذا الكلام، هاجت وماجت الأقلام والتصريحات المنددة باستعمال عبارة “النجاة” كونها ربما، أو بالأحرى من المؤكد، هي تُخفي رغبة من النائبة بتذكير رئيسة الوزراء بأن والدها السيد بونشتين، الذي انتحر سنة 1972، سبق له أن نجا من معسكر الإبادة الجماعية التي تعرض لها اليهود في اوشفيتز اثناء الحرب العالمية الثانية. وتنوّعت الانتقادات والادانات من اعتبار ما قيل ليس إلا ذلة لسان وصولاً إلى التنديد بالنائبة واعتبارها معادية للسامية. ولم تتأخر رئيسة الوزراء بالقفز على الفرصة الذهبية لتلقي خطابا أمام مجلس النواب تسترجع من خلاله تاريخ والدها المقاوم الفرنسي / اليهودي المعادي للنازية.. وقد حظيت بتضامن واسع وبتصفيق مختلف نواب المجلس وقوفًا عدا فريق السيدة بانو الذي كان عليه أن يُبرّر اللجوء إلى هذه المفردة في تصريحات أعضاءه المُحرجة في أروقة المجلس النيابي. وقد أشار أغلبهم إلى الجهل بهذا الماضي الأليم للسيدة بورن.
أيضًا، وخلال الأيام الأخيرة، وأثناء الحرب الدموية على غزة، زارت رئيسة المجلس النيابي السيدة “ياييل برون بيفي” إسرائيل للتعبير عن تضامنها مع تل أبيب إثر هجوم 7 تشرين الأول / أكتوبر الذي شنته حركة حماس. وقد أدلت بتصريحات دافعت من خلالها عن حق إسرائيل “المشروع” في الدفاع عن النفس، وذلك على الرغم من وضوح طبيعة ومستوى هذا الرد الذي كان، وأثناء الادلاء بهذه التصريحات، قد أدى الى مقتل مئات من المدنيين.
وردًّا على هذه التصريحات المؤيدة في المطلق لدولة الاحتلال، والتي غاب عنها أية إشارة لفعل الاحتلال المستدام منذ عقود لأرض فلسطين والحصار العسكري القائم على شريط قطاع غزة بعيدًا عن أية مبادئ إنسانية أو قانونية، خرج الرئيس التاريخي لحزب فرنسا الأبية، “جان لوك ميلانشون”، بتصريحٍ ندّد من خلاله بهذه الزيارة التي لا تدخل في صلب مهام رئيسة مجلس نيابي. وقد أشار إلى أن السيدة الرئيسة قد اختارت أن “تُخيّمَ” في تل أبيب تضامنا مع المحتل. وأمام مفردة “التخييم”، عادت أبواق التنديد والصدمة غير المفهومة الى أفواه جيوش الإعلاميين والسياسيين الذين وجدوا في هذه المفردة رغبة من ميلانشون للتذكير بـ “مخيمات” الاعتقال النازية التي كانت تضم اليهود الأوروبيين. واعتبر عديدٌ منهم أن الإشارة إلى التخييم فيها معاداة للسامية على أن السيدة الرئيسة هي من الديانة اليهودية.
ليس من المستغرب، والحال كهذه، أن يخرجوا علينا بالاتهامات إن تحدثنا عن “إبادة جماعية” بحق الشعب الفلسطيني. فالعبارة استخدمت لتوصيف سياسات النازيين ضد اليهود، وبالتالي لا يجدر بسواهم استخدامها، عربًا كانوا أم أرمن، أم كرد، أم سواهم. وكذا الأمر إن تم توصيف غزة بـ “المعتقل الكبير”، فالعبارة محصورة بما عاشه اليهود من أوضاع في معتقلات النازية سيئة السمعة. والخوف كل الخوف يكون في تعميم الحظر على استخدام مفردات كالحق والبشرية والانسان. فبعد عقودٍ من احتلال الأرض، يتم احتلال المفردات في ظل صمت ملتبس وشريك على مستوى الأداء السياسي للدول الغربية التي تميّز تاريخها الحديث فعلاً بمعاداة السامية. إضافة إلى التخاذل التطبيعي العربي القائم.
إنه لمن شبه المؤكّد بأن اتباع الديانة اليهودية، عدا المتطرفين منهم، لم ولن يتوقفوا عند هذه الاستخدامات الملتوية للمفردات والتي تجري محاولات لتجييرها لصالح تأجيج التعاطف مع سياسة دولة استيطانية وإحلالية العقيدة، أخذت دينهم كرهينة وتحاول ابتزازهم في عقيدتهم. فالمستفيد هو صاحب الرغبة بإشاعة جو من الرعب لدى العامة، وإرهاب كل من تخوّل له نفسه انتقاد سياسات دولة الاحتلال وممارساتها. فالخلط المنهجي بين انتقاد سياسات دولة والتعميم على أتباع دينٍ ليس محصورًا بإسرائيل وأبواقها فحسب، بل هو موجود لدى كل متطرفي الأديان، على أن الأوساط الصهيونية أكثر جرأة ووقاحة ونجاح في هذا الاستغلال. فهل سينتفض جسد الذكاء البشري والحس الإنساني لمرة أخيرة قبل أن تَخمدَ الروح فيه؟
—————————–
اسرائيل تسرق دموع الفلسطينيين/ بشير البكر
كأن عاراً كبيراً وقع على اسرائيل. حالة من الغضب الشديد والاحساس بالخذلان، أحاطت بحديث المواطنة الاسرائيلية، يوخيد ليفشيتس، التي أفرجت عنها حركة “حماس” يوم 23 اكتوبر الجاري. يبدو أنه أحداً من أصحاب القرار في اسرائيل لم يتوقع أن تتكلم تلك السيدة المسنة بعفوية تامة وصدق عن المواقف التي عاشتها وهي محتجزة لدى “حماس”. أزعج المسؤولين الإسرائيليين كثيراً، أن تعترف بأنها تلقت معاملة جيدة من قبل الأعداء الذين تشتغل الماكينة السياسية والإعلامية العالمية، على رسم صورة مرعبة لهم، أكثر دموية وإجراماً، من تلك التي عرفها العالم عن “داعش”.
انتَظروا، وكانوا يتمنون، لو أنها ادعت بأن أحد مقاتلي “حماس” تحرش بها، أو عاملها بخشونة، شتمها وقال لها أيتها العجوز الصهيونية المستوطنة في أرضنا، سأدفنك حية! لكنها وصفتهم بأنهم “كانوا ودودين جدًا معنا”، وأنها صدّقتهم، حين قالوا “إنهم يتبعون تعاليم القرآن، ولن يؤذونا”، لأنه يفرض عليهم معاملة الأسير بإنسانية، ولم تهمل العجوز التفاصيل الصغيرة المهمة “كانوا يهتمون بنظافة المكان حولنا، وهم من كانوا يقومون بتنظيف الحمّامات لا نحن”، وقدموا لها الدواء والطعام الذي يأكلون منه، والأمر الذي لا يقل أهمية هو، أن هؤلاء من بينهم نساء، يعرفن حاجيات النساء الأسيرات.
ثمة، في الغرب، مَن صدمته اعترافات السيدة الاسرائيلية، لأن قطاعاً من الرأي العام في أميركا وأوروبا وحتى الهند، يريد أن يصدق الرواية الاسرائيلية فقط، لأنها تسمح بأن يتسرب من ثناياها قدر كبير من الادعاءات المفبركة، بهدف طمس حقيقة ما حصل، وتركيب سيناريو كارثي للثأر من الفلسطينيين. لذلك، ضللت شبكة “سي أن أن” الأميركية متابعيها خلال تغطيتها المؤتمر الصحافي للأسيرة، وبخلاف التعمية على فحوى كلامها، بأن مقاتلي “حماس” أحسنوا معاملتها، وكانوا ودودين للغاية معها، فعنونت “سي أن أن” خبرها عن المؤتمر الصحافي بـ”الرهينة الإسرائيلية المُفرج عنها: عشت جحيمًا بعد اختطافي”.
لكن هيئة البث الإسرائيلي فضحت المسرحية، عندما اعتبرت أن السماح للأسيرة بالإدلاء بتصريحات على الهواء مباشرة كان خطأ. إذن، كان يجب تلقينها النص الرسمي الاسرائيلي، الذي عممته هيئة البث على العالم، وهو عبارة عن اتهامات للمقاتلين الفلسطينيين بالوحشية، من دون براهين ملموسة.
ليس غريباً في هذه الأجواء أن يتعرض الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، إلى حملة تنديد من قبل اسرائيل، ويرفض وزير خارجيتها إيلي كوهين أن يجتمع معه، بعد خطابه عن غزة في مجلس الأمن الدولي، الذي قال فيه ” “دعوني أكون واضحًا: لا طرف في نزاع مسلح فوق القانون الإنساني الدولي”، وإن ما قامت به حماس “لم يحدث من فراغ”.
كلام لم تسمعه اسرائيل منذ نهاية الحرب الباردة، ثمة من ذكّرها بأنها تضع نفسها فوق القانون الدولي، الذي يجيز للشعوب حق مقاومة الاحتلال. وعلى ذلك، رد السفير الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة، جلعاد إردان، بدعوة غوتيريش إلى “الاستقالة فورًا”، وكتب في وسائل التواصل الاجتماعي أن غوتيريش “ليس مناسباً لقيادة الأمم المتحدة”، التي حاولت من خلال صوت الأمين العام أن تطلق الزفرة الأخيرة.
لا مكان لرأي مختلف في اسرائيل، ولا في المساحة الأوسع من الميديا وتصريحات الطبقة السياسية العالمية. “حماس” إرهابية، ونقطة من أول السطر، وهذا هو السر وراء السؤال الذي طرحه عدد كبير من الصحافيين الغربيين على كل من حاوروه: هل تدين “حماس”؟ وكل من حاول تقديم إجابة لا تتضمن الإدانة، جرى تصنيفه في الضفة الأخرى. ومَن يتأمل العديد من القنوات التلفزية الأوروبية، يلاحظ الغياب التام للوجوه التي ظهرت في الأيام الأولى، وحاولت أن تقدم خطاباً معتدلاً، أو تظهر تعاطفاً مع الشعب الفلسطيني. هناك جوقة واحدة تتنافس على تأييد اسرائيل من الصباح الباكر وحتى آخر ساعات الليل، لا يعنيها القدر الكبير من الضحايا المدنيين الفلسطينيين في غزة.
كل ما في الأمر هو، أن اسرائيل تريد الانتقام لألف قتيل، أقل أو أكثر، سقطوا في السابع من اكتوبر، وليس من قبيل المصادفة، أنها لم تفصح حتى الآن عن هويات الجميع، وهو أمر سهل، طالما أنها عثرت على جثث القتلى، لكنها تركت الغموض يخيم على أعداد العسكر والمستوطنين والمدنيين، من أجل توظيف المسألة في الدعاية الإعلامية، التي تبدو الرواية فيها معكوسة. وبدلاً من أن يعرض الفلسطينيون صور الضحايا من الأطفال والنساء والشيوخ، الذين يسقطون يوميا بالقصف الاسرائيلي للبيوت والمشافي ودور العبادة، سبقهم الاسرائيليون إلى ذلك، وبدا السفير الاسرائيلي في الامم المتحدة، وهو يعرض صور الاسرائيليين من ضحايا هجمات السابع من اكتوبر، كأنه يسرق مأساة الضحية الفعلية، كما قال محمود درويش
“سرقت دموعنا يا ذئب، تقتلني، وتدخل جثتي، وتبيعها،
أخرج قليلا من دمي، كي يراك الليل أكثر حلكة
وكي نمشي لمائدة التفاوض واضحين كما الحقيقة
قاتلاً يدلي بسكين، وقتلى يدلون بالأسماء”.
كلما طال الوقت، كلما أخذت الرواية الاسرائيلية بالتفكك، حتى الإدارة الأميركية تتساءل عما سيحل بالشرق الاوسط والعالم، إذا تم تفويض اسرائيل بعملية عسكرية من دون قيود، تحت بند الدفاع عن النفس. ورغم أن الميديا والطبقات السياسية الحاكمة في عموم البلدان الغربية تؤيد اسرائيل، فإن قطاعات واسعة من الرأي العام تدرك أن ما يجري هو عبارة عن حرب تصفية للقضية الفلسطينية بقرار أميركي.
المدن
————————–
شظايا «حرب غزة» تتكاثف في سوريا
أميركا تُقر بتعرضها لـ23 هجوماً خلال أسبوعين… وتحذيرات أممية من التداعيات
تكاثفت شظايا التداعيات الإقليمية للحرب المشتعلة في قطاع غزة، في أجواء دول الجوار، وأظهرت عمليات قصف متكررة نفذتها إسرائيل وأميركا، وكذلك فصائل موالية لإيران في كل من سوريا والعراق، اتجاهاً متصاعداً لإعادة تسخين التحركات العسكرية بالمنطقة بعد هدوء نسبي مؤقت في عدد العمليات المشابهة خلال الشهور القليلة السابقة على اشتعال الجبهة الفلسطينية.
وجاء «معبر القائم» على الحدود السورية – العراقية الذي تسيطر عليه إيران، ليكون أحدث الساحات المنضمة إلى سباق «إعادة التسخين»، إلى جانب مطاري حلب ودمشق الدوليين. ووفق ما أفاد مسؤول عراقي (الاثنين) فإن «طائرة مجهولة استهدفت قافلة شاحنات كانت متوقفة على الجانب السوري من الحدود مع بلاده مساء (الأحد)».
وأوضح المسؤول في حرس الحدود أن «ضربات جوية عدة دمرت جزءاً من قافلة من 10 شاحنات استخدمت (معبر القائم) يوم (السبت)». ويقع المعبر الحدودي بالقرب من بلدة البوكمال السورية القريبة من الموقع الذي نفذ فيه الجيش الأميركي غارات جوية يوم (الجمعة) على منشأتين قال إن «الحرس الثوري الإيراني وجماعات يدعمها تستخدمهما».
كما ذكرت مصادر أمنية أن 4 صواريخ «كاتيوشا» أُطلقت (الاثنين) على قاعدة «عين الأسد» الجوية العراقية التي تستضيف قوات أميركية ودولية أخرى في غرب العراق. وقال مسؤولان في الجيش إن الصواريخ ربما سقطت بعيداً عن القاعدة. بينما أشار مصدران أمنيان إلى أن «الصواريخ أُطلقت من منطقة صحراوية على بعد نحو 25 كيلومتراً شمال القاعدة».
ضربات إسرائيلية
ومنذ بدء الحرب في غزة، تعرض مطارا حلب ودمشق لعدد من الضربات الجوية الإسرائيلية لمنع هبوط طائرات قادمة من طهران، وما أن يتم إزالة آثار الضربة ويعلن عن إعادتهما إلى الخدمة حتى يتلقيا ضربة تُخرجهما من الخدمة مجدداً، في تحركات تقول إسرائيل إنها تستهدف «خط الإمداد الإيراني» بعد نشر للميليشيات التابعة لـ«الحرس الثوري الإيراني» و«حزب الله» اللبناني على الجبهة الجنوبية بمحاذاة الجولان على الحدود مع إسرائيل منذ بدء التصعيد في غزة.
ونفذت إسرائيل (فجر الاثنين) ضربة جوية ضد موقعين عسكريين بريف درعا (جنوب سوريا). وقال مصدر عسكري سوري إن «العدو الإسرائيلي شن عدواناً جوياً من اتجاه الجولان السوري المحتل مستهدفاً موقعين لقواتنا المسلحة في ريف درعا»، لافتاً إلى أن «العدوان أدى إلى وقوع بعض الخسائر المادية».
ويذهب مراقبون سوريون، في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن «رسالة إسرائيل هي قطع طرق الإمداد وضرب مخازن السلاح والمقرات والمواقع العسكرية التي تتبع إيران، لكي لا تتدخل في حرب غزة».
23 هجوماً
ووفق إفادة رسمية، (الاثنين) فإن القوات الأميركية، وقوات «التحالف الدولي» في العراق وسوريا تعرضت لهجمات بطائرات مسيّرة وصواريخ 23 مرة خلال الشهر الحالي، حسب مسؤول في وزارة الدفاع الأميركية
وألقت واشنطن باللوم في زيادة الهجمات على «التنظيمات المدعومة من إيران»، وقال المسؤول الأميركي للصحافيين إنه خلال الفترة من 17 أكتوبر (تشرين الأول) وحتى 30 من الشهر نفسه، تعرضت القوات الأميركية وقوات التحالف للهجوم 14 مرة على الأقل بشكل منفصل في العراق، و9 مرات بشكل منفصل في سوريا.
وأوضح أن الهجمات نُفِّذت «بطائرات مسيّرة هجومية وصواريخ»، لكن «معظمها فشل في بلوغ أهدافه بفضل دفاعاتنا المتينة».
ووقعت 3 هجمات في سوريا منذ الجمعة، تزامناً مع تقارير عن استهداف قوات أميركية في البلاد خلال عطلة نهاية الأسبوع في هجمات تبناها فصيل يطلق على نفسه اسم «المقاومة الإسلامية في العراق» سبق أن أعلن مسؤوليته عن العديد من الهجمات الأخيرة.
وكان البنتاغون قال في وقت سابق إن الهجمات أدت لإصابة 21 عنصراً أميركياً بجروح طفيفة، بينما توفي متعهد عسكري بنوبة قلبية خلال إنذار كاذب.
تحذيرات أممية
ودفع التسخين العسكري، المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا، غير بيدرسن، إلى دق «ناقوس الخطر» من انتقال عدوى الحرب في غزة إلى سوريا، معترفاً بـ«الحقيقة الصعبة» المتمثلة في «غياب المشاركة الحقيقية والتقدم نحو الحل السياسي المنشود في هذا البلد على رغم سنوات الحرب الطاحنة فيها».
واستمع أعضاء المجلس إلى إحاطة من المبعوث الأممي الذي لاحظ أنه منذ مارس (آذار) 2020 «دخل الصراع السوري في حالة من الجمود الاستراتيجي» بالتزامن مع وجود 5 جيوش أجنبية تنشط على الأراضي السورية، مذكراً بأنه حذر منذ سنوات من أن «هذا الوضع الراهن يعرض سوريا لخطر الانجراف إلى حالة أعمق وأطول أمداً من التفتت، وأن ذلك ينطوي على مخاطر تصعيد أكثر خطورة»، لا سيما «بسبب غياب عملية سياسية ذات صدقية». ودق ناقوس الخطر مجدداً بأن «الوضع أصبح الأكثر خطورة منذ فترة طويلة».
ورأى بيدرسن الذي تسلم منصبه مبعوثاً أممياً إلى سوريا منذ 5 سنوات تماماً من دون أن يحرز أي تقدم، أن «الشعب السوري يواجه الآن احتمالاً مرعباً بتصعيد محتمل وأوسع نطاقاً، نظراً للتطورات المثيرة للقلق في إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة والمنطقة»، منبهاً إلى أن «انتقال العدوى إلى سوريا ليس مجرد خطر، بل هو أمر بدأ بالفعل».
وإذ لفت كذلك إلى إعلان الولايات المتحدة أن قواتها تعرضت لهجمات متعددة من مجموعات تزعم أنها مدعومة من إيران، بما في ذلك على الأراضي السورية، أشار إلى تصاعد الهجمات المتبادلة بين القوات النظامية السورية والقوى المناوئة لها في العديد من المناطق. وعدَّ كذلك أن سوريا والشعب السوري والمنطقة ككل «ليست في وضع يسمح لها بتحمل انفجارات جديدة للصراع العنيف».
وقال بيدرسن إن لديه «أربع رسائل فورية» لمجلس الأمن أولها «وقف التصعيد داخل سوريا بشكل عاجل»، ثم أن «تمارس كافة الأطراف الفاعلة – السورية وغير السورية – أقصى درجات ضبط النفس» لأنه «من غير المقبول أن يتم التعامل مع سوريا باعتبارها ساحة مفتوحة للجميع تقوم الجهات الفاعلة المختلفة بتصفية حساباتها مع بعضها البعض فيها».
وطلب بيدرسن ثالثاً أن تعمل الجهات الفاعلة «في إطار الامتثال الكامل لأحكام القانون الدولي الإنساني»، وأخيراً أن «تبقي قنوات التواصل والتعاون مفتوحة بين جميع الجهات الفاعلة الدولية الرئيسية». وعبّر عن خشيته أنه في حال عدم تلبية هذه المطالب، فإن «الوضع المتوتر الراهن قد ينهار بالكامل».
الشرق الأوسط
————————–
في المسألة الإسرائيلية/ اليهودية: التابو العربي الإسلامي في مواجهة التابو الغربي/ الألماني/ حسام الدين درويش
تتسم المجتمعات الغربية المعاصرة بانحسار مساحة التابوات والمحظورات الاجتماعية مقارنة بمساحة هذه التابوات في مجتمعات العالمين العربي والإسلامي عمومًا، أو حتى مقارنةً بمساحة هذه التابوات في ماضي هذه المجتمعات ذاتها في عهودٍ قريبةٍ نسبيًّا. ويرتبط هذا الانحسار بالاعتراف القانوني الاجتماعي المتزايد بحقوق الفرد واستقلاله النسبي عن مجتمعه أو الجماعات العضوية التي ينتمي إليها بحكم الولادة، بما في ذلك أسرته وعائلته، بعيدًا عن منطق الوصاية والإعلاء من قيمة الجماعات العضوية السائد غالبًا في المجتمعات العربية والإسلامية. وعلى الرغم من الثبات النسبي لبعض التابوات (زنى المحارم، على سبيل المثال)، إلا أن التابوات عمومًا هي ظواهر تاريخية متبدلة ومتغيرة، فما كان محظورًا ويستحيل تحققه أو تخيله في زمانٍ و/ أو مكانٍ ما (شرعنة المثلية الجنسية والاعتراف بالحقوق المتساوية للمثليين الجنسيين مثلًا)، يمكن أن يكون أو يصبح مباحًا في زمانٍ و/ أو مكانٍ آخر. وعادةً تتغير التابوات تغيرًا بطيئًا، ففي حين أن تحوُّل امرٍ ما إلى تابو يمكن ان يحصل، بوصفه نتيجةً سريعةً ومباشرةً لحدثٍ مزلزلٍ ما، فإن التخلص من التابوات يستغرق غالبًا فترةً طويلةً، ويحصل بطريقةٍ تدريجيةٍ، تتفاعل فيها إرادة الإنسان/ المجتمع والظروف الموضوعية للتخلص من بعض التابوات القديمة، وإحلال تابواتٍ جديدةٍ محلها. ويتقاسم أبناء المجتمع الواحد عادةً، تقاسمًا جزئيًّا، رؤيةً مشتركةً واحدةً، في خصوص معظم التابوات والمحظورات الثقافية والقانونية في مجتمعهم. في المقابل، يجسِّد اختلاف التابوات/ المحظورات في الثقافات والمجتمعات المختلفة أحد (أبرز) أوجه الاختلاف بين الثقافات/ المجتمعات، وفيها.
إن انتقال أي شخصٍ أو أفرادٍ من جماعةٍ إلى مجتمعٍ جديدٍ أو ثقافةٍ جديدةٍ يتضمن مواجهةً بين التابوات/ المحظورات المختلفة بين الثقافتين. وهذا ما حصل، على سبيل المثال، مع موجة اللاجئين السوريين (وغير السوريين) التي وصلت إلى أوروبا في السنوات الأخيرة. ومع السعي إلى اندماج أعضاء المجتمع الجديد في هذا المجتمع وتكيفهم معه، يزداد قبول أو حتى تقبُّل كل طرف لاختلاف الطرف الآخر عنه. وغالبًا ما تبدو معظم الاختلافات ثانوية وقابلةً لأن يُتعايش معها، مقارنةً بالاختلافات التي تمس التابوات والمحظورات الأساسية في كل ثقافةٍ. ما أود مناقشته في هذا النص هو التناقض بين التابوات العربية الإسلامية والتابوات الغربية الألمانية في خصوص المسألة اليهودية الإسرائيلية، و(سوء) الفهم المرتبط بهذا التناقض، والسائد في كل ثقافةٍ، تجاه الثقافة الأخرى، في هذا الخصوص. فما هي التابوات الغربية/ الألمانية والعربية الإسلامية المتعلقة بالمسألة اليهوديةـ الإسرائيلية؟
قبل التناول المباشر لهذه المسألة لا بد من الإشارة إلى أن التمييز (الضروري) بين الإسرائيلي واليهودي مسألة إشكالية مهمةٌ ملازمة للتابوات في هذا الخصوص، وسيتم مناقشتها لاحقًا. وما سيُناقش، في خصوص التابوات المرتبطة بالمسألة اليهودية الإسرائيلية، يتعلق خصوصًا بالنظرة أو الصورة النمطية السائدة لدى السوريين بوصفهم عربًا أو مسلمين، وبالنظرة أو الصورة النمطية السائدة لدى الألمان، وفقًا لصورة السوريين النمطية عنهم وعن الصورة النمطية التي لديهم.
على الرغم من أن التابوات الألمانية/ الغربية المتعلقة بالمسألة الإسرائيلية/ اليهودية ذات تاريخ “عريق”، فإن هذه التابوات ترتبط، في ألمانيا خصوصًا، ارتباطًا خاصًّا، بما فعلته “ألمانيا النازية” باليهود بين عامي 1933-1945. ففي هذه الفترة، مارست ألمانيا النازية اضطهادات كثيرة وكبيرة بحق اليهود الذين تعرضوا للنفي والإبادة الجماعية في عمليات أفضت إلى قتل ملايينٍ من الأشخاص الأبرياء. وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية التي أفضت إلى هزيمة ألمانيا (النازية)، وتقسيم ألمانيا إلى ألمانيتين (شرقية وغربية)، حرصت ألمانيا الرسمية والشعبية على إظهار ندمها وتعاطفها مع اليهود وبذلت جهودًا كبيرةً لمحاربة “معاداة السامية”، ولإظهار جسامة الجرائم التي ارتُكبت بحق اليهود وضرورة التصدي للأفكار والقيم والتصرفات المؤسسة لهذه الجرائم عمومًا ولمعاداة اليهود أو السامية خصوصًا. في إطار السعي إلى “تحمل مسؤولية ألمانيا التاريخية أمام العالم تجاه جرائم العهد النازي”، شدد الرئيس الألماني هورست كولر على أن “مسؤولية ألمانيا عن المحرقة تشكل جزءًا لا يتجزأ من هويتها”( )، واعترفت ألمانيا بإسرائيل بوصفها ممثلًا لحقوق اليهود الذين فقدوا حياتهم ضحية للإرهاب النازي، وعملت على دفع التعويضات إلى ذويهم وعلى مساعدة إسرائيل اقتصاديًّا، وجعلت “المحافظة على كيان دولة إسرائيل والمساهمة في حماية حقها في العيش بأمن وسلام أحد الركائز التي تقوم عليها السياسة الخارجية الألمانية تجاه الشرق الأوسط”.( ) ومن التابوات أو المحظورات القانونية أو الاجتماعية التي ظهرت في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، يمكن الحديث خصوصًا عن إنكار (استثنائية) الجرائم المقترفة بحق اليهود أو التخفيف منها أو التقليل من هولها او فظاعتها، أو إظهار أي شكلٍ من أشكال “معاداة السامية”، كالحديث بالسلب عن اليهود، لمجرد كونهم يهودًا، أو اتهامهم بالبخل أو بالطمع أو بالجشع (على نمط شايلوك الشكسبيري) أو المبالغة في إظهار قوتهم و/ أو سيطرتهم (المزعومة) على الاقتصاد أو السياسة أو الإعلام في هذه الدولة أو تلك أو في العالم الغربي عمومًا.
بالانتقال إلى العلاقات بين العالم العربي واليهود/ الإسرائيليين والتابوات المرتبطة بهذه العلاقة في الثقافة العربية، نجد أنفسنا في عالمٍ مختلفٍ جذريًّا عن عالم التابوات والعلاقة الخاصة التي تربط ألمانيا/ الغرب باليهود/ الإسرائيليين. ومثلما هو الحال في العلاقة بين ألمانيا واليهود، فإن تاريخ هذه العلاقات يعود بجذوره إلى عهودٍ قديمةٍ، لكن النقطة المحورية المعاصرة فيه هي إعلان دولة إسرائيل عام 1948، ومن ثم احتلال إسرائيل لأراض فلسطينية وعربية في حرب حزيران 1967، وفي حروبٍ أخرى خاضتها ضد البلدان العربية المجاورة لها. إسرائيل، في الوعي السوري المعاصر، هي تجسيدٌ للشر في الميدان السياسي/ الأخلاقي؛ فهي دولة تحتل أراضي أكثر من دولة عربية، وقد قتلت، خلال حروبها مع العرب، عشرات الآلاف من الأشخاص، وهي مازالت تقضم الأراضي الفلسطينية، وترفض إقامة دولة فلسطين المستقلة، وتعتقل آلافًا من الفلسطينيين، وتحاصر مئات الألاف منهم …إلخ. إسرائيل هذه في الخطاب الرسمي والشعبي السوري، هي نموذج لدولة الاحتلال العدوانيةـ المعتدية والعنصرية، وهي تجسيدٌ، ماديٌّ ومعنويٌّ، فظٌّ ووقحٌ، للتدخل الغربي الأمريكي الاستعماري في العالم العربي والإسلامي. والتابوات “السورية” في خصوص اليهود/ الإسرائيليين مختلفة تمامًا عن نظيرتها الألمانية، فمن المحظور الحديث عن إمكانية التخلي عن الأراضي “العربية” التي تحتلها إسرائيل، أو التخلي عن حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة وفقًا للقرارات الدولية ذات الصلة. وفي المستوى القانوني يُحظر على السوريين التواصل مع الإسرائيليين أو إقامة علاقات “طبيعية” معهم، ومن يفعل ذلك أو يقيم اتصالاتٍ مع اليهود الإسرائيليين يعرِض نفسه لتهمة الخيانة ويمكن أن يُحكم عليه بالإعدام.
اليهودي/ الإسرائيلي هو “الضحية” أو وريثه الشرعي، في المنظور الألماني، في حين أن السوري/ العربي يرى أنه ضحية “هذا الضحية”. ﻓ “الضحية”، في المنظور الألماني، هو المحتل والمعتدي والدخيل في المنظور العربي/ السوري. هذا الاختلاف الكبير بين المنظورين يجعل العلاقة بين المنظورين الألماني والسوري متوترةً غالبًا، في هذا الخصوص. فتابوات كل طرف تبدو منتهكةٍ أو واجبة الانتهاك عند الآخر. وفي حين أن المنظور الألماني/ الغربي يركِّز على حق إسرائيل في الوجود وعلى ضرورة اعتراف الجميع، بمن فيهم جيرانها العرب والمسلمين، بهذا الحق وذاك الوجود، يشدد المنظور السوري/ العربي على أن المشكلة الأساسية لا تتمثل في (عدم) اعتراف العرب أو غيرهم بوجود إسرائيل، وإنما تتمثل في كون إسرائيل دولة قائمة أساسًا على العدوان والتمييز العنصري، فهي تمارس العنصرية تجاه سكانها أو مواطنيها غير اليهود، وهي معتديةٌ وظالمةٌ تجاه جيرانها العرب، ولا تقبل، لا مبدئيًّا ولا فعليًّا، بحق جيرانها في استرداد أراضيهم المغتصبة كاملةً وحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم الفلسطينية. المشكلة تكمن، أساسًا وفي الدرجة الأولى، في الاحتلال؛ وكل المشاكل الأخرى ناتجة عن هذه المشكلة، بطريقةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرةٍ.
كيف يمكن التعامل مع مشكلة التناقض بين هذين المنظورين أو بين الأشكال العديدة من سوء أو عدم الفهم الناتجة عن هذا التناقض؟ ولا يبدو نادرًا وجود سوء الفهم هذا، والمعاناة أو الشكوى بسببه، لدى “الطرفين”. فمن وجهة النظر السورية/ العربية، لا يتفهم كثيرٌ من الألمان خصوصية علاقتهم مع إسرائيل ومواطنيها ومؤيديها، لأنهم يستسهلون كثيرًا اتهام الآخرين (السوريين) بالعنصرية ومعاداة السامية لمجرد أنهم معادون لإسرائيل أو رافضون لإقامة علاقة طبيعية رسمية مع اليهود/ الإسرائيليين، والظهور معهم في مناسبات عامة مشتركة تحت عناوين براقة مثل السلام والحب والإنسانية … إلخ. في المقابل، يرى كثيرٌ من الألمان أنه، على الرغم من الدعم السياسي والاقتصادي والإنساني الكبير الذي قدمته وتقدمه ألمانيا للسوريين والفلسطينيين والسلطة الفلسطينية، فإنَّ اللاجئين (السوريين) المعادين لإسرائيل لا يظهرون تفهمًا كافيًا للعلاقة الخاصة التي تربط ألمانيا باليهود/ الإسرائيليين وبدولة إسرائيل. ويظهر ذلك، من وجهة نظرهم، في قيام بعض اللاجئين، على سبيل المثال، بالتنديد العلني والشديد بسياسات إسرائيل وتصرفاتها تجاه الفلسطينيين، أو بحرق علم دولة في التظاهرات التي تجري في ألمانيا، أو في الإعلان أنهم لا يعترفون بدولة إسرائيل و/أو بحقها في الوجود، إلى أن تنسحب إسرائيل من جميع الأراضي التي تحتلها وتعترف بحق الفلسطينيين الكامل في دولةٍ كاملة السيادة، … إلخ.
ثمة مقارباتٌ عديدةٌ، ممكنة أو فعلية، للتفاعل مع مشكلة التناقض بين هذين المنظورين والأشكال العديدة من التابوات وسوء أو عدم الفهم المرتبطة بهذا التناقض. ومن أهم هذه المقاربات: المنظورية أو النسبوية، الدوغمائية الأحادية أو المطلقة، التلفيقية السياسية العمياء أو المتعامية. وسأقدم فيما يلي شرحًا مكثَّفًا ونقديًّا، لمضمون كل واحدة من هذه المقاربات، قبل أن أشير إلى إمكانية وجود مقاربة مختلفة تأخذ بعين الاعتبار سلبيات المقاربات الثلاث الأخرى وإيجابياتها، في الوقت نفسه.
تتمثل المقاربة النسبوية، في هذا السياق، في القول إن كلًّا من هذين المنظورين المتناقضين محقٌّ بالكامل؛ ولهذا ليس بالإمكان تكاملهما أو الجمع بينهما في نظرةٍ كليةٍ شاملةٍ. فمن ينظر من المنظور أو المنظار السوري/ العربي يرى اليهودي/ الإسرائيلي عدوًّا ومجرمًا، بقدر تأييده لاحتلال إسرائيل لأراض جيرانها، ولممارستها العنف والقمع بحق العرب المعارضين والمقاومين لهذا الاحتلال، وبقدر مشاركته أو إسهامه في هذا الاحتلال وتلك الممارسة. ومن هذا المنظور، يكون التطبيع مع اليهودي الإسرائيلي المؤيِّد لسياسة الاحتلال تابوًا لا ينبغي انتهاكه، لأن هذا التطبيع هو تنازلٌ عن الحقوق وتخلٍّ عن الضحايا وإهدارٌ لدمائهم وتضحياتهم، ودعمٌ لمن قام بقمعهم وظلمهم والإجرام في حقهم. ويمكن وصف هذا التابو بالإيجابي، من الناحية القيمية/ الأخلاقية، بقدر اتساقه مع، أو استناده إلى المبادئ الأخلاقية العامة ومنظومة حقوق الإنسان المعاصرة، والقوانين والقرارات الدولية ذات الصلة بهذه المسألة. في المقابل، ومن منظورٍ نسبويٍّ آخر، يكون الألماني/ الغربي محقًّا في حديثه عن المسؤولية الخاصة التي تتحملها ألمانيا تجاه اليهود/ الإسرائيليين ودولة إسرائيل؛ فالجرائم الفظيعة والمريعة التي ارتكتبتها ألمانيا النازية بحق اليهود تبررّ العلاقات الخاصة التي تقيمها ألمانيا مع اليهود/ الإسرائيليين ومع دولة إسرائيل، والتزامها الكامل بأمنها ومساعدتها المستمرة لها اقتصاديًّا وسياسيًّا، في محاولة لتحمل المسؤولية الخاصة التي ترى ألمانيا محقةً أنها تقع على عاتقها تجاه اليهود/ الإسرائيليين. ومن هذا المنظور، تبدو التابوات الألمانية/ الغربية مسوَّغة أخلاقيًّا، بالإضافة إلى كونها مسوَّغةً سياسيًّا: فإنكار جرائم ألمانيا بحق اليهود وغيرهم جريمة، ومعاداة اليهود أو السامية هي امتدادٌ، مباشرٌ أو غير مباشرٍ، لمعاداة النازية لليهود، أو صياغةٌ معاصرةٌ لها، يجب رفضها وحظرها، حظرًا كاملًا.
يمكن للمرء أن يبقى في إطار هذه المنظورية النسبوية، بحيث يتأرجح بين هذين المنظورين، من دون امتلاك القدرة على إنكار معقولية أي منهما أو على التوفيق بينهما في رؤية متكاملةٍ. لكن هذه المنظورية النسبوية تتحول إلى دوغمائية أحادية و/ أو مطلقة عندما يُتبنى، تبنيًّا كاملًا، أحد المنظورين المذكورين، مع إنكار وجود أي معقوليةٍ كبيرةٍ وأساسيةٍ للمنظور الآخر.
ﻓ “الدوغمائية الأحادية و/ أو المطلقة” هي رؤية احاديةٌ لا تعترف بأي معقوليةٍ كبيرةٍ للرؤى والمنظورات المختلفة عنها، وترى أن لديها ما يكفي، معرفيًّا وأخلاقيًّا وسياسيًّا، لتبني موقفٍ، كاملٍ ونهائيٍّ، في خصوص مسألةٍ ما، بدون الاكتراث، اكتراثًا كبيرًا، بأي رؤية مختلفةٍ عنها أو مخالفةٍ لها. ووفقًا للتبني الدوغمائي للمنظور السوري/ العربي، فإن الأساس الذي ينبغي الانطلاق منه في التعامل مع هذه المسألة، هو أن إسرائيل دولةٌ تحتل أراض جيرانٍ لها وتقمع و/ أو تحارب كل من يعارض احتلالها ويقاوم هيمنتها ويرفض ممارساتها الإجرامية، وأنه من المعقول جدًّا القول بأنه لا شرعية قانونية ولا مقبولية أخلاقية أو حتى سياسية لوجود هذه الدولة، طالما أنها ترفض التنفيذ الكامل لمضامين القرار الدولي الأممي الذي تمت إقامة كيانها على أساسه. الانطلاق من هذا الأساس يعني، وفقًا للتبني الدوغمائي للمنظور السوري/ العربي، أنه عند تناول موضوع دولة إسرائيل أو المسألة الإسرائيلية/ اليهودية المتصلة بها، ليس هناك أهمية (كبيرة) لاستحضار المسائل المتعلقة بالمجازر التي تعرض لها اليهود سابقًا وظاهرة معاداة السامية في الثقافات الحديثة والمعاصرة ومنها الثقافة العربية/ الإسلامية. فهذه المسائل إما غير ذات صلة كبيرة بالقضية المطروحة (وهو، وفقًا لهذه الدوغمائية، حال مسألة المجازر التي تعرض لها اليهود في أوروبا سابقًا) أو هي نتاجٌ ثانويٌّ للمسألة الأساسية المتمثلة في الاحتلال وهيمنته، أو عرضًا من أعراضها (وهذا هو عمومًا حال معادة السامية في الثقافة العربية الإسلامية، وفقًا لأصحاب هذا المنظور).
في المقابل، يشدِّد التبني الدوغمائي في المنظور الألماني/ الغربي على أن النقطة الأساسية في تناول المسألة اليهودية/الإسرائيلية تكمن في تعرض اليهود المستمر، ومنذ زمنٍ طويلٍ، لتمييزٍ عنصريٍّ إجراميٍّ بحقهم؛ وقد تجسَّد هذا التمييز في صورة مجازر وحشية سابقًا، كما تجسَّد في صورة معاداة لليهود وللسامية، وهي المعاداة التي ما زالت موجودةً، جزئيًّا ونسبيًّا، حتى الآن، في الثقافات الغربية والعربية والإسلامية المعاصرة. وانطلاقًا من ذلك فإن الهدف الأول لأي تعامل مع المسألة اليهوديةـ الإسرائيلية يجب أن يتجسد في التصدي لظاهرة معاداة السامية، وحماية اليهود من أن يكونوا مجدّدًا ضحايا كارهيهم ومعاديهم، وتعويض ذوي الضحايا اليهود، والنظر إلى الالتزام بحماية “دولتهم” ووجودهم على أنه الواجب الأخلاقي والسياسي الأول والأهم في هذا السياق. ولا يرى متبنو هذه الدوغمائية أي معقوليةٍ في حديث كثيرٍ من الفلسطينيين أو السوريين أو العرب، عن اليهود الإسرائيليين الداعمين لسياسة دولتهم الاحتلالية، بوصفهم مجرمين وأعداء تاريخيين في صراعٍ يبدو للكثيرين منهم أنه أقرب إلى أن يكون صراع وجودٍ من أن يكون صراع حدودٍ. اليهود الإسرائيليون، وفقًا لمتبني هذه الدوغمائية، هم ضحايا فعليون سابقًا، ومحتملون حاليًّا، لبيئةٍ معاديةٍ وكارهةٍ لهم؛ وتكمن المشكلة الأساسية في هذه المعاداة وذلك الكره، وما ينجم عنهما من إرهاب وعدوانٍ وعنفٍ. وينبغي فهم كل المسائل الأخرى، المتصلة باحتلال إسرائيل لبعض أراضي جيرانها ومنع الفلسطينيين من إقامة دولتهم المستقلة، على أنها رد فعلٍ إسرائيليٍّ – مبررٌ جزئيًّا ونسبيًّا، على الأقل – على هذه البيئة المعادية وتجسداتها. فالاحتلال هو نتيجةً لوجود البيئة المعادية لليهود أكثر من كونه سببًا أساسيًّا لها. والدعوة إلى إنهاء الاحتلال ينبغي أن يسبقها ويرافقها دعوةٌ إلى التخلص من البيئة المذكور ومن تجسداتها، ونجاحٌ، عمليٌّ وفعليٌّ، واضحٌ لهذه الدعوة الأخيرة.
تختلف مقاربة التلفيقية السياسية العمياء أو المتعامية عن المقاربتين السابقتين، من جهةٍ، وتتفق مع كل منهما، من جهةٍ أخرى. فهي تتفق مع مقاربة المنظورية النسبوية، وتختلف بالتالي مع الدوغمائية الأحادية أو المطلقة، في القول بوجود منظورين مهمين أو أكثر ينبغي أخذهما في الحسبان، عند تناول هذه المسألة ومحاولة فهمها والتعامل معها، نظريًّا وعمليًّا، معرفيًّا وسياسيًّا وأخلاقيًّا. في المقابل، تختلف المقاربة التلفيقية عن مقاربة المنظورية النسبوية، لكونها تزعم إمكانية التوفيق بين المنظورين المختلفين. وهذا التوفيق المزعوم هو “في الحقيقة والواقع” تلفيقٌ، بقدر قيامه بالجمع بين أضداد ومتناقضات، بدون أساسٍ أخلاقيٍّ ومعرفيٍّ، واضحٍ و/ أو كافٍ و/ أو متينٍ. فالتلفيقية هي توفيقٌ شكليٌّ أو شكلانيٌّ يحاول التركيز على مستوى الخطاب النظري العام، لا على الواقع المتعين، وعلى مستوى الشعارات العامة والضبابية، لا على مستوى المبادئ المحددة ذات المضامين الواضحة والفاعلية الراسخة. وتكمن تلفيقية هذه المقاربة في كونها تستسهل الزعم ﺑ (إمكانية) التوفيق بين الواقع والمثال، أو بين ما هو كائن وما يجب أن يكون، في واقعيةٍ تضفي شرعيةً على ممارسة القوة (الغاشمة) بدلًا من أن تمنح القوة المعنوية لمستحقيها من الضحايا والمظلومين. فباسم الواقعية السياسية، يمكن لهذه هذه المقاربة أن تنكر الحقوق المبدئية والحقائق البديهية، برضوخها للواقع المفروض بالقوة بدلًا من أن ترفض الواقع المتعارض مع تلك الحقوق والحقائق، وبمماهاتها لما هو كائن مع ما يجب أن يكون. ويتعزز هذا العمى أو التعامي عندما تقتصر هذه المقاربة على التجريدات والعموميات الضبابية، والتنظيرات المثالية، بما يفضي إلى غض النظر، قصدًا أو عفوًا، عن الفروق أو الاختلافات بين المجرم والضحية، بين الظالم والمظلوم، بين السبب والنتيجة، في مساواةٍ شكلانيةً، على مستوى الخطاب، تعزز اللامساواة السلبية القائمة في الواقع، وتخفيها، في الوقت نفسه، بدلًا من أن تفضي إلى إزالة هذا التفاوت أو التخفيف منه، على الأقل.
وترتبط السمة التلفيقية لهذه المقاربة بنزوعها السياسي؛ فهي ليست مرتبطةً بهمٍّ أو انهمامٍ معرفيٍّ و/ أو اخلاقيٍّ يتأسس على معطيات الواقع والتاريخ ويتناسب فعلًا مع قيم الحقيقة والحق والخير والعدل وما شابه، وإنما هي مرتبطةٌ بضروراتٍ أو تطلعاتٍ سياسيةٍ مصلحيةٍ ضيقةٍ و/ أو منظوراتٍ عامةً بالغة التجريد والتعميم. وتتمثل المقاربة التلفيقية على سبيل المثال في الحديث العام عن ضرورة التآخي وسيادة المحبة في العلاقات بين الشعبين اليهودي- الإسرائيلي والعربي- الفلسطيني، بدون توصيفٍ واضحٍ للمعطيات الواقعية للمشكلة ولأسبابها وأبعادها ونتائجها الأساسية، وبدون اتخاذ موقفٍ واضحٍ، على سبيل المثال، في خصوص ضرورة إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية وغير الفلسطينية وعودة ملايين الفلسطينيين النازحين أو المهجرين من بيوتهم …إلخ. ويندرج، في هذا الإطار، العمل على تنظيم نشاطاتٍ فنيةٍ وحفلاتٍ موسيقيةٍ، على سبيل المثال، تجمع أدباءً وفنانين يهودًا إسرائيليين مع فنانين فلسطينيين أو عرب، تحت شعارات السلام والمحبة والتآخي، بدون اكتراثٍ فيما إذا كان المشاركون في هذه الحفلات مؤيدين للاحتلال الإسرائيلي أم معارضين له، وبدون اهتمامٍ بالوظيفة السلبية التي يمكن أن يؤديها تطبيع العلاقات مع الاحتلال والمحتلين ومؤيديه ومؤيديهم، في ترسيخ هذا الاحتلال وتشجيع المحتلين على الاستمرار في احتلالهم وعدوانهم وقمعهم. إن الزعم بإمكانية الفصل بين السياسة وواقع الاحتلال من جهةٍ أولى، وهذه النشاطات الفنية والأدبية هو زعمٌ تلفيقيٌّ سياسيٌّ بامتيازٍ.
في مقابل هذه الرؤى الثلاث، أرى وجوب اتباع مقاربةٍ مختلفةٍ تتضمن إيجابيات المقاربات الثلاث المذكورة آنفًا، وتتجاوز، في الوقت نفسه، سلبياتها الكبيرة والكثيرة. وينبغي لهذه المقاربة أن تأخذ في الحسبان تعدد المنظورات، من دون أن تخضع لأيٍّ منها، وأن ترفض الحياد والوسطية، بدون أن تكون لا-موضوعيةً. فعلى هذه المقربة أن تنحاز إلى ما هو حقٌّ وحقيقيٌ، بحيث يكون ذلك سبيلها إلى الحصافة المعرفيةـ الأخلاقية، بدلًا من إقامة تعارضٍ زائفٍ بين الانحياز والموضوعية، أو إقامة تماهٍ أو ترابطٍ دائمٍ بين الوسطية و/أو الحيادية، من جهةٍ، والصواب الأخلاقي والمعرفي أو حتى السياسي، من جهةٍ أخرى. والطريق إلى هذه الحصافة المعرفيةـ الأخلاقية المنشودة ليس سهلًا ولا واضح المعالم دائمًا؛ فنحن هنا في منطقة رماديةٍ غالبًا. وعلى الرغم من ذلك، ثمة قيمٌ ومبادئ، معرفيةٌ ومنهجيةٌ وأخلاقيةٌ، أساسيةٌ ينبغي لها أن تكون محرِّكًا و/أو موجهًا لسلوكنا وفكرنا، في تعاملنا مع “المسألة الإسرائيلية”، ومع التابوات المرتبطة بها، بغض النظر عن كوننا ألمانًا أو عربًا، مسلمين أو مسيحيين أو يهودًا، من ذوي الضحايا أو من ذوي المجرمين …إلخ.
المحور الأساسي والأهم في هذه المقاربة هو ضرورة التشديد على المساواة الأخلاقية المبدئية بين الناس، أفرادًا وجماعاتٍ، من جهةٍ، وتجنُّب سياسات الهوية، تجنُّبًا كاملًا أو شبه كاملٍ، في هذه المسألة، من جهةٍ أخرى. فمحاكمة الأفراد والجماعات، من جهة الأقوال والتصرفات والمواقف والقيم والأفكار … إلخ، ينبغي أن تنطلق من الإقرار بالمساواة الأولية الكاملة فيما بينهم أو بينها، وعدم معاملة أي طرفٍ معاملةٍ تفضيليةٍ تجعله يحظى بميزات غير عادلة، مقارنةً مع المعاملة التي يتلقاها الآخرون. وما ينبغي التخلص منه، في التابوات أو في تأثيراتها في السلوك والتفكير، هو الرؤية القيمية والمعرفية والسياسية المتأسِّسة على التضاد مع المساواة، والمؤسِّسة لهذا التضاد، في الوقت نفسه. ففي التابوات الألمانية عن اليهود، يبدو أن اليهود/ الإسرائيليين يحظون بمكانة إيجابية مميزة، لأنهم، أو لأن ذويهم، تعرضوا سابقًا لاضطهاد وإهانةٍ ومجازر مروعةٍ؛ في المقابل، يبدو أن الصورة العامة لليهود/ الإسرائيليين في الوعي العربي المعاصر سلبية وتتضمن، في كثيرٍ من جوانبها، حطًّا منهم، لدرجةً ارتبطت بهويتهم، فأصبح معها اليهودي/ الإسرائيلي سيئًا أو موضع شكٍّ وشبهةٍ أو حتى إدانةٍ، لمجرد كونه يهوديًّا/ إسرائيليًّا. ومن هنا ضرورة التشديد على ضرورة تجنب سياسات الهوية.
والمقصود ﺑ “سياسات الهوية”، في السياق الحالي، هو التركيز على انتماء الضحايا أو المجرمين و/أو ذويهم إلى هذه المجموعة الإثنية أو الدينية أو تلك، وجعل ممارسة فعل الإجرام أو التعرض له جزءًا أساسيًّا من هوية الجماعة الإثنية او الدينية وأفرادها، ومن ثم اختزالهم، اختزالًا كاملًا أو جزئيًّا، إلى هذه الهوية “المزعومة”، والتعامل معهم على أساس هذا الاختزال. وانطلاقًا من سياسات الهوية، يحظى اليهودي/ الإسرائيلي بمكانة متميزةٍ ومعاملةٍ تفضيليةٍ وتقييم إيجابيٍّ مبدئيٍّ، لمجرد أنه يهوديُّ من (ذوي) الضحايا؛ في المقابل، تتأسس مساندة بعض العرب والمسلمين للفلسطينيين على كون الفلسطينيين عربًا أو مسلمين، وليس على كونهم أصحاب حقٍّ. فتجنب سياسات الهوية يعني ضرورة أن تتأسس مساندة الضحايا و/أو مناهضة الإجرام والمجرمين على رفضٍ مبدئيٍّ للظلم، بغض النظر عن هوية الظالم و/أو المظلوم. ومن هنا يمكن وينبغي لكل إنسانٍ أن يكون ضد جرائم الهولوكوست المرتكبة بحق اليهود، وأن يتعاطف مع الضحايا وذويهم، وأن يكون، في الوقت نفسه، ضد الاحتلال الإسرائيلي وما يرافقه من قتل وقمعٍ وجرائم كبيرةٍ وكثيرةٍ ونتائج كارثيةٍ، وأن يتعاطف مع الضحايا وذويهم. بل يمكن القول إن رفض جرائم الهولوكوست وتكريم ضحاياها يتم، بالدرجة الأولى، من خلال رفض أي ظلمٍ يحاول توظيف هذه الجرائم في ممارسة جرائم أخرى على ضحايا آخرين. ومن هنا ضرورة مراجعة أو تجاوز التابوات الألمانية التي قد تمنع، أحيانًا أو غالبًا، اتخاذ موقفٍ واضحٍ وصريحٍ من الاحتلال الإسرائيلي وممارساته بحق الفلسطينيين أو غير الفلسطينيين. ولا ينبغي للجرائم التي ارتكبت سابقًا بحق اليهود أو الفلسطينيين أو الأرمن أو الأكراد … إلخ أن تسمح بحصول ذوي الضحايا على امتيازاتٍ خاصةٍ أو معاملةٍ تفضيليةٍ تسمح بالتغاضي عن أي جرائم أو اعمال سلبية يقترفونها. وإذا كان هناك إحساسٌ بوجود مسؤوليةٍ خاصةٍ تجاه ضحايا الجرائم التي ارتكبت بحق اليهود في زمنٍ ما، فهذا لا يعني أن يحظى اليهود المعاصرون بمعاملة تفضيلية، إذ ينبغي لهذا الإحساس أن يُفضي إلى الوقوف مع المظلومين في عالمنا المعاصر، بغض النظر عن جنسية المجرم أو الظالم و/أو ضحيته وهويتهما الدينية أو الإثنية … إلخ. فتجنب تطبيق سياسة الهوية في هذا السياق يعني أن لا وراثة ولا توريث، في هذا الخصوص. فذوو المجرمين لا يتحملون وزر ما فعله ذووهم، كما لا ينبغي أن يتلقى ذوو الضحايا أي معاملة تفضيلية تسمح لهم بممارسة الظلم أو انتهاك حقوق الآخرين.
على الرغم من أن ما سبق يبدو بديهيًّا، معرفيًّا وأخلاقيًّا، إلا أنه ليس نادرًا تحويل حالة الضحية إلى هويةٍ، من خلال تحويل الظلم إلى مظلوميةٍ، والمظلومين، في خصوص أمرٍ معينٍ، إلى “ضحايا” دائمين، ينبغي أن يحظوا بامتيازاتٍ ومعاملةٍ خاصةٍ. إن تحويل الظلم إلى مظلوميةٍ يحوِّل العالم إلى مانوية قطبيةٍ: من جهةٍ أولى، هناك مظلومون وهم على حق دائمًا، لمجرد أنهم، في خصوص أمرٍ ما، مظلومون؛ ومن جهةٍ ثانيةٍ، يوجد ظالمون، وهم على باطلٍ دائمًا، لمجرد أنهم، في خصوص أمرٍ ما، ظالمون. وبدلًا من أن يكون الظالم هو عدونا، يصبح عدونا هو الظالم، وأنه بالتالي من الأشرار؛ ونحن، بطبيعة الحال، المظلومون، وبالتالي (من) الأخيار. هذا ما يبدو أن كثيرًا من العرب الفلسطينيين أو السوريين يظنونه في حديثهم عما يسمى ﺑ “الصراع العربي الإسرائيلي”. لقد حاججت، في سياقٍ آخر، أن هذا الصراع ليس صراعًا أولًا، وأنه حتى وإن كان صراعًا، فهو صراعٌ بين العرب والإسرائيليين، وليس بين الفلسطينين والإسرائيليين فقط. فكلمة صراع لا تشير إلى أنه احتلال واستيطان، وهو الشكل الخاص والمحدد لهذا الصراع. في المقابل ثمة أسبابٌ خاصةٌ تجعل كثيرًا من العرب والمسلمين أكثر تفهمًا لمعاناة الفلسطينيين ورغبةً في دعمهم. فبالنسبة إلى السوريين، إسرائيل ما زالت تحتل قسمًا من أرضيهم (الجولان)، وهي بالتالي عدوةٌ لهم، بقدر رفضها للانسحاب من كل الأراضي التي تحتلها. لكن خصوصية وضع السوريين، أو غير السوريين، ينبغي لها أن تتأسس على القيم الأخلاقية الإنسانية العامة، لا أن تتعارض أو تتناقض معها. فمساندة العرب (وغير العرب) للفلسطينيين ينبغي أن تتأسس على كون الفلسطينيين مظلومين، وبقدر ما يكونوا على حقٍّ، وليس على مجرد كونهم عربًا أو مسلمين أو ما شابه. المقاربة الأخلاقية المبدئية تتجنب تمامًا التأسس على انتماءات النسب الإثنو-ديني التي تتخذ من مقولة “أنا وأخوي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب …” شعارًا لها. فلكي يكون الموقف المتعاطف مع اليهود أو الفلسطينيين أخلاقيًّا ينبغي له، أن يتأسس على القيم لا على الانتماءات، وعلى نظرة أخلاقية معيارية مبدئية، وليس على انحيازاتٍ سياسيةٍ غير أخلاقية. كما ينبغي لهذا الموقف ألا يتحول إلى حقدٍ عنصريٍّ لا يرى إلا السلبيات في الأعداء المفترضين، ولا يرى إلا الإيجابيات أو ما يمكن تسويغه تسويغًا كاملًا لدى من يؤيده أو يتعاطف معه.
ولتجنب سياسة الهوية وسلبياتها، وللبت في مضامين التابوات ومآلاتها، ينبغي للمقاربة الأخلاقية المبدئية أن تتسم بالسمة النقدية، وأن يكون النقد الذاتي أحد أهم أركانها. فالغرض الأساسي من النقد الذاتي هو التمييز بين ما ينبغي انتهاكه وما ينبغي عدم انتهاكه من التابوات، إضافةً إلى الكشف عما يتم انتهاكه فعلًا من هذه التابوات. فلفظة “التابو” أو “المحظور” يمكن أن تثير مشاعر متباينة ومتناقضة، في عالمنا المعاصر. فمن جهةٍ أولى، ثمة ضرورة للاعتراف بالمعقولية الجزئية والنسبية على الأقل، التي يتأسس عليها وجود بعض التابوات، وبأن الثقافة تتأسس دائمًا على تابواتٍ ومحظوراتٍ وتحريماتٍ ما؛ ومن جهةٍ ثانيةٍ، ثمة ميلٌ للتحرر من التابوات، ولانتهاك المحظورات أو تجاوزها، وللتخلص من قيودها ومن الحساسيات المرتبطة بها. ﻓ “تحريم زنا المحارم”، على سبيل المثال، هو من التابوات العامة التي مازالت تحظى بقبول عامٍّ في عالمنا المعاصر. وإنكار الجرائم والمذابح التي حصلت، في التاريخ الحديث والمعاصر خصوصًا، هو أيضًا، من وجهة نظر الكثيرين، تابو محمود أو إيجابيٌّ، ينبغي الحفاظ عليه وعدم استسهال انتهاكه. ومن هنا نرى أنه على الرغم من محاذير هذا النوع من التابوات، لاحتمال تعارضه مع حرية التعبير والنقاش الديمقراطي، إلا أننا نرى معقوليةً ما في استمرار وجودها مرحليًّا على الأقل. ويبقى ضروريًّا العمل على الحد من التأثير السلبي لهذه التابوات في النقاشات والأبحاث الجادة والنزيهة.
إن ممارسة الثقافة العربية للنقد الذاتي، في خصوص المسألة الإسرائيلية/ اليهودية، أمرٌّ ملحٌ وضروريٌّ، على ألا يتحول هذا النقد الذاتي إلى مجرد جلدٍ للذات ومبالغة في تضخيم سلبياتها الكبيرة والكثيرة أصلًا. ويتطلب النقد الذاتي وجود استعدادٍ للاعتراف والإقرار ورغبةٍ في الإنصاف. وما ينبغي إقراره والاعتراف به، في السياق الحالي، هو وجود نزعة عنصريةٍ قويةٍ في الثقافة العربية عمومًا. ففي الثقافة السائدة في سورية، على سبيل المثال، يرتبط مفهوم اليهودي بالطمع والبخل والأنانية وبكونه العدو الذي لا مشكلة كبيرة في معاملته بقسوةٍ ما؛ وعندما يقول شخصٌ ما يتعرض لظلمٍ ما: “أنا مالي يهودي” أو “شو شايفني يهودي!” فهذا يعني أنه يحتج على هذا الظلم الذي لا يستحقه، من وجهة نظره، سوى اليهودي! وينبغي لمثل هذا الاعتراف أن يترافق مع فهمٍ للأسباب أو العوامل التي ساعدت على وجود هذه النزعة العنصرية وتعزيزها. لكن محاولة الفهم هذه لا ينبغي أن تتخذ صيغة التبرير.
فالاعتراف بالنزعة العنصرية ينبغي أن يكون خطوةً أولى، لتجاوزها، وليس لتبريرها وتعزيز وجودها. ولا ينبغي لنقد هذه العنصرية أن يكتفي بالتمييز بين اليهودي والإسرائيلي فقط، ولا بين الإسرائيلي العنصري المؤيد للاحتلال والإسرائيلي غير العنصري فحسب، بل عليه أن يعمل على إعادة الاعتبار لليهودي/ الإسرائيلي بوصفه إنسانًا، لا ينبغي شيطنته ولا مماهاته مع أي صيغة سلبية من الصيغ الشائعة او المبتذلة للرؤية العنصرية المضادة للسامية. فالاعتراف يسمح بالتعرف على اليهودي بوصفه إنسانًا ويهوديًّا، بعيدًا عن الصور النمطية والتهويلات والتخيلات الجاهلة والتجهيلية.
إن (إعادة) أنسنة الآخر/ اليهودي هي شرطٌ ضروريُّ لإعادة أنسنة ذواتنا نحن، العرب (و)المسلمين، ولاستعادة إنسانيتنا أو للارتقاء بها. وينبغي لهذه الأنسنة أو إعادة أنسنة صورة الآخر/ اليهودي أن تترافق مع، وتفضي إلى إعادة التفكير في ما ينبغي انتهاكه أو الحفاظ عليه من التابوات والمحظورات المتعلقة بالمسألة الإسرائيلية/ اليهودية في الثقافة العربية (و)الإسلامية. والإقرار بضرورة المقاربة الأخلاقية النقدية للمسألة الإسرائيلية/ اليهودية، وبضرورة إعادة التفكير في التابوات المتعلقة بهذه المسألة لدى العرب والألمان، هو شرطٌ ضروريٌّ لإمكانية أي نقاشٍ أو حوارٍ أو فهمٍ أو تفاهمٍ بين هذين “الطرفين”.
والجدير بالذكر هنا أنه ليس نادرًا أن يفضي النقد الذاتي، الذي يتم في حالة الضعف والهزيمة، إلى تشكُّل خطابٍ انهزاميٍّ يرى ضرورة التخلي عن المقاربات الأخلاقية “المثالية” أو المبدئية وإلى تبني مقتربة “واقعيةٍ”، تقبل بالواقع المفروض، أو بالأحرى تخضع له بدلًا من الاستمرار في مقاومةٍ عبثيةٍ له. وقد بدأت تظهر بعض صيغ هذا الخطاب الانهزامي غير الأخلاقي في خطاب بعض السوريين خارج سورية، وفي الطروحات الداعية إلى التعامل الطبيعي مع إسرائيل ومؤيديها وعدم الاكتراث باحتلالها ومعاملتها الظالمة للفلسطينيين وتجاوز كل التابوات والخطوط الحمر التقليدية في هذا الصدد والابتعاد عن أي رؤية أخلاقية و/أو مبدئية للمسألة. ولسنا في وارد مناقشة هذه الأطروحات حاليًّا، لكننا نرى ضرورة التشديد على أن الواقعية “اللاأخلاقية” التي تقول بالخضوع للواقع لا تفضي بالضرورة إلى نتائج عملية أفضل أو أقل سوءًا من المثالية الأخلاقية المبدئية الرافضة لجزء من هذا الواقع.
حكاية ما انحكت
——————–
أنطونيو غوتيريش الذي تطالبه إسرائيل بـ “التنحي“
الامين العام للامم المتحدة قال إن هجوم “حماس” “لم يحدث من فراغ”
يترأس أنطونيو غوتيريش منظمة من المفترض أن تظل محايدة بشأن قضايا الأمن العالمي الرئيسة، وبصفته هذه، لا يمكن للأمين العام للأمم المتحدة أن يتفاجأ عندما يجد نفسه في قلب عاصفة دبلوماسية كبرى بسبب تعليقاته المثيرة للجدل بشأن أزمة غزة.
ومنذ إنشائها في عام 1945، كانت إحدى المهام الأساسية للأمم المتحدة تكمن في ضمان التمسك بمبادئ القانون الدولي كلما نشأ صراع كبير، وخاصة تلك المتعلقة بإدارة الحرب. فمن الحرب الباردة إلى الصراعات الأحدث في العراق وأفغانستان وأوكرانيا، كانت قدرة الأمم المتحدة في الحفاظ على مكانتها كمراقب محايد عاملا حيويا لقدرتها على العمل كمحكم دولي.
ويفسر لنا ذلك التأثير العاصف والغضب الدولي للتعليقات التي أدلى بها غوتيريش بعد وقت قصير من شن مقاتلي “حماس” هجومهم المدمر ضد إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول، حين ألمح إلى أن سياسات إسرائيل المتشددة تجاه الشعب الفلسطيني على مدى عقود عديدة هي المسؤولة في نهاية المطاف عن أعمال العنف، ففي حديثه بعد وقت قصير من مقتل ما يقدر بنحو 1400 إسرائيلي، واحتجاز أكثر من 200 آخرين كرهائن، خلال هجوم مفاجئ على إسرائيل شنه مسلحو “حماس”، قال غوتيريش في اجتماع لمجلس الأمن الدولي المكون من 15 عضوا إن الهجوم القاتل “لم يحدث من فراغ”.
وأشار غوتيريش في كلمته تلك إلى أن “الشعب الفلسطيني يرزح تحت احتلال خانق منذ 56 عاما، ولكن مظالم الشعب الفلسطيني لا يمكن أن تكون عذرا لهجمات مروعة من قبل “حماس”. وهذه الهجمات المروعة لا يمكن أن تكون مبررا لعقاب جماعي للشعب الفلسطيني”.
وفيما أصر مسؤولو الأمم المتحدة على أن غوتيريش كان يحاول تبني موقف متوازن بشأن الصراع، ندد الدبلوماسيون الإسرائيليون على الفور بتصريحاته ووصفوها بأنها “صادمة”. وأكد سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة، جلعاد إردان، على أنه “لا مبرر أو فائدة من التحدث مع أولئك الذين يظهرون التعاطف مع أبشع الفظائع المرتكبة ضد مواطني إسرائيل والشعب اليهودي”.
وعلى الرغم من إصرار غوتيريش على أن كلماته قد أسيء تفسيرها وأن من الخطأ فهمها كتبرير للأعمال الإرهابية التي تقوم بها “حماس”، كثفت إسرائيل حملتها ضد الأمين العام للأمم المتحدة من خلال مطالبته علانية بالاستقالة من منصبه. وحظي الطلب الإسرائيلي بدعم كبير من سياسيين أميركيين بارزين، حيث قال السيناتور الجمهوري تيد كروز لشبكة “فوكس نيوز”: “بالطبع، يجب على (غوتيريش) أن يستقيل”.
وتصاعد النزاع بين إسرائيل والأمم المتحدة، والتي يتهمها الإسرائيليون منذ فترة طويلة بمعاداة إسرائيل، حتى إن الدولة اليهودية حجبت تأشيرات الدخول لمسؤولي الأمم المتحدة، مما يجعل تحقيق جهود الإغاثة الدولية لمنع وقوع كارثة إنسانية في غزة أكثر صعوبة.
وعلى الرغم من الضغوط الشديدة التي تعرض لها الأمين العام للتخفيف من حدة انتقاداته للرد العسكري الإسرائيلي على هجوم “حماس”، فإنها لم تنل من عزيمته، حيث نشر على منصة التواصل الاجتماعي “إكس”– “تويتر” سابقا– بعد فترة وجيزة من إطلاق إسرائيل عملياتها البرية في غزة منشورا أكد فيه أن “حماية المدنيين أمر بالغ الأهمية. تضع قوانين الحرب قواعد واضحة لحماية الحياة البشرية واحترام الاهتمامات الإنسانية. لا يمكن تحريف هذه القوانين من أجل المنفعة”.
وبالنظر إلى الدور السابق الذي لعبه غوتيريش كمفوض سامٍ للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فمن غير المستغرب أن يشعر رئيس الوزراء البرتغالي السابق البالغ من العمر 74 عاما في نفسه حاجةَ لأن يعبر عن رأيه بشأن ما يعتبره مظالم ممتدة تحيق بالشعب الفلسطيني.
ولئن كان من سمة تميز مسيرته المهنية، التي امتدت لعقود من الزمن في السياسة السائدة، فستكون التزامه الثابت بتعزيز الكرامة الإنسانية للجميع؛ فمنذ أن بدأ العمل كمتطوع في الأحياء الفقيرة في لشبونة حيث ولد، إلى تمثيل دائرته الانتخابية في البرلمان البرتغالي قبل أن يصبح في نهاية المطاف رئيس وزراء البرتغال عام 1995، صنع غوتيريش اسمه كسياسي تتمثل أهدافه الأساسية في تخفيف المعاناة، وحماية الضعفاء وضمان حقوق الإنسان للجميع.
مدافع فخور عن التعددية
ولد غوتيريش في لشبونة عام 1949 وحصل على درجة في الهندسة من المعهد العالي للتقانة. وهو يتقن اللغات البرتغالية والإنكليزية والفرنسية والإسبانية، وهو متزوج من كاتارينا دي ألميدا فاز بينتو، نائبة عمدة لشبونة للثقافة، ولديه طفلان وثالث من زوجته وثلاثة أحفاد.
وكان غوتيريش، وهو شخصية بارزة في الدوائر الاشتراكية الأوروبية، يعرّف نفسه بأنه مدافع فخور عن التعددية. ومع ذلك، أكد أن التعاون الدولي بشأن التحديات العالمية الكبيرة لا ينبغي أخذه كحقيقة دون برهان، بل يجب أن يظهر قيمته من خلال معالجة القضايا الحقيقية التي يواجهها الناس. وقد قال ذات مرة: “يجب علينا أن نثبت قيمته من خلال معالجة المشاكل الحقيقية التي يواجهها الناس”.
لسنوات عديدة، شارك غوتيريش بنشاط في المنظمة الاشتراكية الدولية، وهي منظمة عالمية للأحزاب السياسية الديمقراطية الاجتماعية. وفي الفترة من 1992 إلى 1999، شغل منصب نائب رئيس المجموعة، وشارك في رئاسة كل من اللجنة الأفريقية ثم لجنة التنمية لاحقًا.
خلال حياته المهنية في السياسة البرتغالية، كان أحد إنجازات غوتيريش البارزة دوره كعضو في الفريق الذي تفاوض على دخول البرتغال إلى الاتحاد الأوروبي عام 1986.
بعد انتهاء مهامه كرئيس للوزراء، شغل غوتيريش منصب المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في الفترة من يونيو/حزيران 2005 إلى ديسمبر/كانون الأول 2015. وخلال هذه الفترة، كان عليه معالجة الأزمات الإنسانية الناجمة عن الصراعات مثل الحروب في سوريا والعراق، فضلا عن أزمات جنوب السودان وجمهورية أفريقيا الوسطى واليمن. وتزامنت فترة ولايته مع زيادة كبيرة في الأنشطة العالمية للمفوضية، حيث ارتفع عدد النازحين بسبب الصراع والاضطهاد من 38 مليونا عام 2005 إلى أكثر من 60 مليونا عام 2015.
استمرت فترة ولايته كرئيس للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أحد عشر عاما، اكتسب غوتيريش خلالها سمعة كزعيم فعال، لا سيما بسبب جهوده للمساعدة في التخفيف من أزمة المهاجرين في أوروبا الناجمة عن الحرب الأهلية السورية.
وتستذكر كاثي كالفِن، التي تشغل منصب الرئيس والمدير التنفيذي لمؤسسة الأمم المتحدة– وهي منظمة غير حكومية أنشأها تيد تيرنر لدعم قضايا الأمم المتحدة– أن غوتيريش كان يؤكد على الدوام على محنة اللاجئين. ولم يكن يتردد في مطالبة “الحكومات في جميع أنحاء العالم بالتصدي لها”. هذه القضية سواء في هذه الأماكن التي تبدأ فيها الهجرة أو في الأماكن التي ينتهي فيها الأمر بالمهاجرين واللاجئين.
ولعل هذه الجاهزية لمعالجة القضايا الصعبة هي التي أدت في النهاية إلى تعيينه في منصب الأمين العام التاسع للأمم المتحدة عام 2017، مما جعله أول زعيم وطني يتولى منصب أكبر دبلوماسي في العالم.
ومن المثير للدهشة أن غوتيريش تلقى دعما واسع النطاق من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة البالغ عددها 193 دولة، على الرغم من الانقسام العميق في مجلس الأمن الذي كان منقسما على نفسه لإيجاد حل للأزمة الإنسانية الناجمة عن الصراع السوري. وبعد أن حصل غوتيريش على دعم بالإجماع في استطلاع غير رسمي أجراه المجلس، قالت سامانثا باورز، الممثلة الدائمة للولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة آنذاك: “أعتقد أنه في كل يوم نذهب إلى مجلس الأمن، فإننا نطمح إلى نوع الوحدة التي رأيناها اليوم، وفي أزمة تشهد مذبحة مروعة مثل تلك التي تشهدها سوريا، فإن الحاجة الملحة لتحقيق هذه الوحدة لا تخفى على أحد، وهو أمر لم نحققه حتى هذه اللحظة”.
وحتى اندلاع أزمة غزة، كانت قيادة غوتيريش للأمم المتحدة، الذي أعيد انتخابه لولاية ثانية في عام 2021، تتحدد بشكل أساسي من خلال الموقف البارز الذي اعتمده بشأن معالجة تغير المناخ، وحث القوى العالمية الكبرى، مثل الولايات المتحدة والصين، للتغلب على التوترات والعمل معا للمساعدة في تحقيق أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة.
وكثيراً ما أدت جهوده لمكافحة تغير المناخ إلى مطالبته علناً الحكومات والشركات بما أشار إليه بـ”صب الزيت على النار”.
واتخذ غوتيريش موقفا مثيرا للجدل بشأن عدد من القضايا العالمية الأخرى، فبعد وقت قصير من تعيينه عام 2017، كتب رسالة إلى مجلس الأمن يلفت الانتباه إلى انتهاكات حقوق الإنسان التي يرتكبها جيش ميانمار، على الرغم من أن بعض المنتقدين في ذلك الوقت اتهموه بأنه لم يقل ما فيه الكفاية، مدعين أن تفضيله تجنب المواجهة مع القوى العالمية الأخرى كان له تأثير كبير عليه وجاء على حساب حقوق الإنسان. ومن بين هذه الانتقادات الشديدة، على سبيل المثال، كان لومه لأنه لم يكن أكثر صراحة في تحميل الصين المسؤولية عن سوء معاملتها لأقلية الأويغور المسلمة في مقاطعة شينغيانغ.
وفي الآونة الأخيرة، كان نشطًا للغاية في الصراع الأوكراني بعد غزو القوات الروسية للبلاد في فبراير/شباط 2022. وقد وجه غوتيريش دعوات متكررة للسلام واجتمع بشكل منفصل مع قادة البلدين. وفي حين كان أغلب اهتمامه منصباً على القضايا الإنسانية، مثل ضمان تسليم المساعدات، وإنشاء ممرات الإخلاء، واستئناف شحنات الحبوب العالمية من أوكرانيا، فقد أطلق أيضاً بعثة لتقصي الحقائق للتحقيق في مقتل السجناء في منطقة دونيتسك.
بالإضافة إلى ذلك، أقر غوتيريش أيضا بضرورة أن تكون الأمم المتحدة وموظفوها البالغ عددهم 40 ألفا أكثر ابتكارا وفعالية، وأطلقت إصلاحات واسعة النطاق لاستخدام التكنولوجيا الجديدة. وهو يعمل أيضا على جعل المساواة تسود الحياة الداخلية للمنظمة، بما في ذلك من خلال المساواة بين الجنسين وتحسين التمثيل الجغرافي.
ولكن من خلال دوره كدبلوماسي رائد في العالم، من المرجح أن يستمر غوتيريش في الهيمنة على العناوين الرئيسة، والوفاء بإحدى المهام الأساسية للأمين العام وهي “تنبيه مجلس الأمن إلى أية مسألة يرى أنها قد تهدد حفظ السلم والأمن الدولي”، وفقا للمادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة.
وفي هذا السياق، قد يميل غوتيريش إلى السير على خطى أحد أسلافه الأكثر شهرة، كوفي عنان، الذي قال خلال التصعيد الخطير في التوترات العرقية بين الصرب والألبان في كوسوفو عام 1999، إنه “لا يحق لأي حكومة أن تختبئ وراء السيادة الوطنية من أجل انتهاك حقوق الإنسان”.
وربما يشعر غوتيريش أن عليه اتباع النهج نفسه في التعامل مع الصراع في غزة إذا أراد أن ينجح في تحقيق هدفه الأساسي المتمثل في إنقاذ حياة المدنيين الأبرياء.
————————-
غزة وأهلها بين حدين/ إبراهيم حميدي
تاريخ غزة لم يبدأ يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول. هناك تواريخ سابقة، فيها الكثير من المآسي والمعاناة والعذابات والمعارك والهدن والصفقات. لم يبدأ أيضا مع احتلالها عام 1967، واتفاقات أوسلو عام 1993، وحديث مسؤولين إسرائيليين عن حلمهم في أن “يبتلعها البحر”، ولا مع الانسحاب منها في 2005 أو سيطرة “حماس” عليها عام 2007 أو العمليات العسكرية الإسرائيلية في السنوات الأخيرة.
لكن لا شك أن 7 أكتوبر/تشرين الأول يوم مفصلي، وحجم المفاجأة التي فجرتها “حماس” غير مسبوق. ورد إسرائيل أيضا مفصلي، والخطة التي أعلنها قادتها لمستقبل غزة و”حماس” غير مسبوقة. اليوم، غزة وأهلها بين حدين.
بنيامين نتنياهو يريد وحكومته اليمينية المتطرفة، إجراء “تحولات كبيرة”. حصل على دعم غربي استثنائي ودفع أميركا للعودة العسكرية إلى الشرق الأوسط بعد 15 سنة من الخروج من هذه المنطقة. وأعلن أنه يخوض “حرب الاستقلال الثانية”، أي إنه يريد إجراء “تغيير استراتيجي” في المنطقة انطلاقا من غزة.
الهدف المعلن، هو القضاء على البنية العسكرية لـ”حماس” وقيادتها وتهجير أهلها من الشمال إلى الجنوب حاليا، وترك هدف تهجيرهم إلى سيناء مطروحا. التهجير والتفكيك عبر الاغتيالات والقصف والغارات، أو عبر التسويات والترحيل، كما حصل عند ترحيل قادة “فتح” من الأردن إلى لبنان بعد “أيلول الأسود” قبل خمسين سنة، ومن لبنان إلى تونس قبل أربعين سنة.
وفق هذا “الحد” ولإنجاز هذه “المهمة”، لن تكون الكلفة البشرية من أهالي غزة أمرا مهما. أما عن اليوم التالي، فيجري تداول أفكار مختلفة، بعضها جديد وبعضها الآخر قديم، تتضمن إما عودة السلطة وحركة “فتح” وإما تشكيل إدارة مدنية لحكم غزة مع تدفق استثمارات عربية وغربية لإعمار القطاع ونشر سلطة وقوات مراقبة وفتح طريق المفاوضات لتسوية سياسية.
هناك حد آخر؛ حيث ترى “حماس” أنه “لن يتحقق أي شيء من الخطة الإسرائيلية”، سوى زيادة عدد الضحايا المدنيين. عشرة آلاف ضحية من المدنيين والعدد قابل للزيادة. أما موضوع التهجير إلى سيناء، فلن يتحقق، “ولن تحصل نكبة جديدة ولن يركب أهالي غزة سفنا مهترئة كما حصل عام 1948”. وترى، أن المقارنة بينها وبين داعش في الموصل أو الرقة، وبينها وبين “فتح” في الأردن ولبنان “غير دقيقة، لأن حركة حماس جزء من المجتمع الغزي”، “وحتى لو هُجرت قيادات، فهناك جيل جديد”، إضافة إلى احتمال أن يملأ المتطرفون الفراغ “الحمساوي”.
هناك عتب كبير مضمر لدى قيادة “حماس” من عدم تدخل “حزب الله” وإيران بشكل مباشر عبر فتح معركة واسعة جنوبي لبنان. وجرى نقل هذا العتب في جلسات مغلقة. أحد تجليات الخيبة، كان انتقادات مسؤول سابق في الحركة خارج غزة، خالد مشعل، لإيران وجماعاتها، أعقبها رد مقربين من “حزب الله” في لبنان.
لكن رهان “حماس” لا يزال على “إغراق الجيش الإسرائيلي في أنفاق غزة”، وعلى أن يخفض نتنياهو سقف مطالبه مع مرور وقت العمليات العسكرية وارتفاع الخسائر بين صفوف جنوده وتنامي الضغط الشعبي عليه.
هناك فرق بين “الحدين”. كثير من التاريخ والجغرافيا والآلام. لاتجوز المساواة بينهما. لكن المدخل الآني للجمع بينهما في هذه المرحلة، هو الأسرى. هناك مفاوضات واقتراحات لتبادل أسرى بين “حماس” وإسرائيل. هناك احتمالان: صفقة كاملة تتضمن إطلاق آكثر من 200 أسيرة من غزة مقابل ستة آلاف من سجون إسرائيل. صفقة جزئية، النساء والأطفال مقابل النساء والأطفال. أما عن الأجانب المحتجزين في غزة، فإن “حماس” تطالب بوقف إطلاق النار وفتح ممرات إنسانية وتقديم مساعدات ووقود، فيما ترفض أبيب هذا العرض وتمضي في… غاراتها وتوغلاتها.
التوغلات في شمال غزة والمفاوضات في عواصم عدة، تدل على أن الحرب لا تزال في بدايتها رغم مرور ثلاثة أسابيع. إسرائيل، ترى أنها تخوض “حرب بقاء” ولديها “فرصة تاريخية” لإحداث تغييرات كبيرة، وهي لا تأبه لاتهامها بجرائم حرب أو حصار أو مطالبتها بوقف إطلاق نار أو بهدنة إنسانية.ويتحدث قادتها العسكريون عن “حرب طويلة”. أما “حماس”، فترى أن “منحى الأحداث يدل على أن الاحتلال في حالة تراجع والفلسطينيين في حالة صعود”، وترسم خطا بيانيا من عقود خلت وعقود قادمة وتاريخ طويل، لتثبيت تفسيرها.
عليه، أسابيع وأشهر بطيئة وثقيلة ودامية تحشر غزة وأهلها… بين حدين.
———————-
غزة ليست بخير… لكن “حماس” بخير/ عالية منصور
منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة بعد عملية “طوفان الأقصى” التي قامت بها حركة حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، والمنطقة تعيش على حافة الحرب. تنتظر ولا أحد على يقين إن كان سيستيقظ صباح اليوم التالي على أصوات الطيران والقذائف، أم إنه سيمضي يوما آخر يحبس أنفاسه وينتظر.
في لبنان، مصير البلاد والعباد بيد أمين عام “حزب الله” حسن نصرالله، هو لم يظهر على الإعلام إلا بصورة وحيدة وخبر لقاء مع قيادت من “حماس”، و”الجهاد الإسلامي”، وهو الذي اعتاد في السنوات الأخيرة أن يكثر من إطلالته الإعلامية حتى صار كلامه تكرارا مملا لمؤيديه كما لخصومه. لم ينطق منذ ذلك اليوم، فيما اللبنانيون وغيرهم، شعوبا وحكومات ينتظرون هل سيقرر الدخول في الحرب أم سيبقى ملتزما بسياسة الاشتباكات المحدودة مع إسرائيل وفق قواعد الاشتباك لا وفق ما نص عليه القرار 1701.
وفي مقابل صمت حسن نصرالله، كان وزير خارجية الجمهورية الإسلامية في إيران حسين أمير عبداللهيان لا يترك مناسبة إلا ويتحدث عن لبنان ويقرر عن لبنان وكأنه المندوب السامي، فقد صرح في حديث إذاعي من نيويورك أن “حزب الله” وحلفاء طهران “يضعون إصبعهم على الزناد”، ليعود بعدها بساعات ويقول “لا نريد أن تتسع هذه الحرب”، وبين التصريحين ساعات عصيبة مرت على لبنان واللبنانيين.
وبين التصريحين أيضا انقطعت الاتصالات عن غزة التي تتعرض لأبشع أنواع الجرائم وحرب إبادة يشنها الجيش الإسرائيلي بذريعة معاقبة “حماس” على عملية طوفان الأقصى، قصف بري وبحري وجوي، محاولات دخول غزة بريا، وآلاف من الضحايا المدنيين أغلبهم من الأطفال.
“حزب الله” كان يهدد بلسان المسؤولين الإيرانيين أنهم سيدخلون الحرب إن دخل الجيش الإسرائيلي إلى غزة، اليوم لم نعد نفهم ما المقصود بالدخول البري، وكم عدد الأمتار التي ستسمح إيران وأذرعها لإسرائيل بالتغلغل البري فيها. غزة خارج التغطية وأهالي غزة متروكون لمصيرهم، كذلك المنطقة وأهلها.
لافت صمت حسن نصرالله، ولافتة مناشدة قيادات “حماس” لإيران وأذرعها في المحور وعلى رأسهم “حزب الله” بالتدخل في الحرب لتخفيف الضغط العسكري عن غزة.
يقول مصدر مقرب من صناع القرار في طهران ومن قيادات في “حزب الله”، إن العملية استغرقت تحضيراتها نحو عامين، فالمحور كان يحضر لعملية واسعة وشاملة ضد إسرائيل، إلا أن قيادتي “القسام” و”حماس” في غزة فاجأتهم جميعا وقامت بعملية “طوفان الأقصى” دون إعلامهم بتوقيتها، ويستدل على ذلك بارتباك إيران وكل من يدور بفلكها في ساعات العملية الأولى، وبتصريح نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس موسى أبو مرزوق، الذي سبق وأعلن أن العملية تمت من دون إطلاع المحور. إيران تريد القول إن التوقيت جرى تحديده في أنقرة. وهذا موضوع آخر يحتاج كلاما آخر.
لكن الأكيد ليس فقط أنه ومنذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول لم تكف إيران عن القول إنه لا علاقة لها بالعملية، فيما قيادات “حماس” تؤكد أن طهران هي من تدعم وتمول، بل إنه حتى وإن صح الأمر فإن طهران ببرغماتيتها المعهودة استطاعت أن تجعل الأمر برمته يدور بفلك مصالحها. وزير خارجيتها الذي قام بزيارة مفاجئة لنيويورك في الولايات المتحدة، وهو أمر نادر الحصول لكبار المسؤولين الإيرانيين، كشف من هناك أن قادة “حماس” مستعدون لإطلاق سراح الأسرى المدنيين وتسليمهم لطهران. لم تنف “حماس” الأمر.
الهجمات على القواعد الأميركية في سوريا والعراق من قبل ميليشيات إيران، والتي أدت إلى إصابة 24 أميركيا، لم تمنع البيت الأبيض من التأكيد مرارا أنه غير معني بالصراع مع إيران، مع تأكيد البنتاغون أن ميليشيات تابعة لإيران هي من تقوم بهذه الهجمات وأنهم يردون عليها، إلا أن الأمر لن يتجاوز ما يحصل في جنوب لبنان، حيث يبدو أن هناك أيضا قواعد اشتباك بين القوات الأميركية والميليشيات الإيرانية في المنطقة.
إذن غزة وحيدة، ملايين البشر متروكون لمواجهة الموت، بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي وجد الحرب على غزة فرصة تعطيه الوقت للمماطلة بما كان يواجهه من استحقاقات في الداخل الإسرائيلي. “حماس” بخير، هذا ما قاله رئيس مكتبها السياسي إسماعيل هنية. أهل غزة ليسوا بخير، ولكن كما ذكر لي المصدر نفسه، الدم ليس مهما في سبيل تحقيق المصالح الأكبر.
لمَ لا؟ هل حاسبت هذه المنطقة يوما من تسبب في إراقة دماء أبنائها؟ هل حاسب أحد نصرالله بعد حرب يوليو/تموز 2006 عما لحق بلبنان من دمار وخراب وموت؟ دم أبناء هذه المنطقة غير مهم، فـ”حزب الله” بعد الحرب بات أقوى في الداخل اللبناني وفي الإقليم، بقوة السلاح.
والخطوة المقبلة لهم، سحب حصرية تمثيل منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة للشعب الفلسطيني. إيران تريد أن تجلس إلى الطاولة أيضا، فهل تفاوض بالمباشر أم عن طريق “حماس”؟ الأيام مليئة بالانتكاسات، انتكاسات لنا نحن “السذج” الذين نرفض إراقة الدماء من أجل مصالح الآخرين، ومليئة بالحوافز لتجار الدم.
حمى الله غزة وأهلها من العدو ومن “الحليف”.
———————
نتنياهو.. حرب صعبة وتفويض مهزوز/ د. أسامة عثمان
لم يحدث أنْ كانت مطالباتٌ شعبية بإسقاط، أو استقالة رئيس حكومة إسرائيلية، ودولة الاحتلال منخرطة في حالة الحرب، كما حدث مع رئيس الحكومة الحالي، بنيامين نتنياهو؛ ما يعكس ضعفَ ثقةٍ كبيرًا به، وبقيادته؛ إذ لم تقوَ الحالةُ الخطِرة، التي وُصِفت بالوجودية، على تأجيل التصدُّعات والخلافات؛ تلك الخلافات التي امتدَّت لتصل إلى نُخبة القيادة.
ولعلَّ السبب يعود إلى أمرين رئيسين، أوَّلُهما، أنَّ نتنياهو كان تسبَّب بانقسام عميقٍ لم يقف عند الشعب والمجتمع، بل طاولَ مؤسسات الدولة، والجيش، والقضاء، وذلك حين عمِلَ، وأصرَّ على المُضيِّ بما سمّاه الإصلاحات القضائية، دون وجود حدٍّ أدنى من الاتفاق على مثل تلك التغييرات الدستورية التي وصفَها معارضوه بأنها انقلاب.
والسبب الثاني ناجمٌ عن هَوْلِ الضربة التي أصابت موطنَ اعتزاز الشعب الأول، وهو الجيش، وقيادته، وكفاءته القتالية، حيث أثبتت عمليةُ طوفان الأقصى، في 7 أكتوبر، تشرين الأول، أن المؤسسة الأمنية فشلت فشلًا ذريعًا، استخباريًّا، وعسكريًّا، في حماية البلدات المحيطة بقطاع غزة، وسكَّانها، بل إن الضربة الموجعة ألمّت بالجنود أنفسهم، وقيادات عليا، فيما يُعرَف بكتيبة غزة، ما بين قتيل، ومعاق، وأسير.
وقد طفت تلك الخلافاتُ على السطح، في عزّ افتقار دولة الاحتلال إلى التوحُّد، إذ تصاعدت حدَّة التلاوم، وَفْق ما نشر موقع “الجزيرة نت” في الأوساط السياسية والأمنية في إسرائيل بشأن المسؤولية عن الإخفاق الأمني وراء هجمات 7 أكتوبر، واضطر نتنياهو للاعتذار، بعدما نشر تغريدة يُلقي فيها اللائمة على أجهزة الأمن والمخابرات. وقال نتنياهو، في بيان “لقد أخطأت، وما قلتُه بعد المؤتمر الصحفي (لقادة مجلس الحرب) كان ينبغي ألا يقال، وأعتذر عنه”.
قد يكون تأثيرُ هذه الحالة القيادية الضعيفة، أو المهتزَّة، ليس مباشرًا، أيْ أنه لا ينعكس على مجريات العمليات الميدانية القتالية؛ ذلك أنها تخضع للقادة العسكريين، ولكن تأثيرها يتجلَّى في الحالة المعنوية للجنود، إذ لا يستوي قتالُهم تحت قيادة سياسية ناجحة، وملهِمة، وبين قتالهم تحت قيادة مأزومة، هَمُّها درْءُ الأخطار عن شخصِها، والتنصُّل من المسؤولية، بل تحميل الجهات الأخرى، ومنها القيادات العسكرية والأمنية مسؤولية الفشل الكبير الذي أظهرته عمليةُ طوفان الأقصى.
هذا، وتشير استطلاعات الرأي إلى أن أربعة من كلِّ خمسة يتِّهمون الحكومة بالمسؤولية عن مذابح السابع من أكتوبر، وأكثر من نصفهم يريدون استقالة نتنياهو. وقد تعرَّض وزراء الأخير للصُّراخ من قبل أفراد غاضبين من الجمهور، أثناء زياراتهم للمستشفيات والمجتمعات المتضرِّرة.
ويزيد تأثير هذا العامل، مع الأخذ بعين الاعتبار الهزَّة العميقة التي اعترت جيش الاحتلال، بعد أن تمَّت المباغتة، وبانَ سوء ردِّ الفعل، وتأخُّره لساعات، قد تكون وصلتْ إلى عشْر، والذي وصل إلى ما يقارب الانهيارات؛ ما سهَّل سيطرة مقاتلي حماس والمقاومة على عددٍ كبير من القواعد العسكرية، بكامل معدّاتها القتالية، وآليَّاتها الثقيلة، هذا فضلًا عن السيطرة على تلك البلدات التي فشل الجيش في حمايتها، وكلُّ ذلك، جرى بثُّه، بالصورة والصوت للجمهور الإسرائيلي، وللعالم.
وتزيد من تأزُّم نتنياهو الاستحقاقاتُ الضاغطة عليه؛ مِن مطالب أهالي الرهائن، بتعجيل تخليص أبنائهم وذويهم من غزة، وهو الأمر الذي يتطلَّب أثمانًا مؤلمة، أقلّه تبييض السجون من الأسرى الفلسطينيين والعرب، وهو الذي يحسم، بالتأكيد، من مكانة نتنياهو، هذا علاوة على الخسائر الكبيرة التي ما تزال تقع، في الجنود، والمتوقَّع أنْ تستمر، وتتفاقم، إذا استمرَّت العملية البرية؛ ما يقلق نتنياهو أن شعبه لا يقوى على استيعاب تلك ( التضحيات) الباهظة.
بل إن نتنياهو سمع بأذنيه شتائم من جنود يوبخونه، وينتقصون من نزاهته وقيادته، المشهد الذي تكرَّر حدوثُه، وتكرَّرت مشاهداتُه، كما جرى تعييره بابتعاد ابنه، يائير، عن المشاركة في الحرب، أسوةً بغيره، ممَّن التحقوا بقوَّات الاحتياط؛ إذ قالت زعيمة حزب العمل المعارض، ميراف ميخائيلي: “بينما يخوص أبناؤنا القتال بقطاع غزة، يقوم ابنه (يائير نتنياهو) بتمارين البطن في ميامي (بالولايات المتحدة)، ويجلس نتنياهو متجهِّمًا في مكتبه مع السيجار والشمبانيا، ويحمِّل قادة الجيش مسؤولية الكارثة”.
ولا يقتصر تأثير اهتزاز القيادة السياسية على الجيش والجنود، إذ يتعدَّاهم إلى الجبهة الداخلية، التي إِمَّا أنْ تكون داعمة ومعزِّزة للجيش، وإِمَّا أنْ تكون مُخذِّلة، ومُوهِنة له؛ بالانفضاض عن التفويض لنتنياهو، وذلك في حال لم يتحمَّل الشعب وأُسَر القتلى والجرحى والأسرى تلك الخسائر، الموعودة.
وبهذا يظهر افتقادُ دولة الاحتلال، الآن، إلى ما سمّاه، سون تزو، في كتاب ” فنّ الحرب” القانون الأخلاقي، بوصفه ركيزةً من ركائز خمسٍ ثابتة، لا بدَّ منها، للانتصار في الحرب، و”القانون الأخلاقي هو الانسجام ما بين الحاكم والمحكومين؛ ما يدفع الأفراد إلى اتِّباع أوامر القائد العام دون تردُّد، ودون خوف من العواقب”.
وتظهر هذه الحالة الراهنة لدولة الاحتلال، أيضًا الافتقار إلى ركيزة أخرى، وهي القائد، وهو الذي ” يرمز [كما جاء في “فن الحرب”] إلى فضائل الحكمة والإخلاص وحُسْن الخلُق والشجاعة والحزم”. ونتنياهو متَّهَمٌ بقضايا جِدِّية؛ بالفساد وسوء استغلال السلطة، وتلقِّي رُشاً، كما أنه متَّهَم بالجبن، فيما يتعلَّق بقرارات الحرب، وتحسُّبه من انعكاسات نتائجها على احتفاظه بمنصبه، مع أن مستقبله السياسي الآن، وبعد الحرب، في أسوأ حالاته، كما تشير استطلاعات الرأي.
يُضاف إلى ما سبق تفاعلاتُ شعوب العالم، والتظاهرات الحاشدة غير المسبوقة، في دعم فلسطين، والتضامُن مع أهالي القطاع، ولا سيّما في دول أوروبية مهمَّة، مثل بريطانيا وفرنسا، وغيرها، وكذلك الضغوط الشعبية، وحتى في أوساط يهودية، أميركية، ضجّت، وما تزال، من هول ما ترى من جرائم إنسانية بشعة؛ مشفوعة بتصريحات مسؤولين كبار في دولة الاحتلال، من أمثال رئيس الدولة الإسرائيلي إسحاق هرتزوغ، وقد مضى إلى حدِّ التلميح، ضمنًا، إلى أنه ما من فلسطيني في قطاع غزة بريء:” ليس صحيحًا هذا الخطاب القائل؛ بأنَّ المدنيين لا يعرفون، ولا علاقة لهم. هذا غير صحيح على الإطلاق. كان بوسعهم الانتفاض [ضد حماس]“. وترجم وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، هذه النظرة، عندما قال في 9 من أكتوبر، تشرين الأول: “لقد أمرتُ بفرْض حصارٍ كامل على قطاع غزة. لن يكون هناك ماء، ولا كهرباء، ولا غذاء، ولا وقود“. وأصدر وزير الطاقة إسرائيل كاتز، أمرًا بقطع إمدادات المياه عن قطاع غزة.
هذه التداعيات العالمية، بالتوازي مع تفاعُلات المحيط العربي والإسلامي؛ تقلق الولايات المتحدة، أنْ تتطوَّر تلك الاحتجاجات الغاضبة إلى ما يؤثِّر على (استقرار المنطقة).
وكل هذه المعطيات مِن شأنها أنْ تزيد القيود، أمام نتنياهو، وأنْ تشغَل فكرَه، وتُربِك قرارتِه، وخُطَطَه، وهو يسير على هذه الأرضية المتحرِّكة، ويتحرَّك بين حقول ألغام، تُهدِّد ليس مستقبلَه السياسي، بل مستقبل دولته، أيضًا، وَفْق ما صرّح بأن ” هذه الحرب الإسرائيلية الثانية من أجل الاستقلال”.
تلفزيون سوريا
————————
إيران التي تفاوض بدماء السوريين والفلسطينيين/ جمال الشوفي
لطالما كانت وما زالت فلسطين حمّالة أوجاع وآلام جسام. فلسطين التي تلامس وجداننا العربي بقضيتها ومصير شعبها، بتنا كسوريين نعيش آلامها منذ اثني عشر عامًا حياة يومية من التشرد والتهجير والقتل الجماعي والفردي. في المقابل كان الوعي العربي يقع تحت وطأة تناقض حاد بين شعوره العميق بالوجع الفلسطيني وبين مقاربته لطرق الحل الممكنة على مستويات السياسة الدولية والإقليمية والعربية. حيث باتت تتكشف مدى تحول قضية الشعب الفلسطيني لمجرد أداة تتلاعب بالوجدان الشعبي مقابل جني المكاسب السياسية لحكام المنطقة من سلطة الاستبداد والعسكر، والتي طالما رفعت راية تحرير القدس لكنها كانت تهجر سكان حلب والغوطة وداريا وتدمر المدن السورية.
إيران اللاعب الأساسي الأخطر في المنطقة تمتد أذرعها في كل مدن الشرق العربي خاصة في سوريا والعراق ولبنان، وفي فلسطين في غزة. إيران صاحبة المشروع التوسعي السياسي المرفوع على حوامل عقائدية والتي تعمل على بزار دول العالم من خلال تموضعها في عواصم دول الشرق وعلى حساب قضاياهم ومصير شعوب المنطقة برمتها.
فما إن بدأت عملية طوفان الأقصى، حتى تلقفتها الإدارة الأميركية بالقول على لسان بلينكن إن إيران لا علاقة لها بما يجري في غزة، وذلك في إشارة لاستثناء إيران من أية معادلة حرب إقليمية قد تحدث في المنطقة. والسؤال المطروح، ماذا ستستفيد إيران من العملية بذاتها؟ وماذا يعني تلقيها للإشارة الأميركية التي تشير إلى بدء مرحلة جديدة من التفاوض الإيراني الأميركي؟
في الخلفية التاريخية، لم يكن التمدد الإيراني في سوريا، ومن قبله في العراق مجرد صدفة أو رغبة فقط لدى قادة ما يسمى بهتانًا “الثورة الإيرانية”، وهي التي سعت لتصدير شرعياتها العسكرتارية “الثوروية” لكل دول الجوار. بل كان تحت العين الأميركية مباشرة خاصة منذ عام 2003، منذ غزو العراق ومن ثم احتلاله. فسواء كان ثمة اتفاق مبطن أو التقاء مصالح بين كل من طهران وواشنطن ولندن، فقد تم استثمار الدور الإيراني في تفكيك العراق وتحويله إلى مستنقع للمحاصصة الطائفية والإجهاز على كامل مقدراته العلمية وثروته الطبيعية. وهذا لا يعني أبدًا أن العراق لم يكن يعاني من ديكتاتورية نظام حكمها، بل يعني تمامًا أن التمدد الإيراني كان وظيفيًا فيه تم استثماره من قبل واشنطن ولندن، وهو ذاته ما يفسر غض النظر الذي مارسته واشنطن عن تمدد الميليشيات التابعة لإيران في سوريا وتحت عينها.
الإجابة عن سؤال المتحولات الإقليمية في الشرق الأوسط سؤال ليس بحكم المتاح الإجابة عليه ببساطة. لكن عند تدقيق الدور الإيراني منذ عام 2011، فهي كانت المساهم الأكبر في بتر الربيع العربي وقطعه في اليمن وسوريا ولبنان والعراق. وليس فقط، بل تأجيج الصراع الديني وتغليب لغة القتل الدينية بمرجعية شعائر وطقوس تعود لما قبل 1400 عام. فقد عملت على شيطنة العنف والعنف المضاد لدرجة العودة لكل أشكال القتل الهمجية ومفهوم الغزوات والتهجير أيضًا. فإن كانت موسكو هي من ساعدت هذه المرة بغطائها الجوي هذا التمدد الإيراني بعد عام 2015 في سوريا، فإنه كان مرقوبًا جيداُ وملحوظًا أيضا من قبل واشنطن وصناع القرار العالمي قبله، وهي التي فاوضت إيران على ملفها النووي مقابل هذا التمدد وقتها! في حين إن الاتفاق الذي تم توقيعه بين موسكو وواشنطن وبعض عواصم العالم وأهمهما “تل أبيب” في إسرائيل على ضرورة تحجيم الدور الإيراني في المنطقة عام 2018، كان أشبه بلعبة في دماء أبناء المنطقة وشعوبها. فبعد الإجهاز على معظم مقومات الشعب السوري ومشروعه الوطني وحوامله، واستفراد روسيا في الملف السوري جزئيًا بموافقة كل من تركيا وإيران على حصص جزئية فيه، أتت التوافقات الدولية على تحجيم الدور الإيراني في سوريا وكأنها تحمل عنوان كفاية الدور الوظيفي لإيران في تفتيت المنطقة والاجهاز على مشروع الدولة الوطنية في سوريا، وتعطيل أي مثيل لها في العراق ولبنان، وتعطيل مشروع حل الدولتين في فلسطين. لكن إيران تفاوض بحكم الوجود العسكري على الأرض، وأية محاولة لتحجيم هذا الوجود تقابله بتهديد أمن الخليج العربي وافتعال حرب إقليمية واسعة في المنطقة وهذا ما يتفادها الجميع لليوم، وهو سر الرسالة التي أرسلتها أميركيا عبر بلينكن لإيران.
منذ بدء الحديث عن محاولة أميركا لقطع طريق البوكمال، المنفذ البري للميليشيات الإيرانية للعمق السوري واللبناني بدايات هذا العام، عادت معادلات التحول الإقليمي في المنطقة للظهور مجددًا. وعادت إيران لمحاولة التفاوض على مناطق وجودها فيها بأكثر من طريقة. يبدو أن آخرها قبض ثمن تهجير سكان غزة، مقابل أن تبقي على مناطق نفوذها سوريا. فهل هذه هي المعادلة التي ستفرضها إيران وتلقفتها أميركيا لمنع اندلاع حرب إقليمية واسعة بالمنطقة؟ وهل دول الخليج العربي سترضى بهذه الشروط، وهي المتضررة من تحويل سوريا لبؤرة لتهريب المخدرات إليها، وزيادة الخطر الإيراني على أمنها وهي المهددة بالخليج ومن اليمن؟
ورقة غزة اليوم بيد إيران ورقة للهروب للأمام، فهي بذلك تضحي بذراعها المتحركة حماس، مقابل بقائها في سوريا، فهي تدرك أنها مقبلة للتفاوض على رفض وجودها في الجنوب السوري برمته بناء على إصرار الأردن ودول الخليج على ذلك، واشتداد المظاهرات السلمية في السويداء المطالبة بالتغيير السياسي العام في سوريا. وليس أمام إيران عندها زج كل من النظام السوري وحزب الله في معادلة الحرب القابلة للتمدد وبقائها ضابط إيقاعها من بعيد. لتبقى إيران تعتمد على سياسة المتحورات البينية وإدارة أذرعها واستخدامها في عمليات عسكرية جزئية تهدد أمن المنطقة واستقرارها، وتجهض أية بوابة للحلول السياسية الممكنة، وذلك لتبقِ على تمددها العسكري فيها تفاوض من خلاله وبدماء شعوبنا بدل انكفائها لداخلها ويصبح التفاوض في عقر دارها.
لم يزل الشعور والوجدان الشعبي العربي عامة والسوري والفلسطيني بخاصة، محط صهر وسحق يقع في تناقض حاد بين حق الشعب الفلسطيني وبين أدوات الصراع العسكرية المستثمرة فيه وعلى حسابه ضد الشعب ذاته. والرابح الوحيد هو إيران والنظام السوري لليوم، والخاسر هم الشعوب. بينما خروج إيران وميليشياتها من المنطقة وتحقق مشروع الدولة الوطنية في كل من سوريا ولبنان والعراق وحل الدولتين في فلسطين سيغير وجه المنطقة تجاه الاستقرار والسلام. وهذا ما ستحدده سير الوقائع في الأيام المقبلة والتي تنذر بمتغيرات مفصلية في شكلها المقبل، وعلى شعوب المنطقة أن تحسم أمرها تجاه استحقاق بناء دولها الوطنية وهذا لا يتناقض أبداً مع جوهر القضية الفلسطينية بل يعزز من قيمتها ويغير طريقة إدارة صراعها.
———————-
في تطبيع القتل السوري الفلسطيني/ هدى سليم المحيثاوي
“تفاهة الشر” هي الظاهرة التي أطلقتها المنظِرة السياسية حنة آرندت بعد حضورها لجلسات محاكمة الضابط النازي أدولف آيخمان في العام 1961 في القدس، بعد أن رأته شخصاً عادياً يُنفذ الأوامر لا غير ووصفت ذلك بقولها: “لم أقم بالدفاع عن آيخمان، لكني حاولت أن أربط بين الاعتيادية الشديدة لهذا الرجل وبين أفعاله الموغلة في فظاعتها”، إذ أنَ الأوامر التي كان ينفذها الضابط آيخمان، كانت ببساطة تنظيم نقل الملايين إلى معسكرات الاعتقال “أوشفيتز” لتتم إبادتهم جماعياً، وهي كانت الملاحظة الوحيدة الخارجة عن المألوف!
هذه الظاهرة جاءت تجاوزاً لمصطلح “الشر الجذري” الذي طرحته آرندت في كتابها أسس التوتاليتارية الصادر عام 1951، والذي جادلت فيه أنَ شر النازيين مطلق وغير إنساني إذ كتبت: “إنَ حقيقة معسكرات الاعتقال تُذكرنا بصور الجحيم في القرون الوسطى وأنَ الشر المطلق الذي يجسده النازيون، كان مدفوعًا بنوايا جريئة ووحشية لمحو الإنسانية نفسها”.
عادية اسم الظاهرة خلقت لبساً لدى كثيرين في مدى توصيفها لعمليات الإبادة الجماعية التي قام بها النظام النازي، إذ لم تَستخدم مفردات اعتدنا على استخدامها لوصف الشر، مثل الوحشية والانحراف والتطرف، هكذا ببساطة سمتها “تفاهة الشر” لكن مَن يقرأ مضمونها يتضح له براعة هذا الوصف واختصاره لما يمكن أن تقوم به الأنظمة الشمولية من شر، فهل هناك شرٌ أكثرَ من تطبيع عملية القتل (جعله طبيعياً)، بمعنى تحويله لفعل عادي واعتيادي، كتناول العشاء أو لقاء الأصدقاء! دون أن يُحدِث ضجةً أو انتباهاً بأنَ أمراً جَللاً قد حصل!
ربما ظننا أنَ الأنظمة الشمولية قد انتهت بانتهاء الستالينية والقضاء على النازية، لكننا ها هنا وفي هذا القرن وهذه الأعوام منه، نرى أنَ القتل بات فعلاً يومياً يُمارَس بانتظام، ولم يعد حَدَثاً أو سؤالاً مركزياً يحتل المرتبة الأولى لتحديد الموقف الأخلاقي منه، إذ بات السؤال هو مَن الذي يُقتَل، فجامعة الدول العربية دانت الهجوم على الكلية الحربية في حمص، الذي وقع في السادس من أكتوبر العام الجاري ووصفته بالإرهابي، لكنها صمتت أمام الهجوم الموازي على المناطق في شمال غربي سوريا والمستمر منذ سنوات، وكذلك فعلت الدول الغربية وأميركا بإدانتها للقتل في سوريا، لكنها أشاحت بوجهها بل وتساعد عليه في فلسطين والمستمر منذ عقود!
نجد أنفسنا في هذا المشهد، أمام تحييدٍ لحياة مجموعةٍ أو جماعاتٍ من الناس، لا تنطبق عليهم قواعد المحاكمة الأخلاقية العامة للفعل وللحياة الإنسانية، إذ تتم محاكمتهم وفق قواعدَ وقيمٍ جديدة عُمل على إنشائها من قبل نظامٍ ما، ربما يختلف بالاسم لكنه يتفق بالصفات والآلية.
نجح نظام الأسد في سوريا بتحييد منطقةٍ كاملة، لم تعد تنطبق عليها المعايير الإنسانية الحاكِمة والمُحَكِمة للفعل، بل تمكن من فرض معاييره وقوانينه التي عمل على إنشائها، إذ باتت الغارات الجوية والتي تُخلِف عشرات الضحايا في إدلب، فعلاً يومياً عادياً لا يلفت حتى نشرات الأخبار، وبالعكس يتمُ تأويله بتأويلاتٍ مثل محاربة الإرهاب وتحرير الأراضي.
كذلك وضعت إسرائيل الفلسطينيين في قطاع غزة، في نفس المنطقة “القيمية”، بعد أن فرغته من مظاهر الحياة الطبيعية والبسيطة، وعملت على تصوير مَن يعيشون فيه بعديمي القيمة، ويصبح قتلهم والتنكيل بهم هو شيء طبيعي لا يستحق التنديد حتى، ولا يقترب من أن يكون جريمةً ضد الإنسانية، ليكون خروجهم عن هذا الوضع (كعملية طوفان الأقصى) هو الوضع غير الطبيعي والتمرد الذي يجب أن يُحاسَب.
تعمل الأنظمة الشمولية إن أرادت تحييد مجموعةٍ من الناس أو منطقة أو حتى شعب بكامله، على تفريغ هذه المجموعة من قيمتها وقيمة حياتها، لتُبرر أي سلوكٍ يمكنُ أن يُتَخذ أو يُمارَس بحقهم. تبدأ بخطواتٍ صغيرةٍ جداً ربما لن يتم الانتباه إليها في الصورة العامة، لكن يتمُ ربطها بقيمٍ كُبرى، تُصبح هي المُحَكِمة لمحاسبة هؤلاء المدنيين فيما بعد.
عمل نظام الأسد منذ بداية الثورة، على الترويج لأفكار ربما تبدو مُضحكة للوهلة الأولى، كالمجسمات القطرية والساندويتشات المغلفة بالخمسمئة ليرة، لكنَه ربطها بدلالاتٍ قيمية كبيرة، كالعمالة للخارج ودعم الإرهاب والرغبة في تدمير البلد. هذه المعايير أصبحت هي المرجعية في تحكيم قتلهم والتنكيل بهم في فعلٍ يستمر منذ ثلاثة عشر عاماً.
الخطر الثاني الذي تتضمنه هذه الظاهرة، هو كيفية تحويل الأفراد إلى مجرد أدوات في ظل هذه الأنظمة، وهذا ليس بصدد إعفاء الأفراد من مسؤوليتهم، بقدر ما هو إبراز لمدى الخراب والتدهور الأخلاقي الذي تصنعه الأنظمة الشمولية في المجتمعات، إذ لا تتعلق تفاهة الشر بأفراد بل بالأنظمة، التي تعمل على تذويب الأفراد وقتل أهميتهم في مقابل أهميتها، وإبادة قيمهم وخلق قيمها.
تقول آرندت: “المشكلة مع مجرم نازي مثل آيخمان أنه أصر على إنكار كل الصفات الشخصية، وعارضَ باستمرار وثبات أنه لم يكن يفعل سوى إطاعة الأوامر”.
نفى الضابط النازي أي نية أو مبادرة شخصية للقيام بأي نوعٍ من الفعل خيراً كان أم شراً، وبهذا المعنى تحول إلى أداةٍ ليس أكثر من أدوات النظام الشمولي، أي أنه تخلى عن كينونته كفرد، يحتكم للمعايير الإنسانية المُحَكِمة، لصالح أن يكون جزءاً من ذلك النظام الشمولي الذي يحتكم لمعايير من وضعه هو، بعيداً عن معايير الأفراد والمجتمعات والقيم الإنسانية.
ربما إذا سمعنا في المستقبل محاكمات لضباطٍ من نظام الأسد أو الجيش الإسرائيلي، سنتذكر عندها الضابط النازي أدولف آيخمان، الذي تخلى عن كينونته الفردية، لصالح أن يكون جزءاً من النظام الشمولي الأكبر.
وسواء كانت تفاهة الشر أم الشر الجذري وراء تطبيع القتل، إلاَ أنهما تبقيان في إطار محاولة فهم هذه الظاهرة، التي لن يلغي فهمها من عدمه حقيقة ومرارةَ وجودها، والذي يبدو أنه ومن بين جميع مستويات وأنواع التطبيع الحاصل، عربياً-أسدياً كان أم عربياً-إسرائيلياً، وحده تطبيع القتل هو التطبيعُ النافذُ بينهم!
————————
لا أحد يحبنا: تعبير فلسطيني يكرر خطاب العراء السوري/ شادي علاء الدين
لم يكتشف الفلسطينيون أنهم وحدهم مع الحرب الإسرائيلية على غزة والتي اندفع عالم الغرب لشرعنتها. سبق لهم أن اكتشفوا هذا الواقع، ولكن حجم المجازر غير المسبوق وسقوط كل المحرمات جعل ما كان يمكن أن يتطرق إليه الشك يقينا فلسطينيا عاما عابرا للسياسة والتحليلات.
يكرر هذا السياق الفلسطيني كتلة المشاعر السورية التي تكرست وتكثفت مع التجاهل الكوني لمأساتهم، مع ترك الأسد وحلفائه يذبحون السوريين الذين هبوا مطالبين بالحرية منذ 12عاما.
عمد الأسد والجهاز العسكري الإسرائيلي إلى تبني المقاربة نفسها في التعامل مع السوريين والفلسطينيين والتي تقوم على توسيع دائرة المجزرة والفظائع والأهوال حتى تصبح عصية على التصديق، وأقرب إلى الخيال. ألم يقل من تسنى لهم الاطلاع على الوثائق المهربة والمصورة عن تعذيب الأسد للسوريين كما وردت في تقرير قيصر وسواه إنهم لم يسبق لهم أن شاهدوا مثل هذا الهول، وإن ما يتضمنه يفوق أهوال الحرب العالمية الثانية. الأمر نفسه تكرره كل المنظمات الإنسانية والتقارير الدولية والتغطيات الصحفية حول ما يحدث في غزة لناحية أن ما يحدث ليس له مثيل في تاريخ المنطقة.
نعلم أن ما شرعن ذلك الخراب العميم الذي أصاب غزة والذي لا يبدو أنه سيتوقف في القريب العاجل كان دمار حلب وحمص وغيرها من المدن السورية، وأن ما جعل الدم الفلسطيني رخيصا ومعدا للإهدار بمثل هذه المجانية والوقاحة هو السكوت على إهدار الدم السوري.
بلْور ذلك السكوت صيغة إهدار شاملة للدم في المنطقة، وكرس شعورا عاما بأن من يطالب بحريته أو يقف في وجه الاحتلال الإسرائيلي بغض النظر عن هويته وعقيدته سيكون وحيدا في مواجهة آلة الإبادة. التعبير السوري عن هذا الشعور صار لشدة تكراره نوعا من السيكولوجيا السورية العمومية والتي قد يكون تمظهرها الأبرز في ذلك الشعار الشهير “يا الله ما لنا غيرك يا الله” والذي استدعي بعمومية وشيوع مع تراكم المجازر وسط الصمت والتجاهل.
وكما بدا السوريون بلا أهل في المنطقة والعالم يظهر الفلسطينيون عموما وليس أبناء غزة وحدهم بلا أهل، ويتخذ دمهم المهدور صيغة استثمارات متعددة ومتشعبة تشمل كل خرائط الصراعات المندلعة في المنطقة والعالم.
العنوان الفلسطيني فجر بنية الخلافات الداخلية في بلدان المنطقة وتحول إلى سجال يكشف عن مدى غياب الشأن الفلسطيني عن المشهد واستبداله بتأويلات سياسية وثقافية تضعه في ما لا يحتمله، وتفصله عن واقعه وخصوصيته. في لبنان على سبيل المثال انطلقت مجموعة تظاهرات متباينة حاولت كل واحدة منها أن تحقق نوعا من براءة الذمة مع المجزرة القائمة في موازاة شحنها بعناوين طائفية جعلت تناول الشأن الفلسطيني في اللحظة الحالية يتخذ شكل إحياء مشهديات الحرب الأهلية.
وفي كل ما جرى في العالم العربي برز ذلك التناقض بين المواقف والمشهد، فبعد أن شعرت الأنظمة أن التحمس لفلسطين الآن يمكن أن يكون مدخلا لتمكين الفساد والتعمية على ممارسات السلطات التي انتبهت إلى أن ترك التعبير عن التعاطف مع فلسطين يجري في المجال العام خطير، لأن من شأنه أن يطلق موجات اعتراض شاملة تصل بين الموضوع الفلسطيني والاعتراض على السلطات وتغري باحياء الثورات. لذا كان احتلال المشهدية الفلسطينية للساحات العامة في بعض البلاد حدثا عارضا لم تلبث السلطات أن عمدت إلى قمعه وتسفيهه. البلاد التي لا تزال تسمح بالتعبير الفلسطيني تعمل على توظيف المشهد في سياقات يصعب التفاهم معها وتسييلها في مواقف سياسية، وتستعمل كواجهة لخطاب يتعامل مع الشأن الفلسطيني كمشكلة يجب التخلص منها.
الفلسطينيون كانوا حاسمين في التعبير عن ذلك الإحساس العميق بأن لا أحد يحبهم وأنهم متروكون لمصيرهم .الشاعر والمترجم الفلسطيني سامر أبو هواش نشر قصيدة في جريدة النهار بعنوان “لم يعد مهما أن يحبّنا أحد” يقول أحد مقاطعها:
لم يعد مهما أن يحبّنا أحد
القذائف حرّرتنا من آذاننا
التي كنا نسمع بها كلمات الحبّ
والصواريخ حرّرتنا من عيوننا
التي كنا نرى بها نظرات الحبّ
والكلمات السود حرّرتنا من قلوبنا
التي كنا نرعى بها كلمات الحبّ
الفلسطيني الذي تخبر عنه كلمات هذه القصيدة قد بات عاجزا عن التفاعل مع العالم ومع الوجود وعن استقبال المشاعر. لقد أقفل الباب على ألمه، وركن إلى وحدته بوصفها مكانه الأخير والنهائي. نعرف أن ما يقوله هواش الآن أمام المجزرة الجارية سبق أن قاله السوريون بطريقتهم الخاصة.
لا بد من العودة الى السياسة والتعقل. تنتشر هذه الدعوة في كثير من الصحف ووسائل الإعلام ويتبناها كتاب رأي ومثقفون، كما تدافع عنها جهات ومؤسسات عديدة ولكن لا أحد يجهد نفسه في محاولة تفسير الهستيريا الجماعية التي أصابت الغرب كله إزاء المشهد الغزاوي بحيث رمت أوروبا قبل أميركا بكل تراث العقلانية والتنوير في سلة المهملات ووقفت إلى جانب إسرائيل، وعملت على استهداف كل ما يمت إلى فلسطين بصلة.
كان ذلك جنونا عارما بتمام التوصيف وكذلك كان التعامل الإسرائيلي والعربي مع السوريين والفلسطينيين، حيث أقفلت في وجوههم كل سبل الحياة والحلول في مسار مقصود وممنهج عمل على سحب إنسانيتهم وحقهم في الوجود. هل كان العالم يعلم أنه يجعل من السوري العادي والفلسطيني العادي الكائن /القنبلة الجاهز للانفجار بشكل يستقل عن السياسة ويستعلي عليها ويتجاوزها.
هل من حلول ممكنة من دون فتح الباب أمام الحل العادل لقضية السوريين والفلسطينيين؟ وهل من مسار واضح يقول إن الأمور قد تسلك هذا الدرب؟
التطبيع المجاني مع الأسد ومسار السلام مع إسرائيل والذي فجرته بنفسها مرارا وتكرارا يجيب بوضوح عن كل تلك الأسئلة. القبر الكبير الذي أسقط العالم فيه الشعبين السوري والفلسطيني سيتسع ليشمل العالم بأسره. تلك الراديديكالية الإلغائية والاستعلائية في التعامل مع مأساتيهما لن تولد مسارات سياسة وعقلنة بل ستخلق حقدا فصيحا يمتلك كل الأسباب ليكون الممثل الشرعي والوحيد للشعوب المقهورة.
————————–
الحرب على غزة.. ومحاولة إسرائيل تصفية القضية الفلسطينية” في ندوة حوارية
عقد مركز حرمون للدراسات المعاصرة، يوم الاثنين 23 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، في مقرّه بالعاصمة القطرية الدوحة، ندوة حوارية بعنوان “الحرب على غزّة.. ومحاولة إسرائيل تصفية القضية الفلسطينية“، شارك فيها كل من ماجد عبد الهادي، الإعلامي في شبكة الجزيرة؛ وسمير سعيفان، مدير مركز حرمون للدراسات المعاصرة؛ وأدارها عمر إدلبي، مدير مكتب الدوحة في مركز حرمون للدراسات المعاصرة.
ناقشت الندوة محاور عدة، من بينها دلالات ونتائج عملية “طوفان الأقصى” التي أطلقتها حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، وتداعيات الحرب على غزة، وأبعاد ودلالات الدعم الأميركي والغربي غير المسبوق لعدوان الاحتلال، ومساعي إسرائيل لاستغلال التطورات الحالية لتهجير الفلسطينيين من غزّة وتصفية القضية الفلسطينية، وغيرها من المؤشرات والأبعاد المتعلقة بهذه التطورات.
استهلّ ماجد عبد الهادي الندوة بالحديث عن المؤشرات التي توحي بها الإخفاقات الواسعة التي تكبّدها جيش الاحتلال الإسرائيلي، على المستوى الاستخباراتي والأمني والعسكري، وما يقابلها من نجاح حققته فصائل المقاومة الإسلامية على المستويات المذكورة. وقال عبد الهادي إنه بالرغم من استشهاد وجرح آلاف الفلسطينيين، وتدمير مئات المباني، لم يقدّم أي مواطن غزاوي، حتى من الذين فقدوا جميع أفراد عائلاتهم، تبريرًا لما حدث، أو ما يعزز الرواية الأميركية والأوروبية بأن حركة المقاومة الإسلامية (حماس) تستخدم المدنيين الفلسطينيين دروعًا بشرية. وأضاف أن ثمة إجماعًا فلسطينيًا على أن هذه الحرب جزءٌ من صراع مع الاحتلال الإسرائيلي الذي دأب على قتل الفلسطينيين، سواء نفذت المقاومة عمليات ضدّه أم لا لم تنفذ.
وفي موضوع العملية التي نفّذتها المقاومة، أوضح الهادي أنه لم يكن أحد يتوقع أن تُحدث فصائل المقاومة هذا الاختراق الصادم غير المتوقع، ولذلك جاء الردّ قويًا من إسرائيل التي شنت حربًا شعواء على قطاع غزة. وأضاف أن أسئلة هذه الحرب وأسرارها ربّما ستظل بدون أجوبة خلال الفترة القادمة، وأن هناك تحليلات تتحدث عن تعطيل للاتصالات الإسرائيلية، بالإضافة إلى قدرة المقاومة على بناء قوة وعقيدة دينية وقتالية خلال السنوات الماضية.
بدوره، تحدث سمير سعيفان عن أهمية عملية (طوفان الأقصى)، وانتقد المشككين بجدوى هذه العملية، والفائدة التي حصدتها، خاصة في ظل التفوّق العسكري الإسرائيلي. وقال سعيفان إنه من غير المنطقي أن نقيس نتائج أي عملية عسكرية صغيرة تنفذها المقاومة بميزان الربح والخسارة، فهذا ليس منطق من يتمسك بحقه وأرضه، خاصة إذا ما وضعنا نصب أعيننا جذر المشكلة، وكلّ ما تعرّض له الشعب الفلسطيني منذ عشرينيات القرن الماضي حتى الآن، من احتلال لوطنهم ومحاولة اقتلاعهم من جذورهم، واقامة دولة الكيان الصهيوني.
في السياق ذاته، ذكر سعيفان أن عملية (طوفان الأقصى) فاجأت الاحتلال الإسرائيلي والعالم بأسره، وأنها استطاعت وضع القضية ككل أمام خيارين: إما أن يُتاح لإسرائيل أن تُصفّي الفلسطينيين أو تهجّرهم من أراضيهم وتلحق بهم ضررًا كبيرًا، وإما أن تدفع إسرائيل والمجتمع الدولي لإعادة التفكير في هذا الصراع، انطلاقًا من كونها قضية احتلال ضد مقاومة وحق مشروع، وفي مسألة حل الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية.
سلّط سعيفان الضوء على موقف الحكومات العربية من الحرب على غزة، ووصفه بالموقف المشتت، خاصة بعد موجة التطبيع مع إسرائيل التي بدأت منذ فترة وجيزة. وتحدث عن تركيبة الأنظمة العربية التي تربط مصالحها بمصالح الغرب، الذي عمل بدوره على تكريس مناخ التخويف لدى الحكام العرب، ودفعهم إلى تقديم ما تطلبه أميركا، وعن قدرة إسرائيل على استقطاب الغرب وتجنيدهم لصالح تحقيق أهدافها الاستراتيجية.
ناقشت الندوة مشروع تهجير سكان قطاع غزة، ومدى توافر شروط تنفيذ هذا المخطط من قبل الاحتلال الإسرائيلي. وحول ذلك، قال عبد الهادي إن مسألة التهجير من الأرض هي جوهر القضية الفلسطينية التي نشأت بسبب تهجير الفلسطينيين من أراضيهم، وإحلال الإسرائيليين مكانهم، في أواخر أربعينيات القرن الماضي، مضيفًا أن الحديث عن التهجير يجري للتغطية على المذابح التي ترتكبها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني. واستبعد عبد الهادي أن تنجح إسرائيل في تنفيذ مشروع التهجير، بسبب ضغط الشارع العربي والانتفاضة العالمية ضد المجازر الإسرائيلية.
من جانبه، علّق سعيفان على الموضوع، وذكر أن اجتياح قطاع غزة لن يكون بالأمر السهل، بالنسبة إلى الاحتلال الإسرائيلي، لأن الحكومة الإسرائيلية تُولي أهمية لتأثير هذا الاجتياح على الرأي العام العالمي بشكل عام، وعلى الرأي الأميركي والأوروبي بشكل خاص، لافتًا النظر إلى حجم المظاهرات التي خرجت ضد التصعيد الإسرائيلي العسكري على قطاع غزة، على الرغم من الحصار الإعلامي الذي فرضه الغرب، والقيود التي فرضها على المتضامنين مع فلسطين. وأضاف سعيفان أن الحكومة الإسرائيلية مترددة، بين الرغبة في استعادة هيبتها التي سقطت على يد المقاومة المحاصرة منذ 17 عامًا، وبين مخاوفها من تأثير عملها العسكري في قطاع غزة على الموقف الدولي تجاهها، وعلى حساباتها السياسية في المنطقة على المدى البعيد.
في محور آخر، ناقشت الندوة محاولة وسائل الإعلام الغربية إلصاق تهمة “داعش” بحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وتشبيه أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001، بأحداث عملية (طوفان الأقصى). وعن هذه النقطة، قال عبد الهادي إنّ ما يفعله الإعلام الغربي هو استبدال للسياقات، فهو ينظر إلى هجوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر بمعزل عن سياقه المتمثل في حق الفلسطينيين في النضال والمقاومة، وعن تاريخ القضية الفلسطينية، ويروّج لفكرة أن ما فعلته فصائل المقاومة هو الأسوأ لليهود منذ الهولوكوست. وأضاف أنه في الوقت الذي يُظهر الغرب تعاطفهم تجاه ما حصل مع اليهود منذ 80 عامًا، يتسامحون مع ارتكاب محرقة جديدة ضد الشعب الفلسطيني.
بدوره، تحدث سعيفان عن فشل الإعلام العربي في مخاطبة الرأي العام العالمي، في الوقت الذي استطاعت فيه إسرائيل أن تسيطر على منابر الإعلام الدولية وأن تروّج روايتها الكاذبة والمضللة، وتقدّم نفسها على أنها الضحية. وأوضح أن هناك قصورًا في إدارة المؤسسات الإعلامية العربية، وتقديرًا متدنيًا لما يستطيع العرب فعله على المستوى الإعلامي.
في المحور الأخير، ناقش المتحدثون دلالات الدعم الأميركي والغربي لإسرائيل في حربها على غزة، وموقف محور المقاومة من تطورات المشهد في غزة، وتأثيرها عليه، واحتمالية أن يضطر حزب الله إلى التدخل في الحرب على غزة، والسيناريوهات المحتملة لمعركته مع إسرائيل.
اختُتمت الندوة بنقاش مفتوح بين المتحدثين والحضور حول الدراسة. والندوة متاحة للمشاهدة على منصات مركز حرمون في فيسبوك وإكس ويوتيوب.
مركو حرمون
————————-
“بدأ الخطر بالفعل”.. بيدرسون يتحدث عن “ترياق التهدئة” في سورية
بدت إحاطة المبعوث الأممي إلى سورية، جير بيدرسون، خلال جلسة لمجلس الأمن أمس الاثنين، مختلفة عن سابقاتها، إذ حملت تحذيرات من احتمال “مرعب” للتصعيد و”مأزق استراتيجي”.
وقال بيدرسون إن المدنيين في سورية “يواجهون احتمالاً مرعباً لتصعيد محتمل، نظراً لتصاعد العنف في إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة”.
مشيراً إلى أن المأزق الاستراتيجي الجديد يتمثل بـ “الصراع الوحشي على الخطوط الأمامية الثابتة، والعنف المستمر، والتصعيد المتقطع في القتال”.
“ليس مجرد خطر”
وخلال الإحاطة، قال بيدرسون إن امتداد الصراع لسورية “ليس مجرد خطر”، لافتاً إلى أن ذلك الصراع “قد بدأ بالفعل”.
وأوضح المبعوث الأممي أن “الغارات الجوية الأخيرة المنسوبة إلى إسرائيل والتي ضربت مطاري حلب ودمشق عدة مرات، أدت إلى توقف مؤقت لعمليات الخدمات الجوية الإنسانية التابعة للأمم المتحدة من هناك”.
وقال إن “سورية شهدت أسوأ موجة عنف منذ أكثر من ثلاث سنوات، مما أدى إلى سقوط ضحايا وإصابات في صفوف المدنيين وتدمير البنية التحتية”.
وأضاف أن “المدنيين السوريين تحملوا في الشهر الماضي معاناة كبيرة: تدهور الاقتصاد، والبنية التحتية المتدهورة، وتقارير عن الاعتقالات وانتهاكات الحقوق، وعدم إحراز تقدم بشأن الأفراد المحتجزين والمفقودين، والظروف غير الآمنة لعودة اللاجئين”.
واعتبر أن “الترياق الوحيد هو التهدئة الفورية”.
داعياً لوقف موجة العنف وإعادة التركيز على عملية سياسية ذات مصداقية، ترسم الطريق إلى الأمام في إطار يحترم ويستعيد بشكل كامل سيادة سورية ووحدتها واستقلالها وسلامة أراضيها، وفق تعبيره.
وكانت الضربات الإسرائيلية قد اتخذت مساراً تصاعدياً في سورية، بعد الحرب التي بدأتها في قطاع غزة، رداً على هجوم حركة “حماس” في السابع من أكتوبر الحالي.
ولم تقتصر الضربات على مواقع عسكرية في جنوب سورية، بل طالت لأربع مرات مطاري حلب ودمشق، ما أدى إلى خروجهما عن الخدمة.
وقصف الجيش الإسرائيلي أمس الاثنين موقعين عسكريين في جنوب سورية، في حادثة هي الثانية من نوعها خلال أسبوع، وجاءت “رداً على إطلاق صواريخ باتجاه إسرائيل”.
واستهدفت ضربة إسرائيل الأخيرة في جنوب سورية “كتيبة الرادار” بمحيط بلدة قرفا في ريف محافظة درعا، واللواء 12 بمنطقة إزرع في الريف الشمالي.
وطالت مستودعات صواريخ وأسلحة ورادار للدفاعات الجوية، مما أدى لتدميرها.
وعلى إثر الضربات التي حصلت الأسبوع الماضي قتل 11 من العسكريين التابعين للنظام السوري، بينهم 4 ضباط، بينما أصيب ما لا يقل عن 10 آخرين بجروح.
وفي أعقاب هذه الحادثة ألقت طائرات إسرائيلية منشورات ورقية في ريف درعا تحذّر النظام السوري وقائد “اللواء 112” في نوى، وتتهمه بالمسؤولية عن إطلاق صواريخ باتجاه الجولان.
———————
باستثناء سورية ولبنان.. ثلاث دول ضمن “جغرافية الخطر” في حرب غزة
توسع دائرة الصراع هو أبرز ما يشغل المجتمع الدولي عقب الحرب التي تقودها إسرائيل في غزة منذ ثلاثة أسابيع، والتي يرجح أنها قد تطول بسبب فشل المفاوضات ورفض إسرائيل وقف التصعيد.
وباستثناء لبنان وسورية، التي ترتفع فيها احتمالات التصعيد بسبب المناوشات الحدودية مع إسرائيل، مع تجنب التورط بحرب كبيرة، إلا أن دولاً عدة بدأت باتخاذ الاستعدادات اللازمة لردع أي احتمال لوصول الصراع لأراضيها.
السعودية تتأهب
ذكرت تقارير غربية أن السعودية دخلت في “حالة تأهب”، بعد أن أسقطت صاروخاً أطلقته جماعة “الحوثي” المدعومة من إيران في اليمن، باتجاه إسرائيل.
وقالت صحيفة “بلومبيرغ” الأمريكية في تقرير لها، اليوم الثلاثاء، إن السعودية اعترضت صاروخاً “أطلقه الحوثيون باتجاه إسرائيل، حلق فوق أراضيها”.
ونقلت عن مصادر مطلعة أن الجيش السعودي دخل في حالة تأهب بعد اشتباكات مع الحوثيين، الأسبوع الماضي، وإطلاق هذه الجماعة المدعومة من إيران صواريخ باتجاه إسرائيل.
وأضافت المصادر أن أربعة جنود سعوديين قتلوا بسبب تلك الاشتباكات، التي أشعلتها الحرب بين إسرائيل و”حماس”.
ولم تحدد المصادر توقيت إطلاق الصاروخ من اليمن لإسرائيل مروراً بالسعودية، إلا أنها أشارت إلى أن الحادثة وقعت خلال الأسابيع القليلة الماضية.
وبحسب أحد المصادر فإن “البروتوكولات المرتبطة بحالة الاستعداد القصوى تم تفعيلها في الجيش السعودي، بعد إطلاق الحوثيين للصواريخ”.
وكان الجيش الإسرائيلي أعلن، اليوم الخميس، أنه “أحبط تهديداً جوياً في منطقة البحر الأحمر”.
مضيفاً أنه “لأول مرة منذ بداية الحرب نُفذ اعتراض عملياتي من خلال منظومة حيتس الدفاعية للمدى الطويل”.
وتابع: “تم اعتراض صاروخ أرض أرض أطلِق باتجاه أراضي دولة إسرائيل من منطقة البحر الأحمر من خلال منظومة السهم- حيتس للمدى الطويل”.
#عاجل سلاح الجو أحبط تهديدًا جويًا في منطقة البحر الأحمر؛ لأول مرة منذ بداية الحرب نُفذ اعتراض عملياتي من خلال منظومة “حيتس” الدفاعية للمدى الطويل 🔴
تم اعتراض صاروخ أرض أرض أطلِق باتجاه أراضي دولة إسرائيل من منطقة البحر الأحمر من خلال منظومة السهم-حيتس للمدى الطويل.
وتابعت…
— افيخاي ادرعي (@AvichayAdraee) October 31, 2023
وسبق أن أعلنت الولايات المتحدة أنها اعترضت 3 صواريخ فوق البحر الأحمر، كانت متجهة نحو إسرائيل.
واتهمت واشنطن المليشيات المدعومة من إيران في اليمن بالمسؤولية عن إطلاق تلك الصواريخ.
الأردن يطلب الحماية
إلى جانب السعودية، يقع الأردن ضمن دائرة الخطر، بسبب قربه الجغرافي من الحرب الدائرة في غزة، وسط تحذير مسؤوليه من مغبّة امتداد الصراع للأرضي الأردنية.
إذ طلبت عمّان من الولايات المتحدة نشر منظومة الدفاع الجوي “باتريوت” على أراضيه ومنظومة أخرى لمقاومة الطائرات المسيّرة، التي تهدده من جميع الاتجاهات.
وقال الناطق باسم الجيش الأردني العميد الركن، مصطفى الحياري، أمس الاثنين، إن الطلب المتعلق بـ”باتريوت” يرتبط بـ”التهديدات التي تحيط بنا من كافة الاتجاهات”، ومنها “الصواريخ البالستية”.
وأضاف: “باتريوت أفضل سلاح لمواجهة هذا التهديد، وخاصة أنه دفاعي ويستخدم للدفاع عن الأراضي فقط”.
واعتبر أن “القرار الاستراتيجي للمملكة الأردنية الهاشمية هو التحالف مع قوة عظمى هي الولايات المتحدة، في تحالف عمره أكثر من 72 عاماً، وسط محيط ملتهب حول الأردن”.
وأوضح أن “هذا التحالف انعكس إيجاباً على الأردن وأمنه الوطني وعلى سمعة ورفعة القوات المسلحة”.
ولدى الأردن مئات المدربين الأمريكيين في البلاد، وهي واحدة من الحلفاء الإقليميين القلائل الذين يجرون تدريبات مكثفة مع القوات الأمريكية على مدار العام.
ويعد الجيش الأردني أحد أكبر المستفيدين من التمويل العسكري الأجنبي من واشنطن، والذي يصل إلى مئات الملايين من الدولارات.
مصر ساحة محتملة
بسبب موقعها قرب الحدود مع إسرائيل وغزة، تعرضت مصر لاستهدافين اثنين أحدهما “عن طريق الخطأ”، على هامش الحرب التي تشنها إسرائيل في قطاع غزة.
إذ أعلنت مصر عن انفجار “جسم غريب”، الجمعة الماضي، في مدينة طابا المصرية جنوبي سيناء، ما أسفر عن إصابة وقوع 6 إصابات.
وفي توضيح للحادثة، قال الجيش المصري إن الجسم الذي انفجر هو طائرة مسيرة بدون طيار “مجهولة الهوية”، سقطت بجوار أحد المباني قرب مشفى طابا.
وأضاف في بيان له أن الحادث “أسفر عن إصابات طفيفة العدد (6 أفراد)، وتم خروجهم من المستشفى بعد تلقي الإسعافات اللازمة”.
إلا أن إسرائيل قالت إنها على علم بوقوع “حادث أمني” قرب حدودها مع مصر، على البحر الأحمر.
وقال المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي دانيال هاجاري إن الضربة التي وقعت في مصر كانت نتيجة تعامل إسرائيل مع “تهديد جوي” في منطقة البحر الأحمر.
وأوضح: “رصدنا في الساعات القليلة الماضية تهديداً جوياً في منطقة البحر الأحمر. وأرسلنا طائرات هليكوبتر قتالية للتعامل مع التهديد، ويجري الآن التحقيق في الأمر”.
مضيفاً في مؤتمر صحفي أن “الضربة التي وقعت في مصر كانت نتيجة لهذا التهديد”.
وتحدث المسؤول الإسرائيلي عن رفع مستوى التنسيق مع مصر والولايات المتحدة من أجل “تعزيز الدفاعات الإقليمية في مواجهة التهديدات القادمة من منطقة البحر الأحمر”.
وسبق أن وقعت حادثة مشابهة في مصر منذ بدء التصعيد على غزة، حيث وقع انفجاران خلال أقل من 24 ساعة، قرب معبر رفح الحدودي بين مصر وقطاع غزة من الجانب المصري.
وجاء ذلك بعد ساعات من دخول أول قافلة مساعدات إلى غزة، الأسبوع الماضي.
واعترفت إسرائيل حينها بمسؤوليتها عن الحادثة، وقالت إنه تم “عن طريق الخطأ”.
وبحسب بيان للجيش الإسرائيلي فإن دبابة إسرائيلية أصابت موقعاً مصرياً بالقرب من الحدود.
وقدم اعتذاره لمصر بسبب هذا “الخطأ”.
ويرى محللون أن التصعيد الحاصل يواجه خطر التوسع، خاصة في حال قررت إسرائيل بدء غزو بري لقطاع غزة.
فيما يرى آخرون أن احتمال الدخول في “صراع كبير” غير وارد حالياً، وقد يبقى في سياق المناوشات.
———————–
الصحافة في مرمى النار/ غطفان غنوم
تقول منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) إن الأسبوع الأول من الحرب، التي اندلعت مؤخرًا في شرق المتوسط، كان الأكثر فتكًا بالصحفيين مقارنةً بأي نزاع آخر في الآونة الأخيرة.
وفقًا لمدير المنظمة أودري أزولاي، لم تكن هذه المهنة قد دفعت هذا الثمن الباهظ في فترة زمنية قصيرة بهذا القدر.
الحرب التي تشنها اسرائيل مدعومة من الغرب الأوروبي والأمريكي على قطاع غزة في فلسطين المحتلة أسفرت عن استشهاد ما لا يقل عن 23 صحفيًا حتى الرابع والعشرين من شهر تشرين الأول/أكتوبر، وفقًا لتقرير من منظمة حماية الصحفيين الأمريكية.
كانت الحرب قد بدأت بعد إطلاق منظمة حماس الفلسطينية هجومها الذي أسمته طوفان الأقصى، في مفاجأة عسكرية كبرى هزت الكيان الصهيوني وشكلت صدمة للاستخبارات الاسرائيلية.
لقي ثلاثة صحفيين اسرائيليين حتفهم، واستشهد تسعة عشر صحفيًا فلسطينيًا، وصحفي لبناني واحد، بينما تعرض للإصابات ثمانية صحفيين، وقيل إن ثلاثة منهم في عداد المفقودين.
وفقًا لعائلته، وبحسب المنظمة السابقة، فقد أصبح المصور الإسرائيلي روي إيدان وابنته البالغة من العمر ثلاث سنوات رهائن عند حماس التي سبق وأن أفرجت عن عدد من المحتجزين، كبادرة طيبة لتحسين الصورة الإعلامية المضللة التي تبنتها وسائل الإعلام والصحافة الغربية، متهمةً حماس بقطع رؤوس الأطفال وممارسة الإرهاب بحق الرهائن، وهذا ما تم دحضه لاحقًا.
أما من ناحية الجيش الاسرائيلي فقد اعتقل المصور الفلسطيني نضال الوليد، في سلوك ليس بغريب على الاحتلال الذي درج على ذلك منذ زمن بعيد.
أدان كريستوف ديلوار الأمين العام لمنظمة “مراسلون بلا حدود” هذه الأحداث المأساوية، حيث لم يتم التأكيد مما إذا كان جميع الصحفيين قد لقوا حتفهم أثناء العمل.
ورغم تلك الإدانات الخجولة فقد بات واضحًا وجليًا أن الانحياز الغربي الوقح لصالح الكيان صحفيًا وإعلاميًا قد ضرب عرض الحائط بأبسط القواعد المهنية للصحافة الحرة والنزيهة.
تشدد منظمة حماية الصحافة، على أن الصحفيين هم مدنيون يقومون بعمل مهم في أوقات الأزمات، ويجب ألا يكونوا هدفًا للصراع، وفقًا لشريف منصور، المدير التنفيذي للمنظمة في المنطقة، غير أن حال الواقع يقول شيئًا مختلفًا.
وربما لا يصف هذه الوحشية الاسرائيلية التي لا تميز مدنيًا أو صحفيًا أي كلام، كالكلام الذي قاله المراسل المفجوع بابنه وابنته وزوجته نتيجة استهدافهم، وائل الدحدوح: “عم ينتقموا منا بأولادنا، معليش”.
تمتلك منظمة حماية الصحافة معلومات غير مؤكدة عن مزيد من جرائم القتل والاختفاءات والاعتقالات والإصابات والتهديدات الموجهة ضد الصحفيين، بالإضافة إلى تلف منازل وأماكن عمل الصحفيين في فلسطين وإسرائيل ولبنان. وبحسب منصور، سوف يتم التحقيق بها في جميع الحالات.
يعمل الصحفيون في قطاع غزة في ظروف خطيرة للغاية، بينما تواصل إسرائيل غاراتها الجوية، وتم قطع خطوط الاتصالات وتعطيل الكهرباء بشكل دوري ممنهج، وهناك نقص حاد في المياه والوقود، مع البدء بشن الهجوم البري من قبل إسرائيل.
معظم الصحفيين الذين قتلوا كانوا يعملون لوسائل إخبارية فلسطينية أو عربية، الاستثناء الوحيد كان المصور اللبناني لوكالة رويترز عصام عبد الله، الذي استشهد عند الحدود اللبنانية بصاروخ أطلق من الجانب الإسرائيلي، وذلك بحسب شهود عيان لوكالة رويترز.
من الجدير بالذكر أن قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2222 يؤكد أن الصحفيين الذين يقومون بتغطية النزاعات وغيرهم من المحترفين في المجال، يجب أن يُعاملوا ويتم حمايتهم كمدنيين.
الحرب ما زالت في أوجها، والخسائر لم تكشف عن نفسها وهولها بعد، وفي ظل كل هذا التزييف الإخباري والانحياز العالمي غير العادل لرواية الكيان الصهيوني وفشل الأمم المتحدة في تطبيق وفرض قرارها الأخير الذي وافق الأعضاء بأغلبيتهم على وقف النار وفرض هدنة وفتح مجال الإغاثة للمدنيين، لا يسعنا سوى الشجب المستمر والإدانة، والتذكير بأن الكلمة سلاح فعال في المعارك، ولولا أنها كذلك لما تم استهداف الصحافة والصحفيين.
الترا صوت
———————-
بيان من حزب الشعب الديمقراطي السوري
لأسبوعين وأكثر؛ يتعرّض قطاع غزة المحاصر من قبل إسرائيل لحرب إبادة جماعية، وفق سياسة الأرض المحروقة والعقاب الجماعي. تدميرٍ وحشيٍّ ممنهج يفتك بأرواح سكانه المدنيين، بمن فيهم الأطفال والنساء، إنها مقتلة علنية وجريمة حرب موصوفة ضد الشعب الفلسطيني، تستحضر زمن المحارق البشرية، لشعب يعاني من الاحتلال والاضطهاد والتنكيل الإسرائيلي منذ عقود، بتجاهل تام للقرارات الأممية بشأن القضية الفلسطينية، وبانتهاك صارخ لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني.
القطاع كله بات ساحة قصف وحشي من قبل إسرائيل، حيث لا توجد ملاجئ تحمي الغزاويين، الذين قطعت عنهم كل مقومات الحياة حتى البسيطة منها، كالطعام والماء والكهرباء والغاز والمحروقات والأدوية …، ولا تتوانى إسرائيل عن قصف الأبراج والمساكن والمساجد والكنائس والمؤسسات والمشافي والطواقم الطبية، والإيعاز للمنظمات الدولية بإغلاق مقراتها ومغادرة القطاع، وإغلاق المعابر، ما يُنذر بفاجعةٍ أكبر.
إنها نكبة ثانية، لا تترك للفلسطيني سوى أحد خيارين كارثيين: إما الموت مع عائلته تحت الأنقاض، وإما التهجير القسري، وذلك تحت سمع ونظر عالم لا يجرؤ على إدانةٍ تغصب الكبار وانحيازهم في هذا الكوكب الموشك على التفسخ القيمي، والذي يراقب هذه الجرائم بصمت مخزٍ، يلامس حدود التواطؤ.
يجب إيقاف هذه الوحشية ضد المدنيين، هذه المطحنة التي تأخذ في طريقها أطفالاً ونساءً وآمنين داخل بيوتهم، باتوا يحلمون فقط بالتعرف على جثثهم بعد موتهم، فيكتبون أسماءهم وأرقام هوياتهم على أيديهم.
حرب ستظلُ تدين الولايات المتحدة الأمريكية والدول الداعمة لإسرائيل، وجميع الأطراف التي افتعلتها وتغذيها؛ لزمن طويل؛ ولابدَّ من حراك عربي عالمي مؤثر؛ يسعى إلى تجريم إبادة الضعفاء. ومناصرة حق الحياة وحقّ تقرير المصير،
فبعد ثلاثة عقود من إبرام اتفاقية أوسلو بين الفلسطينيين والإسرائيليين برعاية دولية فاعلة، وبعد أكثر من عشرين عاماً على مبادرة السلام العربية، التي أقرت مشروعاً لمعالجة القضية الفلسطينية والصراع العربي – الإسرائيلي، تستمر إسرائيل باحتلال الأراضي العربية وإنشاء المستوطنات. وانتهاك حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة، وخاصة حقه بإقامة دولته المستقلة، رغم اعتراف هيئة الأمم المتحدة والمجتمع الدولي بذلك. بالتالي ليس لأحد أن ينكر على الفلسطينيين حقهم في مقاومة الاحتلال.
إن ما يجري في غزة وما حولها؛ يحمل مؤشرات خطر التفجر، ويهدد باتساع رقعة الحرب، وانهيار الأمن والاستقرار في المنطقة برمّتها، وانزلاقها إلى نفق مظلم. وهو ما يستوجب حضور الموقف العربي اللائق والداعم، الذي يستحقه الشعب الفلسطيني وتضحياته وطموحاته الوطنية، وخطورة مآلات هذه الحرب الظالمة. كما يرتب على المجتمع الدولي والمؤسسات الإنسانية والإغاثية مسؤولية كبيرة لمساعدة شعب يتلوى في فم حرب وحشية مجهولة النتائج.
نحن في حزب الشعب الديمقراطي السوري؛ ندين صمت وتواطؤ المجتمع الدولي وتخاذل العرب أمام جرائم النازية الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني في غزة، وما يستتبعه من تهجير قسري لأهاليها. وندعو الأخوة الفلسطينيين بكل الحرص والقوة؛ إلى قراءة نقدية لتجربتهم المريرة، ونبذ الفرقة والانقسام والمقولات والشعارات الأيديولوجية التي أوصلتهم إلى هذه الكارثة، إن الوحدة الوطنية الفلسطينية وقرارها الموحد؛ هما الضمانة الأكيدة لنجاح أي خطوة تقوم بها المقاومة الفلسطينية على طريق حق تقرير المصير. والبحث عن أشكال نضالية جديدة، تحقق إرادتها وتحافظ على قرارها الوطني المستقل بسحب قضيتها من أيدي المستغلين مثل ملالي طهران والحكام المستبدين الذين دمروا القضية والبلاد، ويستثمرون في دماء أهل غزة ودمارها، ونشروا وينشرون ثقافة الموت والعنف؛ بديلاً عن ثقافة الحياة في المنطقة.
لابدَّ من الإشارة والتأكيد إلى أن أي عمل مقاوم؛ يفقد استراتيجيته وأهدافه ومشروعيته؛ عندما ينخرط في أجندات الدول ومصالحها المتبدلة. مما يستدعي الحرص والحذر من إمكانية استثمار الدم الفلسطيني في غير موقعه. وعلينا التعامل مع القضية الفلسطينية كقضية نضالية وطنية وعربية؛ تعمل لتحصيل حقوق شعبها وحياته الكريمة، وربطها بالحرية والكرامة والعدالة مع الشعوب العربية.
دمشق 22 /10 / 2023
الأمانة المركزية
لحزب الشعب الديمقراطي السوري
——————————-
========================
تحديث 28 تشرين الأول 2023
حصاد السلام الإبراهيمي في حرب غزة/ صادق عبد الرحمن
خلال زيارته القصيرة جداً إلى الإمارات العربية المتحدة في 14 تشرين الأول (أكتوبر) الجاري، خصّصَ وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن وقتاً لزيارة البيت الإبراهيمي في أبو ظبي، وقال عنه في تغريدة إنه «شهادة حقيقية على التزام دولة الإمارات بالتعايش السلمي بين الديانات الإبراهيمية، وهذا هو ما ينبغي أن يبدو عليه مستقبل المنطقة». جاءت تلك الزيارة في سياق جولة بلينكن في المنطقة العربية بعد عملية طوفان الأقصى وما تلاها من عدوان إسرائيلي مفتوح على غزة، وكان هدف الزيارة الواضح هو حشد كل دعم ممكن لعملية عسكرية إسرائيلية تهدف لإنهاء حركة حماس.
نستطيع أن نستنتج من تخصيص وقت للبيت الإبراهيمي، في زيارة من ساعات قليلة تهدف للتعامل مع حدث تنزف فيه دماء الآلاف على جانبي الصراع، أن بلينكن ومُستضيفيه في الإمارات يرون أن الحروب الإسرائيلية العربية المستمرة منذ عقود ناتجة عن سوء تفاهم ديني، وأنها يمكن أن تتوقف بنشر التسامح الديني في المنطقة والعالم. في هذا التوصيف بعض الاختزال الساخر لكنه ليس نسخة كاريكاتورية تماماً عن رؤيتهم تلك، فاتفاقات السلام العربية الإسرائيلية التي افتتحتها دولة الإمارات في آب (أغسطس) 2020 حملت اسم إبراهيم، النبي الذي تتفق عليه الديانات السماوية الثلاث، وسارت على «النهج الإبراهيمي» بعدها دول البحرين ثم السودان ثم المغرب، في اتفاقات مع إسرائيل تم إبرامها في العام نفسه.
إذن، بالإضافة إلى الإيحاء اللغوي بأن الصراع يمكن اختزاله إلى بُعده الديني، كان عرّابو الاتفاقات الإبراهيمية في واشنطن وتل أبيب وأبو ظبي يتحدثون عنها بوصفها بوابة سلام في المنطقة كلّها، لكن ما الذي حلّ بتلك البوابة اليوم؟
وعود السلام الإبراهيمي
عربياً، حاولت الإمارات تقديم الاتفاق على أنه ليس فقط فرصة للتعاون الاقتصادي والاستقرار في المنطقة، بل أيضاً أن فيه توسيعاً لقدرة العرب على الضغط على إسرائيل لصيانة حقوق الفلسطينيين. قالت النسخة العربية من بيان إماراتي إسرائيلي أميركي مشترك إن الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي أدّى إلى «وقف» خطط إسرائيل لضمّ مساحات من الضفة الغربية، وقال أنور قرقاش وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية إن «خطة الضم الإسرائيلية كانت ستقضي تماماً على حلّ الدولتين». سيتبيّنُ أن النسخة الإنكليزية من البيان الثلاثي استخدمت كلمة «تعليق» بدلاً من «وقف»، وسيُعلن نتنياهو لاحقاً أن خطط الضم تم تأجيلها فقط، دون أن يستدعي ذلك أي تغيير في خطة السلام من جهة الإمارات.
بعد أقل من شهر جاء الاتفاق البحريني الإسرائيلي، الذي تضمّنَ بيانُه المشترك كلاماً عن سعي البحرين لـ«سلام عادل وشامل، كخيار استراتيجي، وفقاً لحلّ الدولتين»، فيما فاضت الصحف البحرينية شبه الرسمية بالدفاع عن الاتفاق، بل والقول إن سياسة البحرين تصبّ في مصلحة القضية الفلسطينية.
بعدها، في تشرين الأول (أكتوبر) من العام نفسه، تم الإعلان عن اتفاق لتطبيع العلاقات بين السودان وإسرائيل، لكنه لم يترافق بالكثير من التبشير بـ«السلام»، أولاً بسبب عدم استقرار الحكم في السودان وثانياً لأنه لم يكن اتفاقاً ناجزاً، فالأخير «ستتخذه المؤسسات التشريعية عقب اكتمال تكوينها» بحسب وزير الخارجية السوداني وقتها عمر قمر الدين. ثم في كانون الأول (ديسمبر) تم الإعلان عن تطبيع كامل للعلاقات المغربية الإسرائيلية، في صفقة يبدو أن طرفها الآخر كان الولايات المتحدة وليس إسرائيل نفسها، إذا أعلن ترامب في اليوم نفسه اعتراف الولايات المتحدة بسيادة المغرب على الصحراء الغربية.
في الحقيقة، ورغم كل الكلام الذي رافق هذه الاتفاقات عن سلام شامل ومبادئ إنسانية وتسامح ديني، كانت الروح الطاغية على تلك الاتفاقيات هي تلك التي يُمثِّلها ترامب كرجل أعمال ناجح وتُمثِّلها الإمارات كميدان صفقات ناجحة، كما لو أنها صفقات مالية يمكن إحصاء أرباحها المُحتمَلة رياضياً. لكن حتى بهذا المعنى، هل فكّرَ أطرافُ الصفقة ملياً في خسائرها المُحتملة؟ لعلّهم فعلوا فقرروا ألّا يأخذوا في اعتبارهم أكثر من الربح العاجل الذي بدا مؤكّداً بالنسبة لهم كلٌّ من موقعه. ترامب يدخل التاريخ كصانع سلام ويُحسّن حظوظه في البقاء في البيت الأبيض، واليمين الإسرائيلي يكسب أمام جمهوره على كل صعيد، وحكّام الإمارات والبحرين يحسّنون موقعهم في مواجهة إيران ويصبحون أكثر حظوة في الولايات المتحدة، والعسكر في السودان يُمكِّنون موقعهم في سلطة ضعيفة، والمغرب ينتزع اعترافاً أميركياً بسيادته على الصحراء الغربية.
لكن يبدو أن السعودية فكّرت في الأمر إلى أبعد من ذلك بقليل، ولعلّها اتخذت موقعاً مختلفاً في المسار الإبراهيمي لهذا السبب.
محطة إبراهيم الخامسة
كانت المحطة الخامسة في السعودية، التي حرصت منذ البداية على اتخاذ موقع متمايز عن الإمارات في هذا الملفّ، حتى أن التصريحات السعودية بعد الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي قالت إنه «لا تطبيع مع إسرائيل دون سلام مع الفلسطينيين». لكن مسار التطبيع السعودي الإسرائيلي عاد إلى الواجهة في 2023، وتحدَّثَ ولي العهد السعودي قبل أقل من شهر من عملية طوفان الأقصى عن أن المباحثات مستمرة مع إسرائيل، قائلاً إن هذا المسار «يحقق تقدّماً» في مقابلة مع فوكس نيوز في 21 أيلول (سبتمبر) الماضي.
كانت السعودية أكثر حزماً في ربط مسارها للسلام مع إسرائيل بحلّ للقضية الفلسطينية، وفي المقابلة مع فوكس نيوز قال بن سلمان إن الاتفاق المُحتمَل: «يجب أن يمنح الفلسطينيين احتياجاتهم ويجعل المنطقة هادئة». وليس هناك ما يثبت أن القيادة السعودية كانت جادة فعلاً في عدم توقيع اتفاق دون حلّ للقضية الفلسطينية، لكن الأرجح أن القيادة السعودية كانت تريد مكاسب تتجاوز حسابات الربح السريعة، آخذة في الحسبان موقعها القيادي في العالم الإسلامي، وإلى جانب ذلك وربما قبله صراعها مع إيران، حتى أن برنامجاً نووياً سعودياً محتملاً كان في صلب المباحثات، وذهبت تحليلات إلى أن هذه المسألة كانت البند الأساسي فيها. في المقابلة مع فوكس نيوز، قال بن سلمان إنه إذا حصلت إيران على سلاح نووي فيجب أن تحصل السعودية عليه «لأسباب أمنية».
جاءت عملية طوفان الأقصى بعد أقل من ثلاثة أسابيع على مقابلة بن سلمان، وأعقبتها حرب إسرائيلية وحشية إبادية الطابع على قطاع غزة. أدّى ذلك إلى إعلان السعودية إيقافها مباحثات التطبيع مع إسرائيل بالتزامن مع زيارة بلينكن إليها في سياق جولته إياها في المنطقة، وذلك بعد يوم واحد من بيان سعودي يرفض تهجير الفلسطينيين ويُدين مذابح إسرائيل في غزة.
الطوفان
طوال الوقت، كان الخطاب المُرافِقُ لـ«المساعي الإبراهيمية» يتحدث عن سلام سيجلب ازدهاراً اقتصادياً على المنطقة، وكان المعلقون المحسوبون على الأنظمة العربية الساعية لتوقيع اتفاقيات سلام يُذكِّرون مراراً بحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة كلازمة تتكرر في الخلفية، ودون إعلان سياسة واضحة بشأنها. ثم جاء يوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، والمذابح التي أعقبته، ليكون اختباراً حاسماً لفعالية المشروع الإبراهيمي.
الدرس الأول الذي يمكن استخلاصه من مآل مشروع السلام بشكله الإماراتي الترامبي أنه يكاد لا يعني شيئاً خارج المكاسب السريعة المذكورة أعلاه، فقد كانت الفعالية السياسية للإمارات قريبة من الصفر، ولم تترك علاقات الإمارات والبحرين والمغرب مع إسرائيل أثراً على مسارات الحرب أو المساعي لتسويات مُحتمَلة (السودان خارج احتمالات التأثير بينما يعاني شعبه جراء صراع البرهان-حميدتي على السلطة)، بل العكس، يبدو أن هذه الاتفاقات بالذات عطّلت كل قدرة إماراتية على التأثير.
بالمقابل، بدت السعودية أكثر تأثيراً في حرب غزة من بقية دول المسار الإبراهيمي، وهي التي كانت أكثر تأنيّاً في السير على طريقهم، فيما كانت المواقف المصرية الأردنية الرافضة لتهجير الفلسطينيين حاسمة لجهة تعطيل مساعي إسرائيل على هذا الصعيد، وكانت مدعومة على طول الخط بالموقف السعودي الواضح بهذا الشأن.
وطبعاً، لم تفعل السعودية ومصر والأردن ما يمنع إسرائيل من مواصلة حربها الهمجية، ولم تضغط بكل ما لديها من قوة وأوراق على الولايات المتحدة لمنعها من تقديم دعم مفتوح لحرب الإبادة الإسرائيلية، لكن المقصود أن مسار السلام الإبراهيمي، الذي يقوم على تسويق إسرائيل في المنطقة تحت شعارات التسامح الديني والمصالح الاقتصادية، دون أن يقع على عاتق إسرائيل تقديم أي شيء على الصعيد السياسي بالمقابل، هو مسارٌ عقيمٌ على كل صعيد، حتى على صعيد تأثير هذه الدول في مآلات الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. لم تمنح الاتفاقات الإبراهيمية أصحابها العرب قدرة أعلى على التأثير في السياسات الأميركية والإسرائيلية، بل تشرح الأيام الماضية أن العكس هو ما حصل.
لا شكّ أن دروساً كثيرة ينبغي استنتاجها من عملية السابع من تشرين الأول (أكتوبر) وما تلاها، ومن أبرزها أنه لا يمكن بناء سلام في المنطقة عبر تجاهل حقوق الفلسطينيين، وأنه لا يمكن أن تزدهر المنطقة بينما يتم الدوس على حقوق وكرامات الملايين من سكّانها بالعنف والقتل والطائرات الحربية، وأنَّ كل «اتفاق سلام» مع إسرائيل لا يُجبرها على تقديم تنازلات حقيقية لا معنى له خارج المكاسب المحدودة والمؤقتة لأطرافه.
لا يتعلق الأمر بأن لدى الدول العربية واجباً «قومياً» تجاه الفلسطينيين، ولا واجباً دينياً، ولا حتى واجباً إنسانياً أو أخلاقياً، وبالطبع هو لا يتعلق بالموقف من حماس وخطابها وأساليبها وتحالفاتها، بل يتعلق بحقيقة أنه تمت إقامة دولة يهودية بالقوة في قلب المنطقة وعلى حساب الشعب الفلسطيني وشعوب الدول العربية المجاورة له، وأن مأساة الشعب الفلسطيني لا تزال مفتوحة في كل مكان يوجد فيه فلسطينيون داخل الأراضي الفلسطينية وخارجها، وأنه بدون إنهاء هذه المأساة فإن كل سلام وازدهار إقليمي هو مجرّد وهم في رؤوس أصحابه.
لكن لعلّ القادة وصانعي السياسات في دول «السلام الإبراهيمي» لا يسعون للسلام والازدهار أصلاً، بل يسعون إلى مكاسب لحظية ينفقونها في تحصين مواقعهم السياسية، بالمعنى الضيق للتحصين وبالمعنى الضيق للمواقع السياسية. الأرجح أن الأمر كذلك، ولهذا فإن الكلام أعلاه ليس مُوجَّهاً لهم، لكن لعلّه يكون مفيداً للتذكير بأن القضايا السياسية الكبرى لا يتمّ حلّها بتجاهلها أو القفز فوقها، وبأنه كلّما تمّ دفنها بالتجاهل فإنها ستعود لتنفجر في وجوه الجميع. هذا صحيحٌ بشأن فلسطين، وصحيحٌ أيضاً بشأن القضية الكردية، وهو صحيحٌ كذلك بشأن القضية السورية التي يحاول «الإبراهيميون» أنفسهم دفنها بالتطبيع مع بشار الأسد.
موقع الجمهورية
———————–
فرنسا والعقدة الإسرائيلية: «الفلسفة» خلف تخبّط الدبلوماسية/ صبحي حديدي
حال التخبط التي تطبع المواقف الفرنسية الرسمية إزاء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة لا تحتاج إلى إمعان في التفصيل والتحليل: تكفي المقارنة بين 1) ارتجال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تلك الفكرة الركيكة حول انخراط التحالف الدولي ضد «داعش» (الأمريكي/ البريطاني أساساً، ومشاركة فرنسا فيه لا تختلف كثيراً عن حضور دولة مثل الفلبين أو البوسنة والهرسك!) في القتال ضدّ «حماس»؛ و2) خطبة وزيرة الخارجية الفرنسية أمام مجلس الأمن الدولي (التي دعت إلى هدنة إنسانية تمهد لوقف إطلاق النار)؛ و3) بيان رئيسة الحكومة الفرنسية إليزابيث بورن أمام الجمعية الوطنية/ البرلمان (هدنة إنسانية أيضاً). وللمرء أن يضيف وجهة رابعة إلى هذا التخبط، في مساعي قصر الإليزيه للتخفيف من سخف فكرة ماكرون، ثمّ تصريحات الرئيس نفسه خلال لقاءات تالية مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس والملك الأردني عبد الله والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
بيد أنه انحطاط على صعيد دبلوماسي، يتناغم تماماً مع أنساق انحطاط أخرى عديدة شهدتها وتشهدها أصعدة إعلامية رسمية وخاصة، وأخرى قانونية وقضائية وإدارية، وثالثة رقابية وأمنية تختلط فيها دوافع الانحياز للرواية الإسرائيلية وحربها الهمجية ضدّ القطاع وأهله، بحوافز كتم أي صوت مخالف وتأثيم أي موقف متعاطف مع الشعب الفلسطيني حتى في أدنى المستويات الإنسانية. شهد الفرنسيون اضطرار وزير الداخلية إلى الانحناء أمام رأي مجلس الدولة، الذي طعن في الحظر المطلق لتظاهرات التأييد للفلسطينيين؛ وتراجعه بصدد اتهام لاعب كرة القدم كريم بنزيمة بالانتماء إلى حركة الإخوان المسلمين، لاعتبار جوهري قاطع في ناظر شرطي فرنسا الأوّل هو تعاطفه مع الضحية الفلسطينية. كذلك تابع أحفاد فولتير تفاصيل زيارة العار التي قامت بها ممثلة السلطة الرابعة في هرم الديمقراطية الفرنسية، رئيسة البرلمان الفرنسي يائيل برون بيفيه، إلى غلاف غزّة المحتل، وإعرابها عن دعم «لامحدود» لدولة الاحتلال؛ صحبة وفد لا ينحاز أفراده إلى الاحتلال بصفة مطلقة فقط، بل يلجأ أحدهم (مائير حبيب) إلى تصنيف عنصري منحط للعرب وللفلسطينيين.
ولا عجب في خضمّ هذه الأنساق من التخبط أن تحضر «الفلسفة» الفرنسية، بل لا يصحّ أصلاً ألا تحضر جرياً على عادتها كلما اتصل الأمر بالكيان الصهيوني: صاخبة جوفاء منحازة عمياء؛ على ألسنة رهط الثلاثي المنضوي تحت مسمى»الفلاسفة الجدد» ألان فنكلكراوت وأندريه غلوكسمان وبرنار ـ هنري ليفي. ولأنّ تسعة أعشار أفكارهم بصدد الحرب الإسرائيلية الهمجية ضدّ قطاع غزّة ليست أكثر من تنويعات على حفنة محدودة تماماً من طرائق التعصّب المطلق للاحتلال، فإنّ هذه السطور سوف تكتفي بالتوقف عند فنكلكراوت؛ وليس، أيضا، لأنه كبيرهم الذي يعلّمهم (فلا علم أصلاً، ولا من يتعلّم) بل ببساطة لأنّ مظاهر انحيازه هي الأشدّ اقتراباً من الهستيريا. ثمة، إلى هذا، اعتبار آخر يبرر إفراده عن الثلاثي، مفاده أنه أكثرهم استسهالاً لاجترار المقولات ذاتها، جيئة وذهاباً إذا صحّ التعبير، وبصرف النظر عن ضحالتها تارة أو تسطيحها إلى درجة الإخلال الفاضح تارة أخرى.
وفي حوار مع أسبوعية «ماريان» الفرنسية، استخلص «الفيلسوف» هذا المآل المستعصي، من دون أن يكترث بتصنيفه تحت خانة العقدة غير القابلة للحلّ، أو حتى تلك التي تحتاج إلى سيف الإسكندر الأكبر على غرار العقدة الغوردية: «التعايش مع الفلسطينيين في دولة واحدة مستحيل، والانفصال مستحيل أيضاً». ذلك يعني أنّ سائر قرارات الأمم المتحدة، وجميع ما ينصّ عليه القانون الدولي حول الصراع العربي ـ الإسرائيلي والفلسطيني ـ الإسرائيلي، نافلة بحكم الأمر الواقع كما يشخصه «الفيلسوف» أو هي ببساطة لا قيمة لها ولا جدوى من مرجعيتها ما دامت استحالة التعايش هي المبدأ الناظم. في توسيع لهذه الفكرة/ العقدة: إذا كان المستحيل يسري على التعايش مع الفلسطينيين، فإنّ قواعد الإمكان (والترخيص والشرعية والمساندة) تنطبق على أيّ وكلّ سلوك تعتمده دولة الاحتلال في ممارسة الاستيطان والتمييز العنصري والإبادة والتطهير العرقي وترسيخ منظومات الأبارتيد…
لكنّ «الفيلسوف» خلال الحوار ذاته، يحار في العثور على تفسير ــ فلسفي أو سواه، سيّان ــ لمعطيات هذا المشهد التالي: «لماذا هذا العداء؟ لماذا الشارع العربي، من القاهرة وحتى الدار البيضاء، يمتلك كلّ أسباب التجنيد، ويصرخ بعدائه لهذه الأمّة الصغيرة [دولة الاحتلال]؟ لماذا جماعات الـ Wokes الغربيون ينضوون الآن تحت راية حماس؟ لا جواب عندي». حقاً، لا جواب لدى «الفيلسوف» على أسئلة بالغة البساطة مثل هذه؟ وكيف عثر، بسهولة فاضحة، على إجابات لمطارحات أخرى ضمن الحوار ذاته، من طراز هذا التركيب الاستغفالي الصريح: الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزّة، أعطى «حماس؛ والانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، أعطى «حزب الله»؛ والانسحاب من الضفة الغربية، سوف يعطي الصواريخ والمذابح؛ حيث لا مجال عند «الفيلسوف» لأية وقفة، قانونية أو سياسية أو تاريخية، لمفردة الاحتلال الإسرائيلي، ولماذا في ظنّه يتوجب أن يبدو الانسحاب الإسرائيلي بمثابة أعطية كريمة؟
وإذْ تسير هذه «الفلسفة» عامدة وعن سابق قصد اختزالي وتصميم تضليلي، خلف التخبط الرسمي كما تجلى في المستويات العليا لهرم السياسة في الجمهورية الفرنسية الخامسة؛ فإنّ حرص فنكلكراوت على وضع الـ Wokes ضمن أطراف التأييد لـ«حماس» يتجاوز صياغة نسق جديد من الانحياز الأعمى للكيان الصهيوني، فيبلغ شأو توريط شرائح من اليسار الأمريكي والغربي عموماً، ثمّ زجّ حركات احتجاج السود والأفرو ـ أمريكيين في بوتقة تأثيم ناقدي الاحتلال. فمن المعروف أنّ تيارات الـWokeism صعدت بقوّة في الولايات المتحدة ابتداء من سنة 2010، وتبلورت على نحو أوضح بعد احتجاجات فيرغسون سنة 2014 ونهوض شعار «حياة السود مهمة»؛ والتسمية صارت تشمل إحقاق الحقوق المدنية والجنسية مقابل أنماط التمييز العنصري والجندري، ولم يكن عجيباً أنها اكتسبت طابعاً يسارياً وتقدمياً استوجب محاربتها من أطراف يمينية وعنصرية شتى، ليس في أمريكا وحدها بل في أوروبا والغرب عموماً. وفي الربط بين الـ Wokes و«حماس» فإنّ فنكلكراوت لا يغرّد خارج سرب فرنسي دشّن تلاوينه يميني متطرف وعنصري وانعزالي وكاره للإسلام والمهاجرين عموماً مثل إريك ويمور؛ وانخرط فيه وزراء تحت إدارة ماكرون، أمثال وزيرة التعليم العالي السابقة فريديريك فيدال، ووزير التربية السابق جان ـ ميشيل بلانكير، ووزيرة التنوّع إليزابيت مورينو.
ولأنّ الشيء بالشيء يُذكر، في حزيران (يونيو) 2002، عند ذروة البربرية الفاشية الإسرائيلية ضدّ مخيّم جنين، كان إدغار موران (الفيلسوف وعالم الاجتماع المعروف) وسامي نير (الكاتب والوزير السابق) ودانييل سالناف (الكاتبة والأكاديمية)؛ قد وقّعوا في صحيفة «لوموند» الفرنسية، مقالاً مشتركاً بعنوان «إسرائيل وفلسطين: السرطان»؛ انتقدوا فيه سياسات أرييل شارون، واعتبروا أنّ طبيعة السرطان ناجمة عن اعتلال سياسي ـ أمني ينهض على الإخضاع والهيمنة. ولقد سارعت منظمتان مناصرتان للاحتلال إلى رفع دعوى قضائية ضدّ الثلاثة، ومعهم جان ـ ماري كولومباني رئيس تحرير «لوموند» يومذاك؛ ومرّت المحاكمة بأطوار الحكم والاستئناف والنقض، فانتهت إلى تبرئة الثلاثة. وتلك حال لم ترضِ «الفيلسوف» غنيّ عن القول، فكتب يسخر من الثلاثة ومناصريهم (كان في عدادهم أمثال بول ريكور، ريجيس دوبريه، جان بودريار، جيل مارتينيه، بيير نورا، ألان تورين، جياني فاتيمو، وبيير ـ فيدال ناكيه)؛ لأنهم لم يذكّروه إلا بقول شارل بودلير: «ما يثير السأم في فرنسا أنّ الجميع يتصرّفون مثل فولتير»!.
إذْ توجّب، في ناظره، أن يتصرفوا مثله، أو مثل… بنيامين نتنياهو!
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
القدس العربي
———————–
مناخ ما بعد 11أيلول/ بكر صدقي
ما أحجم عنه الرئيس الأمريكي بايدن، أو ربما نسي أن يقوله، قاله الفرنسي ماكرون حين دعا إلى إنشاء «تحالف دولي ضد حماس»! وذلك بتوسيع التحالف الدولي القائم ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
والحال أن هذا التحالف الذي يدعو إليه ماكرون قائم بالفعل منذ صباح يوم السابع من شهر أكتوبر الجاري، في أعقاب عملية «طوفان الأقصى» التي يبدو أنها هزت التحالف الغربي ليس أقل من إسرائيل نفسها، وإن لم يعلن ذلك رسمياً. فالتضامن المطلق مع «الضحية» المزعومة إسرائيل، والدعم المطلق بدوره لحربها الانتقامية ذات النوايا التوسعية والتهجيرية شبه المعلنة، جمعا كل الحكومات الأطلسية والقريبة منها، إضافة إلى تنميط وسائل الإعلام في تلك الدول وسيادة روح المكارثية التي تتهم أي انتقاد لإسرائيل، أو لمجازرها المتواصلة في غزة، بمعاداة السامية، ولا تتردد في إطلاق هذه التهمة على الناس على الشبهة، بسبب هوياتهم أو لون بشرتهم.
وفي اليوم التاسع عشر من حرب إسرائيل على أهالي غزة، بعد مقتل نحو سبعة آلاف فلسطيني، قسم كبير منهم من الأطفال والنساء، يرفض الرئيس الأمريكي الدعوات الخافتة لوقف إطلاق النار التي أطلقها بعض رؤساء الدول من خارج «التحالف» ويقول إن الحديث عن ذلك سابق لأوانه، بمعنى أنه لم يكتفِ بعد بكميات الدم الفلسطيني المراق، ويحث إسرائيل على المزيد.
بلغة هذا التحالف وإعلامه، لدينا ضحية بريئة، إسرائيل، كانت تعيش في أمان وسلام، وفجأة تعرضت لهجوم من وحش ضارٍ قتل مدنييها الأبرياء وقطع رؤوس أطفالهم واغتصب نساءهم وأخذ رهائن ليستخدمهم دروعاً بشرية. «العالم المتمدن» لا يفاوض الوحش الإرهابي، بل يستأصله ويقضي عليه. كل كلام غير هذا يعتبر، في عرف هذا التحالف، متعاطفاً مع الإرهابيين، وينبغي معاملته بالمثل. فكلما صدرت «هفوة» عن أي مصدر سياسي كقول أمين عام المنظمة الأممية غوتيريش إن «عملية حماس لم تأتِ من فراغ» مثلاً، تم إخراسه على الفور. هذا دأب كل الأنظمة الاستبدادية التي لا تقبل بأي نشاز يعكر صفاء روايتها عن الأحداث.
كل هذا مخيف. ويثير الكثير من التساؤلات. ترى متى يكتفي التحالف الغربي من قتل الفلسطينيين، أو كم يجب أن يبلغ عددهم؟ وهل لديه أي تصورات عن اليوم التالي بعد الحرب، ما دام أي من الناطقين باسم دوله لا يذكر أي شيء عن ذلك، مكتفياً بتكرار المطالبة بإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين «فوراً وبلا شروط» كأولوية قصوى، مع استمرار معزوفة حق إسرائيل «في الدفاع عن نفسها!». ومن ذلك قطعها للماء والكهرباء عن قطاع غزة التي تشكل جريمة حرب موصوفة، فلا ينبس قادة دول التحالف بكلمة عن هذه الجريمة، ناهيكم عن المطالبة بوقفها. أما المساعدات الإنسانية، من غذاء ودواء، التي وافق على إدخالها بعد أسبوعين على الحصار، فهي محدودة وتحت رقابة إسرائيل.
كل هذا مخيف أيضاً، لأن اليوم التالي الذي يريده الإسرائيليون مع تهجير سكان غزة جنوباً إلى ما وراء الحدود المصرية، لا نعرف ما هي «الأفكار» التي قد تطرح بشأنه على المستوى الدولي بعد وقف القتال. فعلى رغم أن كثيراً من الدول الأخرى بدأت ترفع صوتها بالحديث عن حل سياسي يؤدي إلى إقامة دولتين وفقاً لمسار أوسلو الذي قطعه المحتل الإسرائيلي منذ سنوات طويلة وبات نسياً منسياً، نرى أن الدولة الراعية لذلك المسار، الولايات المتحدة، لا تبدو معنية على الإطلاق بأي شيء عن حل الدولتين أو أي حل سياسي، ومن المحتمل أنها تمارس ضغوطاً على مصر لثنيها عن موقفها المتمثل برفض تهجير الفلسطينيين وتوطينهم في مصر. وقد كثرت التصريحات الغربية بشأن «موت حل الدولتين» وهو ما يعني أن أي «حل سياسي» قد تطرحه واشنطن وحلفاؤها من المحتمل ألا يختلف كثيراً عن أفكار «الحل النهائي» النازية ـ الإسرائيلية، التي يصعب أن تلقى قبولاً من خارج الدائرة المنحازة لإسرائيل. وهو ما يعني استمرار الصراع الوجودي في المنطقة.
ماذا عن الجبهة الشمالية التي كثرت التكهنات بشأنها على ضوء المناوشات اليومية بين حزب الله وإسرائيل، والضربات الإسرائيلية للأراضي السورية ومواقع جيش النظام في المنطقة المحاذية للحدود؟
معروف أن مفتاح تحريك هذه الجبهة في يد إيران التي تتعامل مع الصراع كلعبة شطرنج تحرك فيها بيادقها في التوقيت الذي تراه مناسباً. وواضح أنه لا إسرائيل ولا داعموها، واشنطن بخاصة، يريدون فتح جبهة جديدة قد تشغل الجيش الإسرائيلي عن مواصلة مقتلتها في غزة بالوتيرة نفسها. أما حزب الله فالمرجح أنه لا يرغب بتكرار تجربة «لو كنتُ أعرف» في حرب 2006 التي دمر فيها الطيران الإسرائيلي البنى التحتية في لبنان من شماله إلى جنوبه. الحلقة الأكثر ترجيحاً للتوسع في الحرب ضد إسرائيل، في هذا الوضع، هي الجبهة السورية التي تنتشر فيها قوات حزب الله، فنظام بشار لا أحد يأخذ برأيه لفتح الجبهة السورية من عدمه، والخراب السوري «يحتمل» المزيد منه. لذلك تدور أخبار لا يمكن التأكد من صحتها بشأن إرسال إسرائيل لتحذيرات إلى بشار الأسد وصلت حد التهديد باغتياله، إذا «سمح» بفتح الجبهة السورية. هذه المزاعم تصدر من إعلام محور الممانعة طبعاً، وله أهداف وظيفية لا تخفى على أحد. ولكن لا يستبعد بالطبع أن تكون إسرائيل قد هددته بضرب مواقع لقواته العسكرية أو مواقع لوجستية كالمطارات، الأمر الذي تقوم به فعلاً على أي حال.
كاتب سوري
القدس العربي
———————
المُهجّر والسيد: هل يمكن صياغة روايات أخرى عن «الضحايا»؟/ محمد سامي الكيال
لاقت المقابلة التلفزيونية، التي أجراها الإعلامي المصري باسم يوسف مع المذيع البريطاني بيرس مورغان، ردود فعل متنوّعة، ركّزت على كونها «الأكثر مشاهدة» وأوصلت «صوت القضية» إلى «الغرب». على الهامش انتقد بعض المعلّقين أداء يوسف، الذي وصفوه بالانفعالي، وربما المفتعل، إلا أن المقابلة في النهاية تمت بآليات «الإعلام الجماهيري» في الدول الغربية، خاصة الناطقة بالإنكليزية، ولا فائدة كبيرة من المطالبة بمستوى أعلى من الخطاب والأداء فيها. يترّقب المشاهدون حالياً الجزء الثاني من «المنازلة» بين يوسف وخصومه «الغربيين» الذين صار يجمعه بهم الآن ما يشبه المصلحة المشتركة: المزيد من أرقام المشاهدات العالية.
لا يمكن لوم يوسف بالتأكيد على اختياره هذا الأسلوب والمستوى من الحضور والتعبير، فهو يعمل ضمن مجاله الإعلامي في النهاية، أي الترفيه السياسي الساخر، إلا أن الملحوظ استعماله خطاباً آمناً بالمعايير «الغربية» فقد قدّم نفسه فرداً دون خطاب سياسي، مجرّد شخص من الشرق الأوسط، يعبّر عن غضبه وألمه من المظلمة الكبيرة، التي يتعرّض لها أقرباؤه، ويدعمها أشخاص، يمكن اتهامهم بالانتماء لليمين، مثل مورغان وبعض ضيوف برنامجه، وعلى رأسهم الكاتب الأمريكي بين شابيرو.
يدفع تقديم القضية الفلسطينية، والصراع العربي – الإسرائيلي عموماً، بوصفه «مسألة تتعلّق بالأقرباء» إلى كثير من التأمّل، فرغم أنه قد يلعب دوراً في «أنسنة القضية» وهو تعبير غير دقيق، يشير إلى إكساب القضايا العامة الطابع الفردي أو الشخصي، وسبق لكثير من الفاعلين السياسيين استخدامه، إلا أن بناء الخطاب بأكمله على هذا النمط من «الأنسنة» قد يضيّع كثيراً من التفاصيل المهمّة، بل العوامل التأسيسية، التي يحقّ للبشر أن يأخذوا فكرة ما عنها، حتى لو كانوا «مشاهدين» من مستهلكي «صناعة الترفيه» ومن أبسط الأمثلة عن ذلك قرارات مجلس الأمن، التي تخالفها دولة الاحتلال؛ أو انهيار عملية السلام في الأراضي الفلسطينية، وأسبابه. في كل الأحوال ليس يوسف أو القضية الفلسطينية وحدهما مَنْ يتم «أنسنته» بهذه الطريقة، بل كثير من الأفراد والقضايا الأخرى، مثل الثورة السورية، مسألة اللاجئين في الدول الغربية، الصراعات الداخلية في الدول العربية، وغيرها؛ وليس فقط في «صناعة الترفيه» بل على كل المستويات، بما فيها المستويات الأكاديمية. ربما لا تقتصر المشكلة على تضييع تفاصيل وعوامل أساسية، وإنما بنزع الصفة السياسية عن البشر في منطقتنا، خاصة لدى تقديمهم لـ»الغرب». لكن هل يجب أن يكون كل الناس سياسيين أو مسيّسين؟ وما المشكلة فعلاً في الإغراق في «أنسنتنا»؟
نزع الحق الكامن
يفترض مفهوم «السيادة الشعبية» الذي تنبني عليها جوانب أساسية من المنظومات السياسية الحديثة، أن البشر البالغين أعضاء في رابطة سياسية ما، تجعلهم «شعباً» مكوّناً من «مواطنين» وبالتالي فلهم حق سياسي، نظرياً على الأقل، في رسم السياسات العامة، أو رفضها والاحتجاج عليها. هذا الحق يبقى محفوظاً حتى لو قرروا عدم استخدامه، كأن لا يشاركون في الانتخابات، لعدم اهتمامهم بها؛ أو لا يتابعون الأحداث السياسية. وبالتالي فإنهم يتمتّعون بالصفة السياسية بالضرورة، ونزع هذه الصفة انتهاك لواحد من حقوقهم الأساسية، يترافق غالباً بإجراءات بالغة القسوة، مثل الإبادة والنفي والتهجير ونزع الجنسية.
تؤمّن المنظومات السياسية الأكثر ديمقراطية حقوقاً سياسية حتى للمهاجرين، واللاجئين السياسيين والإنسانيين، فرغم عدم تمتّعهم بـ»حقوق المواطن» إلا أن لهم الحق بالتعبير ضمن الحدود القانونية، والانضمام إلى التنظيمات السياسية الشرعية، وأحياناً التصويت في بعض الانتخابات المحلّية، بوصف ذلك جانباً من حقوقهم الإنسانية التي لا يمكن نزعها، والتي تحوي بدورها مضموناً سياسياً.
يمكن إذن اعتبار «الأنسنة» الشاملة لمجموعات بشرية بأكملها، على مستوى المؤسسات الثقافية والإعلامية، نزعاً معنوياً لما يمكن تسميته «الصفة السياسية الكامنة». إذ تفضّل تلك المؤسسات غالباً استقدام أفراد يقدّمون خطاباً شديد الشخصانية عن القضايا العامة في بلدانهم، حتى لو كانوا فاعلين سياسيين، أو مثقفين، أو إعلاميين. وقد دخل هذا، لكثرة تكراره، بل ولارتباطه ببرامج دعم و»تمكين» كثيرة، في التصورات العامة عن «مخاطبة الغرب» في المخيّلة الثقافية العربية.
قد تكون شخصنة القضايا العامة نمطاً أيديولوجياً سائداً إلى حد ما في كثير من الدول الغربية، مع بروز ما يُعرف بـ»سياسات الهوية» والنزعة الذاتية/الفردانية في مختلف القضايا، وهو ما دفع مفكرين كثيرين لانتقاد ما وصفوه بـ«حلول الإدارة مكان السياسة» أي تقدّم نمط الإدارة البيروقراطية/التكنوقراطية للمسائل العامة، بعد اضمحلال كثير من المؤسسات والتنظيمات الاجتماعية والثقافية، ذات الطابع المسيّس، ما أدى لتحوّل «المواطنين» الذين كان يُنظر إليهم بوصفهم أعضاء في فئات وطبقات، إلى مجرّد «أفراد» يقدّمون عن أنفسهم رموزاً هوياتية. رغم كل هذا فإن النقاش السياسي في الحيز العام ما يزال العامل الحاسم في تلك الدول، وما يزال السياسيون والناشطون والأكاديميون والطلاب «مضطرين» لتقديم خطاب منطقي مبرهن، واضح الأفق السياسي والاجتماعي، عندما يناقشون أي قضية جديّة، من على أي منبر عام محترم. وربما كان أحد أهم أسباب القلق من «الشعبوية» هو إخلالها بهذه القواعد. مَنْ يتم «أنستهم» بشكل شامل، ويُعفون من «السياسة» تماماً، لحساب الشخصنة، هم من يطلق عليهم عادة وصف «المهمّشين» ومنهم البشر المنتمون للمنطقة العربية. ربما يُبرّر هذا بضرورات «التسامح» و«احترام الحساسيات» إلا أن هذا «التسامح» قد لا يكون بالعمق سوى نزعاً للحق السياسي، أو بالأصح اعتبار أولئك «المهمشين» كائنات أدنى من سياسية.
من حق البشر جميعاً بالطبع، أياً كان كانت أصولهم، عدم إبراز جانبهم السياسي، والاهتمام فقط بقضاياهم الشخصية، والتعبير عنها، لكن أن يكون معظم المتحدثين عن قضايا المنطقة، في أغلب المنابر الغربية العامة، من هذا النوع، فهذا يشير إلى مشكلة بنيوية في تعامل المؤسسات في تلك الدول مع الناس القادمين من منطقتنا؛ وإلى مشكلة في نظرة كثير من أولئك الناس لأنفسهم، وتعريفهم لذواتهم، ومنظوراتهم الاجتماعية والسياسية.
مشكلة المُهجّر
قد تكون مسألة التهجير من أهم جوانب قضايا، يُفترض أنها سياسية، مثل القضيتين الفلسطينية والسورية، بل حتى نزوح آلاف البشر من الدول العربية الأخرى، نتيجة الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية السيئة، كل هؤلاء المُهجّرين في النهاية فاعلون اجتماعيون بالضرورة، وعلى كل المستويات، إلا أن «أنسنتهم» بالطريقة الموصوفة أعلاه، تساهم بتحويل تهجيرهم من «انتهاك» يجب تلافي آثاره على حقوقهم الأساسية في أقرب وقت؛ إلى «هوية» تُكرّس وضعهم بوصفهم مُهجّرين منتزعي الحقوق.
يذكّر هذا إلى حد كبير بالسياسة الإسرائيلية الحالية، في الحرب على سكان غزة، إذ حوّلت دولة الاحتلال جانباً كبيراً من القضية إلى مسألة مُهجّرين، يثيرون ارتباك دول الجوار العربي، و»حالة إنسانية» يُناشد «الغرب» لإيجاد حلول لها، وإيصال المساعدات إلى ضحاياها، ويكاد يختفي أي حديث عن الحقوق السياسية للشعب الفلسطيني. إنها حرب، ذات طابع ديني وعرقي، وبلا أفق سياسي، يروح ضحيتها مدنيون كثر للأسف، بحسب الرواية الإسرائيلية.
ربما لم يستطع باسم يوسف، وغيره ممن «يخاطبون الغرب» الخروج من الأطر العامة لهذه الرواية، بل أخذوا الجانب الآخر منها، إذ تظل الحرب «مسألة إنسانية» لكنها فقط ليست «دفاعاً مشروعاً عن النفس» كما تدّعي دولة الاحتلال وداعموها. يمكن القول إن هذا الخطاب هو خطاب فرد «مُهجّر» من حيث الهوية، يتكلّم عن «مُهجّرين». وهذا ليس بالتأكيد أفضل طريقة لدعم الحقوق الأساسية لأهالي منطقتنا.
حرق الهوية
قام سكّان الجولان السوري المحتل، عام 1982، بإضراب عام، دام ستة أشهر، احتجاجاً على قرار دولة الاحتلال بضم أراضيهم إليها، وفرض سيادتها الإدارية والقانونية عليهم، وأحرقوا بطاقات الهوية، التي وزعتها عليهم السلطات الإسرائيلية، مصرّين بأغلبيتهم على الوضعية، التي يضمنها لهم القانون الدولي، بوصفهم مواطنين سوريين في منطقة محتلة، وليس مجرّد رعايا في دولة احتلال.
ربما كان هذا الفعل مُلهماً، ليس فقط في المناطق المحتلة، وإنما في أماكن التهجير أيضاً، إذ أن القبول بـ»الهوية» الرمزية المعاطاة للبشر، بوصفهم رعايا مُهجّرين، ومجرّد حالات إنسانية، تحت الإدارة «المتسامحة» لمؤسسات الدول المستقبلة لهم، ينتقص من أي مفهوم يمكن تعيينه لـ«الكرامة الإنسانية» وهي بحسب الفقرة الافتتاحية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التي صاغها الحقوقي والسياسي اللبناني شارل مالك، أساس كل الحقوق الأخرى.
نموذج المُهجّر/الضحية، الذي يطلب من «الغرب» الاعتراف بمظلمته، مختل «الكرامة» إلى حد كبير، ولذلك نحتاج بالتأكيد إلى متحدثين غير باسم يوسف، ومن يقدّمون خطاباً مشابهاً له، حتى لو كانوا أكثر «عمقاً» فالتأكيد على أن للبشر حقوقاً سياسة، وأن قضاياهم ليست مجرد مظلمة ذاتية، أو «مسائل تتعلق بأقرباء» قد يُخرج الناس من وضعية «المٌهجّرين» ويجعلهم «سادة» أي بشراً يسعون للسيادة على عالمهم الاجتماعي.
كاتب سوري
القدس العربي
———————
فلسطين كـ«تفصيل ثانوي»!/ حسام الدين محمد
يصف الكاتب الأمريكي ميلتون فيورست، زيارة له إلى قطاع غزة عام 1993 ضمّنها في كتابه «قلاع رملية». يدخل الكاتب القطاع من الشمال حيث يمر بساحة كان يسميها الغزيون والإسرائيليون، حسب قوله، «سوق العبيد» وهو موقع مفتوح كان يستخدمه الإسرائيليون لاختيار من يريدون من العمال المياومين الفلسطينيين. يصوّر فيورست الرحلة عبر مشهد متناقض لرحلة الساعة ونصف الساعة من الضفة إلى غزة بين القرى الخضراء للداخل الفلسطيني والسهل الغزاوي الكئيب.
يتابع فيورست مسار المفارقات بلقاء أبي فايز عكاشة، وهو مختار نزح إلى غزة من قريته ضمرة التي هدمها الإسرائيليون، لكنه نجح بتأمين أولاده في جامعات ووظائف في أمريكا والخليج العربي، ولقاء عبد الفتاح أبو زيدة في مخيم جباليا الذي شارك أبناؤه في الانتفاضة الأولى فهدمت السلطات الإسرائيلية منزله. التقى أيضا بالشيخ أحمد ياسين، مؤسس حركة «حماس»، وراقب، خلال زيارته، الأثر الذي أحدثه المشهد المفزع لعبور دورية عسكرية إسرائيلية في أحد شوارع غزة الذي دفع الشبان إلى العودة لبيوتهم تحسبا.
تأسست الحركة عام 1987، أي بعد قرابة عشرين عاما على احتلال إسرائيل للقطاع، وكان العام الذي بدأت فيه الانتفاضة الفلسطينية الأولى، التي اشتعلت بعد حادث على حاجز «إريز» نفسه الذي عبر منه فيورست، حين دهس سائق شاحنة إسرائيلي مجموعة من أولئك العمال الفلسطينيين آنفي الذكر. توقفت الانتفاضة، كما هو معلوم، مع توقيع اتفاقية أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية عام 1993.
لم يكن لقطاع غزة، كمسمى سياسي، وجود قبل حصول النكبة الفلسطينية عام 1948، وكان عدد سكان هذا المقطع الجغرافي قرابة 80 ألفا عندها، وكان مشهورا ببيارات البرتقال التي كانت تصدر منتجاتها إلى أوروبا. لجأ إلى القطاع حينها قرابة نصف مليون فلسطيني سكن أغلبهم في مخيمات مكتظة يسودها فقر مدقع تفاقم بشدة لاحقا بعد طرد مئات آلاف الفلسطينيين، الذين كانوا يدعمون أهاليهم ماديا، من الخليج، بعد حرب الخليج الثانية (1990-1991).
مقتل ياسين و«وفاة» عرفات!
تحدّث الشيخ ياسين حينها، لفيورست، عن الخلافات الأيديولوجية لمنظمته مع حركة «فتح»، وكان حديثه مع الكاتب محطة قصيرة قبل أن تزج السلطات الإسرائيلية بالرجل المقعد شبه الضرير في السجن، بتهمة تشكيل تنظيم عسكري والتحريض على الدولة اليهودية، وأفرجت عنه عام 1985 بصفقة تبادل أسرى مع «الجبهة الشعبية – القيادة العامة»، ثم اغتالته، في 22 آذار/ مارس 2004، رفقة 7 من مرافقيه، بعد تنفيذ «حماس» عملية عسكرية في ميناء أسدود أودت بحياة 10 إسرائيليين وجرحت 20. قرار القتل جاء من وزير الأمن شاؤول موفاز الذي كان في واشنطن، ليعود ويقرر «إلغاء الفروقات في الاستهدافات بين القيادة العسكرية والروحية لحماس»، وإعلان القتل جاء على لسان زئيف بويم نائب موفاز، الذي قال حينها: «الشيخ يستحق الموت».. لا يلبث زعيم فتح التاريخي، ياسر عرفات، أن يتوفى هو أيضا بعد أشهر (11 تشرين الثاني/نوفمبر 2004)، بعد سنتين من حصار الجيش الإسرائيلي له في مقره في رام الله (مع إشاعات قوية أنه جرى تسميمه).
في 25 كانون الثاني/يناير عام 2006 فازت حركة «حماس»، في المشاركة الأولى لها في الانتخابات التشريعية في الأراضي الفلسطينية بعد عشر سنوات من هيمنة حركة «فتح». أعلنت الحركة حكومة برئاسة إسماعيل هنية، لكن إسرائيل وأمريكا رفضتا الاعتراف بالحكومة، ووقعت اشتباكات دامية بين أنصار الحركتين في قطاع غزة فأقال محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية، هنية، وأعلن حالة الطوارئ. جرت مواجهات بين قوات الحركتين وطردت «حماس» عناصر «فتح» وسيطرت على القطاع.
تشكّل هذه الوقائع المتشابكة المشهدية السياسية ـ العسكرية الواسعة، التي حرّكت دينامياتها أحداث سقوط السلطنة العثمانية، وقرار بريطانيا عام 1917، والتي ستحتل فلسطين عام 1922، تأسيس «وطن للشعب اليهودي» فيها، وصعود النازية والستالينية في أوروبا واشتعال الحرب الكونية الثانية، ومقتل ملايين اليهود في «المحرقة»، وتصاعد الهجرة والاستيطان اليهوديين في فلسطين، وما تبع ذلك من هزيمة الجيوش العربية عام 1948 (وهي هزيمة متوقعة لجيوش ضعيفة يقارب عديدها 30 ألف جندي أمام القوات الإسرائيلية التي تعادل 70 ألف جندي)، وتأسيس إسرائيل، ثم تأسيس حركة «فتح»، عام 1957، كمنظمة فلسطينية لمقاومة إسرائيل، ثم هزيمة حزيران/يونيو 1967 العربية التي أدت لسقوط الضفة الغربية والقطاع تحت السيطرة الإسرائيلية، وحرب تشرين 1973، التي أدت لتسوية سياسية إسرائيلية مع مصر، عام 1978، ثم تشكّل «حماس» عام 1987، التي شكّلت، بتوجهها الإسلامي، الخصم الأيديولوجي لـ»فتح» (الحركة العلمانية التي كانت لديها أيضا جذور إسلامية قوية أيضا).
من «الحل النهائي» إلى الكارثة الكبرى!
تشكّل عملية «حماس» في 7 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري حدثا سياسيا هائلا. لا نعرف شيئا عن كيفية اتخاذ القرار داخل قيادة «حماس» العسكرية. المشهد العام لما حصل هو اختراق قرابة 2500 عنصر من «حماس» و»الجهاد الإسلامي» و»الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» للسور الذي يعزل غزة عن إسرائيل ما أدى لمقتل 1400 إسرائيلي وأخذ أكثر من 200 رهينة. هزّ الحدث العالم الغربي لدرجة تشبيهه بحدث هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001 في نيويورك، وبهجوم اليابان على ميناء بيرل هاربر عام 1941. التقطت إسرائيل المبادرة، وتماهت دول غربية، كل لأسبابها الخاصة، مع هذه التشبيهات، لكنّ الرئيس الأمريكي جو بايدن، أضاف مبالغة كبرى، بتشبيه «حماس» بروسيا، وإسرائيل بأوكرانيا. «حماس» في هذه الحالة هي دولة نووية عظمى تقوم باحتلال بلد ضعيف مجاور، وإسرائيل النووية، التي تملك أقوى رابع جيش في العالم، تتعرض لتهديد وجودي من خصم أكبر وأقوى منها بكثير!
يمثل الحدث خلاصة تاريخية لتعقيد عالمي وإقليمي وعربي هائل، تتشابك فيه عقابيل «الحل النهائي» الأوروبي للمسألة اليهودية، وتصطدم في خلاله تداعيات التصنيع الغربيّ لدولة على قياس سرديّة دينية شديدة التناقض (كما يبين باحثون يهود مثل فنكلشتاين، وشلومو ساند، وأيلان بابيه)، بالكارثة الكبرى التي حلت على الشعب الفلسطيني وشعوب المشرق العربي.
بدا الأمر لكثير من الفلسطينيين، وغير الفلسطينيين، قرارا من الأسرى بالهروب من السجن الكبير المحكم مثل قفص حديدي، والانتقام الفظيع من تاريخ طويل من المعاناة الهائلة مع ما يعتبرونه «الشر المطلق»، رغم علمهم، بانفتاح بوابات انتقام الحلف الإسرائيلي ـ الغربيّ عليهم، وهو حلف لا يقوم على السياسة والاقتصاد والجيوش فحسب، بل يقوم أيضا على حيز هائل من الأيديولوجيات والسرديات التي قامت الواقعة بتفجيرها. أما بالنسبة للأوروبيين، فرأت دول ومؤسسات ونخب، أن ما حصل هو اعتداء على امتداد مجتمعاتها اليهودية.
في حدث شديد الرمزية، قام معرض فرانكفورت في ألمانيا، التي تشكل «المحرقة» هاجسا أساسيا في تأسيسها الحديث، بإلغاء فعالية عن رواية «تفصيل ثانوي» للكاتبة الفلسطينية عدنية شلبي. خلال تاريخ الحروب والمجازر الهائلة التي تبعت تأسيس إسرائيل وتهجير الفلسطينيين، تكرّر كثيرا تعامل العالم والإقليم والأنظمة العربية، مع الفلسطينيين على أنهم «تفصيل ثانوي» يمكن تجاوزه ليأتي حدث غزة فيفجّر الرواية والساردين ويدفع تجاهل هذا «التفصيل» عبر الحل الأوروبي للمسألة اليهودية، أو التطبيع العربي الذي يطير فوقهم، للاشتباك بوجود الفلسطينيين، معطوفا على كوارث المنطقة العربية، والمحاور الإقليمية، لنستفيق على مقتلة كبرى تعيد الدائرة إلى بدايتها.
كاتب من أسرة «القدس العربي»
—————————
الثقافة سنة 1973: كتابة سيرة شعبية للحرب/ محمد تركي الربيعو
يحمل الحديث عن الحروب أكثر من وجه، إذ عادة ما تركّز الأخبار على أعداد القتلى والمعارك الميدانية، والخطط العسكرية. لكن في المقابل تحوي الحروب أيضاً على تفاصيل أخرى لا تقلُّ أهمية، وتتعلّق بالتاريخ اليومي وتأثيرها على حياة الناس والجنود وذكرياتهم عنها. كان صامويل هاينز قد لاحظ في كتابه «حكايا الجند» أنّ الحرب ليست مكاناً للقتال بين جيشين فحسب، وإنما هي قبل كل ذلك أماكن لإبادة الرجال، ولذلك أخذ هاينز يبحث عن سير من قاتلوا، ورؤيتهم للقتال.
سيروي له أحد الجنود أنّ المعركة في اليوم الثالث باتت تحمل معاني وتعريفات جديدة، فهي لم تعد مكانا لانتصار قضية الحق على الباطل، أو طرف ما على آخر، بل تحولت أيضاً إلى ساحة مكروهة، كونه قد يخسر خلالها نفسه وأصدقاءه. ومع هذا التعريف، يمكن القول إننا كنا أمام تاريخ آخر عن الحروب، ظهر هذه المرة مع الجنود، بدلا من القادة، الذين لم يعودوا أبطالا، وإنما أناس عاديون يعانون من الجوع والبرد وفقدان الأهل، وضياع سنوات العمر، وأحيانا الموت. وربما الشيء المهم في هذا التاريخ أنه أتاح لنا فرصة عبور أو تجاوز التاريخ البطولي وفق تعبير فرانسوا هارتوغ للحروب، الذي لا يركّز إلا على الانتصارات وبسالة الجنود في المعركة. وذلك لصالح تاريخ آخر، يحاول تتبع تفاصيله، من تأثير الحرب في حياة المشاركين فيها، والناس العاديين، وكل ما له علاقة بتفاصيل صغيرة تحيط بهم، من انقطاع الخبز في الأسواق، وتغير القناعات وانتشار المومسات، وفق ما لاحظه مثلا الجندي التركي فالح أطاي خلال الحرب العالمية الأولى.
وهذ البحث عن تاريخ أسفل للحروب، مقارنة بتاريخ المعارك، سيطبع طموحات الباحث المصري محمد سيد ريان في كتابه «الثقافة سنة 1973.. سيرة شعبية لحرب أكتوبر» الذي جاء في ظل مرور خمسين سنة على حرب 6 أكتوبر/تشرين الأول1973، إذ سيحاول كتابة تاريخ شعبي للحرب، من خلال التركيز على روايات العمال والفلاحين عن تلك الأيام، وعلى صورها في مجلات الأطفال (مثل مجلات ميكي وسميرة) لكن وعلى الرغم من هذا الطموح واللقطات الذكية في الكتاب، يمكن القول إنّ رحلة البحث لم تأتِ بما تشتهي نوايا القراء، قبل مؤلفه.
يتّخذ الباحث الريان مجلة «الطليعة» المصرية كنموذج لدراسة آراء الفلاحين والعمال. وفي هذه الآراء نعثر على فلاحين متحمسين للحرب، ومتيقنين من اندلاعها، ومن انتصار الجندي المصري، ومن الاستعداد لبذل الغالي والرخيص لاستعادة الأرض. فمثلاً، نجد محمود خليفة (عامل نسيج في شركة وولتكس ـ مصنع البطاطين في روض الفرج) يقول: «كنت عارف إننا في معركة دايمة مع إسرائيل وأمريكا. وما كنتش أتوقع تاريخ قيام المعركة الأخيرة. لما بدأنا إحنا المعركة أدركت إننا حننتصر.. تأثير المعركة على عملنا في المصنع كانت تظهر في نشاط العمال في العمل، كان كل واحد بيعمل دون مراقبة من رئيسه». ما نعثر عليه في هذه الشهادات، امتداد بشكل أو بآخر للتضحيات التي يقدّمها الجنود في ميدان المعركة. لكن ماذا عن الجانب الآخر من الحرب؟ وأعني بذلك تأثيراتها الاجتماعية واليومية على حياة الناس.
وهنا يذكر المؤلف بعض الشهادات التي تُظهِر تفاصيل من هذا التاريخ الشعبي واليومي للحروب، مثل رواية محفوظ محمد حسين (عامل معمار ـ مركز غمر) التي قال فيها «في أيام المعركة كنا كلنا متشجعين لا نخاف الموت لكن كان فيه بعض التجار مشغولين بالسوق السودة». وهو ما يشير إلى ارتفاع أسعار بعض المواد التموينية، ونقص بعضها الآخر، وظهور أشخاص يرون في الحرب فرصة للاغتناء والاستفادة، وليس للتضحية فحسب. مع ذلك، والغريب أيضاً، أنّ الباحث الريان لا يقرِّر إدراج هذه الوقائع في تاريخه الشعبي، وظل محصوراً بمواقف الفلاحين والعمال الشجاعة والمؤدية لحرب أكتوبر. ولعل عدم الحساسية تجاه هذه الروايات، والتركيز فحسب على شجاعة المصريين في المعركة والصفوف الخلفية، أفقد القارئ حماسة اكتشاف تواريخ جديدة. فعلى صعيد الطعام مثلا، لا يقف كثيرا عند أسعار المواد الغذائية قبل وخلال وبعد الحرب، ومن هم هؤلاء التجار الذين لعبوا دورا سلبيا في السوق. وربما لو فعل ذلك، لكنا فعلا أمام تاريخ شعبي للحروب بوصفها نشاطا إنسانيا، لا يقتصر على المعارك أو التضامن فقط، بل يشمل أناسا شتى، وكل منهم يتأثر ويؤثر بأسلوب مختلف.
فقد لاحظ الروائي العراقي فليح الزيدي في كتابه الماتع «شاي وخبز» كيف لعبت الحروب في العراق دورا على صعيد تغير أجساد العراقيين وولادة «طباخ الأمة» في إشارة للدولة. فمع الحصار واستمرار المعارك، كانت الحكومة العراقية قد اضطرت إلى تخصيص وتوزيع مواد على العراقيين، تحمل في الغالب نسبا عالية من النشويات. وهذا ما أدى الى تغير شكل جسم العراقي، فأصبح أكثر بدانة في ظل تبعات الحروب والمعارك، وربما يُعدُّ هذا جزءا من السيرة الأوسع للحرب، أو السيرة الشعبية.
قصص وذكريات أخرى
لكن كما ذكرنا، يمتاز كتاب الريان بالتقاطه لمداخل ومقترحات جيدة لكتابة سيرة شعبية للحروب، ومنها إشارته إلى ضرورة دراسة مجلات الأطفال، وكيف رسمت صورة الحرب. إذ نعثر في العدد 915 من مجلة «سمير» الصادرة في 21 أكتوبر/1973 على بورتريه مُصوّر ومكتوب عن الزعيم أنور السادات بعنوان «البطل» بينما جاء إعلان عن هدية العيد للأطفال في العدد المقبل عبارة عن «طيارة ونبلة بلاستيكية ولبيسة قلم». ونقرأ في العدد 916 الصادر في 28 أكتوبر، قصة بعنوان «كلهم أولادي» تحاول تشجيع الأطفال على التضامن والمشاركة والتعاون في سبيل تحقيق الهدف. وبالتالي، ما يلاحظ في كلا العددين، محاولة السلطة استخدام كل قنوات التعبئة والمنابر، في سبيل تأكيد سرديتها. ويبدو أنّه حتى مجلات الأطفال لم تستطع التهرّب من هذا الأمر، ولعلها لقطة ذكية تُحسب للمؤلف. مع ذلك لا يحاول الريان التوسيع من تاريخه الشعبي تجاه الإجابة عن أسئلة مثل، كيف صنعت هذه الصور، ومن كان يحرر المجلة، لفهم دور السلطة في إعادة كتابة وتأكيد سرديتها عن الحرب ونتائجها.
وما مدى تطابق هذه السردية مع سرديات أخرى ترى أنّ القوات المصرية، رغم ما حققته من نجاحات، إلا أنها تعرضت أيضاً لانتكاسات لاحقة، وربما هذا ما جعل الباحث يعزف عن هذه الأسئلة، أنه ظل يقتصر في تأريخه الشعبي على فكرة صغيرة تربط الشعبي بالناس ومواقفهم الشجاعة، دون أن يحاول توسيع فكرة الشعبي وربطها باليومي. كما أنّ المؤلف لم يتح لنفسه فرصة الاطلاع على مراجع أخرى كُتِبت لاحقا عن الحرب، مثل المذكرات، خلافا للمراجع (المجلات) التي اعتمدها، والتي رصدت ردود الفعل السريعة عن مشهد 6 أكتوبر، ما أفقدنا فرصة التعرف على الآثار الجانبية لأكتوبر، وحدّ من سيرته الشعبية.
ولعل العودة للمذكرات التي كُتِبت عن أكتوبر، خارج مذكرات الجنود والضباط، هو أمر مهم قد يتيح تصورا آخر للناس عن الحرب ويومياتها.
واللافت في هذا السياق، أنّ هذا الأمر مثلا شغل بال السوريين الذي عاشوا تجربة 1973، ما وفر لنا فرصة لفهم تاريخ آخر ليومياتها بعيدا عن عناوين البطولة. وأشير هنا إلى كتاب الروائي السوري الراحل خيري الذهبي «من دمشق إلى حيفا: 33 يوما في إسرائيل» الذي روى فيه سيرته (استاذ من دمشق موفد للتدريس في مدينة نائية شمال سورية/الحسكة) في الفترة التي سبقت أكتوبر. فخلافاً للصورة التي حاول الباحث الريان رصدها حول قناعة الناس العاديين بحتمية الحرب وانتظارها، بدا الأستاذ غير مقتنع بقدرة النظام على خوض المعركة. فهو عشية الحرب، يلتقط صورا عن الفساد في النظام التعليمي، وعن تغلغل البعثيين، وتراجع أحوال الفلاحين، وهي ظروف لم تكن في رأيه مناسبة لخوض معركة، فالحرب تحتاج إلى شروط أفضل. ولن يظل هذا الاستاذ يراقب حرب أكتوبر 1973 من مدرسته وتأثيراتها على حياته، بل ستدفعه الأقدار ليغدو شاهداً على هزيمة السوريين في جبهة الجولان بعد عدة ساعات من البسالة. فقد وصل الإسرائيليون في 6 أكتوبر إلى كناكر (تبعد حوالي 25 كيلومترا عن دمشق) في الوقت الذي كانت الإذاعة السورية تتحدث عن نصر مؤزر.
يروي لنا أنه عندما التحق بالجيش قبل المعركة بعدة أشهر، لم يكن يسعى لتحرير الأرض، وإنما كان التحاقه نابعاً من الرغبة في إمضاء فترة عسكريته وممارسة التدريس في الوقت نفسه، أي «ضرب عصفورين بحجر». وهذا لا يعني أن الذهبي لم يكن راغبا بهزيمة إسرائيل، وإنما بدا مقتنعا باستحالة النصر في ظل الأجواء السلبية التي كانت تعيشها البلاد آنذاك. وبعد اندلاع الحرب، لم تمض سوى عدة ساعات، حتى وجد نفسه أسيرا لدى الإسرائيليين، ما جعله يعيش يوميات طويلة مع عدد من الضباط والجنود السوريين الأسرى. وهنا سيكتب لنا عن تاريخ آخر للجنود أيضا، غير تاريخ البطولة المولعين بسرده. ففي السجن، أصبح الضباط والجنود مؤمنين بالمعجزات والأساطير، وباتوا يرون في تكرار قراءة سورة قرآنية معينة 3000 مرة، فرصة لفتح بوابات السجن! كما سيروي لنا قصصا عن أحد الجنود الأسرى الذي كان يأكل حصص أصدقائه في السجن. وهذا ما يعكسُ فكرة أنّ الحرب مكان للقسوة والإبادة، التي قد تدفع بالمشاركين فيها إلى القيام بتصرفات غير متوقعة، ولعل رصدها لا يعني النيل من الأمة، وإنما يكشف أنّ للحرب ألف وجه ووجه، وإنها بقدر ما تكون أحيانا أمراً لا مفر منه للدفاع عن الجماعة ومصالحها، فإنها تحمل كذلك في تواريخها اليومية مئات القصص والآلام والتفاصيل الصغيرة. وهي تفاصيل من الضروري الإحاطة بها، عوضا عن القول إنّ الأمة لا تُصنع إلا بالتضحيات، وكأن هؤلاء الضحايا ليسوا سوى أرقام، دون تواريخ أو أحلام. ومن هنا وجب الثناء على دعوة المؤلف لكتابة سيرة شعبية للحروب، كونها قد تتيح لنا قراءة عالم الحرب بعيدا عن خطاب النصر والبطولة. فـ»الحرب أول ما تكون فتية.. تسعى بزينتها لكل جهول.. حتى إذا استعرّت وشبّ ضرامها.. عادت عجوزا غير ذات خليل/امرؤ القيس»…
كاتب سوري
القدس العربي
———————–
حرب الرواية من جديد/ مالك ونوس
كما كان الأمر قبل مرحلة إنشاء الكيان الإسرائيلي وخلالها، ثم خلال حروبه على العرب، كانت الرواية الصهيونية، ومن بعدها رواية الإسرائيليين في فلسطين، وسيلة لتحشيد الدعم السياسي والمادي الذي ساهم في تأسيس دولة الاحتلال وفي دعم حروبها، في غياب رواية الضحية، الرواية الفلسطينية. يتكرّر الأمر في هذه الأيام، مع الحرب الإسرائيلية على غزة، والتي أعقبت عملية طوفان الأقصى؛ إذ استغلّت الدوائر الإسرائيلية والإعلام السائد في دول الغرب، هذه العملية لنشر الرواية الإسرائيلية بغرض شيطنة الفلسطينيين، لتسهيل استهداف حركة حماس والشعب الفلسطيني في قطاع غزّة، مهما كانت الأثمان ومهما خلّفت آلة الحرب الإسرائيلية من ضحايا. وهذا ما أظهر الغرب بمؤسّساته الحاكمة وإعلامه، منقاداً للرواية الإسرائيلية، وهو ما جعَله بالضرورة شريكاً في جرائم جيش الاحتلال.
ما إن التقط المسؤولون الإسرائيليون أنفاسهم، بعدما استفاقوا من صدمة هجوم طوفان الأقصى، في 7 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، واقتحامهم السور الفاصل بين حدود قطاع غزّة والأراضي المحتلة، وسيطرتهم على عشرين مستوطنة وموقعين عسكريين وأسر ما تيسّر من جنود ومدنيين، حتى بدأوا في بثّ سرديّاتهم المكرّرة والقديمة المعتمدة على أضاليل استخدموها مراراً، وأتت أكلها دائماً، من أجل إسباغ صفة الإرهاب على الفلسطينيين. ثم وبسرعة منقطعة النظير قلبوا الحقائق، واخترعوا قصصاً عن انتهاكات المهاجمين، من قطع الرؤوس واغتصاب النساء وسبيهن، معتمدين في تكوين هذه السردية على تاريخهم الطويل في النفخ في الهولوكوست لإظهار مظلوميّتهم واستمرارها على يد العرب، من أجل ابتزاز الغرب مرّة أخرى.
لقد نجح الإسرائيليون أيّما نجاح في مهمّتهم هذه، فاستطاعوا، بسرعةٍ كبيرة، تحشيد آلة الغرب الإعلامية والدبلوماسية والعسكرية، نافخين في الروح الاستعمارية لهذا الغرب لإحيائها، تلك الروح التي كانت من أهم الدوافع التي ساهمت في سرعة استجابة الدول الغربية، وفي تبنّي سردية الإسرائيليين، ثم المسارعة إلى تقديم الدعم، من أجل إنقاذ “إسرائيل” من خطر أظهروه أنه من العظمة إلى درجة أنه سيؤدّي إلى زوالها سريعاً إن لم يستجيبوا. وكان لعودة الإسرائيليين إلى الادّعاء أنهم يواجهون إرهاباً، و”حيوانات بشرية”، كما وصف وزير الحرب الإسرائيلي، يوآف غالانت، الفلسطينيين، دورٌ في تصوير أنفسهم ضحية في النزاع القائم في المنطقة. وبالتالي، في جعل الدول الغربية تتسابق إلى تقديم الدعم العسكري والمادي، والتقاطر على تل أبيب “للتضامن” مع الإسرائيليين. وقد انطلت الرواية والتهويل الإسرائيليان على الرأي العام الغربي، وعلى الإعلام ومؤسّسات الدول الغربية الرسمية والأهلية التي تبنّت هذه الرواية. وكرّرها كثيرون في الغرب، على الرغم من عدم تأكّدهم من صحّتها، كما في ادّعاء قطع رؤوس الأطفال التي ردّدها الرئيس الأميركي، جو بايدن، وتراجع البيت الأبيض عنها، وكتبت صحيفة واشنطن بوست أن لا بايدن ولا أي مسؤول أميركي رأى صوراً لفظائع أو تأكّد من صحة تقارير بشأن قطع عناصر “حماس” رؤوس أطفال إسرائيليين. غير أن بايدن عاد وتحدّث عن مسؤولية الجهاد الإسلامي عن تفجير مستشفى المعمداني في غزة، متبنّياً الرواية الإسرائيلية التي لم يؤكّدها أي تحقيق.
ولا يمكننا تقدير مدى خطورة استمرار هيمنة الرواية الإسرائيلية، وعودتها إلى الانتشار بعدما تضعضعت حين صُدم الغرب بالواقع والحقيقة بعد الانتفاضة الفلسطينية الأولى، إلا عندما نسمعها على ألسن من لم نتوقّع مرّة أن يسردوها. حدث ذلك في كلام الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، في حضرة المستشار الألماني، أولاف شولتز، في القاهرة، في 18 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، أي بعد يوم من مجزرة الاحتلال في مستشفى الأهلي المعمداني في غزّة، والتي راح ضحيّتها ما يقارب 500 فلسطيني. فخطاب السيسي لا يحتاج إلى كثير من التحليل، حتى نكتشف أنه سلَّم بضرورة القضاء على الحركات المسلحة في غزّة، وعلى “الإرهاب”، كما سمّاه.
يدفعنا هذا الواقع إلى التساؤل كم يجب على الطرف الفلسطيني الذي يمتلك الحقيقة أن يبذل من جهد لكي يقنع بها الغرب الاعتذاري الذي هرع لنجدة إسرائيل بسبب شعوره بالذنب تجاه اليهود، وأن تصريحات القادة الإسرائيليين هي تحريض على ارتكاب الجرائم بحق الفلسطينيين؟ وما الذي يجب عليهم أن يفعلوه لكي يبيّنوا أن أفعال الإسرائيليين التي أعلنوا عنها، من قطع للماء والكهرباء ومنع دخول الغذاء إلى قطاع غزّة، هي جريمة إبادة جماعية بحسب تصنيف القانون الجنائي الدولي، وإن قصف مستشفى المعمداني جريمة حرب موصوفة؟ من الواضح أن ما رافق الحرب الإسرائيلية القائمة على غزّة هذه الأيام من شيطنة للفلسطينيين، يريد أن يعود بنا إلى الخطاب الأول الذي كان ينفي وجود فلسطينيين، يقول: هنالك فلسطين، لكن ليس هنالك فلسطيني. وحين فرض الفلسطيني وجوده، عملت الدوائر التي يسيطر عليها اللوبي الإسرائيلي في الغرب على نشر المفهوم الذي يقول إن كل فلسطيني إرهابي بالضرورة. وكانت تلك الرواية سائدةً بقوة قبل عملية ميونخ الفدائية سنة 1972، وقبل عملية مطار اللد في السنة نفسها، واجتياح لبنان سنة 1982، وقبل الانتفاضة الفلسطينية الأولى سنة 1987، والتي ساهمت جميعها في إخبار شعوب العالم أن ثمّة إنسانا فلسطينيا يشاركهم العيش على الكرة الأرضية، وهو ليس أكثر من ضحيةٍ للإرهاب الإسرائيلي وللغرب من خلفه.
كتب المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد، في 1984 مقالة طويلة بعنوان “إذن بالرواية”. تحدّث فيها عن هيمنة الرواية الإسرائيلية في الغرب نتيجة قوة اللوبي الصهيوني في الدول الغربية، وأذرعه المهيمنة في كل القطاعات، ومساهمته في نشر الإرهاب الفكري، وتهديد كل من يعارض الرواية الإسرائيلية واتهامه بالعداء للسامية. وقد أعطى أمثلة عن أشخاصٍ خالفوا تلك الرواية بعد ما شاهدوه من فظائع ارتكبها الإسرائيليون خلال اجتياحهم لبنان سنة 1982، ثم سرعان ما تراجعوا عن موقفهم بسبب التهديد الإسرائيلي بأشكاله المختلفة. يتكرّر هذا الأمر حاليا، وقد تراجع كثيرون عن الرواية الإسرائيلية بشجاعة نادرة، على الرغم من الإرهاب الفكري الذي يسود دولا أوروبية حالياً، وتجريمها كل من يتعاطف مع الفلسطينيين أو يرفع الراية الفلسطينية أو يلفّ عنقه بالشال الفلسطيني، وهو ما يهدّد بأن يدفعهم إلى التراجع عن التراجع. ولذلك هنالك الكثير الكثير أمام الفلسطينيين ومناصريهم لفعله في حرب الرواية التي تشنّها دولة الاحتلال، والتي تتعاظم أكثر وأكثر، وتجد لها من يتبنّاها في الغرب، وفي مستعمراته العربية التي يبدو أنها لم تخرُج عن طوعه بعد.
العربي الجديد
————————
الحرب على غزّة وقضية بنزيمة/ بشير البكر
أخذت التغريدة التضامنيّة مع غزّة، التي كتبها لاعب كرة القدم الفرنسي من أصل جزائري، كريم بنزيمة، حيزا واسعا من النقاش في وسائل الإعلام الفرنسية. وظهر في واجهة المشهد وزير الداخلية الفرنسي، جيرالد دارمانان، الذي اتهم لاعب نادي الاتحاد السعودي بأنه قريب من جماعة الإخوان المسلمين، وأن موقعه وزيرا للداخلية يسمح له بالاطّلاع على معلومات غير معروفة. واعتبر أن بنزيمة “ينزلق” منذ سنوات نحو إسلام متشدّدٍ وفقا للأيديولوجيا الإخوانية، والتي تقوم، حسب وصفه، على نشر الأنماط الإسلامية في قطاعاتٍ مختلفةٍ من المجتمع، وخصوصا في أوساط الرياضيين. ورغم أن الوزير أكّد على أن بنزيمة لم يرتكب ما يُؤاخَذ عليه قانونيا، ارتفعت أصوات تهاجمه، وخصوصا من شخصياتٍ تنتمي إلى اليمين واليمين المتطرّف، سواء من حزب الجمهوريين أو التجمّع الوطني بقيادة مارين لوبان، حيث وصفه بعضُهم بأنه فرنسي على الورق فقط، وطالب آخرون بسحب جنسيته الفرنسية، وكذلك كل مزدوجي الجنسية الذين يؤيدون حركة حماس. وذهب المرشّح السابق اليميني المتطرف، إريك زيمور، إلى القول إن بنزيمة إسلامي يريد تطبيق الشريعة، والجهاد هو بند في الشريعة، وهو يعني القتل. وكان أفضل أسلوب لمواجهة هذه الاتهامات هو الذهاب إلى القضاء، لكون الأمر ينطوي على دعواتٍ بسحب الجنسية الفرنسية، الأمر الذي لم يحدُث مثله منذ مرحلة النازية، بحسب محامي بنزيمة.
المصدر المباشر للغضب على اللاعب، كما عكسته تصريحات عديدين من أنصار إسرائيل، هو عدم التضامن في الوقت نفسه مع مواطنين فرنسيين، وقع بعضُهم ضحيّة هجمات “حماس” في 7 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، وأغلبية هؤلاء من مزدوجي الجنسية، يحملون جوازات سفر إسرائيلية وفرنسية، غير أن موقف وزير الداخلية الفرنسي يحتمل رسالةً تتجاوز شخص بنزيمة إلى ما يملكه من تأثير، فهو لديه 20 مليون متابع على وسائل التواصل الاجتماعي. ومن دون شك، تأخذ الحكومة الفرنسية في حسابها الضواحي الفرنسية التي يحظى فيها بنزيمة، وأمثاله من لاعبي كرة القدم، بشعبيّة كبيرة، ومن المعروف أن هذه الأحياء تسكنها أغلبيةٌ من جالياتٍ عربيةٍ وإسلامية مغاربية وأفريقية، وهي متعاطفة مع القضية الفلسطينية. ومنذ بداية الحرب، هناك خشية رسمية من أن تخرُج الضواحي في مظاهراتٍ تضامنية، يمكن أن تؤدّي إلى توتّرات، وهذا هو السبب في منع المظاهرات التضامنية مع غزّة حتى اليوم التاسع عشر من أكتوبر، عندما أجازتها المحكمة الإدارية رسميا، وبعد أن خرجت مظاهرات حاشدة في لندن وواشنطن، من دون أن تعكر صفو الهدوء العام.
وجد بنزيمة من يتضامن معه، مثل زعيم ثاني أكبر حزب معارض “فرنسا الأبية” جان لوك ميلانشون، الذي نشر تغريدة أكّد فيها تضامنه مع اللاعب، كما أن موقف وزير الداخلية واجه انتقاداتٍ، وارتفعت أصواتٌ تعتبر أن إطلاق الاتهامات بهذه الصورة ضد أشخاصٍ لم يرتكبوا أي جريمة ليس من مهام وزير في الحكومة الفرنسية، خصوصا أن الانتماء إلى “الإخوان المسلمين” ليس ممنوعا، فهم ينشطون على نحو علني منذ أكثر من عقدين، في مجال تنظيم شؤون الدين الاسلامي، بالتفاهم مع السلطات الفرنسية، عن طريق ما يسمّى “المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية”، الذي أسّسه الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي، ويضم هيئات ومؤسّسات ومنظمات إسلامية معترفا بها رسميا في فرنسا، ومنها اتحاد المنظمّات الإسلامية، المحسوب على تيار الإخوان المسلمين. وقد فشل المجلس في أن يكون قناة حوار فعلية، بسبب تعقيدات وضع الجاليات الإسلامية، والتدخلات الرسمية في شؤونها من الدولة الفرنسية، وبلدان الجاليات، مثل الجزائر وتركيا والمغرب، كما تراجع حضوره في العقد الأخير، بسبب ظهور إرهاب “داعش” وتأثيره السلبي على الإسلام والمسلمين.
العربي الجديد
—————————
في الاستبداد العربي والاحتلال الإسرائيلي/ حسين عبد العزيز
ليس من المبالغة القول إن عملية طوفان الأقصى في 7 من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري تعدّ زلزالا استراتيجيا يشابه زلزال ثورات الربيع العربي عام 2011. ولا تتعلق حالة التشابه (الربيع العربي، غزوة غلاف غزّة والرد عليها) فقط بحالة المفاجأة التي أشعلها الشعب العربي في أكثر من بلد، بعد عقود من حالة سكون وخمول واستسلام للاستبداد، ولا بحالة المفاجأة الشبيهة التي أحدثتها حركة حماس، لجهة قدرتها على صناعة هجوم عسكري عجزت العقول العسكرية والأمنية الإسرائيلية عن استيعابه (غطاء صاروخي كثيف دفع الاحتلال إلى التركيز على كيفية إسقاط الصواريخ كما في كل مرّة، من دون أن يخطر على باله أن مئات المقاتلين من كتائب عز الدين القسام اقتحموا أكثر من 20 مستوطنة إسرائيلية في محيط غزّة وعشرات المواقع العسكرية وقتل كثيرين ممن فيها، ثم فتح كوّة في الجدار العازل). ولا يتعلّق الأمر بالتداعيات المباشرة التي ترتبت على “الربيع العربي” الذي انتهى ببعض الدول إلى حروب أهلية دمرت الدولة والمجتمع، ولا بالواقع الشبيه في غزّة، حيث استتبعت عملية “طوفان الأقصى” ردّا إسرائيليا عنيفا لم يعرفه القطاع منذ نشوء الكيان الإسرائيلي. كما لا يتعلّق الأمر بالتداعيات الاستراتيجية التي ترتّبت على الحدث الأول وما قد يترتب على الحدث الثاني: إعادة بناء الاستبداد العربي ذاته وانهيار المجتمعات في الحالة الأولى، وبنشوء واقع عسكري ـ سياسي جديد في غزّة لا يكون لصالحها بقدر ما هو لصالح إسرائيل في الحالة الثانية.
ليست حرب تموز (2006) بعيدة عن الذاكرة، إذ أدّت الحرب نتيجة شن حزب الله عملية أسر خلالها جنودا إسرائيليين، بادرت على أثرها قواتٌ إسرائيليةٌ باقتحام الجدار الحدودي ودخلت إلى الأراضي اللبنانية، حيث نصب الحزب كمينا لها، فقصف دبابتين وقتل ثمانية جنود إسرائيليين، من بينهم اثنان أسرا إلى لبنان من دون الإبلاغ عن مصرعهما. ثم أدّت الحرب إلى صدور قرار مجلس الأمن 1701، الذي كبّل الحزب، وجعل أي تخطّ للخط الأزرق انتهاكا للشرعة الدولية يستوجب الرد عليه عسكريا. ومن هنا نفهم المعضلة التي يواجهها حزب الله حاليا، فمن جهةٍ يجد نفسه مُحرجا أمام قواعده، طالما أن سرديّته الأيديولوجية قائمة على دعم فلسطين ومواجهة الاحتلال، ولن تأتيه فرصةٌ تاريخيةٌ مثل هذه للوقوف إلى جانب غزّة. وفي المقابل، قيّد القرار الدولي 1701 الحزب الذي يخشى أيضا أن يتوسّع العدوان الإسرائيلي، ويدمّر أجزاء واسعة من لبنان أكثر بكثير مما تم تدميره عام 2006.
وثمّة مثال أقدم، حين نفذ تنظيم القاعدة هجمات 11 سبتمبر/ أيلول عام 2001، ثم وقوف العالم إلى جانب الولايات المتحدة التي استغلّت الحدث من أجل احتلال أفغانستان والعراق، ونشوء موجة كره عالمي للإسلام والعرب، اختلط فيها الإسلام المتطرّف بالإسلام المعتدل المسالم.
بهذا المعنى، ستجد المقاومة في غزّة بعد انتهاء العدوان، ليس واقعا دوليا يرفض بحزم تكرار مثل عملية “طوفان الأقصى” فحسب، بل واقعا عربيا رافضا مثل هذه العملية، ومستعدّا للتقرب من إسرائيل من أجل إبقاء حالة الستاتيكو العسكري والسياسي، بما لا يُحرج هذه الأنظمة أمام شعوبها.
لا يُفهم من ذلك أن كاتب هذه السطور ضد “طوفان الأقصى”، فهي عملية كبيرة جدا ليس فقط بمعايير الوجدان العربي، بل أيضا بالمعايير الاستراتيجية على الأرض، من دون غضّ النظر عن الثمن الذي يدفعه قطاع غزّة. إنما المقصود أن عمليات بهذا الحجم ستُفرغ من محتواها الاستراتيجي، بسبب غياب مشروع وطني يتحد الشعب الفلسطيني وراءه، وبسبب الأنظمة الاستبدادية العربية غير القادرة على دعم مقاومة الشعب الفلسطيني، وغير القادرة أيضا على استثمار انتصاراته بما ينعكس إيجابا على قضيته التي هي قضية العرب الوجودية. وقد كشفت عملية طوفان الأقصى والرد الإسرائيلي عليها تشابها عميقا بينها وبين اندلاع الربيع العربي قبل نحو 13 عاما.
مشكلة الشعب الفلسطيني وعموم الشعب العربي تكمن في الاستبداد العربي الغاشم الذي صادر طاقات الشعب وقضى على إرادته، وحال دون نشوء دول قوية قادرة على التأثير في الساحتين الإقليمية والدولية، وكانت النتيجة نشوء أنظمة عربية: قوية تجاه الداخل ومطواعة وذليلة تجاه الخارج. ولم يكن لإسرائيل المضي في عملية القتل الجماعي العنيف الذي تقوم به في قطاع غزّة لولا إدراكها تماما أن الدول العربية في حالة عجز، وغير قادرة على فعل شيء سوى الكلام.
قضية العرب الرئيسية هي الاستبداد والاحتلال، ومن دون القضاء على الأول يكاد يكون من المستحيل نشوء كتلة تاريخية عربية قادرة على تغيير المعادلات الكبرى.
الدم الفلسطيني يتحمّله أيضا الزعماء العرب المستبدّون، وقد عبّر الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر عن ذلك بوضوح حين قال “يتحدّث الإعلام العربي دائما عن فلسطين، وحين أجتمع بالزعماء العرب لا أحد منهم يحدّثني عنها”.
العربي الجديد
————————-
الوحشية والإبادة في قناع الضحيّة/ سمير الزبن
حتى تخوض حرب تطهير عرقي دموية ضد شعبٍ من طرفٍ واحدٍ بضمير مرتاح ومن دون مسؤولية عن جرائم الحرب التي ترتكبها بحقّ مدنيين عزّل محاصرين باحتلالك الجائر، وتكون على حقٍّ في ارتكابك هذه الجرائم، بل وأكثر من ذلك، أن تتحوّل، رغم كل الجرائم بحقّ الإنسانية التي ترتكبها، من معتدٍ إلى ضحية، لا تحتاج سوى إلى شيطنة الشعب الذي ترتكب بحقّه جرائمك. وإذا حصلت على دعم الدول الكبرى، واعتبرتك معتدى عليه، وغطّى إعلامها عدوانك السافر، وأخرس كل صوت يحتج على هذا العدوان، لأنك الضحية المثالية التاريخية، واعتبر حتى ألوان راية الشعب الذي تقتله عنواناً للإرهاب، فإنك تكون قد كسبت الحرب، وأصبحت جرائمك ضد الإنسانية مشروعة، لأنها دفاعٌ عن النفس برأي المدنية الحديثة. وأما باقي العالم، فهي دولٌ وشعوبٌ فائضةٌ عن الحاجة، ولا أهمية لما يعتقد.
هذا ما فعلته وتفعله إسرائيل بالفلسطينيين في قطاع غزّة ومن ورائها الولايات المتحدة والدول الأوروبية، إنها حرب “الحضارة ضد الوحشية” وإسرائيل تخوض “حرب جميع الدول المتحضّرة”، حسب أقوال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. ولم يتردّد وزير دفاعه، يوآف غالانت، بوصف الفلسطينيين بـ”وحوش بشرية ونتصرّف بناءً على ذلك”، أي القتل، وما الذي يمكن فعله مع الهمجيين والوحوش البشرية التي تسكن غزّة؟! لا أحد يختلف بأن من الضروري إبادة هذا النوع من البشر المجرمين والقضاء عليه، فهو ليس تهديداً لإسرائيل فحسب، بل هو يشكّل تهديداً للحضارة وللدول الديمقراطية بأسرها، والتي تخوض إسرائيل هذه الحرب بالنيابة وللدفاع عنهم.
إنه استعارة للخطاب الاستعماري التقليدي بأسوأ وأحطّ صيغه، الخطاب الذي لا يرى الآخرين، سوى بشر أدنى لأنهم ليسوا مركز هذا العالم، وكان على العالم المتحضّر أن يستعمرهم من أجل جعلهم متحضّرين، وعندما يرفضون الحضارة (يرفضون الاستعمار) يجب قتلهم لأنهم متوحّشون. والمفارقة المضحكة المبكية أن الدول الاستعمارية الكبرى التي تدعم هذا الخطاب الإسرائيلي وتكرّره، هي ذاتها الدول التي ارتكبت الجرائم الكبرى والإبادة الجماعية بحقّ الشعوب التي استعمرتها، بخطاب استعلائي دُمّرت باستعماله بلدان واسعة خارج أوروبا (الحضارية)، كل هذه الجرائم ارتكبتها الدول الاستعمارية كانت لإخراج هذه الشعوب من وحشيّتها.
الخطاب الاستعماري المتعالي فوق البشر المتوحشين درسٌ قديم، قدم التجربة الاستعمارية ذاتها، ورغم انتقاده وتفكيكه من مفكّرين غربيين كثيرين، منذ زمن طويل، لكن كل مرّة تحتاجه الدول الغربية، تتم استعارته بشكلٍ أو بآخر، فقد استعمل الخطاب ذاته، عندما غزت الولايات المتحدة أفغانستان والعراق، لجلب الديمقراطية (الحضارة) لشعوبها، واليوم، كلنا نعرف النتيجة التي آلت إليها الجهود الأميركية لجلب الحضارة على ظهور الدبابات الأميركية للبلدين.
تصغير البشر وشيطنتهم وإخراجهم من دائرة البشر، عبر خطاب القوة، المدعوم بامتلاك ميديا هائلة، يعطي الوصفة المثالية للقضاء على البشر المتوحّشين الذين يهدّدون الحضارة الإنسانية. إنه صراع في غاية الوضوح “الحضارة ضد الهمجية”، وهي الحرب التي لا تستطيع الدول المتحضّرة سوى تأييدها، ودعم من يخوضها باسمهم وبدلاً عنهم. إنه التوصيف الإسرائيلي ـ الأميركي ـ الأوروبي لما يجري من عدوان إسرائيلي على غزة.
هل هناك كلام آخر يمكن قوله في هذه الحالة، كأن يكون هناك دولة، مثل دولة إسرائيل تحتلّ الأراضي الفلسطينية؟ وأن يكون هناك جرائم ترتكبها هذه القوّة الاستعمارية يومياً بحقّ الفلسطينيين وأراضيهم ومقدّساتهم؟ وأن تكون دول الاحتلال تُنكر حقّ الفلسطينيين بأرضهم وتمنعهم من تقرير مصيرهم؟ وليس هناك اعتداءات يومية على الفلسطينيين وقتلهم ونهب المستوطنين أرضهم؟ وليس هناك جريمة مؤسّسة لإسرائيل عنوانها طرد الفلسطينيين من ديارهم في حرب العام 1948 وعدم السماح لهم بالعودة إلى ديارهم بعد انتهاء الحرب؟ ولم تسرق إسرائيل أملاك الفلسطينيين واعتبرتها أملاك غائبين، وكأنهم غادروا بإرادتهم، واستخدمتها في بناء دولتها؟ وليس هناك حصار أكثر من 17 عاماً على مليوني فلسطيني في قطاع غزّة، وإجبارهم على العيش في معتقل جماعي، يقنّن عليهم فيه المواد الغذائية والوقود وحتى الأدوية، بوصفها كيانا معاديا؟ وغيرها أسئلة كثيرة عن جرائم دولة الاحتلال التي ارتكبت بحقّ الفلسطينيين وبحقّ غيرهم من شعوب دول الطوق.
تبدو الصورة عند الغرب كأن إسرائيل دولة اسكندنافية حيادية، لم تدخل حرباً منذ عشرات السنين، وفجأة، يهاجمها المتوحشون الفلسطينيون الذين جاؤوا من بلاد بعيدة، ليستبيحوا دولة إسرائيل ومواطنيها المسالمين. إنها أكبر عملية تزييف وكذب وقحة وعلنية ومهينة للعقل البشري، تمارسها الدول التي تعتبر نفسها “العالم المتحضر”.
إذا كان قتل المدنيين مداناً في الصراعات المسلحة، وهو بالتأكيد كذلك من دون تلعثم، لكنه لماذا مدان من “الجهة المتوحّشة”، وهو دفاع عن النفس من الجهة “المتحضرة”؟! مقارنة أرقام المدنيين الذي سقطوا من الفلسطينيين والإسرائيليين تدعو إلى الفزع، فحتى كتابة هذه السطور، خمسة فلسطينيين مقابل كل إسرائيلي، وعندما ينتهي هذا العدوان الوحشي ستكون النسبة أكبر بكثير، عدا عن العقاب الجماعي الذي يتعرّض له كل المقيمين في غزّة. وهذا يعني أن قيمة حياة الفلسطينيين غير مساوية لحياة الإسرائيليين، فليس لحياة الفلسطينيين قيمة مقارنةً بحياة الإسرائيليين، ومن دون هذا المقياس المختلّ لقيمة البشر في الطرفين، لا يمكن تبرير الحرب الإسرائيلية الوحشية على قطاع غزة بذريعة “الدفاع عن النفس”.
في هذا الصراع، هناك أساس مكوّن، صراع ضحية وجلاد، وحتى عندما ترتكب الضحية أخطاء وخطايا، لا تنقلب المعادلة وتنقلب أماكن المتصارعين. فما يجري على الأراضي الفلسطينية ليس صراعاً بين دولتين على خلافٍ حدودي، بل هو صراعٌ بين احتلال وشعب يقاومه. إنه التوصيف الحقيقي للصراع. أما قلب الحقائق، وتحويل إسرائيل إلى ضحية مهدّدة وجودياً بشكل دائم، فإن هذا يعطيها الحقّ بإبادة الفلسطينيين لحماية نفسها. وهذا ما يجري اليوم في غزّة تحت بصر العالم المتحضّر وموافقته.
—————————
غزة بين حلم اليوتوبيا ومصير الديستوبيا/ سميرة المسالمة
رائحة الموت تفوح من كل زاوية في المدينة، وقع الأقدام الهاربة من مكان غير آمن إلى آخر أكثر رعبًا، الناس تدور في ذات المكان، كأنها تخشى عتاب الأرض لها، فتزيد التصاقًا بها، تموت هنا، وهنا، وهناك، كأنها تنذر نفسها للمدينة، قرابين مقدسة، ضحايا تشيع ضحايا، يودعون بعضهم، أحياء وأموات، البقاء يعني الموت، والرحيل يعني الموت، وشتان بين الموت مغروسًا بأرضك، والموت راحلًا مهجرًا تاركًا خلفك مدينة للظلام، للفساد والفوضى، جدرانها ملونة بالدم، مدينة خراب “ديستوبيا”، لقمة بفم غاصب ومغتصب، ومجرد ذكرى تفاصيلها على شاهدة قبر مهدم.
يصور إبراهيم نفسه، يضع صورته على صفحته في “فيسبوك” ويكتب ساخرًا “أنا قبل الموت، انتظرونا”، يفعل كثيرون ذلك في تحد للخوف، وفي رغبة أن يعيشوا داخل صورة. أحدهم يقول نترك صورنا لأنها ستلاحق العالم الصامت، ستوقظه ابتسامتنا الساخرة من سلامه الغافي فوق فوهة بركان خامد.
في ساحة المنزل عشرات من الأقارب تلتف حول مائدة طعام تفترش الأرض، أرغفة مغمسة بالدم الذي سال من معظمهم، بينما ينتظر الآخرون تشييعهم، أطفال تهرع في الشوارع، تلاحقها صواريخ “غبية”، تقطف حيواتهم، تحولهم إلى خبر عابر على صفحات مشبوهة، خبر ليس له تفاصيل: “مات أطفال في غزة”، عشرة، مئة، مئتان، ألف وألفان، كأن الموت صيرورة الحياة في غزة، يولد الطفل الفلسطيني ليموت بصاروخ إسرائيلي أو قنبلة من طائرة مسيرة، أو رصاصة قناص، هذا “كتالوغ” حياته الذي تعده دولة الاحتلال “إسرائيل”، ويسوقه إعلام الغرب دون تفاصيل.
مات شيوخ ونساء في المنازل والجوامع، وفوق أسرة المشافي في غرف العمليات والعناية المشددة، في الكنائس وعلى الطرقات، الجميع مات قتلًا، وعمدًا، وعن سبق إصرار وتصميم، ومات معهم صوت الإعلام الغربي، ماتت أسئلة الخبر لماذا وكيف، فجأة صار إعلام دون صور، دون تحقيقات، صار خبر ليس فيه أي خبر، وانقلبت معايير حقوق الإنسان، صار الانتقام سياسة، والقتل على الهوية مشروعًا. إعلام يجتر بيانات إسرائيل كأنها كتاب المصير، وصار الرأي الحر جريمة، والصرخة بوجه الظالم إرهابًا، والحرب على المدنيين الفلسطينيين حقًا إسرائيليًا محضًا، ودعمها فرض عين على كل البشرية.
“يصوّر إبراهيم نفسه، يضع صورته على صفحته في “فيسبوك” ويكتب ساخرًا “أنا قبل الموت، انتظرونا”، يفعل كثيرون ذلك في تحدٍ للخوف، وفي رغبة أن يعيشوا داخل صورة”
لم يعد السؤال في شرقنا لماذا تتمادى إسرائيل؟ أو لماذا يصمت حكام العرب؟ لأن هناك إجابات كثيرة على السؤال الأول، من نشأتها كدولة مدعومة من الغرب الذي اضطهد مواطنيها، ثم كفر عن جريمته بوعد بلفور 1917، ودعم توسعها في 1948 ثم في حرب 1967، وصمت عن تشريدها لشعب دولة احتلتها، واضطهدت أهلها، ثم ناصرها بحرب تشرين/ أكتوبر 1973، وتغاضى عن جرائمها بحق المدنيين، وتجاوز عن رفضها تنفيذ القرارات الدولية، وأمدها بالسلاح والتكنولوجيا، ومنحها غطاء شرعيًا لحروبها، إلى أن شرعن أخيرًا انتقامها لعملية السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، بقتلها المدنيين في غزة وتشريد من بقي وتدمير الأبنية فوق رؤوس سكانها، كل تلك وأكثر إجابات مختصرة عن ألف جريمة وجريمة، ويقابلها إجابة واحدة على السؤال الثاني، لأن تبرير وجود معظمهم من وجود السؤال الأول.
كشفت الثورات الشعبية ضد الديكتاتوريات العربية زيف ادعاءاتهم عن مركزية القضية الفلسطينية، وشعار النضال من أجل تحرير فلسطين، كما أسقط الواقع زور معادلة التوازن الاستراتيجي، التي أفقرت شعوب جمهوريات المواجهة، وأثرت عصابات الفساد، وصارت مدن كثيرة عالمًا من واقع مرير “ديستوبيا” حيث لا تحتاج إلى الخيال حين تكتب عنها، لأنها هي واقع فاق الخيال مأساوية وظلمًا وفوضى وفسادًا، وتبين بكل وضوح أن السلاح الذي يقتل مواطنيه لا يقاوم الأعداء، بل يناصرهم ويصمت عن جرائمهم ويوحد مصالحهم ضد ضحاياهم.
يعي الشارع العربي (داخل أسوار الأوطان وخارجها) معنى أن يترك الشعب الفلسطيني لمصيره أمام آلة حرب إسرائيلية تستعد لإبادته، كما يعي مسؤوليته الإنسانية برفع صوته عاليًا ضد مجزرة مستمرة ومعلنة، ولا يقف في وجهها أحد من دعاة الإنسانية وحقوق الانسان، وكأن جميع هذا العالم المتحضر يوافق على نزع صفة الإنسانية عن أهل غزة كما أرادت إسرائيل وعلى لسان وزير حربها، حين قال: “نحن نحارب حيوانات بشرية ونتصرف وفق ذلك”، وإسرائيل تفعل ذلك قبل السابع من أكتوبر وبعده، وهو ما جعل الشعوب العربية وبعض الغربية التي لم تتلوث بالدعاية الإسرائيلية، والتي لا تزال على إنسانيتها، تقفز فوق قوانين المنع والتحذير الأوروبية والعربية، مراهنين على انتصار كلمة الحق على باطل الحرب، وعلى وحدة شعاراتهم ضد المجازر، ومدركين أهمية صوت الشعوب بمواجهة صمت الحكام وجور الاستعمار ولهيب النيران.
صحيح أن غزة ليست المدينة الفاضلة، وحكامها لا يمتلكون ثقافة اليوتوبيا، ولا ينعم سكانها بكل أسباب الراحة والعيش الرغيد، لكنها وطن لمواطنين مدنيين من لحم ودم وأحلام وذكريات، يدافعون عنه ببقائهم في أرضهم وتمسكهم بها، رغم الموت الذي يحاصرهم ويخطف أطفالهم ويقتات على أحبتهم، ولعل هذا ما يخيف إسرائيل ويجعلها أكثر وحشية لاجتثاث الشعب الفلسطيني، وتبديد حلمه وهدم ذكرياته.
*كاتبة سورية.
ضفة ثالثة
———————
كيف نتحدّث عن بلد من دون أن نذكر اسمه؟/ مناهل السهوي
التضييق الذي يمارسه السياسيون الغربيون والخوارزميات، على البلد الذي لا يريدون أن نقول اسمه، يدفعنا الى التساؤل: هل يريدوننا أن نتحدث عن بلد غير موجود، عن آلام الناس من دون أن نقول من هم، وعن القتل المتعمد لشعب كامل من دون أن يحرك أحد ساكناً ومن دون أن نقول من هو القاتل.
في الصباح، حين سأل مديري في العمل عن آخر إحصاء حول أعداد ضحايا مجزرة مستشفى المعمداني (الأهلي)، قلت له: “قرأت آخر شي 1250”. بعد دقائق، تساءلت: أين قرأت هذا الرقم؟ لم أقرأه في أي مكان، لقد كان جزءاً من كابوس فظيع راودني ليلاً، استيقظت منه من دون أي ردة فعل وتابعت حياتي الواقعية، كأنَّ الكابوس جزءٌ من الواقع، فهل نستيقظ من كوابيسنا أم عليها؟
كيف يمكن أن نتحدث عن بلد من دون ذكر اسمه خوفاً من رقابة الخوارزميات؟
بلد يُحرم الناس من مساندته أو التعبير عن التعاطف تجاه سكانه، وفي عالم رقمي يحجب منشوراتنا على وسائل التواصل الإجتماعي لو دعمناه، ويطرد موظفون من مؤسسات كبرى للسبب ذاته، ويهدد آخرون بسحب الجنسيات منهم.
هو بلد نشعر بالانتماء إليه وبأنه جزء من ذاكرتنا، ذلك البلد هو جرحنا، رمزه الكوفية، يريدون ألّا نذكر اسمه
أين نذهب بوجعنا وحسرتنا على الضحايا؟
التضييق الذي يمارسه السياسيون الغربيون والخوارزميات، على البلد الذي لا يريدون أن نقول اسمه، يدفعنا الى التساؤل: هل يريدوننا أن نتحدث عن بلد غير موجود، عن آلام الناس من دون أن نقول من هم، وعن القتل المتعمد لشعب كامل من دون أن يحرك أحد ساكناً ومن دون أن نقول من هو القاتل. في النهاية، وجدتُ أنه من الممكن الحديث عن بلد من دون أن نقول اسمه، يمكن بالفعل الحديث عنه وسيعرفه الجميع كما عرفوه دوماً.
هو بلد نشعر بالانتماء إليه وبأنه جزء من ذاكرتنا، ذلك البلد هو جرحنا، رمزه الكوفية، يريدون ألّا نذكر اسمه، ولا المجازر والقتل والاستهداف الإسرائيلي للأطفال والأبرياء، وأن الأطفال يكتبون أسماءهم على أيديهم، فإذا ماتوا تحت القصف عرف الأحياء هوياتهم، مع هذا كله يريدوننا أن ننسى ذلك البلد ونتصرف كأن شيئاً لم يحصل، وعلينا أن نكمل حياتنا كما لو أن الضرر الجانبي “لإسرائيل” هو بضعة آلاف من الأرواح، لكنهم لا يدركون أن هذا العطب والضرر يصيبنا جميعاً وأننا نستيقظ كأننا مهجّرون وخائفون ومحاصرون، فإسرائيل لا تحاصر الأبرياء في غزة وحسب بل تحاصرنا جميعاً على هذا الكوكب.
إننا نعيش بالفعل كابوساً كبيراً، فيما العالم يتجاهل ألم الغزاويين ولا يلتفت الى أطفال القطاع، هم في نظر ميديا الاستقطابات السياسية أقل قيمة إنسانية من غيرهم. نعم إننا نرى ذلك، صراخ أطفالنا لا يصلهم والقهر لا يعنيهم، ولا سبب لذلك سوى أننا أقل إنسانية من “الستاندر الغربي”، وهذا هو الكابوس الذي نعيشه، كابوس كذبة الديمقراطية والحرية التي كنا نأمل بها. نحن من خرجنا من بلاد دمرتها حروب الديكتاتور، كنا نأمل بإيجاد الحرية في مكان آخر، وإذ بنا نصطدم بواقع أن الآخر الغربي، وتحديداً السياسات الغربية، لا يسمعنا ولا يرانا أصلاً.
وبعدما طُبِعَتْ مشاهد الأطفال الخائفين والمصدومين في ذاكرتنا جميعاً، أتساءل: ماذا لو انتشر فيديو لطفل مرتجف بسبب القصف، في البلد التي يريدون أن ننسى اسمها، على أنه لطفل في بلد آخر؟ هل ستصبح عيناه حقيقيتين؟ هل كان سيخرج قادة العالم للتنديد بما يحدث وإيقافه؟ إذاً، تحتاج عيون الأطفال الى أن تنتمي الى بلد آخر حتى يصدق العالم معاناتهم.
البلد الذي طُرد سكانه منه وجاء آخرون من أصقاع الأرض لاحتلاله، واحتجّ أهله ورفضوا تسليم منازلهم فقتلهم الغرباء، نستطيع الحديث طويلاً عنه من دون ذكر اسمه وسيعرفه الجميع. لكن المضحك المبكي أننا لو روينا قصة ومعاناة هذا البلد من دون ذكر اسمه، ستكون قصة مأساوية وسيعتبرها الغرب أمراً غير إنساني، أما أن نذكر اسمه، فستصبح القصة فوراً أقل مأساوية ولها سياق مختلف، ستصبح بالتأكيد قصة عادية.
هل يجب أن نفكر مرتين قبل أن نتضامن مع المظلومين، لأن معايير الإنسانية متغيرة بطريقة نعجز عن مجاراتها نحن الذين خرجنا من بلاد داست فيها الأنظمة على الديمقراطية والحرية، رغم ذلك ما زلنا نؤمن بالحرية، فمن حُرم منها طويلاً يستدل عليها بسهولة.
في معركة الحرية، لم تكن شروط اللعبة عادلة يوماً، فحتى الإعلام والخوارزميات لم يكونا نزيهين تجاه البلد الذي لا نستطيع ذكر اسمه. واللافت في معركة الخوارزميات، أن الخوارزميات الحالية لا تمتلك الفهم الإنساني للسياقات الثقافية والفروق الدقيقة والمعاني الكامنة وراء أنماط الكلمات أو ارتباطاتها، ما يعني أنها غير قادرة تماماً على فهم صورة شعرية تتحدث عن البلد الذي لا يريدوننا أن نذكر اسمه. ورغم هذه التحديات التقنية، قامت شركتا “ميتا” و”يوتيوب” خلال هذا العام، بعمليات تسريح واسعة النطاق للعاملين في مجال تحديد الانتهاكات والتحريض على العنف، واعتمدت بشكل أكبر على الأساليب الخوارزمية. وبحسب تحقيق نُشر بعنوان “الفضاء المغلق” في برنامج “ما خفي أعظم”، أكد مدير سياسات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في “فيسبوك” سابقاً، أشرف زيتون، أن إسرائيل استطاعت أن تخلق منظومة قوية جداً للضغط والتأثير على إدارة “ميتا”، وأن السياسة الإسرائيلية حاولت أن تؤثر حتى على القواعد التي تحكم عمل الخوارزميات. إذاً، المطلوب في هذه الحرب هو حجب الإنسان وإنسانيته ووضع الخوارزميات مكانه، الخوارزميات التي لا تشعر ولا تتعاطف ولا تتضامن. إلا أنه غاب عن بالهم أن الخوارزميات ليست بشراً ولا تمتلك لغة تتلاعب بها، لتروي قصة الاحتلال كما يحلو لها من دون ذكر اسم البلد المحتلّ أصلاً.
لا تعلم الخوارزميات أن سكان ذلك البلد يكتبون منشورات قبل يوم من موتهم، يتحدثون فيها عن البلد والخوف والظلم، ينتظرون موتهم وحسب، ينظرون في عيون الأطفال، يخطر لهم أن ينقلوا ألمهم عبر منشور على “فيسبوك”، فتأتي إسرائيل وتقتلهم بقصفها. “فيسبوك” اليوم هو مقبرة لآلاف الحسابات التي رحل أصحابها في ذلك البلد، والذين نعيد نشر ما كتبوه قبل رحيلهم بأيام كدليل على الظلم، هذا كله تجهله الخوارزميات التي كما حكومات الغرب تتجاهل الإنسان.
لقد فشل الغرب في التعامل مع أزمة إنسانية، وسقط في الامتحان من دون أن يعترف، فالحكومات الداعمة لقصف القطاع، لديها من العنجهية والاستعلاء، إنسانياً وسياسياً، ما يجعلها تصدق أن الأطفال الذين يموتون هناك هم “إرهابيون”، وأن الموت والقصف سيؤديان إلى السلام!
ظاهرياً، يبدو العالم الغربي أنه نجح في قطع شوط كبير في القضاء على العنصرية ضد السود وتحريرهم من العبودية، لكنه في الحقيقة لم يقضِ على العنصرية كفكرة، فهي ما زالت موجودة وبقوة، ويستخدمها اليوم ضد فلسطين التي لا يريد أن نذكر اسمها، أو حتى أن تمتلك اسماً في الأصل. ذلك كله هو جزء من خطة لنزع الإنسانية عن شعبها، وفي المحصلة لن يتعاطف الناس مع بلد لا يحمل اسماً أو مع مدنيين مجهولين… هكذا إذاً، تُستَعبد الإنسانية في القرن الواحد والعشرين.
درج
———————-
العيش على أنقاض حرب تموز/ ولاء صالح
قبل سنوات مضت، لجأتُ من سوريا إلى إحدى ضيع أقصى الجنوب اللبناني للعيش فيها. قال لي أحدهم آنذاك إنّ البناء الذي سكنتُ فيه كان قد دُمّر بالكامل في حرب تموز عام 2006. لا أذكر أنّني انفعلتُ بعدما علمت، لم يَعنِ لي شيئاً أن أعيش مثلاً على أنقاض خرابٍ ما لأنّني وصلت لاجئة آتية من حربٍ قاسية وأبحثُ عمّا يُرمّم جرحي. أردتُ منزلاً بجدارٍ غير مثقوب وحمّاماً بمياه ساخنة وسريراً مريحاً وأرضاً ثابتة، هذا كل شيء.
قضيتُ نحو خمس سنوات في هذا المكان، الذي يبعد عن الحدود الجنوبية للبنان بضعة كيلومترات، وأنا أشاهد بشكلٍ مستمر مركبات اليونيفيل (قوّة الأمم المتحدة لحفظ السلام) التي انتشرت بعد وقف القتال بين حزب الله واسرائيل، وأطأ بقدميّ على أرضٍ ما زالت ذاكرتها مع الحرب طازجة وحيّة، كلّ جزءٍ منها يقول إنّ ثمّة دماء كثيرة انسكبت هنا. عانى الجنوب اللبناني كثيراً؛ تُمثّل الأضرار التي أصابته نحو نصف حجم الأضرار المُقدّرة خلال الحرب بأكملها، تمّ تدمير 8000 منزل وتضرّر نحو 45000 منزلٍ آخر، أُزهقت أرواح الآلاف ونزح مئات الآلاف عن منازلهم.
كنتُ أستمعُ آنذاك لحكايات النساء الجنوبيّات عن الحرب والنزوح إلى بيروت وسوريا، أُدقّق في تفاصيلهنّ حيث يتجمّد الزمن وتنكمش أجسادهن وهنّ يروين عن النزوح والإقامة في مدارس دمشق وريفها، وعن صداقة ما تزال بينهن وبين عائلات سورية عرفوها أثناء النزوح إلى سوريا. كثيراً ما ازدريتُ إعجاب بعضهنّ بنظام الأسد الحليف لحزب الله، لكننا جميعاً تشاركنا ألم الحروب، وأنا بحثتُ في أحاديثي عن أي تفصيل يمكنه أن يُبقي على إنسانيتنا حيّة فقط.
عقب «طوفان الأقصى» في السابع من تشرين الأول ( أكتوبر)، والأحداث الدموية والجرائم الوحشيّة التي اُرتكبت وما تزال في غزة، توجّهت الأنظار نحو الجنوب اللبناني على اِعتبار حزب الله مكوّناً أساسيّاً من «محور المقاومة والممانعة». هاجم حزب الله مواقع إسرائيلية في مزارع شبعا، ردّت إسرائيل بقصفِ مصدر الهجوم، ومنذ ذاك الوقت لا يغيب ذكر حرب تموز عن المجالس، يستعيدها اللبنانيون وكأنّها البارحة. أنا لا أتحدّث هنا عن السياسة، بل أتحدث عن حياة هؤلاء الأشخاص الذين سلبتهم الحرب أرواح أحبائهم، وسلبتهم منازلهم وسعادتهم ومستقبلهم؛ الذاكرة آلة تفتك بالإنسان.
قبل أيام وضّبتُ أوراقي المهمّة وحقيبة صغيرة و«لابتوبي» الذي أعمل عليه، هذا كلّ ما أملك، وصعدتُ في باص كبير يقلّني من الجنوب نحو بيروت. تذكرتُ المرّة الأولى التي حطّت فيها قدمي على هذه الأرض منهكة وحزينة حالمةً بالخلاص، وكأنّ السنين الماضية كلّها أصبحت لحظة واحدة. لقد انقضى نصف عمري وأنا أرتحل من مكان إلى آخر للأسباب ذاتها، إنّها الحرب.
أتجنّب الردّ على جميع الاتصالات من عائلتي، أخجل من إخبار والدتي بالحقائق، أخجل من الكذب وأخشى من حزنها عليّ، أتنصّل من عبء الإجابات وأتحجّج بضغوط العمل وانقطاع الإنترنت.
اتصلتُ بإحدى شريكاتي في السكن الذي كنت أقيم فيه في الجنوب لأطمئن على أهلها المقيمين قريباً من كفر شوبا، قالت لي إنّهم رحلوا ولم يبقَ أحد. فرغت الشوارع من أهلها في كفر شوبا والخيام والمطلّة، وتفرّقت العائلات عن بعضها.
نزوح لبناني سوري
تشهد القرى الجنوبية المتاخمة للخطّ الأزرق نزوحاً مُتزايداً إلى المدن الأكبر والأكثر أماناً بسبب تمدد رقعة الاشتباكات. قالت الأمم المتحدة إنّه حتى الثالث والعشرين من الشهر الحالي نزح 21118 من مناطق غير آمنة، غادر النازحون 108 نقطة وقصدوا 173 نقطة جديدة وتركّزوا في صور وصيدا وجبل لبنان وبيروت.
توزّعت أكثر من 1500 عائلة لبنانيّة وسوريّة على عدد من مراكز الإيواء في المدارس الرسمية والخاصة في مدينة صور، أعدّتها وحدة إدارة الكوارث في اتحاد بلديّات صور مُعلنةً بشكلٍ واضح ضعف الإمكانيّات لتأمين حاجات النازحين.
اللاجئون السوريون اليوم هم جزء أساسي من هذا المشهد. يُخشى على مئات الآلاف من منهم ممّا قد تؤول إليه الأوضاع، ومن العيش تحت وطأة حرب قد تقضي على ما تبقى لديهم من أمل بالنجاة. تُخبِرنا الأوضاع الإنسانية والظروف السياسية بأنّهم محاصرون وقد لا يكون هناك ملجأ لهم في حال توسّع نطاق الحرب، سوى السماء والأرصفة، إذ يُقيم في الجنوب اللبناني نحو 89168 لاجئ-ة وفي البقاع نحو 302253 لاجئ-ة.
رفضَ كاهن بلدة رميش التي تقع في أقصى الجنوب استقبال لاجئين سوريين فرّوا من بلدة عيتا الشعب الحدوديّة مع إسرائيل عقب العدوان الإسرائيلي على المنطقة، وهذا مُؤشّر واضح عن ملامح المرحلة القادمة في حال اندلعت الحرب.
أخبرني غياث (اسم مستعار)، وهو أحد اللاجئين السوريين الذين أُجبِروا على النزوح من الجنوب، أنه بعد اشتداد وتيرة الاشتباكات في عيتا الشعب رحل من الضيعة بصحبة عائلة سورية ثانية قاصداً بلدة الصرفند الواقعة على الساحل اللبناني الجنوبي، مضيفاً: «بعدما سمعنا الأصوات قوية بدأ أطفالي بالصراخ، ولم يبقَ أحدٌ في الضيعة، لكن أنا إلى أين أذهب؟».
أما العائلات السورية التي لا تملك وسيلة نقل، فاضطرت إلى الذهاب مشياً على الأقدام من عيتا الشعب نحو رميش بمسافة تُقدر بنحو 5.5 كم. تفاجأت العائلات حينها بوجود حاجزٍ على مدخل الضيعة لمنعهم من الدخول بحجة «لن نتمكّن من إخراجهم لاحقاً»، وذلك بحسب ما أشار نجيب العميل كاهن البلدة.
يُكمل غياث: «كنّا نريدُ فقط أن ’نتآوى‘. يومها هطلَ المطر، صدّقيني هناك عائلات لم تجد ملجأً فنامت في إحدى البراري بين الضيعتين. وصلتُ بعد ذلك إلى أحد معارفي في منطقة البابلية، لكن ظروفه صعبة حيث يسكن مع عائلته في ’كونتينر‘. اضطررنا إلى المكوث عنده نحو ثلاثة أيام حيث بقينا نحن الرجال خارج الكونتينر ونمنا على ’صبّة باطون‘ إلى جانبها، وباتت النساء والأطفال في الداخل».
بعد رحلةٍ طويلة وصل غياث إلى بيروت، يبحث عن منزلٍ كي يستأجره دون جدوى بسبب ارتفاع الإيجارات والعقبات التي تضعها البلديات عائقاً في وجه السوريين.
أمّا عمار (اسم مستعار) فهو يقيم في قضاء مرجعيون، وهو عامل بناء اختبر رحلة نزوح مؤلمة إذ يُقيم في منطقة اشتباك: «لديّ أربعة أطفال لم يعتادوا على سماعِ أصوات كهذه، حينها ركضوا باتجاهي، قاموا باحتضاني وبكوا، حملتهم واتجهت بهم نحو قضاء زحلة، رفضوا استقبالنا، وصلتُ إلى منزل أخي في بلدة إيعات في قضاء بعلبك، أنذرتنا البلدية أنّه يتوجب عليّ بحلول الغد المغادرة».
ما زال عمار يتنقّلُ من منطقة إلى أخرى ومن بلدية إلى ثانية دون جدوى، وفي ظروف معيشية سيئة بعدما فقد عمله، وأنهى كلامه بأنّه في حال بقيَ الوضع هكذا «سيعود إلى منزله ولوكان مُدمراً».
نزحت بعض العائلات إلى بيروت. يشتكي اللبنانيون والسوريون من ارتفاع إيجارات المنازل، وبحسب أحد مالكي العقارات أنه وبسبب النزوح بدأ المؤجّرون والمكاتب العقارية باستغلال هذه الأزمة، فارتفعت الإيجارات نحو 7 بالمئة، وآخرون يقولون إن الزايدة وصلت إلى نحو 30 بالمئة حتى في مناطق نائية وغير مُخدَّمة. بالتأكيد تختلف الظروف بالنسبة إلى ميسوري الحال، لكن هذا واقع حال الطبقة العاملة والمُفقَرة من النازحين؛ لبنانيين وسوريين.
بيروت مظلمة في هذه الأيّام وناسها حزينون، يتعامل بعضهم مع ما يحدث بسخرية حيث أنهم فقدوا ثقتهم بقدرة الدولة اللبنانية على حمايتهم. أما السوريون فقد فقدوا كل شيء؛ هذه ليست الكارثة الأولى، إذ رحّلت الأجهزة الأمنية والعسكريّة بين أيلول (سبتمبر) والسادس من تشرين الأول (أكتوبر) 2023 5025 لاجئ-ة، وسلّمت إلى الأمن العام 172 لاجئ-ة. كما أُقفلت الآلاف من المحلات التجارية والمراكز التي يستثمرها سوريّون على امتداد الأراضي اللبنانيّة، فيما دعت البلديّات كافة، وبخاصة في بيروت والبقاع شمال البلاد والنبطية وبرجا في الجنوب، المحافظين والمخاتير إلى وجوب تنظيم «الغرباء»، وتلك القرارات ما تزال تُطبَّق حتى على هؤلاء «الغرباء» الذين فرّوا من جحيم الضربات الإسرائيلية في الجنوب اللبناني.
الآن، ما من أحد يُخبّئ قلقه من أن تتسع رقعة الحرب، ذلك أنهم جميعاً مُستنزَفون، لأنهم أبناء الحرب ولم يعرفوا غيرها، ولأنهم أساساً متروكون لوحدهم منذ أن حطّت أقدامهم هذه البلاد.
احتمالية نشوب الحرب ما زالت قائمة، وفضلاً عن الجنون والإحباط الذي يلفُّنا ويمزّق قلوبنا بسبب الصور الآتية من غزة، ثمّة شعور بالإنكار نعيش فيه، ربّما إنكار في وجه الحقيقة التي لا نريد أن ندركها أو حتى نصدقها بأنّ هناك حرباً قد تُفرض وعلينا أن نقبل ذلك. أمّا النتائج، فيصعب علينا تَخيُّلها الآن.
موقع الجمهورية
————————
غزة: الحرب والنفاق السياسي!/ عبدالرحمن مطر
يأخذ العدوان الإسرائيلي على غزة، سمة الحرب الشاملة ضد الفلسطينيين، وتدل على ذلك جملة من المعطيات، من أهمها توفير الغطاء السياسي والإعلامي الدولي للعمليات العسكرية الإسرائيلية، والذي يجعل من استمرار الحرب ممكناً، حتى الآن، على الرغم من تعارضه الكلّي مع القانون الدولي الإنساني، وفشل كل الجهود لإيقاف الحرب، لأسباب واضحة، يتمثل أبرزها في القرار الأميركي – الإسرائيلي، باستغلال المساندة الدولية، في حين يعترف “بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، إلى أقصى درجة ممكنة، وبصورة غير محدودة في ارتكاب المجازر.
لقد أدخل المجتمع الدولي نفسه، في أتون حرب، ليست حربه، عبر المساندة غير المسبوقة، لحكومات الدول الغربية، بصورة عامة، وبشكل خاص فرنسا وبريطانيا وألمانيا وكندا، إضافة بالطبع إلى الولايات المتحدة التي لا يمكن النظر إلى سياساتها، بمعزل عن ارتباطها أو مصدرها الإسرائيلي. وقد سمحت تلك المساندة غير المحدودة بانحيازها، للكيان الإسرائيلي، بتنفيذ الخطط التي تريد، من دون سقف، في أقصر وقت، ومن دون أي مساءلة قانونية محتملة، وبمختلف وسائل القوة التي تمتلكها. وهذا ما يجعل مما يجري، على أنه حرب حكومات الغرب الموالي والداعم لإسرائيل، ضد الفلسطينيين، تحت ستار “القضاء على مصدر الإرهاب: حماس”. وأنها – بالقطع – ليست عمليات انتقام إسرائيلية، فحسب.
النفاق السياسي والمعايير المختلفة
أظهرت الحرب مدى النفاق السياسي المعلن والصريح الذي تمثل بالدعم السياسي، في تجاوز واضح وربما غير مسؤول لالتزامات تلك الحكومات بدعم ومساندة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وفقاً لقرارات الأمم المتحدة، ومخرجات عملية السلام في الشرق الأوسط، يضاف إلى ذلك النتائج المترتبة حتى اليوم من جرّاء مجاراة إسرائيل، والسماح لها بالقتل والتهجير على أوسع نطاق، كما لم يحدث من قبل في تاريخ الحروب – العربية الإسرائيلية، أو العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة والضفة الغربية، منذ تأسيس الدولة الصهيونية قبل 75 عاماً. هذا النفاق السياسي الذي يستحضر جريمة الهولوكوست، مقابل السماح بتنفيذ جريمة إبادة جماعية وتهجير شامل للسكان الأصليين لفلسطين، من دون أن تكون هناك أية مؤشرات للدفع باتجاه الالتزام، وفقاً للاتفاقيات الدولية ذات الصلة. وليست مسألة الأخذ بالمكاييل المختلفة في إنفاذ بنود القانون الدولي هي المشكلة الأبرز، إذ طالما مارس الغرب ازدواجية المعايير، في كل القضيا الدولية. لكنه اليوم يتجاوز ذلك إلى التحالف مع المعتدي، في ظل جنوح غربي “نحو تعزيز الحريات الخاصة” مقابل التضييق على الحريات العامة، والتجاهل التام لقضايا حقوق وحريات الشعوب التي ينقلب عليها، من دون أي التزام سياسي أو قانوني أو أخلاقي.
حملات التشويه والتضليل
شكلت تلك رافعة أساسية للمواقف المؤيدة لإسرائيل بصورة تتبدى فيها الحقائق، بجلاء كبير، في اتجاهين، هما: إدانة الطرف الفلسطيني، باعتباره “إرهابياً معتدياً”، وفي الحق الإسرائيلي في الاستخدام المفرط والمطلق للقوة. ونشهد منذ صبيحة “طوفان الأقصى” واحدة من أشد عمليات التغطية الإعلامية التي تترافق مع الغطاء السياسي الدولي، والتي تتركز في بث معلومات وأحداث وصور مغايرة تماماً لوقائع الكارثة الإنسانية المهولة الجارية على الأرض من جرّاء العدوان. وفي ظل تغييب تام لأسباب عدم الاستقرار الأمني في المنطقة – إن جاز استخدام هذا التعبير- إذ لا يتم الربط بين الاحتلال الإسرائيلي، وسياسات الحصار، والعقاب الجماعي المتواصل منذ 75 عاماً، ولعل الروايات الأولى (الغربية والإسرائيلية على حدّ سواء) بشأن ما يجري، حتى اليوم، شكلت إطاراً عامّاً للصورة الذهنية حيال “حق الدفاع الإسرائيلي” لدى قطاعات واسعة من الرأي العام الغربي. ويخدم هذا التضليل منع إيقاف العمليات العدوانية الإسرائيلية، والسماح باستنزاف القوى الدولية، بأية صورة أو وسيلة ممكنة لعدم إدانة الكيان الصهيوني، وبالتالي، إحداث تطور نوعي جديد في القضية الفلسطينية، تتمثل بفتح الطريق أمام وضع حدّ لعملية السلام المتعثرة، وخلق معطيات جديدة في المنطقة تتمثل بتدوير دفة الصراع في المنطقة لصالح الاحتلال الإسرائيلي بصورة تامة، وفق سيناريوهات متعددة قد لا تقف عند إعادة احتلال غزة وتهجير سكانها، وفي الحدّ الأدنى تجريف شمالي القطاع، وجعله أرضاً محروقة لمدى غير منظور.
تغييب الرأي العام
في سياق تجاهل غربي تام للرأي العام، تسود مخاوف عديدة تتمثل بانتهاك حقوق الأفراد والجماعات، بما يتصل بحرية التعبير والرأي، وهو ما يعد شكلاً من أشكال ممارسة القهر ضد قوى المجتمع، سيكون أبرز ضحايا ذلك ناشطو الرأي العام من كتابٍ وصحفيين وحقوقيين. ونشاهد جلياً كيف أن الحكومات الغربية سارعت لمساندة إسرائيل من دون العودة إلى ممثلي الشعوب في البرلمانات، وأنها تعزز من إبقاء السياسات الخارجية، بعيداً عن رقابة وإرادة المجتمعات المحلية/ أو الرأي العام، والذي يُترك قصداً أمام الأداء الإعلامي المنحاز إلى طرف بعينه، مع حملات وبرامج التضليل التي يتم بثها ونشرها بغزارة، كي تحول دون أي تحرك نحو مساءلة الحكومات، أو العمل في إطار المنظمات البديلة، لإنتاج رأي عام مناهض للحرب.
على الرغم من ذلك، فإن كثيراً من المجتمعات المحلية، في الدول الغربية الأشد مساندة لإسرائيل، تمكنت من كسر طوق العزلة التي تحاول الحكومات فرضها، وإظهار مساندتها للفلسطينيين، بمعزل عن الدفاع عن/ أو مساندة حركة حماس، وغير ذلك مما يشتت الرأي العام، ويحدّ من التوجه نحو إبراز البعد الأساسي في القضية، وهو حرية الشعب الفلسطيني، وحقه في تقرير المصير.
وفي واقع الأمر، إذا كانت حكومات الغرب المتصهينة ما تزال تغالي في نفاقها السياسي، وتلوّح بصورة مواربة باحتمال اتخاذ عقوبات بحق مناهضي إسرائيل، تأسيساً على حرية التعبير، وهو ما يفتح باباً على ممارسة الكراهية، لا يمكن الحدّ منه، فإن الحكومات الغربية تضع نفسها في مواقف تجاذبٍ حادّةٍ في المجتمعات التي تمثلها، وقد تؤدي إلى خسارة نسبة كبيرة في شعبيتها، كما يحصل اليوم في كندا، مع الحكومة الليبرالية، التي اختارت الانحياز بعماء إلى إسرائيل، في مجتمع متعدد الثقافات، متنوع القوميات، لم يعد في صالح الحزب الليبرالي، وقد تجلى بطرد رئيس الوزراء جوستين ترودو من لقاء جماهيري إسلامي، بصورة مذّلة، كمثال.
هذا النفاق السياسي يجعل من تلك الحكومات، ليست مساندة لإسرائيل فحسب، بل مؤيدة وداعمة لها، وشريكة لها في جرائم الحرب، ومحرّضة على ارتكاب مزيدٍ منها. وسوف تدفع ثمن تجاهلها لاتجاهات الرأي العام، خاصة فيما يتصل بالحقوق والحريات. في الوقت الذي تظل فيه إسرائيل غير راضية عن مواقف الغرب، على الرغم من كل ابتزازها له، كي لايجرؤ أحد على التذكير بالقوانين الدولية التي تلزم بحماية المدنيين، أو الجنوح نحو أي شكل من أشكال العدالة والسلام.
————————
الأنظمة الأقلوية المرعوبة والتوحش/ عمار السمر
يحار المختصون في السياسة والتاريخ وعلم الاجتماع في تفسير العنف والتوحش الذي يتعرض له السوريون والفلسطينيون، وإن كان التاريخ القديم قد نقل إلينا ما تقشعر له الأبدان من حروب ومجازر في أزمنة التعصب الديني والمذهبي والاستعماري. لكن في التاريخ الحديث والمعاصر، بعد أن قطعت البشرية أشواطاً واسعة على طريق التمدن والتحضر، أصبح الأمر مختلفاً. فقد ظهرت الدول الوطنية الحديثة، حيث تساوي القوانين بين المواطنين وتحفظ حقوقهم بغض النظر عن خلفياتهم الدينية والاجتماعية والعرقية. وجاءت القوانين الدولية لتعزز حقوق الأفراد والجماعات والدول وتحكم العلاقة بينها. مع ذلك حدثت العديد من الحروب والمجازر التي صارت توصف في القوانين الدولية بالإبادة الجماعية (الجينوسايد) تقوم بها أنظمة وكيانات هاربة من زمن التوحش إلى عصرنا الحاضر ومنها الكيان الصهيوني ونظام آل الأسد.
توجه “إسرائيل” توحشها إلى من تعدّهم عدوها الوجودي؛ الفلسطينيين خاصة والعرب والمسلمين عامة، بينما تفرط في الحفاظ على حقوق مواطنيها بل اليهود في كل مكان. أما نظام الأسد، الذي يفوق توحشه الإسرائيليين بدرجات، لكنه موجه نحو من يفترض أنهم مواطنوه السوريون، ولم يوفر الفلسطينيين الذين عرفوا توحشه في سوريا ولبنان.
في محاولته لتفسير عنف نظام الأسد و”إسرائيل” يقول المؤرخ وعالم الاجتماع الألماني تيودور هانف في كتابه الضخم عن الحرب الأهلية اللبنانية والأطراف الفاعلة فيها: إن سياسة “إسرائيل وسوريا” (يقصد نظام الأسد)، ككل نظام أقلوي مرعوب، هي سياسة الخوف. ويرى أن هذه السياسة خطيرة لأنها تقوم على المجازفة بكل شيء خارج العقلانية والموضوعية. فالخوف هو القوة المحركة للسياسة السورية. وقد دفعها الخوف من فقدان السلطة إلى إقامة نظام أكثر شدة من الأنظمة التي عرفتها البلاد سابقاً، كما كان الخوف دافعها للانتقام من الأكثرية المحكومة والمغلوبة على أمرها، وكانت القوة والبطش سلاح النظام الذي لم يتوان عن سفك الدماء لقمع أي تمرد ضده. وهذا ما حصل عام 1982 في حماة، التي لم يتردد حافظ أسد في قصفها بالمدفعية والدبابات وقتل آلاف السكان، كما فعل الشيء نفسه مع الفلسطينيين في لبنان لأنه كان يعدّ أي تهديد لدوره الإقليمي تمهيداً لفقدانه السلطة في سوريا.
التوحش الذي ابتكره حافظ أسد استمر فيه وريثه بشكل مضاعف ضد السوريين الذين ثاروا على نظامه منذ عام 2011 وحتى الآن. وهو نفس ما تفعله “إسرائيل” اليوم ضد الفلسطينيين، وهو ما اعتادت فعله منذ نشوء بذرتها الأولى. كلا النظامين ينطلقان من خلفية أقلوية تحكمها عقدة الخوف والريبة من الآخر، وهما يستمران في الحكم بالخوف والعنف ويؤمنان بأن كسر الإرادة والأمل عند محكوميهم (الفلسطينيين والسوريين) يؤمّن استمرارهما وتفوقهما. لذلك عند كسر حاجز الخوف جن جنونهما، كيف يُكسر وتظهر الإرادة والأمل عند من يحكمانهم؟ فالإرادة والأمل خطر وجودي عليهما، وجزاء ذلك الفناء بالإبادة والتهجير.
مؤخراً كثرت المقارنات بين الكيان الصهيوني ونظام الأسد وأيهما أكثر توحشاً، وإن كان أكثر السوريين والفلسطينيين يعرفون الجواب لأنهم جربوا توحش الطرفين. على الرغم من ذلك يُجمع من عندهم أدنى معرفة ومتابعة لما جرى في السنوات الأخيرة أنه لا يوجد نظام في عصرنا الحاضر يضاهي نظام الأسد في التوحش، مع الفرق الشاسع بين الحالتين السورية والفلسطينية، ففي سوريا يتوحش النظام على من يُفترض أنهم مواطنوه. لكن طبيعة النظامين وخلفيتهما واحدة رغم الفروقات هنا وهناك. فالصهيونية ونظام الأسد، بالإضافة إلى هذا التوحش الذي استدعى ردود أفعال يمكن اعتبارها طبيعية من الشكل نفسه، قاما بتدمير المجتمعات في منطقتنا بإصرارهما على اتباع سبل التضامن الطائفي الديني لبقائهما واستمرارهما. بالإضافة إلى تقديمهما الخدمات المتبادلة مع قوى إقليمية وعالمية (روسيا وإيران أو الولايات المتحدة الأميركية والغرب) لدعهمها ومساعدتهما في الإفلات من تبعات جرائهما.
بالعودة إلى المقارنات في التوحش، كتب مؤخراً الصحفي الأميركي المشهور توماس فريدمان مقالاً في نيويورك تايمز أشار فيه إلى إمكانية اتباع “إسرائيل” في حربها ضد غزة ما عُرف بـ “قواعد حماة” Hama Rules، في إشارة إلى التوحش الذي اتبعه نظام الأسد لإخضاع مدينة حماة التي عارضته. وفريدمان هو مبتدع المصطلح إثر تجوله في المدينة بعد مجزرتها بوقت قصير كمراسل لصحيفة التايمز ووصف ما شاهده. ومما قاله: “واحد من أكثر الأشياء التي رأيتها تقشعر لها الأبدان على الإطلاق: أحياء بأكملها بدت كما لو أن إعصارًا اجتاحها ذهابًا وإيابًا لمدة أسبوع”. ومنذ ذلك الوقت عُرف هذا المصطلح في الغرب وناقشه العديد من المختصين. وعاد فريدمان إلى التذكير به في عام 2011 مع بدايات الثورة السورية، بمقال عنوانه:The New Hama Rules (قواعد حماة الجديدة) في إشارة إلى سير بشار على طريق والده، وذلك قبل أن يتجاوز توحش أبيه وقواعده في الغوطة وحلب وحمص وداريا وغيرها، وقبل استخدام البراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية، واستجلاب مجموعات المرتزقة، كفاغنر الروسية والميليشيات الطائفية الشيعية وغيرها، لقتل السوريين الرافضين له. وهكذا بات مصطلح قواعد حماة قديماً لا يليق بتوحش الأسد الابن الذي أتعب المتوحشين من بعده.
فكيف يمكن لهكذا أنظمة هاربة من زمن التوحش الاستمرار في محيطها؟ وهي حكماً لا يمكنها البقاء دون العنف والخوف. وإلى ماذا سيؤدي استمرارها في النهاية؟ لا بد من نهاية هذه الأنظمة المتوحشة.
————————-
حرب غزة.. في العودة إلى صراع الحضارات/ منير الربيع
غزة 2023، بعد سوريا منذ عام 2011، بعد الموصل 2017، بعد بغداد 2003، وما قبلهم وما سيأتي بعدهم. كلها محطات تشير إلى النزعة الاستعمارية الغربية في التعاطي مع الشرق ومع العرب بالتحديد. إنه انكسار التاريخ. وما يرتبط بتناقضات في طروحات الغرب، حول ما يحق له وهو محرّم على غيره. تُسهم المواقف الغربية من الحرب على غزّة في زيادة منسوب الشرخ الهائل بين المجتمع العربي والغرب. ما يجدد صراعاً حول الهويات، والقابلة لأن تصبح قاتلة. أو أنها حقبة تعيد إنتاج مفهوم صراع الحضارات. وقد أسهم الغرب نفسه في إعادة إحياء هذه الصراعات وتكريسها، بنتيجة مواقفه المنحازة لصالح إسرائيل في مواجهة العرب.
في السنوات العشرين الأخيرة، ومنذ الاجتياح الأميركي للعراق، تكرس الشرخ إلى حدوده البعيدة، ولم ينجح الغرب في إعادة إنتاج سياسة تتلاقى مع مصالح العرب وتطلعاتهم. في حين تعامى هذا الغرب عن عمليات قتل وتهجير ممنهجة شهدتها الدول العربية بسواعد عربية أيضاً، وكأنهم أرادوا في ذلك تبرير ما يمكن أن تفعله إسرائيل لاحقاً في أي عملية تهجير أو تطهير عرقي أو قومي أو طائفي. في الموروث العربي، ثقافة راسخة تعود إلى ما تعرض له العرب من غدر إبان الحرب العالمية الأولى، والذي تجلى في مسألتين مهمتين، الأولى خديعة دعم قيام دولة عربية متحدة، واللجوء إلى تقسيم المنطقة. والثانية، وعد بلفور وإنشاء دولة إسرائيل. تجددت الخيبة العربية من المشروع الغربي في العراق، وفي سوريا بالتحديد. إذ ترك الشعب السوري للقاء مصيره المحتوم من عمليات قتل وتهجير، على مرأى العالم، وهو ما يسنح للكثيرين الخروج وتبرير ما تقوم به إسرائيل من عمليات قضم للأراضي الفلسطينية وتوسيع الاستيطان وصولاً إلى التجرؤ على فكرة تهجير أهالي قطاع غزة.
وما جرى في سوريا ينطبق على العراق، والموصل تحديداً التي هجرت من سكانها في أشنع عمليات القتل الطائفي والمذهبي على مرأى العالم، بذريعة محاربة داعش. في حين كانت أبرز تجليات تقاطعات المصالح بين الغرب وإيران هي قتال إيران وجماعتها على الأرض في مقابل قتال الأميركيين من الجو. تكرس الحرب على غزة الانقسام مجدداً. في حين يحاول الغرب بنزعة استشراقية أن يقدم وجهة نظر ترتكز على أنه خلال 150 سنة مرّت، لم يقدم العالم العربي والإسلامي إلى العالم أي شيء يتعلق بالتطور أو الحداثة، في حين كان جزء كبير من العرب يواجه الفكرة الغربية، ومواجهة الحداثة، بناء على قناعة قائمة على بقاء مشروع استعماري قديم جديد ومستمر وهو بقاء إسرائيل في المنطقة. وهو المبرر الشرعي والواضح لتجديد العدائية للغرب.
بالنسبة إلى العالم العربي فإن الغرب يُترجم بأنه مشروع إسرائيل في المنطقة، وهي التجربة القوية والواضحة والجارحة إلى حدّ النزيف المستمر نحو القتل. ليس من المبالغة القول وفي معرض التعليق على كل ما يُطلق من مواقف غربية في أن إسرائيل هي آخر إمارة صليبية في المنطقة. ما يحّتم جموح الخيال العربي للبحث عن صلاح الدين الجديد.
وبنتيجة هذه الأزمة، خُلقت إشكاليات كثيرة في العالمين العربي والإسلامي على طريق مواجهة الغرب، وهو اللجوء إلى التطرف أو التنظيمات المتطرفة في سياق ترجمة الصراع عسكرياً ودموياً، من دون تقديم برنامج واضح يتعلق بإصلاح الوضعية السياسية والاجتماعية في المنطقة، ولا تقتصر فقط على ضرورة تحرير فلسطين، إنما العنوان الأكبر هو العدائية للغرب. لكنها عدائية مستمدة من الفوقية الغربية والعنصرية المعطوفتين على نظرية استشراقية، تتجلى في كلام الكثير من رؤساء الدول الغربية، وصولاً إلى حد وصف حركة حماس بأنها إرهابية، إذ وصل الأمر بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الدعوة لتحويل التحالف الدولي لمحاربة داعش إلى محاربة حركة حماس، في تجاوز هائل لمنطق التاريخ، وللاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تحصيل حقوقه، وفك الحصار المفروض عليه والإعلاء من شأن قضيته، إنه صراع جديدة من شأنه أن يتأبد ويفتح السنوات المقبلة على المزيد من الصراعات وتكريس العدائية لذاك الغرب.
—————————-
حماس وخيارات ما بعد “طوفان الأقصى”/ محمد حاج بكري
في مطلع عام 1976 بدا واضحاً اهتمام حافظ الأسد وقتها بالسيطرة على لبنان، وتقدم بمقترح يهدف للتدخل في لبنان بهدف تطويع المقاومة الفلسطينية وحلفائها من الحركة الوطنية اللبنانية، المقترح الذي لاقى قبولا لدى التشكيلات المارونية المدعومة من الأسد، وبدأ زحف القوات السورية إلى لبنان، وكانت أولى عملياته الكبرى ضرب المقاومة الفلسطينية في تل الزعتر، ذلك الحصن المنيع للمقاومة الفلسطينية، ثم أتت عملية اغتيال زعيم الحركة الوطنية اللبنانية كمال جنبلاط في آذار 1977 ضربة قاصمة وموجعة للمقاومة الفلسطينية، ونقطة فاصلة في تغيير مسار الحركة الوطنية اللبنانية التي بدأ فرط عقدها منذ ذلك اليوم الأسود.
سعى حافظ الأسد منذ دخوله إلى لبنان إلى إضعاف أي مقاومة تواجه إسرائيل، وجاء الاجتياح الإسرائيلي للبنان في حزيران 1982، أي بعد ست سنوات من دخول الجيش السوري الجغرافيا اللبنانية، والذي كانت معاركه خلالها أشبه بعمليات تنظيف سابقة لذلك الاجتياح، وبمشاركة بعض الفصائل المحلية الموالية لإسرائيل كحزب الكتائب وجيش لبنان الجنوبي اللذين ارتكبا مجزرتي صبرا وشاتيلا خلال الاجتياح، حتى استطاعت إسرائيل تقليص خسائرها في تلك الحرب كثيرا، ووصلت إلى مبتغاها بإخراج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، بعد رفض ياسر عرفات الانسحاب باتجاه دمشق، خشية تسليم ملف المقاومة الفلسطينية لحافظ الأسد، والذي كان بالباطن مطلباً أميركياً أوروبياً إسرائيلياً.
بعد حرب لبنان كان لا بد من ضبط المقاومة الفلسطينية وتطويعها، وقد فشل حافظ الأسد بالسيطرة عليها نتيجة موقف عرفات الصلب من الأسد، هنا بدأت التحولات في تطييف المقاومة اللبنانية وتشييعها، بعد أن كانت مقاومة يسارية، الخطوة جاءت نتيجة الظرف الحاصل قبل سنوات من الحرب، وهو بروز الخميني في إيران القادم بدعم المخابرات الإنكليزية وهي ذات الجهة التي يشير إليها باحثون بأنها كانت وراء بروز نجم حافظ الأسد في سوريا وصعوده إلى السلطة.
وصول الخميني إلى هرم السلطة في إيران كان نقطة فاصلة في تاريخ المنطقة، حيث بدأ من تلك اللحظة تحالف غربي أميركي مع إيران تحت اسم الإسلام السياسي الشيعي، ضد العرب السنة، فكان تطييف المقاومة في لبنان جزءا من خطة مدروسة لتوسيع وجود إيران بالمنطقة، والتي أطلقت ثورتها شعارات براقة بالظاهر كمحاربة أميركا الشيطان الأكبر، ودحر إسرائيل ودعم المقاومة ضدها، ويروي الراحل ميشيل كيلو عن المفكر السوري إلياس مرقص، قوله حول وصول الخميني إلى طهران بعد نجاح الثورة (هذا الرجل سيجعل المنطقة تعوم على بحر من الدماء).
وهنا بدأ التركيز على حزب الله كفصيل مقاوم متجانس طائفياً، وتحويل المقاومة اللبنانية من خلاله إلى جناح إيراني شيعي وسط لبنان وعلى حدود إسرائيل، منضبط بحسب التوجيهات الإيرانية، والظروف التي تتطلب التصعيد والتهدئة بما يخدم المصالح الإسرائيلية دائما.
ومع التحولات الحاصلة في الملف الفلسطيني خلال التسعينيات، كان لا بد لإيران أن يكون لها دور للسيطرة على المقاومة داخل الجغرافيا الفلسطينية، والذي من الصعب تطييفه بسبب تركيبة الشعب الفلسطيني، فكانت حركتا حماس والجهاد الإسلامي هما الأنسب للدعم الإيراني لإضعاف قوة فتح في الشارع الفلسطيني، أو إيجاد كفة ميزان موازية لها على الأقل، حتى تغيب القيادة الفلسطينية الموحدة، وقد برزت تلك الظاهرة فعلا بعد وفاة عرفات.
ووجدت حماس نفسها أمام أبواب العالم المغلقة باستثناء البوابة الإيرانية، لتتوطد العلاقة مع حكم الولي الفقيه وتصل إلى مستوى واسع، خاصة أن التصريحات الإسرائيلية تجاه إيران لا تدع مجالا للشك في عدائية واضحة بين الطرفين.
إذاً إيران باسم دعم المقاومة والقضاء على إسرائيل توسعت في الحواضر العربية، وسيطرت بقوة في العراق بعد الإطاحة بنظام صدام حسين عام 2003، كما توسع نفوذها في بيروت نتيجة سياسة حزب الله وتعاظم قوته المسلحة التي هدد بها الحياة السياسية هناك، خاصة بعد اغتيال الشهيد رفيق الحريري، وخروج الجيش السوري عام 2005، ليغدو لبنان تحت الوصاية الإيرانية والسورية غير المباشرة.
جاء الربيع العربي عام 2010 وتوسعت رقعته عام 2011 في سوريا واليمن، كفرصة تاريخية لإيران للدخول إلى البلدين عبر نظام الأسد مباشرة في سوريا وبدعم للحوثيين في اليمن، لتغدو الحواضر العربية الأربع تحت السيطرة الفارسية (بغداد، صنعاء، دمشق، بيروت).
كل تلك التحولات في التمدد الإيراني لم تلق أي تحرك غربي أميركي لكبح جماحها، على العكس، بدت الميلشيات الشيعية أو المدعومة إيرانيا في تلك الدول تنتشر كالفطر، ولم تسجل لها بشكل واضح أي انتهاكات تدينها على الرغم من كثرة جرائمها، وبالمقابل كانت الميليشيات المحسوبة على التيار السني تسجل انتهاكاتها بنفسها بفيديوهات مصورة تدينها، وهو ما يعطي صورة فجة عن إرهاب التنظيمات السنية حسب تصنيفات دول الغرب وأميركا.
ومن هنا أصبحت الصورة المشوهة للإسلام السياسي تنصبّ على التيارات السنية حصرا، على الرغم من أنها ليست ذات منهج أو مشرب واحد، فالإخوان المسلون يختلفون في منهجهم عن القاعدة والتي تختلف عن تنظيم الدولة بفكرة الجهاد العام، كما أنها تختلف عن التنظيمات الجديدة صاحبة فكرة الجهاد المحلي كهيئة تحرير الشام، لكن رغم كل تلك الخلافات بين التنظيمات السنية المختلفة، إلا أنها ومن وجهة نظر الغرب تصب في خانة واحدة ومنشأ واحد وتصنيف واحد (الإرهاب السني المتطرف).
بينما في المقابل لا وجود لتوصيف دقيق حول الإسلام السياسي الشيعي، والذي أصبح أكثر توسعا في المنطقة، وأكثر مركزية، حيث إن ميليشياته على طول تلك الجغرافيا تقاد من طهران وبأمر الولي الفقيه، ولا تختلف أيديولوجيات ميليشياته المتعددة، بل تبدو جيشاً واحداً ينتشر من إيران إلى بيروت على البحر المتوسط.
الحالة الفلسطينية وواقع حماس
بعد اتفاق أوسلو، أصبحت حماس رقماً صعباً في المعادلة الفلسطينية، وتعاظمت قوتها بعد سيطرتها على غزة، وانفرادها في حكمها، واستمرارها بالمقاومة ضد الاحتلال على الرغم من عداء المحيط والجوار العربي لها، خاصة مصر، ونتيجة خفوت نجم فتح وعملها العسكري تصدرت حماس واجهة النضال الفلسطيني، لتغدو الرمز الفلسطيني الأبرز كما كانت منظمة التحرير في ثمانينيات القرن الماضي.
اليوم وبعد عملية طوفان الأقصى، والتي كانت أبرز العمايات في تاريخ الكفاح الفلسطيني وأوسعها، باتت حماس بعد ما يقارب العشرين يوماً على العملية باتت وحدها في المشهد المقاوم، وانكفأ عن مناصرتها محور المقاومة من حزب الله إلى إيران ونظام بشار الأسد، لتصبح أمام خيارات الحرب الواسعة والتي ربما ستكون خسائر إسرائيل فيها كبيرة، لكن نهايتها ستكون سلبية النتائج على حماس، والتي ربما ستلقى مصير منظمة التحرير عام 82 بتهجير مقاتليها من غزة إلى خارج التراب الفلسطيني.
المطالبات الإسرائيلية هي بتهجير أهالي غزة مع حماس باتجاه سيناء، وهو ما رفضه الرئيس المصري، والذي اقترح التهجير إلى صحراء النقب.
وعملية الحديث عن التهجير ما زالت بين أخذ ورد، لكن من الواضح أن دول الجوار لن تقبل بتهجير الفلسطينيين إليها، ويبدو أن عملية ضبط المقاومة التي تحدثنا عنها في أول المادة تمضي بمقاتلي حماس إلى سيناريو مختلف، إي ستمضي بهم إلى مكان تستطيع إيران فيه التحكم بهم وضبطهم باعتبار أنها الدولة شبه الوحيدة التي تقف إلى جوارهم من حيث الظاهر، ولن تستطيع نقلهم إلى تراب فارس، ومن الخيارات المحتملة هو الخيار في اليمن، الدولة التي تحكمها ميليشيا ما دون الدولة، وتصبح بذلك قوة على أبواب الخليج مدعومة إيرانياً تبتز بها المنطقة، ولن يكون السيناريو مرفوضا أميركيا، خاصة بعد توتر العلاقات بين السعودية والولايات المتحدة، وربما سيكون باباً أوسع لابتزاز الخليج لدفع أموال لها مقابل الحماية على غرار ما حصل في عهد الرئيس السابق ترامب.
إذاً تهجير المقاتلين إلى اليمن مصلحة أميركية إسرائيلية إيرانية ثلاثية الأبعاد، تبقى معلقة على قرار حماس في الموافقة عليه عند الحديث عنه، أو أنها ستتخذ موقفاً مشابها لموقف ياسر عرفات بعد اجتياح بيروت من حافظ الأسد وتسليمه ملف المقاومة، الأيام القادمة حبلى بالكثير من التفاصيل، والتي ربما ترى حماس من خلالها أن حلفاء الحرب ضد إسرائيل كانوا حلفاء تمرير أجندة لا أكثر.
————————–
ما بين إسرائيل ونظام الأسد إرهاب مستمر وإبادة مبررة دولياً/ وفاء علوش
ليس المشهد غريباً، مدنٌ مهدمة ومبانٍ سوّاها القصف الجوي بالأرض، هروب جماعي من الموت وأشلاء يظهر بعضها من تحت الأنقاض، وجوه مكفهرة وعائلات تبحث عن ذويها.
نعرف نحن السوريين جيداً تلك الحكاية.. ما زالت أصوات الطيران ترعبنا وتجعلنا عاجزين عن النوم وما زالت النيران التي اشتعلت في مدننا لم تهدأ في قلوبنا حتى اللحظة، على الرغم من الفاصل الزمني بين اليوم وبداية الموت السوري الكبير.
تعيش غزة اليوم الحكاية نفسها.. ربما ليست هي المرة الأولى لكنها الأكثر وقعاً، بشكل خاص بعد أن عاش السوريون المأساة نفسها مع اختلاف هوية الفاعل وتشابه النهج الدموي لدى كل منهم.
تصريحات متواترة أدلت بها الحكومات ورؤساء الدول والمنظمات الحكومية وغير الحكومية والمؤسسات الدولية، أدانوا فيها الاعتداء على الأحياء السكنية والمستشفيات، لكنها وكما جرت العادة لم تتعدّ ذلك وبقيت عناوين عريضة في نشرات الأخبار من غير أن تحرز تقدماً أو تمنع موتاً عن الفلسطينيين الذين وجدوا أنفسهم يحاربون وحيدين، من غير أن يكسبوا سوى التعاطف الكاذب من دول العالم العربي التي بات أغلبها اليوم يفتح أبوابه لرعايا الاحتلال ويستقبلهم برحابة صدر في سياحة أو عمل.
السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الجاري كان يوماً فارقاً للفلسطينيين وكان كذلك أيضاً لحكومة الاحتلال، لكنها قلبت القصة لصالحها وصنعت منه حجة لاستخدام القوة والبطش في محاولة قمع حالة المقاومة بدعوى الإرهاب من حماس.
أصبح الإرهاب اليوم حجة من لا حجة له والموضوع الرائج الأكثر مناسبة لتبرير تجاوزات الحكومات بحق الشعوب أو ضد الشعوب المحتلة، تعلق على شماعته تجاوز حقوق الإنسان وتحول فيه قتل المدنيين إلى أضرار جانبية ضرورية للحفاظ على الأمن القومي العام.
هل يبيح الإرهاب فعلاً قصف المدنيين وزهق أرواحهم من غير حساب إذ؟ أم أنها قيم العالم الجديد تعلي أرواح بعض البشر على بعضها الآخر، إذ لا ضير في أن يموت الفلسطينيون اليوم كي تحفظ إسرائيل أمنها وأمن مواطني دولتها المفترضة، ولا مانع أن يقتل نظام الأسد معارضيه لأنهم خونة ومأجورون ويحاولون زعزعة استقرار الدولة.
من هذه النقطة ومن الزاوية التي نرى فيها الأحداث السياسية اليوم تبدو حكاية الإرهاب نكتة سخيفة للغاية، ولم تعد مضحكة بقدر ما هي مستفزة بما تحويه من عبارات جاهزة تدين الآخر وتضعه في موضع يستحق بسببه كل ما يمكن أن يحدث له من موت وتهجير وتنكيل وتشويه في نظر الرأي العام، تجبرنا مثل هذه الحروب أيضاً على تقبل فكاهات أخرى من قبيل المضحك المبكي، إذ إن روسيا التي لم تتوقف عن قصف السوريين وقتلهم تحاول لعب دور حمامة السلام وترسل مساعدات إلى المحاصرين في غزة لحسابات لها علاقة بالاصطفافات الدولية.
بينما يتجاهل العالم أجمع الإرهاب الحقيقي وجرائم الحرب والإبادة التي ترتكبها مثل هذه الحكومات تحت مسميات كثيرة وفي ظل غطاء دولي، يشرع تجاوزاتها بمبررات ساذجة وسيناريوهات أصبحت مكشوفة لدى أي قارئ للوضع السياسي.
لا يحتاج القاتل إلى عذر لأنه سينتصر لفطرته الإجرامية أياً كانت الدوافع وسيجد لجريمته ألف مبرر، الكارثة الأكبر أن يصبح لهذا القاتل معجبون ومريدون يصفقون له ويبررون ويتبنون فكرته الإجرامية ويجدونها منطقية في سبيل هدف أكبر يتوافق مع مصالحهم، وإن لم يكن ذلك الهدف إنسانياً أو أخلاقياً.
لقد عمل النظام السوري وفقاً لأجندة إعلامية خلط فيها الأوراق فضاعت فيها الحقيقة، بالمنهج ذاته الذي تعمل وفقه حكومة الاحتلال الإسرائيلي التي قدمت نفسها ضحية تصدت للموقف بشجاعة نادرة، لتخلص العالم من إرهاب قد يشكل خطراً على التعايش والسلام القائم بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
المنطق ذاته استخدمته أميركا في اجتياحها العراق وروسيا في تدخلها لدعم النظام السوري، لكن ذلك لم يمنع العالم من تأييد الحروب الوهمية على الإرهاب لتحييد الخصم والقضاء عليه وتمهيد الطريق لبسط السيطرة الكاملة على الدولة.
تعمل حكومة الاحتلال أيضاً على تشتيت انتباه الدول العربية المحيطة بتخويفهم من أزمة لاجئين محتملة، بالمطالبة بنقل الفلسطينيين المدنيين _ على حد قولها _ إلى دول حدودية ريثما تنتهي العملية العسكرية، وهو افتراض ليس الهدف منه سوى إلهاء الشعوب والحكومات عن الاهتمام بالمشكلة الأساسية التي تمثل توسع إسرائيل لدحر الفلسطينيين وضم أراض جديدة إلى مستعمراتها ومحاولة فرض خريطة أمنية جديدة، والتعتيم على القضية الأساسية وجوهرها رفض الاحتلال واستعادة الأراضي، وضمان اقتصار مطالب الفلسطينيين على إحلال السلام وعدم التهجير والحفاظ على الفتات من الأرض مما تمنحه حكومة الاحتلال.
لم تعد مسألة طرد الاحتلال واستعادة الأرض مطروحة أصلاً منذ زمن على طاولة المفاوضات الدولية، وصار وجود الكيان أمراً واقعاً علينا التعامل معه وتقبله، بل وأكثر من ذلك فإننا مجبرون على الحوار معه من أجل وضع حد للحرب المستمرة.
هل يذكرنا ذلك بشيء اليوم؟
إنه يتطابق تماماً مع ما يحدث في سوريا، إذ صار لزاماً علينا الحوار مع النظام القاتل لوضع حد للموت والتهجير ولحل أزمة اللاجئين، وصار وجوده جزءاً ضرورياً من أجل الحل وبقي طرفاً دولياً ولاعباً مؤثراً من أجل السيناريوهات المطروحة.
لا يرى العالم اليوم الانتهاكات التي ارتكبها النظام السوري وحلفاؤه، ولا يهم اغتصاب الأراضي من طرف حكومة الكيان الصهيوني وتهجير الناس وبناء المستوطنات، باتت الصورة الواضحة فقط حروبهم ضد الإرهاب مع غض الطرف عن عدم شرعية وجودهم من حيث المبدأ وتعديهم الواضح على ما هو ليس من حقهم.
لا عزاء لنا أو للأشقاء الفلسطينيين ولا بواكي، ونعرف أننا لا نملك الكثير لنقدمه ونعجز عن فك عقدتنا وعقدتهم الأزلية، لكن ما تثبته التجربة أن القضايا لا تنفع معها محاولات الإبادة الجماعية وأن الحقوق لا تسقط بالتقادم إذا كان هناك من يستمر بالمطالبة بها.
———————–
“قادة الغرب” لغة جادّة لإسرائيل وأخرى لعوبٌ للعرب/ مالك داغستاني
شهدنا خلال الأيام الأخيرة تقاطر الرسميين الغربيين إلى إسرائيل، وبحكم وجودهم في المنطقة، توجه بعضهم إلى دول عربية كمصر والسعودية. سيلاحظ المراقب للتصريحات خلال المؤتمرات الصحفية في تل أبيب، لغة الدعم المطلق وغير المشروط لحرب إسرائيل على غزة وعلى إرهابيي “حماس”، حسب تعبيرهم. بينما سيتم التلاعب باللغة وتخفيف حدّتها، عندما تنطلق تصريحاتهم من إحدى العواصم العربية، ليخرجوا بخطاب يدّعي مراعاة المدنيين في غزّة وتجنيبهم المخاطر، مع ضرورة تأمين إدخال المساعدات الضرورية لهم.
حقيقة الأمر، أن التصريحات من تل أبيب تعبر عن الموقف الحقيقي لمعظم الدول الغربية، وتنسجم مع التاريخ الغربي في مقارباته للقضية الفلسطينية. فحتى تلك الدول التي تدعم حق الفلسطينيين في دولة مستقلة، أو ما يسمى بحل الدولتين، بما فيها أميركا حين يحكمها الديمقراطيون، فإنها عبر تاريخ الصراع، لم تأخذ خطوة جدّية واحدة للسير بهذا الحل كي يغدو واقعاً، ما يشير إلى سياسة عميقة في دعم إسرائيل في كامل توجهاتها، مع الإبقاء على خطاب معتدل معلن يراعي إلى حدٍّ ما حقوق الشعب الفلسطيني.
لوضع الأمور في نصابها، علينا ألا نتجاوز أن معظم الدول العربية قبلت بحل الدولتين، أي إنها قبلت بأن يكون لمهاجرين يهود، من أوروبا وروسيا وأميركا وأثيوبيا وغيرها من مناطق العالم، دولةً على معظم أرض فلسطين، بهدف إيجاد حل دائم وإحلال السلام في المنطقة. أما إسرائيل فإنها حتى اليوم لا تقبل أن تكون هناك دولة لأصحاب الأرض الأصليين، ولو على جزء من أرضهم التاريخية! ومع ذلك فإن الغرب في كل محطة يسارع لدعم إسرائيل في الدفاع عن وجودها، بينما يبدو في كل المحطات، بالغ التسامح في إهدار حق الفلسطينيين في الوجود.
كان لدى الغرب، أميركا على وجه الخصوص، معضلة في العقود الماضية (نجحت في تجنبها خلال بعض المراحل)، وهي مأزقها خلال تقديم نفسها في المنطقة. حاولت السياسة الأميركية كسب الرأي العام العربي إلى جانبها خلال فترة الحرب الباردة، فاستخدمت كل وسائل الدعاية (المموَّلة غالباً) لكسب العرب وجعلهم في صفها لمحاربة ومنع تمدد الشيوعية في المنطقة. لكن بقي مأزقها هو دعمها المعلن لإسرائيل، الأمر الذي قوَّض كل مساعيها، وجعل كل سخائها في التمويل يذهب هدراً بسبب تمسك العرب، والمسلمين في باقي البلدان، بموقفهم المنحاز للحق الفلسطيني. ما أبقى أميركا عدوهم الأول بعد إسرائيل.
عانت أميركا كثيراً في معالجة الأمر خلال فترة الخمسينيات، فإضافة للقضية الفلسطينية المنغرسة في الوجدان العربي، كان لأميركا فهم سطحي للقيم الأخلاقية والدينية وحتى السياسية الراسخة في المجتمعات العربية. في برقية من السفير الأميركي في بغداد إلى رؤسائه في وزارة الخارجية عام 1952. يعترض السفير على عرض فيلم مناهض للسوفييت في العراق يصور شقاء الفلاحين الأوزبكستانيين بعد الإصلاح الزراعي. اعتبر السفير أن الإصلاح الزراعي حلم للفلاحين في العراق وسيكون للفيلم مفعول دعائي عكسي.
في سياق الوثيقة الأميركية، أثار السفير قضية الاستقبال غير المتوقع الذي خلّفته الجهود الدعائية في العديد من الحالات، بسبب اختلاف القيم الأخلاقية. “قبل سنوات قليلة نسّقنا لتعرض العراق فيلم المخرج إرنست لوبيتش نينوتشكا، كجزء من الجهود لتوصيل رسالة مناهضة للشيوعية” (الفيلم من بطولة الممثلة غريتا جاربو. كانت جاربو تلعب دور مبعوثة سوفييتية شديدة الجدية تذهب في مهمة إلى باريس. مع الزمن، وبحلول نهاية الفيلم، تتغير طبيعتها الشخصية تماماً، بسبب تجاربها الباريسية الجديدة). يتابع السفير أنه “بعد عدة عروض سحبنا الفيلم، لأن الجمهور العراقي اعتبر شخصية نينوتشكا الجدية في روسيا أفضل وأكثر احتراماً من حياتها الشاذة وغير الأخلاقية في باريس”.
طبعاً فيما تلا ذلك من سنوات، ستتلمس الخارجية الأميركية سبلاً أكثر نجاعة للدعاية. بل إنها في عدة حالات، امتنعت عن أية دعاية في بعض البلدان، لانسداد الأفق أمام توصيل أية رسائل مُجدية. أوقفت على سبيل المثال، الدعاية في العربية السعودية، التي كانت تتم غالباً عبر تمويل من شركة “أرامكو”. كان التبرير أنه لا يمكن الدعوة للحريات الشخصية الفردية أو للديمقراطية بمواجهة الديكتاتورية الشيوعية، في بلد محافظ يسوده حكم ملكي مطلق. ومع ذلك بقي التركيز دوماً، على إظهار نوع من الحياد الأميركي في القضية الفلسطينية.
خلال نقاش في الخارجية الأميركية تلك الفترة، حول النغمة الأكثر فعالية التي يجب اعتمادها للدعاية في الشرق الأوسط، اقترح أحد المسؤولين التأكيد الدائم على “الود والاهتمام الأميركي المستمر بالعالم العربي. إضافة لتسخير جهد خاص للمطبوعات التي تؤكد على حياد الولايات المتحدة في مواقفها بين إسرائيل والعرب. والتركيز على الاعتراف الأميركي بحقوق العرب”. ليضيف أحد المسؤولين في الخارجية، ما يمكننا اعتباره جوهر الموقف الأميركي الحقيقي في تناقضه مع المعلن منه “لا يمكننا تغيير السياسة الأميركية. لذا أعتقد أن دعايتنا يجب أن تهدف إلى جعلها مستساغة”.
هذا تماماً ما يتجلى اليوم، ليكشف أنه في المحطات الكبرى والمصيرية فإن السياسة الأميركية لا تستطيع حتى أن تجامل لتغدو أكثر استساغة. فالتباينات الطفيفة التي تظهر اليوم بين كلمات قادة الغرب في تل أبيب وخطبهم المرتبكة في بعض العواصم العربية، تفضح أكثر هذا التناقض الصارخ بين المُعلن والحقيقي في السياسات الأميركية والغربية عموماً. خلال الحرب الباردة، كانت الدعاية الأميركية تبدو كأداة في (الحملة الصليبية) المناهضة للشيوعية والإلحاد. أما اليوم، فقد تحولت تلك الحملة لتكون أحد أوجه (الحرب على الإرهاب). الآن، كما كانت الحال آنذاك، توصف تلك الحملات بأنها علاج لوقف معاداة شعوب المنطقة لأميركا. واليوم، كما كانت الحال في الماضي، فإن سياسة الولايات المتحدة اتجاه فلسطين، ما زالت المصدر الرئيسي لمواقف الرأي العام العربي والمسلم من الولايات المتحدة.
تعكس وثائق وزارة الخارجية التي تعود إلى الخمسينيات، الافتراض بأن رأياً إيجابياً في المنطقة كان ضرورياً لتحقيق أهداف الولايات المتحدة. لكن مع التدخل الأميركي المباشر لتحرير الكويت خلال حقبة الجمهوري بوش، بدا أن هناك ميلاً متزايداً لدى صناع القرار، لاعتبار القوة العسكرية هي السبيل الأفضل لتحقيق الأهداف في الشرق الأوسط، وتعزيز الهيبة الأميركية.
لذا نلحظ اليوم تلك اللغة اللعوب لقادة الغرب، عندما يتحدثون عن غزّة من إحدى العواصم العربية. لغة مُعزّزة بالبوارج مع مدافعها الجاهزة قريباً من الشواطئ. ما يجري اليوم، خصوصاً لجهة المواقف من تدمير غزّة ومحاولة تهجير سكانها، أنه لم تعد من أولويات الولايات المتحدة أن تحظى بالشعبية أو الإعجاب ولا حتى القبول في الشرق الأوسط. بدلاً من ذلك، تحاول الإثبات أن التحرك العسكري المباشر، والوجود عبر حاملات الطائرات وقطع الأسطول السادس، هو ما يحمي مصالحها ويحقق هيبتها. وأن الحصول على احترام قادة الشرق الأوسط واستجابتهم، يجب أن يكون مدفوعاً، بالخشية من القوة العسكرية الأميركية الحاسمة.
—————————-
مأساة غزة والأسد السعيد../ عبد القادر المنلا
رغم غياب بشار الأسد عن المشهد السوري في الفترة الأخيرة واختفائه شبه التام عن الأحداث السياسية والعسكرية التي تعصف بالمنطقة، إلا أنه يعيش اليوم أقصى درجات السعادة، بعد أن قدم له بنيامين نتنياهو طوق نجاة من نوع خاص هذه المرة من خلال الحرب التي تشنها إسرائيل على غزة ومستوى العنف المستخدم ضد أهالي المدينة والذي حول بوصلة الإعلام العربي والعالمي إلى منطقة الصراع الأكثر سخونة.
من وجهة نظر الأسد، تشكل تلك الحرب حالة خلاص له من أكبر مأزق داخلي يواجهه في الفترة الأخيرة، بل ربما كانت الحل الوحيد الذي يمكن أن ينتشله من وسط أمواج المظاهرات الهائجة منذ أكثر من شهرين في مدينة السويداء، من ذلك الحراك السلمي المحرج الذي عكر صفو الرئيس بعد أن اعتقد بأن صوت السوريين قد صمت إلى الأبد.
وقف الأسد وداعموه عاجزين عن التعامل مع البركان القادم من جبل العرب حيث قطع الثوار هناك شعرة معاوية التي كانت تربطهم بالنظام وأحرقوا مراكب العودة، وحشروا حلف المقاومة والممانعة ومعه روسيا أيضاً في الزاوية الضيقة، من خلال شكل مظاهراتهم ومضمونها ومن خلال شعاراتهم الوطنية البحتة وعجز النظام عن إلصاق تهمه التقليدية بهم، وساد الصمت في القصر الجمهوري لفترة طويلة في انتظار حل يخرج النظام من ورطته، ولم يتأخر نتنياهو في عملية الإنقاذ.
ورغم اختلاف أهداف الحرب التي تشنها إسرائيل على غزة، إلا أن الأسد وجد فيها استثماراً من نوع خاص ولا سيما أنها تزامنت مع احتياجه لحدث من هذا النوع، إنها حرب تنعش سعادته المكدرة نتيجة خرق السويداء لكل التوقعات وكسرها جدار الصمت الذي سيطر على المحافظات السورية الأخرى من جراء القمع غير المسبوق الذي تعرض له السوريون خلال اثني عشر عاماً.
الحدث التراجيدي الذي تعيشه غزة، والذي أشعل حالة من الغضب والألم على مستوى شعوب المنطقة العربية برمتها، وفي أجزاء كبيرة من العالم، انعكس على الأسد فرحة وتفاؤلاً بالخلاص من ورطة السويداء التي كشفت ظهره المتستر بذريعة حماية الأقليات.
على مدار اثني عشر عاماً بقي الأسد سعيداً ولم تفارقه ضحكته رغم البؤس الذي خيم على السوريين، كان الدم السوري الذي سفك فداء لكرسيه مصدراً أساسياً لتلك السعادة، لا يختلف في ذلك دم معارضيه عن دم مواليه وحاضنته بدليل ضحكاته وخفة ظله وقدراته التهريجية التي كان يستعرضها بعد كل مأساة تطول السوريين بمن فيهم أتباعه، وها هو اليوم يزداد سعادة بالدم الفلسطيني الذي لا يعنيه منه سوى كونه وسيلة جديدة لخلط الأوراق والتغطية على ما يحدث في ساحة الكرامة في السويداء.
ظل الأسد عاجزاً ومكبلاً على مدار ما يقرب من شهرين وهو يستمع إلى أصوات أهل السويداء التي تهينه وتهين أباه وأسرته من خلال مطالبتها بإسقاطه ورحيله وتركيزها على وحدة الشعب السوري وحتمية الخلاص من نظام العصابة، كسرت السويداء يد النظام، وكسرت معها كل الأصنام التي كانت لفترة قريبة مقدسة بحكم تشديد الحراسة عليها، واحتل حراك السويداء صدارة الخبر السوري، مما اضطر النظام للبحث عن خطة للتعامل مع السويداء، خطة غير مباشرة لضرب ذلك الحراك دون أن يبدو أنه يستهدفه، خطة لا تثير الشكوك، فكانت فكرة ضرب الكلية الحربية التجلي الأبرز لطريقة تعامل الأسد مع السويداء وبحثه عن الحلول.
لا يمكن إثبات علاقة الأسد بحادثة الكلية الحربية بشكل جازم لأن النظام يحتكر كل الحقائق، إلا أن التوقيت وهوية المستفيد والأسلوب التقليدي للنظام في حل مشكلاته تشير بأصبع الاتهام إلى الفاعل الحقيقي بشكل واضح رغم جهود النظام المبتذلة لإخراج مسرحيات عسكرية يحاول من خلالها أن يؤكد روايته التي تتحدث عن استهداف الإرهاب له وبالتالي تأكيد “مظلوميته”.
أراد النظام من ضرب الكلية الحربية استعادة الخوف الذي زرعه في حاضنته التي بدأت مؤخراً تفقد ثقتها بروايته من خلال الكثير من الأصوات التي أعلنت صراحة أن ألاعيب النظام القديمة لم تعد تنطلي عليهم، وفي نفس الوقت راح يبحث عن طريقة لربط الحادثة المتعلقة بالكلية الحربية بأهالي السويداء وثورتهم، إلى أن جاءت حرب إسرائيل على غزة، فكانت بمثابة الهدية الثمينة للأسد.
يتمنى الأسد أن تطول حرب إسرائيل على غزة ليتعيّش على أحداثها ويتغذى على لهيبها ويضمن تشويشها على أحداث السويداء عسى أن تنطفئ الثورة هناك تلقائياً أو بقوة الإهمال، وربما راهن على تفريغ حراك الجبل من قيمته بوضعه في موقع المقارنة مع الأحداث الأكثر تأثيراً في المنطقة.
ورغم أن الحرب على غزة هي فرصة مثالية للأسد لتحويل شعارات المقاومة والممانعة إلى واقع، إلا أنه لم يتردد ولن يتردد في المغامرة بتلك الشعارات التي تعتبر مبرر وجوده والقفز عليها وإطلاق أبواقه ومفسريه لسد الفجوات الناشئة عن التناقض الكبير بين النظرية والتطبيق لدى نظامه، وبعدها فلتذهب فكرة المقاومة والممانعة إلى الجحيم.
في المقابل، يشدد أهالي السويداء حصارهم المعاكس للأسد ونظامه من خلال إظهارهم وعياً استثنائياً، هو وعي بثورتهم وأهدافها واستراتيجيتها، ووعي بألاعيب النظام وحيله، ووعي بضرورة الاستمرار رغم تراجع الاهتمام الإعلامي بهم.
وفي هذا السياق، فإن حضور غزة في مظاهرات أهالي السويداء رغم كل أوجاعهم وآلامهم الخاصة، لعب دوراً في تحجيم النظام وتقزيمه، زاد على ذلك حضور إدلب ومعاناتها في خطاب ساحة الكرامة، الأمر الذي حشر النظام في زاوية أضيق وعرّى تماماً ادعاءاته بمناصرة القضية الفلسطينية، فحينما يكون المطالبون برحيل الأسد هم من يناصرون القضية التي يدعي النظام مناصرتها دون أن يفعل شيئاً، لا يتبقى للنظام ما يستر به عورته.
تبدو الصورة التي يحاول الأسد رسمها في الخريطة السياسية والعسكرية القائمة مقلوبة الدلالة، فقد أفشل ثوار ساحة الكرامة خطته في توظيف الحرب الإسرائيلية على غزة، واستطاعوا كشف زيفه من خلال المقارنة غير المقصودة التي خلقوها بين المواقف الوطنية الحقيقية التي تمثلها ساحة الحرية والادعاءات الفارغة للنظام وحلفه بالكامل.
ورغم وضوح هذه الصورة، فإن ذلك لم يؤثر على سعادة الأسد، على الأقل لأن الضغط الإعلامي عليه بدأ يخفت، وهو بالذات ما يبحث عنه كفرصة للتفكير بطريقة جديدة لإعادة خلط الأوراق وإيجاد الحلول التي يبحث عنها، والثابت الوحيد في المشهد هو حالة السعادة التي يعيشها الأسد، الفرق الوحيد الذي خلقته الأحداث الأخيرة يكمن في اختلاف أسباب السعادة، باختلاف الدم المراق، فإذا كان الدم السوري هو مصدر تلك السعادة خلال السنوات الماضية، فإن المصدر الجديد لسعادة الرئيس هو الدم الفلسطيني.
إن من قبل عملية التوريث وفرح بنجاحها وأسعده تحويل سوريا إلى دولة مدمرة وبلا ملامح، ومن يفرح بإطلاق لقب سيد الوطن عليه، ومن يفرح بالانتصار على شعبه، من خلال قتله وتهجيره واعتقاله وإبادته، ومن تفرحه فكرة الأبدية، لن يتوانى عن الفرح بموت الفلسطينيين وإبادة شعب غزة حتى لو لم يصب في مصلحته، لقد بات القتل والدم والإبادة، وبشكل أدق باتت الجريمة بكل أشكالها مصدراً أساسياً لسعادة الرئيس بصرف النظر عن الأهداف السياسية التي تحققها، إن رئيساً كهذا من السهل عليه أن يدمن على السعادة. والجريمة في وقت واحد.
————————
طمس الحقائق لا يغيّبها.. وإنكار الحقوق لا يلغي وجودها/ غزوان قرنفل
لطالما كان الموقف من القضية الفلسطينية وحق الفلسطينيين في دولتهم المستقلة وفق قرارات الشرعية الدولية أحد أهم عوامل سقوط الأقنعة وتعرية السياسات التمييزية والمزدوجة لدى صناع القرار الدولي والعربي أيضا.
اليوم – وكأي مواجهة فلسطينية إسرائيلية سابقة – تتبدى ازدواجية المعايير والمواقف التي تتخذها وتعلن عنها خاصة الدول الغربية التي طالما تشدقت بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وإذ بنا نكتشف أن تلك الأمور من المحرمات على الشعوب الأخرى، وهي خاصية مجتمعية وسياسية تخص مجتمعاتها وشعوبها أكثر مما تعني أنها حقوق للآخرين طالما كانت ممارسة تلك الحقوق أو السعي لممارستها ستفضي إلى سياسات ومواقف ربما تشكل حالة تصادم مع مصالحها التي تعلو من وجهة نظرها على أية مصالح أخرى، وتعتقد أن على الدول والشعوب الأخرى الامتثال لشروط تحقق مصالح الغرب ولو كان في ذلك انتهاك لقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان التي شنفّوا آذاننا بها!!!.
حكومات الغرب العارية أعلنت مواقف حازمة تجاه الغزو الروسي لأوكرانيا، وقدمت كل أشكال الدعم لحكومتها لمواجهة هذا الغزو، لكنها لم تجرؤ قط أن تعلن موقفا واضحا وتقرر سياسات جدية وقوية تجاه الاحتلال الإسرائيلي المتمادي للأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة – على الأقل – رغم وجود قرارات دولية صادرة عن الأمم المتحدة تقر بتلك الحقوق للشعب الفلسطيني وتعتبر وجود القوات الإسرائيلية عليها احتلالا، ومع ذلك ولعقود طويلة تمارس تلك الحكومات سياسات مائعة تجاه حقوق الفلسطينيين وترفض إدانة سياسات إسرائيل في التوسع الاستيطاني وقضم الأراضي الفلسطينية وتدعو دائما لحلول سلمية لهذا الصراع ترفض إسرائيل وحدها الامتثال لها.. حتى اتفاق أوسلو التي التزمت به الحكومة الإسرائيلية والذي مضى على توقيعه له ثلاثون عاما بالتمام والكمال لم تلتزم بإنفاذ مضامينه، وعندما يقرر ثلة من المقاومين الفلسطينيين مواجهة تلك اللامبالاة والتمادي في انتهاك حقوق شعبهم، مواجهة هذا الاحتلال وهو حق مشروع بموجب مختلف الشرائع والقوانين والمواثيق الدولية، تقوم الدنيا ولا تقعد ويوصم هؤلاء المقاومون بالإرهاب وتستباح دماؤهم وبيوتهم وعوائلهم تحت أعين هذا الغرب المنافق ومن دون أن يرف له جفن!!!.
اليوم لم تعد خطورة المواقف الغربية تقتصر على تلك الازدواجية التي لا تقيم وزنا لحقوق الشعوب المقهورة فحسب، وإنما في تجريم التعاطف الشعبي معها والتعبير عن مواقف شعبية مغايرة لمواقف الحكومات سواء أكانت تلك المواقف صادرة عن شعوبها هي التي ترفل بالديمقراطية أو عن شعوب العالم الثالث التي أوجدتها السياسات الاستعمارية ودعم الديكتاتوريات في جغرافيا الغرب المرائي بصفة لاجئين!.
فالتظاهر أمام السفارات الإسرائيلية ورفع العلم الفلسطيني صار جريمة في عرف هؤلاء الديمقراطيين(!) والتعبير عن موقف داعم لحقوق الفلسطينيين على منصات التواصل الاجتماعي صار معاداة للسامية (!) لقد بلغ الخوف لدى تلك الحكومات المنافقة من إسرائيل مبلغه إلى الدرجة التي حرصت فيه مختلف وسائل الإعلام الغربية لا تظهر في تقاريرها وأخبارها وصورها إلا الجانب الذي يصور الإسرائيليين كضحايا للعنف (الهمجي) الفلسطيني، من دون أن تكلف نفسها عناء تصوير وعرض ما تقوم به القوات الإسرائيلية وما ترتكبه من جرائم وانتهاكات للقانون الدولي، وعندما تقوم بعض القنوات بفعل ذلك يشهر في وجهها سيف الحظر ويعرّض بها بوصفها تدعم الإرهاب وتتبع سياسات معادية للسامية(!).
حتى بعض القنوات العربية – مع الأسف – تشعر وأنت تتابع ما تبثه في هذا السياق أنها أكثر عدائية للفلسطينيين من الصهاينة أنفسهم(!) وتحاول بطريقة أو بأخرى شيطنة الفلسطينيين وتصويرهم كغول يسعى لالتهام أبناء المستوطنين الصهاينة!!!.
ربما تختلف الآراء بشأن شكل إدارة هذا الصراع وتوظيف بعض سياقاته واستثمارها من قبل قوى إقليمية أخرى هي على الضد من مصالح العرب عموما والفلسطينيين على وجه الخصوص، ولكن هذا الاختلاف يجب أن لا يحجب الحقائق الجوهرية لهذا الصراع وموجبات مواجهته..
هل نحتاج اليوم للتذكير بأن للفلسطينيين حقوقا تقرها جميع الشرائع وإسرائيل وحدها من تنكر تلك الحقوق وتتبع سياسات طوال عقود من الزمن لسلبها؟؟
وهل نحتاج اليوم للتذكير بأن إسرائيل لم تقبل قط أي مبادرة حقيقية للسلام في المنطقة ووضعت الشروط والعراقيل تلو العراقيل حتى تجهضها؟؟.. وهل نحتاج للتذكير بأن إسرائيل وقعت منذ ثلاثين عاما على اتفاق أوسلو للسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين لكنها لحست توقيعها صباح اليوم التالي للتوقيع وتمادت في سياسات الاستيطان وإنكار حقوق أصحاب الأرض؟؟؟..
هل نحتاج للتذكير بعشرات القرارات الدولية التي تقر مقاربات للسلام في المنطقة لم تعن للإسرائيليين أكثر من هراء لا يستوجب الالتزام به، وهل نحتاج أيضا وأيضا للتذكير أن الشرائع الدولية كلها تقر للشعوب الواقعة تحت الاحتلال حق مقاومة هذا الاحتلال بمختلف الوسائل بما فيها الوسائل العسكرية؟؟؟.
فإذا كنا نرى اليوم من حكومات الغرب المنشئة لهذا الكيان إنكارا لكل ذلك وتملصا من الالتزام به، فحري بنا كعرب أن لانكون عونا لهم في سياساتهم ودعايتهم الشريرة التي تحاول التخلص من عقدة الذنب تجاه مافعلوه باليهود من قتل وتشريد واضطهاد خلال القرن الماضي، بإلقاء اللوم على الفلسطينيين، والانسياق وراء تلك الدعاية الكاذبة المضللة عن “الإرهاب” الفلسطيني.. فإن كانت تلك الحكومات والقنوات لا تريد أو لا تجرؤ على بسط الحقائق وعرضها والتعامل معها كمدخل لتحصين حقوق الفلسطينيين فحري بها على الأقل أن لا تشيطن الضحية وأن تتعاطى مع الأمر بنزاهة وموضوعية حتى لو اختلفت سياسيا مع تلك الضحية.
ربما كثير من الحكومات العربية والإقليمية والكثير من المنظمات أيضا تعاطت مع المسألة الفلسطينية كبوابة للمتاجرة والمزايدة والاستثمار سواء في سياساتها الداخلية تجاه شعوبها أو في سياساتها الدولية لتجعل لنفسها موطئا أو ركنا يجب الأخذ به ومراعاة مصالحه لدى التعاطي الدولي مع هذا الملف.. لكن كل ذلك لا يلغي حقيقة أن ثمة حقوقا ثابتة للشعب الفلسطيني لا يستطيع كائن من كان أن يجادل بها أو يساوم عليها أو يجعلها مطية دائمة لمصالحه، وأن هذه الحقوق إما أن يتحصل عليها أصحابها بالتفاوض والسلام أو بالحرب والمواجهة التي تقرها كل الشرائع والقوانين البشرية والإلهية…
إن إنكار الحقوق الثابتة لا يلغي وجودها، وعلى العالم – وفي المقدمة منه العالم العربي نفسه – أن يدرك ذلك، وأن يختار في سياساته ما يوصل المنطقة كلها إما إلى غصن الزيتون أو البندقية كما فعل ذات يوم المرحوم ياسر عرفات في خطابه الأول على منبر الأمم المتحدة التي طالما أدمنت القلق عندما يتصل الأمر بحياة الناس وحقوقهم في تلك المساحة الجغرافية المصابة بلعنة النفاق الأممي.
————————–
وائل الدحدوح… عندما يتحول الإنسان إلى جبلٍ مبللٍ بالدمع!/ طارق يوزباشي
ونحو ذلك الخراب أنظر من بعيد: بلادٌ عهدها مع الأحزان كعهد الدنيا مع تعاقب الليل والنهار، يلفّها الوجع كالكفن! الساعة تدقّ مشيرةً إلى وقت نومي، والقلب صاحٍ على ساعة الحرب هناك، فالصباح على وشك أن ينفض عنه غبار قصف الليلة الماضية. لدي رغبة غير مفهومة في الكتابة. أريد أن أكتب عن وائل الدحدوح بصوته الهادىء الذي تحول مع مرور الويلات إلى شيء يشبه المورفين المسكّن لأخبار الموت التي اعتدنا سماعها في كل تغطية له! صوت وائل يسكّن وجع أخبار الخراب والموت، فتنزل أخف ألماً على قلوبنا، وكأنه يتعمّد ذلك خوفاً علينا وعلى قلوبنا التي تحولت إلى مستودعات لتخزين الوجع.
أسأل نفسي: كيف يمكن لإنسان أن يتحول إلى جبل؟ وائل وقف اليوم كجبلٍ مبللٍ بالدمع، فموت الضنى يضني القلب. ربما قدر البشر على مساحة تلك الأرض أن يولدوا جبالاً مبللةً بالدمع.
منذ أيام، وأنا أعاند العصبية التي تكبّل لساني وتغريه بالخرس، أو لأكون أكثر صراحةً هو الحياء! فكيف يمكن لنصٍ أن يعكس الوجع كما يجب أن يكون، وفي كل محاولة أكتبها يتحول النص إلى شيء يشبه شوكةً أو شفرة سكين حادةً لا بدّ وأن تغرز في قلب القارئ؟
في كل محاولة أكتبها يتحول النص إلى شيء يشبه ورقة النعي، مدجج بأسماء الموتى!
في كل محاولة أكتبها يتحول النص إلى شيء يشبه المشرحة أو المقبرة الجماعية!
في كل محاولة أكتبها يتحول النص إلى شيء يشبه كيس نايلون كان يُستخدم يوماً لحمل الخضروات والفاكهة لكنه تحوّل إلى كفن!
ربما كان من المفترض أن أبدأ مقالي هذا بتحذير القرّاء من أنّ قراءة هذا النص قد تصيبهم بالاختناق، وقد يحتاجون إلى أسطوانة أوكسجين بجانبهم. على كل حال.
لطالما كتبت عن البشر ممن تتحول أعينهم إلى أرحام حُبلى بالأحلام الميتة، فالمتعارف أنّ الإنسان عندما يبكي تخرج من عينيه مادة سائلة مالحة تُسمى الدمع، إلا أولئك البشر؛ عندما يبكون تخرج من أعينهم أحلام ميتة! ربما كنت أكتب عنّا وعنهم! صحيح أنّ الخراب هناك، والقهر المغلي هناك، والوجع هناك، والصواريخ تنزل هناك، لكنها تغرز في قلوبنا أينما كنّا…
أشعر بغصّة في قلبي، وأكاد أجزم بأنكم تشعرون بغصّة في قلوبكم أيضاً؛ هي تلك الصواريخ التي ما زالت تغرز في قلوبنا.
أصعب ما يمكن أن يعيشه الواحد منا اليوم، هو أن يكون سورياً يخزّن أوجاع غزة في قلبه، فقلوبنا تحولت منذ سنوات إلى مستودعات ضخمة لتخزين الأوجاع! نحاول جاهدين ترتيب قلوبنا والتخلص من بعض الأوجاع القديمة التي أكلها العث والفطريات نتيجة الرطوبة، وإيجاد مكان يستوعب الأوجاع الجديدة! هناك مثل شعبي سوري يقول: “يلي ما داق المغراية ما بيعرف شو الحكاية”، والمغراية هي العصا التي تُستخدم لتحريك الغراء في أثناء تسخينه! نحن نعرف تماماً طعم الخذلان، فقد ذقنا طعم المغراية عندما تحولت حكايات موتنا وبيوتنا المهدمة وأحلامنا المبتورة الأطراف إلى أخبار عاجلة على شاشات الأخبار شاهدها العالم من شرقه إلى غربه، ثم أكمل روتين يومه الطبيعي وكأنّ شيئاً لم يكن! أصعب ما يمكن أن يعيشه الواحد منا اليوم، هو أن يكون سورياً ولا يملك سنتيميتراً واحداً لتخزين أحزان جديدة. لا بدّ أن يصاب بسكتة قهرية!
أحاول الكتابة جاهداً. لا أستطيع التأكد من سلامة كلماتي لغوياً، فجثث الأطفال تتراكم على شاشة لابتوبي، وتحجب عني الرؤية. أصواتهم أسمعها جيداً. تطلب مني كتابة نص يصيب القارئ بالتعب!
صحّة النساء في غزة تحت خط النار… لا فوط صحية والولادات غير آمنة
التعاطف مع “أبرياء” غزّة مرفوض… إسرائيل تلاحق مواطنيها العرب الفلسطينيين وتنتهك حريّاتهم
نماذج لرؤية سوريي “النظام ومناطقه” لحرب غزة: نستكمل ما بدأ عام 2011!
منذ تلك التغطية التي تلقّى فيها وائل الدحدوح خبر مقتل زوجته وابنه وابنته وحفيدته، وأنا أسأل نفسي: كيف يمكن للإنسان أن يتحول إلى جبلٍ مبللٍ بالدمع؟ موت الضنى يهشّم فقرات القلب، ويشلّ اللسان، لكنّ وائل الدحدوح وقف أمام الكاميرا كالجبل ودموعه تحفر خدّه كجدول ماء!
هل هي أقدارنا التي تحوّلنا إلى جبال مبللة بالدمع، أم أن تعاقب الويلات على بلادنا وتواريخنا وأيامنا جعلنا نمتلك جينات من حجر.
كيف يمكن لأبٍ أن يحمل ما تبقّى من أطفاله في كيس نايلون، ويمشي على قدميه إن لم يكن جبلاً مبللاً بالدمع؟
وجوه الناس باتت كالحةً كحديقة أطفال مهجورة. شبابٌ تحولت أحلامهم إلى شيء يشبه جدراناً قديمةً مكتظةً ببقايا أوراق نعي ممزقة، وبقع البصاق والبول الجاف.
أنظر إلى تلك البقعة من الأرض، فتضيع مني لغتي ويتحجر لساني كشاهدة قبر لجثة مجهولة.
كيف يمكن لقلوب البشر أن تمتلك ما يكفي من قوة لتتحمل ذلك كله؟
لا بدّ أنّ الوجع تحول إلى شيء يشبه الزكام في بلادنا العربية التي يلفّها الصمت كمنشفة مشبعة بالوحل!
عندما يتحول الإنسان إلى جبلٍ مبللٍ بالدمع، يصبح الوجع عادةً؛ نألفه ويألفنا ويرافقنا إلى قبورنا التي أصبحت جماعيةً، ربما حتى لا نشعر بالملل!
رصيف 22
———————
==================
تحديث 25 تشرين الأول 2023
—————————
الانزلاق نحو الحرب على الجبهة اللبنانية/ عروة خليفة
تُجري أطرافٌ لبنانيّة اتصالات مع الدول الغربية الفاعلة في محاولة للوصول إلى اتفاق وقف إطلاق نار بين حزب الله وإسرائيل، وهي جهود تعرّضت لاتهامات من قبل مؤيدي الحزب، ما دفع رئيس الوزراء في حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي إلى التبرؤ من هذه المحاولات التي يساهم فيها وزير خارجيته عبد الله بوحبيب. نعلم أيضاً أنّ النائب السابق وليد جنبلاط دخل على خط هذه الاتصالات، بالتعاون مع نبيه بري رئيس البرلمان اللبناني وحركة أمل، من أجل البحث عن مخرج مناسب للتصعيد المستمر بشكل يومي تقريباً منذ اندلاع المواجهات في غزة في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الجاري.
الصيغة التي تمّ بحثها لم تكن مناسبة لحزب الله، إذ أنّ إعلان وقف إطلاق نار بينه وبين إسرائيل سيضعه في موقف حرِج أمام حلفائه في غزة، خاصةً وأنّ تحركات الحزب حتى اللحظة لم تكن – بحسب تصريحات من قادة في حماس – على قدر التحديات التي يفرضها توسُّع نطاق العمليات العسكرية بعد عملية «طوفان الأقصى»، وما أعقبها من إعطاء الولايات المتحدة وعدد من الدولة الأوروبية ضوءاً أخضر لإسرائيل للقيام بعملية عسكرية بهدف القضاء التام على حركة حماس.
لكن ما البديل الممكن بالنسبة لتلك الاتصالات؟ ليس بإمكان الساسة اللبنانيين التفاوض على وقف إطلاق نار يشمل غزة. في الواقع، فإنّ مجرد دعوات لتأجيل العملية في سبيل حل مشكلة المخطوفين الأجانب في القطاع واجهت انتقادات عنيفة من اليمين المتطرف الشريك في حكومة نتنياهو، ومن شبه المستحيل أن تتمكن أي جهود دولية من دفع إسرائيل لإعلان وقف إطلاق نار الآن، كما اعتبرت تصريحات لكبار المسؤولين الإسرائيليين، مثل وزير الدفاع، أن التخلي عن العملية العسكرية البرية طرحٌ غير مقبول أبداً، مشددين على أهمية تحقيق أهدافهم بالقضاء التام على حماس.
وفي غياب البديل عن قيام حزب الله بالانسحاب منفرداً من المعركة، يبدو التدرُّجُ البطيء في التصعيد هو المسيطر على عمليات الحزب، مع حرصه حتى اللحظة على استهداف منطقة مزارع شبعا ونقاط عسكرية بالقرب من الحدود في الضربات التي يتبناها رسمياً، مع وجود خروقات عسكرية تستهدف عمق الجليل نفذتها فصائل فلسطينية.
منذ بداية الحرب وحتى أيام قليلة ماضية، كان التقييم الاستخباراتي الإسرائيلي والأميركي يتحدث عن عدم رغبة حسن نصر الله بتوسيع جبهة المعركة على الحدود اللبنانية، وبناءً على ذلك كانت الردود الإسرائيلية على عمليات حزب الله محدودة وموضعية في أغلب الأوقات، وتجنبت تحقيق إصابات بين المدنيين سواءً في سوريا أو جنوبي لبنان.
لكن كل ذلك تغيَّرَ مع قيام الحزب بنشر قوات تابعة لوحدة الرضوان على الحدود مع إسرائيل في الجنوبين اللبناني والسوري، حيث وصلت مجموعات قتالية تابعة للوحدة إلى قرى حدودية مع الجولان المحتل في سوريا، وبدأت بتحضير مدارج خاصة بالمسيرات الإيرانية ضمن قواعد عسكرية في محافظة درعا بحسب ما نقلت مصادر محلية، وفي الوقت ذاته رصدت الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية انتشار مجموعات تابعة للوحدة على الشريط الحدودي جنوبي لبنان.
وتقول تقارير إسرائيلية إنّ وحدة الرضوان مؤلفة من مجموعات قتالية عالية التدريب ذات مهام هجومية، شاركت في الحرب السورية وتدرَّبت على عمليات التسلل نحو الجليل، وعلى تنفيذ مهام خطف وقصف بأسلحة ثقيلة، فضلاً عن امتلاكها تقنية التحكم بالطائرات المسيرة الإيرانية مثل شاهد 136، وسبق لمسؤولين عسكريين إسرائيليين بداية هذا العام، قبل انفجار التصعيد في غزة، أن اعتبروها التهديد العسكري الأكبر لدى حزب الله.
بناءً على تَصاعُد لهجة تصريحات الحزب والتحركات العسكرية وحشد قواته جنوبي سوريا، فإنّ التقييم الإسرائيلي اختلفَ خلال الأيام الماضية، حيث حذَّرَ رئيس مخابرات الجيش الإسرائيلي أهارون حاليفا من أنّ خطر اندلاع حرب عسكرية واسعة النطاق لم يعد منخفضاً. كما أكد وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت خلال تفقده الجبهة الشمالية أول أمس أنّ «حزب الله اللبناني قرَّرَ المشاركة في القتال». بدوره هدَّدَ رئيس الوزراء الإسرائيلي، خلال جولة لتفقد الجنود والضباط في الجبهة الشمالية، بأنّ دخول حزب الله على خط المعركة سيؤدي إلى ضربات إسرائيلية «لا يمكن تصور حجمها».
تؤدي التصريحات الإسرائيلية وإعادة انتشار قوات حزب الله، بالإضافة إلى استمرار الضربات المتبادلة على الحدود، إلى طريق وحيد في غياب البديل؛ إذ سيكون انفجار مواجهة واسعة بين الحزب وإسرائيل، في ظل خوف كلٍّ من الطرفين من تصعيد الطرف المقابل بشكل مفاجئ، أمراً لا مفر منه على ما تُظهِر الوقائع حتى اللحظة.
تؤيد الظروف الإقليمية مثل هذا السيناريو، إذ يبدو أنّ طهران مطمئنةٌ إلى أنّ توسيع الجبهة مع إسرائيل والولايات المتحدة لن يطالها بشكل مباشر، فرغم ربط الولايات المتحدة تأكيدها على عدم رغبتها بتوسيع المعركة إقليمياً بتهديدات وحشود عسكرية كبيرة، لا يظهر أن واشنطن تريد ضرب طهران مباشرةً حتى في حال انفجار الوضع على الجبهتين السورية واللبنانية، خاصةً وأنّ توسُّعَ المعركة لتشمل الأراضي الإيرانية مرتبطٌ بشكل وثيق بموافقة دول الخليج على مثل هذا السيناريو، وهي موافقة من غير المتوقع أن تحصل في ظل أجواء عدم الثقة بين السعودية والولايات المتحدة، وفي ظلّ رغبة الرياض بتهدئة الأوضاع في الخليج والالتفات إلى تحقيق برنامج اقتصادي طموح.
ما يبقى من تلك التهديدات هو استهداف أذرع طهران في سوريا والعراق ولبنان، وهو ما يمكن لإيران المغامرة به في ظل تصاعد الأوضاع في غزة وتوجيه تهديد وجودي لأحد حلفائها الأساسيين في المنطقة، ما يضع مصداقية الحلف الذي صنعته ميليشياتها خلال العشرين عاماً الماضية على المحكّ. بذلك، ستكون طهران مستعدة لدفع الثمن عبر ضربة عسكرية لحلفائها مقابل منع انهيار هذا التحالف، المُؤلَّف من ميليشيات لديها قدرة على احتمال الضربات العسكرية أعلى بكثير من الدول والجيوش الرسمية النظامية.
من غير الواضح تماماً متى ستتدهور الأوضاع في الجنوب اللبناني إلى عمليات عسكرية واسعة، ولا مَن هو الطرف الذي سيكون البادئ بعمليات عسكرية تؤدي إلى مثل هذا السيناريو، لكنّ الأكيد أنّ مثل هذا الاحتمال أصبح اليوم هو الاحتمال الأكبر، وهو ما سيؤثر على كل من لبنان وسوريا بشكل مباشر.
الأجواء المنذرة بالحرب كانت على ما يبدو إشارة التقطها النظام السوري، الذي يرى فيها فرصة لتحقيق مكاسب إقليمية جديدة إذا ما سارت على طريقة حرب عام 2006، فقد صَعَّدَت الخارجية السورية من لهجة تصريحاتها وحذَّرَت إسرائيل في بيان لها مساء أول أمس الأحد من تفجير الوضع في المنطقة على خلفية قصف إسرائيل مطاري دمشق وحلب، كما أشارت تقارير لمواقع محلية مثل صوت العاصمة، إلى إصدار وزارة الدفاع في النظام السوري أوامر باستنفار كافة القطعات العسكرية والأمنية وسط وجنوبي البلاد، بما في ذلك المشافي العسكرية التي مُنِعَت فيها الإجازات وتمّ تعزيز مخازنها الخاصة بالأدوية والمعدات الطبية بشكل مشابه للاستنفار الذي قام به النظام خلال حرب عام 2006.
بالمقابل، فإنّ التحذيرات الإسرائيلية هذه المرة طالت بشار الأسد وحسن نصر الله بشكل مباشر، إذ هددت تل أبيب باغتيالهما في حال دخول حزب الله على خط المعركة مع حماس، ولم تكن تصريحات لاحقة للمسؤولين الإسرائيليين، بمن فيهم نتنياهو، أقلّ تشدداً من تلك التحذيرات التي نقلتها فرنسا رسمياً إلى الحزب.
في هذه الأثناء، فإنّ كل طلقة على طرفي الحدود جنوبي لبنان تُقرِّبنا أكثر من معركة واسعة قال الجميع إنهم غير معنيين بها، ليكون الخوف المتبادل وضيق مساحة المناورة السياسية الطريقَ الأسرع إلى حرب من غير الواضح ما هي نتائجها عسكرياً وسياسياً، إلّا أنّ تأثيرها على دماء المدنيين في لبنان وسوريا يمكن توقُّعه بسهولة.
موقع الجمهورية
———————
ما بين غارتين على غزة: أين سيكون حلّ الدولتين غداً؟!/ موفق نيربية
لا يُنصح بالبحث السياسي الذي يستشرف وضعاً معيّناً، حين تكون نيران الحرب مشتعلة وتخطف أنظار العالم، وتقسمهم ما بين طرفي الحرب غير المتناسبين على الإطلاق. وكذلك، لا يمكن لعربي أن يبحث في القضية الفلسطينية ببعض الحكمة أو ملازمة العقلانية، وهنالك حالة قاسية في غزة من قتل وتدمير وقصف مجنون، لا يستثني جسماً متحرّكاً أو ثابتاً على الأرض، مع فقدان للغذاء والماء والوقود والمواد الطبية الضرورية. هنا لا بدّ من إعلان الانحياز ضدّ الطغيان الإسرائيلي باستهداف المدنيين، رغم احتمائها بغطاء لا يستر، قدّمته حماس باستهدافها أيضاً للمدنيين، حين بدأت الهجوم وأفقدت فلسطين بعض أصدقائها ومؤيّديها في العالم. في حين لم يكن القول إنّ ذلك جاء ردّاً على هجمات المتطرّفين اليهود على الأقصى كافياً لتبرير ما حدث في الساعات الأولى من صباح السابع من أكتوبر، لم تعد تلك الهجمات موجودة إلا قليلاً على ردود الفعل الواسعة على الحدث!
غير واضح حتى الآن أيّ أفق لوقف إطلاق للنار، يعني إسرائيل خصوصاً، لأن نيرانها هي السائدة، وتغطّي مساحة الرؤية في المشهد الآن، وإلى زمن لا يمكن التنبّؤ بطوله حالياً، وهناك من يتنبأ باستمراره لسنوات مقبلات. يبدو صحيحاً أن التركيز على المساعدات الإنسانية ووقف استهداف المنشآت الصحية والحيوية هو المهمة الأولى، إضافة إلى ذلك وعلى هامشه، ينبغي تدارك الوضع مع احتمالات ابتداء الاجتياح البرّي، بحيث لا تنتهي البنية التحتية لقطاع غزة إلى الدمار الشامل، الذي ابتدأت ملامحه الأوليّة تظهر للعيان.
رغم ذلك كلّه لا بدّ من تلمّس بعض ملامح الفترة المقبلة وانعكاساتها على المسألة الفلسطينية، في إطار الصراع في المنطقة، الذي يُحتمل أن يتطوّر أيضاً، مع إدراك الرغبات الإيرانية – مهما كانت مكبوتة الآن- لتطبيقات أوسع نطاقاً لسياسات إثارة القلاقل التي تحيا عليها وتستمر. هنا يبدو أن الأدوات الإيرانية ووحداتها الأمامية شبه المستقلة، كحزب الله والحوثيين، هي من يمكن أن تتقدّم أكثر في هذا الاتّجاه. لم يقل أي مراقب حتى الآن إن إيران كانت وراء حماس بالمعنى الكامل، لكنّ هنالك رأي غالب يقرّ بأنها متواطئة بالتحضير له، وبتأمين الموارد الضرورية، وربّما بتوقيته أيضاً. من دون ذلك لا يمكن فهم ردود الفعل العربية، المسكونة بالخطر الإيراني وتمظهراته، وميلها لإبداء سياسات أقرب بخطوتين معاً إلى الحيادية أمام الحرب، ولو أنها ليست كذلك تماماً. كلّ المواقف الرسمية وغير الرسمية تنضح بذلك، وكلمة الرئيس المصري في افتتاح «مؤتمر السلام» في القاهرة، حول عدم السماح بتصفية القضية الفلسطينية»، خصوصاً على حساب مصر، تثبت ذلك وتوحي به بوضوح. الملاحظة الأوليّة الأخرى، هي غياب مفهوم «حلّ الدولتين» من ساحة المشهد، وتراجعه إلى الوراء بقوة، إلّا من خلال بعض التصريحات الرسمية – أو الفائضة الرسمية – كالأمم المتحدة ومن في حكمها وتحت لحافها البلاغي. هذا ما سيحاول هذا المقال التوسّع قليلاً في معالجته، ما بين عنوانين أو خبرين عاجلين من أخبار الموت والدمار.
معروف أن ذلك الحلّ قد تأسس بشكل غير مباشر على نصوص القرار 242 الصادر عن مجلس الأمن الدولي إثر حرب يونيو 1967، الذي كان نتيجة للهزيمة العربية الفاضحة للأنظمة العربية يومذاك، وبسرعة مذهلة. وقد انعكس على الجزء الفلسطيني من اتفاقيات كامب ديفيد، وفي اتّفاق أوسلو لاحقاً، وعلى العديد من القرارات والمواقف الدولية والإقليمية. في المساحة الفلسطينية، انعكس ذلك منذ البرنامج المرحلي، وتقدّم إلى الأمام من توقيت إلى آخر. لم تعرقل إسرائيل وحدها حلّ الدولتين، بل قام العرب والفلسطينيون أحياناً بذلك، وقد شكّل الانقسام الفلسطيني واستبداد حماس بأمر غزة بعد عام 2006 عاملاً مهماً في تلك العرقلة والامتناع عن التقدّم، إضافة بالطبع إلى استمرار وتطوّر السياسات الإسرائيلية الاستيطانية، خصوصاً في منطقة القدس والضفة الغربية عموماً. كان للقرار الإسرائيلي كذلك بالانسحاب من غزة وترك زمام الأمور لحماس، دور في تهتّك ذلك الطريق نحو الحلّ السياسي للنزاع. فشلت ببساطة كلّ محاولات» توحيد» الفلسطينيين ما بين السلطة في الضفة وحماس، الأمر الذي تغذْت عليه ميول الإسرائيليين الأكثر امتناعاً على الحلّ والحلحلة. ظهر واشتدّ بالتدريج طرح يقترح استبدال الدولة ثنائية القومية بحلّ الدولتين، مستنداً إلى ما كان يرد قديماً من الطموح إلى قيام دولة ديمقراطية واحدة في فلسطين، وإلى استعصاء مسار حلّ الدولتين لكن ذلك عاد وخفت صداه في العقدين الماضيين، رغم محاولات بعض النخب الفلسطينية ومعها بعض تلك العربية. اعتُبر ذلك الاقتراح تخلّياً عن الاستناد إلى الشرعية الدولية، التي تعود قضيّتنا إلى حالة الإملاق من دونها.
يرى بعض الباحثين الغربيين أن «نتيجة الحرب الحالية في غزّة قد أصبحت واضحة بالفعل. فإسرائيل قوية جداً بالنسبة إلى حماس، إلى الحد الذي يجعلها قادرة على هزيمتها وإنشاء هيكل أمني جديد في غزة كما تريده. إنها تواجه تهديدا محدودا من الهجمات التي يشنها الفلسطينيون في إسرائيل والضفة الغربية، لكن من غير المرجح أن تتجاوز حوادث العنف المتفرقة، ومن الناحية العملية، سوف تكون إسرائيل قادرة على إنشاء ذلك الهيكل، بحيث يقتصر العمل الفلسطيني في إسرائيل والضفة الغربية على المظاهرات وأعمال العنف أو الإرهاب الصغيرة».
وكذلك يبدو أن إسرائيل لا تواجه أي تهديد جدي مباشر من قبل جيرانها، واحتمال أن يزيد حزب الله من هجماته الصاروخية أو تسلله عبر الحدود، لكنّ التفوّق الإسرائيلي سوف يستطيع بغزارة النيران وتعميمها أن يمنعه أيضاً. وإذا كان هناك من خطر قد ينشأ عن زيادة مخاوف مصر والأردن من تعرّضهما لموجات مهمة من اللاجئين، لن يصل حتماً إلى مستوى يهدّد إسرائيل بشكل جديّ. في حين ستبقى منطقة الخليج مشلولة عن أيّ فعالية، بسبب هيمنة القلق الناجم عن الاحتمالات من الناحية الإيرانية، يشترك مباشرة مع المصلحة الإسرائيلية بدوره.
أمّا إيران فلن يتجاوز تدخّلها – لو حصل – استهداف إسرائيل بصواريخ تستطيع إسرائيل أيضاً مواجهتها والردّ عليها بما يناسبها، وسوف يكتفي نظام الوليّ الفقيه بتحريك وتمويل وإمداد حزب الله وبقية القوى المرتبطة به في المنطقة.
يطرح هؤلاء الباحثون أن البديل عن حلّ الدولتين سوف يكون في «اللا- دولة»، حين تُدمّر البنية الأساسية والتحتية لحماس والقطاع، وتتناهى القوى المضادّة لها إلى جيوب يمكن التعامل معها مهما طال الزمن، لكنّ غزة سوف تكون في ذلك اليوم لو جاء، منطقة من دون مقوّمات «دولتية» فعلية، سوف تتحقّق المصلحة الإسرائيلية من خلال دعم بنيتها المدنية، وإغواء سكانها بالأمان والاستقرار وتجنّب الأخطار التي أعيتهم ولن يضيرهم لو انتهت. ربّما تنتهي الأوضاع في الضفة الغربية ومنطقة القدس إلى شيء من هذا القبيل، وتكون عندها قد انتهت إلى قضية مناطقية «غير وطنية»، أي أنها ستكون آمنة على إسرائيل، خصوصاً بعد أن تتغيّر الإمكانيات السياسية بتقليص عدد السكان المنتظر، باتّجاه الجوار أو بامتصاص بطيء من قبل بقيّة المنطقة والعالم.
قد يكون هذا حلماً ناتجاً عن قسوة المشهد الواردة من غزة، لكنّه إنذار على الهامش مما أنتجته سياساتنا الفلسطينية والعربية من ضرر على المسألة الفلسطينية العادلة. وبعد كلّ ما مررنا به حتى الآن، وأنتج سياسات عربية حيادية بالمعنى السياسي والتاريخي، لها بعض الشعبية التي لا يمكن إنكار وجودها، لست متأكّداً أبداً مما يمكن أن تأتي به الأيام والسنوات المقبلة. لن تكون خيراً بالتأكيد، ما أتمناه أن تكون أكثر حكمة وقدرة على العطاء بالشكل والمضمون المناسبين والمعاصرين.
كاتب سوري
القدس العربي
————————
إيران والحرب على غزّة/ مروان قبلان
يسترعي الموقف الإيراني من العدوان الإسرائيلي على غزّة اهتماماً كبيراً، ذلك أن الكثير يتوقف عليه، والفارق توسّع الحرب نحو مواجهة إقليمية أشمل، أو بقاؤها ضمن حدود قطاع غزّة، كما تريد الولايات المتحدة، ومرحلياً إسرائيل.
بحسب التجارب السابقة (2008-2009، 2012، 2014، 2019، 2021) لم يستدع أي عدوان إسرائيلي على غزّة تدخّلاً مباشراً أو غير مباشر من إيران، أو من حلفائها في الإقليم (حزب الله خصوصاً) لدعم حركة حماس، أو حركة الجهاد الإسلامي، الأكثر التصاقاً بها. لكن الوضع الآن يبدو مختلفاً، مع تبنّي إسرائيل والولايات المتحدة سياسة تغيير النظام في غزّة (regime change)، فما العوامل التي تحكم سلوك إيران، وما قراءتها لاتجاهات في الحرب على غزّة، وكيف يمكن أن يتطوّر موقفها مع تغيّر الأوضاع على الأرض؟ قبل محاولة الإجابة عن هذه الأسئلة، تنبغي الإشارة إلى أن إيران فوجئت، كغيرها، بعملية طوفان الأقصى، بحسب أغلب التقديرات المخابراتية الغربية والإسرائيلية، بمعنى أنه لم يكن لها دور فيها، ولم تشارك في اتخاذ القرار بشأنها، وقد شُدهت، كما الآخرون، بمستوى العملية وحجمها والنتائج التي حقّقتها. وهذا يقودنا إلى استنتاج مهم مرتبط بطبيعة علاقة حركة حماس بإيران، وحرص الأولى على تأكيد استقلالية قراراتها القائمة على حسابات واعتبارات محلية بالدرجة الأولى، بعكس الجهاد الإسلامي، التي تبدو أكثر ارتباطاً بالسياسة الإيرانية، مع ضرورة الانتباه، في الوقت نفسه، إلى وجود آراء متباينة داخل “حماس” حول درجة القرب/ البعد عن إيران بين قيادات الداخل والخارج، وبين العسكر والسياسيين.
لفهم السلوك الإيراني في الحرب الإسرائيلية على غزّة، ينبغي العودة قليلاً إلى الوراء، وتحديداً إلى فترة الحرب العراقية الإيرانية، التي تكبّدت فيها إيران خسائر بشرية هائلة (مليون قتيل وجريح)، فضلاً عن تداعياتها الاقتصادية والاجتماعية والنفسية، التي ما زالت قائمة لدى الجيل الذي عاصر الحرب. صاغت إيران عقيدتها الدفاعية بعد انتهاء تلك الحرب على قاعدة “أبداً لن يحدُث هذا مجدّداً”، بمعنى أن إيران لن تقاتل في حرب أخرى على أرضها. ولأن إيران تعدّ أضعف أيضاً مقارنة بخصومها (إسرائيل والولايات المتحدة)، فهي لن تقاتل مباشرةً أيضاً، بل من طريق وكلاء أو حلفاء، ما يعفيها من تبعات المسؤولية. بناءً عليه، بادرت إيران إلى بناء أدوات إقليمية أو أنشأت تحالفات مع قوى تشاركها المواقف (فصائل المقاومة الفلسطينية) لتعزيز أمنها وتحقيق مصالحها الإقليمية. وجاء الغزو الأميركي للعراق (2003) ثم ثورات الربيع العربي (2011) فرصة لتعميم التجربة، فصار لها وكلاء/ حلفاء في أنحاء المشرق العربي (سورية، العراق، اليمن) إضافة إلى لبنان وفلسطين. وقد دمجت إيران هؤلاء في استراتيجية أمنها القومي، وصاروا جزءاً منها، بحيث صارت ترى في إضعافهم إضعافاً لها.
جاء ردّ فعل إيران على عملية طوفان الأقصى مُرحِّباً في العلن، لينسجم مع موقفها المعروف من القضية الفلسطينية ومن تحالفها مع حركة حماس، وغيرها من الفصائل في غزّة. أما في السر، فقد سادت حالة من الذعر في دوائر السلطة الإيرانية عندما صوّر الإسرائيليون والأميركيون ما حصل باعتباره هجمات سبتمبر جديدة. وخشيت إيران، بناءً عليه، تحميلها المسؤولية، والتصرّف أميركياً وإسرائيلياً وفقاً لذلك، حيث أدّت هجمات 11 سبتمبر (2001) إلى تغيير نظامين في أفغانستان والعراق. من هنا يُفهم خروج المرشد، علي خامنئي، لينفي شخصياً أي علاقة لبلاده بالهجمات. فقط عندما بدأت إدارة بايدن تحذّر من تكرار أخطاء سياسات ما بعد سبتمبر 2001، هدأ روْع إيران، وبدأت تفكّر في الاستفادة من “طوفان الأقصى”، وأيضاً في كيفية حماية “استثماراتها الخارجية”. وبين الخوف والرغبة في إظهار القوة تفاوتت التصريحات الإيرانية، ففيما هدّد وزير الخارجية أمير عبد اللهيان يوم 15 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري بالقول: “أوقفوا الحرب على غزّة أو سنضطرّ إلى اتخاذ إجراء”، جاء ردّ الفعل من القيادات العسكرية ومن البعثة الإيرانية في نيويورك بأنّ إيران لن تتدخّل في الحرب على غزّة ما لم تتعرّض مصالحها أو مواطنيها للهجوم.
في مقالة أخرى لاحقاً، أتناول كيف انعكست “طوفان الأقصى” على وضع إيران الإقليمي، وما الذي خسرته/ ربحته منها، وما خياراتها إذا نفّذت إسرائيل هجومها البرّي في غزة، وماذا لو توسّعت المعركة لتشمل حزب الله؟
العربي الجديد
———————-
السوريون وغزّة التي تُذبح/ سوسن جميل حسن
حتى وقتٍ قريب كان السوريون يُساقون، بكل فئاتهم وشرائحهم، إلى المسيرات التي تنظمها القيادة السياسية، وتحت إشراف (ومتابعة) أجهزة المخابرات بكل تنويعاتها ومسمّياتها. كان هذا قبل أن تتقسم سورية إلى مناطق نفوذ، وقبل أن ترفرف في سمائها أعلامٌ وراياتٌ بتلوينات متعدّدة، واستمر في مناطق النظام حتى وقت قريب.
كانت غالبية المسيرات تخرج من المدارس والمعامل والمؤسّسات والوزارات والنقابات والاتحادات، بل وحتى من بين الناس العاديين الذين يسعون، في سبيل لقمتهم ولقمة أبنائهم، وتُقام المهرجانات الخطابية الحماسية التي تذكّر بمناقب القائد الخالد وأعطياته ووقفته الشامخة التي تدعو إلى الفخر في وجه الرجعية والإمبريالية والصهيونية، والمؤامرة الكونية التي لم تيأس من التربّص بسورية وشعبها وقيادتها الحكيمة منذ فجر التاريخ. وكانت فلسطين حاضرة باستمرار في المسيرات والخطابات الرنّانة التي تنهي الكيان الغاصب من الوجود، وتنتصر عليه في كل خطابٍ وفي كل مسيرةٍ مليونيةٍ يزحف الشعب فيها إلى ساحةٍ يتجمّعون فيها ليقدّموا عربون الوفاء والامتنان للقيادة والقائد، ويعبّروا عن وحدة “المصير والمسار”، وأنهم خلف القائد، والدليل صراخهم، وبعضُهم على الأكتاف، “بالروح بالدم نفديك”.
منذ سبعينيات القرن الماضي، وُلدت أجيال من السوريين، ثم كبروا لا يعرفون شيئًا غير أن الأسد قائدهم إلى الأبد، وأن فلسطين قضيتهم الكبرى، يعيشون ويكبُرون من أجلها، حتى صارت شيئًا فشيئًا هناك قضية، من دون أن يعرفوا ما هي، لكنها القضية الحاضرة في المسيرات والخطابات والصحف والإذاعة والتلفزيون والمدارس وكتب التربية الوطنية، وبعدها القومية، وفي حصص التربية العسكرية وفي منظمة الطلائع والشبيبة والطلبة، وفي الاتحاد النسائي ونقابات العمّال واتّحادات الفلاحين، في الشوارع واللافتات التي تتوزّع جدران الأحياء في المدن والقرى، وحتى جدران البيوت.
وبدعوى الوقوف في وجه الرجعية والإمبريالية والصهيونية، وصوْنًا للقضية النبيلة التي يدفع الفرد السوري ضريبتها من حياته ورزقه وعرق جبينه وحصّة أولاده من المستقبل، صارت الحياة تنزلق بسبب الفساد والقمع والتغوّل الأمني في المجتمع، وسلب الحقوق وغياب المساواة والعدالة في الفرص والواجبات والحقوق، وإقصاء الشعب عن القرار وعن موارد البلاد التي تتسرب في ثقوبٍ مجهولة، إلى مستوياتٍ لم تعد محمولة، فانتفض الشعب في لحظةٍ ما، عندما أدرك وجوده وواقعه، انتفض لكرامته قبل كل شيء، ونزل الناس إلى الساحات مطالبين بدايةً بالإصلاحات وبالحرية. وكلنا يذكُر كيف راح النظام بالتوازي يسوق الناس في مسيراته المليونية، يتحدّون المؤامرة الكونية على سوريّة، ويجدّدون وقوفهم خلف القيادة الحكيمة، وخلف قائدهم في حربهما المقدّسة تلك، التي راح الناس يُقتلون فيها بالعشرات، ثم بالمئات، ينهمر عليهم الموت من السماء براميل متفجّرة، ومن الأرض ومن كل مكان. وراحت الحرب تشتعل بزخم أكبر، والأطراف الخارجية تدخل بجيوشها حينًا، وبمقاتلين مأجورين حينًا، وبتجنيد السوريين بعضهم ضد بعض حينًا آخر. … ولا داعي للاستفاضة أكثر وشرح ما هو واضح ومعروف.
متى اختفت المسيرات من سورية؟ أخمّن أنها خرجت في الاستفتاء على رئاسة الجمهورية في مايو/ أيار 2021. بعدها كان الجو العام يميل إلى انتظار الوعود بثمرة الانتصار التي لاحت بوادرُها، كما بشّر بها النظام، منذ العام 2018، وكانت نتيجة هذا الانتصار سورية مقسّمة إلى مناطق نفوذ، ما زالت العمليات العسكرية تدور في بعضها، كما في الشمال الغربي، وشرق سورية وشمالها، وهناك الجنوب، وانتفاضة السويداء الحالية.
التجمّع الوحيد الذي كان مسموحًا به هو المسيرات التي تديرها أجهزة النظام، أما التظاهر، فبعد أن جرّبه السوريون، وكانت نتيجتُه، التي ربت باقي شرائح الشعب السوري في مناطق النظام، ما وصلنا إليه، وعودة الخوف ليسكن النفوس.
اليوم، هناك حدث جلل، حرّك العالم بأركانه الأربعة، حكوماتٍ وشعوبًا، وهو في صلب القضية التي صارت في وعي أجيال من السوريين مفهومًا ضبابيًا، صارت رمزًا مجرّدًا يدخل في دائرة التجريد، وربما الميتافيزيقيا، هي قضية عظيمة مقدّسة، على كل سوري أن يعيش من أجلها، ويقسم للقائد بالولاء له ولها. حدثٌ فيه من الإجرام بحقّ الإنسانية ما يتحدّى كل القوانين الدولية، والقيم الأخلاقية، ويدمي القلوب والعواطف ويمزّق الضمائر. دفعت الحرب الإسرائيلية على غزّة الملايين في شتى أنحاء العالم إلى النزول إلى الشوارع والصراخ في وجه الحكومات والأنظمة والمنظمّات الدولية، كي ينصروا المستهدفين المنتهكة حياتهم، المسجونين في فضاء مفتوح، ترميهم الطائرات من الجو فتحصُدهم بالمئات. أشلاء الأطفال والنساء والكبار تغزو المواقع والمنصّات والمنابر كلها. كل العالم يرى هذه الوحشية غير المسبوقة، المدعومة من الغرب بالمطلق، تستثير النفوس والضمائر في شتّى بقاع الأرض، ويخرجون للتنديد والصراخ، إلّا في سورية، حيث النظام المقاوم حارس القضية، لا يقوى السوريون على الخروج والتظاهر والتنديد… أيّ جرح أعمق وأيّ إهانة أكبر؟ هل فقط لأن السوريين يحملون فوق ظهورهم ما تنوء تحته الجبال؟ هل لأنهم لم يبقَ في حياتهم مكانٌ لنضالٍ آخر غير النضال في سبيل الرغيف؟ هل لأن الموت الذي حصد مئات الآلاف منهم في السنوات العشر الماضية، والتدمير والتهجير وانهيار الحياة جعلهم غير عابئين بالفجور والوحشية التي تمارسها إسرائيل بحقّ سكّان غزة؟ بل وفي الضفة الغربية أيضًا؟ أم أن التجمعات ممنوعة حتى لو كانت مسيرات، خوفًا من تحوّلها إلى مظاهرات؟ تثير التجمّعات حفيظة نظامٍ لم يعترف في أي يوم بحقّ الشعب في أن يتظاهر ويعبر عن مطالبه، عن مطامحه، عن اعتراضاته، عن مشاعره، عن الدفاع عن كرامته وإرادته؟ بل حتى تجمّعات الأعراس والأفراح يجب أن تكون تحت رقابته الأمنية، وبموافقة أمنية مسبقة. ولماذا لا تنظّم القيادة الحكيمة مسيرات مثل تلك المليونيات التي كانت تسيّرها في ذكرى الحركة التصحيحية التي أسّست لتاريخ سورية بعدما كانت غفلًا بلا وجود ولا تاريخ؟ وفي ذكرى حرب تشرين “التحريرية” التي تذكّر الشعب السوري بأن جزءًا عزيزًا من أرضهم ما زالت إسرائيل تحتلّه، وما زالت إسرائيل تقصف أرضهم باستمرار وتحتفظ القيادة بحقّ الرد، وتلفت نظرهم أيضًا إلى الاحتلالات الحديثة التي قضمت أجزاء من أرضهم، وقسمتها.
لم يكن السوري بلا نخوة، ولم يكن بلا ضمير، ولم يكن بلا تاريخ، لكن ما وقع عليه ويقع اليوم، وضعه في هذه الدائرة التي تفتت روحه وتقتله مرّتين، السوري عاجز حتى عن التعبير، فكيف بالفعل؟
العربي الجديد
——————–
17 يوماً وغزّة وحيدة بمواجهة الانتقام الإسرائيليّ/ مناهل السهوي
الحرب على غزة ليست بالحرب العادية، عداد الضحايا يرتفع بشكل يومي، إذ ترتكب إسرائيل جرائم حرب أمام أعين العالم إلى حد مطالب بعض الأصوات في أوروبا إلى إرسال نتنياهو إلى محكمة الجنايات الدوليّة، في حين أن المواقف الرسميّة الأوروبيّة تدافع عن “حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها”، وتكمم أفواه كل من يقف مع الحق الفلسطيني أو ينتقد جرائم إسرائيل.
لا شيء ثابت في اليوم 17 لما بعد عملية طوفان الأقصى، سوى الانتهاكات الممنهجة بحق سكان قطاع غزة. مجازر تُرتكب يومياً، وبعضها يرتقي إلى جرائم الحرب و”الإبادة الجماعية” كما تشير أصواتٌ في المجتمع الدوليّ تدعو الى إدانة إسرائيل، التي تقصف المستشفيات والمخابز والمنازل والشوارع والمساجد والكنائس والمدارس، حارمةً الناس حتى من إيجاد مكان آمن، فلا وجود مساحة للاختباء في القطاع.
تسارعت الأحداث مع دخول الحرب على غزة أسبوعها الثالث، المأساة الإنسانيّة تزداد فجاعةً، والتخبط السياسي قائم في المنطقة العربيّة، في حين وصلت رشقات من الغضب الإسرائيلي إلى سوريا ولبنان ومصر، وما زال المستقبل القريب والبعيد لهذه الحرب غامضاً.
“مجازر لا توصف”
حتى هذه اللحظة، وصل عدد الضحايا الفلسطينيين جراء القصف الإسرائيلي إلى أكثر من 5087 قتيلاً، بينهم أكثر من 2055 طفلاً و1119 امرأة، بالإضافة إلى أكثر من 15273 جريحاً و1500 مفقود، حسب بيان وزارة الصحة الفلسطينية في آخر تحديث لها. وخرج مليون ونصف المليون فلسطيني من منازلهم، يختبئون في 220 مركز إيواء أو تجمعات تستضيفهم، وسط انهيار المنظومة الصحية بشكل شبه كامل. إذ تُجرى العمليات على الأرض ومن دون تخدير وبأبر الخياطة، ولجأ الأطباء إلى الخل لتعقيم الجروح، فيما لا إمدادات طبية أو وقود لتشغيل المولدات التي ستتوقف عن العمل بعد أقل من 3 أيام. هذا كله يتركنا أمام مشهد كارثي في المستشفيات التي تحولت أيضاً إلى ملاجئ ينزح إليها الناس هرباً من القصف.
يُعتبر استهداف مستشفى المعمداني (الأهلي) يوم 17 تشرين الأول/ نوفمبر، مجزرة غير مسبوقة على مستوى استهداف المستشفيات في قطاع غزة، والتي راح ضحيتها أكثر من 500 شخص، معظمهم من النساء والأطفال، مجزرة ما زالت أمام الرأي العام موضع جدل حول من ارتكبها، لكن هذا لم يوقف إسرائيل عن جرائمها، فقد عادت لتهدد مستشفى القدس وتطلب إخلاءه، كما استهدفت منذ البارحة محيطه بعشر غارات جوية على الأقل على بعد 100 متر فقط!
كانت ليلة 23 تشرين الأول/ نوفمبر الأعنف على القطاع من حيث القصف، إذ قال الجيش الإسرائيلي إنه قصف 320 موقعاً في غزة خلال الساعات الأربع والعشرين الماضية فقط، وأدت الغارات الإسرائيلية الى سقوط نحو 400 قتيل فلسطيني خلال الـ24 ساعة الماضية.
سبق وأن أنذرت إسرائيل سكان شمال غزة بإخلاء المنطقة، بمن في ذلك الموجودون في المستشفيات. وأمام هذه المهمة المستحيلة كما قال المتحدث باسم منظمة الصحة العالمية، طارق ياساريفيتش، دعت المنظمة إسرائيل إلى إعادة النظر في هذا الأمر، وقال ياساريفيتش لـ”بي بي سي”: “هناك مرضى لا يمكن نقلهم ببساطة، والكثير منهم يستخدمون أجهزة التنفس الاصناعي، وهناك أطفال حديثو الولادة في حاضنات، وأشخاص في ظروف غير مستقرة، ومن الصعب للغاية نقلهم”.
حتى هذه اللحظة، وصل عدد الضحايا الفلسطينيين جراء القصف الإسرائيلي إلى أكثر من 5087 قتيلاً، بينهم أكثر من 2055 طفلاً و1119 امرأة، بالإضافة إلى أكثر من 15273 جريحاً و1500 مفقود
غياب المساعدات الإنسانيّة
دخلت أول قافلة مساعدات يوم السبت الماضي، وتتضمن 20 شاحنة محمّلة بأدوية ومستلزمات طبية وكمية محدودة من المواد الغذائية، أما القافلة الثانية فدخلت مساء أمس الأحد. وقالت جولييت توما، مديرة الاتصالات بوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، لرويترز، إن قافلة ثانية تضم 14 شاحنة مساعدات، وأشارت قناة “القاهرة” الإخبارية إلى أن الهلال الأحمر المصري دفع بثلاث شاحنات ضمن قافلة المساعدات لتصبح 17 شاحنة.
وبحسب منظمة الصحة العالمية، فإن من بين المساعدات أربع شاحنات محملة بمواد جراحية وعلاجية، بالإضافة إلى أدوية للأمراض المزمنة، لكن هذه المساعدات هي أشبه بنقطة في بحر المأساة والحاجة الملحة للفلسطينيين، إذ يقول مسؤولو الأمم المتحدة إن هناك حاجة إلى وتيرة أسرع ومتواصلة لدخول 100 شاحنة على الأقل يومياً إلى غزة لتغطية الاحتياجات الطارئة. ويذكر أن هناك قوافل مساعدات تنتظر عند معبر رفح، لكن لا توجد ضمانات أمنية بإمكان نقل الإمدادات بأمان.
تهديد بالحملة البرية
منذ اليوم الأول لعملية “طوفان الأقصى”، هددت إسرائيل بحملة برية للقضاء على “حماس” بشكل نهائي، لكن الحملة لم تتم للآن لأسباب كثيرة، منها عدم قدرة الجيش الإسرائيلي على خفض حرب شوارع، ناهيك بحسابات إقليمية تخشى دخول المنطقة في حرب شاملة. وقال وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، يوم أمس الأحد، إنه من غير الواضح متى قد تشن إسرائيل الحملة البرية على قطاع غزة.
أجلّت إسرائيل الحملة مراراً، وبحسب إذاعة الجيش الإسرائيلي، فقد وافقت الحكومة الإسرائيلية على طلب واشنطن تأجيل الدخول البري إلى غزة حتى وصول قوات أميركية إضافية. وكانت صحيفة “نيويورك تايمز” نقلت عن مسؤولين أميركيين أن إدارة الرئيس جو بايدن نصحت إسرائيل بتأجيل الغزو البري لقطاع غزة بهدف كسب الوقت لإجراء مفاوضات بشأن “الرهائن” والسماح بوصول المزيد من المساعدات الإنسانية إلى القطاع.
ومن المنتظر خلال اليومين المقبلين، زيارة رئيس الوزراء الهولندي مارك روته والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إسرائيل، ما قد يعني بحثاً أكثر في أفق التهدئة أو العكس. يذكر أن من بين الرهائن الإسرائيليين لدى “حماس” 30 مواطناً فرنسياً، فيما لا يزال سبعة فرنسيين في عداد المفقودين، وفق ما قال ماكرون في وقت سابق.
لا جديد في ملف الرهائن
لم يحسم الجانب الإسرائيلي عدد الضحايا، فالأرقام تتراوح بين 195 و222 رهينة لدى حركة “حماس” في غزة، من بينهم مواطنون أجانب، ومن أهم أهداف الحرب، هي إطلاق سراح الرهائن، بحسب ما قال المتحدث باسم جيش الاحتلال، بينما قال الناطق الرسمي باسم “كتائب القسام”، الجناح العسكري، أبو عبيدة، في شريط مصور، أن الحركة تحتجز ما لا يقل عن مائتي شخص، مضيفاً أن 50 آخرين محتجزون لدى فصائل المقاومة الأخرى وفي أماكن أخرى.
وقال أبو عبيدة أيضاً، إن 22 رهينة على الأقل قُتلوا في الغارات الجوية الإسرائيلية على غزة، كما أشار إلى أن الرهائن غير الإسرائيليين هم ضيوف سيُطلق سراحهم في الوقت المناسب.
وفي وقت سابق، هددت “كتائب القسام” بأنها ستقتل رهينة إسرائيلية في كل مرة يقصف فيها الجيش الإسرائيلي أهدافاً مدنية في قطاع غزة من دون سابق إنذار، لكن حتى الآن لم يصدر أي تصريح حول ذلك ولم تعلن “حماس” عن قتل رهائن رداً على القصف الإسرائيلي للمدنيين.
“نيويورك تايمز” نقلت اليوم عن مسؤول عسكري إسرائيلي، أنه من المحتمل أن تطلق “حماس” سراح نحو 50 رهينة من مزدوجي الجنسية، محذرة من أن الاجتياح البري سيقلص فرص إطلاق سراح الرهائن. علماً أن الحركة أطلقت سراح رهينتين أميركيتين بوساطة قطرية قبل يومين.
وقال متحدث باسم وزارة الخارجية القطرية، إن إطلاق سراح الرهينتين الأميركيتين جاء نتيجة تصالات استمرت لأيام مع جميع الأطراف، وسيستمر الحوار القطري بشأن إطلاق سراح الرهائن مع إسرائيل و”حماس”. وتأمل قطر بأن يؤدي الحوار إلى الإفراج عن جميع الرهائن المدنيين من كل الجنسيات. وفي السياق ذاته، قال وزير الخارجية التركي حقان فيدان، قبل نحو الأسبوع، إن بلاده بدأت نقاشاً مع “حماس” لإطلاق الرهائن، وفق ما نقلت وكالة الأناضول الرسمية.
17 يوم واسرائيل تعاقب المتضامنين مع غزة
في المقابل صعدت إسرائيل من تضييقها على الفلسطينيين في الضفة الغربية وفي السجون، وبحسب هيئة شؤون الأسرى، فإن قوة كبيرة من الاحتلال اقتحمت الخميس الماضي سجن الدامون واعتدت على الأسيرات وعزلت بعضهن، ويقع سجن الدامون شمال فلسطين المحتلة، وأنشئ في عهد الانتداب البريطاني وكان إسطبلاً للخيل قديماً، إلا أنه اليوم تحتجز فيه الأسيرات الفلسطينيات.
اعتقلت القوات الإسرائيلية عشرات الفلسطينيين في الضفة الغربية بسبب منشوراتهم على وسائل التواصل الاجتماعي الداعمة لغزة، من بينهم الفنانة دلال أبو آمنة التي احتُجزت لمدة يومين قبل أن يتم إطلاق سراحها بكفالة. ومنذ 7 تشرين الأول \أوكتوبر، تم التحقيق مع أكثر من 100 فلسطينياً واعتقلوا بسبب نشاطهم على وسائل التواصل الاجتماعي، وتم اعتقال واستجواب 63 منهم في القدس وحدها. ويواجه الطلاب العرب في إسرائيل أيضاً إجراءات تأديبية من جامعاتهم حيث تم إيقاف تعليم 83 طالباً من الجامعات الإسرائيلية وطُلب من بعضهم مغادرة أماكن إقامتهم في فترة قصيرة.
الحرب على غزة ليست بالحرب العادية، عداد الضحايا يرتفع بشكل يومي، إذ ترتكب إسرائيل جرائم حرب أمام أعين العالم إلى حد مطالب بعض الأصوات في أوروبا إلى إرسال نتنياهو إلى محكمة الجنايات الدوليّة، في حين أن المواقف الرسميّة الأوروبيّة تدافع عن “حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها”، وتكمم أفواه كل من يقف مع الحق الفلسطيني أو ينتقد جرائم إسرائيل.
درج
————————–
السقوط الحتمي لمنظومة الأسد/ يحيى العريضي
لم يعد يكفي إسرائيل ضمان نظام الأسد لصمت جبهة الجولان السورية مقابل مكافأته بالبقاء، رغم ارتكابه ما عجزت هي ذاتها عن فعله تجاه سوريا، الخطر المهدد لوجودها.
ذلك ان جبهات إسرائيل تعدّدت بفعل المشروع الإيراني وأذرعه، وخاصة أن تلك الأذرع ومشغلها جعلت من فلسطين هاجسها، حتى ولو بغرض المزايدة.
لقد وصلت إسرائيل و مَن هم خلفها إلى قناعة أن ارتباك منظومة الأسد ببقائها جعلها الأداة التي من خلالها قد تم اهتزاز الكيان وجودياً بفعل الخرق الغزاوي مؤخراً. ومهما قدّم نظام الأسد من تنازلات كبيرة الآن، لن يستطيع وقف الآتي، اذ لم يعد يكفي إسرائيل ضمان صمت جبهة واحدة.
حقيقة الأمرالصادمة تكمن بأن إسرائيل فجاة خسرت كل جدوى قدمها هذا النظام الوظيفي لعقود بساعةٍ واحدةٍ.
إن كل ماقدمه نظام الأسد لإسرائيل تاريخياً تبخر بلحظة؛ فرغم أنه:
*ساهم مساهمةً فاعلةً بإخراج المقاومة الفلسطينية من لبنان، فها هي حماس تدخل إلى قلب الكينونة الصهيونية، وتهددها بالصميم، الذي اعتزّت به تاريخياً.
* ساهم بانهاء المقاومة العراقية، و ها هي إيران تضع يدها على العراق، وتبدأ بتحريك الأذرع، و الوجهة، على أقل تقدير من باب المزايدة، نحو تهديد إسرائيل.
* كسر شوكة السوريين على مدار نصف قرن، و ها هم السوريون يخرجون من القمقم كطائر الفينيق مدركين مكمن الدّاء الذي أبقى على جلاّدهم، و زاد في عذاباتهم.
ان نظام الأسد الآن في أضعف لحظةٍ استراتيجيةٍ في تاريخه. لقد أتت به قواعد المكان؛ و هي ذاتها ستذهب به. لقد ارتكب الخطأ الاستراتيجي التراكمي المميت، الذي طالما انتظره السوريون لوقتٍ مديد؛ و بشكلٍ مدهش.
ما يحدث الآن كارثي على الأسد و منظومته؛ فالمحاكم الدولية تنتظر ملفات الجرائم التي ارتكبها، وفعل المحاسبة سيأخذ زحماً غير مسبوق؛ والملف الكيماوي سيكون أحد المحركات التي تضعضع كيانه، وسيستمر تآكل اقتصاده وقاعدته الشعبية بسرعة، و إسرائيل لن تثق به مجدداً؛ فلا خدماته شفعت؛ ولا شعبه خلفه.
نظام الأسد الآن قلِقُ جداً من الروس، ومن السويداء، ومن اسرائيل، و حتى من ايران بمرحلةٍ قريبة؛ فهي ذاتها التي سحبت منه اوراق اللعبة الخارجية.
أما إسرائيل، فلن تعطيه وقتا لينهض الا بشرط واحد، لن يقدر عليه، و يتمثَّل تحديداً بفك ارتباطه بإيران وحزب حسن نصرالله التابع لها.
ستبقى ايران ملاذه مع الروس،رغم اعتماده عليهم ليس عسكريا وماليا فقط، بل يحتاج الفيتو الروسي أيضاً.
وفي الوقت ذاته، يخشى ان يبيعه الروس بصفقة يوماً؛ وقد يكون هذا اليوم قد اقترب جدا. و من هنا تبقى ايران خط رجعته، اذا ما تخلى الروس عنه.
في هذا المفصل بالذات، تأتي لحظة رد الحسابات الايرانية التي حُشِرَت الآن بزاوية ضيقة. وإذا ما دخلنا أعماق العقل الاسرائيلي الاستراتيجي وفق معيار امن قومي إسرائيلي لا مصالح أمريكيةً تتجاوزه، يبرز السؤال: أي النظامين (الأسدي أم الإيراني) هو الأكثر جدوى و الأقل خطراً؟ و أيهما يشكّل قيمة أعلى كركيزة بالمنطقة يمكن فَرَصَاً اعادة تأهيله بشروط ؟
مبرر السؤال المزدوج أن إسرائيل في اللحظة الحاسمة ستفرض مفاضلة بين الطرفين.
إذا ما كان الجواب “نظام الأسد”، سيبرز هنا سؤال آخر مفاده: هل هناك قواعد شعبية تضمن توقيع الأسد سلام ثابت؟! في هذا السياق بالذات، نتذكر عبقرية توقيت حَراك السويداء وإعادته صرخة الحرية لكل سوريا الرافضة لمنظومته.
أما اذا وقع الخيار على إيران، فالسؤال الذي سيبرز هو: هل تقبل ايران ان تنهي مشروعها المحمول على مظلومية جمعت حلفاء شيعة من اليمن للعراق للبنان،لسوريا، لباكستان؟
المُرَجَّح هو أن تفككًا تسلسليًا للمنظومة بكليتها من حلقة أضعف الى أخرى أعلى، أو شلّ الرأس الحيوي لتتبعث الأطراف.
ومن هنا، فإنه من المؤكّد ألا تُقَدَّم لنظام الأسد أي مقابل مطلقا، ولو قدّم ألف تنازل.
ها هو نظام الأسد يواجه مكر التاريخ، و يدفع ثمن وعواقب براعة القتلة الوظيفيين.
ايلاف
———————–
صكوك الإدانة…عن “العنف غير المبرر” ومُعاداة غزّة/ عمّار المأمون
طلب الإدانة العمياء لـ”حماس”من دون سياق، نابع ربما من مقاربة “الشر الأعظم” المتمثل بالنازية، التي تقتل اليهود لأنهم يهود، في حين أن عبارة “عنف حماس غير المبرر”، محاولة للهرب وغض البصر عن السياق الذي يحصل فيه الصراع، وسياسات الاحتلال.
لا يمكن إنكار الانحياز الأوروبي لصالح إسرائيل في الحرب التي تشنّها على غزة، ناهيك بشدة الانتهاكات التي ارتكبتها إلى حد وصفها بـ”العقاب الجماعي” و”جرائم حرب”. لكن أكثر ما أثار الحفيظة والصدمة هو موقف أوروبا، سواء في دعم أطياف واسعة فيها لإسرائيل من دون أي مساءلة، أو الوقوف بوجه الأصوات التي تنتصر للحق الفلسطيني، وتوزيع اتهامات “دعم الإرهاب” و”معاداة الساميّة” لكل من يبدي حتى تعاطفاً مع القتلى الفلسطينيين.
المفارقة في ما يحصل هو مقارنة “طوفان الأقصى” بـ”الهولوكوست”، أو استحضار أطياف الهولوكست في وصف ما تعرض له الإسرائيليون، وهنا شأن لا بد من الخوض فيه، خصوصاً أن أدبيات ما بعد الحداثة الأوروبيّة( التي يؤرخ البعض بدايتها بنهاية الحرب العالميّة الثانيّة) ترى أن كل المركزيات الأوروبية انهارت (مركزية الرجل الأبيض، مركزية الشمال…ألخ) عدا اثنتين، الأولى هي “مركزية انهيار السرديات الكبرى” والثانيّة هي “مركزية الهولوكوست”، الجريمة التي لا يمكن مسّها أو مساءلتها.
الهولوكوست جريمة أوروبيّة بامتياز، لا تُنسى ولا تُغتفر، وحجر الأساس في الذنب الأوروبي، والتي لا تجوز مقارنتها بأمر آخر، كونها قتلاً ممنهجاً وبيروقراطياً، شارك فيه “جيل” لإبادة فئة محددة من الأشخاص بسبب دينهم، أو ما يُعرف بـ”الحلّ الأخير”. هي الجريمة “الفريدة من نوعها” وفق دان ستون، مدير مركز أبحاث الهولوكوست في جامعة رويال هالواي في لندن، لأن “فرادتها” لا تأتي من عدد الضحايا، بل من الأسلوب الذي طُبقت فيه الإبادة الجماعيّة.
حضور المقارنة هذه الآن، في ظل احتكار أشكال “المقاومة المسلّحة” بالجماعات الدينيّة (“حماس” و”حزب الله”)، يبدو كمحاولة لاستبدال الشرّ الأوروبي الأعظم (النازيّة) بهذه الجماعات، خصوصاً “حماس”. الملفت أن المقارنة هذه لم تنجح حين محاولة لصقها بنظام الأسد ( المقالات المتعددة عن دور النازيين في بناء المنظومة الأمنية السوريّة)، ولم يعمم استخدام كلمة هولوكوست لوصف الفظائع التي ارتكبها.
التسليم بوصف “الحيوانات” الذي استخدمه وزير الدفاع الإسرائيلي، يعني الاتفاق مع حق الاستعمار لا فقط في “الدفاع عن نفسه” حد إفناء العدو، بل إفناء الآخر، الإنسان، بوصفه أقل حقاً بالحياة.
تفترض المقارنة إذاً، أن ما قامت به “حماس” بوصفها “جماعة إسلامية تحكم مساحة محاصرة”، يشابه ما قامت به جمهورية الرايخ الثالث، لكن المقارنة هنا لا تتعلق بالأسلوب، بل بالصدمة، والتركيز على أن الضحيّة يهوديّة في الحالتين، الأمر ذاته حين مقارنة ما حدث 11 أيلول/ سبتمبر، المقارنة النابعة من المفاجأة التي أخذت إسرائيل على حين غرّة.
لكن، ماذا يعني تهديد مركزية الهولوكوست وفتح باب المقارنة؟ مركزية جريمة الهولوكوست هي أساس السيادة السياسيّة بعد الحرب العالميّة الثانيّة (انهيار الرايخ الثالث في ألمانيا، انهيار جمهورية فيشي في فرنسا)، وسيطرة ذنب عام يشترك به سكان القارة العجوز بخصوص ما حصل. لكن، هل استبدال “شر أوروبي نازي” بـ”شر جهادي إسلامويّ” هو الحلّ لهذا الذنب أو للقضية الفلسطينيّة؟
كتبت الصحافية الإسرائيليّة أميرة هاس في هآرتس مقالاً بعنوان “ألمانيا، لقد ختني مسؤوليتك منذ زمن طويل”. تنتقد هاس في المقال، المستشار الألماني أولاف شولتز، والوقوف الحاسم والدائم إلى جانب إسرائيل، بوصفه “شيكاً على بياض… قد تشعل إثره إسرائيل حرباً عالميةً ثالثة”.
بصورة ما ، تقول هاس إن محاولة التكفير عن ذنب الهولوكست، قد تدفع نحو حرب جديدة ضحاياها أيضاً من اليهود، وهنا نقع في مفارقة، التسليم بأن عنف “حماس” مشابه للهولوكست، يعني إمكان تعميم العداوة ضد “كل الفلسطينيين”، بوصفهم “كلهم” مشاركين في الجريمة، خصوصاً المقيمين في قطاع غزّة، وهذا ما تقوم به إسرائيل. لكن هذه المقارنة تهدد مركزية الهولوكوست نفسها، وتحوّلها إلى جريمة يمكن معاقبة أي شخص أو جماعة بسببها، إنما منطق المقارنة هذا بالذات معطوب، وأشبه بعجلة تدور في مكانها، لا يقدم أي جديد سوى التراشق بأعداد الضحايا، ويقسم لا فقط المنطقة، بل العالم كما يحصل الآن. انهيار مركزيّة الهولوكوست أزمة ستعيد توزيع الذنب الأوروبي تجاه اليهود، وخلق “شر مطلق” جديد لا نعرف حدوده.
“العنف غير المبرر”
تصرّ إسرائيل وكل من يقف إلى جانبها على إدانة “حماس”، بل أصبحت صكوك الإدانة مطلوبة من كل شخص سواء كان شخصية عامة أو خاصة، الشأن الذي لا اختلاف عليه هنا، بل ويمكن اختزاله بكلمات باسم يوسف “كسّم حماس”، ونعم ما قامت به شأن وحشيّ باستهداف المدنيين والأطفال والعجائز وأخذهم رهائن. لكنْ، هناك إصرار على عبارة “عنف غير مبرر”، لأن ما قامت به “حماس” عدميّ، ولا يخدم أي أحد، هو فقط استهداف لليهود لأنهم يهود، وهذا أيضاً مدان.
لكن، نركز على عبارة “غير مبرر” التي تبدو غريبة، أو بصورة ما، مفرطة في أخلاقيتها و سذاجتها أحياناً، خصوصاً أن الجماعات المشابهة التي تقارن بها “حماس” هناك دوماً تبرير جيو -سياسي للعنف الذي ترتكبه، فـ”داعش” (محطّ المقارنة الأكبر مع “حماس”)، هناك تبريرات عدة لـ”ظهورها”، هي نتاج الغزو الأميركي والغضب السنيّ في العراق والدور الشيعي أثناء سقوط الموصل، وصنيعة نظام الأسد الذي يريد حرف مسار الثورة ..الخ، بل هناك تبريرات للشبان الذين يتركون ضواحي فرنسا ويتجهون إلى الرقّة للقتال في صفوف الدولة الإسلاميّة “داعش”، بأنهم نتاج إهمال السلطة الفرنسية، ويمارسون الفظائع رغبة في إثبات الذات ضمن مجتمع نفاهم، أو تحدٍّ للمجتمع الذي أقصاهم وغيرها… لكن “حماس” لا مبرر لما تقوم به، لأنه نابع من أيديولوجيا صرفة (مسلمون يريدون قتل اليهود)، لا وجود لأي شروط جيو-سياسيّة من الممكن أن تؤدي إلى نشوء جماعة مسلحة دينيّة ضمن منطقة محاصرة، لا تفكر بالآخر إلا كـ”عدو لا بد من إبادته”، بالأسلوب ذاته الذي يفكّر به هذا الآخر.
حضور مقارنة الهولوكوست مع “طوفان الأقصى”الآن، في ظل احتكار أشكال “المقاومة المسلّحة” بالجماعات الدينيّة (“حماس” و”حزب الله”)، يبدو كمحاولة لاستبدال الشرّ الأوروبي الأعظم (النازيّة) بهذه الجماعات، خصوصاً “حماس”.
تشير جوديث باتلر في مقال نشرته أخيراً بعنوان “بوصلة النحيب”، الى أن ما يحصل هو محاولة لتحويل إسرائيل إلى ناطق باسم اليهود في العالم، و”حماس” إلى ناطق باسم كل الفلسطينيين في العالم، لافتةً إلى أن البلاغة الإسرائيلية المُستخدمة عنصريّة، ومشدّدة على أن الإدانة الأخلاقيّة من دون فهم السياق، تعني قبول العنصرية الاستعماريّة، إذ “لا يمكن لنا التعامي عن التاريخ في سبيل الحتمية الأخلاقيّة”، أي حتمية إدانة “حماس”، لتتابع بعدها الحديث عن السلام واللاعنف، وحق الشعب الفلسطيني بالحريّة.
إذاً، غياب التبرير وطلب الإدانة العمياء من دون سياق، نابعان ربما من مقاربة “الشر الأعظم” المتمثل بالنازية، التي تقتل اليهود لأنهم يهود، في حين أن “العنف غير المبرر”، هو محاولة للهرب وغض البصر عن السياق الذي يحصل فيه الصراع، وسياسات الاحتلال. التعامي عن التبرير أشبه بالقول إن شخصاً أبيض في أوروبا قرر إطلاق النار على مدرسة بكاملها في الدنمارك أو أميركا من دون أي تبرير سوى القتل. نعم الإدانة واجبة، لكن من السذاجة التسليم بعنف عدميّ من دون السياق.
أحد السياقات التي يمكن الحديث عنها هو الشروط السياسيّة التي تركت مفهوم المقاومة بأيدي جماعات مسلحة دينية لا تخضع لسيادة محددة، فـ”حماس” تقرر من عقلها متى تهجم، بصورة أدق، قال خالد مشعل في لقاء معه أخيراً، إن كتائب القسام تتصرف بناء على تغيرات الواقع الميداني، بينما “القيادة” تتبع وتدعم، أي أن القرار لا يتخذ من الأعلى( إن صدقنا كلامه) ولا بالتشاور مع سكان غزة أنفسهم. الأمر ذاته مع “حزب الله”، فقرار الاشتباك لا دور للدولة اللبنانية المنهارة فيه ولا للشعب اللبناني، وهناك حيرة، هل سيأخذ القرار في الضاحية الجنوبيّة أو أيران؟.
بالعودة الى كلام باتلر، الإدانة المطلوبة لـ”حماس” عمياء بل وغير أخلاقيّة إن أردنا تجاهل العنف الإسرائيلي الاستعماري، نعم هي ليست حركة مقاومة وطنية كلاسيكيّة، ونعم هي جماعة إسلاميّة تحكم البشر وتمارس السيادة في منطقة محاصرة، لكن في الوقت ذاته، هناك سياق الاستعمار، والتسليم بوصف “الحيوانات” الذي استخدمه وزير الدفاع الإسرائيلي، يعني الاتفاق مع حق الاستعمار لا فقط في “الدفاع عن نفسه” حد إفناء العدو، بل إفناء الآخر، الإنسان، بوصفه أقل حقاً بالحياة، والأهم، لا يستحق النحيب من أي طرف كان. مصادرة حق النحيب على الحياة الإنسانيّة التي هُدرت لدى الطرفين، تفتح الباب على تشدّد أكثر، وعنف أكثر،كوننا سننتهي أمام “عداوة أنطولوجيّة” تُختصر بعبارة “إما نحن أو هم”
درج
—————————-
عندما قٌهر الجيش الذي لا يُقهر/ أحمد رحّال
تتسارع الأحداث في قطاع غزّة، وتحمل مفاجآتٍ كثيرة، بعد المفاجأة الأولى، عملية طوفان الأقصى التي هزّت عرش إسرائيل للمرّة الثانية بعد حرب عام 1973، تلك العملية التي خطّطت لها كتائب عزّ الدين القسام (الجناح العسكري في حركة حماس) بمنتهى السرّية، فاستطاعت كسر قوالب ومفاهيم ومسلّماتٍ لطالما خاف منها بعضهم، ولطالما تغنّت بها إسرائيل.
أول من اهتزّ في هجوم كتائب القسام على عدة مواقع إسرائيلية في غلاف غزّة كانت المؤسسة العسكرية والجيش الإسرائيلي. إذ على الرغم من إقامة بنية نظام دفاعي غير مسبوق في العالم، ويخضع لمراقبة إلكترونية وحرارية وبشرية، تُضاف إلى جدار إسمنتي عازل يرتفع عدّة أمتار، ويفصل أراضي قطاع غزّة عن جواره من مستوطنات وكيبوتسات إسرائيلية، إلا أن ضباط الجيش الإسرائيلي وعناصرهم في حاجز إيرز وغيره، تمت مفاجأتهم في أسرّتهم ومنازلهم واقتيدوا أسرى إلى داخل قطاع غزّة.
كانت الضربة المؤلمة الثانية لمنظومة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية مع كل أجهزة الاستطلاع المرتبطة بها من وسائط فضائية وجوية وأرضية، تضاف إلى أعداد كبيرة من العملاء، استطاعت “حماس” تضليلهم وخداعهم وإبعاد أنظارهم عن عمليات التخطيط والتنظيم والتدريب وحتى ساعة التنفيذ.
ظهر التأثير الثالث لعملية طوفان الأقصى في ضعف الجبهة الداخلية الإسرائيلية، وغياب منظومة السيطرة والقيادة، والانخفاض الشديد للمعنويات وللثقة بقدرات الجيش وأجهزة الأمن ومنظومة الدفاع داخل المجتمع الإسرائيلي.
حيال ما تقدّم، وما آلت إليه الأمور في إسرائيل، لا يمكن اعتبار “طوفان الأقصى” عملية عسكرية اعتيادية، قتلت وأسرت وعادت، لأن الآثار التي تركتها والشروخ التي أحدثتها في جسد الكيان الإسرائيلي قد تمتد سنوات، وقد تشكل نقطة فارقة تقاس بها الأحداث بعد ذلك، وهذا ما يفسّر الاندفاعة السريعة للقيادة السياسية والعسكرية والأمنية الإسرائيلية نحو عملية انتقامية أطلقوا عليها اسم “السيوف الحديدية”، ومن أجلها جرى استدعاء زهاء 320 ألف شاب إسرائيلي ليُضافوا لحوالي 160 ألفا في الخدمة الفعلية في الجيش الإسرائيلي وبشكل دائم، ورفعت الجاهزية القتالية لكل أنواع القوات المسلحة، ووضعت في حالة تأهب على كامل الحدود مع قطاع غزّة. ولم ينحصر الخوف على إسرائيل داخل غرف عمليات الجيش الإسرائيلي فقط بل تعدّاه نحو الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، فتم تحريك حاملتي طائرات (جيرارد فورد وآيزنهاور) مع مجموعتين أميركيتين بحريتين ضاربتين انضمت لهما سفن حربية من ألمانيا وبريطانيا وإيطاليا، واتخذوا من قبرص مقرّاً مؤقتاً لهم، حيث فيها قاعدتان جويتان بريطانيتان. وتعكس الحركة المتسارعة بتشكيل تلك القوى البحرية الكبيرة مدى الخوف الذي حملته التقارير العسكرية والأمنية لأجهزة الاستخبارات الغربية التي رصدت الخلل داخل المجتمع الإسرائيلي، والتفكّك الذي أصابه نتيجة هجوم كتائب عز الدين القسّام.
ليس مردّ حتمية الرد الإسرائيلي على عملية طوفان الأقصى رغبة إسرائيلية بالثأر والانتقام، بل هناك ما هو أبعد من ذلك، فصورة الجيش الذي لا يُقهر اهتزّت ويجب أن تعود، والثقة التي كانت لدى الإسرائيليين بأن هناك جيشا يحميهم تلاشت، ويجب استردادها. وهناك أيضاً معادلة الردع التي أوجدتها إسرائيل في الداخل والخارج، وعملت على ترسيخها عقودا، فتلك المعادلة انكسرت. وعندما يستطيع عدة مئات من مقاتلي كتائب عز الدين القسّام العبث بمعادلة الردع الإسرائيلية وتمزيقها والدوس عليها، فتلك سابقة ستزيح الغشاوة عن كثر آمنوا بقوة إسرائيل، وصدّقوا الكذبة الإسرائيلية واقتنعوا وتحاشوا الاصطدام بها. وبالتالي، ستعمل إسرائيل جاهدة، وبكل ما أوتيت من قوة، لضرب حركتي حماس والجهاد الإسلامي، وحتى حزب الله في جنوب لبنان، من أجل استرداد معادلة الرعب والردع التي احتفظت بها إسرائيل عقودا طويلة من دون اختبار.
السبب الثالث الذي يدفع إسرائيل إلى شن عملية اجتياح عسكرية داخل غزّة تكمن في إعادة توحيد الجبهة الداخلية المهزوزة أصلاً بصراعات نتنياهو السياسية مع خصومه في الداخل، لتأتي عملية طوفان الأقصى وتزيد الشرخ وتفتّت الجبهة الداخلية لإسرائيل، نتيجة ضعف الثقة بقيادتهم العسكرية والسياسية. وهذا ما أفرزته نتائج استطلاع أجريت، أخيرا، بعد عملية حماس في غلاف غزّة، حيث أكد معظم من شملهم استطلاع من الإسرائيليين عن فقدان ثقتهم بقيادتهم الحالية، وأن 94% يرون حكومة نتنياهو فاشلة، وأن 56% طالبوا باستقالة نتنياهو، و52% طالبوا باستقالة وزير الدفاع، وأن معظم الشعب الإسرائيلي شعر بالخطر بعد عملية طوفان الأقصىن كما حصل عام 1973 بل أكثر منه قليلاً.
ويبقى السبب الأهم الذي يدفع إسرائيل إلى اقتحام غزّة مدينة الأنفاق تحت غزّة، والتي يُطلق عليها الإسرائيليون اسم “مترو غزّة”، حيث توجد خطوط الإنتاج العسكرية لحركتي حماس والجهاد الإسلامي، وحيث مستودعات التخزين لعشرات آلاف الصواريخ وقواعد إطلاقها، وحيث تصنّع وتجهّز وتخزّن الطائرات المسيّرة بأنواعها (الهجومية والاستطلاعية والانتحارية)، وحيث الملاذ الآمن لقادة “حماس” وعناصرها. ويقول قادة إسرائيل إنه بدون تدمير تلك المدينة ما تحت أرضية لن تشعر إسرائيل بالأمان والهدوء.
تقول عملية التتبع إن إسرائيل حشدت خمس فرق عسكرية (مشاة ومدرّعة) على الحدود الشمالية والشرقية لقطاع غزّة، على أن يجري تأمينها بكتلة مدفعية قصيرة وبعيدة المدى، مع منظومات صواريخ متعدّدة الأمدية، تساندُها مجموعات بحرية ضاربة تحاصر قطاع غزّة، وتشارك بأعمال التأمين والتمهيد والدعم الناري للقوات البرّية التي ستقتحم قطاع غزّة، وكل تلك القوات تحظى بتغطيةٍ جويةٍ رُصدت لها أكثر من مائة طائرة مقاتلة ومقاتلة قاذفة وعشرات الحوّامات القتالية ومئات المسيّرات.
وقد لوحظ بعملية التمهيد الناري الذي تقوم به قطعات المدفعية والدبّابات، إضافة إلى الطيران القاذف الإسرائيلي، أنها تشمل كامل قطاع غزّة، لكن ثقل التركيز هو على القطاع الشمالي، حيث مدن غزّة وبيت لاهيا وبيت حانون وجباليا، تلك المناطق التي أصبحت شبه مدمّرة، بعد تقسيم الرمايات المدفعية والصاروخية لها (نارياً وتدميرياً) إلى قطاعاتٍ وأقسام، يبدو أنها تتناغم وتتوافق مع محاور التقدّم الواردة في خطّة الاجتياح الإسرائيلي التي خطّطت لها القيادة العسكرية، ووافقت عليها القيادة الإسرائيلية، ونبّه لها الرئيس الأميركي بايدن بقوله لنتنياهو: “عليكم بوضع خطط عسكرية مُحكمة تخلو من الأخطاء”، وكأنه أراد أن يحذّر الإسرائيليين من الوقوع في مستنقع غزّة كما وقع الأميركيون في مستنقعات فيتنام وأفغانستان والعراق.
أرعبت عملية طوفان الأقصى التي ستدرّس في كبرى الأكاديميات العسكرية مستقبلاً إسرائيل، وأرعبت حلفاءها الذين سارعوا إلى حمايتها. والرغبة الإسرائيلية بالثأر والانتقام تدفعهم إلى ارتكاب مجازر، كما حصل في مشفى المعمداني في مدينة غزّة. وفي المقابل، ليست حركة حماس وحليفها الجهاد الإسلامي لقمة يسهل بلعها وهضمها، بل على الرغم من قدراتهم العسكرية المتواضعة قياساً مع إسرائيل، إلا أنهم يشكّلون رقماً صعباً في حرب اجتياح غزّة، فالتفوّق التقني والعسكري للجيش الإسرائيلي تقابله إرادة قتال فلسطينية وقدرة هائلة على الاستفادة من مسرح أعمال قتالية يُتقنها الفلسطيني وتخشاها إسرائيل. وصحيح أن النهاية، وبالإمكانات العسكرية المتاحة للطرفين، قد تنجز نصراً إسرائيلياً، لكنه سيكون باهظ الثمن، قد لا تحتمله إسرائيل.
العربي الجديد
———————
الولاية الأميركية الواحدة والخمسون والصراع الدولي/ حيّان جابر
في سابقة نادرة الحدوث، حضر كلٌّ من وزيري الخارجية والدفاع الأميركيين، أنتوني بلينكن ولويد أوستن، والرئيس الأميركي جو بايدن، على حدة، ثلاثة اجتماعاتٍ منفصلة لمجلس وزراء الحرب الصهيوني؛ وربّما أكثر، الأوّل في 2023/10/12، والثاني في 2023/10/13، والثالث في 2023/10/19. أثار حضور القادة الأميركيين جدلاً واسعاً في الوسط الصهيوني الإعلامي والشعبي، نظراً إلى طبيعة الاجتماع، وخطورته الأمنية والاستراتيجية، فاجتماع مجلس وزراء الحرب داخلي أمني وسرّي، غير مسموحٍ لغير أعضائه الخمسة بحضوره، فكيف ولماذا يحضُره قادة أميركيون، والأهمّ ما دلالات حضورهم؟
استحضار هذه الوقائع مهمٌّ لإعادة توضيح طبيعة هذا الاحتلال، باعتباره أداة أميركية إمبريالية، تخدم مصالح النظام الدولي، ومركزه الأميركي الحالي، كما خدمت مصالح مركزه السابق المملكة المتّحدة، وكما قد تخدم مصالح مركزه أو مراكزه القادمة، في حال استمرار الاحتلال فترة طويلة. لذا وبعد تعرّض الاحتلال لضربة أمنية واستراتيجية خطيرة جداً في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، مثّلت تهديداً وجودياً حقيقياً على المدى المتوسط، كان لا بدّ من تدخلٍ أميركي سريعٍ ومباشرٍ، على المستويين القيادي والاستراتيجي.
يعتقد بعضهم أنّ إرسال الولايات المتّحدة حاملة طائراتها إلى المنطقة العربية، هو ما يعكس تدخّلها المباشر لإنقاذ الاحتلال، لكنه في الحقيقية يعكس خطوة دعائية وترويجية وسياسية، وربّما معنوية أكثر من كونها انعكاساً لتدخّلٍ مباشرٍ، إذ من المستبعد مشاركة القوات العسكرية الأميركية البرّية والبحرية والجوية في اعتداءات الاحتلال الحالية على أرض فلسطين، سواء في قطاع غزّة، أو في الضفّة الغربية، أو حتّى على حدود الاحتلال مع لبنان، وذلك لاعتباراتٍ عديدة، أهمّها أولويّات المصالح الأميركية. وهو ما ذهبت إليه تصريحات المسؤولين الأميركيين بشأن احتمال نشر قواتٍ أميركية داخل المناطق التي يسيطر عليها الاحتلال الصهيوني، إذ شدّدوا على عدم مشاركتهم؛ في حال حدوث ذلك، في الحرب، وحصر دورهم في الدعم الطبي وإدارة الخدمات اللوجستية، بعيداً عن الخطوط الأمامية.
انهارت ثقة الإدارة الأميركية بحكومة الاحتلال وقادته، أو شارفت على الانهيار، وهو ما قد يشمل كلاً من حكومة الاحتلال ومعارضيها، على ضوء الفشل الاستخباراتي والاستراتيجي الهائل الذي عكسته عملية طوفان الأقصى، فالعملية وفق ما أعلن عنها الناطق باسم كتائب عز الدين القسّام، الجناح العسكري لحركة حماس، أبو عبيدة، بدأت من حيث انتهت معركة سيف القدس، عام 2021، وهو ما يعني أنّ الفشل الاستخباراتي والاستراتيجي ممتدٌ منذ ذلك الحين، فشلٌ في الكشف عن خطط “حماس”، وفي قراءة تحرّكات مقاتليها، وتدريباتهم، وهو ما يتجاوز مسؤولية حكومة الاحتلال الحالية، ويشمل حكومته السابقة، إلى جانب قياداته الأمنية والعسكرية منذ عام 2021.
إذاً تضعضعت ثقة الحكومة الأميركية بقيادة الاحتلال السياسية والأمنية والعسكرية منذ مدّة، بسبب قصور أدائها السياسي والعسكري، ثم انهارت، أو شبه انهارت بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، وهو ما دفع القيادة الأميركية إلى الإشراف المباشر على رد الاحتلال الأمني والاستخباراتي، وربّما السياسي والإعلامي. من هنا كانت مشاركة قادة أميركا في اجتماع مجلس وزراء الحرب الصهيوني، ومن هنا قد نشهد مزيداً من مشاركتهم في الأيّام المقبلة، خصوصاً إذا شهدنا مزيداً من التخبّط الصهيوني، ولما لا من الهزائم، أو الانتكاسات.
إرسال حاملة الطائرات الأميركية إلى المنطقة العربية، وإصدار قرار وزير الدفاع الأميركي القاضي باستعداد قرابة 2000 جندي أميركي، لاحتمال نشرهم في “إسرائيل”، واستنفار القواعد العسكرية الأميركية في المنطقة العربية، كلّها تصب في سياق إشراف الولايات المتّحدة وإدارتها الاعتداء الصهيوني على أرض فلسطين وشعبها اليوم، وجميعها تُستخدم في تبرير مشاركة قادة أميركا في اجتماعات مجلس وزراء الحرب الصهيوني.
لكن؛ خاضت الولايات المتّحدة حروباً عديدة في العالم، بمشاركة من عشرات الدول، منها العدوان على العراق، ومن ثم احتلاله، ومنها الاعتداء على أفغانستان، ومن ثم احتلالها، وأخيراً الانخراط الأميركي غير المباشر في حرب أوكرانيا، أو في التصدّي الأوكراني للغزو الروسي على أراضيها. كما شاركت الولايات المتّحدة من أجل ذلك كله في عشرات الاجتماعات الأمنية والعسكرية على المستوى الدولي، لكنها لم تشارك في الاجتماعات العسكرية والأمنية الداخلية لأي من حلفائها أو شركائها، على اعتبارها قوّة حليفة وداعمة فقط، لا تملك صلاحية التدخّل والاطّلاع على أسرار الدول الأمنية والعسكرية الحساسة.
لكن حالة الاحتلال الصهيوني خاصّة ومختلفة، فالاحتلال، وفق تعبير الرئيس الأميركي جو بايدن نفسه، “أفضل استثمارٍ فعلته الولايات المتّحدة في الشرق الأوسط”، وكما قال في زيارته أخيراً دولة لاحتلال “لو لم تكن هناك إسرائيل لعملنا على إقامتها”. وتشير هذه التصريحات، كما تشير مشاركات قادة أميركا في اجتماعات مجلس وزراء الحرب الصهيوني، إلى أنّ الاحتلال هو الولاية الأميركية الواحدة والخمسون. وعليه، تتحمّل الإدارة الأميركية مسؤولية حمايته، ما دفعها إلى الانخراط في اجتماعات مجلس الحرب الصهيوني مباشرة، في ظلّ انعدام ثقتها بالإدارة الصهيونية السياسية والعسكرية والأمنية.
إذاً تنطلق الإدارة الأميركية من مسؤوليتها المباشرة تجاه حماية الاحتلال، وكأنه ولاية أميركية تتمتع بحكمٍ ذاتي سياسي واقتصادي، وهو ما يفسّر حجم الدعم المالي واللوجستي والإعلامي والسياسي والاقتصادي، الذي يحظى به الاحتلال على مدار العقود الماضية مجتمعة، والتي لا تحظى به أو حتّى بنصفه أي من الدول، إذا ما استثنينا العامين الأخيرين، اللذيْن شهدا انعطافاً أميركياً واضحاً تجاه أوكرانيا، التي حظيت بدعمٍ أميركي كبيرٍ جداً، بلغ منذ بداية الحرب الأوكرانية الروسية أكثر من 76.8 مليار دولارٍ، وفقاً لـ “كيل انستيتيوت فور ذا ورد ايكونومي” الألماني.
قبل بضعة أيّام؛ طلب الرئيس الأميركي جو بايدن من الكونغرس الموافقة على مخصصاتٍ أمنية ضخمة بقيمة 106 مليارات دولار، منها 61 مليار دولار لأوكرانيا، و14 مليار دولار للاحتلال الصهيوني! يكشف هذا التباين الكبير بين الدعمين الأوكراني والصهيوني عن أولويّات أميركا الحالية، وعن استراتيجيتها الأمنية، التي تجد في الحرب الأوكرانية صراعاً يهدّد مكانتها الدولية، وربّما يطيح بمصالحها حول العالم كلّه، في حين ترى في الاحتلال الصهيوني استثماراً ضرورياً للحفاظ على مصالح أميركا في المنطقة العربية ومحيطها، وبين الخطر المُحدق بمكانة أميركا ومصالحها الدولية، وبين خطرٍ محدقٍ بمصالحها ومكانتها في المنطقة العربية، تسعى الإدارة الأميركية اليوم إلى ضبط الاعتداءات الصهيونية وإدارتها، كي لا تخرُج عن السيطرة، متحوّلة إلى حربٍ إقليمية واسعة، وربّما حربٍ دولية واسعة، لصالح استمرار تركيزها على مواجهة الخطر الاستراتيجي الأكبر؛ وفقاً للحسابات الأميركية، والمتمثّل في كلٍّ من الصين، ومن بعدها روسيا.
لذلك؛ يعتقد الكاتب وعلى الرغم من الرغبة؛ بل الحاجة، الصهيونية الواضحة لاجتياح قطاع غزّة، فإنّه بات احتمالاً غير مرجّحٍ، في ظلّ أولويّات أميركا الدولية، وفي ظلّ الصراع الدولي المتصاعد على قيادة العالم ومركزه، وفي ظلّ تصاعد احتمالات توسّع دائرة القوى المنخرطة في الصراع إقليمياً ودولياً. رغم ذلك، لا يستبعد الكاتب اجتياحاً برّياً محدوداً وسريعاً، ولمساحة محدودة جغرافياً، ولهدفٍ محددٍ وواضحٍ، مثل اغتيال قائدٍ سياسي أو عسكري كبيرٍ ينتمي لحركة حماس، أو بغرض تحرير بعض أسرى الاحتلال لدى فصائل المقاومة.
أما الاعتداء الجوي المتواصل الآن، فيرجّح الكاتب استمراره فترة قصيرة، تتراوح بين أسبوعٍ وعشرة أيّامٍ على الأكثر، كجزءٍ من آليات ضغط الإدارة الأميركية على الكونغرس للموافقة على المخصصات الأمنية الطارئة، فمن الصعب استمرار الاحتلال بهذه الوتيرة من جرائم الإبادة الجماعية والعقاب الجماعي والتطهير العرقي أمام مرأى العالم ومسمعه، خصوصاً بعد كسر معظم شعوب العالم جدار الصمت، تحت ضغط جرائم الاحتلال المستمرّة والمتواصلة، وبعد انكشاف جزءٍ كبيرٍ من روايته الملفقة، التي حاول فرضها بعد “7 أكتوبر”.
العربي الجديد
—————————
خمسة اتجاهات عسكرية لحرب غزة/ عبدالناصر العايد
تساهم عوامل متباينة ومعقدة في تكوين المشهد العام في غزة، ولا يمكن فصل العسكري عن السياسي والإعلامي والإنساني، ولا حتى إغفال الرأي العام العالمي عند التفكير في ما يحدث، وما يمكن أن يحدث. في هذا المقال، محاولة للبحث في الاحتمالات العسكرية للصراع بشكل مستقل نسبياً عن العوامل الأخرى، وسأسمّي ذلك بالاتجاهات التي اعتقد أن العسكريين يخلصون إلى تصورها عند التفكير في مستقبل حرب غزة.
أولاً- الاتجاه البسيط:
أعني به تدميراً انتقائياً وغير ممنهج من طرف إسرائيل، لقدرات “حماس” وللمجتمع الغزاوي، باستخدام مختلف أنواع الطيران والقصف المدفعي والصاروخي في ظروف حصار خانق. ويركز على ضرب قدرات “حماس” البشرية أينما وكيفما ظهرت، ويتعامل بديناميكية مع المعطيات ونتائج العمليات الجارية من دون أي قيود، مثل الامتثال لخطة مركزية أو وجود قوات صديقة في مسرح العمليات أو هجمات دفاعية مضادة أو مفاجآت خطيرة، وهو يحيد عالم الأنفاق ويجعلها عديمة الفائدة. لكن هذه الخطة تقتضي وقتاً طويلاً جداً، وقد تتداعى في أثناء ذلك الجوانب السياسية للعملية، فتفقدها الفعالية. أما من الناحية الاستراتيجية، فتنطبق عليها قاعدة حروب الاستنزاف والإنهاك، وهي أن الصراع قد يهمد لكنه لا يلبث أن يتفجر ما أن يلتقط الطرف الآخر أنفاسه.
ثانياً- الاجتياح:
يوصف الاجتياح عادة بأنه “برّي”، لافتراض وجود اشتباك شامل على الأرض بين الجيش الإسرائيلي و”كتائب القسام” وغيرها من الفصائل، لكن هذا ليس الواقع في الحرب الحديثة. وبالنظر لتجارب الصراع ضد تنظيم “داعش” في سوريا والعراق، فإن الاجتياح جوّي بالدرجة الأولى، يليه الإمساك بالأرض الخالية من الخصم بالقوات البرية. ويمكن أن يقتصر الأمر على شق ممرّين إلى ثلاثة من الشرق إلى البحر، وتدمير البنية التنظيمية لحماس فوق الأرض، ومحاولة الوصول إلى شبكة الأنفاق وتدميرها أو إغراقها بالمياه. وتقديرياً، يمكن لإسرائيل إنجاز المهمة في مدة زمنية لا تتجاوز الثلاثة أشهر، لكن اتخاذ قرار السير في هذا الاتجاه مقيد بشدة بسبب الخسائر البشرية بين المدنيين، وما يمكن أن تثيره من ردود أفعال خطيرة في الضفة الغربية ولبنان وفي كامل إقليم الشرق الأوسط. علاوة على إنهاء التعاطف الغربي مع إسرائيل، وعكس اتجاه الرأي العام حولها على نطاق واسع.
ثالثاً- استعادة 6 أكتوبر
يقوم هذا الاحتمال على فرضية انخراط “حزب الله” في العمليات العسكرية على الجبهة الشمالية لإسرائيل، ومحاولة القيام باجتياح بري تحت غطاء حملة صاروخية مكثفة بهدف التفاوض المشترك بين “حماس” و”حزب الله” من جهة، وإسرائيل من جهة ثانية. ومع أن القوات الأميركية وصلت إلى شرق المتوسط للحؤول دون حدوث ذلك، إلا أن احتماليته تبقى عالية، سواء بقرار من الحزب أو من إسرائيل التي يمكن أن تشنّ حرباً على هذه الجبهة بمجرد أن تتمكن من خياطة جرح غزة، مستعيدة الطريقة التي تعاملت بها مع الجبهتين المصرية والسورية في الحرب التي بدأت في 6 أكتوبر 1973، عندما ركزت قواها على الجبهة الجنوبية ثم انتقلت إلى الشمالية.
رابعاً- الصراع الإقليمي
في حال تفجر الوضع في جنوب لبنان، وما لم تُظهر واشنطن الحزم الكافي، فإن المليشيات المرتبطة بإيران ستهاجم قواتها ومصالحها وحلفاءها في كامل الإقليم. وقد تتفجر حروب ثانوية في مناطق أخرى، وسيكون من الصعب السيطرة على الصراع وتشعباته لتعدد الفاعلين والفرقاء وكثرة الصراعات الكامنة، ومن نتائجه شبه المؤكدة تحول إيران إلى طرف مشارك بشكل رسمي، فيما ستشارك روسيا على نحو غير مباشر.
خامساً-حرب نووية
إذا نشبت حرب في الإقليم، سيكون هدفها تحجيم قوة إيران، لكن الأخيرة لديها أوراق قوة كثيرة ستطرحها دفاعاً عن موقعها. وهي قد تخلق بذلك ظروفاً مؤاتية لاستخدام إسرائيل أسلحتها النووية ضد منشآت إيران النووية وترسانتها العسكرية. وقد يتكشف الصراع عن امتلاك إيران أيضاً ذخائر نووية أو أسلحة تدمير شامل، وربما تستخدمها.
وبالعودة إلى المشهد العام ومعطياته، خصوصاً موقف الولايات المتحدة ورئيسها بايدن الذي يبدو أنه يبذل قصارى جهده لإبقاء الحريق محصوراً في غزة، والسيطرة على رغبة نتنياهو في التصعيد الأقصى، فإن الاتجاه الأول وأجزاء من الثاني، أي الاجتياح البرّي المحدود، هو الأقرب إلى الوقوع. لكن هذا لا يعني استبعاد الاحتمالات الثلاثة الأخرى، لأن بقاءها على قيد الممكن هو ما سيرسم حدود التسوية السياسية التي قد تصوغ مخرج الأزمة الحالية.
المدن
—————————
عن الصدق الإسرائيلي وفهمنا الخاطئ/ عمر قدور
رغم التأنّي الإسرائيلي في اجتياح غزة بريّاً، بقي الهدفان الإسرائيليان من العملية صريحين، وواظب قادة الحيش والحكومة على التأكيد عليهما. الهدف الأول هو القضاء نهائياً على حماس، والهدف الثاني هو التخلص من “تهديد” سكان قطاع غزة المتوقع مستقبلاً، إما بترحيلهم إلى سيناء، أو بقضم مساحات واسعة وضمّها ما يجعل عيش أكثر من مليوني فلسطيني مستحيلاً ضمن ما سيتبقى من غزة.
لكي يُفهَم الهدف الأول جيداً، يمكن الاستدلال بأقوال الجنرال الإسرائيلي المتقاعد إسحق بريك الذي يقدّر عدد مقاتلي حماس في غزة بأربعين ألف مقاتل، أي أن هدف القضاء عليهم ينطوي على قتل أضعاف هذه العدد من المدنيين الفلسطينيين، وحتى إذا كانت هناك مبالغة في التقدير فهي لا تغيّر في الجوهر. الرقم المتوقَّع ليس بلا دلالة في الصراع الأشمل، فوق ما فيه من وحشية مباشرة. وفي ما يخصّ الهدف الثاني، فالمعلَن بوضوح تام يقول أن قادة إسرائيل لا يريدون باستئصال حماس معالجة المشكلة الأصلية وهي تحويلهم قطاع غزة إلى معتَقل، بل يريدون معاقبة السجناء بجعل السجن أسوأ مما كان عليه، بهدف دفعهم إلى الهروب فرادى على المدى البعيد إذا تعذّر تهجيرهم جماعياً الآن.
سيكون من السهل جداً على العقل القولُ أن حماس “بهجوم السابع من أكتوبر” جرّتْ هذه الويلات على الفلسطينيين، مع القول أنه لا يُتوقَّع من عدو قادر ومدعوم دولياً إبداء الرأفة بالمدنيين الفلسطينيين، ويمكن الاستئناس بمعظم المواجهات التي أتت محصّلتها وفق ميزان القوى المعروف. ثمة فهم ناقص في الاقتصار على ما سبق، من دون أن نبرر لحماس أخطاءها وخطاياها على صعيد ممارسات سلطتها في القطاع، وصولاً إلى عمليات قتل المدنيين الإسرائيليين في “طوفان الأقصى، وأول عيوب هذا الفهم إيحاؤه بأن الاستكانة الفلسطينية كفيلة بترك الوحش نائماً والإفلات من عواقب استثارته.
تقترح التحليلات المتداولة عموماً عمليةَ حماس كبدء لمرحلة جديدة، مع التنويه عند الضرورة بتحفّز الحكومة الإسرائيلية الحالية “الأكثر تطرّفاً” إلى استغلال تعاطف العالم لتنفيذ سياساتها. وبالطبع ليست مطلوبة ولا واقعية في سياق تحليل الحدث الحالي العودة إلى إنشاء الحركة الصهيونية، أو إعلان دولة إسرائيل، أو التحدث من منطلق أخلاقي لا يلحظ الجانب السياسي ومقتضياته، لكن سيكون من الخطأ الفادح تجاهل تواريخ وأحداث لصيقة بالواقع الحالي.
في نوفمبر 1995 اغتال متطرف إسرائيلي رئيس الوزراء آنذاك إسحق رابين، وتواطأت النخب الإسرائيلية على اعتبار الحدث فردياً، كأنه لم يأتِ في سياق سياسي سيجد ترجمته في أيار 1996 بانتخاب بنيامين نتنياهو رئيساً للوزراء في اقتراع شعبي. قبل اغتيال رابين كانت اتفاقية أوسلو 1993 مع الفلسطينيين قد حظيت بموافقة الكنيست بواقع 61 صوتاً من أصل 120، أي أن ما يُسمّى عادة بمعسكر السلام الإسرائيلي كان ضعيفاً وهو في أحسن حالاته. باتفاقية أوسلو أنهى ياسر عرفات ورابين الصراع رسمياً بوصفه صراع وجود، ليدشّن الاتفاق الانتقال إلى حل الدولتين، وليعِد بتسوية قضايا الحل النهائي “مثل المستوطنات والقدس والحدود والصلاحيات” خلال خمس سنوات.
انقضت مهلة السنوات الخمس، وفي أثنائها استمر الاستيطان في أراضي الضفة الغربية، مراتٍ بذريعة ما سُمّي “التطور الطبيعي” ومرات بإنشاء بؤر جديدة، لتندلع الانتفاضة الثانية بسبب تلك الممارسات، وصولاً إلى أواخر آذار 2002 عندما حاصرت القوات الإسرائيلية الرئيس عرفات في مقرّه في المقاطعة، ثم لينتهي حصار شريك السلام بوفاته، أو تسميمه حسب بعض الروايات. إذا شئنا اختيار مسار مبسّط عمّا حدث منذ اغتيال رابين حتى الآن، فإن هيمنة اليمين المتطرف والديني على الحياة السياسية الإسرائيلية، وتراجُع اليسار أو يسار الوسط ممثلاً بحزب العمل الذي تدهورت مكانته التاريخية، يكفيان لشرح نكوص النخب السياسية الإسرائيلية عن وعد رابين بالسلام.
بعبارة أخرى، استعاد اليمين الإسرائيلي فعلياً المفهومَ السابق للصراع بوصفه صراعَ وجود، من خلال التقويض المتواصل لحلّ الدولتين بإجراءات أحادية تجعله أصعب بكثير مما كان عليه وقت اغتيال رابين، أو بالأحرى تجعله مستحيلاً. سيكون من التعسف الشديد عدم قراءة ما حدث في الفترة التي صعدت فيها شعبية حماس، لأن صعودها لطالما أُخذ دلالةً على تطرف فلسطيني، من دون النظر إلى أن التطرف اللفظي عموماً والعسكري أحياناً سبقته على الدوام ممارسات إسرائيلية تقوّض ما يسعى إليه أشد الفلسطينيين اعتدالاً، مع التأكيد مرة أخرى على عدم استخدام النهج الإسرائيلي لتبرير خطايا وأخطاء حماس أو سواها من المنظمات الفلسطينية في غزة أو الضفة.
العودة إلى المفهوم السابق للصراع هي ما يشرح المقاصد الإسرائيلية الحالية، فالأهداف من الهجوم على غزة تتجاوز بمراحل كونه انتقاماً للقتلى في هجوم حماس. تحت عنوان استئصال الأخيرة، ثمة إبادة تعبّر عن صراع الوجود الذي يكون دائماً إبادياً، أو كلما عزّ الخلاص من العدو بتهجيره، ويكون شديد الوحشية لكسر إرادة المتمسكين بالبقاء في أراضيهم. استئصال حماس هو التعبير الرمزي لما يفهمه أقرب حلفاء إسرائيل، لذا أتى تأكيد الرئيس الأمريكي لنتنياهو قبل يومين على التمسك بحل الدولتين معطوفاً على تمنّيه التزام إسرائيل بقوانين الحرب لجهة حماية المدنيين، “قدر المستطاع” حسب تعبيره.
لا نحتاج تخمينات وتكهّنات إزاء نوايا الائتلاف الإسرائيلي الحاكم، فأقطابٌ منه صرّحوا بعزمهم على تصفية القضية الفلسطينية نهائياً، وترحيل فلسطينيي الضفة والقطاع إلى الأردن ومصر. بعض الفهم الخاطئ الرائج لدينا يستند إلى أن إصرار الفلسطينيين على حل الدولتين سيعرقل المخططات الإسرائيلية، لأنه سيكون مدعوماً بالإرادة الدولية لتوافقه معها، فضلاً عن أن هذا الإصرار يدفع عن أصحابه تهمة الإرهاب. ولا يخفى استناد هذا التصوّر إلى فرضية تقليدية، مفادها كسب الرأي العام الغربي بحيث يضغط على الحكومات كي تتخذ موقفاً يميل إلى الإنصاف، وهي فرضية لا يدحضها تصوير البعض الآخر الغرب كشيطان رجيم، وإنما يدحضها العزوف المفهوم للأخير عن التدخل المباشر المتواصل، ولن تكون هناك حكومة أو حكومات غربية تلاحق مثلاً كل يوم تفاصيل اعتداءات المستوطنين على الأراضي وعلى أصحابها.
للخروج من تصوراتنا التقليدية العائدة إلى اتفاق أوسلو، وتلك الأسبق العائدة لإنشاء دولة إسرائيل، يجدر الانتباه جيداً إلى أن الصراع العربي-الإسرائيلي انتهى مع انتهاء الكلام العربي والفلسطيني عن صراع الوجود، وإلى أن حلّ الدولتين انتهى تماماً بإرادة إسرائيلية لا فلسطينية. ربما يتعين التفكير بدءاً من الإقرار بذلك، والبحث عن اقتراحات وحلول لا تعود إلى مربع الصراع الأول، ولا إلى التمسك باتفاقيات ميتة وبوهم دولة فلسطينية “غير قابلة أصلاً للحياة” في الضفة وغزة.
المدن
————————-
حرب غزة وحلم بن غوريون في حدود إسرائيل/ رشا سيروب
عادت أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر إلى الذاكرة خريطة “الشرق الأوسط الجديد” التي كشف عنها بنيامين نتنياهو في كلمة ألقاها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 23 أيلول/سبتمبر 2023، أي قبل أسبوعين من الهجوم المفاجئ الذي شنّته “حماس” على الجانب الإسرائيلي.
هذه الخريطة تُظهر ستّ دول عربية ملوّنة بالأخضر، هي مصر والسودان والأردن والبحرين والإمارات العربية ــــ أي الدول التي طبّعت مع إسرائيل تحت مسمى “اتفاقيات سلام” أو “اتفاقيات ابراهيم” ــــ والسعودية التي، وفقًا لنتنياهو، تقترب من توقيع “اتفاق سلام” مع اسرائيل. وإلى جانب المناطق الملوّنة بالأخضر، منطقة ملوّنة بالأزرق تمتدّ من نهر الأردن إلى البحر المتوسط مكتوبٌ عليها إسرائيل، من دون أيّ ذكر أو إشارة إلى دولة فلسطين.
بدت هذه اللحظة كاشفة لقرار رسمي إسرائيلي أُعلن عنه أمام دول العالم قاطبة، يفيد بأن الحلّ الوحيد الذي تراه إسرائيل وتعمل بموجبه يتمثّل بمحو الفلسطينيين وأي كيان لهم عن الخريطة تمامًا، وبأنّ أيّ خيار آخر تحت مسمى “السلام” أو “حلّ الدولتين” ليس سوى إضاعة للوقت. فـ”السلام” الذي تتحدث عنه إسرائيل إنما يقوم على التسليم بالأمر الواقع، والاستسلام الكامل لشروطها الآنية ورغباتها المستقبلية.
حدود إسرائيل وحلم بن غوريون
لم يكن خطاب نتنياهو الذي انطوى على عدم الاعتراف بوجود فلسطين، الأول من نوعه، بل سبقه في ذلك وزير المالية الإسرائيلي في باريس في آذار/مارس الماضي، الذي أبرز خريطة تُظهر أن حدود إسرائيل أبعد من تلك التي رسمها نتنياهو، حيث ضمّت إحدى المناطق الست المظلّلة باللون الأخضر، أي الأردن، في إشارة تُبيّن أن الدولة الهاشميّة إنما هي جزء من “حلم إسرائيل الموعود”.
وقد كان وزير المالية صريحًا في هذا السياق بقوله “لا يوجد فلسطين”، مضيفًا أن “الشعب الفلسطيني اختراع ووهم لا يتجاوز عمره 100 عام”، فيما “شعب إسرائيل عائد إلى دياره بعد 2000 عام من النفي”.
وليست خريطة وزير المالية تلك حديثة، فهي تعكس “الحُلُم المؤسّس” للحركة الصهيونية، الذي أفصح عنه بن غوريون للجنرال ديغول في قصر الإليزيه في حوار دار بينهما مرّة في حزيران/يونيو 1960، يوم سأله الأخير عن رؤيته بشأن حدود إسرائيل، ليجيب بن غوريون: “لو سألتني هذا السؤال لخمس وعشرين سنة خلت، لأجبتك بأن نهر الليطاني هو حدودنا الشمالية وشرق الأردن حدودنا إلى الشرق”.
هكذا تضحي الحدود التي يحلُم بإقامتها صقور إسرائيل ممتدّة “من البحر الأبيض المتوسط غربًا، والصحراء السورية الكبرى (بادية الشام) شرقًا، إلى شبه جزيرة سيناء وخليج إيلات في الجنوب، وصولًا إلى نهر الليطاني في الشمال” (إسرائيل الكبرى “دراسة في الفكر التوسعي الصهيوني”، ص 594).
حرب غزة: هل ستغيّر خريطة الشرق الأوسط؟
هناك مؤشرات تفيد بأن لـ”طوفان الأقصى” تداعيات عالمية شبيهة بتداعيات هجمات 11 أيلول/ سبتمبر في الولايات المتحدة. فالأحداث المذكورة أنتجت عواقب طويلة الأمد في ميدان العلاقات الدولية، إذ تحوّل مبدأ عدم التدخل في شؤون البلدان إلى “حق الولايات المتحدة بالتدخل” تحت لافتة “الحرب على الإرهاب”. فكان الغزو الأميركي لأفغانستان وبعدها العراق، وجاء التدخل لاحقًا في سوريا تحت مسمّى “محاربة داعش”.
وعلى نحو مماثل، يمكن القول إنّ هجوم “حماس” من قطاع غزة المحاصر على المستوطنات الإسرائيلية المحيطة من شأنه أن يشكّل نقطة تحوّل جذرية في الشرق الأوسط، مع ما لذلك من تأثير على “المجتمع الدولي” برمته.
إن التحشيد الإعلامي والعسكري الذي تقوم به إسرائيل سيضع الولايات المتحدة أمام خيارين صعبين، الأوّل يتمثّل بـ”عدم التدخل”، ما يعني أن احتمالية إضعاف القاعدة العسكرية الأميركية في غرب البحر المتوسط ــــ “إسرائيل” ــــ ستكون أكثر احتمالًا. أما الخيار الثاني، أي التدخل مباشرة في الصراع، فسيُشغل الولايات المتحدة عن أولويّتها الاستراتيجية القصوى، المتمثلة بالصين، وسيُعقّد تعهّدها بالإسهام بشكل فاعل في إدامة الأمن الأوروبي وتقديم المزيد من المساعدات العسكرية والاقتصادية لأوكرانيا.
في المقابل، يُتوقّع أن يزداد انخراط الصين في شؤون الشرق الأوسط، لا نظرًا لما يشكّله من مصدر للطاقة التي تحتاجها، ومركزًا لمشروعها الاستراتيجي في مبادرة “الحزام والطريق” فحسب، بل لأنّ هذه الحرب قد تشكّل فرصة لتحقيق مكاسب جيوسياسية في المنطقة، عن طريق طرح الصين نفسها كوسيط مؤثر في أي عملية سلام.
فقد أدت الصين دورًا ديبوماسيًا في نيسان/أبريل الماضي، استطاعت من خلاله إعادة وصل العلاقات الدبلوماسية المقطوعة منذ 2016 بين المملكة العربية السعودية وإيران، واستضافت في حزيران/يونيو الرئيس الفلسطيني، ثمّ دعت رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى زيارتها ووافق الأخير، قبل أن تؤجل الزيارةَ حربُ غزة (أو تلغيها).
وإذا ما اعتبرنا أنّ الحرب الروسية ـــ الأوكرانية تشكّل بداية اتجاه العالم نحو مزيد من الاستقطاب، فإن حرب غزة الحالية قد تعمّق هذا الاستقطاب أكثر.
سمعة إسرائيل المفقودة.. خطر مهول
شكّلت هجمات “حماس” صدمة لإسرائيل، وأضعفت ادعاءاتها بحصانتها التامة نتيجة تفوقها العسكري والأمني والتكنولوجي. من هنا، تكمن الأولوية الأكثر أهمية لإسرائيل اليوم في استعادة سمعتها المفقودة.
وعليه، فإن الصراع مع إسرائيل اليوم مختلف جوهريًا عما سبق. إذ ستسعى تل أبيب إلى تعظيم ردود أفعالها الانتقامية من أجل إعادة غرس ثقة شعبها في المؤسستين السياسية والعسكرية، وضرب التصوّرات الإقليمية الناشئة حول هشاشتها. ويحتاج هذا إلى تظافر جملة من العوامل، أوّلها هزيمة “حماس” واستئصالها بالكامل كقوة سياسية وعسكرية، وثانيها رسم صورة جديدة لخريطتها السياسية والجغرافية من خلال تحقيق المزيد من المكاسب على الأرض.
وإذا تمكّنت إسرائيل من هزيمة “حماس” (وحلفائها إذا ما تمدّدت الحرب)، ستكون أحلام بن غوريون الخاصة باتساع حدود إسرائيل قد حُفرت واستقرّت في الواقع، وسيُضحي مفهوم “السلام” بوصفه رضوخًا لرغبات إسرائيل قد تحقّق.
لهذا، فإنّ الصراع القائم اليوم سيكون مليئًا بالتحديات، وسيستغرق وقتًا وجهدًا وينجم عنه سقوط أعداد كبيرة من الضحايا. اللهم إلا إذا تعاملت الدول العربية بجدّية مع قرار تشكيل شرق أوسط جديد، من منظور إسرائيلي بالكامل، وتعاملت مع القضيّة الفلسطينيّة بوصفها محدّدة لمصير المنطقة، لا مصير الفلسطينيين وحدهم.
أوان
——————-
دروس طوفان الأقصى/ رياض معسعس
بعد عملية طوفان الأقصى ومجريات أحداثها ومواقف الأطراف المختلفة منها يمكننا أن نستخلص مجموعة من الدروس التي يجب أخذها بعين الاعتبار كثوابت تساعد في بناء أي تحليل سياسي يقود إلى فهم أفضل. فهذه العملية التي تمت على أيادي عدة مئات من المقاتلين بتقنيات بسيطة استطاعوا إنجاز ما لم تستطع جيوش دول عربية أنجازه. كما أنها سببت إحراجا كبيرا لها، وخاصة الدول التي ترفع شعار المقاومة والممانعة، والدول المطبعة.
مجازر مروعة
وقفت الدول العربية جميعها عاجزة عن ردع إسرائيل من ارتكاب مجازر مروعة بحق الشعب الفلسطيني، كما تباينت مواقفها إزاء دولة الاحتلال ولم تكن على مستوى الحدث خاصة النظام السوري وانطلاقا من شعاراته: “المقاومة والممانعة ووحدة الساحات” وتصريحاته المتكررة عن: “الرد في المكان والزمان المناسبين” على الاعتداءات المتكررة لدولة الاحتلال لم يستغل هذا الحدث للرد على أقل تقدير لضرب مطاري دمشق وحلب وإخراجهما عن الخدمة التي وقعت بعد العدوان على غزة، ورغم أن الضربات كانت موجهة تحديدا لثني إيران عن نقل الأسلحة والذخائر إلى ميليشياتها في سوريا فهي بدورها بقيت صامتة، ليس فقط في سوريا لكن أيضا لما يجري في غزة رئيس حركة حماس في الخارج خالد مشعل هاجم إيران وأذرعها “التي طالما تاجرت بالقضية الفلسطينية بتصريحات وخطابات عنترية وعندما حلّت ساعة الحقيقة تخلّت عن غزة وأهلها وتركتهم وحدهم بمواجهة إسرائيل وحلفائها” يستثنى من ذلك الرئيس التونسي قيس سعيد الذي وقف مساندا وداعما للشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة في تحرير أرضه من الماء إلى الماء.
الجامعة العربية
وأثبتت الجامعة العربية أنها جسد بلا روح وهذا انعكس في بيانها الذي صدر عنها حول أحداث غزة. وقد عبر عن ذلك رئيس الوزراء القطري السابق حمد بن جاسم في تغريدة توجه فيها إلى الطبيب ـ الفنان باسم يوسف بعد مقابلته مع “بييرس مورغان” قائلا: “شكرا باسم لقد قمت بما لم تقم به الجامعة العربية وأمينها العام” وهذه الجملة تختصر حال الجامعة العربية. بينما أظهرت الشعوب العربية تعاطفها وتأييدها ودعمها للشعب الفلسطيني عبر مظاهرات حاشدة في معظم المدن العربية (المدن السورية الواقعة تحت سلطة الأسد ومنها العاصمة السورية دمشق التي كانت توصف “بقلب العروبة النابض” منع فيها التظاهر، ومنعت وسائل الإعلام من نقل المسيرات التضامنية الفلسطينيين).
وهذا يدل على أن الأنظمة العربية في واد والشعوب العربية في واد آخر. هذه المعطيات على أرض الواقع تؤكد على أن الأنظمة العربية لم تعد قادرة اليوم على اتخاذ قرار موحد قوي ومتماسك يظهر للعالم أنها في قضية العرب الأولى فلسطين قادرة على الوقوف في وجه عدوان دولة الاحتلال، إذ لم يصدر أي قرار منها بسحب سفرائها من تل أبيب، أو طرد سفير الاحتلال من عواصمها كما فعل الرئيس الكولومبي مثلا، أو التهديد بوقف التطبيع، أو استخدام أي سلاح آخر سياسي أو اقتصادي آخر، بل ما شاهدناه أن هناك دولا منعت المظاهرات بل وحتى رفع علم فلسطين في ساحاتها أو مدرجات ملاعبها. وهذا الوضع بطبيعة الحال يطلق بطريقة مباشرة أو غير مباشرة يد الاحتلال والدول الداعمة له لفعل ما تشاء في أوطاننا التي باتت اليوم مهددة فعليا في أمنها وسلامة أراضيها، وسيادة دولها. هذا الوضع المتردي للنظام العربي سيدفع مرة أخرى الشعوب العربية للانتفاض والتحرر من أنظمة غير قادرة على حمايتها، وتأمين عيشها، ومستقبلها ومستقبل الأجيال القادمة.
موقف الدول الغربية
في هذه الجولة الجديدة مع دولة الاحتلال التي شعرت أنها تلقت ضربة موجعة في العمق، تهافتت دول غربية وعلى رأسها أمريكا للوقوف إلى جانبها وإرسال حاملات الطائرات والبوارج الحربية، ووصل زعماؤها سريعا بزيارات دعم لتل أبيب، وقال بايدن في تصريح له “إذا لم يكن هناك إسرائيل فعلينا اختراعها” و برأ دولة الاحتلال من جريمتها في قصف مشفى المعمداني، ثم طلب من الكونغرس بدعم إسرائيل ماليا بمبلغ 14 مليار دولار، وبكل الأسلحة والذخائر. ومع خطط دولة الاحتلال بتهجير الشعب الفلسطيني إلى سيناء، والأردن دانت كل من الأردن ومصر هذه النوايا الخبيثة لتصفية القضية الفلسطينية بتفريغ الأراضي الفلسطينية من سكانها الفلسطينيين، وندد الزعماء العرب خلال قمة القاهرة للسلام التي نظمتها القاهرة بقصف دولة الاحتلال المستمر على قطاع غزة في حين شدد الأوروبيون الذين حضروا الاجتماع على ضرورة حماية المدنيين، حيث لم يتم التوصل إلى اتفاق لوقف العدوان الإسرائيلي الاجتماع انتهى دون أن يتفق الزعماء ووزراء الخارجية على بيان مشترك. لكن في الطرف المقابل قامت الشعوب الأوروبية بمظاهرات واحتجاجات على قصف غزة ونددت بمواقف حكوماتها، وهنا أيضا نرى أن الأنظمة الغربية في واد، وشعوبها في واد آخر. خاصة وأن هذه الأنظمة التي تدعي الديمقراطية منعت على مواطنيها مناصرة الفلسطينيين، وانتقاد دولة الاحتلال.
نستخلص من هذه المواقف مجموعة من الثوابت. أولا أن إسرائيل ترفض حل الدولتين ومخططها هو ضم الأراضي الفلسطينية وسحق المقاومة، وأن الدول الغربية التي أنشأت دولة الاحتلال لن تتخلى عنها ومستعدة لإثارة حروب لحمايتها واستمراريتها، رغم معارضة شعوبها التي تطالب بإقامة دولة للفلسطينيين. ثم إن الدول العربية المطبعة مع دولة الاحتلال والتي كانت تعتقد أنها باتت بمأمن منها، تتفاجأ اليوم أن التطبيع لم يقدم لها شيئا بل على عكس ذلك فدولة الاحتلال سوف تضرب كل الاتفاقيات عرض الحائط لتنفيذ مخططاتها، وأن المخطط الإسرائيلي لم يتغير والذي يتمثل بإسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل.
في موازاة الحرب الدائرة في غزة واكبتها حرب إعلامية لتزوير الحقائق من ناحية، وخاصة فيما يتعلق بجريمة مشفى المعمداني، ومنع وسائل الإعلام الغربية من تقديم أي محتوى يدافع عن الحق الفلسطيني.
وقد وصل الأمر إلى محاسبة كل صحافي أو مؤسسة إعلامية تقف إلى جانب الفلسطينيين أو تنتقد دولة الاحتلال. وعلى سبيل المثال لا الحصر أظهرت قناة “بي بي سي”، وصحيفة «الغارديان» انحيازهما التام للخطاب الإسرائيلي، بل قامت وسائل إعلام عالمية بمعاقبة صحافيين على مقالاتهم ومواقفهم المعادية للاحتلال، وقامت بمراقبة نشاطهم على وسائل التواصل الاجتماعي عبر شبكة “كاناري ميشن” التي ترصد أي نشاط معارض للصهيونية والسياسة الأمريكية على شبكات التواصل الاجتماعي. وباختصار فإن موقف الإعلام الغربي هو يمنع الانحياز إلا لإسرائيل.
هذه المواقف لوسائل إعلام دول تقوم أنظمتها على الديمقراطية الليبرالية تقوض من مصداقيتها، وتدحض أسس هذه الديمقراطية القائمة على حرية الرأي والتعبير، وعدم تدخل السلطة التنفيذية في السلطة الرابعة.
كاتب سوري
القدس العربي
————————–
من “أمستردام” إلى غزة: حكاية “ديمقراطية” جدًّا/ صهيب عنجريني
كان شهر تشرين الأول/أكتوبر من العام 1997 مفصليًّا في تاريخ الاتحاد الأوروبي، بعدما وُقعت “معاهدة أمستردام”، وبات في وسع “الآباء المؤسسين” للاتحاد أن يحظوا بمزيد من “السكينة”.
مثّلت المعاهدة التي دخلت حيز التطبيق بعد عامين من توقيعها (أيار/مايو 1999) علامة فارقة في مسار الديمقراطية الأوروبية. كيف لا، وقد اهتمّت بشكل أساسي بـ”توطيد أسس الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان داخل بلدان الاتحاد، وتقوية أسس العدالة، ومنع كل نزعة عنصرية”؟
أضفت اتفاقية “أمستردام” بصمة بالغة الأهمية على مشروع الاتحاد الأوروبي، وخطوة في مسار الانتقال من طور التحالفات الاقتصادية (“المجموعة الأوروبية للفحم والصلب”، ثم “الجماعة الاقتصاديَّة الأوروبيَّة”، و”الجماعة الأوروبيَّة للطاقة الذريَّة”) إلى مرحلة تتّسم بهيكلة سياسية أمتن، عبر منح سلطة تشريعية للبرلمان الأوروبي الموحد، وإن ظلّ دون حلم “الأمة الفيدرالية”، كما نادى به رئيس الوزراء البريطاني الأشهر، وأحد الآباء الروحيين للاتحاد الأوروبي وينستون تشرشل/ Winston Churchill (1874-1965).
في العام 2004، كتب السياسي الفرنسي ميشال روكار/ MICHEL ROCARD (شغل منصب رئيس الوزراء الفرنسي بين عامي 1988 و1991) يتغنّى بمفخرة الاتحاد الأوروبي، الذي سـ”يضمن لأوروبا سلامًا نهائيًا دائمًا”. كان عنوان مقالة روكار: “ترسيخ الديمقراطية في أوروبا”.
في تشرين الأول/أكتوبر من العام 2023، أي بعد ربع قرن وبضعة أيام من توقيع “أمستردام”، ونحو عشرين عامًا من مقالة روكار، نشر صانع محتوى عربيّ يعيش في هولندا ذاتها شريطًا مصورًا يسأل فيه المارّة: “فلسطين أم إسرائيل؟ ولماذا؟”، وبدا لافتًا عدد أولئك الذين تحاشوا الإدلاء بأي تعليق، متنازلين عن حق إبداء الرأي.
بالطبع، لا يمكن عدّ الشريط المصوّر بمفرده مؤشرًا على أي شيء، إذ قد يتنازل البعض عن حق التعبير “طواعية”. لكن هذه المفردة تكاد تكونُ ناشزة لدى استعراض سياق حق التعبير في أوروبا، منذ اندلاع أحدث فصول الحدث الأوكراني قبل عام ونصف العام، ثمّ، وبشكل أشدّ وضوحًا، مع عملية “طوفان الأقصى” وما تلاها من تدشين سلطات الاحتلال فصلًا جديدًا من فصول الإبادة والتهجير القسري ضد الفلسطينيين.
فلا يكاد يمر يوم من دون أن نسمع أو نقرأ عن إجراءات لتقييد الرأي والتعبير في كبريات الدول الأوروبية، بدءًا من ألمانيا مع “سيف معاداة السامية” المتأهب دائمًا، مرورًا بهولندا، وليس انتهاء بفرنسا: احتجاز هنا، اعتقال هناك، منع تضامن، فرضُ الوقوف دقيقة صمت في المدارس تضامنًا مع “مدنيي إسرائيل”، إلخ.
“تيمين” الرأي العام؟
ثمة الكثير مما يُمكن قوله في حديث “ازدواجية المعايير”، والانحياز الغربي بشكل عام، والأوروبي ضمنًا إلى “إسرائيل”، وهو بالطبع ليس حديثًا مستجدًا. غير أنه راح يعبّر عن نفسه بوضوح في الأحداث الأخيرة.
وقد يكون أخطر ما في هذا الوضوح المتصاعد، تزامنه مع صعود مطّرد لليمين في العديد من دول الاتحاد. إذ، وبرغم أنّ اليمين لا يُمسك بزمام الحكم في غالبية دول الاتحاد، فإن هذا النزوع نحو تقييد حرية التعبير، بما ينطوي عليه من تقويض لجوهر الديمقراطية، يكاد يحقق أبرز التخوفات التي يُحذّر من حصولها في حال هيمنة اليمين!
وبصياغة أخرى: تنحو السلطات ـــ غير اليمينية ـــ في كبريات الدول الأوروبية نحو تحويل تحذيراتها من “مخاطر وصول اليمين إلى الحكم” إلى أمر واقع تُجذره بنفسها!
ويبدو بديهيًا أن هذا التضييق المتتالي على الحريات قد يكون كفيلًا بزيادة شعبية الأحزاب اليمينية في العديد من دول الاتحاد، لا محبة بتلك الأحزاب وبرامجها بالضرورة، وإنما بوصفها “بديلًا لا بدّ منه”، ليس فقط أملًا في الحلول الاقتصادية كما حصل مرارًا عبر السنوات الماضية (أحدثها صعود اليمين في إسبانيا، مع التردي الاقتصادي المستمر)، بل ولأجل “الحرية والديمقراطية”!
ومع أن المفارقة قد تبدو طريفة للوهلة الأولى، لكن لا يبدو مستغربًا على الإطلاق أن نجد بعد سنوات أحزابًا يمينية تخوض معارك سياسية في بعض الدول الأوروبية رافعة شعارات الحفاظ على الديمقراطية وحقوق الإنسان، ما دمنا نعايش سلطات ديمقراطية ليبرالية تحكم بأدوات شموليّة!
حكاية (ليست) فردية
“يتحمل الصحافيون مسؤولية كبيرة عن تقييد حرية التعبير”. قد لا يبدو هذا القول مثيرًا للاستغراب في ظل تزايد النزعات العدائية ضد الصحافيين، وتعالي أصوات دُعاة تقييد حريات الرأي والتعبير.
على الأرجح، لن يُفاجأ القارئ لو أننا نسبنا هذا الاقتباس إلى الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب مثلًا. لكن ماذا لو علمنا أن القائل هو روبير مينار/ Robert Menard؟
ولأن الاسم بمفرده قد لا يعني شيئًا، فلا بد من إيضاح إضافي: إنه مؤسس منظمة من أبرز الجهات المدافعة عن حق الرأي والتعبير، الراصدة للانتهاكات التي تطاول الصحافيين في أنحاء المعمورة، وهي “مراسلون بلا حدود” التي ظلّ على رأسها مدة 23 عامًا، قبل أن يستقيل في العام 2008، ثم يتولى إدارة “مركز الدوحة لحرية الإعلام” شهورًا، استقال بعدها احتجاجًا على إيقاف الحكومة القطرية تمويل المركز.
منذ العام 2014، يشغل مينار منصب عمدة مدينة بيزييه، بفضل دعم “الجبهة الوطنية”، رمز اليمين المتطرف في فرنسا بزعامة ماري لوبان، في تحول دراماتيكي مثير للدهشة في مسيرة الرجل الذي انطلق من تجربة نضالية يسارية نحو تأسيس “مراسلون بلا حدود”.
في العام 2002، قال مينار في مؤتمر صحفي إن “الجيش الإسرائيلي يتعمد استهداف الصحافيين من خلال سياسة متعمدة للترويع”، بهدف منعهم من تغطية هجوم شنه جيش الاحتلال وقتذاك ضد مدن الضفة الغربية.
أخيرًا، وقبل أسبوع، حلّ مينار ضيفًا على برنامج تلفزيوني فرنسي، وانطلق يقول بحماسة: “علينا أن نقف إلى جانب إسرائيل دون أي قيد أو شرط”. هذه حكاية “تحول فردي” بالطبع، غير أنها تصلح مثالًا حيًّا عن مسارات تسلكها أحزاب، وحكومات، ودول.
نحو ديمقراطيات مستبدة؟!
“حين تتسلق التوتاليتارية (الشمولية) السلطة، تعمل على تدمير كل التقاليد السياسية والاجتماعية والتشريعات القانونية عن طريق بروباغندا في غسل العقل الجمعي الجماهيري وتوجيهه وخداعه، ويسحب النظام معه إلى الحكم أدوات الحركة، كشمولية السيطرة على حياة أفراد الدولة بكل أجزائها وفي مجالاتها كافة، عن طريق التلويح بالإرهاب، ليسهُل سوقهم والسيطرة عليهم”.
لا يتحدث هذا الاقتباس الطويل من حنّة أرندت/ Hannah Arendt عن الديمقراطية بطبيعة الحال، بل عن الحكم الشمولي الاستبدادي. لكن ماذا يتبقّى من الديمقراطية حين تتحول إلى مجرد صندوق انتخابي وتسلب حق التعبير؟
لا شيء، سوى حقك في انتخاب المستبدّ الذي سيسلب حقوقك!
——————————
حرب غزة وحلم بن غوريون في حدود إسرائيل/ رشا سيروب
عادت أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر إلى الذاكرة خريطة “الشرق الأوسط الجديد” التي كشف عنها بنيامين نتنياهو في كلمة ألقاها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 23 أيلول/سبتمبر 2023، أي قبل أسبوعين من الهجوم المفاجئ الذي شنّته “حماس” على الجانب الإسرائيلي.
هذه الخريطة تُظهر ستّ دول عربية ملوّنة بالأخضر، هي مصر والسودان والأردن والبحرين والإمارات العربية ــــ أي الدول التي طبّعت مع إسرائيل تحت مسمى “اتفاقيات سلام” أو “اتفاقيات ابراهيم” ــــ والسعودية التي، وفقًا لنتنياهو، تقترب من توقيع “اتفاق سلام” مع اسرائيل. وإلى جانب المناطق الملوّنة بالأخضر، منطقة ملوّنة بالأزرق تمتدّ من نهر الأردن إلى البحر المتوسط مكتوبٌ عليها إسرائيل، من دون أيّ ذكر أو إشارة إلى دولة فلسطين.
بدت هذه اللحظة كاشفة لقرار رسمي إسرائيلي أُعلن عنه أمام دول العالم قاطبة، يفيد بأن الحلّ الوحيد الذي تراه إسرائيل وتعمل بموجبه يتمثّل بمحو الفلسطينيين وأي كيان لهم عن الخريطة تمامًا، وبأنّ أيّ خيار آخر تحت مسمى “السلام” أو “حلّ الدولتين” ليس سوى إضاعة للوقت. فـ”السلام” الذي تتحدث عنه إسرائيل إنما يقوم على التسليم بالأمر الواقع، والاستسلام الكامل لشروطها الآنية ورغباتها المستقبلية.
حدود إسرائيل وحلم بن غوريون
لم يكن خطاب نتنياهو الذي انطوى على عدم الاعتراف بوجود فلسطين، الأول من نوعه، بل سبقه في ذلك وزير المالية الإسرائيلي في باريس في آذار/مارس الماضي، الذي أبرز خريطة تُظهر أن حدود إسرائيل أبعد من تلك التي رسمها نتنياهو، حيث ضمّت إحدى المناطق الست المظلّلة باللون الأخضر، أي الأردن، في إشارة تُبيّن أن الدولة الهاشميّة إنما هي جزء من “حلم إسرائيل الموعود”.
وقد كان وزير المالية صريحًا في هذا السياق بقوله “لا يوجد فلسطين”، مضيفًا أن “الشعب الفلسطيني اختراع ووهم لا يتجاوز عمره 100 عام”، فيما “شعب إسرائيل عائد إلى دياره بعد 2000 عام من النفي”.
وليست خريطة وزير المالية تلك حديثة، فهي تعكس “الحُلُم المؤسّس” للحركة الصهيونية، الذي أفصح عنه بن غوريون للجنرال ديغول في قصر الإليزيه في حوار دار بينهما مرّة في حزيران/يونيو 1960، يوم سأله الأخير عن رؤيته بشأن حدود إسرائيل، ليجيب بن غوريون: “لو سألتني هذا السؤال لخمس وعشرين سنة خلت، لأجبتك بأن نهر الليطاني هو حدودنا الشمالية وشرق الأردن حدودنا إلى الشرق”.
هكذا تضحي الحدود التي يحلُم بإقامتها صقور إسرائيل ممتدّة “من البحر الأبيض المتوسط غربًا، والصحراء السورية الكبرى (بادية الشام) شرقًا، إلى شبه جزيرة سيناء وخليج إيلات في الجنوب، وصولًا إلى نهر الليطاني في الشمال” (إسرائيل الكبرى “دراسة في الفكر التوسعي الصهيوني”، ص 594).
حرب غزة: هل ستغيّر خريطة الشرق الأوسط؟
هناك مؤشرات تفيد بأن لـ”طوفان الأقصى” تداعيات عالمية شبيهة بتداعيات هجمات 11 أيلول/ سبتمبر في الولايات المتحدة. فالأحداث المذكورة أنتجت عواقب طويلة الأمد في ميدان العلاقات الدولية، إذ تحوّل مبدأ عدم التدخل في شؤون البلدان إلى “حق الولايات المتحدة بالتدخل” تحت لافتة “الحرب على الإرهاب”. فكان الغزو الأميركي لأفغانستان وبعدها العراق، وجاء التدخل لاحقًا في سوريا تحت مسمّى “محاربة داعش”.
وعلى نحو مماثل، يمكن القول إنّ هجوم “حماس” من قطاع غزة المحاصر على المستوطنات الإسرائيلية المحيطة من شأنه أن يشكّل نقطة تحوّل جذرية في الشرق الأوسط، مع ما لذلك من تأثير على “المجتمع الدولي” برمته.
إن التحشيد الإعلامي والعسكري الذي تقوم به إسرائيل سيضع الولايات المتحدة أمام خيارين صعبين، الأوّل يتمثّل بـ”عدم التدخل”، ما يعني أن احتمالية إضعاف القاعدة العسكرية الأميركية في غرب البحر المتوسط ــــ “إسرائيل” ــــ ستكون أكثر احتمالًا. أما الخيار الثاني، أي التدخل مباشرة في الصراع، فسيُشغل الولايات المتحدة عن أولويّتها الاستراتيجية القصوى، المتمثلة بالصين، وسيُعقّد تعهّدها بالإسهام بشكل فاعل في إدامة الأمن الأوروبي وتقديم المزيد من المساعدات العسكرية والاقتصادية لأوكرانيا.
في المقابل، يُتوقّع أن يزداد انخراط الصين في شؤون الشرق الأوسط، لا نظرًا لما يشكّله من مصدر للطاقة التي تحتاجها، ومركزًا لمشروعها الاستراتيجي في مبادرة “الحزام والطريق” فحسب، بل لأنّ هذه الحرب قد تشكّل فرصة لتحقيق مكاسب جيوسياسية في المنطقة، عن طريق طرح الصين نفسها كوسيط مؤثر في أي عملية سلام.
فقد أدت الصين دورًا ديبوماسيًا في نيسان/أبريل الماضي، استطاعت من خلاله إعادة وصل العلاقات الدبلوماسية المقطوعة منذ 2016 بين المملكة العربية السعودية وإيران، واستضافت في حزيران/يونيو الرئيس الفلسطيني، ثمّ دعت رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى زيارتها ووافق الأخير، قبل أن تؤجل الزيارةَ حربُ غزة (أو تلغيها).
وإذا ما اعتبرنا أنّ الحرب الروسية ـــ الأوكرانية تشكّل بداية اتجاه العالم نحو مزيد من الاستقطاب، فإن حرب غزة الحالية قد تعمّق هذا الاستقطاب أكثر.
سمعة إسرائيل المفقودة.. خطر مهول
شكّلت هجمات “حماس” صدمة لإسرائيل، وأضعفت ادعاءاتها بحصانتها التامة نتيجة تفوقها العسكري والأمني والتكنولوجي. من هنا، تكمن الأولوية الأكثر أهمية لإسرائيل اليوم في استعادة سمعتها المفقودة.
وعليه، فإن الصراع مع إسرائيل اليوم مختلف جوهريًا عما سبق. إذ ستسعى تل أبيب إلى تعظيم ردود أفعالها الانتقامية من أجل إعادة غرس ثقة شعبها في المؤسستين السياسية والعسكرية، وضرب التصوّرات الإقليمية الناشئة حول هشاشتها. ويحتاج هذا إلى تظافر جملة من العوامل، أوّلها هزيمة “حماس” واستئصالها بالكامل كقوة سياسية وعسكرية، وثانيها رسم صورة جديدة لخريطتها السياسية والجغرافية من خلال تحقيق المزيد من المكاسب على الأرض.
وإذا تمكّنت إسرائيل من هزيمة “حماس” (وحلفائها إذا ما تمدّدت الحرب)، ستكون أحلام بن غوريون الخاصة باتساع حدود إسرائيل قد حُفرت واستقرّت في الواقع، وسيُضحي مفهوم “السلام” بوصفه رضوخًا لرغبات إسرائيل قد تحقّق.
لهذا، فإنّ الصراع القائم اليوم سيكون مليئًا بالتحديات، وسيستغرق وقتًا وجهدًا وينجم عنه سقوط أعداد كبيرة من الضحايا. اللهم إلا إذا تعاملت الدول العربية بجدّية مع قرار تشكيل شرق أوسط جديد، من منظور إسرائيلي بالكامل، وتعاملت مع القضيّة الفلسطينيّة بوصفها محدّدة لمصير المنطقة، لا مصير الفلسطينيين وحدهم.
أوان
——————-
فلسطين في شوارع ستراسبورغ/ علي سفر
إلى هذه اللحظة يبدو مشهد الاحتجاجات المحظورة في مدينة ستراسبورغ الفرنسية غريبًا، ففي هذه الحاضرة الأوروبية استطاعت مؤسسات المجتمع المدني المناصرة للقضية الفلسطينية، فيما مضى، أن تُخرج كبرى الوقفات في ذكرى النكبة عام 2021 قوامها 4000 متظاهر إلى شوارعها، ليحتجوا بشكل أساسي على حرب إسرائيل على قطاع غزة، لكنها ما تزال عاجزة أو بالأحرى ممنوعة حاليًا من أن تعيد الكرة مرة أخرى.
وبينما يحيل البعض هذا الموقف المربك إلى حالة من الضبابية، تغشي على عقول المراقبين المصابين بالحيرة، بين إدانة حركة حماس التي قتلت المدنيين وفق الموقف الرسمي الفرنسي، وبين إدانة إسرائيل على حربها المتكررة على المدنيين، بحجة الرد على تهديدات الحركات “الإرهابية” التي تطلق الصواريخ من قطاع غزة!
لا يخلو المشهد من وجود متبصرين، لطالما أعلنوا المواقف المنددة بالسياسات الوحشية للدولة العبرية، لم يروا فيما جرى بعد يوم السابع من أكتوبر إلا تكرارًا لما سبق عبر تاريخ القضية، وخاصة إحالة المشكلة كلها على الواقعة الأحدث، وترك الأسباب العميقة المتراكمة منذ عقود، أي وجود الاحتلال وعدم حصول الفلسطينيين على حقوقهم، المعترف بها من قبل العالم أجمع.
ضمن هذا السياق جاءت دعوة جمعية التجمع اليهودي العربي من أجل فلسطين (Collectif Judéo Arabe et Citoyen pour la Palestine) قبل أيام، من أجل تظاهرة في وسط المدينة، وتحديدًا في ساحة كليبر الشهيرة، متحدية قرار وزارة الداخلية بمنع التظاهرات، إلا أن الشرطة الوطنية سبقت الجميع إلى المكان وقامت بإخلائه من المارة والمتنزهين، لكن عشرات من الشباب رفضوا الامتثال لهذه الخطوات، وباشروا بالاحتجاج في طرف الساحة، حيث تمر وسائط النقل العامة، ما أدى إلى توقف حركتها، وتدخل قوات الأمن من أجل فض التجمع الذي لم يخل من توقيف مؤقت لبعض المحتجين ولا سيما منهم جان كلود ميير، رئيس جمعية الاتحاد اليهودي من أجل السلام، غير أن هذا الإجراء لم يثن الشباب من الاستمرار بالاحتجاج، عبر السير في شوارع رئيسة، والمضي إلى جوار الكاتدرائية الشهيرة، حيث أظهرت صور نشرتها الصحف والمواقع المحلية حصول مواجهات بين المحتجين والشرطة، التي حاولت تفريقهم ومنعهم من الانتقال إلى أمكنة أخرى عبر استخدام الحواجز، وكذلك إطلاق قنابل الغاز المسيل للدموع، ومحاولة توقيف البعض ممن حمل العلم الفلسطيني، الذي كان ومنذ البداية حاضرًا في المكان.
وفي جهة أخرى كانت بعض الصحف اليمينية المحلية والوطنية تحتج على قرار رئيسة بلدية ستراسبورغ جان بارسيغيان (حزب الخضر)، بإزالة علم إسرائيل عن واجهة مبناها متسائلة عن الدوافع، لكن الرد الرسمي جاء سريعًا بأن مثل هذه القرارات الرمزية هي جزء من الصلاحيات الممنوحة للرئيسة قانونيًا، وإن تقديراتها الشخصية لا تخضع للمسائلة!
ربما، لا تخرج حالة ستراسبورغ عن واقع المدن الفرنسية كلها، عندما خضعت ومنذ بداية حرب طوفان الأقصى إلى قرارات وزارة الداخلية بمنع التظاهر من أجل فلسطين، والتي أرفقت بحملة ترهيب على وسائل التواصل الاجتماعي، تهدد وبشكل فج بالعقوبات وتحت ذريعة دعم الإرهاب، كل من يحتجون ضد القصف الإسرائيلي على قطاع غزة، أو يعلنون موقفًا في هذا المسار!
لكن الحملة القانونية المضادة لهذه الإجراءات، والتي أدت لأن يبطل مجلس الدولة الفرنسي قرار منع التظاهر، لم تستطع إلزام الولاة المحليين للمحافظات بالموافقة على طلبات ترخيص الوقفات الاحتجاجية والتظاهر، وهذا ما يجري في المدينة إذ تكررت قرارات عدم الموافقة، وكأن إدارة المدينة تحاول أن تنأى بها عما بدأ يظهر ويعم ليس في فرنسا فقط، بل في كل أوروبا حيث باتت التظاهرات المساندة للحق الفلسطيني حاضرة وبشكل يومي تقريبًا.
شباب ستراسبورغ، المختلط بين أصحاب الأصول الألزاسية، وأولئك القادمين من أمكنة أخرى للدراسة، وبين أصحاب الأصول المتعددة من المهاجرين واللاجئين، ولا سيما منهم طلبة الجامعات والثانويات، كانوا دائمًا يمنحون الوقفات الاحتجاجية طابعها الحار، ولم يعدموا السبل من أجل التعبير عن مواقفهم، فهؤلاء هم الذين كانوا يجابهون قوات الأمن في الوقفة الأولى، دون خوف من التبعات القانونية، ودون أن يعيروا أهمية لقيام الشرطة بتصوير ما يجري، لا يستطيعون في ظل الحالة الراهنة الدفع نحو تطوير حراكهم، إلا من خلال تكرار محاولات الحصول على الموافقات.
غير أن جدران شوارع المدينة ولوحاتها الإعلانية، وحتى أعمدة النور فيها تشهد بصمات يتركها هؤلاء بعيدًا عن أعين الكاميرات ورجال الشرطة، ففيها يتم نشر الصور والشعارات ونسخًا من تشكيلات علم فلسطين، مما يصعب مهمة إسكات الأصوات المنددة بالجرائم التي ترتكبها إسرائيل على الجهات التي تحاول تكريس صيغة المنع الرسمية، إذ لا أحد يستطيع أن يلاحق الأيدي وهي تخط على المساحات الفارغة اسم فلسطين أو اسم غزة الذي بات أيقونة، كما أنه من الصعب القيام بحملة طلاء مضادة أو محو للمدونات المرسومة على الحيطان، بالإضافة إلى أن الرسائل المبتكرة عبر نشر الصور المغلفة بالنايلون على أعمدة الإنارة، تبدو أمرًا مفيدًا بالنسبة للمحتجين الذين يراقبون غيابًا مقصودًا للصور القادمة من أرض القطاع المنكوب عن وسائل الإعلام المرئي الفرنسي، ويريدون أن يوصلوا لسكان عاصمة إقليم الألزاس الحقيقة المخنوقة عما يجري.
ضفة ثالثة
————————
“معاداة السامية” جريمة غربية تتجدد في غزة
فراس محمد
تلفزيون سوريا – فراس محمد
مع تجدد انفجار الوضع في قطاع غزة بعد عملية “طوفان الأقصى” التي نفذتها “كتائب الأقصى” الذراع العسكرية لحركة المقاومة الإسلامية حماس في السابع من شهر تشرين الأول الجاري، تخلى العالم الغربي بين ليلة وضحاها عن كل قيم العدالة والإنسانية والحرية التي حاول تصديرها للعالم بوصفها قيماً غربية أصيلة، ليتلطى خلف أسطوانة مشروخة باتت مكرورة وسمجة تتمثل بدفاعه المستميت عن دولة الاحتلال بحجة “معاداة السامية”.
من يتابع تصريحات الزعماء الغربيين والهجمة الإعلامية التي تبعت عملية طوفان الأقصى مباشرة، سيكتشف حجم التهويل ومحاولة شيطنة ما قامت به فصائل المقاومة الفلسطينية ضد الإسرائيليين وتصويرها على أنها ذبح أطفال ومدنيين واغتصاب نساء، وفق سيناريوهات معدة مسبقاً وتفتقر لأي دليل مادي باستثناء الرواية الإسرائيلية التي فندتها الوقائع على الأرض.
عبارات “معاداة السامية” “الهولوكوست” عادت مجدداً لتتصدر عناوين الصحف ونشرات الأخبار في العالم الغربي، في محاولة متجددة لتعزيز الصورة الذهنية لدى المتلقي الغربي بأن ما يحصل في فلسطين هو امتداد لجرائم “الهولوكوست” و”محاكم التفتيش” بحق اليهود، والأمور لم تقف عند هذا الحد حيث رمى العالم الغربي حرية التعبير والعدالة والإنسانية والمساواة التي صدع رؤوس البشرية بها عند أول سلة مهملات، وتبنى وجهة النظر الإسرائيلية وهدد بمحاسبة وتجريم أصحاب أي وجهة نظر ثانية، حتى باتت أي وجهة نظر ثانية هي امتداداً لجريمة “معاداة السامية” التي تم تفصيلها بدقة لتناسب المقاس الغربي لحرية التعبير.
السعار الغربي اتجاه الأحداث في غزة لم يقتصر على تصريحات المسؤولين ووسائل الإعلام، بل امتد للتقييد على وسائل التواصل الاجتماعي التي تحاول طرح رواية مخالفة للرواية الغربية، كما وصل الحد عند بعض الدولة لتجريم أصحاب الرأي المخالف وأي تعاطف مع الضحايا الحقيقيين.
وهذا الانحياز الغربي المطلق لإسرائيل على حساب 2360 طفلاً فلسطينياً 1292 سيدة وفتاة، و295 مسناً قضوا تحت الأنقاض خلال 17 يوماً؛ والمعرف بمصطلح “الفيلوسامية” سبق وتحدث عنه أبراهام ملتسر في كتابه “صنع معاداة الساميّة… أو تحريم نقد إسرائيل”، وهو مصطلح ظهر بعد الحرب العالمية الثانية، بالتوازي مع ظهور مصطلح “معاداة الساميّة”، ويعني “الحب أو التعاطف أو إظهار المودّة للسامية”.
يقول الكاتب: “الكثير من اليهود يحتقرون بشدة هذه النزعة المفرطة من الفيلوسامية الباهتة أو الساذجة ثقافيا، فهي تقتات على مشاعر الذنب والتكفير الألمانية، لهذا ليس من الغريب أن يقابل المرء كثيرا من المسيحيين في الدوائر الموالية لإسرائيل وفي تظاهراتها”.
وبذلك يختزل الغرب الساميين باليهود ولا يعترف بالفصل بين اليهودية والصهيونية، فمعاداة الصهيونية هي معاداة لليهود والسامية، رغم أن الصهيونية هي إيديولوجيا تحمل منذ نشأتها طبائع كولونيالية وعنصرية وإجرامية، ومن الطبيعي محاربة هذه الإيديولوجيا السامة والقاتلة. هذه الانتقائية الغربية للساميين انتهت باستباحة الدم الفلسطيني بل وتشجيع إسرائيل على ذلك وتزويدها بكل ما يلزم من أدوات قتل فتاكة، كما انتهت الدعاية الألمانية ضد اليهود بالهولوكوست بعد تحميلهم وزر خسارة الحرب العالمية ووصفهم بـ “الطعنة بالظهر”.
“معاداة السامية” جريمة غربية
ومن سخرية الواقع، أن الجريمة التي يحاسب عليها العرب والمسلمون بشكل عام والفلسطينيون بشكل خاص والمتمثلة بـ “معاداة السامية” هي جريمة غربية بامتياز، بل تصل إلى حد الكوميديا السوداء عند تجاهل الحقيقة الثانية وهي أن العرب هم أيضاً شعوب سامية، فالمصطلح الذي استخدمه لأول مرة من قبل الصحفي الألماني وليم مار عام 1879 لتمييز الحركة المناهضة لليهود، والتي انتشرت في معظم الدول الأوروبية والولايات المتحدة، وتوجت بجرائم النازية ضد اليهود والتي تعرف اصطلاحا بالـ “هولوكوست” هي نتاج أوروبي غربي بامتياز، وله جذور ضاربة في الثقافة الأوروبية تمثلت بسلسلة المجازر التي طالت اليهود والقائمة على اتهام اليهود بصلب السيد المسيح واضطهاد تلاميذه في القرون المسيحية الأولى، كما تم اتهام اليهود بعدة تهم ومنها تسميم آبار المسيحيين والتضحية بالأطفال كقرابين بشرية وسرقة خبز القربان وتدنيسه، وتوجت هذه الجرائم خلال محاكم التفتيش في القرون الوسطى حيث كان العالم العربي والإسلامي هو الذي احتضن اليهود المضطهدين في تلك الفترة.
جريمة غزة امتداد لـ “معاداة السامية”
بالعودة للمجزرة المتواصلة في غزة والتي هي امتداد لسلسلة الجرائم بحق الشعب الفلسطيني منذ مطلع القرن الحالي، سنجد أنه ليست سوى امتداد لسلسلة جرائم العالم الغربي بحق الساميين، لكن هذه المرة بحق ساميين آخرين وهم الفلسطينيين، وعبر ضحايا الغرب السابقين وهم اليهود، وأي يهودي يملك بصيرة وبعد نظر، سيدرك تماماً أن انتزاع اليهود من مجتمعاتهم التي عاشوا فيها لمئات السنيين، ومحاولة زرعهم في أرض ليست أرضهم ومحيط لم يكن معادياً لهم بل كان ملاذاً احتضنهم عندما نكل بهم، بعد تهجير أصحاب الأرض الحقيقيين ما هو إلا جريمة غربية جديدة تضاف إلى سجلهم في معاداة السامية التي يتباكون عليها، فدفاع أصحاب الأرض عن حقهم المشروع بالتمسك بأرضهم ليس جريمة و”معاداة للسامية” بحسب التوصيف الغربي، لكن المجرم الحقيقي والمعادي للسامية هو نفسه المجرم السابق الذي يتباكى الآن ويحاول الإيحاء بأنه يحاول التكفير عن جرائمه السابقة بحق اليهود بشكل خاص والساميين بشكل عام.
مأساة غزة والشعب الفلسطيني المتواصل لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة، وحجم الدم المراق لا يمكن تعويضه، لكنه بالتأكيد سيكون فصلاً جديداً في تعرية النفاق الغربي حيال قضايا شعوب الشرق الأوسط، وأن قيم الحضارة الغربية التي يحاول تعميمها على العالم ما هي إلا أقنعة ستسقط عند أول استحقاق حقيقي يهدد مصالحه، ومن هذه الأقنعة “معاداة السامية” التي تخفي وراءها الوجه الانتهازي الحقيقي والقبيح.
——————————
طوفان الأقصى: نفاق النّظام العالمي/ أحمد البرهو
لا تزال أميركا “الرّحيمة!” تصرّح على لسان مستشاري أمنها القومي أنها تبحث عن: “ممر آمن” للغزاويين، في الوقت الذي يعلن فيه “الكونغرس” دعمه الكامل لإسرائيل، ويرسل البنتاغون حاملتي طائرات لـ “ضمان عدم اتساع الحرب” في إشارة إلى إمكانيّة دخول حزب الله أو إيران الحرب!
بالتوازي مع الموقف الأميركي يدّعي سياسيو الغرب الواقعي أنّهم يؤمنون بحريّة الإنسان ويشددون على مبدأي: حريّة التعبير وحريّة الضمير؛ شريطة أن يكون التعبير مناسباً لمصالح الشركات الفرنسيّة في غاز لبنان، والأميركيّة في غاز فلسطين المحتلّة، أمّا إذا تناقض مع مصالح الرأسماليّة العالميّة فتغدو حريّة التعبير “كفرا”!
لعلّ إحدى أهم إنجازات “طوفان الأقصى” أنّه كشف عن سقوط أخلاقي يمارسه كثير من سياسيي الدول الغربيّة إضافة إلى إماطة اللثام عن مواهب النفاق وأساليب الخداع التي تشوّه حقيقة منطقتنا وقضايانا!
لا يزال المسؤولون الغربيّون يتسابقون لتسويق الجرائم الإسرائيلية بحق الفلسطينيين عبر تقديم صورة مشوّهة لحقيقة ما يجري في فلسطين لضمير الشعوب الغربيّة؛ مثل السيناريو المخادع الذي أدّت فيه رئيسة المفوّضيّة الأوروبيّة “أورسولا فون” دور الخائفة وهي تنزل إلى الملجأ برفقة أعتى مجرمي الصهيونيّة خوفاً من أسلحة الفلسطينيين؛ و”أورسولا” لا شكّ تعلم أنها بصحبة جنرالات أحد أقوى الجيوش في العالم، وأنّ طائرات وأسلحة هؤلاء الجنرالات كانت تفتك بالشعب الفلسطيني في غزّة في الوقت الذي كانت هي تؤدّي دورا مسرحيّا سيعرض الحقيقة مشوّهة أمام ضمير الشعوب الغربيّة وشعوب العالم!
والحقيقة كانت “أورسولا” موهوبة قياساً بـ “جون كيري” منسق الاتصالات الاستراتيجية في مجلس الأمن القومي الأميركي الذي ظهر على شاشة CNN في دور المتباكي على الإسرائيليين ولم يكن كل الاختلاجات الزائفة التي ادّعاها لتجل دمعة واحدة تذرف من عيني ضمير زائف ينكر مجازر الإسرائيليين بحق الفلسطينيين!
على مستوى آخر من الإجرام فقد عمد المسؤولون الإسرائيليّون منذ بدء حربهم على الفلسطينيين الغزّاويين إلى استخدام صيغ لفظيّة تبرّر إجرامهم؛ فالفلسطينيون ارتكبوا شيئا فضيعا يشبه “الهولكوست” في تعبير استخدمه نتنياهو في أثناء مكالمة مصوّرة أجراها مع رئيس أميركا “بايدن”؛ والمكالمة مصوّرة لعرضها على ضمير الشعوب الغربيّة عبر شاشة الإعلام الغربي -والشعوب الغربيّة لديها مخزون تاريخي -محق بالمناسبة- من التعاطف مع ضحايا -“الهولكوست” واليهود الذين كانت الأنظمة الغربيّة تضطّهدهم- إلّا أنّ لعب الإعلام المُسيّس بالسياقات كفيل بتزوير حقيقة -أنّ إسرائيل اليوم هي من يرتكب مجازر الهولكوست- وفلسطينيّو غزّة اليوم هم في الحقيقة: “أولئك اليهود المساكين الذين كان النازيّون الأوروبيّون يجبرونهم على العيش في غيتو فصل عنصري”، ومن ثمّ يجري الاحتيال على الحقيقة وعلى ضمير الشعوب الغربيّة!
الفضيحة الحضاريّة التي لم يكن دارون ليتمنى العيش حتى يراها قد حدثت بالفعل على لسان وزير الدفاع الإسرائيلي الذي وصف الفلسطينيين بـ “الحيوانات البشريّة”؛ لأنّ هذا التركيب سيتم مراقبته والسؤال عن مصدره لتعيد شعوب العالم النظر في “نظريّة التطوّر” التي أنتجت ضمير مجرمٍ كـ “يوآف غالانت”!
السقطات الإعلاميّة تستمر بممارسة الخداع المكشوف حول ما تدّعيه من سوء معاملة حماس للأسرى الإسرائيليين، وقد أوقع الإعلام الغربي مصداقيّته على المحك حين كرّر مزاعم المسؤولين الإسرائيليين عن ممارسة حماس لـ “قطع الرؤوس، واغتصاب النساء، وقتل الأطفال” المزاعم التي يجري دحضها تباعاً عبر ما تسربه حماس من مقاطع فيديو أو صور تُظهر من خلالها معاملة حسنة للأسرى الإسرائيليين لدى حماس؛ وتدحض مزاعم المسؤولين الإسرائيليين الذين ربطوا في تصريحاتهم بين حماس وبين “داعش”!
وهنا يجب أن أتوقف قليلا -كما يقول مذيع كرة القدم- لأّن الإسرائيليين والإعلام الغربي المنافق لإسرائيل قد أوقعوا أنفسهم في سقطة أخرى باتّباعهم وصف “حماس” على لسان مسؤولين إسرائيليين بـ “داعش” وداعش اسم معهود أيضا للضمير الغربي بوصفه “قاطع الرؤوس ومغتصب النساء وقاتل الأطفال”، لكن عبر اللعب بالسياقات من جديد لترسيخ تصوّر مغلوط عن أبناء منطقتنا -العرب المسلمين- بوصفهم “دواعش” حتى يثبت العكس!
“داعش” النموذج الذي تمّت صناعته وصياغته ليبقى لأجيال ذريعة محو الشعوب والخرائط والقضايا والحقوق باستخدام القوّة المفرطة؛ “داعش” المصنوعة على عين المخابرات العالميّة ونفاق الإعلام الغربي والشرقي لتبرير قتلنا وتشريدنا نحن السوريين!
“داعش” الإرهاب الذي قتل النظام السوري المجرم بذريعتها السوريين، وهجّر من تبقى منهم حيّا، واستخرجت أميركا بوساطة حقوق أعراق ومكوّنات تتفق تماماً مع خرائط الشرق الأوسط الجديد التي رسمها “الاستشراق الأميركي” قبل عقود طويلة من اختراع داعش!
داعش الاختراع الذي يصح به قول بايدن عن إسرائيل: “لو لم تكن موجودة لاخترعتها أميركا”.
“داعش الإرهاب، ومجازر الهولوكوست، والحيوانات البشريّة الداروينيّة..” ونحو ذلك من التغذية الذهنية الخاطئة لجيل تعوّد على قتل الـ “زومّبي” في ألعاب الفيديو أوصاف وصيغ ولعب بالسياقات كلّها لتبرير استخدام القوّة العسكريّة المفرطة؛ وإسرائيل مثل كل الأنظمة المجرمة -بصفتها قاعدة عسكريّة لا غير- ليس في جعبتها غير القوّة المفرطة، وليس في ذهنيّة جنرالاتها تصوّر آخر عن مستقبل الفلسطينيين؛ فالفلسطينيّون إمّا مقتولون بالقصف الوحشي، أو مهجّرون إلى سيناء المصريّة، وهذا ما يطرحه صراحة وعلنا مستشارو الأمن القومي الأميركي، الذين لم يخطر ببالهم فكرة إيقاف إسرائيل عن قصف الفلسطينيين؛ بل طالب الأميركان مصر بفتح معبر رفح أمام الفلسطينيين الهاربين من القصف، فرفض المصريون، فقطعت شركة النفط الأميركيّة التي تستثمر في غاز فلسطين المحتلّة الغاز عن مصر!
ليس كالسوريين – الذين أرادوا تغيير نظامهم، فتمّ استجرار الإرهاب وتمويله ليسيطر على السّوريين، ثمّ تُرِكوا عزّلاً للنظام وللإرهاب يقتلهم ويهجّر من تبقى منهم حيّاً لإفراغ سوريا من شعبها وتحقيق رؤية المستشرقين الأميركيين عن التقسيم الجغرافي والديمغرافي للمنطقة – ليس كالسوريين شعب آخر أكثر قدرة على وعي الدور غير النزيه الذي تمارسه الإدارة الأميركيّة تجاه شعوب المنطقة وقضاياها، في حين كشف “طوفان الأقصى” عن حالة مزرية يعاني منها الموقف السياسي الأوروبي، وكشف أيضاً عن أزمة حريّة التعبير والضمير الذي أوقع الإعلام الغربي نفسه بها من جرّاء انحيازه لإسرائيل؛ ولعلّ هذا الحرج الإعلامي سيكون له ردّة فعل انعكاسيّة تجاه إسرائيل وتجاه تسييس الإعلام!
بالمقابل يثبت الواقع أنّ “حريّة التعبير” لا يضر القضايا العادلة، وأنّ الاطمئنان لـ “حريّة الضمير” الإنساني ممكن وواجب شريطة عدم تغذيته بمعلومات كاذبة.
تلفزيون سوريا
———————–
الكتابة عن غزة وحلب في ألم معاً/ علي سفر
يبدأ تسلسل الأحداث لدى القارئ، حين يصل الإشعار في العواجل الإخبارية، بضع كلمات مرصوصة بعناية، تشبه تتالي التفاصيل في الماضي القريب. تقديرُ حجم الأهمية يأتي بعد أن تنفتح المشاهد أمام العينين! وبدلاً من البقاء على الهامش، والاكتفاء بتلقي التحديثات من خلال قنوات التليغرام مثلاً، يغرق المرء في متابعة ما يجري أمام الشاشات! وبعد هنيهات يكتشفُ أنه قد تسمر، ليس في مواجهة الصور المرعبة للموت المجاني، والأفعال التي تسترخص قيمة البشر، وتقتله بدأب، بل في العجز وسيلان القدرة، والتحول إلى مجرد كتلة بشرية مشلوحة في أقصى اللوحة، وكأنها قطعة مُكمّلة، وضعها الرسام كي لا يترك فراغات حول موضوع لوحته!
منذ فاجعتنا بما حدث في حلب، حين تكالبت عليها قوى التوحش الأسدي الإيراني الروسي في العام 2016، فقدتُ طاقة متابعة الأخبار!
كان قراراً صريحاً وواضحاً، أخذته عن سابق إصرار، بعد أن كشفت مراجعات الطبيب عن تشنج عضلي يحيط بالرأس والرقبة، بات أقسى على الجسد من إمكانية التحايل عليه، فصار عليّ الالتزام بجرعات موصوفة من المرخيات العضلية، وأدوية لمواجهة كآبة صارت مزمنة!
غزة في أيامنا الراهنة، ككل مدن الشام، هي بعض من معادلة جسد، لا يجد خلاصه بأدوية عابرة، أو حتى محاولة التخلص من الصدمات التي تحدثها فينا مشاهد الرعب، إنها جزء من قنوات غير منظورة يعبرُ فيها دمنا المتخم بالأحلام والآمال! وحين تخضع لمقتلة كهذه، فإن الصدمة التي تنتج رضاً تتأبد في لحظتها، لتُكرر في هيئتها وشكلها، كل ما مر علينا من فجائع مضنية! وتشاركُ فيها الدول الغربية التي تمنح إسرائيل رخصة الدفاع عن نفسها، دون أن ترى في الوقت نفسه حجم الإجرام والحقد الذي لطالما دخل به جنودها حروبهم ضد الفلسطينيين والعرب، فلا يتوقفون عن إبادة المدنيين تحت أي وازع!
وعلى الإيقاع ذاته، تصبح غزة هي حلب السورية، التي عاثت في شوارعها وأبنيتها وسكانها البراميل المتفجرة، فحولتها إلى مجرد ركام إضافي، مازال عالقاً في دواخل السوريين كنصل ينتج عنه الدم والألم.
واقعة حلب لم تكن مجرد حدث إخباري، أو هجوم سريع خاطف استعاد نظام الأسد فيه الجزء الذي فقد السيطرة عليه من المدينة، بل كانت جريمة تسلسلية رتبت الدول الإقليمية والغربية تفاصيلها، بالاتفاق مع الدول المساندة للنظام، إيران وروسيا، التي دعمت الهجوم على الأرض، وقامت عبر طيرانها بعمليات القصف من الجو، ما أدى إلى تهجير الحلبيين وإبادة الحاضرة التي خرجت عن القيد الأسدي، وكان يمكن لها أن تكون مثالاً مختلفاً، لو أن ظروفاً مغايرة وإرادات أفضل تحكمت بما جرى فيها، وطبعاً لو أن العالم سمح للسوريين الثائرين أن يمضوا في مشروعهم المدني الديمقراطي، ولم تتم عملية تنميطهم وقولبة حراكهم، وتعليبهم في صندوق الإسلام السياسي والجهادي، بعد أن احتلت واقعهم صراعات القوى المسلحة، ومحاولات الفصائل المتطرفة الاستئثار ليس بالسيطرة على شوارع حلب بل على وجه الثورة السورية كلها!
لم يكن سكان المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام، من المنتسبين أو المنضوين تحت ألوية الفصائل الجهادية، فهم متنوعو المشارب والتوجهات، وهم مجتمعات كاملة، لا يمكن للعقل أن يقبل بإسباغ الصفات المستنكرة عليهم، ما يعني أن شهود ما جرى في حلب عرفوا بأن ما يجري جريمة مرخصة، لا مشكلة في أضرارها الجانبية من مجازر وتهجير بعد الدمار والسحق!
وبالتوازي، لا بد من القول إن غزة هاشم ليست حركة حماس! كي يؤخذ سكانها من نساء وأطفال ورجال بجريرة ما فعلته وتفعله كتائب القسام، بل هي وطن وشعب، سيبقى حاضراً في مضارع الزمن، ولن ينفى حتى وإن جاءته كل جيوش القتل والإرهاب!
كان يمكن للخلاص من الدولة الأسدية وداعميها من إيرانيين وروس ومن إسرائيل أيضاً أن ينتج معاني مختلفة، لو توفرت شروط أخرى، يأتي في بدايتها ونهايتها أن يعيش الناس دون إرهابهما، فإيران وروسيا لم تتركا أي منطقة خارجة عن سيطرتهما دون أن تدمرا مقومات الحياة فيها!
لكن كل القوى التي تمكنت من التدخل في قصتينا المأساويتين راقبت ما جرى بعينين مفتوحتين، وبعور أخلاقي كارثي، يمكن تلخيصه بالقول إن العالم بدوله وشعوبه وأحزابه وجمعياته ومنظماته المحلية وبهيئاته الدولية والإقليمية، تعاطف معنا كسوريين وأقرّ للفلسطينيين بحقوقهم، لكنه ترك القتلة يكملون جرائمهم، حتى صارت المجريات والوقائع مجرد أحداث من الماضي!
وحتى أولئك اليساريون والقومجيون الذين كانوا يُطنبون في دعم القضية الفلسطينية، ويحكون ليل نهار عن شعبها المظلوم، لم يقولوا كلمة حق في مشاهد موتنا اليومية، وذبح أطفالنا بسكاكين الميليشيات الشيعية الطائفية، وبقنابل الموت الروسية، لا بل شمتوا بهزيمة حلمنا، بعد أن برعوا في وصمنا بالعمالة والارتهان للمؤامرة، مرددين ادعاءات نظام باع البلاد كلها لمن حمى عرشه الدموي!
لا يمكن لإنسان عاش دفقة الأدرينالين العالية التي حملها التخلص من سيطرة النظام على حياته أن يعود إلى العتبة الأدنى، رغم شعوره بالخذلان من كل من حوله.
هنا، ستعيش في داخل المهزوم أفاع تلدغه صباح مساء، تسمم روحه، وتملئه بالأذى، فلا يمكنه أن يتخلص من فحش الخيانة وتكشف الوجوه عن المخادعين القذرة، إلا بالرضوخ لصوت العقل والحلم في اتحادهما المثالي الذي يظهر في فلسفات الثورات المتكررة؛ إنها جولة مرت أو ستمر، وستعقبها جولات أخرى، وما الهزيمة الظاهرة على سطح الوقت، إلا وجه لانتصار أخلاقي عميق وكبير، مازلنا نحافظ عليه رغم تبعثر قوانا وتشتتنا في أصقاع المعمورة!
————————
هل ستدخل إيران الحرب في غزة؟!/ أحمد مظهر سعدو
تدرك إيران أن انخراطها في الحرب الإسرائيلية العدوانية الدائرة اليوم ضد أهل وشعب غزة في فلسطين ليس قرارًا ممكنًا على أجنداتها المتحركة، ولا صائبًا بالمطلق اتكاءً على سياساتها البراغماتية في المنطقة التي طالما تاجرت بها وخاصة ما يتعلق بالقضية الفلسطينية وتفاعلاتها، وكل هذا الانزياح هو من أجل إنفاذ مصالحها الجيوسياسية وأطماعها في المنطقة العربية. ومن ثم فإنها ارتأت أن الأفضل لها في استراتيجيتها السياسة والعسكرية، حسب الممارسة الآنية لموقفها، ما يزال ولسوف يبقى يراوح في المكان ذاته، ويعيد إنتاج نفسه عبر استخدام الوكلاء المتعددين في المنطقة، وخاصة (وهو الأهم) تلك الأداة المنفذة والمنتمية إلى نفس المشروع والمحور، والتي تتبع ولاية الفقيه، وتعمل من أجله، وليس من أجل المصلحة الوطنية اللبنانية أبدًا، هذه الاستطالة التنفيذية هي حزب الله ومن يدور في فلكه، وإيران في ذلك تؤكد أن خوض الحرب ضد إسرائيل ليس عملًا عاقلاً، ولا يخدم من ثم الطموحات الإيرانية في الإقليم، ويمكن أن يدفع في حال التدخل الإيراني المباشر في المسألة الفلسطينية عبر صراعها المستمر مع جيش الاحتلال الإسرائيلي، إلى الهاوية السحيقة وإلى وادٍ ممتد لا قرار له، ويمكن أن يقوم بتدمير (فيما لو حصل) كل الاستراتيجيات الإيرانية المتبعة منذ زمن ليس بالقصير، أي منذ انتصار ما يسمى بثورة الشعوب في إيران، واستلام السلطة من قبل الخميني.
الواقع والمشهد السياسي في المنطقة يشير إلى أن امتناع وعدم إمكانية خوض المعركة الإيرانية مباشرة من دون وكلاء مع إسرائيل يعود للأسباب التالية:
أولاها أن لا مبدئية لدى الإيرانيين، كما لا أهمية للدم الفلسطيني المراق بغزارة على أرض قطاع غزة في فلسطين، وهي لن تهتم كثيراً لحجم القتل والهدم في القطاع، ويبقى أن الأهم عند الإيرانيين هو الحفاظ على الوضع العسكري الإيراني القوي، ولن يفرطوا أبدًا بهذه القوة العسكرية الإيرانية حيث وصلت إليها مؤخرًا ضمن حالة الصراع الأكبر مع العديد من دول المنطقة، وخاصة دول الخليج العربي، بعد أن هيمنت إيران واحتلت ما يزيد عن أربع عواصم عربية كدمشق وبغداد وبيروت وصنعاء.
كل الذي فعلته إيران منذ عشرات السنين لا تريد أن تخسره دفعة واحدة، في لحظة انفعال ما، أو هنيهة حماسية غير عاقلة، لدعم المقاومة الفلسطينية في غزة
ثانيًا: لا بد من القول إن حالة العداء التي تصدرها إيران إعلاميًا كل يوم وكل لحظة، ضد إسرائيل تارة ، وأميركا/ الشيطان الأكبر تارة أخرى، ليست حقيقية، وليس هناك من تفكير سياسي إيراني جدي سابقًا ولا لاحقًا من أجل تحرير القدس أو فلسطين، بل لعل إيران ما انفكت تعتبر ذلك همًا عربياً، وليس له أي أهمية لدى دولة فارس المتصورة والطامحة في المنطقة، حيث يمكن أن يعوق قيامها بالاشتغال في صراع معين وكبير ضد دولة إسرائيل المصطنعة والمدعومة غربياً وأميركيًا، بشكل يفوق أي حد، بما لا يقبل الشك وعلى مستويات كبرى، واستراتيجية، لم يحلم بها أي كيان في العالم.
يضاف إلى ذلك أن كل الذي فعلته إيران منذ عشرات السنين لا تريد أن تخسره دفعة واحدة، في لحظة انفعال ما، أو هنيهة حماسية غير عاقلة، لدعم المقاومة الفلسطينية في غزة.
كما أن الدعم المالي الكبير لبعض فصائل المقاومة الفلسطينية، لم يكن في يوم من الأيام إلا انفاذًا وتحقيقًا وتجسيدًا لمصالح دولة إيران في المنطقة، ولتحصيل ما يمكن تحصيله مناكفة للسياسات الأميركية والغربية وكذلك الإسرائيلية، ضمن المسموح به، والمتفق عليه تحت الطاولة وفي إطار المنافسة النفعية البراغماتية ليس إلا، حيث يعرف كل طرف من هذه الأطراف الخطوط الحمر التي لا يجب الاقتراب منها أو تخطيها، حتى لا تقع الواقعة.
علاوة على ذلك فإن السياسة الإيرانية المرنة والمستوعبة للمصالح الإسرائيلية والأميركية، والتي تحملت كثيرًا وتجرعت كؤوس السم، مرات ومرات، ليس أولها قتل قاسم سليماني، الرجل الأهم لديها، وعبر استمرار القصف الإسرائيلي على مواقع ميليشياتها المنتشرة في سوريا، وكذلك فوق رؤوس ما يسمى بالحرس الثوري الإيراني وكل توابعها، وذلك منذ أكثر من خمس سنوات خلت في جل مساحات الجغرافيا السورية المنتشرة فيها تلك الميليشيات، وامتناعها وصمتها المطبق عن الرد ولا مرة واحدة، فهي اليوم لن ترد على هذا العدوان على أهل غزة، وهو بعيد عنها، حتى لا تورط نفسها في حرب كبيرة وطويلة لا قدرة لها عليها، ولا قناعة لها بها، كما أنها أيضًا لن تخدم مصالحها القادمة والحالمة.
وتدرك إيران أن تابعها / الأداة في الساحة اللبنانية (قائد المقاومة) حسن نصر الله سوف يتكفل بمناوشة لبعض الوقت مع إسرائيل من أجل الحفاظ على ماء الوجه المسفوح على الأرض، وهو يكتفي اليوم بتحريك بعض عناصره، أو عناصر أخرى من فصائل فلسطينية كانت ممنوعة سابقًا من أي حركة في الجنوب اللبناني، وحزب الله الذي يقوم بحراسة أمن إسرائيل منذ حرب 2006 ، كما يفعل صنوه في سوريا نظام بشار الأسد الذي مازال يحرس أمن إسرائيل بكل دقة وأمانة، تنفيذًا لوصية والده حافظ الأسد منذ أن وقع الأسد/ الأب عام 1974 اتفاق فض الاشتباك مع إسرائيل.
التعليمات الإيرانية للحزب هي البقاء ضمن الخطوط المسموحة في التعاطي مع قذائف إسرائيل، ويبدو أن إسرائيل تستوعب هذه السياسة وتسير وفقها
إن إيران وتابعها حزب الله تقوم بالدور الهزيل تاركة الدم والجسد الفلسطيني يلاقي العدو الإسرائيلي وحده، بعد أن سقطت شعارات الكذب بوحدة الساحات على يد إيران وأدواتها في لبنان وسواه. ولن يدخل حزب الله في حرب ضروس مع الكيان الصهيوني قد تؤدي إلى تدمير البنية التحتية للحزب وللبنان. وذلك لأن التعليمات الإيرانية للحزب هي البقاء ضمن الخطوط المسموحة في التعاطي مع قذائف إسرائيل، ويبدو أن إسرائيل تستوعب هذه السياسة وتسير وفقها، والتي لا تريد توسيعها بينما هي مازالت في حرب واسعة وتدميرية ومنشغلة فيها مع غزة البطلة، ضمن أجواء الصمت العربي المريب..
—————————
الحرب الإسرائيلية على “غزة” أم “فلسطين”/ رضوان زيادة
يمكن القول من النهاية إن الحرب الإسرائيلية على غزة لن تحقق أهدافها السياسية التي أعلنتها إسرائيل ودعمتها فيها الولايات المتحدة، إذ تكرر إسرائيل أن هدفها من الحملة التي تقوم بها بقصف الأخضر واليابس في غزة هو القضاء على حماس، ربما تعرف إسرائيل تماما أنها لن تستطيع تحقيق هذا الهدف مهما سقط من المدنيين الأبرياء في غزة.
فحماس تزيد شعبيتها مع زيادة الحملة العسكرية، ومع الاعتراف بالأخطاء التي ارتكبتها حماس عبر خطف مدنيين وقتلهم فإن ذلك لا يبرر لإسرائيل ما تقوم به اليوم من قصف للمراكز المدنية والمشافي وتحويل غزة إلى أرض يباب دون أي تمييز بين مدني وعسكري في خرق لقانون الحرب وللقانون الإنساني الدولي.
لقد دعمت الولايات المتحدة إسرائيل في هذه الحرب حتى النهاية عبر ترديدها أنها لا تضع شروط على إسرائيل في حربها ضد حماس في غزة وعبر إعطائها إسرائيل الوقت الكافي للقيام بما تقوم به دون المطالبة بوقف إطلاق النار، وهو ما يفهم إسرائيليا أنها تستطيع الاستمرار بحملتها العسكرية حتى النهاية رغم أن كثيرا من المحليين وحتى المسؤولين الأميركيين سرا يشككون في نجاح هذه الحملة التي ستجلب كثيرا من الانتقادات لإسرائيل على المستوى الدولي.
لكن يبدو موقف المسؤولين الأميركيين وخاصة الرئيس بايدن يقوم فقط على البعد الانتخابي عبر الدعم التقليدي لإسرائيل، وأن لا جدوى انتخابية من دعم الفلسطينيين أو وضع شروط على الإسرائيليين، فاللوبي الإسرائيلي ودعم الإنجيليين لإسرائيل يعطي بعدا دينيا وشعبيا لتأييد إسرائيل فوق تأييد الفلسطينيين في الحصول على حقوقهم.
لقد طلب الرئيس بايدن من الكونغرس 100 مليار دولار دعما لأكرانيا وإسرائيل في مبادرة من شأنها أن تزيد الانقسام الأميركي حول فكرة الدعم المالي للحلفاء في ظل اضطراب الحزب الجمهوري، على طريقة الصرف وفشله في انتخاب رئيس لمجلس النواب يقوم بشكل رئيسي على الحد من الصرف كما يرغب الديمقراطيون.
لذلك يمكن القول إن الرئيس بايدن يدرك أن الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي هو موضوع إشكالي داخل حزبه الديمقراطي لكن عبر دعم إسرائيل فإنه يعتمد على دعم الحزب الجمهوري، وهو ما يزيد من الغطرسة الإسرائيلية ويمنحها الضوء الأخضر للاستمرار في هذه الحملة دون عواقب من الإدانة أو خشية من النتائج المخيبة، إذ تشعر إسرائيل أنها تريد أن ترد بأي طريقة ممكنة تستعيد بها كرامتها المجروحة بعد نجاح حماس في اختراق الحواجز الإسرائيلية داخل الأراضي الإسرائيلية المحصنة وهو ما تفهمه إسرائيل بأن يكون هناك رد قوي مهما كان الثمن على المدنيين في غزة.
ربما تستمر إسرائيل في معركتها العمياء هذه لأيام لكنها تدرك أنها لن تحقق أيا من أهدافها السياسية في هذه الحملة فهي لن تستطيع القضاء على حماس ولن تستطيع احتلال غزة بريا لأنها تدرك أن ثمن ذلك عسكريا كبير للغاية.
الغائب الوحيد في هذه المعركة هو موقف عربي موحد من الحرب الإسرائيلية، ربما كانت مواقف علنية من مصر أو الأردن لكن ليس هناك مواقف سياسية تشعر إسرائيل أن ثمن الاستمرار بالحملة سيكون كبيرا سياسيا عليها بعد أن استثمرت كثيرا في ما يسمى اتفاقيات التطبيع. حيث لم تعقد قمة عربية على الأقل في دعم للفلسطينيين على الأقل وهو ما يشعر أننا نصل إلى درك عربي جديد في فشل التنسيق السياسي على الأقل بالنسبة للقضية الفلسطينية.
تلفزيون سوريا
——————–
هل تكون غزّة بيروت 82؟/ علاء الدين الخطيب
مقدمة
ربما ما يزال الوقت مبكرًا لتوقّع النتائج الجيوسياسية، على المستوى الإقليمي والدولي، للعدوان الصهيوني الغاشم على أهالي غزة، بعد عملية طوفان الأقصى، لكنّ تصاعد الصدام المسلّح، وتزايد العنف الإسرائيلي، وتصريحات الحكومة اليمينية المتطرفة الإسرائيلية برئاسة نتنياهو عن القضاء الكامل على منظمة حماس، وارتكاب سلسلة مجازر بحقّ الفلسطينيين، ومنها تفجير مشفى الأهلي العربي في غزة، وما ظهر من المواقف الدولية والإقليمية، كلّها تعيد الذاكرة إلى حرب لبنان 1982 وحصار بيروت.
إن التاريخ لا يُعيد نفسه، لكن بعض سيناريوهات الصراع والحروب وتكتيكاتها قد تتشابه وتتكرر، خاصة عندما يكون أطراف الصراع هم أنفسهم تقريبًا. ولعل ما نشهده الآن من مأساة فلسطينية، بما يصاحبها من صراعات جيوسياسية، يُبرر لنا توقع تكرار سيناريو حصار بيروت، لكن في غزة هذه المرة.
بيروت 1882
قامت إسرائيل في 5-6 حزيران/ يونيو عام 1982 باجتياح لبنان، إثر تفاعلات الحرب الأهلية التي ضربت لبنان بدءًا من 1976، وكانت الحجة المباشرة المستخدمة هي عملية اغتيال سفيرها شلومو أرجوف في لندن، علمًا أن المسؤول عنها كانت منظمة (أبو نضال) الذي كان معروفًا أنه يعمل بمفرده، لكن الاتهامات وُجّهت إلى نظام حافظ الأسد في سورية، وإلى منظمة التحرير الفلسطينية
بعد أسبوع من القتال والمعارك مع قوات منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات، ومع بعض الفصائل اللبنانية، وبعد بعض الصدامات البرية مع الجيش السوري، وبعد معركة جوية كبيرة مع الطيران السوري؛ تمكّن الجيش الإسرائيلي من الوصول إلى طريق دمشق بيروت الدولي، ومن ثم إلى مدينة بيروت، حيث كانت قوات منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات قد تمركزت بعد انسحابها من باقي المناطق اللبنانية؛ فأصبحت قوات منظمة التحرير الفلسطينية، ومعها بضعة كتائب من الجيش السوري، محاصرة في بيروت الغربية، من قبل قوات الجيش الإسرائيلي وحلفائه من فصائل لبنانية.
استمر الحصار شهرين تقريبًا، تخللهما كثير من الصدامات والمعارك ما بين المحاصَرين والجيش الإسرائيلي، وبقيت بيروت الغربية محاصرة ومعزولة عن أي إمدادات خارجية، بهدف الضغط لتحقيق الشروط الإسرائيلية. وفعلًا تمخضت المفاوضات التي أشرف عليها الأميركيون، وغيرهم من حكومات غربية وإقليمية، عن اتفاقٍ يقضي بخروج المقاتلين الفلسطينيين من بيروت ولبنان، بسلاحهم الفردي الخفيف، وترحيلهم إلى عدة دول عربية، هي سورية وتونس واليمن والأردن. وانتقل ياسر غرفات إلى تونس مع معظم قواته، ليؤسس مقرًا جديدًا للمنظمة هناك
قُدّر عدد الضحايا المدنيين بأكثر من 10000 ضحية، خلال ما سُمي حرب لبنان 1982-1985، إضافة إلى أكثر من 1500 فلسطيني، وأكثر من 1200 سوري، وأكثر من 600 إسرائيلي، وما يقارب 2500 ضحية فلسطيني في مجزرة صبرا وشاتيلا. أما حصار بيروت، فمن غير المعروف عدد الضحايا خلاله، لكن التقديرات تشير إلى مقتل أكثر من 4000 مدني خلال الحصار.
كان رئيس الولايات الأميركية حينذاك رونالد ريغان الرئيس الأميركي المعروف الذي تُنسب إليه استراتيجيات أميركية كبيرة أسهمت في تضخيم عوامل ضعف الاتحاد السوفيتي الداخلية التي أدت إلى انهياره في نهاية الثمانينيات، والمعروف أيضًا بتأييده الكبير لإسرائيل، خاصة عند مقارنته بسلفه جيمي كارتر. أما في إسرائيل، فقد كانت حكومتها برئاسة مناحيم بيغن، وكان وزير دفاعها أرئيل شارون وكان كلاهما متفقين على أن حلّ القضية الفلسطينية ومشكلة الفصائل الفلسطينية يجب أن يتم بالسلاح وجنازير الدبابات. وقد قدّم ريغان دعمًا كاملًا ومفتوحًا لاجتياح إسرائيل للبنان، وغطى الاجتياح، سياسيًا وعسكريًا، بشكل كامل، حتى حقق شارون أهدافه بإخراج مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، ودعم الفصائل اللبنانية المتحالفة معه في ذلك الوقت.
ليس هنا مقام الدخول بتفاصيل حرب لبنان وحصار بيروت، لكن ما يهمّنا هو إعادة رؤية بعض المفاصل المهمة في صيف 1982. فالرؤية الإسرائيلية كانت تقوم على ضرورة تحييد منظمة التحرير الفلسطينية وإخراجها من لبنان، لأنها كانت متحالفة مع فصائل لبنانية كان يمكن أن تحوّل لبنان من دولة شبه محايدة في الصراع العربي الإسرائيلي، إلى دولة مواجهة وقاعدة لانطلاق العمليات الفلسطينية ضد إسرائيل. وكذلك كانت إسرائيل تحت حكومة متطرفة معروفة بعدائيتها للفلسطينيين والعرب مع بيغن وشارون، في مواقع القرار الأقوى في الحكومة الإسرائيلية. أما رونالد ريغان فقد كان رئيسًا أميركيًا قويًا أسس للعديد من الاستراتيجيات التي غيرت الولايات المتحدة الأميركية والعالم، سياسيًّا واقتصاديًّا، ورغم انشغاله آنذاك بالحرب الباردة ضد المعسكر السوفييتي، وإعادة تشكيل السياسات الاقتصادية الأميركية، فإنه كان صاحب مشروع لمنطقة الشرق الأوسط، عبر زيادة دعم إسرائيل لتتفوق على كل جيرانها.
وعلى الرغم من أن الاتحاد السوفييتي كان يُعدّ قوة عالمية ضخمة، فقد كان مشغولًا بمشاكله الداخلية والاستنزاف الاقتصادي الذي جرته إليه الولايات المتحدة الأميركية، عبر إطلاق مشروع حرب الفضاء، والأهم كان انشغاله بحرب مكلفة جدًا في أفغانستان، حيث استطاعت الإدارة الأميركية -من خلال دعم الجهاديين الإسلاميين- استنزاف السوفييت بحرب طويلة ومرهقة ومكلفة جدًا. وبكل الأحوال، لم يكن الاتحاد السوفييتي بموقع يسمح له بالتدخل المباشر السياسي أو العسكري في حرب لبنان، إلا عبر حليفه حافظ الأسد في سورية، الذي كان أساسًا قد أرهق الدولة والجيش السوري بما لا يطيقونه منذ بداية تدخله في الحرب الأهلية اللبنانية 1976.
لم تكن الدول العربية أفضل حالًا مما اعتادت عليه خلال عقود طويلة، فقد كانت حكوماتها منقسمة ومتخاصمة سياسيًا، وأحيانًا متصارعة. فمصر كانت ما زالت بحالة شبه عزلة عن الدول العربية بدأت بعد توقيع اتفاقيات كامب ديفيد، التي بدورها أخرجتها من معادلة الصراع العربي الإسرائيلي.
أما النقطة الأهم، فكانت أن حافظ الأسد قد عمل منذ 1976 على منع أي تدخل عربي في لبنان إلا عبر موافقته ورضاه، وهذا ما كانت كثير من الدول العربية ترفضه، ولا سيما العراق برئاسة صدام حسين الذي كان يخوض حربًا قاسية مع إيران بزعامة الإمام الخميني، وكذلك دول الخليج العربي التي كانت على علاقات سيئة مع نظام حافظ الأسد، بسبب دعمه للخميني في حرب العراق وإيران. وهذا يعني أن اللاعب العربي الوحيد ذا التأثير المباشر على الأرض كان حافظ الأسد المعزول عربيًا وغربيًا، والذي كان مشغولًا بمواجهة معارضيه الداخليين، بعد المواجهة الدامية مع الإخوان المسلمين 1979-1980، وبمحاولة تغطية المشاكل الاقتصادية الكبيرة التي كان يعانيها السوريون.
كان لبنان في أسوأ أحواله، إذ كان منقسمًا ما بين قادات عدة فصائل وميليشيات مسلحة متحاربة فيما بينها، وكل فصيل منها مرتبط بداعم خارجي إقليمي ودولي، وبدون حكومة ورئاسة مركزية حقيقية. أما الفلسطينيون فقد كانوا أيضًا منقسمين بين فصائل وقادة مختلفين، رغم أن ياسر عرفات كان الزعيم الأقوى بينهم، وفوق ذلك كانوا أيضًا منخرطين بالحرب اللبنانية الأهلية.
غزة فلسطين 2023
لا تبدو الحال الآن أفضل من 1982، بالنسبة إلى الفلسطينيين، على كل المستويات الداخلية والخارجية. فعلى الرغم من أن الفلسطينيين بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية وقّعوا اتفاقيات أوسلو[ ، واكتسبوا سلطة شكلية في الضفة الغربية وغزة، فإن قاداتهم منقسمون بشكل حاد، منذ سنين طويلة، ما بين السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وما بين حماس في غزة، وهذا الانقسام لم يكن دائمًا سياسيًا، بل وصل بالعديد من المراحل إلى مستوى الصدام المسلح.
يضاف إلى ذلك أن واقع الضفة الغربية لا يُعطي السلطة الفلسطينية سوى سيطرة شكلية، والفلسطينيون هناك يعانون الأمرين، بسبب تقسيم مناطق السيطرة الفلسطينية وفق توزع المستوطنات الإسرائيلية ضمن أراضي الضفة، حيث تتمدد حدود كل مستوطنة بشكل كبير لخلق مناطق آمنة حول هذه المستوطنات، فيصبح التواصل البري بين القرى والمدن الفلسطينية صعبًا ومرهقًا، رغم التقارب الجغرافي. أما فلسطينيو غزة، ففي حال أسوأ، حيث إنهم تحت حصار مقيم ومستمر منذ سنين طويلة، مع سوء إدارة، ويزيد ذلك من إرهاق الحياة وصعوبة البقاء. وفوق كل ذلك، لا يكاد الفلسطينيون في الضفة أو غزة ينعمون ببضعة شهور من السلام بعيدًا عن الاعتداءات الإسرائيلية المستمرة.
أما سياسيًّا، فإن السلطة الفلسطينية حافظت على علاقات متوازنة مع جميع الدول الإقليمية والدولية، عبر سياسة براغماتية متوازنة، رغم ضعفها الداخلي بسبب الشروط الإسرائيلية المجحفة. أما حماس، فبسبب خطها الإسلامي المعلن وانحيازها للتقارب مع النظام الإيراني والسوري، توترت علاقاتها مع كثير من دول المنطقة، وخاصة دول الخليج العربي، باستثناء قطر، ولم تكسب عمليًا أي حليف دولي وازن. ولا يبدو أن قادتها قد أحسنوا اللعبة السياسية التي لا بد من خوضها بأي حال.
الشرق الأوسط 2023
لم تأتِ عشرينيات الألفية الثالثة بما هو أفضل لمنطقة الشرق الأوسط، فما زالت عدة دول عربية غارقة في حروب داخلية بتدخل دولي كبير. فسورية، وهي الدولة المهمة جدًا بالتفاعل مع القضية الفلسطينية منذ اغتصاب فلسطين لليوم، غارقة بمأساة لم يشهدها تاريخ سورية كله، ما بين عنف ودموية النظام الأسدي وحلفائه، وما بين أكبر تدخل دولي شهدته دولة بحجم سورية في العصر الحديث . يضاف إلى ذلك أزمات ومآس تضرب اليمن والعراق وليبيا والسودان ولبنان؛ وأزمات اقتصادية وسياسية عميقة تضرب في مصر والجزائر؛ أما دول مجلس التعاون الخليجي العربي فبالكاد استطاعوا تجاوز أزمات عميقة فيما بينهم، أضعفت قوة المجلس من كل النواحي، فضلًا عن أن دول المجلس ما زالت مترددة ما بين تهديد إيراني مستمر، وما بين الانقسام بين معسكري الحرب الباردة الثانية، المعسكر الغربي ومعسكر روسيا والصين.
كذلك ما زالت إيران مسجونة تحت حكم نظام الوليّ الفقيه المتحالف مع روسيا ومعسكرها، والمشارك الكبير بالمسؤولية عما يحصل في عدة دول عربية تعاني أسوأ الأزمات والحروب، والذي يتعايش بالتجارة بشعار مقاومة الغرب الشيطاني وحليفته إسرائيل. فضلًا عن تدهور اقتصادي ومعاشي أرهق الشعب الإيراني خلال عقود، بسبب فساد نظام الحكم واستنزافه لإمكانيات الدولة لخدمة سياساته الخارجية.
من المهم هنا التأكيد أن النظام الإيراني ليس أقلّ من النظم العربية استغلالًا للقضية الفلسطينية لشَرْعنة سلطته وحكمه داخل إيران نفسها. فمنذ سيطرة الخميني على الحكم، اعتمد بفرض شرعية حكمه على شرعنة دينية طائفية استغلت التدين الإسلامي الشيعي الاثني عشري لغالبية الشعب الإيراني، وبالدرجة الثانية اعتمد على عداء مستمر ضد الولايات المتحدة وإسرائيل، فرفع شعار “الشيطان الأميركي”، وبالدرجة الثالثة اعتمد على بروباغندا ادعاء عدائية المحيط العربي السني لإيران؛ وبالتالي أسس لمظلومية مستمرة ومعركة مفتوحة تبرر أي سياسة داخلية أو خارجية بمواجهة العداء الخارجي.
ربما تكون تركيا هي أكثر دول المنطقة استقرارًا وأفضلها حالًا، لكنها مع ذلك تعاني مشاكل اقتصادية عميقة ومتزايدة، فضلًا عن مشاكل سياسية داخلية اتضحت خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وتزايد بأزمات سياسية خارجية لم تصمد أمامها سياسة “صفر مشاكل”. وبناء على ذلك، فالدول العربية والشرق الأوسط ما زالت مشتتة وبأزمات عميقة، وغالبًا مع حكومات لا تملك رؤى حتى لصيانة دولهم من باب صيانة سلطتهم.
الوضع العالمي 2023
منذ غزو بوتين لأوكرانيا، شباط/ فبراير 2022، بدأت عوامل الانفجار في الساحة الجيوسياسية العالمية بالانفجار بتسارع كبير، بعد أن كانت مضبوطة إلى حدٍ ما تحت السطح، فانطلقت ما يمكن تسميتها الحرب الباردة الثانية، بين معسكرين. المعسكر الأول يضم الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأميركية مع بعض الحلفاء التاريخيين مثل اليابان وكوريا الجنوبية، أما المعسكر الثاني فقد ضم روسيا بوتين ومعها بعض الحلفاء الاستراتيجيين، مثل بيلاروسيا وإيران والنظام الأسدي في سورية، وظهر تردد حذر عند الصين، مع ميل واضح إلى روسيا، كذلك مال بعض الحلفاء التقليديين للغرب باتجاه روسيا، مثل الهند ودول الخليج العربي ومصر.
لكن مع تصاعد الأزمة الروسية الأوكرانية، وتصاعد أزمات متراكمة في السوق العالمي والصراعات الجيوسياسية، تزايدت الأزمة بين الولايات المتحدة الأميركية والصين، إلى أن وصلت إلى منعطف حاسم، إثر انعقاد مؤتمر قمة العشرين الذي عُقد في الهند ما بين 9 و10 أيلول/ سبتمبر، الذي أبرز غضبًا صينيًا وروسيًا، ونجاحًا أميركيًا أوروبيًا لإعادة جذب دول الخليج العربي والهند، وتُوِّج بعقد صفقة كبرى مع الهند ودول الخليج العربي، لبناء الممر الاقتصادي للهند الشرق الأوسط وأوروبا، وهو مشروع ربط بحري وبري يبدأ من الهند، العملاق الآسيوي الصاعد بقوة والمنافس للصين، ويمرّ بالإمارات العربية المتحدة والسعودية والأردن وإسرائيل، ويصل إلى أوروبا عبر البحر. هذا المشروع يُعد أكبر تحدٍ لمشروع الصين الضخم طريق الحزام Belt and Road Initiative الذي استثمرت به الصين مبالغ ضخمة، وبذلت الكثير لضمان نجاحه، ولكسب مكانة اقتصادية كبيرة في السوق العالمي. فضلًا عن أن المؤتمر شهد نوعًا من إعادة التقارب، من بعد الفتور بالعلاقات، بين الغرب وحلفائه في الخليج العربي والهند.
وهنا، لا بد من الإشارة إلى أن الرد الصيني جاء سريعًا، من خلال استقبال بشار الأسد في بكين استقبالًا رسميًا، في 21 تشرين الأول/ سبتمبر، أي بعد أقل من أسبوعين من قمة العشرين. وعلى الرغم من أن هذه الزيارة أتت تحت عنوان بطولة الألعاب الآسيوية، فإنها تحمل بوضوح انتقالًا بالموقف السياسي الصيني، لتصعيد المجابهة مع السياسة الأميركية، وميلًا إضافيًا إلى روسيا الداعم الأهم لنظام بشار الأسد، فالإدارة الأميركية انتقلت للحسم النهائي بموقفها من النظام الأسدي بعد غزو بوتين لأوكرانيا، ضمن سياسة الحشد ضد سياسة بوتين، وضرب كل حلفائه ومناطق تورطه العسكري؛ فكان هذا الاستقبال الرسمي للأسد في بكين رسالة تحدٍّ واضحة للسياسة الأميركية.
الوضع العالمي في نهاية صيف 2023 كان قد دخل مرحلة سخونة عالية، تؤكد أن الحرب الباردة الثانية قائمة وتستعر معاركها المتحكَّم فيها عن بعد، ويزيد من إشارات ميلان الصين أكثر إلى روسيا في مواجهة الغرب.
بداية تشرين الأول/ أكتوبر 2023
لم تكن قمّة العشرين منطلق مرحلة سياسة التطبيع مع إسرائيل، فهذا التوسّع بتطبيع العلاقات بين الدول العربية وإسرائيل بدأ منذ سنوات، لكن الإشارات لتزايد احتمال انضمام السعودية رسميًّا إلى هذه الاتفاقيات تزايدت بعد قمة العشرين. فتوسيع التطبيع العربي الإسرائيلي كان مطلبًا إسرائيليًا أميركيًا قديمًا، لكنه شهد دفعة كبيرة إبان عهد ترامب، وتزايد دعم أميركا له مع بايدن. هذا المطلب كان أيضًا ركيزة أساسية لدعاية رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو طوال سنوات، فهو حاول إقناع الداخل الإسرائيلي بأن توسع التطبيع العربي مع إسرائيل رسميًا سيخفف من الضغط الداخلي والخارجي على إسرائيل، للقبول بالتفاوض مع الفلسطينيين، ويعطي إسرائيل حرية حركة أكبر بما يخص أوضاع الضفة الغربية وغزة؛ على الرغم من أن المنطقتين عاشتا أسوأ الظروف خلال العشرين سنة الماضية، وازدادت حالهما سوءًا مع رفض نتنياهو لأي تفاوض أو لقاء مع الفلسطينيين منذ عام 2014. لكن رؤية نتنياهو وحلفائه السياسيين كانت ترى أن ترسيخ التطبيع الرسمي مع الدول العربية الوازنة سيقضي على أية آمال فلسطينية بالعودة للتفاوض وتحصيل أي مكسب، ويضمن أمن إسرائيل؛ بعبارة أخرى: السعي لتجميد القضية الفلسطينية من باب أنها موضع خلاف فلسطيني إسرائيلي، من خلال فرض الأمر الواقع بالتطبيع الواسع، وتصبح القضية الفلسطينية أقرب إلى الشأن الداخلي الإقليمي منها إلى محور الصراع في المنطقة.
لم تتوقف الاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين في الضفّة الغربية وغزة في العام 2023، فكان الشهر التاسع، مثل تاريخ الاحتلال الصهيوني لفلسطين، مليئًا بالانتهاكات والاعتداءات الإسرائيلية، خاصة بعد عام 2022 الذي سجلت خلاله هيومن رايتس ووتش مقتل 147 فلسطينيًا بأعلى معدّل قتل سنوي منذ 2005، ضمن ما يسمى الاعتداءات اليومي. بل إن تزايد شدة الاعتداءات الإسرائيلية في الشهر الأول من عام 2023، واجتياح مخيم جنين، واستباحة ساحات المسجد الأقصى، أجبرت السلطة الفلسطينية في ذلك الشهر على قطع التعاون الأمني مع إسرائيل. كذلك فإن سياسة ضم الأراضي الفلسطينية لإسرائيل لم تتوقف، كما تؤكد ذلك منظمة “السلام الآن” الإسرائيلية. يدلّ هذا على الوضع الفلسطيني في الداخل كان يزداد سوءًا وصعوبة مع مرور الزمن، خاصة أن الملف الفلسطيني أصبح خلال سنوات طويلة موضوعًا على الرفّ المهمل في غالبية الفعاليات السياسية الإقليمية والدولية، وغدا خطر تجميد القضية الفلسطينية أكثر وضوحًا وضغطًا.
طوفان الأقصى
فاجأت عملية طوفان الأقصى العالم كلّه، بدءًا من إسرائيل، ومرورًا بكل دول المنطقة، ووصولًا إلى الدول الكبرى. ولن نستعرض هنا أحداث هذه العملية وتفاصيلها، التي باتت معروفة عند كثيرين.
كان الرد الإسرائيلي، كما هو متوقع، عنيفًا جدًا، ولكنّه تجاوز كلّ التوقعات، وجاء مع دعم غربي مفتوح من قبل الإدارة الأميركية وكثير من حكومات الاتحاد الأوروبي، وتجلّى ذلك في زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى إسرائيل، 18 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وتصريحاته الداعمة بلا حدود لسياسة نتنياهو وحكومته. مقابل صمت ومراقبة من جهة روسيا والصين، حيث اكتفت الدولتان بإعاقة قرار لمجلس الأمن يدين حركة حماس، وتقديم مشروع قرار لوقف إطلاق النار قدّمته روسيا، 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، ورُفض في مجلس الأمن الدولي.
لم تتراجع حدة الاعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزة والضفة الغربية، حتى ساعة كتابة هذه الورقة، بل وصلت إلى المرحلة الأكثر دموية بتفجير مشفى الأهلي العربي في غزة، الذي أودى بحياة أكثر من 800 مدني فلسطيني؛ فالواضح أن هدف الحرب المفتوحة الإسرائيلية الآن يتجاوز الانتقام المباشر إلى خطة أو رغبة قديمة لدى نتنياهو وحكومته في الخلاص النهائي من أزمة قطاع غزة وسكانه.
ترافقت الاعتداءات الإسرائيلية مع انحياز إعلامي غربي واضح إلى وجهة النظر الإسرائيلية، وبانقلاب ملحوظ بسلوك الإعلام الغربي في العقدين الماضيين، حيث كان أقلَّ انحيازًا، نسبيًا، ومع نشر أكاذيب ومبالغات حول حجم الخسائر الإسرائيلية والخطر المحيق بإسرائيل.
الهدف المعلن الرسمي للاعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزة كان القضاء على حركة حماس نهائيا، أما الهدف غير المعلن رسميًا، وهو معروف عند أعضاء حكومة نتنياهو، فهو الخلاص من الفلسطينيين في قطاع غزة. لكن السؤال الذي يسأله الجميع: كيف يمكن لنتنياهو وجيشه تحقيق هدفه؟ فذلك يقتضي تدخلًا بريًا واسعًا في القطاع لقتل أعضاء حركة حماس وحلفائها أو القبض عليهم، فالقصف الجوي والمدفعي لن يؤدي إلى القضاء على حماس بأي شكل. وبناء على ذلك كان السؤال: هل سيطور الجيش الإسرائيلي عملياته إلى عملية اقتحام بري؟!
تشير معظم التقديرات والقراءات الخبيرة بالعمل العسكري، وخبرات إسرائيل وغيرها من دول حول العالم، إلى أن اقتحام المدن الكبيرة والتجمعات السكانية الكبيرة برًا، مع وجود قوات دفاع مقاومة ومدربة ومتحصنة، يكاد يكون شبه مستحيل من دون ارتكاب مجازر جماعية تتخطى كل المسكوت عنه بتاريخ فلسطين والعالم؛ فضلًا عن حتمية وقوع خسائر بشرية ضخمة جدًا لدى الجيش الإسرائيلي، بما قد يفوق أي خسارة سابقة ضمن تاريخ قضية فلسطين.
من بيروت إلى غزة
بالمقارنة بين ما حصل في حرب اجتياح لبنان عام 1982 وحصار بيروت، وبين الحالة القائمة الآن في فلسطين وقطاع غزة، يبدو أن سيناريو حصار بيروت قد يكون الأكثر احتمالًا لإنهاء الأزمة كما يتمناها نتنياهو وحكومته.
في الحالين، كان هناك رضًى ودعم أميركي، وتأخير أميركي لأي حراك سياسي أو حتى إعلامي يظهر موقف الطرف الآخر ومأساته. وفي الحالين، كان الموقف الإقليمي العربي مشتتًا وغارقًا بمشاكله وتنافراته، والآن يُضاف إلى ذلك الأزمة التي تعيشها إيران داخليًا واستغلال النظام الإيراني للقضية الفلسطينية لمصالحه السياسية.
وهدف الحكومة الإسرائيلية في العام 2023 هو الخلاص النهائي من منظمة فلسطينية مسلحة هي حماس، كما أرادت حكومة بيغن الخلاص النهائي من مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان في العام 1982.
في حرب لبنان، استطاع الاجتياح الإسرائيلي الكبير للبنان إجبار منظمة التحرير الفلسطينية على تجميع قواتها في بيروت غربية، في مدينة كبيرة مزدحمة سكانيًا. والآن، فإن حماس محصورة عمليًا في قطاع غزة منذ أكثر من عقدين في منطقة شديدة الازدحام السكاني.
كما هي حال غزة الآن، فإن الجيش الإسرائيلي عام 1982 واجه خيار الاجتياح البري لبيروت الغربية، لكنه استبعده لأنه كان خيارًا خطرًا ومكلفًا جدًا. فقرر وقتها اللجوء إلى الحصار الكامل لبيروت الغربية.
كذلك فإن الموقف العالمي والإقليمي الآن محكوم أميركيًا وغربيًا بصرامة. فقد أوصلت إسرائيل والإدارة الأميركية قرارهما الحاسم بمنع أي تفكير من قبل النظام الإيراني وحزب الله بالتدخل المباشر العسكري المؤثر في الأزمة، وكانت الرسالة الحاسمة والأوضح هي تدمير مطاري دمشق وحلب الدوليين بدون أي سبب مباشر؛ وبكل الأحوال، فقد أتقن النظام الإيراني المتاجرة بالقضية الفلسطينية إعلاميًا، خاصة عبر حزب الله الأداة الميليشاوية الإيرانية الضاربة بالمنطقة.
ومع أن روسيا، وإلى حد ما الصين، على خلاف وتوتر كبير مع الولايات المتحدة الأميركية، فإنّ كلتا الدولتين تعترف وتُقرّ بأن موضوع إسرائيل هو ضمن الخطوط الحمراء الأميركية التي لا يمكن أن يتدخلا فيها بشكل حاسم أو مؤثر. وفي كل الأحوال، لا تملك روسيا القوة السياسية الكافية، وإن أرادت التدخل، والصينُ ما زالت بعيدة جدًا عن مواجهة سياسية مباشرة مع الغرب بسبب إسرائيل.
هل ينجح حصار غزة كما نجح في بيروت بإخراج المقاتلين الفلسطينيين؟
من المستبعد إلى حد كبير -كما أسلفنا- أن تقوم إسرائيل بتنفيذ اجتياح بري لقطاع غزة، وفي هذه الحالة، يكون الخيار الأكثر عملية وواقعية بالنسبة إلى الحكومة الإسرائيلية هو إطباق حصار خانق على قطاع غزة، لحرمان القطاع من القلة القليلة التي كان يملكها للاستمرار بالعيش، مع ضغط عسكري جوي ومدفعي يومي، والدخول بمعركة صبر واحتمال بين الطرفين.
هذا الحصار ممكن عمليًا ولوجستيًا، مقارنة بالوضع العسكري والجغرافي لقطاع غزة ولحجم القوة العسكرية الإسرائيلية المدعومة الآن من أميركا بشكل مفتوح، عسكريًا وسياسيًا، فرفض الاقتراح الروسي إصدار قرار من مجلس الأمن الدولي لإيقاف إطلاق النار منَحَ عمليًا إسرائيل وقتًا كافيًا لتحقيق أهدافها العسكرية، وإلحاق أكبر الخسائر الممكنة بالفلسطينيين. وكذلك هو ممكن سياسيًّا، حيث إن القوى الدولية المؤثرة إما أنها تدعم الموقف الأميركي مثل الأوروبيين، وإما أنها صامتة وتكتفي بالتضامن اللفظي مثل الصين وروسيا.
السؤال الأهم في هذا السيناريو هو الموقف المصري؛ فالجهة الوحيدة التي يمكن أن تكسر هذا الحصار هي الحكومة المصرية التي تستطيع عبر سيناء كسر حدة الحصار، من خلال تأمين الإمدادات الإنسانية من طعام وماء وطاقة ولوازم طبية. لكن هذا أيضًا محاطٌ بكثير من الغموض حول موقف ورؤية الحكومة المصرية التي تعاني أساسًا مشاكل اقتصادية وسياسية واجتماعية ضخمة، وهي ترتبط بمصالح كبيرة مع الغرب ومع حكومات المنطقة العربية، وإلى الآن لا يبدو أن الموقف الرسمي العربي قريب حتى من الإدانة اللفظية المباشرة للسياسة والاعتداءات الإسرائيلية، فضلًا عن صعوبة أن تشكل الحكومات العربية غطاءً سياسيًا قويًا يشجّع الحكومة المصرية على كسر الحصار.
فإذا قامت إسرائيل بحصار قطاع غزة، كما وصفنا هنا، فهل يمكن أن تنجح في فرض تسوية مشابهة لتسوية حصار بيروت، وإخراج مقاتلي حماس مع سلاحهم الخفيف من قطاع غزة وتوزيعهم على دول عربية أخرى؟ من الصعب جدًا الإجابة عن هذا السؤال الآن، أو توقع نتائج هذا الحصار، فعلى الرغم من التشابه بين حال بيروت 1982 وغزة 2023، فإن الزمن والواقع والعالم أيضًا مختلف. لكن المؤكد والمؤلم أن الخسائر الفلسطينية لن تكون قليلة، بل ربما تكون من الأكثر مأساوية بتاريخ القضية الفلسطينية. وهنا لا بد من الإشارة إلى أنه مهما كانت نتائج العدوان الإسرائيلي على غزة، فإن البنية السياسية لإسرائيل تعرّضت لزلزال سيؤدي غالبا إلى تغيير هذه البنية من جذورها، سياسيّا واستخباراتيًا وربما عسكريًا.
لعل العامل الوحيد المختلف الآن هو أن الاهتمام الإعلامي بما يحدث في غزة تجاوز التوقعات، وعلى الرغم من الانحياز الواضح في الإعلام الغربي، وهو الأكثر تأثيرًا، فإن امتداد الوقت بهذا الصدام المباشر قد يؤدي إلى خفض التوقعات الإسرائيلية، خصوصًا أن إخفاء حقيقة ما يجري على الأرض لا يمكن أن يصمد مدة طويلة، فالرأي العام الغربي بدأ يتغيّر عما كان عليه صبيحة انطلاق عملية طوفان الأقصى، وحتى اعتراض بعض السياسيين الغربيين بدأ يتزايد مع تغوّل العنف والدموية الإسرائيلية في حربها ضد غزة.
لا بدّ هنا من التأكيد أيضًا أن ما يسود عددًا من وسائل الإعلام العربية، حول توقّع حركةٍ ما تأتي من النظام الإيراني أو حزب الله لقلب المعادلة، إنما هو محض دعايات إعلامية عاطفية لا تستند إلى أي مُعطًى موضوعي حقيقي؛ فالنظام الإيراني استخدم الصراع الفلسطيني الإسرائيلي -كما وضحنا- كوسيلة ومبرر لشرعنة حكمه منذ ثمانينيات القرن الماضي إلى الآن، ومن ضمن أدواته كان حزب الله، والوضع الدولي الآن، في ظل الحرب الباردة وحسم الإدارة الأميركية وحساسية موقف روسيا والصين الحليفين الأهم بالنسبة لإيران، سيَحول دون أي تحرك حقيقي مؤثر. حتى لو أخذنا بهذا الاحتمال، على ضعفه، فإن الموقف الأميركي متمسك بالتصدي له ودعم إسرائيل مباشرة، كما تؤكد الحركة العسكرية الكبيرة لناقلات الطائرات الأميركية وقواتها البحرية.
خاتمة
لا نجزم من خلال هذه القراءة بأن هذا ما سيحدث في غزة فلسطين، لكننا نقول إنه سيناريو قائم ومحتمل أكثر من بقية السيناريوهات. ويمكن الجزم أن “طوفان الأقصى” قد أعاد القضية الفلسطينية إلى الصدارة، وأجبر كل الحكومات على إعادة الحسابات، بدءًا من الإدارة الأميركية والحكومات الأوروبية، وصولًا إلى حكومات المنطقة. هذا الزلزال سيؤدي إلى مستقبل لا يمكن الجزم به الآن.
والسؤال الأساسي الذي ظهر منذ انطلاق عملية “طوفان الأقصى”: هل أعدّت قيادات حماس السياسية عُدّتها السياسية لما بعد العملية؟ وهل هناك ما يدلّ على أن قيادات الفلسطينيين السياسية ستُعيد التوحّد لتمثيل الطرف الفلسطيني وقيادة المعركة السياسية التي تختم أي صراع عسكري، مهما كان نوعه؟ الواقع أنّ تاريخنا العربي والفلسطيني مليءٌ بالفشل السياسي، إذْ لم يستفد من أي انتصار عسكري، ولم يستطع التخفيف من خسائر أي هزيمة عسكرية، ولعلّ هذا ما يزيد من القلق والتساؤل، ويحرّض أملًا ضروريًا للاستمرار.
١ موقف الولايات المتحدة الأمريكية من القضية الفلسطينية 1978-1993، د. نكتل عبد الهادي عبد الكريم محمد، دار المعتز للنشر والتوزيع، 2016، ISBN 97965003313 ٢ حرب لبنان من الشقاق الوطني إلى النزاع الإقليمي، سمير قصير، دار النهار للنشر-بيروت، 2007، ISBN 978-9953-74-145-1
٣ ياسر عرفات المعروف بلقب أبو عمار، رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ولاحقًا رئيس السلطة الفلسطينية، 1929-2004
٤ حزيران/ يونيو 1982، من أكبر المعارك الجوية التي حصلت بين سلاح الجو الإسرائيلي والسوري، ونتج عنها خسارة الجيش السوري لنحو 90 طائرة حربية بسبب التفوق التقني الكبير بين الطرفين.
٥ الأسد، الصراع على الشرق الأوسط، باتريك سيل، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر-بيروت، الطبعة العاشرة 2007
رونالد ريغان، 1911-2004، الرئيس الأربعين للولايات المتحدة الأمريكية بين عامي 1981 و1989
مناحيم بيغن، 1913-1994، أحد مؤسسي منظمة أرغون الصهيونية، رئيس الحكومة الإسرائيلية بين 1977 و1983
أرئيل شارون، 1928-2014، رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق 2001-2006
اتفاقيات أوسلو هي مجموعة من التفاهمات بين حكومة إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، تضم إعلان المبادئ حول ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي (المشهور باتفاق أوسلو)، الموقع في واشنطن في 1993
الصراع الدولي والأزمة السورية: الأسباب والنهايات، علاء الخطيب، مركز مينا للأبحاث وموقع بيت السلام، 09/01/2018
الحرب الباردة الثانية، بدأت في سوريا واشتعلت في أوكرانيا، علاء الخطيب، موقع بيت السلام، 12/09/2022
تحليل خبراء لقمة العشرين Experts react: Did India’s G20 just crack the code for diplomatic consensus، معهد أتلانتيك، 10/09/2023
مشروع ضخم صيني يهدف إلى ربط الصين أولًا بأوروبا ثم بالشرق الأوسط وإفريقيا عبر آسيا الوسطى، وقد استثمرت به الصين عشرات بلايين الدولارات منذ إطلاق المشروع عام 2014.
الدعم الصيني غير العادي للنظام الأسدي، علاء الخطيب، موقع بيت السلام، 13/11/2019
إسرائيل وفلسطين أحداث 2022، تقرير سنوي، هيومن رايتس ووتش
رسالة السلام الآن لرئيس الولايات المتحدة الأمريكية والأمين العام للأمم المتحدة: لا تصدقوا نتنياهو. وحكومته تقوم فعليًا بضم الأرض الفلسطينية المحتلة، منظمة السلام الآن الإسرائيلية، 20/09/2023
مركز حرمون
————————
قناديل صغيرة من دمشق إلى غزة/ زينة شهلا
عندما كنا صغاراً، كان جيراننا في ذات البناء، “عكّاويين” من فلسطين. كانا زوجين لطيفين جداً، يقطنان في الكويت، ويقضيان فصل الصيف هنا في دمشق، وكان أهلي يحبونهما كثيراً. علمت مع الأيام بأن السيدة، أم أسامة، من عائلة كنفاني، وأنها ذات نظر ضعيف وأصابع مقطوعة في قدميها، بسبب ارتفاع مفاجئ في سكر الدم أصابها إثر حزنها الشديد عندما توفي أخوها، غسان كنفاني، مع ابنتها لميس، في تفجير سيارة في بيروت عام 1972. كانت لطيفة جداً، وتهدينا كل مرّة نزورها فيها أصابع لذيذة من الشوكولا، وأيضاً قصصاً قصيرة من تأليف أخيها غسان.
كانت أم أسامة وأبو أسامة، واللذان توقفا قبل سنوات طويلة عن المجيء إلى دمشق ثم توفيا في الكويت، هما مدخلي لبداية معرفتي بقضية اسمها “فلسطين”. كنت أحبّ على الأخص قصة “القنديل الصغير” لغسان، وفيها يطلب الملك من ابنته حمل الشمس إلى القصر، وتعلم أنها لخوض هذا التحدي عليها أن تهدم أسوار القصر، وتعتمد على عموم الناس والطبقات المهمّشة ليحملوا لها نور قناديلهم، فيدخلوا ومعهم الضوء الذي سيبدو وكأنه الشمس فعلاً.
بشكل مشابه، أعتقد بأن لكلٍّ منّا، نحن السوريين، مدخلاً خاصاً به/ا نحو القضية الفلسطينية التي نرتبط بها ارتباطاً لا أعرف على الأغلب كيف أفسّره، لكنه لا يحتاج لكثير من النقاش أو السؤال عند الحديث عنه. لكل منا حكاية، أصدقاء، ذكريات، والكثير من التفاصيل التي أعود اليوم لأراها بوضوح، وقد دخلت المعارك والأحداث الدموية في غزة، وعموم فلسطين، أسبوعها الثالث بعد عملية “طوفان الأقصى”.
بعيداً عن الشعارات وحملات التضامن الهائلة عبر مواقع التواصل الاجتماعي من أغلب من هم حولي، يخيّم علينا اليوم في دمشق حزن ثقيل ممزوج بالعجز، وقدرة مكبّلة على الفعل، وسط مشهد معقد للغاية، في سوريا نفسها وفي عموم المنطقة.
أسير مع بعض الأصدقاء وسط عتمة تلف شوارع المدينة، من شرقها إلى غربها، مع ساعات الانقطاع الطويلة للكهرباء، وألمح محطات وقود تصطف عليها عشرات السيارات بانتظار دورها لتملأ خزاناتها الفارغة. نمرّ بجانب لوحة إعلانية سوداء كتب عليها “حداد… شهداء مستشفى المعمداني بقطاع غزة”، وهي نفسها كانت تعلن الحداد قبل أسبوع على “شهداء الكلية الحربية في حمص”، والأعلام التي نُكّست حينها عادت لتُنكّس مرة أخرى، كأننا في عزاء طويل يأبى أن ينتهي، لكنه عزاء مشروط بأن يموت منّا المئات دفعة واحدة، وإلا فإن الموت يكون خبراً عابراً، عادياً.
أفكّر: “ما الذي يمكننا القيام به وسط كل هذا الجنون؟ ما الذي نريد أو نستطيع حقاً قوله من بلد منهك بعد اثني عشر عاماً مستمراً من الحرب الطاحنة، وبالكاد بات قادراً على احتضان أبنائه؟”. لا إجابة.
يحفّزنا هذا الموت الجماعي لأن نجتمع وسط دمشق، شبان وشابات يوحدهم الشعور بالغضب، والخذلان. تنطلق هتافات منددة بالاحتلال والقصف اليومي، والتخاذل العربي، والصمت العالمي، ومتحالفة مع غزة والأقصى. تقول لي صديقة بجانبي: “لكني اليوم لا أخرج فقط لأجل غزة، فأنا حزينة أيضاً على الموت المستمر في سوريا دون توقف”.
في اليوم التالي نجتمع في مخيم اليرموك جنوب دمشق، والذي كان شاهداً على واحد من أعنف فصول القتال بين القوات الحكومية وقوات المعارضة خلال سنوات الحرب، بعد أن كان أكبر مخيم للاجئين الفلسطينيين في سوريا، ونقطة تجمع حيوية، يسكنها فلسطينيون وسوريون على مدار عقود. ألتقي بنساء وأطفال جاؤوا من خارج المخيم، وآخرين ممن بقي من السكان ولم ينزح بعيداً، أو عاد مؤخراً ليعيش في منزل نصف مدمّر، دون سقف أو نوافذ أو أبواب على الأغلب. أفكّر: “منكوبون جاؤوا بعفوية للتضامن مع منكوبين في بلد آخر في بقعة منكوبة بأكملها”. مجدداً، لا شعور سوى الغضب المتراكم، والذي لا أعرف ماذا سنفعل به حقاً.
تصلنا رسالة من صديقتنا الفلسطينية التي تقيم عائلتها في دمشق منذ نكبة الـ48، بأنها ستعدّ لنا طبقاً غزّاوياً هو “البيصارة”، من الفول والملوخية والثوم والبصل، وتدعونا كي نجتمع ونصلّي لغزة وأهلها. الاجتماع مع الأصدقاء وتبادل الحزن والعزاء والعناق والأحاديث عن فلسطين، هو أفضل ما نستطيع القيام به في هذه الأيام الحالكة. تحدّثنا عن خروج عائلتهم من صفد في عام النكبة، ومرورهم عند أقربائهم الذين كانوا يعيشون في الجولان، ثم وصولهم إلى دمشق. عام النكسة، جاء أولئك الأقرباء بدورهم من الجولان ليستقروا في دمشق إثر تهجيرهم، وعند لجوئهم المؤقت لمنزل العائلة، أخبروهم وهم يضحكون: “اجينا نردلكم زيارة التمان وأربعين”. لا أدري كيف نجد مكاناً للسخرية والتهكم وسط كل هذه النكبات المستمرة.
تخبرني صديقة فلسطينية أخرى كانت وعائلتها من سكّان مخيم اليرموك قبل أن يضطروا لمغادرته عام 2012، بأن والدتها تجلس طوال الوقت لمشاهدة أخبار “من بقي من أهلها” في فلسطين، وتضيف بسخرية مؤلمة: “الحمدلله بتقطع الكهربا، وإلا ما كانت نامت وهي قاعدة عالتلفزيون!”.
في مساء اليوم السابع عشر “للإبادة”، نجتمع، شباناً وشابات وكباراً وصغاراً، نصمت ونشعل بعض الشموع، ووسط الصمت أسمع صوت بكاء مخنوق. قد يقول البعض: “الميت ما بيشيل ميّت”، لكني أحب أن أفكر بأننا ما زلنا قادرين على أن “نشيل” بعضنا، وأن نرسل بعض القناديل الصغيرة من دمشق، لعلها تضيء عتمةً ما هناك في فلسطين.
رصيف 22
————————–
نماذج لرؤية سوريي “النظام ومناطقه” لحرب غزة: نستمكل ما بدأ عام 2011!/ آدم أفرام
“طيب، ألم يمضِ 13 عاماً على حربنا السورية؟ انتبه، اسمها السورية. الجميع يدرك أن جماعة حماس، ولأنّها كانت المهيمنة والمسيطرة في مخيم اليرموك، قتلت أهلنا وجنودنا هناك. أليس من المعلوم أن حماس وجدت نفسها مغرقةً في قابلية التطرف أمامنا بدل أن تكون كذلك أمام الصهاينة وقتذاك؟ ثم أليس المسلحون الفلسطينيون في المخيم هم من نبشوا قبر الرمز التاريخي فتحي الشقاقي، وقبر جهاد ابن أحمد جبريل، فماذا يُرتجى منهم؟”.
بغضب واضح كان هذا ما قاله المهندس علاء عز، المقيم في دمشق خلال حديثه إلى رصيف22، وتعقيبه على الموقف الشعبي السوري، فردياً وجماعياً، بمعزل عن التوجه السياسي العام. ويشرح أكثر عن موقفه ذلك مبيناً أنّ الحرب في بلاده أفرزت الناس من حولهم، وفي محيطهم وإقليمهم وامتداداته، وجعلت فئةً كبيرةً من السوريين تعاني الخذلان وفقدان الثقة وما أسماه “صفعة الأخ”.
ويضيف: “فلسطين مقدسة دينياً وقومياً، وكل شهيد هناك تنزف له القلوب في الشام، لكن هل أنا شخصياً سأقاتل هناك؟ نعم، قد أقاتل الصهاينة في بلدي، ولكنّي لن أقاتلهم بالإنابة عن حماس التي احتضنها بلدي لعقود، ثم تورطت في الحرب ضدنا بل فجأةً وجدنا آليات تابعةً لها تحفر أنفاقاً للمسلحين بدلاً من أن تُستخدم في تدريب المقاومة التي تعيش العزّ لدينا!”.
ربما في مكان ما، من الصعب توصيف موقف علاء بالأسود أو الحاقد، فالمهندس فقد شقيقه في معارك مخيم اليرموك قبل سنوات، ولم يستطع حتى الآن أن يتصالح مع فكرة أنّ “فلسطينياً (مقاوماً) قتل أخاه الذي كان مستعداً ليقاتل معهم كتفاً إلى كتف في وجه الاحتلال”؛ هذا ما قاله حرفياً ودمعةٌ تكاد تفرّ من عينه لتشتته أمام بوصلة ما عاد يعرف أين تتجه، وها قد قتلت أخاه على يد حليفه التاريخي.
وجهة النظر هذه، محصورة في فئة مؤيدي النظام السوري. فئة رأت مخيم اليرموك يحاول قتلها. فيما هناك فئة أخرى كانت ترى أن اليرموك جزء من نسيج سوري يرفض الظلم والطغيان، وثار مثله مثل سوريين كُثر ضد الحكم الاستبدادي الذي مارسه ولا يزال يمارسه الرئيس السوري بشار الأسد، وقبله والده الراحل، حافظ الأسد، وحزب البعث من ورائهما.
“لم ننسَ”
يحاول هذا المقال الإضاءة على مواقف “سوريي الداخل”، من “طوفان الأقصى”، عبر استعراض نماذج جمعية عدة، وهي نماذج ليس من الصعب البحث عنها، فالحرب التي بدأت في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، سرعان ما أفرزت السوريين على نواصي المواقف، المواقف التي يمكن لحظها في الشارع، في الجلسات العامة والخاصة، وعلى السوشال ميديا. الجميع يعبّر. فاليوم لا وزر على السوريين في آرائهم على غير العادة، ويقول قائل: “لا بأس بالتعبير فدولتهم أساساً لم تعرف حتى الآن كيف ستعبّر!”.
يُعبّر الموظف مهران جواد، عن موقفه المترنح بين اثنتين؛ يشرح أنّه لا يستطيع ألّا يقف مع غزة بكل ما فيه، ولكنّه لا يغفر ما فعله الفلسطينيون ببلده، بعضهم الوازن على الأقل. يقول: “القصة ليست تفاضلاً، بالتأكيد لن ندعم الكيان في وجه المقاومة، لكن على حساباتنا أن تكون أكثر براغماتيةً، فبعض الزرع إذا لم يؤت ثمره سيبور ويصبح خطراً على تربته، لذا، أنا مع فلسطين ومع ضحاياها، وقبل كل ذلك مع بلدي وهمومه ثم ننظر إلى الجوار لاحقاً”.
سوريون غير آبهين
يطفو فوق كل ذلك نموذج غير مكترث. قد يكون جاهلاً لمكان فلسطين على الخريطة أساساً. هذا النموذج واحد من اثنين؛ أولهما صغير ينتمي إلى الألفية الحالية، ولم يعِش لحظات شحذ همم القلوب في الانتفاضتين وما تلاهما، وثانيهما يعتقد أنّ ما مرّ به بلده يجعله منكفئاً للغاية عن جوارٍ لم يمدّ له يد العون حين كان يغرق.
ميساء إسماعيل، فتاةٌ تخرجت حديثاً من كلية الآداب، عمرها 22 عاماً، لا تعتقد أنّ أمر عدم الانخراط بكل كيانها ويومياتها وطاقتها في دعم فلسطين ينعكس من عمرها الزمني أولاً، فهي حين بدأت حرب بلادها كان عمرها نحو 10 سنوات، ولم تحظَ إذاً بيوم ترى فيه بلادها جميلةً كما كان يروى عنها في حكايات الجدّات.
تقول: “كنت في الصف الرابع الابتدائي حين بدأت الحرب. ونحن من حمص التي شهدت أقسى المعارك. تربيت مع أصوات القذائف والمدافع. أعتقد أني دفعت مبكراً جداً مع كل جيلي ثمن الحرب. الآن بين كل هذا الركام نحاول صناعة فرصة للحياة. لا أقول إنّ فلسطين لا تعنيني، ولكنّها لا تشغلني بالقدر نفسه. هذه الحرب هناك مستمرة منذ كان جدي طفلاً”.
مازن عمّار، صديق ميساء وزميلها في التخرج وعمره من عمرها، يشاطرها رأيها ببعض أجزائه، ويعتقد أنّ على السوري الالتفات اليوم لمعالجة مصائبه بدل الغرق في وحل السياسة: “إذا كنا كلما حصلت حرب سنكرس حياتنا لها فلن ننتهي. في بلدي دفعنا الثمن وانتهينا، ثم أليس في الكون غير السوري ليحمل هموم القضايا؟ هناك مليارا مسلم، ليتكفلوا هم بالتحرير، نحن السوريين أليس أجدى لنا أن نستعيد شرق الفرات بخيراته بدل هبل الأوهام التي يعرف الجميع أنّها مجرد أحلام؟ أمام جوعنا تسقط كل القضايا العروبية والإسلامية والمبدئية”.
“تهريج المزايدات”
ويتضح في إطار غير الآبهين من الصغار عمراً، بروز شخصيات تحمل آراءً أكثر غضباً تعبّر عنها في مكان ما سميّة شهاب، وهي طالبة جامعية في دمشق، إذ تقول لرصيف22: “فلسطين، فلسطين، فلسطين، منذ وُلدت لا سيرة لنا إلا فلسطين. أنا شخصياً ماذا يمكنني أن أقدّم لفلسطين؟ لا شيء، بوست على فيسبوك لن يحررها، قلبي معهم، ولكنني منطقية، أنا أعيش يومياتي كما المعتاد تماماً. لن أنافق، ورأيي واضح، حين ينتهي تهريج المزايدات وتُفتح الحدود من كل اتجاه، فليذهب الشجعان حينها. أما الآن فيكفي تخوين من يريد أن يتابع حياته بشكل طبيعي”.
وتستدرك سميّة في سؤال يبدو أنّها تعرف جوابه في لا وعيها، ولكنّها لا تعرف جوابه الحقيقي. سؤالها كان: “خلال عمر المقتلة السورية التي قضى فيها اثنان من أخوالي والكثير من جيراني والآلاف من أهالي بلدي، هل توقفت الحياة في غزة حزناً؟ أنا سمعت العكس. سمعت أنهم دعموا المسلحين ضدنا، ورفعوا علم الذين قتلونا من السوريين (علم الثورة)!”.
“لم يحزنوا لأجلنا”
أما عن الفئة الأخرى بين غير الآبهين، وهي الأكبر عمراً والأكثر مشاهدةً وإدراكاً، فيعبر عنها المحامي خليل زياد بقوله: “المشكلة مركبة. أنت تدعم طرفاً لا يريدك في جيناته، وحين تموت أنت لا يصلي عليك. القضية في المنطق تقتضي القول إنّ فلسطين تسكن قلوبنا، ولكن الجميع خذلنا في محنتنا وجعلنا نخاف من أنفسنا، فكيف يكون الآخرون؟”.
ويزيد عمر الشيخ الذي يعمل في الترجمة على رأي المحامي خليل بالقول: “كان الله بعون أهل غزة الأبرياء الضعفاء، ولكن كان الله بعون بلدي أولاً، بلدي الذي عليّ أنّ أفكر كيف أداويه قبل أن أفكر في كيف سأسند من لم يحزن لأجل موتي لحظةً”.
“مع غزة حتى الموت”
من الصعب إجراء مسح بياني واستنباط نسب مئوية دقيقة لمواقف السوريين برغم أنّها غير مخفية، ولكن ما يبيّنه رصيف22 في هذا المقال، هي التوجهات الرئيسية والمركزية، والتي يمكن لحظ طغيان أحدها على الآخر، ولعلّ الطاغي هنا فئة مندمجة تماماً بتفاصيل وملامح معركة غزة كقضية وجودية لأبعاد يمكن تمييزها ما بين إنسانية ودينية وقومية وسياسية، والأخيرة، أي السياسية، لأنّها تتماهى مع السياسة السورية الخارجية في التموضع ضمن “محور المقاومة”، وكاستمرار لشكل الحرب السورية القائمة التي كانت إسرائيل بطريقة ما طرفاً فيها.
باستمزاج بعض الآراء، خلص رصيف22 إلى أنّ المعبّرين عن هذه الفئة يتعاملون مع ما يحصل كقضية وجودية بتمامها وكمالها، قضية من شأنها إذا ما خسرت غزة حربها أن يخسروا هم بشكل مباشر كل ما حققوه من مكاسب عسكرية في وجه “أدوات” عدوٍ قصف مطاراتهم (دمشق وحلب)، ثلاث مرات منذ بدء معركة “طوفان الأقصى”. وقبل تلك المعركة مراراً.
يقول الموظف سمعان سليمان، المقيم في طرطوس لرصيف22: “هذه معركة وجود، إما نكون أو لا نكون. حربنا مع أمريكا في شرق الفرات والإرهاب في إدلب ليستا أهم إطلاقاً من حربنا مع إسرائيل، لنمُت جميعنا فداءً لتحرير فلسطين وبلدنا”.
فيما يقول المهندس رجب حسين من اللاذقية، بعد عرض النماذج السورية عليه حيال الموقف من “طوفان الأقصى”: “كل شخص ليس بروحه وماله مع فلسطين الآن، هو خائن ولو كان سورياً قدّم نصف عائلته شهداء في حربنا. هذه إسرائيل التي تفتك حتى الآن ببلدنا، وإياك أن تعتقد أنّ لدينا عدوّاً غيرها، من نحاربهم منذ بداية الحرب في سوريا على الأرض هم أدواتها”.
وكذلك الأمر بالنسبة للموظف المتقاعد كريم عبّاس، المقيم في ريف حماه، والذي يؤكد أنّ سوريا عماد “محور المقاومة، وهي لذلك دفعت الثمن خلال حربها الكبرى. لم نحارب 13 عاماً لنستكين الآن، حاربنا منذ أول طلقة ونعرف أن عدونا إسرائيل وطريقنا إلى إنهائها لن تعبّده إلا دماء شهدائنا في سوريا وكل دول محور المقاومة”.
داخل هذا النموذج، لدى بعض الأشخاص أسباب دينية تتعلق بإسلامية فلسطين ويهودية إسرائيل، بعروبة فلسطين وعنصرية إسرائيل، طغيان إسرائيل ومظلومية الضفة والقطاع، فالحشو السياسي والعقائدي السوري الرسمي التاريخي على مدار عقود عبر المناهج والنقابات والاتحادات والأحزاب محوره أنّ فلسطين المرتجى، وأرض المقدّس، وعمق القضية المركزية التي ماتت وستموت أجيال لأجلها.
هذا النموذج منذ اليوم الأول رهن نفسه في مجالسه، وعلى صفحات السوشال ميديا الخاصة به، ليكون مستنفراً لأجل فلسطين لحظةً بلحظة، حتى غدا مشهد الفيسبوك في سوريا غارقاً بالغرابة، فصفحات تحارب أكثر من الغزّيين أنفسهم وصفحات تعيش في “اللا لا لاند”.
نموذج غريب ومركب
بالتوازي مع ذلك كله، ثمّة نموذج هو الأغرب، والأكثر فداحةً، أي الذي لا يمكن فهم مشاعره، والذي يجرح ويداوي، وأولئك أشخاص تعجّ صفحاتهم بدعم القضية وتجاهلها، لا يحدث ذلك بين يوم وآخر، بل بين قصة وأخرى في الوقت نفسه ضمن تلك الخاصية المميزة في تطبيقات مواقع التواصل الاجتماعي.
لحظ رصيف22، خلال رصده بعض هؤلاء الأشخاص، أنّهم يضعون صورةً يندبون فيها فلسطين، وبعدها صورةً لطعام، أو حفلة، أو شراب، أو نكتة، ثم صورة لفلسطين، وهكذا دواليك. هؤلاء يحيّرون الآخرين، فحتى الآن لا أحد يفهم موقفهم، وإن كان يمكن تفسيره أحياناً بالخجل مما يحصل حولهم، مع الاستمرار في اهتمامهم بإبراز حياتهم.
توجهنا إلى خبير نفسي في دمشق لسؤاله عن الحالة هذه عموماً. أجاب سائد عمران على التساؤل بقوله: “هذه فئة يمكن تصنيفها على أنّها من النوع الذي يخشى لوم المجتمع، فيحاول مجاراته في قضاياه وأحزانه وهمومه، لكن في الوقت نفسه يعود ليخبر الناس كيف تسير حياته وكم هي جميلة، وهذا هو أبرز تجليات صراع الأنا والهو والأنا العليا، وهؤلاء عموماً فقط يسايرون الناس من حولهم لئلا يعيب أحد عليهم تجاهلهم مآسي الآخرين”.
ويضيف: “هؤلاء لا يمكن أن يقول أحد عنهم إنهم سيئون إطلاقاً، هم فقط يقاربون القصص من زوايا خاصة بهم، وفي باطنهم هناك صوت يقول لا تدعموا ما يحصل فلن تغيّروا شيئاً، أو حتى أنهم يكونون في الأصل غير آبهين، مقابل صوت يقول لهم احضروا على الساحة، وتفاعلوا لئلا يثار كلام ضدكم. وفي سوريا لا يوجد أسهل من الاتهام بالوطنية”.
يوضح عمران لرصيف22، أنّ “الحالة الوطنية الجمعية التي اشتدّ عصبها منذ اليوم الأول ستتراجع شيئاً فشيئاً مع تقادم الوقت لدى الناس الذين تنحصر سبل دعمهم لغزة في السوشال ميديا، فالناس تحتاج أن تتابع أشغالها وأعمالها وحياتها وإن ظلّت راهنةً منصاتها لأجل ما يحصل فكثيرون منهم سيخسرون أشغالهم وأعمالهم، عدا عن حالة الملل التي ستصيبهم أساساً”.
النكتة قالت كل شيء
صحيح أنّه لا يمكن طرق أبواب السوريين فرداً فرداً لسؤالهم عن رأيّ كلّ منهم وكيف يقارب المشهد، ولكن من الأكيد أنّ التشابه في الخطوط العامة يعمّ الحالة لكونها أكثر بعداً من حصرها في قضية محلية صغيرة، على اعتبار أنّها صارت الشغل الشاغل للعالم أجمع.
سمع رصيف22، آراء عدائيةً، وأخرى متوحشةً، وغيرها مغاليةً في المشاعر، وما من إمكانية لعرضها جميعها، هذا عدا أنّنا واجهنا أناساً يمكن الاعتقاد أنّهم يكذبون في تبيان موقفهم لدواعٍ تتعلق بالحياة السياسية في سوريا أساساً، وأولئك تحديداً بدوا مقلقين، فأحدهم افتتح حديثه بأنّه لا يملك ثمن حليب لطفله الصغير، وختم حديثه بأنّه ينتظر بفارغ الصبر أن يحمل سلاحاً ليحرر فلسطين.
ولكن في المجمل، لا شك أنّ كُثراً في سوريا يحبون فلسطين كثيراً، يحبونها كما يحبّون حلب وحمص واللاذقية، ويحبّونها لأنّها تسكن في لا وعيهم الوطني ما بَعُدَ منه وما قرب، إلا أنّ للحرب السورية أثراً نفسياً جباراً اعتدى على كيانات الرجال وقلوبهم وجعل حساباتهم تتغير، أو تؤجّل في أفضل الأحوال، فمن راح منزله بقذيفة أدرك قباحة الحرب، ومن راح شقيقه بطلقة قناصة عرف بشاعة الحرب، ومن مات ويموت جوعاً صارت أولوياته أن يشبع.
وبعد ذلك كله، أليس من غرابة الموقف، وسوء المشهد، ونكد الدهر، أن السوريين كانوا قد تداولوا على نطاق واسع عبر مواقع التواصل الاجتماعي قبل أشهر عدة، نكتةً سوداء تقول: “متوسط راتب الموظف في غزة 500 دولار، والسوري الذي راتبه 15 دولاراً يريد أن يحرر فلسطين!”.
رصيف 22
—————————-
أن تروي المأساة وتضحك.. وما بعد ذلك/ فراس دالاتي
البعض وصفها بأنها “أفضل ما قاله عربي على الشاشات آخر عشرين سنة”، آخرون أسقطوا عليها معايير المناظرة السياسية الأكاديمية ولم يروا فيها أكثر من مجرد رطانة شعبوية تدغدغ مشاعر الجماهير. آخرون أفرطوا بين جانب المغالاة بالمديح والقسوة في النقد، لكن الجميع اتفقوا على أن مقابلة الإعلامي الساخر باسم يوسف مع المذيع البريطاني بيرس مورغان قد حققت المرجو منها كمادة إعلامية، انتشرت وأحسنت الانتشار. إذ بلغ عدد مشاهدات المقابلة على يوتيوب 18 مليون مشاهدة حتى وقت كتابة هذه السطور.
كان بالإمكان أن تكون المقابلة أفضل مما خرجت به، من الناحية المعلوماتية على الأقل. وهذا الجانب الذي ينطلق منه فريق المُنتقدين، إذ أنها لم تقدم فعلاً ما لا يعرفه أي عربي نشأ في مدرسته يتعلّم عن فلسطين وقضيتها. بيد أنها لم تكن أبدًا مقابلةً عن المعلومات، ولا عن “تبسيطها للمتابع الغربي الجاهل بالقضية المعقدة”، بل كانت مرتكزة على طريقة الأداء وحدها وفعاليته.
على سبيل المثال، وفي برنامج بيرس مورغان ذاته، حملت مقابلته مع البروفيسور الفلسطيني محمد حجاب قيمة معلوماتيةً أعلى من مقابلة يوسف وضوحًا، لكنها لم تنل إلى الآن ثلث ما نالته حلقة الأخير. والسبب ليس قوة الإقناع أو الحجة لدى أي من الضيفين، بل كسر يوسف الصورة التي جاء مشاهد بيرس مورغان راسمًا إياها في ذهنه، مجرد عربي غاضب آخر يصرخ بحقّه عن ذاك الصراع الأبدي الذي لا ينتهي، بسخريته المستمرة. والتعبير عن الغضب بالنُكات والمفارقات، لقول ما يحذر الخطاب الجاد من قوله.
وإن كانت مقابلة باسم يوسف هي ما خطف الأضواء مؤخرًا، إلا أنها لم تكن الضربة الصائبة الوحيدة في ظل الجنون الإعلامي الذي نشهده. مع فشل معظم وسائل الإعلام الغربي في الامتثال لما ادّعت يومًا الامتثال له من حياد وموضوعية ومهنية وعدم تمييز، برع موقع “ذا أونيون” الساخر في تغطية الأحداث في غزة بإنصاف عجز عنه نظراؤه “الأكثر جدّية”، ساخرًا بذلك من الواقع نفسه الذي تعيشه صناعة النشر، إذ أعلن منذ اللحظة الأولى في أحد مقالاته دعم إسرائيل “لأن ذلك أقل جلبًا للمشاكل، بحسب ما يبدو”.
وبخلاف ما يتجلى في التعليقات على هذا النوع من الأخبار والمواد الصحفية الذي يجرؤ على دعم “الطرف الآخر” في الإعلام الغربي، من تُهمٍ تبدأ بدعم الإرهاب ولا تنتهي بمعاداة السامية وتقويض الديمقراطية، كانت التعليقات أكثر تقبّلاً لهذا النوع من الأفكار “الراديكالية”. أحد المعلّقين كتب: “يبدو أنه من الأفضل أن ندعم من لا نتعرض للإلغاء بسببه”، في تعبيرٍ ساخر ينطوي على خيبة من الهرج الذي أصاب بعض المجتمعات تجاه اتخاذ طرفٍ في “صراع”، وصل حد مطالبة وزير الداخلية الفرنسية بسحب الجنسية عن لاعب كرة القدم الفرنسي كريم بنزيما بسبب موقفه.
على مقالٍ ساخرٍ آخر بعنوان “أهالي غزة المُحتضرون يتعرضون لانتقاداتٍ لعدم إدانتهم حماس في كلماتهم الأخيرة”، علّق متابع: “تعلم أننا في مأزق عندما ندرك أن ذا أونيون هو المصدر الأكثر دقة للأخبار لدينا”. ولم يختلف هذا الانطباع كثيرًا عربيًا، ففي أحد الأخبار التي نشرها موقع “شبكة الحدود” بعنوان “إسرائيل تدعو لإخلاء مستشفيات غزة قبل تعرضها لصواريخ الجهاد الإسلامي التي ستضل طريقها”، كتبت إحدى المتابعات “أخبار الحدود تصير واقعية أكثر يوم بعد يوم”.
يخبرني أحد محرري شبكة الحدود، أن عددًا من الأشخاص من دائرته صاروا ينتظروا مساء كل يوم “ليقرأوا تعليق الحدود على الأحداث”، هذا تؤكده طفرة في التفاعل وعدد المشاركات لم يشهد الموقع مثيلًا لها منذ سنوات، ودعواتٌ في التعليقات لتكثيف نشر المحتوى الساخر باللغة الإنجليزية لمشاركته مع أصدقائهم غير الناطقين بالعربية، ربما لثقة منهم بقابلية إيصال الأفكار عبر هذا النوع من المحتوى أكثر مما قد يُنظر إليه على أنه “سرديات مظلومية مملة”، وصلت حد تبرع أحد الصفحات لترجمة تقرير نشرته الشبكة بعنوان “صور توثق السلام الذي تنعّم به الفلسطينيون قبل ظهور حماس وتخريب عيشتهم”، في ردّ على الادعاءات التي تبرّئ إسرائيل من تهمة ما آلت إليه الأمور وإلقائها على حماس، إلى الإنجليزية ونشره.
إذًا، ما الذي أنجح هذا الأسلوب؟ لطالما كانت السخرية أداة بالغة الفاعلية في متناول المضطهدين لمجابهة الظلم الواقع عليهم. يمكن أن تكون السخرية مضحكة، ويمكن أن تكون غير وقورة في بعض الأحيان، لكنها غالبًا ما تكون جامعة. وكما كتب الفيلسوف الألماني جورج فيلهلم فريدريش هيغل، “الكوميديا هي إنكار السلبية والاستهزاء بموقف لا يمكن الدفاع عنه”، فيما تقول أبحاثٌ عديدة في علم النفس أن السخرية إحدى أنجع آليات مواجهة الشدائد.
يقول جميل خضر، أستاذ اللغة الإنجليزية الفلسطيني وعميد الأبحاث في جامعة بيت لحم في الضفة الغربية، في مقالته “إعادة تحميل الضحك: جيجيك ونظرية الكوميديا” أن الفكاهة يمكن أن تكون أداة للتحرر. ونقلاً عن الفيلسوف جون موريل، كتب خضر: “علاوة على ذلك، فإن الكوميديا والفلسفة (التحررية) تتعارض مع الإيمان الأعمى والطاعة المطلقة، وتشكك في السلطة والتقاليد أو ترفضها”.
انطلاقًا من ذلك، فإنّ مقالاتٍ من قبيل تلك التي نشرتها شبكة الحدود (بايدن: من المؤكد أن الإسرائيليين لم يقصفوا مستشفى المعمداني لأنهم أخبروني أنهم لم يفعلوا) أو ذا أونيون (الجيش الإسرائيلي يقول إنك أنت، أيها القارئ، من فجرت المستشفى)، تذكّر القرّاء بأن الروايات الإسرائيلية حول هوية القاتل تستحق التشكيك. فإسرائيل تزعم أن الانفجار كان نتيجة صاروخ ضل طريقه أطلقته حركة الجهاد الإسلامي، وهو ادعاء دعمته وتبنّته الولايات المتحدة وبريطانيا وعدد من دول العالم دون إعادة نظر فيه.
لإعادة النظر تلك في هذه الأوقات المبكّرة من الحادثة أهمية بالغة تتجاوز تفاعلات الإعجاب وتعليقات الإدانة. في مايو/أيار 2022، على سبيل المثال، عندما قُتلت الصحفية الفلسطينية-الأميركية ومراسلة قناة الجزيرة شيرين أبو عاقلة، ادّعت إسرائيل في البداية أنها قُتلت برصاص فلسطيني. بعد مرور أشهر وانشغال العالم، كلٌّ بقضاياه، قال الجيش الإسرائيلي إنه من المرجح أن تكون أبو عاقلة قد قُتلت برصاص جندي إسرائيلي. وبعد مرور عام، لم تتم محاكمة أي شخص في الجيش الإسرائيلي، ولم يتم الإعلان عن أي إجراء تأديبي. بعدما كانت إسرائيل قد تعهدت في نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه بعدم التعاون في تحقيق مكتب التحقيقات الفيدرالي في وفاة الصحفية، وهو تحقيق وصفه بيني غانتز بأنه “خطأ فادح”، تمامًا كما تتنصل إسرائيل اليوم من الإجابة عن سؤال التحقيق.
إن الحروب، وخاصة غير العادلة منها، يتم تبريرها دائمًا تقريبًا باستخدام مصطلحات أخلاقية تسهّل تأطيرها برؤية عالمية ثنائية: الخير مقابل الشر، المتحضر مقابل الهمجي، المدافع عن الحرية ضد الإرهابي، وما إلى ذلك. ولكن بطريقة هزلية، بالغة الجدّية، تفكك السخرية النزعة العبثية لتحويل القضايا المعقدة إلى روايات ثنائية الأبعاد، وتدفع أولئك المشككين إلى منطقة غير مريحة من اللاطمأنينة. هذا ما تفعله السخرية الجيدة. تحقق وتنتقد وتُسائل. وكلها تهديدات لا يرغب بمواجهتها كل من يسعى لفرض سطوته.
الترا صوت
—————————
==================
تحديث 23 تشرين الأول 2023
——————-
هل ستكون سوريا طرفاً فيها؟/ زينة يعقوب
في اليوم الخامس من العدوان الإسرائيلي على غزة، قصفت الطائرات الإسرائيلية مطاري دمشق وحلب وأخرجتهما عن الخدمة للمرة الأولى بعد 7 تشرين الأول (أكتوبر)، لينضم هذا الهجوم المزدوج إلى أكثر من خمس هجمات على الأقل نفذتها إسرائيل على المطارات السورية قبل هذا التاريخ خلال عام 2023، إلّا أن وقعهُ هذه المرة كان مختلفاً في سياق التوتر الذي تشهده المنطقة.
وبعد أربعة أيام على الهجوم، أعلنت وزارة الدفاع في حكومة النظام تجريب صفارات الإنذار المركزية في دمشق واللاذقية، ومع أنها لم تُسمع وسط دمشق، إلا أنها خلقت رعباً وتساؤلاً عن الخطوة اللاحقة في حال سماعها، وعن إمكانية وقوع حربٍ مفتوحة وحقيقة وجود ملاجئ مهيأة لاستقبال المدنيين.
في اللاذقية، ردَّ مدير الدفاع المدني العميد جلال داود على هذه التساؤلات بالقول إن هنالك ثلاثة ملاجئ في اللاذقية وجبلة بسعة 500 شخص لكلٍّ منها، بالإضافة إلى ملجأ بسعة 3000 شخص لكنه خارج عن الخدمة.
هذا الإجراء لم يمرّ مرور الكرام، إذ سرعان ما تحول إلى مادة للسخرية لمستخدمي فيسبوك، في حين كان كافياً لاستشعار الحرب عند آخرين، وكانت أبرز التعليقات التي طالعناها: «في كهرباء لتشتغل الصفارة؟»، «في ملاجئ أصلاً نروح عليها؟»، «عيدوها ما سمعنا»، عدا عن الكثير من الدعوات وتوسل لطف الله بأحوال الناس.
مع ذلك اعتمدت وكالات الأنباء الحكومية والمحسوبة عليها ترسيخ فكرة وجود النظام السوري كلاعب رئيسي في المنطقة، وخلق وهم «استرداد هيبة الأسد» من خلال تغطية محادثاته واتصالاته ومواقف نظامه الثابتة تجاه القضية الفلسطينية.
غزة تحت القصف: ما يعرفه السوريون جيداً
ما يتداوله إعلام النظام لم يُطمئن جارتي في دمشق التي أخبرتني أنها «جهّزت بيتهم في الضيعة» وزودته بالمؤن لتكون بالقرب من عائلتها، وحضّرت الحقيبة نفسها التي استخدمتها بداية الثورة السورية قبيل قصف النظام على حي جوبر شمال شرقي العاصمة. بات السوريون يعرفون طبيعة القصف جيداً وتبعات الحرب الكارثية، ويميّز كثيرٌ منهم صوت القذيفة من القصف الصاروخي، وهذا ما دفع شطراً منهم إلى التخوُّف من الحرب أو الاستعداد لها كما لو أنها ستقع بالفعل، وكذلك دفع بغيرهم لإنكارها، أو متابعتها على الشاشات والانخراط بالنشاط الرقمي لدعم الحق الفلسطيني.
لُجين، إحدى الناشطات على مواقع التواصل الاجتماعي، وظّفت جميع حساباتها لنقل أخبار غزة، وتقول للجمهورية.نت: «من وقت الطوفان ما قدرت نام، ولمّا سكر عيوني أسمع الأصوات. أقلّ شيء ممكن هو أن نشارك الحقيقية، وبالحقيقة قلبي مات مع ما يحصل في إدلب». أخبرتنا أنها اتفقت مع صديقةٍ تعمل في ألمانيا تخشى أن تُفصَل من عملها في حال أظهرت أي نوعٍ من أنواع التعاطف قد يُحسب عليها «معاداة للسامية». تقول لُجين: «أنا أنشر كل ما يتعلق بفلسطين وهي تنشر عن إدلب، نحن نتبادل الأدوار ولكننا جميعاً في جحيم».
بالتزامن مع الحرب على غزة، تشهد مناطق شمال غربي سوريا تصعيداً عسكرياً منذ بداية تشرين الأول (أكتوبر) الحالي، استجابت خلاله فرق الدفاع المدني لما يزيد على 194 هجوماً خلال النصف الأول من الشهر.
وقفات تضامنية محمية
يُحدد النظام السوري سقف المسموح به في المناطق الواقعة تحت قبضته، إذ سمح بالتضامن مع الفلسطينيين في غزة وأعلنت حكومته الحداد ثلاثة أيام على ضحايا المشفى الأهلي المعمداني في القطاع، ما أتاح إمكانية النزول إلى الشارع والهتاف تحت رايته لمن يوافق على ذلك. لكن هذا الضوء الأخضر نفسه كان العقبة بالنسبة لكثيرين، ومنهم لجين التي وجدت منصات التواصل الاجتماعي مكانها الوحيد لإيصال صوتها دون اضطرارها لحمل صور الأسد خلال التظاهرات المتضامنة مع أهالي غزة.
كان من المتوقع نزول حشود جماهيرية كبيرة في دمشق إزاء هذا النوع من الاحتجاجات، لكن الوقفات التضامنية مع غزة اقتصرت على مقرات بعض النقابات الذي أخذ أعضاؤها صوراً إلى جانب صور الأسد الأب والابن، وعلى وقفات متفرقة في ساحات دمشق نظمتها مؤسسات حكومية وأحزاب موالية لها.
بعد إحدى هذه الوقفات تحدثنا مع شابين وسط دمشق. الأول هو باسم، الذي كان غاضباً من هتافات طالبت بفتح الحدود أو إعلان الحرب مع إسرائيل. برر غضبه قائلاً: «الرئيس في حواره مع سكاي نيوز قال إن المعارك داخل سوريا هي الأولوية»، فقاطعه صديقه وائل الذي فضّل مراقبة الوقفة من بعيد ليحوّل الحديث إلى هتاف: «الاحتلال يطلع برا». يقول وائل للجمهورية.نت: «من المضحك مطالبة الاحتلال الإسرائيلي بالرحيل عن فلسطين من ساحة المحافظة وسط العاصمة السورية، في حين أننا سنواجه بالرصاص لو صرخنا ضد القوات الروسية أو الإيرانية بالهتاف نفسه».
يجد وائل هذه الوقفات مرعيةً من النظام السوري بشكلٍ فاقع، ويستخدمها لتلميع صورته وإقحام نفسه داخل المشهد الدولي رغم أنه مستبعد بوضوح، ويخشى على الفلسطينيين «من الأمل به» حسب تعبيره: «أشاهد صدمة مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي من مواقف جامعة الدول العربية والأمم المتحدة ودول العالم. نحن أيضاً كنا في موقعٍ مشابه وخذلنا العالم كله. إغلاق معبر رفح يُعيدنا إلى إغلاق المعبر الإنساني في وجه إدلب بعد الزلزال». ويضيف وائل عن آمال البعض بموقفٍ مختلف عن ذلك من النظام السوري: «بشار الأسد عاجز تماماً عن التدخل، أولاً: لأنه جبان، ويصوّر لنا في مقابلاته أنه يرد في الوقت والمكان المناسب ولكنه يقصد أنه سيقصف إدلب. ثانياً: لأنه يحكم دولة منهارة اقتصادياً بفضله والحرب بحاجة تمويل لا يمتلكه».
المقاومة كحقل ألغام
منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، تغيب في دمشق أي نقاشات سياسية لا تتعلق بغزة، وقد يغيب النقاش السياسي كليّاً لصالح الانشغال بالوضع المعيشي أو للهروب من استحضار ذاكرة الحرب القريبة، لكن الارتباط الشعبي بالحق الفلسطيني يبدو جلياً وسهلَ الالتقاط. في المقهى شبانٌ يضعون الكوفية حول أعناقهم في يومٍ «عادي»، وفي صالونات الحلاقة أو المحلات التجارية نشاهد بثّ قنواتٍ «مُغرضة» تغطي ما يحصل في غزة.
يلاحظ هذا حمزة، العامل في المجال الحقوقي، ويعزوهُ إلى ارتباطٍ بين حياة ومصير السوريين والقضية الفلسطينية على المستوى الإنساني والتحرري من القمع والاضطهاد: «لم يعد الأمر مجرد ارتباطٍ قومي أو ديني أو سياسي، ولا يُفسّر على أنه رواسب تربية بعثية؛ لأن جيلاً جديداً كبر خلال الثورة السورية ولا يعرف إلا همومها، وبالطبع هذا الجيل والأكبر منه، والذي عاش صراعات الثورة السورية لا تنطلق دوافعه من دعم محور المقاومة».
يضيف حمزة: «تورُّطُ محور الممانعة المتمثل بإيران وحزب الله بالدم السوري، عدا عن مواقف الفصائل الفلسطينية الداعمة للأسد، جعل التضامن السوري مع القضية الفلسطينية من مُنطلق المقاومة العسكرية شائكاً ومعقداً على السوريين. ولكن في الوقت الذي يحاول البعض حلّ هذه العُقد إلّا أنها بالتأكيد بالغة الصعوبة لمَن راكم الخسارات».
يختلف السوريون ربما بالآلية وطبيعة الانسياق حول دعم أطراف سياسية وعسكرية، إلا أن جميع من تحدثنا معهم أجمعوا على فكرةٍ واحدة تؤرقهم جميعاً، وهي تكرار سيناريوهات عشناها كسوريين وعاشها قبلنا فلسطينيون: تدمير المكان وتهجير أهله وتغيير ديموغرافيته.
موقع الجمهورية
—————————–
غزّة: حرب الرهانات القصوى/ برهان غليون
كان لإعلان نهاية المواجهة العربية الإسرائيلية الذي أصبح واضحا في السنتين الماضيتين على ضوْء تقدّم عمليات التطبيع نتيجتان. الأولى، بروز الحرب الإسرائيلية الفلسطينية بصورة مباشرة ومستقلّة إلى الواجهة، بصرف النظر عن أيديولوجية الفصائل التي تخوضها وخياراتها السياسية. والثانية، التي لا تنفصل عنها، انهيار السردية التي دأبت إسرائيل على ترديدها لكسب تعاطف المجتمع الدولي أن المسألة الفلسطينية مصطنعة من الدول العربية المعادية للسامية التي تختلق النزاع معها، للتغطية على إخفاقاتها الداخلية. وقد أتاح هذا كله لقطاعاتٍ واسعةٍ من الرأي العام العالمي اكتشاف الحقيقة التي عملت إسرائيل إلى إخفائها، وهي، ببساطة، واقع الاحتلال ووجود الشعب الفلسطيني ومقاومته المستمرّة منذ أكثر من سبعة عقود، وسقوط ترّهة تصوير الفلسطينيين أدوات في يد الدول المعادية التي ترفض الاعتراف بالمحرقة اليهودية التي جاء قيام إسرائيل ردّا سياسيا وأخلاقيا “نبيلا”عليها.
ومن يستعيد ما حصل في العقود الطويلة الماضية على هذه الأرض الفلسطينية المقدّسة من ثلاثة أديان يرى، بوضوح، أنه لم يكن لإسرائيل، في حروبها العديدة مع الوطنية الفلسطينية والمحيط العربي، سوى هدف واحد، تأكيد صدق الشعار الذي اعتمدته الحركة الصهيونية منذ تحرير كتاب “دولة اليهود” “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”. ومن هنا أصبح القضاء السياسي، إن لم يكن المادي، على الشعب الموجود فيها وتغييبه، بل إنكار وجوده أصلا في فلسطين وخارجها محور السياسة الإسرائيلية بأكملها، فهي ترى في الاعتراف بوجوده، ولو على جزء من أرض فلسطين، نفيا لشرعية وجودها، أو بالأحرى ادّعائها ملكية فلسطين الحصرية وحقها التاريخي في وراثتها ومصادرتها من دون شريك، أي في تحويلها إلى دولة يهودية صافية، مستلهمة نموذج الدولة الألمانية العنصرية التي أرادت النازية تخليصها من “الشوائب” العرقية والأقليات غير الآرية، لتكون تعبيرا عن هويتها وتفوّقها الطبيعي وعبقريتها، والتي كان أبرز ضحاياه الطائفة اليهودية ذاتها. لكن الآية كانت معكوسة هنا، فليست الأكثرية القومية هي التي تريد تطهير نفسها من الأقلية “الناشزة”، وإنما العكس.
يشبه وضع المسألة الفلسطينية، بالأحرى، ما حصل في أميركا الشمالية، عندما قرّرت الجماعات الأوروبية القادمة من أوروبا المأزومة مهاجمتها وتفريغ القارّة من سكّانها الأصليين لاستعمارها وتقاسم الأراضي والمصالح فيها بين الغُزاة البيض. من هنا، جاءت استراتيجية التهجير الجماعي (والمذابح إحدى أدواتها) ومحو اسم فلسطين وتاريخها والدولة التي كانت قائمة فيها باسم دولة فلسطين، ومصادرة كل ما كانت تملكه من إرثٍ مادي ولا مادي لحسابها، ثم نزع هوية الفلسطينيين كشعب، وإطلاق اسم عرب إسرائيل عليهم لحرمانهم من حقوقهم السياسية وشرعنة انتزاع أراضيهم وممتلكاتهم لصالح إقامة المستوطنات اليهودية. ولقطع الطريق على أي أمل لهؤلاء “العرب” بالحصول على حقوق المواطنة الإسرائيلية، وتحويلهم إلى لاجئين داخل بلادهم صوت الكنيست الإسرائيلي على قانون يهودية الدولة في 19 يوليو/ تموز 2018، فصارت إسرائيل دولة لليهود، مهما كان منشؤهم وأصلهم ووطنهم الأصلي، وصار الفلسطينيون، أصحابها الأصليون، لاجئين، لا هوية سياسية لهم، سواء لا يزالون يقيمون (مؤقتا) في فلسطين أو يقيمون خارجها في مخيمات اللجوء. وبالتواطؤ مع الكتلة الغربية التي رعت، منذ البداية، ولا تزال، قيام إسرائيل لم يعد يظهر من قضية فلسطين سوى جانبها الإنساني، أي مشكلة لاجئين تقع مسؤولية حلها، كما هو الحال في جميع القضايا الإنسانية، على دول اللجوء العربية والمجتمع الدولي.
من المستحيل من هذا المنظور تصوّر أي مخرج للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني غير الحرب الدائمة، فطرد الفلسطينيين بأي وسيلة، وإخراجهم من فلسطين، سواء بالتهجير أو بحصارهم في معازل وغيتوات داخلها وإخفاء وجودهم بأي شكل، هو شرط وجود فلسطين دولة يهودية صافية أو خالصة ليهودها، والصراع ضد الطابع الصهيوني (العنصري) لإسرائيل (أي ملكيتها الحصرية لليهود) هو شرط استعادة الفلسطينيين اللاجئين في الداخل والخارج لصفة الشعب (بدل اللاجئين والنازحين) وحقوق المواطنة السياسية والقانونية معا.
من هنا، ما كان من الممكن لتاريخ إسرائيل منذ إعلانها عام 1948 إلا أن يكون تاريخ الحروب الإسرائيلية المنظّمة ضد الفلسطينيين والعرب الداعمين لهم من جهة، وتاريخ المقاومات الفلسطينية بكل أشكالها من جهة أخرى. الأولى تهدف إلى “إفراغ” الدولة من فلسطينييها بكل الوسائل، بما في ذلك تحييدهم، وهذا ما شكّل مركز الجهد ومحور النقاش والصراع السياسي والأيديولوجي الدائم بين يهود إسرائيل، أحزابا وحكومات، والثانية، المقاومة، تهدف إلى البحث بكل الوسائل عن “الدخول” إلى فلسطين/ إسرائيل، والعودة إليها واختراق أسوارها وتحصيناتها المادية والإيديولوجية.
هذا ما يفسّر عداء الحكومات الإسرائيلية المستمر والثابت للفظ فلسطين أو فلسطيني، ورفضها المنهجي أي مشاريع أو مبادرات فلسطينية أو عربية أو أممية تدعو إلى أو تسعى إلى التوصل إلى تسويةٍ أو حلٍّ سياسي، لا في إطار حلّ الدولتين المنفصلتين، ولا في إطار دولة ديمقراطية واحدة يتساوى فيها اليهود والفلسطينيون، كما هو حال جميع الدول المتمدّنة، وإصرارها عكس ذلك على استغلال أي فرصة أو ذريعة لبناء المستعمرات على الأراضي الفلسطينية المصادرة وترحيل السكان الأصليين الذين يشكّل وجودهم هاجسا دائما لإسرائيل، وإنكار حق العودة على اللاجئين الفلسطينيين، والرمي عرض الحائط بجميع قرارات الأمم المتحدة ومبادرات السلام من أي طرفٍ جاءت. وربما يلقي هذا الواقع الضوء على المصير التراجيدي لأحد أبرز قادة اسرائيل إسحق رابين، الذي اغتاله متطرّف يهودي، حالما أعلن عن نيته الدخول في مسار سلام وتسوية مع الفلسطينيين.
لم يكن أمام إسرائيل في هذه الحالة، بعد تقويض مفاوضات سلام أوسلو وإخفاق محاولات الترحيل الجماعي لسكان الضفة الغربية، وقبل أن تُطرح خلال الأزمة الراهنة مسألة ترحيل أهالي غزّة إلى سيناء بشكل علني اليوم، خيار آخر يسمح بتغييب الفلسطينيين وتحييدهم سياسيا، سوى إقامة جدار ثم نظام فصل عنصري شبيه بما عرفته جنوب أفريقيا في القرن الماضي. هكذا تحوّلت غزّة إلى “غيتو” كبير لمليوني فلسطيني. أما الضفة الغربية، فقسّمت إلى مجموعات من المناطق المحاصرة بالمستعمرات والمنذورة للتفكيك والاحتواء. وما كان لهذا الخيار أن يتحقّق إلا على أشلاء أيديولوجيات اليسار التي حكمت الرأي العام الإسرائيلي في مرحلة قيامها الأولى وانحسار أفكارها لصالح أيديولوجيات عنصرية، ساهمت في تغذيتها الإسلاموفوبيا التي سادت في الغرب، بسبب بعض العمليات الإرهابية التي قامت بها جماعات متطرّفة فلسطينية أو عربية على أرضية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي أيضا بمثل ما تغذّت منها. هكذا انحسرت التيارات الإسرائيلية الديمقراطية الأكثر اعتدالا، وسيطرت على الصراع السياسي الإسرائيلي الداخلي المزايدات بين يمين ويمين اليمين واليمين الأكثر تطرّفا، ما أدخل السياسة الصهيونية في أزمة أيديولوجية خانقة ووضع إسرائيل، كما أشار مراقبون عديدون ونقلته الصحافة، على أبواب حرب أهلية.
في هذا السياق، جاءت عملية طوفان الأقصى، لا على سبيل ثورة سكان الغيتو وضد تضييق الخناق المتفاقم عليهم، ولا بسبب الاعتداءت المتزايدة على المقدّسات الإسلامية الفلسطينية فحسب، وإنما أيضا في سبيل تقويض مساعي التطبيع التي سيطرت على سياسة الحكومات العربية في السنوات الماضية أيضا، وكان نجاحها، من دون أي “تعويض” للفلسطينيين من أي نوع، يعني التصفية النهائية للقضية الفلسطينية ورمي تضحيات أجيالٍ عديدةٍ من الفلسطينيين في البحر. وفي هذا المجال، لا تقلّ مسؤولية الحكومات العربية في دفع الفلسطينيين إلى الانفجار عن مسؤولية السياسات الإسرائيلية العدوانية الرافضة أي تسوية سياسية، والتي قرّرت توجيه طعنة أخيرة لقضيتهم، وإحلال “السلام” الاقليمي على أجسادهم وعلى حساب دمائهم. وما كان من المنتظر من طهران التي أدركت ما يمثله هذا التحوّل الاستراتيجي من تهديد لمواقعها التي لا تزال تسعى إليها منذ ثلاثة عقود ألا تستغلّ الفرصة لقلب الطاولة على منافسيها، وتأكيد قدرتها على التأثير في تطوّر الأحداث المشرقية ونفوذها الحقيقي واستحالة تجاوز مصالحها في إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط “الجديد” (أي من دون فلسطين) التي يتحدّث عنها صراحة الأميركيون والإسرائيليون.
من الصعب لأحد أن يتنبأ بتطور الأحداث في هذا الصدام المتعدّد الأقطاب، إذ تجد جميع الأطراف نفسها في الخندق الأخير دفاعا عن رهاناتها. الفلسطينيون الذين يلعبون ورقتهم الأخيرة للحفاظ على حلمهم/ حقهم بفرض حلٍّ سياسي يفضي إلى إقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل تضمّ ما تبقى لهم من فلسطين، وتنقذ تضحياتهم الهائلة قرنا كاملا تقريبا، وإسرائيل الصهيونية التي تلعب مصيرها دولة عنصرية لا شريك لها في فلسطين التي كانت، وينبغي أن تبقى أرضا من دون شعب لشعبٍ من دون أرض. وإلا سوف تُكره على القيام بتنازلاتٍ في هوية إسرائيل الصهيونية نفسها إذا اعترفت بوجود شعب فلسطيني، في إسرائيل أو خارجها. وإيران التي تلعب أيضا مصير نفوذها الذي لا تزال تشتغل عليه منذ عقود في المشرق، مستخدمةً رافعة الدفاع عن حقّ الشعب الفلسطيني، ولن تقبل بهزيمة الفلسطينيين، ولا حتى بتسويةٍ سياسيةٍ لا تكون شريكا فيها. والحكومات العربية التي خسرت رهانها على التطبيع المجاني، ولا تريد أن تخسر بهزيمة الفلسطينيين حربا جديدة مع إسرائيل من دون أن تخوضها. وفي المقابل، لا يسمح التكتّل الغربي، وفي مقدمته الولايات المتحدة، بنهاية لهذه المواجهة، يكون من نتيجتها تقزيم إسرائيل ونزع الطابع الاستثنائي عنها وإجبارها على الخضوع للقانون، وبالتالي، هزيمة الغرب الذي لا يرى فيها سوى امتداد له في الشرق الأوسط وقاعدة عسكرية أساسية، تضمن له نفوذه الاستثنائي في منطقة استثنائية من الناحية الجيوستراتيجية، ولا يزال يستخدم تفوّقها بنجاح منذ عقود لفرض إرادته على شعوبها وإجبار حكوماتها على الخضوع لحساباته وخدمة مصالحه.
لكن، مهما كانت قوّة التدخّل الإسرائيلي وأغراضه ونتائجه، وحجم الدعم العسكري والسياسي للحلفاء/ الشركاء الغربيين، لم يعد أمام إسرائيل، بعد صفعة “طوفان الأقصى” التي أعادت فلسطين إلى واجهة الأحداث، وأحبطت محاولات تغييب الشعب والقضية معا، بالرغم من الإشكالية التي تطرحها قيادة حركة حماس، سوى أحد خيارين: الدخول، ولو بعد أن تنتهي المعركة، في مفاوضاتٍ جدّية تنهي سياسة الإنكار، وتسعى إلى تطبيق حلّ الدولتين الذي أصبح يحظى بإجماع عربي ودولي شامل، أو الهرب إلى الأمام والتقدّم نحو حرب شاملة وحاسمة، تقضي على ما تعتقد تل أبيب أنه المشكلة الأساسية التي لا تزال تهدّد وجودها، والتي أخفقت في حلها، وهي محاولة إبادة الشعب الفلسطيني وتغييب حضوره السياسي الذي لم يكن بارزا وفاقعا لعين خصومه كما هو عليه اليوم، في مقاومته الاستثنائية من دون شك، لكن أكثر في طوفان دماء أبنائه الذي لا يتوقف. لكن لن يعني اختيار كهذا سوى سوْق المنطقة بأكملها نحو الهاوية بما فيها إسرائيل.
العربي الجديد
—————————
غزّة تحتلّ العالم/ سميرة المسالمة
أزاحت الحرب المعلنة من إسرائيل على غزّة الستار عن الموقف الغربي الموحّد من القضية الفلسطينية، ما يبدّد أي آمال عربية يمكن البناء عليها من هذا التصريح أو ذاك، من أي مسؤول أميركي أو أوروبي، بشأن حلول ممكنة لتنفيذ القرارات الدولية المتعلقة بالقضية الفلسطينية عموماً، وبحلّ الدولتين تحديداً، أو حتى تخفيف سياسة العنف الإسرائيلي في عموم الأراضي المحتلة ضد الفلسطينيين، وفي جولة زعماء الغرب الذين سارعوا إلى التوافد إلى إسرائيل للوقوف إلى جانبها، وكأن غزّة احتلّت العالم، يمكن ملاحظة تأكيدهم المتكرّر على نقاط ثلاث أساسية: الأولى، إن هذا الغرب برمّته مع إسرائيل في حربها على غزّة. ومن المفهوم والمعلن أن الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، ومعها معظم أوروبا، أمدّت إسرائيل بكل مستلزمات حربها، بل ما يفيض عن حربها ضد غزّة، ليشمل الدول المجاورة لها، إن شاءت، وفي الوقت الذي تحدّده، وتحت الذريعة التي تراها مناسبة، مع امتلاكها الرخصة الدولية الصالحة لكل زمان ومكان على ما يبدو.
والترسانة المسلحة التي تعوم عليها دولة الاحتلال ليست للتخزين أو لمجاملة المصنّعين، وشراء حمايتهم، كحال أنظمة الدول العربية التي تدفع مئات الملايين سنوياً ثمناً لأسلحةٍ معظمها صور على ورق، فإسرائيل عمدت، على الدوام، إلى وضع مخزونها الحربي في مواجهة من تعتبرهم أعداءها من الفلسطينيين، أو غيرهم، سواء كانوا من المُدرجين في لائحة الإرهابيين حسب زعمها، أو منظمّات مدنية أو مسلحة، أو من المدنيين من أطفال ونساء وشيوخ.
والنقطة الثانية في كل التصريحات الغربية تأكيد المسؤولين رغبتهم في العمل على خفض العنف أو تجنّب تصعيده، وهنا (لا يتناقض الغرب مع نفسه)، وانما يوجّه رسالة واضحة إلى الأنظمة العربية أن نزع فتيل الحرب مُمكن، ولكن ليس المقصود به السعي إلى حلولٍ بين الطرفين، أي حركة حماس وإسرائيل، بل العمل على تنفيذ مطالب إسرائيل التي تريدها من خلال حربها، وهي إخلاء غزّة وإنهاء “حماس”، ولا ضير من قولها صراحة مسح غزّة وناسها من الوجود. ولمّا كانت الحرب تحتاج طرفين، فإن وأد الحركة يتطلب تسويةً بين الطرفين، وهذا ما ظلت ترفضه إسرائيل سبعة عقود، أو إنهاء أحدهما، وهذه مهمة العرب التي يطلبها الغرب اليوم، أي إنهاء الطرف الفلسطيني لصالح الطرف الإسرائيلي، لكن الطرف، في هذه المرة، ليس “حماس” فقط، بل كل غزّة، لأن غزّة لم تكن يوماً هي “حماس”، وهذا تعرفه إسرائيل والغرب جيداً، و”حماس” ليست كل غزّة. أي أن المطلب الغربي هو تجنيب إسرائيل خسائر الحرب ومنحها مكاسبها، فهذا العالم المرتبك موصول “كوردور” سلامُه بزوال غزّة، وإعادة رسم خريطة جديدة لدول المنطقة التي لن تستثني أي حدودٍ من الاختراق، من مصر إلى الأردن وسورية ولبنان، وبالتأكيد لحساب مكاسب جديدة لإسرائيل التوسّعية، والتي إن تجنّبت قتل مزيد من الشعب الفلسطيني في غزّة الملتهبة عليها، فإنها لن تتنازل عن تهجيره.
وفي حسبةٍ سريعةٍ، لن يصعب على الدول التي استوعبت نحو عشرة ملايين سوري، إثر حرب النظام السوري على شعبه، أن تزيد عليهم نحو مليوني فلسطيني، فقد صارت التجربة السورية مقياساً في القصف والتدمير والتهجير. وفي المقابل، الصمت الدولي والتغاضي عن الجرائم أيضاً صارا سياسة عالم بلا معايير. مع وجود نقطة لمصلحة إسرائيل، وهي أنها سابقاً كانت تُنذر السكان لإخلاء المباني قبل قصفها، وهذه رفاهيةٌ لم يعرفها الشعب السوري في حمص وريف دمشق ودرعا وإدلب وحلب، ما يعني أن سياسة القصف الإسرائيلية من دون سابق إنذار مبنية على مقاربة مجرّبة وفعّالة في حصد الضحايا.
النقطة الثالثة، أن الغرب يعتقد أن القيم الإنسانية، الحرية والعدالة والمساواة، تنطبق على مواطنيه فقط، أي كأنها خاصّة بالغرب، وليست قيماً خاضت الشعوب في سبيلها تجارب قاسية ومؤلمة في كل مكان، فكانت وليدةً لتجربة البشرية في كل العالم، ما يعني أن هذه النظرة استعلائية، وقد ترقى لتكون عنصرية.
هكذا يتحدّث زعماء تلك الدول عن حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها، في حين يتناسون أن إسرائيل أقيمت بواسطة القوّة، وبفضل دعمهم، وبسبب محاولتهم التغطية على اضطهادهم اليهود في بلدانهم، إذ نشأت معاداة السامية في بلدانهم هم بالذات. كما يتناسون أن تلك الدولة قامت دولة استعمارية، وفقاً للمعايير الإنسانية والقرارات الدولية، أي أن الفلسطينيين هم ضحايا تلك الدولة، وهذا لا ينفي أن سكّان إسرائيل من اليهود هم ضحايا لاسامية أوروبية.
أيضاً، يتناسى هؤلاء الزّعماء في حديثهم عن حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها أيضاً، أن الدفاع عن النفس لا يعني إبادة المدنيين وتشريدهم، وأن ما قبل هذه الحرب ملفّ إسرائيل ثقيل بالجرائم ضد الفلسطينيين، وهي كانت المعتدي وليست الضحية، فهي التي تقتُل المدنيين يومياً، وكذلك الصحفيين. ولعلنا لا ننسى جميعاً مشهد قنص الصحافية شيرين أبو عاقلة قبل العدوان الحالي. وهي التي تصادر أراضيهم وتدمر بيوتهم، وتحتلّ حياتهم، وتعتقلهم وتشرّدهم، وها هي تقتل أطفالهم ونساءهم وشيوخهم بالجملة في المستشفيات والجوامع والكنائس والأفران وتدمّر عمرانهم، وتحاول دفن مدنهم.
يتناسى هؤلاء أيضاً، في غمرة حديثهم عن الرهائن، أن إسرائيل تعتقل حوالي ثمانية آلاف من الفلسطينيين والعرب، ومنهم منذ عشرات السنين، وأغلبيتهم من دون محاكمة، أو من دون تهمة، وأنها تمارس العقاب الجماعي لإخضاع الفلسطينيين، وفرض إملاءاتها عليهم.
يفوّت هؤلاء الزعماء أن إسرائيل قتلت، حتى كتابة هذه السطور، أكثر من أربعة آلاف من الفلسطينيين، نحو نصفهم من الأطفال، وجرحت ما يزيد عن 13,5 ألفاً وشردت مليوناً من فلسطينيي غزّة، أي نصف الفلسطينيين، الذين كانت إسرائيل تفرض عليهم حصاراً مشدّداً منذ 16 عاماً. كما لا يأتي هؤلاء على حقيقة رفض إسرائيل الانصياع للقرارات الدولية، وضربها عرض الحائط اتفاقيات أوسلو التي وقعتها في البيت الأبيض قبل ثلاثة عقود، رغم ما تشتمل عليه هذه الاتفاقيات من إجحاف بالنسبة لحقوق الفلسطينيين. ويبدو أنها بقرار مسبق لهذه الحرب، تنفّذ مخطّطها لإعادة ترسيم حدود ليس فقط الفلسطينيين داخل أراضيهم، وفي سجنهم الكبير الذي تديره السلطة الوطنية الفلسطينية، ولكن أيضاً مع الدول العربية المجاورة، كبيرها وصغيرها!
————————-
مغالطات النقاش حول جدوى المقاطعة/ عدنان عبد الرزاق
أدمن الغرب عموماً النظر إلينا كعرب – ونحن للأمانة والإنصاف ساعدناه – أننا أسواق استهلاكية ومواد استعمالية، جرى تنميطها عبر التبعية حيناً، وربط المصالح إلى حد وهم البقاء غالب الأحايين، ما أدخلنا، أو جلنا على الأقل، قفص الاستهلاك وفخ اللذة والنفعية.
هكذا، بتنا، مع التراكم والإدمان، نرى بحقوقنا أو طرح أهداف تتعدى أقفاص التبعية معصيةً، وفي رفع سقف التعاطي للمطالبة بالدور والتنافس عقوقاً… وإن فعلنا ما هو أبسط حقوق الشعوب والدول التي لها من الجغرافيا والثروات والتاريخ ما يضعها على القمة، أو استخدمنا، وقت تتعاظم ملامح تلاشينا، أقل الأسلحة فتكاً، كالمقاطعة، فوقتذاك تتطور وصوفه لنا، لتبدأ من التعصّب والشوفينية وتنتهي بالتطرف والإرهاب.
فهل توجع المقاطعة عالم الشمال الإنتاجي إلى الحد الذي يخرجه عن صواب المحافظة على شركاء كما قطط الخشب، تصطاد له من المواقف والثروات ما يشاء، حتى من دون أن تأكل؟
أول ما يقفز إلى ذهن المتلقي أو المستهلك حين سماع طلب المقاطعة هو: وما جدوى المقاطعة؟ هل ما أستهلكه من منتجات لتلك الدولة سيؤثر عليها؟ وهل نحن فقط من يستهلك، أم ثمة اسواق عديدة تتلهف لتلك المنتجات الجيدة بمواصفاتها وسعرها؟
وربما يتمادى المستهلك بأسئلته، ليصل إلى الأثر المؤقت للمقاطعة على اقتصادات قوية تعبر منتجاتها العالم وتجوب الأسواق، بواقع انسحاب متكرر من المقاطعة والقطيعة، تعتمده جلّ الأنظمة العربية تحت ضغط الكرسي والبقاء عليه.
ولا يجهد المتلقي طلب المقاطعة نفسه بمزيد من التفكير حول خسائر المقاطعة أو ضرورة التحريض على بدائل محلية، بخاصة في دولنا العربية التي استمرأت الاستهلاك وأدمنت السلع المستوردة من دون أن تفكر بإيجاد بدائل تغير من الواقع الاقتصادي المحلي برمته.
فمن يصدّر سينتج ومن ينتج سيشغل عمالة ويستفيد من القيم المضافة للمواد الأولية وتزيد الصادرات العملة الأجنبية لديه فتتحسن عملته ويقوى احتياطيه الأجنبي… هذا إن لم نفلسف التصدير على أنه رسل وإعلانات متحركة عن قوة وتقدم الدول المصدرة…
باختصار: ربما مثال مقاطعة الكيان الصهيوني، اقتصادياً وعلاقات، يختلف كلياً عن أمثلة سابقة أتت أُكلها ومفاعيلها، إلى الحد الذي أثنى دولاً كبرى عن مواقف وأفعال، بل وتقدمت باعتذار وتعويض.
وربما بفرنسا والدنمارك على إثر نشر صور وكاريكاتيرات مسيئة للنبي الكريم أمثلة حية وطازجة، تدلل على تأثير أسلحة المقاطعة التي لا تقتصر على العزوف عن الشراء والاستهلاك، بل تصل، مع الاستمرار والضغط الشعبي، إلى المقاطعة الدبلوماسية والسياسية وسحب السفراء ووقف الاستثمار والعلاقات.
ومثال إسرائيل، كما أسلفنا، مختلف كلياً وتأثيره أضعاف الذي رأيناه على فرنسا والدنمارك، فنحن نتكلم عن دور الجغرافيا أولاً، والذي، على ما يبدو، لم تعِه إسرائيل بعد، فهي شوكة زرعوها ضمن محيط، ولا يمكنها القفز عليه أو التملّص من قدر الجغرافيا، أياً بلغت من الدعم والقوة ومحاولات الاستقلال.
كما، وبحكم الجغرافيا وأحكام التطبيع والتخاذل العربي، لدولة الكيان علاقات اقتصادية وتبادل تجاري، يفوق مثيلاتها البعيدة ذات الخيارات الجغرافية والاقتصادية المتعددة.
فوقت نقول مقاطعة إسرائيل لا نقصد ذلك التبادل مع مصر والإمارات والمغرب، الذي ينوف على عشرات المليارات، كما لا نخصص، إن وسعنا رؤية المقاطعة، عشرات المليارات مع تركيا وغيرها من الدول الإسلامية المعنية مباشرة بقتل الفلسطينيين وتهجير سكان غزة والحيؤولة دون تنفيذ “الشرق الأوسط الجديد” الذي ستجرفها مخططاته، فيما ستجرف.
بل ثمة مشروعات تمثل مصير هذا الكيان، لها علاقة عضوية ووثيقة بالجوار العربي والإسلامي، إن بدأت من مشروعات الطاقة ونقلها، لن تنتهي عند التجارة والثقافة وحتى الديمغرافيا.
نهاية القول: بإجابة مختصرة لمن تسكنه هواجس اللاجدوى من المقاطعة أو يقلل من دورها وأهميتها، حتى بلجم المعتدي وتراجعه عن قتل سجناء غزة وتهجيرهم، يمكننا القول: أجل هناك تأثير وأكثر مما تتوقع، وإن لم نناقشك بالآثار والعقابيل على المستوى الاقتصادي والصعيد الاستراتيجي وحتى الوجودي.
فجميل أن تكون إنساناً اقتصادياً، ينظر إليك الآخر بعين بالاهتمام على أنك صاحب الفضل في استمرار دوران عجلة الاقتصاد وتشحيم عجلات النمو الاقتصادي.
وجميل أن تكون إنساناً، قبل أن تكون إنساناً اقتصادياً، ما يمكّنك من النظر إلى نفسك بالمرآة لأنك لم تشارك بقتل أو تمويل قتل، اهتديت بالخيار العقلاني ولم تك فريسة هوى ونفعية ولذة.
هكذا يمكن أن تقتنع بجدوى المقاطعة، وتنتبه إلى لاوعي المجتمعات المنغمسة بالاستهلاك والمحكومة باللاجدوى، والمساهمة بدورك في قتل الإنسان ذي البعد الواحد المشغول باستهلاكه عن مشاعره وغضبه وتضامنه وحقوقه. ويمكن أن تساهم في تحويله إلى كائن حر بخياراته متعددة الجوانب، ما يتعدى الحيوانية وما فيها من طعام ولذة وشعور منقوص بالأمان.
—————————-
حروب الصورة والوردة الإسرائيلية/ صبحي حديدي
كما يبدو راهناً، لا حدود لمظاهر الانحياز الفاضح للرواية الإسرائيلية ولجيش الاحتلال الإسرائيلي لدى كبريات وسائل الإعلام الغربية المقروءة والمسموعة والمرئية على حدّ سواء؛ خاصة تلك التي تزعم عراقة في التأسيس والتقاليد والمهنية العالية (مثل الـBBC البريطانية)، والكفاءة التكنولوجية الفائقة في مختلف جوانب التغطية المباشرة أو عن بُعد (مثل الـCNN الأمريكية). وقد لا يُدهش المرء حين تتكشف له جولات متماثلة في ممارسة تلك المظاهر، إياها، وبما يشبه القصّ والنسخ واللصق؛ كلما اتصل الأمر بحروب دولة الاحتلال ضدّ قطاع غزّة وأهله.
خذوا، في المثال الأحدث عهداً، ما تسرّب عن قرار محطة وموقع الـ MSNBC إبعاد ثلاثة من أبرز مذيعيها، مهدي حسن وأيمن محيي الدين وعلي فلشي، عن سدّة إدارة الأخبار في أعقاب عملية “طوفان الأقصى”؛ لا لأيّ سبب يتصل بالكفاءة وحُسن الأداء والجماهيرية الوطيدة، بل لسبب واحد ظاهر ومشترك، مفاده أنّ الثلاثة مسلمو الديانة وعُرف كلّ منهم بطرائق متفردة في إطلاق الصوت المختلف الذي يُكتم عادة، والرأي الانشقاقي الذي يخالف السائد أو المسيّد. حسن (الهندي/ البريطاني الأصل)، هو أكثرهم ميلاً إلى السجال الفكري والنقدي والبلاغة في الحجة وطرائق الإفحام والإقناع؛ وعليّ (الكيني الأصل) منشدّ أكثر إلى مسائل الاقتصاد والأشغال والأعمال، ولكن من زوايا إنصاف الفئات الدنيا إزاء رساميل الهيمنة والتسلط؛ ومحي الدين (مصري الأصل) يظلّ أحد أمهر المراسلين على أرض المعارك والوقائع الساخنة، وبين الأشجع في طرح الأسئلة المسكوت عنها دائماً.
وللثلاثة سجلات عمل باهرة ومشرّفة في وسائل الإعلام المرئية الأمريكية والبريطانية الأكبر والأوسع انتشاراً، ولديهم بالتالي ذلك الجمهور العريض، ليس المحلي فحسب، بل الكوني أوّلاً في الواقع؛ وليس المتعدد في الاهتمامات والميول السياسية والإيديولوجية فقط، بل متنوّع الأجيال والأقوام والأجناس كذلك. ولم يكن قرار إبعادهم عن منصّة إدارة الأخبار باليسير على إدارة محطة وموقع الـ MSNBC، بالطبع، لولا أنّ الحدث يخصّ دولة الاحتلال الإسرائيلي؛ ولهذا لم يجد الناطقون باسم المحطة والموقع وسيلة التفاف على القرار، ولأنه كان فاضحاً فاقعاً، سوى اعتبار الإبعاد خطوة مؤقتة… وكأنها، بالفعل، يمكن أن تنقلب إلى اجتثاث دائم وساحق وماحق!
وخذوا، على سبيل اختصار المشهد وتبيان تكرار القديم وسيادة النمط المتماثل، نموذج محيي الدين الذي كان خلال العدوان الإسرائيلي على غزّة مطلع 2009، الوحيد الذي راسل محطات عالمية، أمريكية بصفة خاصة، من موقع الموجود على الأرض وفي الميدان؛ كما كان، أواخر العام 2012، قد غطى الغارات الإسرائيلية على القطاع؛ وامتاز سنة 2014 بأنه الشاهد البليغ المؤثر عاطفياً والمحترف مهنياً، على قصف القاذفات الإسرائيلية للأطفال الفلسطينيين الأربعة الذين كانوا يلعبون على رمال الشاطئ. فكيف كافأته محطته على ذلك التقرير الأخير، الانفرادي والاستثنائي؟ كفّ اليد عن العمل، والنقل إلى موقع آخر، ليس خارج القطاع وحده فحسب، بل خارج فلسطين كلها، أو إلى جهة ظلت مجهولة طيلة أيام. زملاؤه، وأوساط صحافية وإعلامية في أمريكا أوّلاً، وعلى نطاق عالمي، تضامنوا معه من دون إبطاء، وبصدق، وبنزاهة بدت مدهشة بالقياس إلى حساسية ملفّ غزّة، وسطوة مجموعات الضغط المؤيدة لإسرائيل. لا أحد، إلا رهط المتواطئين الشامتين، اشترى الذريعة التي ساقتها المحطة في تفسير نقل محي الدين، أي الحرص على أمنه الشخصي مع دنوّ احتمالات اجتياح برّي إسرائيلي. ولهذا راجعت إدارة المحطة قرارها، مضطرة أغلب الظنّ، فأصدرت بياناً تعلن فيه إعادة الرجل إلى غزّة، مع تنويه خاصّ بـ”مساهمته القيّمة والفريدة في حكاية موت الأطفال الفلسطينيين الأربعة”.
حكاية أخرى، غزّاوية أيضاً، وقعت قبل سنوات وتخصّ المجلة الإلكترونية MSNBC، التي اعتادت تنظيم مسابقة سنوية لأفضل الصور الفوتوغرافية، يشارك في تحكيمها القرّاء عن طريق التصويت الإلكتروني المباشر. وذات سنة كانت صورة “موت في غزة” عن استشهاد الطفل الفلسطيني محمد الدرة، قد صعدت إلى المركز السادس، فالرابع، حتى استقرّت أخيراً في المركز الأوّل بأغلبية مليون صوت. وبدا واضحاً أنها سوف تفوز بعيداً عن أية منافسة تُذكر، خصوصاً بعد أن تحوّلت إلى نوع من حرب رسائل إلكترونية بين المتعاطفين معها (ومع الانتفاضة والفلسطينيين إجمالاً)، والمناهضين لها (وللانتفاضة والفلسطينيين إجمالاً، واستطراداً). وفي الحصيلة ارتفع عدد الأصوات المؤيدة للصورة إلى ثلاثة ملايين صوت من مختلف أنحاء العالم، مقابل نحو نصف مليون عند إطلاق المسابقة. لكن “موت في غزة” لم تفز في نهاية المطاف، لأنّ الناطق باسم المجلة أعلن أنّ التحرير قرّر ببساطة إلغاء المسابقة نهائياً، وقال في بيان رسمي: “لدينا أدلة مادية على وجود تزوير في التصويت”.
ولا جديد في التذكير بأنّ الصورة هي أيقونة عصور العولمة بامتياز، وهي تظلّ ساحة حرب شرسة لا تختلف في الشدّة والضراوة، وفي الوحشية والهمجية، عن قتال القاذفات والدبابات والمدفعية في ميادين الحروب الحيّة. غير أنّ المرء يندر أن يعثر على أدلة قاطعة تثبت مقولة كهذه إذا تلفّت بعيداً عن صورة دولة الاحتلال الإسرائيلي، التي لا يجوز أن تُقذف بوردة من دون أن يُراق على جوانبها الدم!
القدس العربي
—————————–
المكارثية الفرنسية/ سلام الكواكبي
في سنة 1950، قام المدعو جوزيف مكارثي، وهو نائب في مجلس الشيوخ الأميركي، بتوجيه اتهامات بالجملة إلى العديد من كبار موظفي الدولة وكبار مثقفي الولايات المتحدة الأمريكية، بالانتماء الى الحزب الشيوعي وتكوين طابور خامس ينخر عضد الدولة الأميركية لصالح عدوها الاتحاد السوفييتي في الحرب الباردة حينذاك. وقد أدّت هذه الحملات إلى زج مئات الأشخاص في السجون وفصل آلاف غيرهم من أعمالهم. ومن أشهر من وقعوا ضحية المكارثية، العالم ألبرت أينشتاين والممثل شارلي شابلن والكاتب آرثر ميلر. وبعد مرور وقت طويل، تبين أن اتهاماته لم تكن مسندة إلى أية أدلة وانتهت حملة القمع هذه سنة 1954. ومنذ ذاك الوقت، اعتُمِدَ في العلوم الاجتماعية وفي الأدبيات السياسية، تعبير المكارثية، للإشارة إلى حملات التطهير الوظيفي بتهم جوفاء تخدم في ما تخدم أقصى اليمين في مؤسسات أية دولة تبحث عن وسيلة لتصفية معارضيها في ظل المنظومة الديمقراطية الغربية.
بعد مرور قرابة 75 سنة على هذه الحملة، وبمرور السنوات التي شهدت حملات مشابهة عرفتها خصوصًا دول بعيدة عن النظام الديمقراطي، ومنها دول تنتمي الى المنظومة الاشتراكية والعديد من الدول العربية التي تميّزت بأنظمة استبدادية منذ نشوء الدولة “الوطنية” في رحاها، تشهد فرنسا، بلد الأنوار والثورة وإعلان حقوق الانسان والمواطن، حملة مكارثية تكاد لا تُخفي قباحتها رغم عدم دخول مسارها الى حيّز الاعتقالات الجماعية والصرف العشوائي من الخدمة اللتين عرفتهما الولايات المتحدة في زمن المكارثية الأميركية.
وكانت بوادر المكارثية الفرنسية قد ارتبطت تاريخيًا بقانون اقترحه نائب عن الحزب الشيوعي سنة 1990 وأقرّته السلطة التشريعية بسرعة باسم من أقترحه وهو النائب “غيسّو”. وهو قانون يعاقب بغرامة مرتفعة، وحتى بالسجن، كل من تخوّل له نفسه الأمّارة بالشك في أن يتعرّض إلى “مسلمّات” اجمع عليها أصحاب القرار في ما يتعلق بتفسيرات اجتهدوا في خطّها لما يسمونه على الطالعة والنازلة بـ”معاداة السامية”، إلا أن تطبيقه بقي نادر التواتر. وعلى الرغم من ضمّه في جنباته لموضوعات مرتبطة بمعاداة الأجانب عمومًا وبالعنصرية تجاه المختلفين اثنيًا أو عرقيًا أو دينيًا، إلا أن هدفه الأساس، والذي ثبُتَ من خلال تطبيقه، كان ممارسة الرقابة على أي تصرّف وتعبير شفهي أو كتابي، يجتهد المشرّع في كونه معادياً للسامية التي حُصِرَت بالمسألة اليهودية. وأثار اصدار هذا القانون انتقادات واسعة اعتبرته غير دستوري وضد حرية الرأي والتعبير والبحث.
مع هجوم “حماس” على القواعد والمستوطنات والمدن الإسرائيلية في السابع من تشرين الأول / أكتوبر الحالي، عادت الحملة الشعواء على كل من سوّلت له نفسه بإدانة ردة الفعل الإسرائيلية الوحشية والقصف الأعمى للمدن والمخيمات الفلسطينية. وصار لزامًا على كل معلق أو مسؤول أن يفتتح إعلاميًا أو عموميًا أي لقاء، ولو كان حول الاحتباس الحراري ودببة القطب الشمالي، بإدانة صريحة “للإرهاب الفلسطيني الذي مورس بحق المدنيين الإسرائيليين”. ولقد تميّزت فرنسا عن أغلب دول العالم بمنعٍ صريحٍ للتظاهر دعمًا للشعب الفلسطيني سرعان ما أبطله قرار المجلس الدستوري معتبرًا أنه قرار تعسفي لا يجوز تطبيقه في بلد ديمقراطي.
مع تزايد حدة العنف والقتل الممارس ضد فلسطيني غزة، بدأت معالم الغضب الشعبي تظهر على الساحة الفرنسية. ليس فقط من قبل ذوي الأصول العربية والمسلمة، بل ايضًا من كثيرٍ من الرموز الأكاديمية والقامات الفكرية. وسرعان ما تصدّى وزير الداخلية جيرار دارمنان، لهذه المواقف مهددًا بالويل والثبور. وقد وصل الأمر به إلى اعتبار أن كل من يُندّد بقتل المدنيين الفلسطينيين هو منتمٍ لجماعة الإخوان المسلمين. وقد صرّح بذلك جهارًا إثر نشر النجم الكروي العالمي كريم بنزيمة لتغريدة أدان فيها سقوط ضحايا مدنيين في غزة. وجريمة بنزيمة من وجهة نظر وزير الداخلية الفرنسي، أنه لم يُدن قتل الإسرائيليين من قبل حماس. وقد وصل الأمر بنائبة عن حزب “الجمهوريين” اليميني إلى دعوة الدولة الى تجريد اللاعب الفرنسي من الجنسية كعقابٍ له على هذا التصرف. وقد تم اعتقال زعيم نقابي إقليمي لنشره بيانًا يُدين قتل الفلسطينيين دون توصيف حماس على أنها من بدأ بالقتال وأنها منظمة إرهابية. من جهة أخرى، تعرّضت باحثة فرنسية مرموقة في المدرسة العليا للعلوم الاجتماعية إلى حملة هجومية وبيانات استنكار حرّض عليها بعض من العاملين في المدرسة لأنها شاركت الطلبة ببيان للتوقيع عليه يُدين قتل الفلسطينيين المدنيين.
المكارثية الفرنسية الجديدة تحبو في وحل الاشتباه والتقديرات العمياء، لكنها في تطوّر مستمر نحو مرتفعات السخرية السياسية المليئة ببوادر انهيار القيم الديمقراطية او استنسابيتها في ظلّ منظومة سياسية والإعلامية تعاني أمراض بنيوية مرتبطة بانهيار القيم المؤسسة ـ إن وجدت فعلاً ـ وبهيمنة إرثٍ فيه مزيجٌ كريه التركيب والرائحة والمظهر من العقلية الاستعمارية / الأبوية / التفوقية / الدينية.
يقف المرء أمام المشهد الفرنسي ويطرح أسئلة متشابكة تبدأ بالشعور بغربةٍ عميقة ومؤلمة عما يحيطه من لا توازن وانتقائية في المواقف ولا تنتهي بخوف جدّي على الديمقراطية.
المدنيين
—————————
بايدن ونتانياهو… رضوخ ونصائح/ إبراهيم حميدي
إنها مرحلة من الرضوخ الأميركي لأجندة إسرائيل. رضوخ جو بايدن لبنيامين نتنياهو وحكومة يمينية متطرفة في تل أبيب وبعض النصائح. هذا أقل ما يمكن قوله. حتى النصائح التي قيلت في الغرف المغلقة، حسب التسريبات، تلحفت بكثير من الحذر … والارتباك.
هناك أمثلة كثيرة مختلفة، في العلاقات الأميركية– الإسرائيلية. بعضها انطلق من فكرة “انقاذ إسرائيل من نفسها”، أو “رغما عنها”. بعضها الآخر، جاء من فكرة ضغط واشنطن على تل أبيب، قصير الأمد بهدف بناء ترتيبات في الشرق الأوسط تخدم مصلحة أميركا وإسرائيل على المدى الطويل.
أحد الأمثلة، كان بعد حرب الخليج وتحرير الكويت في 1991 ومساعي إدارة الرئيس جورج بوش الأب لترتيب عقد مؤتمر دولي للسلام بمشاركة عربية وفلسطينية. مؤتمر يعلن تفرد وأحادية أميركا في ترتيب أوراق الشرق الأوسط بعيدا عن الاتحاد السوفياتي المنهار وكتلته الشرقية المنفلتة وتضعضع حلفائهما العرب.
رفض رئيس الوزراء الليكودي إسحاق شامير العرض الأميركي. رد وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر، بأن حذره وأعطاه رقم هاتفه كي يتصل به عندما يكون جاهزا لحضور مؤتمر مدريد. كما ضغط الرئيس بوش على شامير وتكتله بأن جمّد ضمانات القروض لبناء المستوطنات. ما كان من شامير إلا أن رضخ للضغط “الجمهوري”، وذهب إلى موتمر مدريد في أكتوبر/تشرين الأول 1991. بعدها بأشهر خرج بالانتخابات من رئاسة الحكومة وجاء إسحاق رابين.
مثال آخر، ما قام به وزير الخارجية هنري كيسنجر عندما أقام في الشرق الأوسط وشن دبلوماسية مكوكية بين مصر وسوريا وإسرائيل بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، استبعدت الاتحاد السوفياتي وأسفرت عن ترتيبات عسكرية وسياسية رسمت معالم في الشرق الأوسط ولا يزال بعضها قائما ومرجعا.
أميركا في 2023 ليست أميركا 1991 أو 1973، كذلك إسرائيل والشرق الأوسط. عالمنا الآن ليس ذاته. روسيا غارقة في أوكرانيا ومغامرة في العالم، والصين متأهبة في آسيا والعالم، وأميركا تكافح وتسعى لترتيبات تبقيها زعيمة للعالم، وهي تقترب من انتخابات مصيرية في مرحلة انقسام غير مسبوقة نهاية العام المقبل. كذلك، فان الهجمات التي تعرضت لها اسرائيل في 7 أكتوبر، غير مسبوقة في عقود طويلة من تاريخ الصراع.
رغم كل ذلك، أو بسبب كل ذلك، جاء رضوخ بايدن لمقاربة نتنياهو وجاءت إشارات “تمردات” إقليمية على أميركا، وهذه بعض المؤشرات.
أولا: فرض نتنياهو برنامج انتقامه في غزة بعد هجوم “حماس” في غلافها. وما كان أمام بايدن سوى تبني الرواية الإسرائيلية لما حصل في 7 أكتوبر/تشرين الأول. كان أول رئيس يزور إسرائيل ويحضر “غرفة الحرب” في لحظة حرب. قبل الرواية بأنها “حرب بقاء”. كما أن وزير خارجيته أنتوني بلينكن ذهب أبعد بأن تحدث أمام الكاميرات وبحضور نتنياهو، عن يهوديته والهولوكست.
أضيف إلى ذلك، تقديم كل الدعم العسكري والاستخباراتي لإسرائيل، وإرسال القطع العسكرية قبالة شواطئ لبنان وسوريا وإسرائيل، وإرسال التحذيرات إلى إيران ووكلائها من توسيع الحرب. واضافة الى كل ذلك، جاء تبني بايدن ومؤسسات أميركية الرواية الإسرائيلية لمجزرة المستشفى. وفوق كل ذلك، ان احد البنود الرئيسة لجولة بلينكن في مصر والأردن، كان الضغط لقبول تهجير ٢.٤ مليون شخصي من غزة تمهيدا لـ “محو” حركة “حماس”.
ثانيا: جرأة عربية في التعاطي مع إدارة بايدن. دول حليفة وقريبة لواشنطن، لم تغير روايتها لمجزرة المستشفى بعد نفى بايدن مسؤولية إسرائيل عنها. العاهل الأردني الملك عبدالله بن الحسين ألغى قمة رباعية كانت مقررة مع بايدن ورئيسي مصر والسلطة الفلسطينية. هذا لم يكن يحصل سابقا، الأردن حليف أميركا يلغي قمة مع رئيس أميركا.
أما مصر، فمخاوفها مختلفة. رتبت قمة دولية- إقليمية– عربية عن السلام وغزة التي كانت ذات يوم تابعة لها، من دون تنسيق مع أميركا، ووجهت الدعوات لبايدن دون التنسيق معه. بايدن قرر عدم الحضور وكلف دبلوماسيا بمستوى منخفض لحضور قمة لم تنجز خريطة طريق لمستقبل غزة والقضية، أو وقفا لاطلاق النار وخطة للمساعدات، وعاد من الشرق الأوسط كي يقدم إلى الكونغرس طلبا لتقديم دعم استثنائي لإسرائيل (وأوكرانيا).
ولاشك ان حديث بلينكن عن تهجير الفلسطينين، كان سبباً لغضب مصري واردني وتركيز خطابات العرب في القمة، على رفض التهجير والرحيل.
ثالثا: شاحنات وأسيرات، إذ أعلن بايدن “انتصاره” بترتيب إرسال 20شاحنة عبر معبر رفح إلى غزة، ثم إطلاق “حماس” سراح سيدتين أميركيتين. رهينتان مقابل 20 شاحنة. قدمه بايدن على أنه إنجاز وانتصار. وقدم تعيينه ديفيد ساترفيلد مبعوثا للشؤون الإنسانية، قرارا قياديا. بدت الصفقة والمساعدات، أشبه بحملة علاقات عامة خصوصاً اذا عرفنا ان ٦٠٠ شاخنة كانت تعبر يوميا قبل بدء حملة القصف، وان أميركا صوت ضد مسودة قرار أممي يطالب بوقف النار.
رابعا: تعرض مواقع أميركية لهجمات من “مسيّرات” شنتها تنظيمات وميليشيات إيرانية في العراق وسوريا واليمن، مع تبادل التوتر والقصف بين “حزب الله” وإسرائيل عبر حدود لبنان. إشارات ورسائل لإبقاء خيار “توسيع الحرب”، و”وحدة الساحات” وفتح جبهتي الشمال والجنوب، قائما، رغم الإنذارات والتحذيرات العسكرية والدبلوماسية.
خفض سقف الدبلوماسية وغياب القيادة وتآكل الردع، دليل على حال أميركا مع حلفائها وأعدائها في المنطقة.
صحيح، ان أميركا لاتزال القوة الأكثر نفوذا في العالم، وتريد صوغ “نظام عالمي جديد” كما قال بايدن، لكن دولا كبرى وإقليمية كثيرة ترى التفاصيل وتوسع الشقوق. بالفعل، إن فرض الأحادية القطبية لأي إمبراطورية يتطلب حربا كبرى. كذلك تفكك هيمنة إمبراطورية على العالم، يأتي بعد حرب وحروب.
معارك وتحرشات أوكرانيا والشرق الأوسط وأذربيجان وكوسوفو وغزة، بعض إشارات العالم الجديد… ولن تكون الأخيرة.
المجلة
————————–
أنصار إيران يناوشون أميركا بانضباط في العراق/ رستم محمود
بعد شهور من “الهدوء التام” بين الولايات المتحدة الأميركية، التي تملك تشكيلة من المصالح الحيوية وقاعدتين عسكريتين في العراق، ومجموع الفصائل العراقية المسلحة المحسوبة والمرتبطة بإيران أي ما يسمى “الفصائل الولائية”؛ فإن وقائع الأيام القليلة الماضية تُشير إلى إمكانية تحطم ذلك، على وتيرة الحرب الإسرائيلية على غزة، ورغبة الفصائل الولائية في تحقيق مجموعة من المكاسب لصالحها، مستفيدة من النقمة الشعبية العراقية على الولايات المتحدة بسبب مساندتها التامة لإسرائيل خلال هذه الحرب، ومستغلة الظرف الأمني الحساس الذي تمر به المنطقة راهنا، وسعي الولايات المتحدة لعدم توسع رقعة الحرب بأي ثمن.
تحركات تصعيدية
التهديدات باستهداف المصالح والقواعد العسكرية الأميركية في العراق صدرت تباعا من عدد من السياسيين والقادة العسكريين “الولائيين” العراقيين، مثل عضو البرلمان وأحد قادة الحشد الشعبي العراقي هادي العامري، والأمين العام لـ”فصائل أهل الحق” قيس الخزعلي، ومثلهم آخرون كثيرون، وإن كانوا يربطون ذلك بتدخل الولايات المتحدة لصالح إسرائيل في هذه الحرب.
أولى المجريات الميدانية حدثت عبر استهداف “قاعدة عين الأسد” (الأميركية) في محافظة الأنبار غربي العراق بطائرتين مُسيرتين يوم الأربعاء (18/10)، قال الجيش الأميركي إنه أسقطهما قبل وصولهما إلى أجواء القاعدة. في اليوم نفسه أعلن “جهاز مكافحة الإرهاب” في إقليم كردستان عن سقوط طائرة مُسيرة بالقرب من “قاعدة حرير” العسكرية الأميركية شمالي العاصمة أربيل، دون أضرار.
بعد الهجومين بيومين فحسب، كشفت مصادر أمنية عراقية أن “طائرتين مُسيرتين” هاجمتا قاعدة “عين الأسد” مُجددا. أسقطت القوات الأميركية واحدة منها، فيما سقطت الثانية ضمن “حرم القاعدة”. حدث ذلك بعد ساعات قليلة من زيارة وزير الدفاع العراقي ثابت العباسي إلى القاعدة ذاتها. وقال بيان الوزارة العراقية إن الزيارة جاءت بغية “متابعة الوضع الأمني وتفقد القطعات في المحافظة”. وفي اليوم نفسه ذكر بيان لفصائل مسلحة عراقية أن عناصرها عادوا لاستهداف “قاعدة حرير” في إقليم كردستان. فيما تم تداول أنباء عن اتخاذ القنصلية الأميركية في مدينة أربيل إجراءات أمنية احترازية، ودخول القوات الأميركية في “قاعدة حرير” مرحلة “الجهوزية التامة لمواجهة أي طارئ”، بما في ذلك “حفر خنادق دفاعية”.
وأوضح “اللواء 29” من الفرقة السابعة بالجيش العراقي (قيادة قوات الجزيرة والبادية) أن دورياته عثرت على منصة لإطلاق الصواريخ، موجهة نحو قاعد “عين الأسد” الأميركية، تحمل صواريخ من نوع “غراد”، تم تفكيكها.
في السياق نفسه، أشارت مصادر كردية عراقية إلى تحركات مكثفة لفصائل من الحشد الشعبي في المرتفعات الجبلية لمنطقة سنجار (ذات الغالبية السكانية الكردية اليزيدية) القريبة من الحدود السورية، متوقعة أن تكون منصات لإطلاق الصواريخ قد نُصبت هناك، موجهة نحو القواعد العسكرية الأميركية في الجانب السوري من الحدود. لتذكر فصائل “المقاومة الإسلامية في العراق” في بيان لاحق، نُشر صبيحة يوم الجمعة (20/10) أنها “أطلقت صواريخ على قاعدة للاحتلال الأميركي في حقل غاز كونيكو بريف دير الزور”، وهو ما أكده الجيش الأميركي فيما بعد.
ضمن هذه الأحداث، أعلن وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن عن تعزيز الجهوزية العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط، على ضوء التصعيد الأخير، مضيفا “سيتم نشر منظومة (ثاد) المضادة للصواريخ وبطاريات (باتريوت) إضافية للدفاع الجوي عبر المنطقة”، يتوقع المتابعون أن يكون للقواعد الأميركية في العراق الحصة الرئيسة منها.
هُدنة متفق عليها
في إشارته إلى الفترة التي سبقت حرب غزة وهذا التصعيد الجديد، يصف معهد استكهولم الدولي لأبحاث السلام الحالة الأمنية في العراق بأنها “تتمتع بأكثر فتراتها استقرارا منذ عام 2003”. ويعزو الخبراء الأمنيون الذين تواصلت “المجلة” معهم ذلك إلى أربعة عوامل سياسية توافقية، حدثت بين الولايات المتحدة والقوى العراقية المقربة من إيران، تراكمت تباعا طوال عامين كاملين:
في الشهور الأخيرة من حكومة رئيس الوزراء العراقي السابق مصطفى الكاظمي، وافقت الولايات المتحدة على “صيغة وسط” لمستقبل الوجود العسكري الأميركي في العراق، وقبلت بـ”إنهاء الدور والمهمة القتالية في العراق”، وتصفية عدد من القواعد العسكرية، وسحب عدة آلاف من الجنود الأميركيين من العراق، وذلك في الشهر الأخير من عام 2021، وبعد خمسة أشهر من المفاوضات مع الحكومة العراقية، عقب صدور التشريع البرلماني العراقي في يوليو/تموز من نفس العام، الذي طالب الحكومة العراقية بإخراج كافة القوات الأميركية من البلاد.
طوال عام كامل بعد ذلك، منذ الانتخابات البرلمانية في أكتوبر/تشرين الأول 2021 وحتى انتخاب رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني أكتوبر 2022، والذي شهد العراق خلاله أزمة سياسية عاصفة بين القوى السياسية المقربة من إيران من طرف والتيار الصدري وحلفائه الأكراد والسُنة من طرف آخر، لم تتدخل الولايات المتحدة لصالح هؤلاء الأخيرين، وقبلت بالحكومة العراقية الجديدة المقربة من إيران، وتعاونت معها بشكل مكثف، سواء اقتصاديا عبر دعم ملفي الطاقة وإعادة الهيكلة المالية للحكومة العراقية، أو سياسيا عبر زيارات المسؤولين الأميركيين للعراق أو دعوة السوداني لزيارة البيت الأبيض.
مع الأمرين، وطوال عام كامل من عمر حكومة السوداني، لم تدعم الولايات المتحدة إقليم كردستان بما فيه الكفاية، والإقليم هو الجهة العراقية الأقرب سياسيا للولايات المتحدة، والفريق السياسي والمنطقة العراقية الوحيدة الخارجة عن هيمنة إيران والقوى العراقية المقربة منها. فالولايات المتحدة غضت النظر عن الهجمات الصاروخية التي شنها الحرس الثوري الإيراني على مخيمات اللاجئين الأكراد الإيرانيين في كردستان العراق. ولم تمارس ضغوطا سياسية أو مالية على الحكومة العراقية المركزية، بعد قطعها لحصة الإقليم من الميزانية المركزية، ومنعها للإقليم من تصدير نفطه عبر تركيا.
طوال هذه الخطوات المتتالية، كانت هناك مفاوضات أميركية/ إيرانية تجري خفية، توصلت إلى مجموعة من التوافقات، من بينها موافقة الولايات المتحدة على منح 6 مليارات دولار من الأموال الإيرانية المجمدة للحكومة الإيرانية، والإفراج المتبادل عن سجناء معتقلين لدى الطرفين… إلخ.
في حديث مع “المجلة”، يشرح الكاتب والباحث العراقي شوان مزوري كيف أن العامين الماضيين كانا الأكثر تقبلا للوجود الأميركي بالنسبة للقواعد الشعبية في عموم العراق، تحديدا في المناطق الوسطى والجنوبية، ذات الأغلبية الشيعية، بسبب توافق فصائل الحشد والقوى السياسية المقربة من إيران مع الولايات المتحدة؛ فقد شهد العراق ارتفاعا ملحوظا في موارده المالية، وظهرت في الأفق معالم مشاريع اقتصادية وسياسية عملاقة، تبدأ بالتوقيع على اتفاقات للطاقة النظيفة مع شركات عالمية أميركية وأوروبية كبرى، وتمر بالدخول في شراكة مع الصين، عبر الانخراط في مبادرة “الحزام والطريق”، وليس انتهاء بمبادرة “طريق التنمية” العراقي التركي، الذي سيربط الشرق الأوسط بقارة أوروبا.
يضيف مزوري في حديثه: “كانت فصائل الحشد والقوى السياسية الراعية لها تشعر بنشوة استثنائية طوال هذه الفترة، فالولايات المتحدة قبلت بها حاكما فعليا على العراق، وصارت هيمنتها الاقتصادية والأمنية والاجتماعية واضحة المعالم، وتم إضعاف الجهتين السياسيتين الأكثر مناوءة للحشد، إقليم كردستان والتيار الصدري. مع ذلك، مُنحت الحكومة المدعومة منها مجالا لأن تحقق بعض المشاريع والإنجازات الاقتصادية، بغية تخفيف النقمة الشعبية عليها، وأعادت صياغة كثير من المؤسسات الداخلية، وأقرت العشرات من القوانين والتشريعات البرلمانية، فظفرت بالهيمنة العامة والقبول الشعبي في الآن ذاته”.
لا تبدو تلك الصيغة قادرة على الاستمرار حسب الظروف الراهنة، كما يشرح الباحث مزوري. فالمزاج العام العراقي حاد في تعاطفه مع سكان غزة، والفصائل المقربة من إيران لن توفر جهدا في استغلال هذا التحول، بغية ملاقاته من طرف، وخلق أنواع من الضغوط على الولايات المتحدة لصالح إيران من طرف آخر. فإلى جانب تصاعد التعاطف العراقي، تبدو الولايات المتحدة في أكثر أوقاتها وظروفها حذرا ومحافظة، بغية عدم توسيع بقعة الحرب الحالية.
كانت المظاهرات والمبادرات الشعبية مؤشرا على ذلك التبدل في الرأي العام، كما أن الخطاب الانفعالي الذي ألقاه رئيس الوزراء محمد شياع السوداني في “قمة القاهرة للسلام” دل على عدم قدرة الحكومة العراقية على البقاء في منطقة متوازنة بين إيران وفصائل الحشد من طرف، والولايات المتحدة من طرف آخر. والتحفظ الأميركي في الرد بأي شكل على مناوشات الحشد الشعبي- حتى الآن- دليل على حالة الحرج الأميركية.
استعادة تجربة “حزب الله”
لا يعني الأمر بكل حال أن هذه الجهات العراقية المقربة والموالية لإيران من الممكن أن تخوض مواجهة عسكرية مباشرة لصالح الفلسطينيين. بل تستخدم الظرف الإقليمي لإحراز مكاسب سياسية وأمنية ضد الولايات المتحدة والقوى العراقية المقربة منها ضمن العراق فحسب، بغية إعادة صياغة المعادلة والتوازن الداخلي العراقي لصالحها أكثر فأكثر.
إن هذا التصعيد ضد القواعد العسكرية والمصالح الحيوية الأميركية في العراق، وتحت لافتة “مؤازرة غزة”، سيجبر مختلف القوى السياسية العراقية التي كانت مناوئة للحشد والقوى الولائية العراقية لأن تخضع لخطابها واستراتيجيتها، بما في ذلك القوى السياسية “السُنية”، وسيسمح لها بخلق ضغوط عسكرية وأمنية معقدة على إقليم كردستان، بما في ذلك الإطاحة باستقراره الأمني ونشر المزيد من الوحدات ومنصات الصواريخ على حدوده مع باقي مناطق العراق، وسينهي كل تفاهمات الإقليم مع الحكومة المركزية.
لكن المسعى الأهم بالنسبة لهذه الجهات كامن في “تثبيت الشرعية”، فالمناخ الحربي المضبوط الذي تغرق فيه المنطقة، مع زيادة وتيرة “النقمة الشعبية العراقية” على المواقف الأميركية مما يجري في غزة، وفي ظل عدم قدرة الحكومة المركزية العراقية أو إقليم كردستان فعل أي شيء عملي لصالح الفلسطينيين، فإن فصائل الحشد ستقدم نفسها كطرف وحيد قادر على فعل شيء ما، مهما كان هذه الشيء بسيطا وثانويا وغير مؤثر على المشهد العام.
ففي المحصلة ستعود هذه الفصائل وستطالب بمقابل سياسي وعسكري لهذه الممارسة، كما فعل “حزب الله” اللبناني منذ أوائل الثمانينات. فاحتكار القدرة على الفعل الميداني، مهما كان هذا الفعل متواضعا ومضبوطا، هو الأداة لتثبيت الشرعية وخلق الهيمنة الكاملة. وهو ما تستعيده فصائل الحشد في العراق راهنا.
تُدرك فصائل الحشد، وامتداداتها المسماة “المقاومة الإسلامية في العراق”، أو الأحزاب السياسية الراعية لها، أن مواجهة الولايات المتحدة في العراق يجب أن تبقى في إطار “الصراع المضبوط”، على وتيرة ما يجري في غزة وحسبما يُمكن للولايات المتحدة نفسها أن تقبل به وتتحمله، دون أن تُجبر على الدخول في مواجهة شاملة وجذرية مع هذه الفصائل داخل العراق.
المجلة
—————————
غزة.. أوكرانيا الشرق الأوسط/ رائد المصري
تعيش المنطقة في سياق تطوّر سياسي وأمنيّ كبير غير مسبوق، في إعادة لهندسة العلاقات السياسية والاقتصادية في الشرق الأوسط، وتبدو أنها معركة حاسمة على مستقبل المنطقة برمّتها، وقضية التطبيع بين السعودية وإسرائيل هي قضية استراتيجية للغرب وواشنطن، بعد أن سحبت الأخيرة كل من الرياض ونيودلهي من تحالف الــ”البريكس”، كما يُعتبر وقف التطبيع مع إسرائيل هو مسألة استراتيجية بالنسبة لإيران، فهذا هو جوهر الصراع الذي انفجر في المنطقة، مع التأكيد على حقوق الشعب الفلسطيني السليب بإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس، فهذا الانفجار الكبير تتلطَّى خلفه/ وتعبث به/ لعبة استراتيجية شديدة التعقيد، ربما ستكون تداعياتها وآثارها عميقة في الشرق الأوسط لعشرات السنين، حيث أتت عملية “طوفان الاقصى” في لحظة تاريخية تؤسس لتغيير كل المسارات، فإما أن يستمر الاقتتال وهذا الصراع من دون حل جذري شامل منذ قيامه، وإما السعي وضرورة الاستفادة من حجم الضربة الأولى التي تلقتها إسرائيل وكسرت هيبتها، لإجبارها على فرض حل وتقديم تنازلات في العودة إلى المبادرة العربية للسلام وحلّ الدولتين.
الشرق الأوسط اليوم، يمرُّ بأخطر مراحله في الحرب المندلعة في قطاع غزة، والتي ألْحقت هزيمة بإسرائيل، حيث صار من الضروري إعادة رسم خريطة سياسية جديدة للمنطقة، بعد أن خفَّ وهج القضية الفلسطينية إلى أدنى سلم أولويات العرب، بسبب الانقسام الفلسطيني وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني الذي تعيشه كثير من البلدان العربية، ما جعل الشعب الفلسطيني وحيداً أعزل في المواجهة، وفي مقاومة الانتهاكات اليومية لأرضه ومقدّساته والاستباحة لدماء أبناء شعبه، وزاد عليه حكومة نتنياهو والتحالف مع اليمين الديني المتطرف، والتي لا يمكن لهذه التركيبة أن تقدم الحد الأدنى من التنازلات لا مع الفلسطينيين، ولا مع حلقات التطبيع العربي رغم الدفع الأميركي لها، فتحول الصراع من وُجهته القومية (لأن القومية تتعلق بالأرض) إلى وجهته الدينية.
وواضح كذلك الافتراق الشعبي عن الحكام العرب، وهي التي ترزح تحت وطأة أنظمة قاهرة مستبدة، لا تؤمن بالحرية والتداول السلمي للسلطة، بل تؤمن بالقمع لكل مخالف لها، من أجل الحفاظ على عروشها وإرضاء الأسياد الخارجيين الضامنين بقاءها وديمومتها بمنحها صك البراءة وطوق النجاة الدائم، في مقابل رفض إسرائيل الدائم القبول بإنشاء دولة فلسطينية، والتمسّك بيهودية القدس كاملة، وصولاً لضمّ مستوطنات الضفّة الغربية. فصار الأردن محكوماً بهذا الصراع بهواجس مقاربة نتنياهو في إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي، واعتبار القضية الفلسطينية مسألة وجودية لمنع إقامة الوطن البديل والتبديل الديمغرافي، ولذلك قبلت عمان وصمتت عن مشروع الممرِّ الاقتصادي من الهند إلى أوروبا رغم مروره في المملكة، وكذلك مصر التي تواجه الحركة الإسرائيلية المستهدفة لدورها الإقليمي، خاصة عندما حان الوقت في حرب غزة، وبعد تلقي تل أبيب الصدمة العسكرية الأولى، وصار مشروعها شبه المُعلَن تهجير الفلسطينيين من غزة إلى سيناء، لتصبح الأرض البديلة للديموغرافيا التي تريدها إسرائيل، من أجل تسهيل الممر الاقتصادي وإقامة قناة بحرية موازية لقناة السويس في أراضي غزة..
كل حركات المقاومة لإسرائيل والتي تدعمها إيران، تشكل خطوط دفاع متقدمة في بلدان كسوريا ولبنان والعراق واليمن، هي أمام اختبار حقيقي وامتحان دقيق، حتى لا تضعف القضية وحواضنها أكثر، خاصة في البلدان التي استمدت قوتها فيها ودخلت إلى مفاصل الحكم لتحمي ظهرها، وعندما حانت الفرصة ضربت فصائل المقاومة في غزة يوم 7 تشرين الأول ضربتها، لضمان حضورها كمرجعية للتفاوض والقرار في المِلف الفلسطيني وضمان حقوق هذا الشعب في أرضه ومقدساته، ولهدم مفاوضات التطبيع التي تقودها واشنطن بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل وخلط الأوراق، ولفرملة التطبيع بين السعودية وإيران، ولذلك، كانت عملية الطوفان في غزة.
فقد حرصت إيران رغم الحراك السياسي الذي شهدته الساحة اللبنانية، والذي كان ملائماً جداً لها ومراعياً لمصالحها وحدود قوتها، عبر اتفاق ترسيم الحدود بين إسرائيل ولبنان الرسمي، وبضرورة حماية حزب الله لأمن الطاقة في شرق المتوسط، مقابل الاحتفاظ بنفوذه داخل مفاصل السلطة المركزية في بيروت، لذلك كان واضحاً التناغم بل الغزل، بين القوى الإقليمية حيال المواقف من حرب غزة، وسعْي كل الأطراف إلى التنبه لضرورة عدم توسُّع الحرب مع إسرائيل عبر فتح الجبهات من سوريا ولبنان وإبقائها ضمن قواعد الاشتباك، حتى لو شابها الشلل وحكمتها العقوبات وحصار الفقر والجوع الاقتصادي، وفقدان أدنى مقومات الصمود، وكذلك أيضاً الافتراق الشعبي والانقسام العمودي حيال ما تفعله فصائل المقاومة. لذلك عمد الأميركيون للضغط دبلوماسياً لمنع انزلاق أي طرف إلى تصرّف غير محمود يُخرج الوضع جنوب لبنان عن ضوابطه.
كما يدرك الأميركيون والعالم أنّ إسرائيل وإيران تريدان الحفاظ على التفاهمات على حدود لبنان وفي مياهه، وهم يدرسون الصيغة الأمثل المؤدية لضمانها، ويبدو أنّ هذا الحرص متبادل مع إدارة بايدن، وهذا ما جعل وزير خارجيته أنتوني بلينكن، وآخرين في الإدارة، يحيّدون طهران وينفون أيّة مسؤولية لها عن عملية “حماس” و”وطوفان الأقصى”.
أخيراً، تبدو أطراف النزاع كلها في المنطقة في مأزق كبير وانكشاف تام، وتوضع اليوم بين خيارات صعبة: فإما التخلي عن حركة حماس وإخراج قادتها من غزة وتسليم الحكم والإدارة للسلطة الفلسطينية، أو التخلي عن رأس النظام في سوريا التي دفعت بعض القوى الغالي والنفيس في سبيل إبقائه، أو التسليم لإسرائيل في قيادة مفاتيح منطقة الشرق الأوسط الأمنية والاقتصادية. فصارت قدرة الجميع محدودة على التدخّل في مسار الأحداث هذه المرّة، ولا تريد أن تضحي بما حقّقه مسار التفاوض مع واشنطن تحت الطاولة وفوقها، بعدما تحققت المكاسب الكبيرة، وعادت بأرباح صافية تخدم كل الأطراف الإقليمية والدولية. أما اليوم فقد وقع التناقض الذي لا يريد أي طرف من أطراف الصراع البقاء خارجه، رغم كلفته سياسيا وعسكريا وإعلاميا، لئلّا يخسر أحد فرصة المشاركة في رسم معادلات الشرق الأوسط الجديد من بعد، وكذلك عدم التضحية بمكتسبات التفاوض مع إدارة ديمقراطية يمكن أن تتجدد مع الانتخابات الرئاسية الأميركية العام المقبل، وفي النهاية ربَّما ستفتح هذه الحرب أفقاً جديداً للسلام واتفاقيات تطبيع جديدة بشروط وإرادة سعودية عربية وإسلامية، وقرارات لمصر محكمة غير متزعزعة، كل ذلك مرهون بعدم تحقيق نتنياهو أية انتصارات ميدانية يعول عليها مع مرور الوقت، تمكّنه من بناء شرق أوسط أميركي – إسرائيلي جديد كما قال، لا مصلحة فيه ولا حيل وقوة لأي من القوى الدولية والإقليمية الأخرى.. ولذلك صعد من جرائمه الوحشية في ضرب الأطفال والمرضى بارتكاب مجزرة مروعة في المستشفى المعمداني بغزة، لنسف أية تسوية أو تفاوض مستقبلي يمكن أن يفكر بها بعض الأقطاب العربية والإسلامية في المنطقة..
————————-
تمهيد المسرح السياسي لإنقاذ إسرائيل من نفسها/ أحمد عمر
لو تابعنا تصريحات جو بايدن لوجدنا من أمرها عجبا، فهي مثل أسعار البورصة، تتغير كل ساعة، نبدأ من تصريحاته بشأن قتل الأطفال الأربعين، فلا بد من ذريعة أخلاقية وعاطفية لتسويغ أسباب الانتقام وتشريع القتل، وقوله بها أول أيام طوفان الأقصى، واغتصاب كتائب القسام النساء، وتشبيهه لحماس بالنازية وداعش، ثم تراجعه عن ذلك التصريح، والتراجع جرى بالنيابة عنه وليس بلسانه، وتهديده مرتين لحزب الله محذرًا من التورط بالحرب، حتى يتسنى لإسرائيل الاستفراد بغزة. لكن دماء كثيرة سالت ومظاهرات كبيرة اندلعت في عواصم العرب والعالم، منها لندن ومدريد وبرلين، فتطورت أقواله كثيرًا وتبدلت، ويستشرف من آخرها إغراءً لحزب الله بالدخول في الحرب، والغرض منه تخويف إسرائيل ممثلة بحكومة نتنياهو، توزيع البطولة مناصفة بين الشيعة (الذين يميل إليهم) وبين السنّة، بدلًا من أن تستفرد حماس ببطولة المشهد كله.
وكان قبيل إقلاعه بالطائرة من إسرائيل التي زارها في زيارة طالت سبع ساعات، “لعزاء” نتنياهو بضحايا المشفى المعمداني، أو لشدّ أزره، قد أجاب عن سؤال وحيد من صحافية أميركية مجهولة، يُظَن أن السؤال وضع في فمها، وقد قرأت “الأبلة ” الصحافية السؤال من الهاتف، وهو سؤال سهل كان يمكن حفظه غيبًا عن ظهر قلب، لكن يظهر أنها صحافية من الدرجة الثالثة، أو قد تكون مجرد موظفة في البيت الأبيض، وكان السؤال عن احتمال مشاركة أميركا في الحرب إن شارك حزب الله، فأعلن أنه لن يدخل الحرب إلا إذا تخطى حزب الله الحدود، كأنه يرسل تطمينات للحزب بالمشاركة في الحرب، وقد يُظَن أن الأمر توريط للحزب في الحرب التي تجنب دخولها خلال الأيام الماضية، وكان يكتفي “بتنفيس الدواليب” من مزارع شبعا. فما سبب هذه التحولات، أم إن الأحوال تتبدل في كل ساعة.
تضافرت إشارات أخرى نكص عنها الرئيس الأميركي جو بايدن مثل قوله إن قوات النخبة الأميركية نافي سيلز US NAVY SEALSهي للدعم اللوجستي. هناك تحولات أميركية أخرى نجدها في مظاهرات اليهود من أجل السلام، وتسهيل دخولهم إلى الكونغرس، واعتصام نحو 300 ناشط يهودي فيه، بينهم عشرون حاخامًا، ثم اعتقالهم بعد ساعات. جو بايدن حذر إسرائيل من تكرار أخطاء 11 سبتمبر، وغزوها لأفغانستان والعراق التي علقت في رمالها وجبالها، ومن أن تطول الحرب في غزة خمس سنوات، مضمرًا عدم قدرة إسرائيل عليها، وظهرت إشارات على عدم موافقة أميركا على قطع الماء والكهرباء والطعام عن غزة. ومن العلامات على تبدل الموقف من إطالة الحرب، استقالة موظف أميركي في الخارجية احتجاجًا على تسليح إسرائيل من غير ضوابط وحدود، وتغير لهجة رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون درلوين.
وكذلك تصريحات بيرني سندرز عضو الكونغرس اليساري “الشجاعة” الذي أعلن اعتراضه على وقف إمداد الماء والغذاء والكهرباء عن غزة، لأن نصف الشعب من الأطفال، وقد يكون تصريحه تشجيعًا لأعضاء آخرين جبناء بالاقتداء به، فإما أن هذه التحولات سببها وعي العالم بما يجري، وخروج المعركة عن قدرة ضبطها، أو أن المخرج الأميركي سمح بها إنقاذًا لإسرائيل من نفسها.
أما التحولات الأخرى في الإعلام العالمي، فنجدها في بيرس مورغان ومحمد حجاب وباسم يوسف وحسام زملوط، وظهور ممثلين مصريين بينهم نجوم، أشهرهم محمد رمضان، الذي أدى دورًا تمثيليًا فيه كثير من المبالغة وهو يتحدث عن السلاح المصري المكدّس والصدئ في المستودعات، ونحن هنا أمام احتمالين، أولهما أن طوفان الأقصى قد أيقظ النائمين، والثاني أن هؤلاء التقطوا إشارات من ممولين إقليميين، أو عالميين باللقطة لسرقة البطولة والنجومية من محمد الضيف وأبي عبيدة وهنية ومشعل.
أغلب الظن أن أميركا تشعر بالخطر من ربيع عربي يزلزل العروش العربية، وأن يتقوض الكيان الإسرائيلي الذي أظهر هشاشة عسكرية وبنيوية منقطعة النظير، وجاوز الحد فتكًا بالأطفال والنساء، وتدميرًا للمشافي ومدارس الأونروا التابعة للأمم المتحدة، وإنّ قدرة الإدارة الأميركية على الكذب تتضاءل، وثمة خوف من تفشي العنصريات في أميركا، كما وقع للطفل الفلسطيني وديع الفيومي الذي قتل بـ 26 طعنة، كما أنها فرصة سانحة للتخلص من حكومة اليمين برئاسة نتنياهو التي سيطرت على المحكمة الإسرائيلية العليا، والقبول بخسارة معركة في غزة بأقل الأضرار خشية خسارة الجبهة الموحدة في أوكرانيا ضد روسيا، أو الجبهة القادمة في الصين.
كما أن سؤال القانون الدولي ومعاهدة جنيف الرابعة قد طرح كثيرًا خلال الحرب، فكان لا بد من الحفاظ على صورة أميركا التنويرية الديمقراطية التي تضررت كثيرًا.
علت الأصوات بإدخال المساعدات إلى غزة، وقد تعمل القاهرة وعمان إلى طرد سفراء إسرائيل مؤقتًا كمشاهد إضافية لإسباغ البطولة على أهم حليفين هما مصر والأردن، يُنتخب بعدها السيسي بطلًا، قبل أن تصل المظاهرات إلى ميدان التحرير.
لقد تكبدت إسرائيل خسارة بنيوية، وستحاول أميركا ترميمه، قبل أن تتهدم كليًا، نذكر مرة ثانية بأن المعركة الكبرى هي مع روسيا والصين. فقد تعرضت الطائرات الأميركية في سماء بحر الصين إلى 800 تحرش بالطيران، اقتربت في هذه التحرشات الطائرات الصينية من الطائرات الأميركية حتى مسافة خمسين مترا.
لن تستطيع أميركا الحرب على ثلاث جبهات: أوكرانيا، تايوان، غزة.
————————
حزب الله وسياسة التلويح بالحرب.. لبنان مستنزف والأسد خائف/ صهيب جوهر
تكثر الأسئلة حول انخراط أكبر لحزب الله واحتمال توسع المعركة لتشمل جنوبي لبنان وسوريا، لكن حتى اللحظة لا أحد يمتلك جواباً، في حين يربط المتابعون الانخراط الأوسع في الحرب من على الحدود الجنوبية للبنان وسوريا بمدى الدخول الإسرائيلي البري إلى غزة، أو بمدى تحقيق أهداف عسكرية ضد حركة حماس، أو بالدفع القسري للتهجير المتعمد للفلسطينيين، وهذه هي نقطة الانطلاق التي يضعها حزب الله ولن يسمح بها.
وما بين التحليلات والتقديرات، والعمليات والتي توضع حتى اللحظة في إطار “قواعد الاشتباك”، يتلقى لبنان وسوريا تهديدات إسرائيلية وأميركية كثيرة عبر وسطاء إقليميين ودوليين حول تداعيات انخراط حزب الله في أي مواجهة محتملة، في حين لا يزال الحزب يحتفظ بسلاح الصمت والاكتفاء بضرب مواقع عسكرية ضمن الخط الأزرق، في الوقت الذي تستمر فيه التهديدات الإسرائيلية بتدمير لبنان وما تبقى من الدولة السورية.
وكان لافتاً إصرار الرئيس الأميركي جو بايدن على الحضور إلى إسرائيل في سابقة تاريخية لرئيس أميركي خلال حروب إسرائيل، إلا أنه يدرك تماماً رسالة نتنياهو والأحزاب الفاشية المتحالفة من خلال مجزرة المعمداني الدامية، هو يعلن ببساطة رفض الحلول والتسويات الجاري البحث فيها، والتي كانت ستُطرح في قمة عمّان التي جرى إلغاؤها، والتي كانت ترتكز على إضعاف البنية العسكرية لحركة حماس ما يعني سحب الورقة الفلسطينية من يد إيران، والذهاب لفتح مسار جديد في مشروع حل الدولتين.
أما نتنياهو وحلفاؤه من اليمين النازي فلديهم قناعات متباينة، تقوم على أساس طرد الفلسطينيين وتهجير ما تبقى منهم إلى مصر والأردن، وهذا تحديداً ما يترجمه الإعلان بعد تنفيذ المجزرة المروعة عن قول نتنياهو خلال لقائه بوحدة “غولاني” النخبوية في الجيش الإسرائيلي، أن المعركة في غزة ستجري بقوة كبيرة خلال الأيام المقبلة وأن الأمر سيأخذ منحى طويلاً زمنياً.
سعت إدارة بايدن ودبلوماسيته واستخباراته إلى تحضير أرضية خصبة لنجاح قمة عمان، حيث كان يعتقد أن وزير خارجيته قد أبرم اتفاقاً مع نتنياهو بطابع إنساني، ويمكن من خلاله الدخول المباغت لإنجاز ترتيبات التسوية التي تطمح لها الإدارة الديمقراطية المقبلة على انتخابات رئاسية، لذا جاء تحديد موعد الزيارة بعد اجتماع طويل لمدة 10 ساعات بين بلينكن وأعضاء الحكومة والأمن القومي والاستخبارات المركزية.
وتم تسريب أن طول مدة الاجتماع سببه انتزاع موافقة حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل على ممرات آمنة لدخول المساعدات الإنسانية إلى غزة وإنشاء مناطق آمنة للمدنيين لا يطاولها القصف، وهذا الموقف يتعارض مع طموح نتنياهو الشبق لفرض مشروع تطهير عرقي مع “ترانسفير” فلسطيني باتجاه مصر حالياً والأردن مستقبلاً، لتتبخر آمال أي محاولة دولية أو إقليمية لمشروع “حل الدولتين” التي تشترطها دول عدة مقابل التطبيع مع إسرائيل.
كل هذا الأداء هو ترجمة للرؤية السياسية لليمين الإسرائيلي بكافة أجنحته على الرفض المطلق لتحقيق خيار الدولتين. وكان واضحاً أن أبرز الهجمات السياسية الداخلية على نتنياهو بعد حصول العبور لغلاف غزة في 7 تشرين الأول ضمن معركة “طوفان الأقصى”، تحميله مسؤولية ما حصل نتيجة ما اعتُبر سياسةً متسامحة تجاه حماس، لاعتقاده أن المحافظة على التوازن القائم بين السلطة الفلسطينية في الضفة وحركة حماس في غزة سترسّخ كل العوائق القائمة أمام توحيد الفلسطينيين خلف مشروع “حل الدولتين”، واستند نتنياهو بهذا السرد السياسي مؤخراً وقبل أسابيع من الحرب إلى الصراع الحاصل بين فتح وحماس في مخيم عين الحلوة جنوبي لبنان.
هذا السياق بات يؤشر إلى إصرار نتنياهو على الذهاب إلى حملة برية نحو شمالي غزة مهما كانت الأثمان المتخيلة عنها، وترك التسويات السياسية والإنسانية للمرحلة اللاحقة، وما يزيد من هذا التصور عدمُ توقف الحكومة الإسرائيلية أمام موضوع الأسرى الذي لطالما شكل نقطة الضعف عند كل الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، وهذا ما يعني أن المعركة البرية شمالي القطاع لن تتأخر كثيراً، وهو ما يستدعي إجراء تقييم ميداني لمسار الأمور على الجبهة اللبنانية أولاً والسورية ثانياً، وخاصة أن جبهة سوريا باتت مستنفرة من قبل الميليشيات الإيرانية وعناصر فرقة الرضوان.
والثابت الأساسي في التهديدات المتبادلة بين إيران وحزب الله من جهة وإسرائيل من جهة أخرى، تدخل أحياناً في إطار الحرب النفسية وأحياناً أخرى في إطار التصعيد الإعلامي والسعي لخداع الطرف الآخر والتشويش على حساباته والتهويل عليه للتأثير على خياراته العسكرية. لكنها لا تخلو من الحقيقة في بعض الأحيان. وفي الوقت الذي تتمسك فيه إدارة بايدن ومعها كل الدول الغربية بعدم تمدد المعركة إلى لبنان، تبدو حسابات إسرائيل غير واضحة ويسودها الغموض. وهي قد تعتقد أن الظرف الدولي الحالي قد لا يأتي مرّة أخرى ما يدفعها للاستفادة منه حتى النهاية.
وحزب الله بكونه المسؤول العملي عن كل تحركات إيران الإقليمية، يوحي من خلال صمته بأنه يتعامل مع المعركة على أنها منازلة سياسية وليست عسكرية، لأنه يدرك أن الذهاب نحو حرب شاملة ليس بالأمر السهل هذه المرة، على اعتبار أن إسرائيل تستخدم أقصى درجات القوة التدميرية من دون أي رادع، ولبنان لا يقوى على تحمل خسائر كبيرة.
في حين أن النظام السوري لا يمكنه كسر اتفاقياته مع إسرائيل بإبقاء جبهة الجولان نائمة، وهو يستفيد من كل هذه الحرب لضرب إدلب وريف حلب في ظل الانشغال العالمي بغزة، كذلك فإن الأسد إذا ما بادرت إيران لأخذه لحرب لا قدرة له على التهرب منها، سيخسر المنح المالية المقدمة له من أبوظبي بكونها أولى الدول التي حذرته من الانخراط فيها، كذلك فإن الأسد لن يكون حزيناً بإنهاء حماس على اعتبار أن ثأره معها لم ينته حتى اللحظة، إضافة إلى أن الأسد وصلته رسائل تحذيرية إسرائيلية بالجملة، وصلت إحداها بقصف مطاري حلب ودمشق.
وهذا هو ما يبقي الوضع عند الحدود اللبنانية والسورية في إطار التوترات لا الحرب المفتوحة. لكن يبرز سؤال لافت اليوم مفاده: هل ستسعى إسرائيل للتفرغ لحزب الله عسكريًّا بعد نجاحها في الوصول إلى أنفاق غزة وتصفية قيادات حماس؟ ولا شك أنّ هذا السؤال موجود في حسابات الحزب وإيران، أو على الأقل هذا ما تستنتجه الوساطتان العمانية والقطرية بين واشنطن وطهران.
وثمة اعتقاد أن إسرائيل على الرغم من انشغالها بالحرب، تابعت بأهمية زيارة وزير الخارجية الإيراني إلى العواصم العربية والمواقف التي أطلقها. وهي تعتقد أن حزب الله وإيران يحبذان دائماً الحفاظ على القوة العسكرية للحزب وحمايتها، في إطار موازين الردع ووفق نظرية أن التلويح بالسلاح يمكن كسب النقاط منه ألف مرة، أما استخدام القوة فيحصل لمرة واحدة فقط.
في حين يستخدم الحزب تكتيكات مباغتة، في محاولة لتنويع الساحات، عبر إدخال فصائل وميليشيات في معركة طوفان الأقصى، من خلال ضرب أهداف ومواقع أميركية في العراق وهذا ما تبدّى في إعلان فصيل حزب الله العراقي هذه العملية في أربيل، أو الهجمات الحوثية في البحر والتي استهدفت ناقلة أميركية، وهذا دخول هدفه إعلامي بحت، يحمل إشارات واضحة تحديث قواعد جديدة للاشتباك، بشكل لا يبقى محصوراً في قطاع غزة وجنوبي لبنان، أو لا تعود فيه الجبهة اللبنانية هي الانعكاس الأول لمحاولة إسرائيل بدءَ الاجتياح البري لغزة. وكل هذا من شأنه أن يوحي بأن المعركة أوسع من مجرد جبهتين لإسرائيل، شمالاً مع لبنان وسوريا وجنوباً مع غزة.
والخيار اللبناني والسوري لحزب الله في توسيع الساحات تمظهر من خلال تبني قوى سياسية ممانعة لعمليات تشنها من جنوبي لبنان وسوريا. وهذه الاستراتيجية بات يعتمدها حزب الله للإيحاء بأنه الوحيد في لبنان الذي يقود الصراع عبر دخول أحزاب لبنانية سنية إلى المشروع مؤخراً الجماعة الإسلامية كفصيل سني، وكذلك بالنسبة إلى إعلان كتائب القسام وسرايا القدس، لضربات عبر لبنان حالياً ومن جنوبي سوريا مستقبلاً وبالتالي يسعى حزب الله لإظهار تنوعات طائفية ووطنية في المعركة وأنها في إطار تنسيق سني – شيعي لتجاوز الخلافات، بالمقابل قد يسعى الحزب لجذب عوامل أخرى عبر قوى كالحزب الشيوعي والقومي لإضفاء صورة أوسع على المحور وقدراته.
———————-
الموت يسبق دقة مقالتنا/ غطفان غنوم
كنت قد بدأت بالاعتقاد بأنني تعودت على مشاهد الدم والقتل المروع، بوصفي مواطنًا سوريًّا ينتمي لمدينة حمص التي نالت ما نالته من تعسف وقسوة مارسها نظام الأسد خلال السنوات الماضية، فدمّر الكثير من أحيائها وقتل الآلاف واعتقل الآلاف وهجر عشرات الآلاف منهم.
غير أن ما تشهده غزة اليوم من هجمة إسرائيلية همجية فاقت كل التوقعات بوحشيتها، أعاد لنا الألم حارًا وشديدًا كما لو أننا نمتحن موتنا لأول مرة.
أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية عن خروج أربع مستشفيات عن الخدمة في شمال ووسط قطاع غزة بسبب الاستهداف الإسرائيلي المتعمد لها. كذلك تم تعطيل أربعة عشر مركزًا صحيًا إثر انقطاع الكهرباء ونفاد الوقود عنها.
كل ذلك يجري في ظل تبرير دولي واسع لاعتداء اسرائيل على قطاع غزة بحجة مكافحة حركة حماس، تحت هذا العنوان يتم قطع والماء وقطع إمدادات الوقود، وتجويع السكان وخنقهم لإجبارهم على النزوح القسري من الديار.
تجاوز عدد الشهداء 4651، من بينهم 1873 من الأطفال و1023 من النساء و150 من كبار السن، ونحن نعلم تمامًا بأن الإحصائيات في مثل هذه الأحوال تكون غير دقيقة عادة، كما أن همجية الحملة الإسرائيلية المستمرة لا تترك مجالًا للأرقام بالتوقف.
الموت يسبق حتى دقة مقالاتنا، نحن أمام عداد بشري لا يرحم طفلًا أو شيخًا أو امرأة، ولا يحترم مسجدًا أو كنيسة.
لقد شهدنا سابقًا حروبًا وحشية ولكننا لم نعرف وقاحة حكومات وتصريحات كالتي تمر على رؤوسنا في هذه الكارثة، كتصريحات الرئيس الأمريكي التي تلت قصف المشفى المعمداني الذي تجاوز عدد ضحاياه خمسمئة من الأبرياء، لو تأملنا هذه التصريحات الفاجرة والتي تم تبريرها لاحقًا بأن وزارة الدفاع هي من زودت الرئيس الأمريكي بتلك المعلومات، لوجدنا بأنها تصريحات لا تكتفي بنسب الجريمة للضحية، بل تتعمد ذلك بصلف وعجرفة القوي الذي يعرف بأنه ينتهك كل المواثيق الدولية والأعراف ويرمي بالدبلوماسية الاعتيادية المنافقة عرض الحائط.
ربما تفسر هذه الوقاحة السياسية التي ترافقت مع وقاحة إعلامية، تزعمتها كل المنابر التي تدعي الحيادية والموضوعية من المحطات التلفزيونية الإخبارية الغربية ووكالات الإعلام كل ذلك الغضب الذي اجتاح عواصم العالم، فخرجت المظاهرات من كل حدب وصوب منددة بالجريمة التي يرتكبها العدو الصهيوني.
وربما تكون هذه الفاجعة رغم فداحتها تذكيرًا مهمًا لنا بأن غزة الجريحة مجرد عنوان صغير لعنوان أكبر هو فلسطين العربية السليبة والمحتلة.
فلسطين التي هان العرب جميعًا عندها تركوها لقمة سائغة بين فكي الشيطان، ثم تراكض بعضهم لعناقه وتصديره كملاك.
منذ انطلاق عملية طوفان الأقصى توقع الجميع بأن ما قبل العملية لن يكون كما بعدها حتمًا، لا يمكن لأحد أن يتنبأ بمسارات الحرب ولا بالأقنية التي ستشكلها تيارات الدماء الفلسطينية الزكية المتدفقة، لكن الحرب حتى هذه اللحظة وضعتنا أمام خياراتنا مجددًا، وأمام ضمائرنا، فهي القضية الناصعة البياض والتي لا يمكن لأحد إنكار أحقيتها.
سبق لنا أن تجرعنا كؤوس الموت في ثوراتنا ضد الطغيان في بلدان الربيع العربي، لكن العالم الغربي بصمته حينها عن المجازر كان يدعي بأنه مضلل ومنقسم بين روايات متضاربة.
الآن تقف حكومات العالم الغربي مجللة بالعار، لا لصمتها بل لانحيازها للعدوان، مستندة على حجج واهية تقضي بأن الأمر مجرد دفاع اسرائيلي عن النفس في وجه منظمة حماس، وكلما أطلقت الأخيرة تصريحًا كلما وجدوا فيه وقودا للاستمرار في اللهاث خلف تبريراتهم الواهية.
العار لا يستثني أيضًا أي صامت ممن يخاف على مصلحة شخصية، وجد نفسه فجأة في صراع بين أن يساند قضية شعب عربي مظلوم وأن يدفع ثمنا كالتهميش.
تبًا لخشبة مسرح صامتة ميتة وعاجزة في زمن المجازر.
تبًا لشاشات السينما المعقمة من كل ما يدين محتلًا أو طاغية أو عدوًا.
ربما لا يحق لنا مطالبة أحد بالكلام أو مشاركة المواقف المساندة والداعمة، وقد لا يزيد أو ينقص في الأمر شيئًا لو امتنع أو لم يمتنع البعض عن المناصرة، لكنه الذاكرة، والذاكرة مازالت حية ولا يجب أن تنسى أبدًا من خذل شعبه في لحظات محنته.
الترا صوت
——————–
=========================
سياسات هدر الدّم
وقّعَ حوالي 800 أخصائي قانوني، من باحثين ومحامين وحقوقيين من رؤىً وخبرات مختلفة تجمع الجانب النظري والممارسة العملية، رسالةً مفتوحة تقرأ مجريات الأمور في قطاع غزّة حقوقياً، وتحذّر من بوادر إبادة جماعية بحق الفلسطينيين في القطاع. تقدّم الرسالة قراءة قانونية للسياسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، وتطالب الدول الفاعلة والمنظمات الدولية بالقيام بواجبها القانوني والأخلاقي في منع اقتراف جريمة كبرى ضد الإنسانية.
نص الرسالة الأصلي (باللغة الإنكليزية) وقائمة الموقّعين-ات موجودان على هذا الرابط.
نص الرسالة الأصلي
بصفتنا باحثين وباحثات، وممارسين وممارسات في مجال القانون الدولي ودراسات الصراع والإبادة الجماعية، نجد أنفسنا مضطرين إلى دقّ ناقوس الخطر بشأن احتمال ارتكاب القوات الإسرائيلية جريمة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة. نحن لا نفعل ذلك باستخفاف، إذ ندرك ثقل هذه الجريمة؛ ولكن خطورة الوضع الحالي تتطلّبُ ذلك.
لقد أثار الوضع القائم في قطاع غزة نقاشات حول احتمال وقوع الإبادة الجماعية قبل حدوث التصعيد الحالي، أجرتها نقابة المحامين الوطنية في 2014، ومحكمة راسل حول فلسطين في 2014، ومركز الحقوق الدستورية في 2016. كما حذَّرَ مجتمع الباحثين والباحثات على مرّ السنين من أن حصار غزة قد يرقى إلى «مقدمة للإبادة الجماعية» أو «إبادة جماعية بطيئة الحركة». لوحظَ أيضاً انتشار اللغة العنصرية واللاإنسانية وخطاب الكراهية على وسائل التواصل الاجتماعي، في تحذير صدر في تموز (يوليو) 2014 عن مستشار الأمم المتحدة الخاص المعني بمنع الإبادة الجماعية، والمستشار الخاص المعني بمسؤولية الحماية، رداً على سلوك إسرائيل ضد السكان الفلسطينيين المحميين. كذلك أشار المستشاران الخاصان إلى أن أفراداً إسرائيليين نشروا رسائل تُجرّد الفلسطينيين من إنسانيتهم وتدعو إلى هدر دمهم، وأكَّدا مجدداً أن التحريض على ارتكاب جرائم فظيعة محظور بموجب القانون الدولي.
إن الهجوم العسكري الذي شنّته إسرائيل على قطاع غزة ابتداءً من 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، غير مسبوق من حيث الحجم والشدة والتداعيات على سكان القطاع. في أعقاب التوغل الذي شنّته الجماعات الفلسطينية المسلحة في اليوم نفسه، والذي شمل عدة هجمات إجرامية ضد المدنيين الإسرائيليين، تعرّضت غزة لقصف متواصل وعشوائي من قبل القوات الإسرائيلية. وخلال الفترة بين 7 تشرين الأول والساعة 9:00 من صباح 15 تشرين الأول، قُتل 2329 فلسطينياً وجُرح 9042، بما في ذلك أكثر من 724 طفلاً؛ كما طُمِست مساحات واسعة من الأحياء، واختفت عائلات بأكملها في جميع أنحاء قطاع غزة. علاوة على ذلك، أمر وزير الدفاع الإسرائيلي بفرض «حصار شامل» على غزة، يمنع وصول إمدادات الوقود والكهرباء والمياه وغيرها من الضروريات الأساسية، القرارُ الذي أشار بحد ذاته إلى تكثيف حصار غير قانوني بالأصل، قد يرقى إلى مستوى الإبادة الجماعية، وتَحوُّله ليصبح هجوماً صريحاً ومُدمِّراً.
في وقت متأخر من 12 تشرين الأول، أصدرت السلطات الإسرائيلية أمراً لأكثر من 1.1 مليون فلسطيني في مدينة غزة وشمال القطاع بمغادرة منازلهم والفرار إلى الجنوب خلال 24 ساعة، علماً بأن ذلك سيكون مستحيلاً بالنسبة للكثيرين. وبالفعل، أفاد الفلسطينيون الذين بدأوا بالإخلاء جنوباً بأن مدنيين وسيارات إسعاف قد استهدفوا وأصيبوا جراء الغارات الجوية الإسرائيلية على «الطريق الآمن»، أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 70 فلسطينياً كانوا يفرون بحثاً عن ملجأ. أعلنت اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن «أوامر الإخلاء مقرونة بالحصار الشامل» تتعارض مع القانون الدولي الإنساني. هُجِّرَ قرابة نصف مليون فلسطيني، وقصفت القوات الإسرائيلية معبر رفح – طريق الخروج الوحيد الذي لا تسيطر عليه إسرائيل إلى مصر – عدة مرات. كذلك نشرت منظمة الصحة العالمية تحذيراً مفاده أن «إجبار أكثر من 2000 مريض على الانتقال إلى جنوب غزة، حيث تعمل المرافق الصحية بأقصى طاقتها، وليس لها القدرة على استيعاب الارتفاع الهائل في عدد المرضى، قد يكون بمثابة حكم بالإعدام».
بموازاة ذلك، تصاعدت وتيرة الاعتقالات وأعمال العنف والطرد والتدمير لمجتمعات فلسطينية بأكملها في الضفة الغربية المحتلة والقدس. وابتداءً من 7 تشرين الأول، قام مستوطنون إسرائيليون، بدعم من الجيش والشرطة، بمهاجمة مدنيين فلسطينيين وإطلاق النار عليهم من مسافة قريبة (كما هو موثق في قريتي التواني وقصرة)، واقتحموا المنازل واعتدوا على قاطنيها، الأمر الذي اضطر العديد من الجماعات الفلسطينية إلى ترك منازلها، ليدمّر المستوطنون ممتلكاتهم حال وصولهم إليها. في الفترة من 7 إلى 15 تشرين الأول، وثّقت مؤسسة الحق مقتل 55 فلسطينياً على يد الجيش الإسرائيلي والمستوطنين في الضفة الغربية، وإصابة 1200 فلسطيني هناك.
تشير تصريحات المسؤولين الإسرائيليين منذ 7 تشرين الأول 2023 إلى أنه بالإضافة إلى عمليات القتل وتقييد الشروط الأساسية للحياة بحق الفلسطينيين في غزة، ثمة مؤشرات على أن الهجمات الإسرائيلية المستمرة والوشيكة على قطاع غزة تنفذ بنيّة ارتكاب إبادة جماعية. حتى اللغة التي تستخدمها الشخصيات السياسية والعسكرية الإسرائيلية تعيد إنتاج خطاب واستعارات الإبادة الجماعية والتحريض عليها. أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت في 9 تشرين الأول: «إننا نحارب الحيوانات البشرية ونتصرف وفقاً لذلك». وأعلن في وقت لاحق أن إسرائيل تتجه نحو إجراء «رد واسع النطاق» وأنه «أزال كل القيود» المفروضة على القوات الإسرائيلية، مفيداً كذلك: «غزة لن تعود إلى ما كانت عليه من قبل. سوف نقضي على كل شيء». وفي 10 تشرين الأول، وجّه الميجر غسان عليان، منسق أعمال الحكومة في المناطق، رسالة مباشرة إلى سكان غزة: «هكذا تُعامل الحيوانات البشرية. لن يكون هناك كهرباء ولا ماء، لن يكون هناك سوى الدمار. أردتم الجحيم، وسوف تحصلون على الجحيم». في اليوم نفسه، قال المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي دانييل هاغاري، مُعترِفاً بالطبيعة الوحشية والتدميرية المتعمدة لحملة القصف الإسرائيلية على غزة: «يتم التركيز على إلحاق الضرر وليس على الدقة».
منذ 2007 وإسرائيل تُعرِّف قطاع غزة بأكمله باعتباره «كياناً معادياً». في 7 تشرين الأول، صرّحَ رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بأنّ سكان غزة سيدفعون «ثمناً هائلاً» بسبب تصرفات مقاتلي حماس، وأكّد أن إسرائيل ستشنّ هجوماً طويل الأمد، سيُحوِّلُ أجزاء من المراكز الحضرية المكتظة بالسكان في غزة إلى «أنقاض». كذلك شدَّدَ الرئيس الإسرائيلي على أن السلطات الإسرائيلية تعتبر جميع السكان الفلسطينيين في غزة مسؤولين عن أعمال الجماعات المسلحة، وبالتالي سوف يخضعون لعقاب جماعي واستخدام غير مُقيَّد للقوة: «إن الأمة بأكملها هي المسؤولة. ليس صحيحاً ما يقال حول عدم علم المدنيين أو تورطهم. هذا غير صحيح على الإطلاق». وقال وزير الطاقة والبنية التحتية الإسرائيلي إسرائيل كاتس: «لقد أُمِرَ جميعُ السكان المدنيين في غزة بالمغادرة فوراً. سنربح. لن تصلهم قطرة ماء ولا بطارية واحدة حتى يرحلوا عن الدنيا».
ظهرت أدلة على التحريض على الإبادة الجماعية في الخطاب العام الإسرائيلي، تراوحت بين تصريحات من مسؤولين منتخبين – مثل نداء عضو الكنيست آرييل كالنر في 7 تشرين الأول: «الهدف واحد: النكبة! نكبة تطغى على نكبة 1948» – إلى تعليق لافتات عامة في المدن الإسرائيلية تدعو إلى «النصر»، الذي يعني «صفر سكان في غزة» و«إبادة غزة». على شاشة التلفزيون الإسرائيلي، نقل المراسل الأمني ألون بن دافيد خطة الجيش الإسرائيلي لتدمير مدينة غزة، وجباليا، وبيت لاهيا، وبيت حانون. مثل هذه التصريحات ليست جديدة، ويتردد صداها في خطاب إسرائيلي أوسع يُظهِرُ نية القضاء على الشعب الفلسطيني وإبادته. في وقت سابق من العام، على سبيل المثال، وصف وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريش الفلسطينيين بـ «البغيضين» و«المثيرين للاشمئزاز»، وطالب بـ «محو» قرية حوارة الفلسطينية بالكامل.
في 12 تشرين الأول 2023، أدانَ فريق من المقررين الخاصين للأمم المتحدة «الهجمات العسكرية الإسرائيلية العشوائية ضد الشعب الفلسطيني المنهك في غزة، والذين يتجاوز عددهم أكثر من 2.3 مليون شخص، نصفهم تقريباً من الأطفال. لقد عاش [سكان غزة] تحت حصار غير قانوني لمدة 16 عاماً، وتعرّضوا إلى خمسة حروب وحشية لم تَجرِ محاسبة أحد عليها». وحذَّرَ خبراء الأمم المتحدة من أن «حجب الإمدادات الأساسية من غذاء وماء وكهرباء وأدوية، من شأنه أن يتسبب بحدوث أزمة إنسانية حادة في غزة، التي أصبح سكانها الآن مهددين بخطر المجاعة الذي لا مفر منه. التجويع المتعمد جريمة ضد الإنسانية». في 14 تشرين الأول 2023، حذَّرَ المقرر الخاص المعني بالأراضي الفلسطينية المحتلة من «تكرار لنكبة 1948 ونكسة 1967، على نطاق أوسع» بينما تُنفِّذُ إسرائيل «تطهيراً عرقياً جماعياً للفلسطينيين تحت ضباب الحرب».
يشكل الشعب الفلسطيني مجموعة وطنية لأغراض اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها (اتفاقية الإبادة الجماعية). ويشكل الفلسطينيون في قطاع غزة نسبة كبيرة من الشعب الفلسطيني، تستهدفهم إسرائيل لكونهم فلسطينيين. يبدو أن السكان الفلسطينيين في غزة يتعرضون حالياً للقتل على نطاق واسع على يد القوات والسلطات الإسرائيلية، بالإضافة إلى تعرضهم للأذية الجسدية والعقلية، والظروف المعيشية غير المواتية للحياة – على خلفية التصريحات الإسرائيلية التي تُشير إلى وجود نية للتدمير الجسدي للسكان.
تنصّ المادة الثانية من اتفاقية منع الإبادة الجماعية على أن: «الإبادة الجماعية تعني أياً من الأفعال التالية المرتكبة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية بصفتها هذه:
1- قتل أعضاء من الجماعة؛
2- إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة؛
3- إخضاع الجماعة، عمداً، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً؛
4- فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة؛
5- نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى».
جميع الدول مُلزمة قانوناً بالمبدأ القائل إن الإبادة الجماعية جريمة محظورة بموجب القانون الدولي. أكّدت محكمة العدل الدولية أن حظر الإبادة الجماعية قاعدة قطعية من قواعد القانون الدولي لا يجوز الانتقاص منها. وتنص الاتفاقية على أن الأفراد الذين يحاولون تنفيذ إبادة جماعية أو الذين يحرضون على تنفيذها «سوف يعاقبون، سواء كانوا حكاماً مسؤولين دستورياً، أو موظفين عموميين، أو أفراداً عاديين».
تنص المادة الأولى من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها على ما يلي: «تُصادق الأطراف المتعاقدة على أن الإبادة الجماعية، سواء ارتُكبت في أيام السلم أو أثناء الحرب، هي جريمة بمقتضى القانون الدولي، وتتعهد بمنعها والمعاقبة عليها». وأوضحت المحكمة الجنائية الدولية أن «التزام الدولة بالمنع، وواجب التحرك الموازي له، ينشآن في اللحظة التي تعلم، أو التي ينبغي عادةً أن تعلم، فيها الدولة بوجود خطر جدي بحصول إبادة جماعية. وبِدءاً من تلك اللحظة، وإذا كانت متاحةً للدولة وسائلُ يمكن أن يكون لها أثرٌ رادعٌ للمشتبه بإعدادهم لإبادة جماعية، أو لمن يتوافر فيهم ما يدعو إلى الاشتباه بأنهم يبيتون نية محددة (قصداً إجرامياً مشدداً)، توجَّبَ عليها استخدام هذه الوسائل حسبما تسمح به الظروف».
لقد حذّرت منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية ومجموعات المجتمع المدني اليهودية وعلماء دراسات المحرقة والإبادة الجماعية وآخرون، من وقوع إبادة جماعية وشيكة ضد السكان الفلسطينيين في غزة. ونؤكد نحن أيضاً على وجود خطر جدي بارتكاب جرائم إبادة جماعية في قطاع غزة.
يُناشد الموقعون أدناه جميع الدول إلى اتخاذ خطوات سريعة وملموسة وهادفة لمنع أعمال الإبادة الجماعية بشكل فردي وجماعي، بما يتماشى مع واجباتها القانونية لمنع جريمة الإبادة الجماعية. يجب على الدول حماية السكان الفلسطينيين، والتأكد من امتناع إسرائيل عن القيام بأي تحريض إضافي على الإبادة الجماعية وعن ارتكاب سلوك محظور بموجب المادة الثانية من اتفاقية الإبادة الجماعية.
ينبغي على جميع الدول أن تتصرف فوراً بموجب المادة الثامنة، وأن تدعو الأجهزة المختصة في الأمم المتحدة، وخاصة الجمعية العامة للأمم المتحدة، إلى اتخاذ إجراءات عاجلة بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها. إننا نشير على وجه التحديد إلى دور الجمعية العامة هنا، نظراً لأن صلاحية مجلس الأمن تتعرض للتهديد من قبل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة (كلاهما من الأعضاء الدائمين الذين لديهم حق النقض) اللّتين تُرسلان قوات عسكرية إلى شرق البحر الأبيض المتوسط لدعم إسرائيل.
نذكر هنا أن الجمعية العامة قد أدانت عام 1982 المذبحة التي اقتُرِفَت بحق المدنيين الفلسطينيين في مخيمي صبرا وشاتيلا باعتبارها «عملاً من أعمال الإبادة الجماعية». ونلاحظ أيضاً أنّ لدولة فلسطين الحق، وفقاً للمادة التاسعة من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، رفع دعوى أمام محكمة العدل الدولية من أجل منع ارتكاب أعمال الإبادة الجماعية.
وأخيراً، ندعو جميع هيئات الأمم المتحدة ذات الصلة، بما في ذلك مكتب المستشار الخاص المعني بمنع الإبادة الجماعية، فضلاً عن مكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، إلى التدخل الفوري وإجراء التحقيقات اللازمة وإطلاق الإجراءات التحذيرية اللازمة لحماية الشعب الفلسطيني من الإبادة الجماعية.
موقع الجمهورية
—————————–
بيان مثقفين من العالم العربي في إدانة العدوان الصهيوني الوحشي على غزة
في هذه اللحظة الفارقة التي يشنّ فيها الكيان الصهيوني حرب إبادة على أهلنا في قطاع غزة متذرّعاً بدعاوى الإرهاب التي أصبحت لا تنطلي على أحد، نقف – نحن مثقفي العالم العربي الموقّعين على هذا البيان- لنعلن دعمنا غير المحدود لأهل غزة في مقاومتهم المشروعة وإدانتنا غير المحدودة للكيان الصهيوني في عدوانه الوحشيّ والبربريّ على أرواح الأبرياء.
الكيان الصهيوني الذي يكره البراءة فيقتل الأطفال، ويكره الحقيقة فيقتل الصحافيين، ويكره الطبيعة فيُجرّف أشجار الزيتون، يُتوّج بتصعيده هذا مسيرة طويلة من الانتهاكات؛ هذه الانتهاكات التي لم تقتصر على رفض كل القرارات الأمميّة، وتوسيع السرطان الاستيطانيّ، والتضييق على فلسطينيي الضفة والداخل واعتقالهم، والعدوان على المقدسات الإسلامية والمسيحية، وتأجيج العنف في نفوس المستوطنين وتسليحهم، وحصار قطاع غزة وتجويع أهله، بل وتجاوز ذلك كله ليصل إلى مبتغاه النهائيّ المتمثل داخلياً بالتطهير العرقيّ المُمَنهج للشعب الفلسطينيّ حتى تتحقق الكذبة السافرة التي قام عليها المشروع الصهيوني فتصير فلسطين “أرضاً بلا شعب لشعبٍ بلا أرض”، وخارجيّاً عبر تمرير مشاريع التطبيع التي تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينيّة وتجريد العرب من كرامتهم.
جامعاً ما تفرّق في البشريّة من فظاعات، وعلى مدار خمسة وسبعين عاماً، لم يترك الكيان الصهيوني المحتل قيمةً أخلاقيّة إلّا وانتهكها، ولا مبدأً حضاريّا إلّا وخرقه ولا قداسةً إنسانيّة إلّا وداس عليها بأحذية جنوده الملطّخة بدماء الأبرياء. على أنه هذه المرة قرّر أن يذهب أبعد في طغيانه مستغلاً تواطؤ العالم وانحيازه، وأراد أن تكون مجزرته الوحشيّة ضدّ أهل غزة منقولةً على الهواء مباشرةً دون أدنى خجل أو مراعاة لما تبقّى من ضمير العالم. وإذا كان التاريخ البشريّ قد اعتاد على أن يمنح صوتاً للجلاد وصوتاً للضحيّة، فالكيان الصهيوني -الذي لم يعرف منذ قيامه غير السطو على حقوق الآخرين- سارع للسطو على الصوتين معاً ليكون في الوقت ذاته مُطلِقَ الرصاصة في الواقع ومتلقيها في الأكذوبة.
إننا ونحن نوقّع هذا البيان، نتوجّه به إلى أهلنا في غزة خاصةً وفي فلسطين بشكل عام محيّين صمودهم الأسطوريّ وكفاحَهم دفاعاً عن حقّهم التاريخيّ في أرضهم ووقفتَهم الحضاريّة الشجاعة ضدّ طلائع الاستعمار والفاشيّة والعنصريّة. ونحن في موقفنا هذا لا نعلن جديداً حين نحفظ لهم حقهم الطبيعيّ في مقاومة مُحتلِّهم، فهو الحق الذي كفلته لهم كلّ شريعة وأقرّه كل قانون واطمأنَّ به كل عُرف.
كما نتوجّه إلى الأمة العربيّة جمعاء، حكوماتٍ، ومنظماتٍ، وشعوباً، وأفراداً، لنناشدهم القيام بدورهم التاريخي في دعم أشقائِهم الفلسطينيّين ضدّ هذا العدوان السّافر، ومساعدتهم بكلّ الطرق المعنويّة والماديّة الممكنة. مذكرين بضرورة ألّا ينصرف الهَمُّ وأَلّا تَبردَ الهِمّة حتى تنكشف غمامة الموت الثقيلة عن أهلنا في غزة.
ثمَّ نتوجّه إلى أحرار الإنسانيّة في العالم أجمع، ولاسيّما أولئك الذين ذاقوا مرارة الاستعمار والعنصريّة وقسوة سياسات الإبادة والاحتلال في كل مكان. إننا في هذه اللحظة بحاجة ماسّة لأن نتوحّدَ في وجه هذا الظلم البيّن وأن نقفَ سدًّا منيعاً بين دبّابة المستعمر وبين ضحيتها. وإذا كان الظالمون تنادَوا على أن يكونوا أمّة واحدة فلا أقلَّ من أن يلتئمَ ضحاياهم أيضاً أمّةً واحدة في مواجهتهم.
ونخصّ بالتحية مناصري القضيّة حول العالم، وفي طليعتهم القلّة من أصحاب الضمير في الغرب الذين استطاعوا بأصواتهم الحرّة الشجاعة أن يعرقلوا ولو قليلا آلة الكذب والتّزييف الغربيّة التي صدمتنا ونحن نراها تحرق في أيام قليلة ما راكمه الغرب خلال قرون طويلة من مبادئ وقيم في سبيل دعم الدعاية الصهيونيّة. في الأيام القليلة الماضية، رأينا أعداداً من سياسيي الغرب ومثقفيه وإعلامييه وهم يتدافعون إلى عارهم الأبديّ ورأينا كيف أن خريف الطبيعة يبدو مجرّدَ ظلٍّ باهت للخريف الحقيقيّ، خريف دعاوى الديمقراطيّة والحريّة وحقوق الإنسان التي داستها أقدام هؤلاء المهرولين في اتجاه دفع الكيان الصهيوني لاقتراف مجازره القادمة على أكمل وجه.
إنّنا في هذه البقعة من العالم، أكثر من يتوق إلى السلام. ولكننا بقدر ما نتوق إليه نعرف حقّ المعرفة أن لا سلام بلا حريّة ولا سلام بلا عدالة ولا سلام بلا حقيقة. ولقد أثبتت الأيام أنَّ هذا الكيان الصهيوني لا يعادي شيئاً معاداته الحرية والعدالة والحقيقة .
انتهى
** جاء هذا البيان على عجل استجابةً عفويّة لحرج الموقف في غزة. لم يكن لنا أن نتأنّى في توسيع لائحة الموقعيّن بينما يستغلّ الكيان الغاصب كل دقيقة في قصف قطاع غزة وحرمانه من حقه الآدمي في الماء والغذاء والكهرباء. نطلب من كلّ مناصري الحق أن يوقّعوا معنا هذا البيان.
أسماء الموقّعين… هنا.
بيان مثقّفين من العالم العربي في إدانة العدوان الصهيوني الوحشي على غزة
في هذه اللحظة الفارقة التي يشنّ فيها الكيان الصهيوني حرب إبادة على أهلنا في قطاع غزة متذرّعاً بدعاوى الإرهاب التي أصبحت لا تنطلي على أحد، نقف – نحن مثقفي العالم العربي الموقّعين على هذا البيان- لنعلن دعمنا غير المحدود لأهل غزة في مقاومتهم المشروعة وإدانتنا غير المحدودة للكيان الصهيوني في عدوانه الوحشيّ والبربريّ على أرواح الأبرياء.
الكيان الصهيوني الذي يكره البراءة فيقتل الأطفال، ويكره الحقيقة فيقتل الصحافيين، ويكره الطبيعة فيُجرّف أشجار الزيتون، يُتوّج بتصعيده هذا مسيرة طويلة من الانتهاكات؛ هذه الانتهاكات التي لم تقتصر على رفض كل القرارات الأمميّة، وتوسيع السرطان الاستيطانيّ، والتضييق على فلسطينيي الضفة والداخل واعتقالهم، والعدوان على المقدسات الإسلامية والمسيحية، وتأجيج العنف في نفوس المستوطنين وتسليحهم، وحصار قطاع غزة وتجويع أهله، بل وتجاوز ذلك كله ليصل إلى مبتغاه النهائيّ المتمثل داخلياً بالتطهير العرقيّ المُمَنهج للشعب الفلسطينيّ حتى تتحقق الكذبة السافرة التي قام عليها المشروع الصهيوني فتصير فلسطين “أرضاً بلا شعب لشعبٍ بلا أرض”، وخارجيّاً عبر تمرير مشاريع التطبيع التي تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينيّة وتجريد العرب من كرامتهم.
جامعاً ما تفرّق في البشريّة من فظاعات، وعلى مدار خمسة وسبعين عاماً، لم يترك الكيان الصهيوني المحتل قيمةً أخلاقيّة إلّا وانتهكها، ولا مبدأً حضاريّا إلّا وخرقه ولا قداسةً إنسانيّة إلّا وداس عليها بأحذية جنوده الملطّخة بدماء الأبرياء. على أنه هذه المرة قرّر أن يذهب أبعد في طغيانه مستغلاً تواطؤ العالم وانحيازه، وأراد أن تكون مجزرته الوحشيّة ضدّ أهل غزة منقولةً على الهواء مباشرةً دون أدنى خجل أو مراعاة لما تبقّى من ضمير العالم. وإذا كان التاريخ البشريّ قد اعتاد على أن يمنح صوتاً للجلاد وصوتاً للضحيّة، فالكيان الصهيوني -الذي لم يعرف منذ قيامه غير السطو على حقوق الآخرين- سارع للسطو على الصوتين معاً ليكون في الوقت ذاته مُطلِقَ الرصاصة في الواقع ومتلقيها في الأكذوبة.
إننا ونحن نوقّع هذا البيان، نتوجّه به إلى أهلنا في غزة خاصةً وفي فلسطين بشكل عام محيّين صمودهم الأسطوريّ وكفاحَهم دفاعاً عن حقّهم التاريخيّ في أرضهم ووقفتَهم الحضاريّة الشجاعة ضدّ طلائع الاستعمار والفاشيّة والعنصريّة. ونحن في موقفنا هذا لا نعلن جديداً حين نحفظ لهم حقهم الطبيعيّ في مقاومة مُحتلِّهم، فهو الحق الذي كفلته لهم كلّ شريعة وأقرّه كل قانون واطمأنَّ به كل عُرف.
كما نتوجّه إلى الأمة العربيّة جمعاء، حكوماتٍ، ومنظماتٍ، وشعوباً، وأفراداً، لنناشدهم القيام بدورهم التاريخي في دعم أشقائِهم الفلسطينيّين ضدّ هذا العدوان السّافر، ومساعدتهم بكلّ الطرق المعنويّة والماديّة الممكنة. مذكرين بضرورة ألّا ينصرف الهَمُّ وأَلّا تَبردَ الهِمّة حتى تنكشف غمامة الموت الثقيلة عن أهلنا في غزة.
ثمَّ نتوجّه إلى أحرار الإنسانيّة في العالم أجمع، ولاسيّما أولئك الذين ذاقوا مرارة الاستعمار والعنصريّة وقسوة سياسات الإبادة والاحتلال في كل مكان. إننا في هذه اللحظة بحاجة ماسّة لأن نتوحّدَ في وجه هذا الظلم البيّن وأن نقفَ سدًّا منيعاً بين دبّابة المستعمر وبين ضحيتها. وإذا كان الظالمون تنادَوا على أن يكونوا أمّة واحدة فلا أقلَّ من أن يلتئمَ ضحاياهم أيضاً أمّةً واحدة في مواجهتهم.
ونخصّ بالتحية مناصري القضيّة حول العالم، وفي طليعتهم القلّة من أصحاب الضمير في الغرب الذين استطاعوا بأصواتهم الحرّة الشجاعة أن يعرقلوا ولو قليلا آلة الكذب والتّزييف الغربيّة التي صدمتنا ونحن نراها تحرق في أيام قليلة ما راكمه الغرب خلال قرون طويلة من مبادئ وقيم في سبيل دعم الدعاية الصهيونيّة. في الأيام القليلة الماضية، رأينا أعداداً من سياسيي الغرب ومثقفيه وإعلامييه وهم يتدافعون إلى عارهم الأبديّ ورأينا كيف أن خريف الطبيعة يبدو مجرّدَ ظلٍّ باهت للخريف الحقيقيّ، خريف دعاوى الديمقراطيّة والحريّة وحقوق الإنسان التي داستها أقدام هؤلاء المهرولين في اتجاه دفع الكيان الصهيوني لاقتراف مجازره القادمة على أكمل وجه.
إنّنا في هذه البقعة من العالم، أكثر من يتوق إلى السلام. ولكننا بقدر ما نتوق إليه نعرف حقّ المعرفة أن لا سلام بلا حريّة ولا سلام بلا عدالة ولا سلام بلا حقيقة. ولقد أثبتت الأيام أنَّ هذا الكيان الصهيوني لا يعادي شيئاً معاداته الحرية والعدالة والحقيقة .
انتهى
** جاء هذا البيان على عجل استجابةً عفويّة لحرج الموقف في غزة. لم يكن لنا أن نتأنّى في توسيع لائحة الموقعيّن بينما يستغلّ الكيان الغاصب كل دقيقة في قصف قطاع غزة وحرمانه من حقه الآدمي في الماء والغذاء والكهرباء. نطلب من كلّ مناصري الحق أن يوقّعوا معنا هذا البيان.
الموقّعون:
سعاد الصباح، شاعرة
إبراهيم نصر الله، شاعر وروائي
وائل حلّاق، مفكر
قاسم حداد، شاعر
إبراهيم الكوني، روائي
محمد رضا نصرالله، كاتب وإعلامي
محمد أبو رمّان، كاتب ووزير أردني سابق
إبراهيم عبد المجيد، روائي
بثينة العيسى، روائية
محمد بنّيس، شاعر
سيف الرحبي، شاعر
واسيني الأعرج، روائي جزائري
شوقي بزيع، شاعر وكاتب
خالد الرويشان، كاتب ووزير الثقافة اليمني السابق
جودت فخر الدين، شاعر
بلال فضل، كاتب وسيناريست
أحمد عبد المعطي حجازي، شاعر
طاهر رياض، شاعر
عبد الخالق عبد الله، كاتب وسياسي
مارسيل خليفة، مؤلف موسيقي
جابر الحرمي، كاتب ورئيس تحرير صحيفة الشرق
مختار عيسى، نائب اتحاد كتاب مصر
نجم عبد الكريم، إعلامي
بدر العيسى، وزير سابق للتربية والتعليم في الكويت
روضة الحاج، شاعرة
سعود السنعوسي، روائي
جوخة الحارثي، روائية
حسن أوريد، كاتب وسياسي
فهمي جدعان، مفكر
فتحي المسكيني، مفكر
عبد الإله بلقزيز، مفكر
عبد اللطيف اللعبي، شاعر
فوزية أبو خالد، شاعرة
محمد برادة، روائي
أحمد الملا، شاعر
محمد الأشعري، روائي
توفيق أحمد، نائب رئيس اتحاد الكتاب العرب.
وليد الرجيب ، روائي
عيسى بولس، موسيقي
نورا درويش، فنانة تشكيلية
علاء الجابر ، مسرحي
سعداء الدعاس، روائية
حمور زيادة، روائي
محمد خضير، قاص وروائي
كاظم الحجاج، شاعر
أحمد بخيت، شاعر
منصورة عز الدين، روائية
يوسف عبد العزيز، شاعر
نادر كاظم، باحث
سليم البيك، كاتب وصحفي
د . ابراهيم السعافين، كاتب وأستاذ جامعي
سميحة خريس، روائية
دخيل الخليفة، شاعر
حجي جابر، روائي وناشر
عبد المنعم رمضان، شاعر
عبد الله ابراهيم، مفكر وناقد
زاهي وهبي، شاعر وإعلامي
بسمة النسور، قاصة ووزيرة الثقافة الأردنية السابقة
علي بدر، روائي
أجود مجبل، شاعر
إبراهيم فرغلي، روائي
الطيب بو عزة، مفكر
نجوى بركات، كاتبة
عمر شبانة، شاعر
أحمد سعداوي، روائي
ياسين عدنان، كاتب وإعلامي
فخري صالح، ناقد وكاتب ومترجم
سنان أنطون، روائي وشاعر
برهان غليون، مفكر
فيصل سلمان، صحافي وكاتب
خالد الحروب، كاتب وأكاديمي
طارق إمام، كاتب
داود حسين، فنان
نزيه أبو عفش، شاعر
زهير أبو شايب، شاعر
حزامة حبايب، روائية
أمين صالح، أديب
عارف الساعدي، شاعر ومستشار رئيس الوزراء العراقي للشؤون الثقافية
خالد الشيخ، ملحن ومغن
عبد الجبار الرفاعي، مفكر
حسن نجمي، شاعر ومؤلف وصحفي
محمد علي الرباوي، شاعر
محمد حداد، مؤلف موسيقي
اسكندر حبش، كاتب
سعود المولى، كاتب ومترجم
جمال محمد فخرو، مثقف
عبدالله حبيب، كاتب
وحيد الخان، مؤلف موسيقي
عبد الجبار الغضبان، فنان تشكيلي
زهراء المنصور، ناقدة
بتول حميد، شاعرة
عبدالله جناحي، كاتب
عبد الجواد عوفير، شاعر وصحافي
محمد علي مقلد، باحث وكاتب سياسي
سلمان زين الدين، ناقد وشاعر
مريم البسام، إعلامية
إيمان مرسال، كاتبة
سمر يزبك، روائية وكاتبة
حنان فرفور، شاعرة
فاديا بزي، إعلامية وكاتبة
خيرات الزين، فنانة تشكيلية
طارق ناصر الدين، شاعر
مردوك الشامي، شاعر
حسن مدن، كاتب
ساري حنفي، كاتب وأكاديمي
عباس يوسف، فنان تشكيلي
مصطفى النعمان، سفير سابق
حسين الجفال، قاص وصحفي
هيلدا الحياري، فنانة تشكيلية
عبدالله السفر، شاعر
سيد محمود، شاعر وصحفي
عباس هلال، محامي
خالد الهاشمي، فنان تشكيلي
خالد الرويعي، مخرج مسرحي
عبد اللطيف الوراري، كاتب وشاعر
محمد عبد الباري، شاعر
يوسف أبو لوز، شاعر
عزمي عبد الوهاب، شاعر ومدير تحرير الأهرام العربي
دارين سلام، مخرجة سينمائية
عمر عبد الغفار، باحث ومترجم
بلال المصري، شاعر وكاتب مسرحي
كنان أبو عفش، موسيقي
راضية تومي، كاتبة وأكاديمية
بشرى خلفان، كاتبة
ابراهيم أبو هشهش، استاذ جامعي وشاعر
عبد القادر الحصني، شاعر
محسن جاسم الموسوي، ناقد وباحث وأكاديمي
عاشور الطويبي، شاعر
أمين الربيع، شاعر
خزعل الماجدي، باحث وشاعر
جمال الجقة، معماري ورسام
قصي اللبدي، شاعر
نبيل عبد الكريم، قاص
عمار أحمد حامد، ناقد سينمائي
زليخة أبو ريشة، شاعرة
طالب الرفاعي، روائي
طه عدنان، شاعر
علي العامري، شاعر ورسام
جهاد العامري، رسام
غالية بنعلي، ملحنة ومغنية
طارق يوسف، أكاديمي
سمير القضاة، شاعر
مراد القادري، شاعر
نور الموصلي، شاعر
أحمد أبو طوق، ناشر
أميرة بدوي، قاصة
محمد العامري، كاتب ورسام
رمضان الرواشدة، روائي
خالد خريس، فنان تشكيلي
محمد الجالوس، فنان تشكيلي
صونيا طوال، فنانة تشكيلية
أحمد الشهاوي، شاعر
لؤي عبد الإله، روائي
هدباء العلي، إعلامية
ابراهيم يونس البطوش، كاتب
نضال الاميوني دكاش، أستاذة جامعية
منيرة النبواني، كاتبة
أنيس الرافعي كاتب وقاص
ربى أبوغيدا شاعرة وكاتبة
محمد عامر المارديني، كاتب
عدنان عزوز، كاتب
رضوان قاسم، شاعر
رامي بديوي، إعلامي
نهلة سوسو، كاتبة وإعلامية
علي الشعيبي، باحث
باسل سيوفي مخرج
وفاء العلي، إعلامية
محمد عامر المارديني، كاتب
وفاء العلي، إعلامية
عاليا المصري، شاعرة
نوال الحوار، إعلامية
باسل عبد العال، شاعر
حسن عبد الحميد، كاتب
بتول حميد، شاعرة
زهيدة درويش جبور، أستاذة جامعية
خالد الفاضلي، كاتب
حسن حميد، روائي
جمال واكيم، باحث ومحلل سياسي
تيسر ادريس، فنان
عماد أبو صالح، شاعر
ميلود خيزار، كاتب
هدى فخر الدين، كاتبة
أحمد الملّاح، شاعر
سامر أبو هواش، شاعر
ضياء حيدر، صحافية
فادي جودة، شاعر ومترجم
عقل العويط، شاعر وكاتب
ياسمين حنوش، كاتبة، مترجمة، وأستاذة جامعية
صقر أبو فخر، شاعر وكاتب
خالد المطاوع، شاعر
سوزان أبو الهوى، روائية
محمد البيطاري، كاتب ومترجم
مكرم غصوب، شاعر
يوسف رخا، روائي
ليلى العثمان، روائية
جنان الخليل، فنانة تشكيلية
لينة كريدية، روائية
محمد الجديدي، كاتب
صابر العبسي، شاعر
محمد الهادي عمري، كاتب
نادر الحمامي، كاتب
جمال الجلاصي، مترجم وشاعر
الشريف حسن بو غزيل، شاعر
عادل معيزي، شاعر
سنية فرجاني، شاعرة
خالد بوزيد، مسرحي
لطفي الشابي، شاعر
منى حبراس السليميّة، ناقدة
دلع المفتي، روائية
حسين الجفال، قاص وصحفي
بثينة الإبراهيم، مترجمة
بيار أبي صعب، إعلامي
مصطفى غلمان، شاعر
محمد خماسي، مترجم
سعد سرحان، شاعر
أسامة أبوطالب، رئيس أكاديمية الفنون في القاهرة
أحمد سويلم، رئيس لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة
سمير حسني، سفير سابق بجامعة الدول العربيّة
جمال القصاص، شاعر
رشيد غلام، فنان ومؤلف موسيقي.
فالح الهاجري، كاتب وصحفي.
سعدية مفرح، شاعرة وناقدة
غسان عثمان، كاتب وباحث
هدى عطية، كاتبة.
محمد آيت حنا، كاتب ومترجم
محمود جمعة، شاعر.
نور الدين أفاية، كاتب وباحث.
أسامة البحيري، رئيس اتحاد كتاب الغربيّة
محمد المطارقي، كاتب.
مروة مجدي، شاعرة.
محمد مقلد، باحث وكاتب.
عبد الجواد عوفيرو، شاعر وصحافي.
فاديا بزي، كاتبة.
فيصل سلمان، صحافي وكاتب.
سعاد سليمان، روائية
ريميال نعمة، روائية
محمود وهبة، شاعر
إبراهيم شحرور، شاعر
أحمد نزال، شاعر وكاتب
دارين حوماني، شاعرة وكاتبة
محمد ناصر الدين، شاعر وكاتب
حسان الزين، كاتب وصحافي
لوركا سبيتي، شاعرة وإعلامية
عبد الجواد عوفير، شاعر وصحافي
محمد علي مقلد، باحث وكاتب سياسي
سلمان زين الدين، ناقد وشاعر
نصوح زغلولة، مصور ضوئي
روني مالي، موسيقي
نجم عبد الكريم، إعلامي
هدى الدخيل، محررة وناشطة ثقافية
بشار الصايغ – كاتب وصحفي
سعود راشد العنزي، كاتب وصحفي
حمود الشايجي، شاعر وروائي
إيمان حميدان، روائية
يوسف البلام، ناقد وأستاذ لغة عربية
عبدالله البصيص، روائي وناشر
بشاير العسكر، كاتبة
مشاعل الفيصل، فنانة تشكيلية
عبد الوهاب سليمان، مترجم وكاتب
سارة المكيمي، كاتبة وروائية
عائشة العبدالله، شاعرة
عواطف محارب السلمان، كاتبة
محمد الفيلي، خبير دستوري
إبراهيم دشتي، كاتب
حسين ديكسن، فنان تشكيلي
جميلة جمعة، قاصة
نصار النصار، مخرج مسرحي
رمضان خسروه، مخرج
هدى اشكناني، شاعرة
خالد النصرالله، روائي وناشر
رهام نائل النقيب، كاتبة وأستاذ مساعد علوم سياسية
نورة بوغيث، قاصة
مشاري العبيد، روائي وكاتب
علي عاشور، أستاذ أدب عربي
عبد الوهاب سيد الرفاعي، روائي
محمد أشكناني، كاتب
سليمان البسام، كاتب مسرحي
عصام الكاظمي، فنان مسرحي
عبدالرحمن الدين، مذيع
عدنان الصائغ، شاعر
نبيل الفيلكاوي، رئيس نقابة الإعلاميين والفنانين
طاهر البغلي، ناشط حقوقي
ساجد العبدلي، مؤلف وناشر
سليمان العسكري، كاتب ورئيس تحرير مجلة العربي سابقًا
فالح بن حجري، صحفي وكاتب
داود حسين، فنان
حسن العيسى، كاتب
أحمد عبدالله الصراف، كاتب
عامر فردان، شاعر وكاتب
نورية الرومي، أستاذة أدب عربي
عباس الحداد، أستاذ أدب عربي
بدر محارب، مسرحي ومخرج
حمزة مصطفى، كاتب ومدير تلفزيون سوريا
محمد الدلال، كاتب
طارق عسراوي، شاعر وقاص
علي محمود خاجة، إعلامي
أحلام حسن، فنانة
حسن أبو هنية، كاتب وباحث
إيمان المسلم، فنانة تشكيلية
محمد ف. السالم، شاعر ومترجم
عبد الوهاب العوضي – فنان تشكيلي
جعفر رجب – روائي وكاتب
أفراح فهد الهندال، قاصة وكاتبة
باسمة الوزان، كاتبة أدب طفل
حسين المطوع، شاعر وروائي
مبارك ربيع، روائي
نبيل سليمان، روائي
باسمة العنزي، قاصة وكاتبة
عبد الهادي جميل، قاص
لطيفة بطي، كاتبة أدب طفل وناشرة
خولة القزويني – كاتبة
بتول خميس، باحثة
مي السعد، فنانة تشكيلية
مناف الهاجري، كاتب واقتصادي
استبرق أحمد، قاصة
مشاعل الهاجري، أستاذة قانون
ابتهال الخطيب، ناشطة حقوقية وأكاديمية
محمد العتابي، شاعر وناشر
حسين المحروس، فوتوغرافي وأديب
خالد لطفي، ناشر وكتبي
وحيد الطويلة، كاتب
يزن الحاج، كاتب ومترجم
علي وجيه، شاعر
تغريد القدسي، مؤلفة
دلع المفتي، كاتبة وروائية
إيهاب القيسي، ناشر
عرين جرادات، كاتبة
محمد قيطون، ناشر
رضوان حريري، كاتب وصاحب دار نشر
فاطمة أنور اللواتي، كاتبة
حسن ياغي، ناشر
سيف سلماوي، ناشر
محمد ربيع، روائي وناشر
أحمد أسامة، عامل بالقطاع الثقافي
محمد إبراهيم، شاعر
أحمد عوني، روائي وناشر
محمد فتحي، كاتب وأكاديمي
ندى الشبراوي، شاعرة وصانعة محتوى
محمد شادي، طبيب وصانع محتوى
خالد سليمان الناصري، ناشر فلسطيني
رنا ادريس، ناشرة
علي عبد المنعم، ناشر
عبد الرحمن ادريانو، مصور وثائقي
شهد الراوي، روائية ومترجمة
نهلة كرم، روائية
محمد گاطع حمود، فنان تشكيلي
الزبير فارس، مصمم غرافيكي
محمد الأشعري، روائي
زهور كرام، ناقدة وروائية
شعيب حليفي، كاتب
ياسر الأطرش، شاعر وإعلامي
هاني عوّاد، كاتب ومدير تحرير مجلة عمران
علي البزاز، فنان تشكيلي
معن فيصل القيسي، مدير دار ومكتبة البيارق للنشر والتوزيع
علي حميد زغير، مدير دار أكاد
أحمد سلام خليل، ناشر، منشورات جسد
بهاء حمزة عباس، دار الفيحاء للطباعة والنشر
عمر عبد المجيد الحمد، ناشر، دار وَتر للنشر والتوزيع
صفاء الزبيدي، كتبي، مكتبة النهضة
نبيل حياوي، المكتبة القانونية ببغداد
هاشم رعد نوروز، ناشر، دار القارئ
عبد الرزاق بلعقروز، كاتب
اياد حسن جاسم، ناشر، منشورات نصوص
أمجد ياسين النصير، ناشر، دار أهوار للنشر والتوزيع
حسن هاشم حسين، كتبي، مكتبة النهضة العربية
علي عبد الرضا عوض، ناشر، مدير دار الفرات للثقافة والاعلام
سليمان المعمري، كاتب وإعلامي
نيفين التهامي، ناشرة
هشام فهمي، مترجم
سمر أمين دويدار، باحثة في التاريخ الشفهي، مؤسسة “حكايات فلسطينية للارشيف العائلي
إسلام وهبان، مؤسس جروب مكتبة وهبان، ورئيس القسم الثقافي لموقع إعلام دوت كوم
محمد البعلي، ناشر
عبد الله باعبود، باحث
محمد خيري، أمين مكتبة البلد
البراء حسن الشافعي، شاعر وبائع كتب
عبد الغني محمد، ناشر
أنور الهواري، صحفي
عماد أبو غازي، أستاذ جامعي
هيثم الحاج علي، أستاذ جامعي
يارا المصري، مترجمة
سارة النمس، كاتبة
مختار عيسى، شاعر ونائب رئيس اتحاد كتاب مصر
حسن عائد، الفنان التشكيلي
وضاح مهدي، الفنان التشكيلي
حمدان طاهد، الشاعر
أحمد الشيخ علي، الشاعر
شتيوي الغيثي، شاعر
محمد الحوراني، رئيس اتحاد الكتاب العرب في سورية، باحث.
توفيق أحمد، شاعر وإعلامي نائب رئيس اتحاد الكتاب العرب في سورية.
جابر سلمان، شاعر.
فاروق اسليم، أكاديمي وناقد.
فلك حصرية – روائية.
جهاد بكفلوني – شاعر.
منير خلف – شاعر.
رياض طبرة، قاص.
الأرقم الزعبي، باحث.
أنيسة عبود، روائية وقاصة.
أحمد يوسف داوود، روائي وشاعر.
نزار بريك هنيدي، شاعر وناقد.
عيد الدرويش، كاتب وباحث.
هيلانة عطا الله، شاعرة.
سليمان السلمان، شاعر.
عماد نداف، قاص وإعلامي.
إبراهيم زعرور، أكاديمي وباحث.
عبد اللهً الشاهر، ناقد وكاتب.
أحمد علي محمد، ناقد وأكاديمي.
أيمن الحسن، قاص وروائي.
محمد الحفري، مسرحي وكاتب.
سمير المطرود، مسرحي وقاص
فائزة الداوود، قاصة وروائية
محمد الطاهر، قاص وروائي.
ليندا إبراهيم، شاعرة
أميمة إبراهيم، أديبة
قحطان بيرقدار، شاعر
جهاد الأحمدية، شاعر ومترجم
سعيد المغربي، فنان موسيقي
حسام خضور، مترجم سور
يحيى الحمادي، شاعر
زين العابدين الضبيبي، شاعر
خليل حداد، تشكيلي
مصباح المهدي، شاعر
نجاح إبراهيم، روائية
محمد حسن العلي، شاعر
جودت إبراهيم، ناقد
طالب هماش، شاعر
بديع الصقور، شاعر
غسان ونوس، روائي
نورا رشاد، ناشرة
دينا قابيل، صحفية وناشرة
فاطمة البودي، ناشرة
عبد الله محمد، بائع كتب وقاص
محمود محمد محمود، ناشر
أحمد زكريا، مترجم
نظمي الجعبة، مؤرّخ
عبد الله عثمان، ناشر
عومرية سلطاني، مترجمة
محمد فوزي، كاتب
خالد خريس، فنان تشكيلي
عبد الكريم جويطي، روائي
فيصل جلول، باحث
فاضل ثامر، ناقد ورئيس اتحاد الادباء السابق
ياسين النصير، ناقد
عبدالله إبراهيم، ناقد
حيدر سعيد، كاتب وناقد
عبدالزهرة زكي، شاعر وكاتب
أحمد عبد الحسين، شاعر ورئيس تحرير جريدة الصباح
جواد الأسدي، مخرج وكاتب مسرحي
عزيز خيون، مسرحي
علي الفواز، شاعر ورئيس اتحاد الأدباء والكتاب في العراق
عمر السراي، شاعر امين عام اتحاد الادباء
جبار جودي، مسرحي ونقيب الفنانين العراقيين
قاسم سبتي، فنان تشكيلي ورئيس جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين
محمد العتابي، شاعر وناشر
عمر علوي، أستاذ جامعي وكاتب
أشرف القرقني، شاعر
لسعد بن حسين، كاتب
زهية جويرو، أستاذة جامعية
تغريد عبد العال، شاعرة
وليد عبد الرحيم، كاتب ومخرج
مروان عبد العال، روائي وفنان تشكيلي
انطوان بولاد، شاعر
نيروز سليمان جبيلي، شاعرة
أمل أندري، كاتبة
ميشيل الرائي، شاعر
مصطفى الأعصر. صحفي وكاتب
قاسم منصور، ممثل
رنيم ظاهر، شاعرة
عامر الطيب، شاعر
بشير شلش، شاعر وناشر
محمد شحادة، شاعر
حسان الزين، كاتب وصحفي
درويش شمعة، تشكيلي
محمد علوش، لبناني
رندا غجر، قيّمة فنية لبنانية
صفاء إسكندر، شاعر وتشكيلي
غادة الزغبي، تشكيلية
محمد الهادي عمري ..كاتب
أمينة زريق، روائية وناشرة
نادر الحمامي، أستاذ جامعي وكاتب
ناظم بن إبراهيم، كاتب شاعر ومترجم
جمال الجلاصي، مترجم وشاعر
الشريف حسن بوغزيل، شاعر
عبد الحليم المسعودي ..كاتب وناقد
محمد حسين ..شاعر وكاتب
عادل معيزي، شاعر
وليد أحمد الفرشيشي، مترجم وروائي
أم الزين بنشيخة المسكيني، كاتبة روائية وشاعرة
سعد الياسري، شاعر
محمد العتابي، شاعر وناشر
محمد علي الدنقلي، شاعر
محمد الغزال الكثيري، شاعر
عبد الرزاق بوكبة، شاعر و إعلامي
زين العابدين فؤاد، شاعر
عبد الرحمان لاهي، مخرج سينمائي
نبيل عبد الفتاح، باحث و كاتب
رشيد مومني، شاعر
نجيب خداري، شاعر
عبد الرحمان طنكول، ناقد
خالد بلقاسم، ناقد
ثريا ماجدولين، شاعرة
نبيل منصر ، ناقد
حسن مخافي ، ناقد
منير سرحاني ، شاعر
عبد السلام المساوي، شاعر
فؤاد شردودي ، شاعر و فنان تشكيلي
جمال أماش، شاعر
نور الدين زويتني، شاعر و مترجم
خالد الريسوني، شاعر
عزيز أزغاي، شاعر
أحمد لمسيح، شاعر
دليلة فخري، شاعرة
عادل لطفي، شاعر
ميمون غازي، شاعر
بوعزة صنعاوي، شاعر
عبد العزيز بومسهولي، ناقد
شرف الدين ماجدولين، ناقد
صباح بنداوود، شاعرة
عزيز الحصيني، شاعر
حسن البقالي، قاص
محمد البكري، ناقد
عبد اللطيف ديدوش، شاعر
سعيد بنفرحي، كاتب
عماد الورداني، كاتب
ميسون السويدان، شاعرة
حسان بلعاوي، كاتب
إسماعيل أيت يدر، شاعر
عبد القادر العلمي، كاتب وناشط مدني
عبد العزيز أمزيان، شاعر
محمد الشايب، قاص
المصطفى كليتي، قاص
محمد شويكة، قاص و كاتب
ياسن الحراق، شاعر
فوزية بنيوب الوديع، ناشطة مدنية
محمد اللغافي، شاعر
محمد عبدلاوي، ناشط مدني
محمد مجدوب ، ناشط مدني
محمد خريصي، باحث
كريم القيشوري، شاعر
العالية ماء العينين، ناقدة و أكاديمية
البشير الأزمي، قاص وروائي
شريفة حوات، ناشطة مدنية
علال الحجام، شاعر
خليل الدمون، كاتب
أحمد اللويزي، كاتب
محمد معتصم، كاتب و صحفي
أحمد بن إسماعيل، فوتوغرافي
الحبيب بنمالك، ناشط مدني
أحمد بنميمون، شاعر
أحمد العراقي، صحفي
محمد أمين بنيوب، كاتب مسرحي
أحمد حميد، ناشط مدني
حميدة بلبالي، شاعر
عمر بلحسن، شاعر
صالح لبريني، شاعر
بنصالح حفيظة، ناشطة مدنية
محمد الشركي، كاتب
إدريس مقبول، كاتب
محمد بهجاجي، كاتب و ناقد مسرحي
المعتمد الخراز، شاعر و ناقد
أحمد القصوار، كاتب
محمد حجي محمد، شاعر و مترجم
علي درويش، قاص
عامر سلطان، روائي
بهاء رحال، روائي
سنابل قنو، شاعرة
أسماء بركات، روائية
محمد دقة، شاعر
عبد الفتاح دولة، روائي
رزان المرشد، باحثة وناشرة
أحمد محمد زايد، شاعر
محمد عبد الستار، الدش شاعر
أحمد الخميسي، قاص وكاتب
نبيل مرقس، كاتب وباحث
إيهاب البشبيشي، شاعر
محمد بو عيادي، كاتب
نواف القديمي، كاتب وناشر
سعيد منتسب، كاتب
محمد أبركان، شاعر
محمد اليحيائي، روائي.
عبد الفتاح ماضي، باحث.
محمد طلبة رضوان، كاتب
مهدي منصور، شاعر
أمين النواري، شاعر ومترجم
فتحي عبد السميع، شاعر وباحث اجتماعي
محمد العرجوني، شاعر ومترجم
ثريا عاصي، صحفية وكاتبة سياسية
أحمد العلمي، كاتب واستاذ جامعي
أبو الحسن سلام، أستاذ علوم المسرح جامعة الاسكندرية
نظام مارديني، كاتب وصحفي
مطر البريكي، شاعر واعلامي
روني ألفا، كاتب واعلامي
علي حمام، شاعر
حسين الشيخ، شاعر وصحافي
https://docs.google.com/forms/d/e/1FAIpQLScYdXcIG2yJ4WLeyUsUF3s-WIn2VZbAYGiVxXl2NBFg1Aoudg/viewform
المزيد من التواقيع
——————————
أوقفوا المجزرة في غزة
منذ اللحظة الأولى لهذه الحرب، التي لا تشبه أي حربٍ سابقة على قطاع غزّة، سعت إسرائيل والعالم المتحضر الداعم لها لتقديم قصفها المنفلت بأنه حربٌ على حماس، لأنها طبعاً حربٌ بدأتها حماس من الصفر، مجرّدة من أي سياق سياسي ومن أي خلفية تاريخية.
باتت حماس هي العنوان: وسائل الإعلام تُعنون أخبارها بأن ما يجري هو حرب بين إسرائيل وحماس؛ وكلّ متحدث فلسطيني يتعرض لسيل من المطالبات بإدانة حماس، حتى في سياق حديثه عن مقتل أفراد من عائلته على يد العدوان الإسرائيلي (كما جرى مع السفير الفلسطيني في لندن حسام زملط).
ولكن وفي الوقت نفسه كان ينفجر غضب المسؤولين الإسرائيليين عند سؤالهم عن حال الفلسطينيين من المدنيين في غزة. نفتالي بينيت ينفجر على مذيع سكاي نيوز «هل أنت جاد! نحن نقاتل النازيين». «أطفال غزة جنوا على أنفسهم»، تصرخ ميرال بن آري، عضوة في الكنيست الإسرائيلي رداً على مداخلة للنائبة العربية عايدة توما سليمان؛ والرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ -ذو المنصب البروتوكولي- يغضب من سؤال صحفي عن مدنيي غزة ويبرر موتهم بأنهم «كان يمكن أن يثوروا على حماس وأن يقاتلوها» ولم يفعلوا.
نجحت إسرائيل فعلاً في تصدير أنها ليست إلّا في حرب مع حماس، وفي الوقت عينه أدغمت، هي وكل داعميها، كل فلسطين تحت راية حماس. باتت مُناصَرة الحقوق الفلسطينية المشروعة حماس؛ إدانة الاحتلال العسكري ونظام الفصل العنصري وحرمان الشعب الفلسطيني من أبسط حقوقه السياسية انتقاصٌ من حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد حماس، وبالتالي تأييدٌ لحماس؛ علَمُ فلسطين حماس؛ الكوفية حماس، كُتّاب فلسطينيون مدعوون لنشاطات ثقافية حماس.
والآن، ماذا يجب أن تقول مجزرة المستشفى الأهلي المروّعة للعالم؟ لا تقول المجازر شيئاً، بل إن وظيفتها هي تكبيل الكلام، كما تعلّمنا كسوريين خلال اثني عشر عاماً ونيف. لكن إسرائيل تَمكَّنتْ على الفور من النطق بعد المجزرة، وماذا قالت؟ حماس! لا بل الجهاد! لأنه إن لم يكن بالإمكان تعليب المجزرة في الكلمة المكونة من أربع أحرف نفسها، من الممكن على الأقل بثُّ الشك وإخفاء الحقيقة وراء الروايات المتناقضة. وبعدها ستجهدُ مراكزُ القرار في الولايات المتحدة وأوروبا للتحقق والتأكد والتمهُّل، بعد أن كانت مستعدة جداً لتصديق وتكرار أي رواية تؤكد وحشية وبربرية الطرف المقابل. بين هذا البُطء في تصديق فلسطين والسرعة في تصديق إسرائيل تكمن كل المشكلة، كل العنف والعنصرية المؤسِّسَين لهذا الصراع الممتد منذ النصف الأول للقرن العشرين.
تحتاج الحربُ الإباديةُ التي تشنها إسرائيل على الشعب الفلسطيني للالتصاق بكلمة حماس لتسويق نفسها لجمهورٍ يطلب ويحتاج التصاقاً كهذا، في المجتمع الإسرائيلي نفسه، وفي الولايات المتحدة وأوروبا واليابان والهند، وحتى في بعض الأوساط العربية. ولكن ولحسن الحظ، الكلمات أكثر من قنابل إسرائيل، والعالم أوسع من عوالم إسرائيل، والمجزرة مهما بلغت فظاعتها فإنها لا ينبغي أن تنجح في تعطيل كّل كلام.
على عكس فريق المجزرة، لسنا حَبيسي كلمة واحدة. وجود كثيرين منا في الشتات العالمي، وقدرتنا على التواصل مع أناس كثر، تجعل من واجبنا أن نخبرهم، بلغات عديدة ولكن أيضاً بكلمات كثيرة، أنهم ليسوا بحاجة لأن يحبوا حماس لكي يطالبوا بوقف هذه الحرب الإجرامية، لا بل ليسوا بحاجة لأن يرتدوا كوفية، ولا أن يحملوا علم فلسطين، ولا أن يهتفوا «فلسطين حرّة». ليس عليهم حتى أن يكونوا إنسانويين ولا أن ينحازوا للقانون الدولي الإنساني. من واجبنا أن نخبرهم أن من مصلحتهم ومصلحتنا جميعاً أن يهرعوا غداً لطلب وقف هذه الحرب. إن هذا النَسَقَ من الإجرام سيرتدُّ حتماً تردياً في سلام وحقوق وحريات ورفاه العالم كله، وليس في منطقتنا فقط. وحتى هذا الذي لا تهمه فلسطين ولا يكترث لغزة يجب أن يقتنع أننا بعد اليوم بتنا في القاع جميعاً، وأنه من مصلحته هو بالذات أن تتوقف هذه الحرب.
ليست هذه أول فظاعة تُرتكَب، ولا حتى هي أكبر فظاعة، لكنها مجزرة تنتمي لمتتالية ونَسَقٍ من الإجرام فريد من نوعه فعلاً، بغروره وحصانته الدولية. إنها مجزرة كانت تُعلِنُ عن نفسها ببطء ورويّة منذ أيام، ارتُكِبَت على يد قوّة غاشمة نزعت الأنسنة بكل بساطة عن خصومها، وتحدَّثَ وزراء في حكومتها بكل سلاسة عن «حيوانات بشرية»، وارتكبت كل انتهاك ممكن للقانون الإنساني الدولي بكل بساطة، وتود اقتراف جريمة تهجير قسري من مليوني إنسان وتغضب ممن لا يتطوّع فوراً لتنفيذها بدلاً عنها. إنها مجزرة سمح بها العالم ومهَّدَ لها عندما أنكر على الفلسطينيين أبسط حقوقهم، وتعامى عن جذر الصراع السياسي وفضَّلَ تكرار كلمات قصيرة جوفاء مثل «حماس»!
عالمٌ تُهدِّدُ فيه دولةٌ علناً بقصف مستشفى ثم تقصفه فعلاً بمن فيه، وتُبرّر لنفسها أنها هددت قبل القصف؛ هذا هو العالم الذي تتم مأسسته بالسماح لإسرائيل باستئناف حربها في غزة.
موقع الجمهورية
——————————-
واشنطن والـ«فيتو»: لا وقف لإراقة الدم الفلسطيني/ صبحي حديدي
استخدمت واشنطن حق النقض «الفيتو» في مجلس الأمن الدولي لتعطيل مشروع قرار برازيلي الصياغة يدعو إلى هدنة إنسانية في حرب دولة الاحتلال الإسرائيلي ضدّ أكثر من 2 مليون قاطن في قطاع غزّة، وذلك رغم أنّ النصّ يدين ما وصفها بـ«الهجمات الإرهابية الشنيعة التي شنّتها حماس». وكان في وسع الولايات المتحدة أن تفوّض أياً من حليفتيها بين الدول دائمات العضوية في مجلس الأمن الدولي، فرنسا مثلاً أو بريطانيا (التي اختارت لعبة الامتناع عن التصويت) لتعطيل المشروع، تخفيفاً من حدّة اصطفاف واشنطن الأعمى المطلق خلف الهمجية الإسرائيلية؛ لكنها لم تفعل، لأسباب شتى لا يتوجب أن تغيب عنها حقيقة «الفلسفة» المتكاملة التي تعتمدها الإدارات الأمريكية في تسيير حقّ النقض كلما اتصل بأمر يؤذي دولة الاحتلال.
لافت، إلى هذا، أنّ ذريعة الرفض، كما جاءت على لسان ليندا توماس غرينفيلد المندوبة الأمريكية الدائمة، هي عدم تشديد النصّ على حقّ دولة الاحتلال في الدفاع عن النفس؛ وأمّا الجوهر، في المقابل، فهو أنّ الهدنة/ وقف إراقة الدم الفلسطيني لا تخدم ستراتيجيات الاحتلال في هذه المرحلة من عمليات «السيوف الحديدية»، وبالتالي فإنّ مبدأ وقف إطلاق النار (المبتغى في كلّ الحروب، من حيث الشكل على الأقلّ) ليس مرغوباً إسرائيلياً في هذا الطور من العدوان، ولا أمريكياً استطراداً.
غير خافٍ، بالطبع، أنّ حقّ النقض هذا استُخدم، ويُستخدم مراراً وتكراراً، لتعطيل مشاريع القرارات التي لا تلائم هذا أو ذاك من أعضاء مجلس الأمن الدائمين، أمريكا وروسيا والصين وبريطانيا وفرنسا؛ ولو كان مشروع القرار يخصّ إدانة نظام بشار الأسد في سوريا، لانتهاكات لا تقلّ شناعة عن جرائم الحرب الإسرائيلية، لاستخدمت موسكو أو بكين الحقّ إياه.
الأمر، من جهة ثانية، يتصل بنهج قديم ومتقادم ودائم التجدد، هو رفض مبدأ الهدنة حين تكون دولة الاحتلال هي الطرف الذي يشنّ الحرب؛ ولعلّ الواقعة الأشهر، في ذاكرة الصراع العربي – الإسرائيلي الحديثة أو شبه المعاصرة، كان رفض واشنطن ولندن إيقاف العمليات العسكرية خلال الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان سنة 2006، ومنح جيش الغزو الإسرائيلي ترخيصاً بالمزيد من المجازر. آنذاك أيضاً، وعلى صعيد قاطرات الاتحاد الأوروبي اللاهثة خلف البيت الأبيض، خيّم على أروقة بروكسيل جدل بيزنطي عقيم انخرطت فيه غالبية الديمقراطيات الأوروبية، حول التفريق اللفظي بين «وقف إطلاق النار» و«وقف الأعمال العدائية»؛ وأمّا الوحش الإسرائيلي البربري الهمجي فقد كان يواصل الإجهاز على المزيد من المدنيين في لبنان، فيقتل عشوائياً، ولا يُبقي حجراً على حجر، برّاً وجوّاً وبحراً…
وما يجري في غزّة الشهيدة اليوم، على نهج ما جرى في لبنان صيف 2006 والعراق ربيع 2003 والحروب الإسرائيلية السبع ضدّ القطاع، يعيد من جديد تظليل قسمات هذا النظام الدولي الذي استجدّ بعد سقوط جدار برلين وانهيار أنظمة الاستقطاب القديمة. الآن، وبعد توسيع الحلف الأطلسي خصوصاً، لم يعد دهاقنة تحليل العلاقات الدولية مضطرين إلى تقليب الرأي في استقطاب أنغلو – ساكسوني (أمريكي/ بريطاني)، مقابل استقطاب أوروبي (فرانكو/ ألماني)، وثالث آسيوي (هندو/ صيني)، أو رابع يتشكل بين موسكو وبكين… وصار في الوسع الحديث، اليوم، عن نظام أمريكي إمبراطوري، تشارك فيه أطراف «العالم الحرّ» على نحو من المحاصصة الوظيفية النسبية والتناسبية: لدولة الاحتلال الإسرائيلي أدوار غير تلك التي تتولاها بريطانيا، وعلى أستراليا أداء واجبات غير تلك الملقاة على عاتق اليابان، وفي وسع فرنسا أن تعترض أو تشاغب أو تتوسط، مثل ألمانيا أو إيطاليا، شريطة البقاء ضمن التعاقد الأعرض.
وإذْ تصادق واشنطن على إرادة العدوان الإسرائيلي في عدم التوقف عن إراقة الدم الفلسطيني، فإنّ الجوقة الغربية لا تكتفي بترديد الصدى، بل تلهث خلفها وبها تلتحق.
——————————-
اختزالات «حماس»: الاجتماع السياسي خلف العقيدة الإسلامية/ صبحي حديدي
في الولايات المتحدة، وعموم الغرب المناصر لدولة الاحتلال الإسرائيلي، بدأ التوصيف تحت مصطلح «النزاع الإسرائيلي ـ العربي»؛ ثم انتقل، بعد صعود «فتح» وفصائل المقاومة منظمة التحرير الفلسطينية، إلى صيغة «النزاع الإسرائيلي ـ الفلسطيني»؛ ومنذ فرض الحصار الإسرائيلي على قطاع غزّة، وقبله نتائج الانتخابات التشريعية الفلسطينية 2006، استقرّ الاصطلاح على «النزاع الإسرائيلي مع حماس» خصوصاً لجهة ما تتيحه العبارة من استسهال تامّ في إلصاق صفة «الإرهاب» بالحركة الفلسطينية.
غني عن القول إنّ سلسلة من التحولات السياسية والعسكرية، الفلسطينية والعربية والإقليمية والدولية، لم تكن فاعلة في استيلاد هذه المصطلحات، فحسب؛ بل أقحمت عليها، أو على كلّ منها إذا شاء المرء التدقيق أكثر، تبعات متعددة الأنساق والأشكال والوسائل، الجيو ـ سياسية والعسكرية والأمنية، من دون استثناء التفريعات الخطابية التي جرى تدريجياً تعميمها في مفردات الاستخدام اليومي لوسائل الإعلام ومراكز الأبحاث و«خزانات التفكير» هنا وهناك في المناطق إياها، أي الولايات المتحدة على نحو خاصّ ثمّ أوروبا الغربية استطراداً.
وإذا صحّ أنّ مفردة «نزاع» ليست في حدّ ذاتها قاصرة وركيكة ومنفصلة عن واقع الحال الذي تزعم التعبير عنه فقط، لكنها أيضاً تضليلية عن سابق قصد وتصميم؛ وهذا وجه أكثر خطورة في واقع الأمر، لأنّ الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزّة ليس نزاعاً بين طرفين متخاصمين، بل هو احتلال في أوّل المطاف ونهايته، استناداً إلى القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة. وهذا إلى جانب أنه نهج استعمار واستيطان ومصادرة أراض وتمييز عنصري وكيان يُنهض مقومات وجوده كـ»أمّة» على أساس المحتد الديني اليهودي، وليس المواطنة في حدودها الدنيا التي تعترف بها (ولا تكفّ عن التبشير بها) الديمقراطيات الغربية ذاتها، المناصرة لدولة الاحتلال.
عند هذا المستوى من السجال، لا يكون تجريد «حماس» من ركائز معمارها الابتدائي، كمنظمة سياسية واجتماعية وإيديولوجية وعسكرية في آن معاً، سوى اصطفاف أعمى خلف استراتيجية إسرائيلية قديمة ترتد إلى حقبة احتلال القطاع سنة 1967، لكنها دائمة التجدد والتنويع بوسائل شتى لا تبدأ من الحصار الخانق ولا تنتهي عند خمس حروب همجية سقط خلالها آلاف المدنيين الفلسطينيين وسًوّيت بالأرض أحياء كاملة في غزّة المدينة وبلدات ومخيمات دير البلح وخان يونس وجباليا ورفح والشاطئ. وأياً كان اختلاف المرء مع «حماس» الحركة، و«حماس» العقيدة الإيديولوجية، و«حماس» الحكومة في القطاع منذ 2007؛ ثمّ خيارات قياداتها السياسية في التذرّع بمبدأ «التواجد» لاتخاذ مواقف تحالف متقلبة من أطراف مثل نظام آل الأسد في سوريا ذات تاريخ دامٍ وخياني بصدد قضايا الشعب الفلسطيني… فإنّ اختزال «حماس» إلى مجرد تنظيم عسكري يجافي المنطق الأبسط في أية قراءة سياسية ـ اجتماعية تدّعي التبصّر والإحاطة، من جانب أوّل؛ كما أنّ ردّ الاختزال إلى مقارنات تبسيطية بين العلمانية مقابل الأسلمة والمجتمع المدني مقابل الحكم الإسلامي، إنما يُفقد المجتمع الفلسطيني حيوية أي اجتماع بشري من حيث الديناميات الداخلية الفاعلة.
لا يُستغرب اللجوء إلى أيّ من طرائق الاختزال، وسواها، لدى الرهط ذاته المناصر لدولة الاحتلال في الولايات المتحدة والغرب عموماُ، وقد يصحّ هنا اقتباس كتاب ماثيو ليفيت «حماس: السياسة، الإحسان، والإرهاب في خدمة الجهاد» الذي صدر سنة 2006 عن منشورات جامعة ييل الأمريكية؛ ولا تأتي هذه السطور على ذكره إلا لأنّ كاتب المقدمة ليس سوى دنيس روس، دون سواه! ومنذ السطور الأولى في التقديم يعترف روس بأنّ انتصار حماس في الانتخابات التشريعية مطلع 2006 أبعدها عن موقع اللاعب الثانوي في المشهد الفلسطيني، وعزّز جاذبيتها لدى الفلسطينيين، لأسباب يسردها روس هكذا: «أنها ليست فاسدة في بحر الفساد الذي ميّز السلطة الفلسطينية» وهي توفّر «الخدمات، الطبية، ورعاية التلاميذ بعد المدرسة، ومراكز توزيع الأغذية» وهذا ما فشلت فيه السلطة الفلسطينية؛ كما أظهرت أنها «تستطيع إيذاء الإسرائيليين» الذين يواصلون إيذاء الشعب الفلسطيني.
الفقرات اللاحقة من المقدمة تنخرط في تأثيم «حماس» تحت التنميطات ذاتها التي تتكرر وتُستعاد في الأوساط الأمريكية والأوروبية المناصرة لدولة الاحتلال، غير أنّ اضطرار روس إلى البدء من واقعة الانتخابات التشريعية يتنامى في إشارات لاحقة نحو ما هو أشدّ خطورة وتسطيحاً وانحيازاً لصالح الاحتلال، ونحو المزيد من مستويات الاختزال بالطبع. وليس وارداً أن تكون ذاكرة روس، أو أيّ من نافخي الأبواق المماثلة في هذا الصدد، قصيرة حسيرة إلى درجة تتغافل عن حقيقة أنّ الانتخابات التشريعية الفلسطينية كانت «حرّة، ونزيهة، وديمقراطية» باعتراف منظمة الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، وبمصادقة وفد الاتحاد الأوروبي الذي راقب الانتخابات.
وما يُسمّى بـ «العالم الحرّ» ذاته الذي سكت في الماضي، ويسكت اليوم، عن جرائم الحرب الإسرائيلية ضدّ القطاع وأهله؛ هو الذي أحبط تجربة الانتخابات التشريعية الفلسطينية تلك، من جانب أوّل؛ واعتمد، من جهة ثانية، نهج الإفشال والتعطيل والحصار والمقاطعة، عامداً متعمداً. يومذاك لاح وكأنّ الناخب الفلسطيني قد تلقى الرسالة التالية من ذلك العالم، ممثلاً في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي: لم يكن عليكم أن تمنحوا «حماس» هذه الأغلبية في المجلس، وممنوع عليكم في المستقبل أن تنتخبوا أغلبية لا تتفق معنا (أي: مع الإسرائيليين)؛ تحت طائلة تكرار ما جرى من حصار وتجويع وسفك دماء، وعواقب حروب عسكرية إسرائيلية خمس. ضدّ القطاع
جدير بالتذكير، إلى هذا، أنّ حكومة اسماعيل هنية كانت قد انقلبت إلى محض استطالة بيروقراطية للجهاز الأمني ـ العسكري الحمساوي، الذي بلغ ذروة قصوى في إبطال القرار الشعبي الفلسطيني، ذاته الذي جاء بـ«حماس» إلى الحكومة؛ ولكن، في المقابل، كانت حكومة سلام فياض قد انقلبت لتوّها إلى محض استطالة بيروقراطية للجهاز الرئاسي الذي سكت تماماً، لكي لا يُقال إنه شجّع، الذروة القصوى التي بلغتها أجهزة محمد دحلان، اقتفاء للغرض ذاته في الواقع: أي إبطال الفعل الديمقراطي الذي جاء بـ «حماس».
وليست خالية من المغزى هبّة عشرات الفلسطينيين في الضفة الغربية ضدّ سلطة عباس، بعد ارتكاب الاحتلال الإسرائيلي مجزرة المشفى المعمداني في غزّة، حين تعالى شعار «الشعب يريد «إسقاط الرئيس»؛ لأنّ اليوم الدامي هذا كان يذكّر بخطاب ناري ألقاه عباس أمام المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية في ذروة احتدام الصراع بين «فتح» و«حماس» حين وصف الأخيرة بأنها «إرهابية» و«انقلابية» و«تكفيرية». وإذا كان رئيس كلّ الفلسطينيين (وليس الزعيم الفتحاوي فقط، أخلاقياً ودستورياً على الأقلّ) أطلق هذه الصفات على أبناء شعبه ناخبي «حماس» فكيف يُستغرب من الخطاب الإسرائيلي أو الأمريكي وضع الفلسطينيين، جميع الفلسطينيين، في خانة الإرهاب؟
صحيح، بالطبع، أنّ عملية «طوفان الأقصى» ذكّرت بحضور «حماس» في قلب معادلات القضية الفلسطينية، ولكنها لم تفعل ذلك على مستوى العمل العسكري الصاعق وحده، ولا على أمدية صواريخ القسّام وحدها، بل على الأصعدة الأعمق للصراع العربي ـ الإسرائيلي في جانب أوّل؛ ولواحد من أوضح ميادين تمكين الحقّ أمام الباطل والقانون الدولي أمام غطرسة الانتهاكات الإسرائيلية، في عمق وعي الشعوب وضمائر الرأي العام العالمي وحركات المقاومة، من جانب ثانٍ.
والاختلاف مع «حماس» أمر لا يتطابق، أو هكذا يقول المنطق السليم، مع إغلاق العقل أمام حقائق الاجتماع السياسي الفلسطيني خلف العقيدة الإسلامية التي تعلنها الحركة؛ ليس في القطاع وحده، للإيضاح الحاسم، بل على امتداد فلسطين بأسرها، من البحر إلى النهر.
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
————————-
الحرب على غزة: خطى حثيثة نحو الجحيم/ بكر صدقي
مئات الفلسطينيين ممن لاذوا بالمستشفى قتلوا بقصف إسرائيلي… رئيس القوة العظمى الأولى في العالم يزور إسرائيل تضامناً والحرب من طرف واحد في أوجها… ألمانيا تنحدر إلى دولة بوليسية مكارثية على كل من يرفع صوته ضد المجزرة… حاملتا طائرات أمريكيتان قبالة شواطئ «شرق المتوسط» وتدخل في الصراع بألفي جندي من المارينز في إمرة بنيامين نتنياهو لمساعدة الجيش الإسرائيلي في الغزو البري… خطة إسرائيلية لتهجير أهالي غزة خارج حدودها نحو صحراء سيناء بذريعة القضاء على حركة حماس… دعم عسكري ومعنوي وسياسي للهمجية الإسرائيلية غير مسبوق بإطلاقيته من الولايات المتحدة والدول الأوروبية ودول أخرى… لا أحد يريد أن يرى ما ترتكبه إسرائيل من حرب إبادة بحق الفلسطينيين في غزة وفي الضفة الغربية أيضاً منذ السابع من الشهر، بل ما زالوا عندما حدث في فجر ذلك اليوم باعتباره تجسيداً للشر المطلق الذي لا يمكن لإسرائيل بلوغه مهما فعلت بغزة وبالفلسطينيين عموماً في نظر «الرأي العام العالمي»!
كل هذه الأحداث وتفصيلاتها تشير إلى جحيم قادم فوق الجحيم الذي يشتغل حالياً بأقصى طاقته، أقصد به جحيم النتائج السياسية المحتملة فيما بعد انتهاء المحرقة.
فباستثناء الدول العربية المعنية مباشرةً والأمم المتحدة لا أحد من ممثلي الدول يحذر من التهجير القسري لفلسطينيي غزة، وربما الضفة أيضاً، في الوقت الذي يتحدث فيه نتنياهو بصراحة عن «تغيير صورة الشرق الأوسط»! لن يأتي بايدن إلى تل أبيب ليطالب نتنياهو بوقف إطلاق النار، بل سيطالبها على الأرجح بتدمير حركة حماس، ومعها الجهاد، بأقل ما يمكن من كلفة بشرية بين المدنيين، ليس رأفةً بهؤلاء بل لإنقاذ شيء من «صورة» الولايات المتحدة لتكون مرتاحة في استمرار دعمها المطلق لحرب إسرائيل «حتى تحقيق أهدافها». ولا بد أن يناقش نظيره الإسرائيلي حول مشروع التهجير وكيفية التغلب على العقبات السياسية للحصول على قطاع غزة خالية من البشر. ولا يمكن أن نتوقع بحال أي حديث عن إحياء رميم «عملية السلام» التي هدفها المفترض حل الدولتين، ويصرح قادة دول عربية ودول أخرى بوجوب العودة إليها.
لقد بقيت خطوة واحدة حتى يتبنى «العالم الغربي المتحضر» (!) النظرية الإسرائيلية القائلة «الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت» إذا أخذنا بنظر الاعتبار ما تفعله الشرطة والقضاء الألمانيين بأي احتجاج تضامني مع الفلسطينيين، أو تصريحات قادة أحزاب ألمانية يطالبون فيها بترحيل أي لاجئ قد يتم تأويل أقواله أو نشاطه على «معاداة السامية» التي يتهم بها أي منتقد لأعمال إسرائيل الهمجية، حتى لو كان هذا يهودياً، وإسقاط الجنسية عنه إذا كان حاصلاً عليها. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار ذلك العجوز الأمريكي الذي هاجم بيتاً لعائلة فلسطينية وقتل طفلاً صغيراً بطعنه بالسكين 16 طعنة.
الاسترشاد بسوابق حروب إسرائيل مع جيرانها وفلسطينييها قد لا يفي بالغرض لتوقعات اليوم التالي للحرب. فالظرف الدولي جديد كل الجدة منذ اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا، حين اصطف الغرب الأطلسي ودول أخرى حليفة «صفاً واحداً» في مواجهة «الشرير الروسي» ويكاد يضيف إليه الصيني أيضاً لولا الحذر الصيني الشديد في سياساتها. أما هذه الدول في موقفها تجاه الحرب الإسرائيلية على غزة فقد فاق دعمها لإسرائيل كل ما قدمته من دعم لأوكرانيا سياسياً على رغم الفارق المهول بين الحالتين. ففي الأولى تتعرض دولة لاعتداء قوة عظمى على الأقل على المستوى العسكري والعضوية الدائمة في مجلس الأمن؛ في حين أن «المعتدي» المفترض لدى الحلف الغربي هو منظمة سياسية ـ عسكرية متواضعة الإمكانات، سرعان ما تحولت هي إلى ضحية للقوة الإسرائيلية الغاشمة التي تستهدف منطقة سكنية صغيرة بحجم غزة مكتظة بأكثر من مليونين من المدنيين المحاصرين منذ 13 عاماً!
وإذا كانت «عملية السلام» قد بدأت عملياً بزيارة أنور السادات لإسرائيل، بعد بضع سنوات على حرب 1973، واكتسبت زخماً دولياً كبيراً في أعقاب حرب الخليج الأولى مطلع التسعينيات (مؤتمر مدريد) تلتها اتفاقيات منفردة مع كل من الأردن والقيادة الفلسطينية، فلا تشير الوقائع السياسية المحيطة بحرب إسرائيل الجارية الآن إلى أي احتمال بالعودة إلى مسار السلام الذي دفنته إسرائيل منذ صعود نتنياهو إلى السلطة على الأقل. «السلام» الذي يريده نتنياهو والقسم الأكبر من الرأي العام الإسرائيلي هو تطبيع العلاقات مع دول عربية والتخلص من الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة. الشروط الحالية تعمل لصالح تحقيق هذا المشروع، بجزء منه على الأقل في الجولة الحالية، ربما بإخلاء النصف الشمالي من قطاع غزة بواسطة الطحن العسكري، والدفع بقسم كبير من الفلسطينيين جنوباً خارج القطاع لتوطينهم في سيناء. فنحن لا نعرف بعد إلى متى يمكن أن تستمر «ممانعة» السيسي لهذا المشروع. فهو سيتعرض لضغوط وإغراءات أمريكية غير مسبوقة لتمرير هذا المشروع، فهمّه الوحيد الآن ينحصر في الفوز في الانتخابات الرئاسية الوشيكة في مصر. ومن المحتمل أن «فوزه» المرجح فيها سيمنحه ما يحتاجه من «تفويض» للرضوخ لضغوط واشنطن وإغراءاتها.
صحيح أن مشروعاً كارثياً كهذا قد يلقى عقبات كبيرة في الأمم المتحدة ومجلس الأمن، لكن فرضه كأمر واقع حالياً بانتظار تكريسه أممياً -الذي قد يستغرق سنوات- سيكون كافياً لإسرائيل كجائزة ترضية على فشلها المدوي في مواجهة طوفان الأقصى.
ولكن أليس هذا وصفة نموذجية لولادة موجة جديدة من «الإرهاب»؟
كاتب سوري
—————————–
كوارث سوريا الكبرى وتحرير فلسطين/ مضر رياض الدبس
صار يعيش في هذه المنطقة، التي كانت تسمى “سوريا الكبرى” (فلسطين، وسورية، ولبنان، والأردن، والعراق)، نوعٌ من البشر لا يهتدي إلى أي فعلٍ يدل على وجوده في هذه الحياة إلا فعل القتل. وكأنَّه بالضبط ذاك الفاشي الذي كتب عنه محمود درويش في “مديح الظل العالي”، الذي “يخرُج من جسد الضحية/ يرتدي فصلًا من التلمود: أقتل كي تكون”. ولهذا النوع من البشر منهجٌ واحدٌ وله وجهان: المنهج هو القتل، ومقاربة الآخرين بوصفهم “حيواناتٍ بشرية” بتعبيرات وزير الدفاع الإسرائيلي؛ يوآف غالانت، ووجهه الأول إسرائيل ومنتفعاتها من العرب؛ والوجه الثاني إيرانيٌ يضم نظام الأسد، وحزب الله، ومنتفعاتهم من العرب وغيرهم من أفغانٍ وباكستانيين يقاتلون في أرضنا لكي “لا تُسبى زينب مرّتين”، وما إلى هنالك. ويبدو اليوم أن هذين الصِنفين من البشر لا يتسلحان بصورة أساسية بالبنادق، ولا بالدبابات والصواريخ والترسانات، مع أنها كثيرةٌ لديهم؛ بل سلاحهم الأساسي الأسطورة والبكاء. يعني أنهم يتسلحون باستحضارٍ دائمٍ زائفٍ للماضي بموجب سرديةٍ أيديولوجيةٍ دينيةٍ هادفةٍ تتضمّن البكاء الذي يؤدّي، في النهاية، إلى القتل! وبتعبيرات درويش مرّةً أخرى، هذا نوعُ البشر الذي “كان يخفي سيفه في دمعته” أو “كان يحشو بالدموع البندقية”، نوعٌ “يعلم أن البكاء سلاحه الذرّي والسرّي”.
ولا يأتي المرء بجديدٍ بهذا التصوّر، ولكن يعكس واقع سوريا الكبرى التي صارت كالآتي: فلسطين المُحتلة، وسورية المُحتلة، ولبنان المحتلة. لا تتوقف الكارثة هنا، بل ثمّة كارثةٌ تتعدّى هذا الشغف برقصة الموت، الكارثة أن ثمّة نوعا ثانيا من البشر لم يبق شيءٌ يدلّ على حياته إلا أنه يموت؛ فإذا كان النوع الأول يُوقِّع أفعاله بـ “نحن نقتل إذًا نحن موجودون”، فإن الثاني يوقع بـ “نحن نموت إذًا نحن موجودون”؛ وثمّة تحت هذا التوقيع الأخير طيفٌ واسع من الناس الطيبين الجميلين: أطفالٌ أبرياء، وأمهاتٌ، وعجائزٌ، ودراويش، وآباء يشقون، وجميعهم يمتلك شجاعةً لا توصَف، شجاعة العاديين الذين صارت حيواتهم لا تُعرَّف إلا بدلالة موتهم فحسب. والحياة بدلالة الموت قدرُ الذين لا يمتلكون سياسةً تدلّ عليهم في عالمِ الدول عندما يهزم الضمير الإنساني أو يُخفق لمصلحة “رب الجنود” أو لمصلحة الولي الفقيه.
هؤلاء العاديون ضحيَّةُ كارثةٍ ثانية توازي ابتلاءنا بإسرائيل وإيران الخمينية ومنتفعاتهما: إنها كارثة غياب السياسة في سوريا الكبرى، التي لم تدع مؤشرًا يدل على وجودنا في هذا العالم إلا أننا لا نزال نموت بقذيفةٍ فوق رؤوسنا، ونحن في أرضنا وفي بيوتنا من شدّة ركاكة من يمثل قضايانا الكبرى سياسيًا. لا تبرّر هذه المقاربة انحطاط العالم أمام المجزرة المستمرّة، ولا تُبرّئ انهيارَ مفهوم الإنسان أمام ما يحدُث في غزّة، وأمام الذي حصل في سورية كله؛ ولكنها مقاربة تنظر إلى الشيء الذي بين أيدينا غير البندقية، الشيء الذي كنّا جميعًا نستهين دائمًا بقدرته الجبّارة على تحقيق أحلامنا وحريتنا: أي السياسة بوصفها الضغط على النفس والعقل كثيرًا بالتوازي مع الضغط على الزناد قليلًا. إن الشيء الذي تشير إليه أسماءٌ أنتجها نظريًا مشروع التحرّر، مثل محمود عبّاس وهادي البحرة، هو أن سوريا الكُبرى فقيرةٌ جدًا بالسياسة، والفقير بالسياسة عندما يُقتَل لا يترك قتله أثرًا، ولا أحدٌ يُحاسِب قاتِلَه، وعندما يضغط على الزناد دفاعًا عن نفسه بعد اليأس، يُعرِّض نفسه للخطر وقد يتخلى عنه الجميع. وإن لغة “من شان الله احمونا” هي لغة المتسوّلين، وليست لغة السياسيين. والعَسكرة من دون سياسة موتٌ هنا، وموتٌ هناك، وضجيجٌ قد يكون مهمًا في لحظةٍ معينة، ولكنه بالتأكيد غير كافٍ لنيل الحرية. يبدو هذا واحدًا من دروس ثلاثة أرباع قرنٍ من نضال الفلسطينيين ضد إسرائيل، وهو درسٌ تكرّر في مشروع التحرر من الديكتاتوريين المحليين وأمراء الحرب في الحالتين السورية واللبنانية تحديدًا. ومع ذلك، لا يزال هذا الدرس يستفزّ كثيرين الذين يرفضون تعلمه، وهذا سؤالٌ يحتاج إلى تفكير عميق: لماذا تكفر الناس الثائرة والشجاعة بالسياسة؟! قد يطول الحديث في الإجابة عن هذا السؤال، ويأخذنا خارج السياق. ولكن احتقار التفكير، وغياب السياسة العاقلة لمصلحة الركاكة، يظلّ أمرًا يؤدّي، بالضرورة، إلى تحرّرٍ من كل مسؤولية، ومن ثم تصير الأمور تدار بمنطق “الهبش”: “هبشةٌ” من هنا، و”هبشةٌ” من هناك.
في الأحول كلها، لا تكتمل هذه المقاربة من دون النظر إلى بعدها العالمي الراهن الذي يشهد انهيار مفهوم الإنسان؛ فحكومات الدول الخمس الكبرى، صاحبة الفيتو في مجلس الأمن، كلها صارت تعيش فوق أنقاض هذا المفهوم. ولا يزال مُمكنًا، في هذا السياق، أن نشارك أميركا في النقاش بشأن القلق على سلامة أسرى إسرائيل لدى “حماس”، أو الرهائن كما تحبّ أن تسمّيهم، وأن ندخل إلى هذا النقاش بطريقة أميركية قديمة كالآتي: إن مُعتقلًا من معتقلي غوانتانامو مثلًا، كان كائنًا منزوعَ الفردية، ولم يعد يُصنَّف فردًا بعد بناء حالة استثناء قانوني بموجب قانون مكافحة الإرهاب المعروف بـ (Patriot Act) الذي أصدره مجلس الشيوخ الأميركي في أكتوبر/ تشرين الأول 2001. وقد رأى جورجيو أغامبين أن هؤلاء الأسرى الذين عاملتهم الولايات المتحدة في حينه بوصفهم مجرد معتقلين بحكم الأمر الواقع فحسب، أي خارج أي اتفاقات قانونية وأعراف مثل اتفاقية جنيف لأسرى الحرب، لا يشبههم أحدٌ إلا اليهود في المحتشدات النازية، حيث فقدوا كل عناصر الهوية القانونية، وأخذوا وضعية “الحياة العارية” (Bare life)، ولكن التاريخ الراهن يزوّدنا بشبيه جديدٍ آخر لما حصل في غوانتانامو والمحتشدات النازية، فظيعٌ بما يكفي ليكون في لوحة الحياة العارية العالمية التي يشارك في رسمها الجميع: إنه مُستشفى المعمداني بوصفه مثالًا أنموذجًيا ساخنًا وجديدًا، يُضاف، بطبيعة الحال، إلى أمثلةٍ أنموذجيةٍ أخرى، منها المشافي الكثيرة التي قصفتها روسيا وإيران والنظام في سورية بصمت أميركي عنها. وبطبيعة الحال، يمتلك العربي العادي ما يكفي من المسوّغات ليفترض أن ذهنية غوانتانامو قد تكون مهّدت لإمكانٍ حقيقي لوجود صورٍ مرعبة، مثل التي رأيناها في مشفى المعمداني أو في ملفّ قيصر مثلًا، وقد يسهم هذا النوع من التفكير، إذا أضفنا إليه تداعيات غياب السياسة الكارثي، في التقليل من صدمة أبناء المنطقة من دعم الولايات المتحدة اللامحدود لإسرائيل في كل مرّة.
أخيرًا، نقول إن في سوريا الكبرى ثلاثةَ شرورٍ كارثية: إسرائيل، والولي الفقيه، وغياب السياسة. زوال الثالث يعني أن يصير للجنود المكشوفين متراسٌ، ويعني بالضرورة بداية زوال الاثنين الباقيين، والبدء في تحرير فلسطين، وسورية، والعراق، ولبنان.
العربي الجديد
———————-
الغرب الاستعماري وطوفان الأقصى/ عمار ديوب
أوجد الغرب الاستعماري حلّاً للمسألة اليهودية في بلاده عبر ترحيلها إلى فلسطين، وأحدث بذلك مشكلة للعرب، اسمها الكيان الصهيوني الاستيطاني في المنطقة العربية. فَعَلَ ذلك عبر استعماره فلسطين؛ فشُكِّل الكيان الاستيطاني هذا، ولا يزال. وكان، كلما، واجه حرباً، أو مشكلة حقيقية مع الدول العربية أو المقاومات العربية تلقّى دعماً غير محدود، عسكرياً، ومالياً. وهذه أميركا وبريطانيا ودول أوروبية أخرى أرسلت حاملات الطائرات والمسيّرات المتطورة إلى البحر المتوسط لإعلان الانحياز المطلق لإسرائيل، وكرسالةٍ واضحة ودقيقة: سنقاتل أيّة قوى، أو دول، ستقف مع الشعب الفلسطيني في غزّة، والذي يتعرّض لأسوأ أشكال العدوان الإسرائيلي منذ أكثر من عشرة أيام، وجديدها مجزرة مستشفى المعمداني، والتي راح فيها أكثر من 500 فلسطيني.
بدت القشرة الديمقراطية ومنظومة حقوق الإنسان للغرب، التي يَدّعي الانطلاق منها في سياساته الخارجية أنّها لم تكن يوماً إلّا أداة لإخفاء طبيعته الطبقية والعنصرية إزاء العالم. ففي داخل ذلك الغرب، تمّ التشدّد ضد أيّة مظاهرات للتنديد بالعدوان الإسرائيلي وللوقوف مع الحقّ الفلسطيني بأرضه، وبغض النظر عن الوسيلة التي أستعين بها، وتبيّن كذبها، وهي أن مقاتلي حركة حماس قطعوا رؤوس الأطفال واغتصبوا النساء، فقد استمرّ التشدّد ذاته، وهذا ما يعبّر عن تلك العنصرية؛ وبتجاهل المظاهرات التي تتوسّع يومياً في أوروبا وأميركا وأستراليا وسواها، فإن الحكومات الغربية تظهر عارية بأنّها لحماية مصالح رأس المال أولًا، وللحفاظ على إسرائيل، ككيانٍ متقدّم لها في المنطقة، وفي العالم. ولهذا لم تتوانَ عن تمزيق تلك القشرة، وتجاهلت كل تاريخ هذا الكيان الإجرامي من ناحية، وكل القرارات الدولية، المُنصفة للشعب الفلسطيني، وكل مبادرات السلام من أجل الوصول إلى الأرض مقابل السلام، و”دمج” إسرائيل فعلياً في المنطقة. لم تقبل ذلك إسرائيل، ولهذا لم تطبق اتفاقيات أوسلو ورَفضت المبادرة العربية للسلام 2002. ولم يضغط الغرب على إسرائيل لِتغيّر من طبيعتها الاستعمارية والعنصرية. للدقة نقول: لا مصلحة لذلك الغرب بأن تغيّر إسرائيل من طبيعتها الكولونيالية بالأصل، ولهذا دعمها ويدعمها الآن.
يخطئ ذلك الغرب كثيراً بتجاهل الحقوق العربية، وربما هذا ما دفع دولا عربية كثيرة إلى الاتجاه نحو الصين أو روسيا. الاعتراف بحقوق الفلسطينيين في إقامة دولتهم هو أوّل شرطٍ في تعزيز العلاقات العربية والغربية، وهذا لن يتحقّق قبل تفكيك الكيان الصهيوني، وتشكيل دولةٍ واحدة، اسمها فلسطين، ويعيش فيها العرب واليهود على قدم المساواة في الحقوق. من دون هذا الشرط، والانحياز لدولة الكيان لا يمكن للعرب وليس للفلسطينيين فقط، ومهما تغيّرت الأنظمة، أن يتقبلوا هذا الكيان، أو يقيموا صلاتٍ حقيقية مع الغرب. المقصد، هنا، أن من يعيق إقامة علاقات مستقرّة ومستمرّة مع الغرب ليسوا العرب، بل تلك السياسات الاستعمارية التي ينتهجها الغرب إزاء فلسطين أولاً، وإزاء العرب ثانياً.
جاءت عملية طوفان الأقصى، لتَقضي على استقرار الكيان، ولتهزّه من “شروره”، وقد بدا أنّه تأبد، وهيمن على العرب عبر الاتفاقيات الإبراهيمية. بل لقد توضّحَ أن تلك الاتفاقيات عديمة القيمة والوزن، فالكيان الذي كان سيحَمي تلك الدول، هَشّمته عملية طوفان الأقصى، وتداعت البوارج الغربية لحماية الكيان، وبالتالي، عاد كيانا استيطانياً غربياً، وزال الوهم أنّه دولة ديمقراطية وساعية للاندماج بالمنطقة، ومستقرّة، وكان يخطّط لمزيد من التطبيع، مع السعودية مثلاً، بل وظهرت الطبيعة العنصرية للغرب كذلك.
أوضحت تلك العملية أن القليل من التنظيم، يمكنه هزم الكيان، فكيف لو كان التنظيم أكثر دقّة، وليس بقطاع غزّة المحاصر منذ 2005، والمعزول عن العالم كسجنٍ مفتوحٍ لأكثر من مليونين وثلاثمائة ألف إنسان. أوضحت عملية طوفان الأقصى أن تفكيك هذا الكيان ممكن، وعبر تشكيل الدول العربية جيوشا متقدّمة وإجراء التحوّل الديموقراطي؛ وهذا ما أرعب الكيان ذاته، وتهمّشت كلية أساطيره والمحدّدة بأن: جيشه لا يقهر، ومهيمن على العرب، والأكثر استقراراً لأنّه ديمقراطي وصناعي.
الآن، العدوان الهمجي يُدمر غزة، ويقتل آلاف الفلسطينيين، ويتلقى دعماً أميركياً وأوروبياً ودون شروط. ضد ذلك، رفضت أغلبية الدول العربية تهجير أهل غزّة إلى مصر وسواها، ورفض أهلها ذلك بشكلٍ لا عودة عنه، ومهما حدث لهم، واتّجهت “الدول” نحو عقد مؤتمر لمناقشة القضية الفلسطينية وليس فقط قضية غزّة في مصر. وزار وسيزور وزراء خارجية أميركا وأوربيون إسرائيل والمنطقة، وكان مقررا أن يعقد الرئيس الأميركي بايدن، أمس الأربعاء، لقاءً في عمّان مع ملك الأردن والرئيسين المصري والفلسطيني؛ قبل إلغائه بعد مجزرة مستشفى المعمداني المرعبة.
هناك حركة دبلوماسية واسعة، عربية وغربية، وإذا كانت الغربية منها تتكلم عن دعم إسرائيل، والتحذير من الحرب الإقليمية، ومنع حدوثها، فإن الدول العربية، تطالب بإيقاف إطلاق النار، وتبادل الأسرى، وإدخال المساعدات إلى غزّة، ويؤكد مسؤولو الأمم المتحدة الانهيار الكامل للأوضاع الإنسانية، وضرورة إدخال المساعدات الطبية والغذائية والمحروقات. شجبت روسيا ودول عديدة العدوان الإسرائيلي، وطالبوا، عبر تصويتٍ في مجلس الأمن، بإيقاف إطلاق النار، وإدخال المساعدات، وهو ما رفضته ريطانيا وأميركا وفرنسا، وأغلبية الدول الاستعمارية.
يؤشّر “طوفان الأقصى” إلى أن الحصار على غزّة كان خاطئاً، وتفشيل اتفاقيات أوسلو كان أمراً غبيّاً للغاية، وكذلك عدم إجبار إسرائيل على توقيع المبادرة العربية 2002، وأن كل السياسات الإسرائيلية اليمينية والأكثر فاشية وصهيونية في السنوات الأخيرة أزّمت الوضع الفلسطيني بصورة أنتجت، مواجهات كثيرة في الأعوام الأخيرة، وبالنهاية الطوفان.
لا يوجد حل فعليّ وجذريّ إلّا الدولة الواحدة وللجميع. أمّا الاستمرار بتأييد العدوان، وتهجير أهل قطاع غزّة من شماله إلى جنوبه أو إلى الخارج، والتفكير بتهجير أهل الضفة الغربية وترانسفير لعرب الـ 48، فهو وصفة فعلية لإنتاج مقاومات مستمرّة. وربما تكون “حماس” الأكثر عقلانية وتوازناً؛ لم يعد لهذا الكيان من مستقبل بعد عملية الطوفان ومجازر غزّة، وصار تفكيكه الحل الوحيد للتصالح مع الغرب؛ فهل يغيّر الأخير من سياساته الاستعمارية؟ وهل يعي العرب ما أنتجه “طوفان الأقصى” من متغيّرات لصالح امتلاك أسباب ذاتية للنهوض والتطوّر العام وحل المشكلة الفلسطينية بشكل جذري وإسدال الستار على اتفاقيات الذل، الإبراهيمية وسواها؟
استطاعت كتائب عز الدين القسام وبقية الكتائب، المعزولة عن العالم، هزّ إسرائيل وجوديّاً، والتفكير بالعودة إلى الغرب الاستعماري. والسؤال: أليس ذلك تحصيل حاصل من الدول، إن هي سعت؛ إنها الإرادة؟
———————–
تأمّلات بمناسبة طوفان الأقصى/ راتب شعبو
كانت عملية طوفان الأقصى التي قامت بها كتائب عز الدين القسام، الذراع العسكرية لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، في السابع من شهر أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، عملاً عسكرياً باهراً. لم يتوقّع أحد أنه يمكن اختراق كل الحواجز المادية والتقنيات التي توظفها إسرائيل من أجل حماية المستوطنات فيما يسمّى غلاف غزّة، ومن أجل عزل غزّة عن مناطق سيطرة إسرائيل. ومن أهم هذه الحواجز الجدار “المتطوّر” الذي يعزل غزّة، وطوله 65 كلم بعمق يصل إلى 40 مترا تحت الأرض وستة أمتار فوق الأرض، الجدار الذي يُقال إن بناءه كلّف مليار دولار، وإنه مزوّد بتقنيات تكشف مرور العصفور في الجو والصرصور على الأرض، غير أن العبور حصل مع ذلك، وقد عمي الحاجز “الذكي” عن الطائرات الشراعية والجرافات، الأمر الذي أحدث صدمة ليس فقط في إسرائيل، بل وفي العالم الداعم لها.
من الطبيعي أن تعيد أعمالٌ من هذا النوع الروح والأمل للكتل البشرية التي يطردها النظام السياسي السائد في العالم، إلى الهامش حتى يوشك أن يصنّفهم بشرا من سويّة دنيا. ألم يصرح وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، “إننا نقاتل حيواناتٍ على هيئة بشر، ونتصرّف على هذا الأساس”؟ من الطبيعي أن يفرح الناس الذين لم تكفّ إسرائيل عن ابتلاع أراضيهم وتهجيرهم وهدم بيوتهم وقطع أشجارهم، متحدّية بذلك ليس فقط القوانين الدولية، بل كذلك الحسّ السليم وأدنى إحساس بالعدل. من الطبيعي أن يفرَح هؤلاء ويهللوا، فليس للتاريخ نهاية، ومهما بلغت قوّة المعتدي، لن يستطيع أن يضع نقطة نهاية على السطر. يبقى دائماً للمقهورين ما يقولونه، ويوجد دائماً وسيلة للفعل والتأثير.
من ناحية أخرى، ومما يلقي الضوء على العقدة المستعصية لحالنا، فقد حُمل هذا الإنجاز العسكري المهم، على يد دول وسلطاتٍ تُمعن هي الأخرى، ليس فقط في تهميش الناس والاستهانة بإرادتهم، بل وفي قمعهم وقتلهم أيضاً. الفلسطيني السوري الذي أثلج صدره إنجاز “حماس” سوف يشعر بطعنة في الخاصرة، حين يوجه مقاتلو “حماس” التحية لنظام الأسد على أنه “سورية العروبة”، النظام الذي قصف مخيم اليرموك وحاصره إلى حدود المجاعة. هذا إذا وضعنا جانباً مشاعر هذا الفلسطيني إزاء بطش طغمة الأسد بالشعب السوري على مدى دزّينة من السنين، وإحالته سورية إلى بلدٍ ممزّق وعاجز. مشاعر متناقضة أيضاً إزاء هذا الحدث، سوف تشمل الفلسطيني الذي يعيش في ظل الإكراه والقسر الذي تفرضه سلطة “حماس” في غزّة. سوف يجد هذا الفلسطيني أن السلطة التي تستبدّ به، هي التي تقوم بهذا العمل غير المسبوق الذي بثّ الرعب وألحق الذلّ بالدولة العنصرية المستعمرة التي ما فتئت ترعب شعوب المنطقة وتذلها.
ينطبق الشيء نفسه على مساهمة إيران وحزب الله في هذا العمل، وهما في تماهٍ مباشرٍ مع طغمة الأسد. من الطبيعي، والحال كذلك، أن نجد قسماً مهماً من الشعب السوري، الشعب الأكثر قرباً وتبنّياً للقضية الفلسطينية، غير متعاطف مع “حماس”، بل منهم من يرى أن لهذه العملية مآرب تتصل بمحاولة “تعبئة رصيد” نظام الأسد، وإعطائه مجالاً أوسع للبطش بالسوريين، سيما أن عملية العبور البطولية تزامنت مع عمليات القصف العشوائي وبأسلحة محرّمة دولياً على مناطق ادلب وريف حلب.
يضاف المزيد من التعقيد إلى الحال الذي نحن فيه، إذا نظرنا في أمرين. الأول، صعوبة، إن لم نقل استحالة، مواجهة الاحتلال الشبيه بالاحتلال الإسرائيلي بواسطة تنظيمات أو سلطات تراعي القواعد الديموقراطية في عملها، ولاسيما في بيئاتٍ فقيرة تتنازعها عصبيّات أهلية، ولا تاريخ لها في أشكال الحكم الديمقراطية. أولوية التصدّي للاحتلال سوف تفرض نفسها على أي سلطةٍ تتبنّى هذه المهمة، وسوف تدفعها، كما لو بقانون، إلى مزيدٍ من احتكار السلطة والتصلب الأمني وتغليب “سوء الظن” في التعامل مع المحكومين. هذا عدا عن حشد الموارد المتوفّرة من أجل العمل العسكري على حساب معيشة الناس، ويفرش هذا كله الأرض لشتّى صنوف الفساد وسوء العلاقة بالجمهور.
إذا كان “الطغاة يجلبون الغزاة”، كما يتكرّر القول، فإن التجربة في بلداننا تبيّن أن عكس هذا القول لا يقلّ صحة. ساهم الاحتلال الإسرائيلي الاستيطاني في صناعة أعتى الطغاة أيضاً.
الأمر الثاني، أن التصدّي لاحتلال استيطاني، كالاحتلال الإسرائيلي المدعوم، فوق ذلك، من أقوى الدول، دعماً ثابتاً لا يكترث حتى بالقوانين الدولية، استهلك أشكال المقاومة الوطنية التي نشأت وتصدّت له، الأمر الذي حرّض في شعوب هذه المنطقة العناصر الدفاعية الأعمق، وهي العناصر المتصلة بالهوية الدينية. زاد في هذه الآلية اعتماد العدو الإسرائيلي على هوية دينية أيضاً هي اليهودية، التي لها تاريخ معروف من الصراع مع الدعوة الإسلامية الأولى، التاريخ الذي نسمع صداه يتردّد في معارك اليوم في صيحة “خيبر يا يهود”.
ما حصل من استناد مقاومة الاحتلال الإسرائيلي إلى الدين، كما في لبنان كذلك في غزّة، زاد في تعقيد الحال، حين أضفى على الصراع الوطني بعداً دينياً. فمن شأن البعد الديني أن يبتلع البعد الوطني، وأن يحيل الصراع إلى صراع هوياتٍ لا تتصالح. ليس غريباً، والحال كذلك، أن لا تعترف “حماس” بإسرائيل مثلاً، فمن طبيعة وعيها لهذا الصراع أنه صراع وجودي.
اجتماع خصوصية النضال ضد احتلال استيطاني مديد، مع تولّي هذا النضال جهاتٌ تستند إلى الدين، أنتج سلطاتٍ محلّيةً شديدة الوطأة على المجتمع الذي توجد فيه. ولكن هذه السلطات الدينية شديدة الوطأة تعرض مقدرة لافتة على الإنجاز وتحقيق مكاسب عسكرية، غير أن هذا الواقع ذاته، نقصد استبداد هذه الحركات وارتكازها الديني، يسمح بأن تكون جزءاً من “محور” يجعلها في خدمة سياساته التي ستكون، بطبيعة الحال، متأثرة بمصالح الطرف الأقوى في المحور، الذي هو، في حالتنا المعيّنة، النظام الإيراني.
يبقى من المهم الإشارة إلى أن ما يمكن اعتبارها إنجازات عسكرية لهذه القوى تستجر على الناس وعلى البلاد ردوداً انتقامية باهظة الكلفة إلى حدٍّ يحيل الإنجاز العسكري إلى مأساة، بسبب الفارق الهائل في ميزان القوى مع العدو الإسرائيلي، وبسبب وقوف أقوى الدول إلى جانب إسرائيل. الحقيقة أن الردّ الإسرائيلي الباهظ المتوقّع عقب كل عملية يشكل حاجزاً سياسياً ونفسياً أكثر فاعلية من حواجز العزل المادية المتطوّرة.
معضلتنا التي لا يراها، أو لا يريد أن يراها العالم، هي ماذا يبقى أمام المغتصبة أرضهم وحقوقهم، حين تُغلق أمامه السبل السياسية، وحين يريد العالم أن يلقّنه أقسى الدروس عقب كل محاولة عسكرية يريد من خلالها أن يعيد طرح مشكلته على الطاولة؟
العربي الجديد
———————–
عن الآيخمانية في ازدهارها الراهن/ ياسين الحاج صالح
في مقالة نشرت للتو في مجلة «نيويورك ربفيو أوف بوكس» الأمريكية، كتبت سوزان نيمان، الفيلسوفة الأمريكية المقيمة في برلين، أن الألمان تحولوا، بينما هم يواجهون تاريخهم الإجرامي ويستأصلون منه معاداة السامية، إلى ضرب من المكارثية المحبة للسامية، تهدد حياتهم الثقافية الغنية. المقالة مكتوبة قبل عملية «طوفان الأقصى» التي أظهر التفاعل الألماني معها مدى من تلك المكارثية قد يكون غير مسبوق، أقله من حيث اقترانه بمعاداة موتورة ومسعورة للفلسطينيين، إلى درجة ملاحقة علم فلسطين وتحريم الكوفية ومحو كتابات تتضامن مع غزة على الجدران، وفض أي تجمعات متضامنة مع الفلسطينيين الذين يتعرضون لعدوان إبادي، بمساندة واسعة من القوى الغربية. ما طفا على السطح خلال الأيام الماضية هو التطرف البنيوي للدولة الألمانية والدول الغربية الأخرى حيال القضية الفلسطينية، تطرف مغاير نوعياً لضروب التطرف التي تظهر في المجال العربي، حيث يغلب أن يكون التطرف انفعالياً، انفجارياً، يولده ضغط مستمر، ويتوجه ضد الأقوياء المتحكمين، إن من جهة أطقم السلطة لدينا أو القوى الدولية. هنا في ألمانيا والغرب، التطرف في شأن قضية فلسطين بنيوي، متصل بمزيج من تكوين استعماري غير مُراجع، ومن تعصب ثقافي مشترك (التراث اليهودي المسيحي) ومن شعور بالذنب على إبادة ملايين اليهود على يد النازيين أثناء الحرب العالمية الثانية. التيار السائد في الغرب عدمي بخصوص القضية الفلسطينية بقدر لا يقل عن العدمية العالمية للسلفية الإسلامية.
ما ظهر بفجاجة مثيرة للاحتقار خلال عشرة أيام هو عجز مطبق عن التفكير من منظور الآخرين، الفلسطينيين المحاصرين، المعرضين لنظام أبارتهايد، بحسب تقرير شهير لمنظمة العفو الدولية، والواقعين تحت استعمار استيطاني نووي، صفيق، وبالغ العدوانية. العجز عن التفكير من منظور آخرين هو ما أقامت حوله حنه آرنت فكرتها عن «ابتذال الشر» على نحو ما شخصته في رصدها لمحاكمة أدولف أيخمان، الضابط النازي الذي كان مسؤولا عن نقل يهود أوروبا إلى معسكرات الإبادة. التفكير بحد ذاته هو حوار مع النفس بحسب آرنت وقبلها أفلاطون، نستدخل فيه آخر مغايراً لنا، وليس شبيهاً أو مماثلاً، ما يعني أن العجز عن التفكير من موقع شخص آخر هو عجز عن التفكير بحد ذاته، وفشل في تكون الضمير في رأي آرنت. آيخمان لم يستطع قط التفكير من موقع اليهود، لم يشعر بهم، كان ضالعاً في نزع إنسانيتهم وصناعة القتل التي أقامها النظام الهتلري لهم، ولغيرهم، في النصف الأول من أربعينيات القرن الماضي.
هذا للقول إن هناك إنتاجا واسعا للآيخمانية في الغرب بمجمله، بما في ذلك ألمانيا بالذات، التي تجامل نفسها كثيراً بالاعتقاد أنها رتبت علاقة طيبة مع الماضي بالانتقال من معاداة السامية إلى هذا الضرب من المحبة المكارثية للسامية بحسب نيمان. الآخر اليوم هو المهاجر، وهو اللاجئ، وهو «الملون» وفي السياق الراهن هو الفلسطيني تحديداً، والضمير يتكون بأثر التدرب على التفكير من موقع هذا الآخر، مع ما يقتضيه ذلك من سماع صوته، والترحاب بتعبيراته عن نفسه. ما يحدث هو تماماً عكس ذلك، على نحو ما مثله سحب جائزة للروائية الفلسطينية عدنية شبلي، كان يفترض أن تمنح لها في معرض فرانكفوت للكتاب الجاري اليوم، وهذا لأن صحافييْن مخبرين دسّا على روايتها «تفصيل ثانوي» أنها… «معادية للسامية». في شأن فلسطين، التيار السائد في ألمانيا استمرار لأدولف أيخمان وليس قطيعة معه، ولعله يتجسد بصورة خاصة في أورسولا فان درلاين، وزيرة الدفاع الألمانية السابقة ورئيسة المفوضية الأوروبية، وهي شخصية مسعورة في دعمها لإسرائيل وامتناعها المطلق عن النظر إلى ما يجري بعين فلسطينية. التفكير حصراً من موقع اليهودي، اليوم، ليس له العائد الضميري الذي كان يحوزه قبل ثمانين عاماً حين كان يهود أوروبا هم الضحايا المطلقين. هو بالعكس إعلان حب للنفس، مونولوغ وليس ديالوغ، اعتقاد متعصب وليس تفكيراً أخلاقياً مولداً للضمير.
إلى ذلك، لا تشكل محبة السامية اليوم قطيعة مع مناهضة السامية أو كره اليهود قبل ثلاثة أجيال، بل هي أقرب إلى استمرار بنيوي لها عبر التمركز الحصري حول اليهود وإفرادهم عن غيرهم، بل ونزع إنسانيتهم، وإن في اتجاه فوق إنساني هذه المرة وليس دون إنساني مثلما كانت الحال أيام النازية. يحتج عقلاء اليهود، ومنهم نيمان، على ذلك، بينما يبتهج به الصهيونيون واليمين الديني الإسرائيلي بأنانيته المشهودة، وكرهه لجميع العالم على ما كان يكرر إسرائيل شاحاك يوماً.
على أن العجز عن التفكير من موقع الغير لا يقتصر على ألمان وغربيين، بل هو راسخ الأسس لدينا، هذا إن لم يكن أرسخ من الغرب، يحجبه ضعفنا وهوان أمرنا. على أن جذور العجز مختلفة هنا. فالعائق الأساسي دون التفكير من موقع الآخر ينفي مجالنا هو المظلومية، وما تدفع إليه من حرون وحرد من العالم، ومن انحباس داخل النفس، مع إعطائها كامل الحق في فعل أي شيء ضد الأعداء المتصورين، ومع الميل إلى اعتبار العالم كله معادياً (مثل عتاة اليمين الديني والصهيوني بالمناسبة). لسان الحال يقول: أنا مظلوم، إذن أنا على حق. لكن هذا باطل كل البطلان، فجرائم المظلومين لا تشكو من القلة في الماضي وفي الحاضر، واقتران المظلوميات بالتوحش والإجرام براحة ضمير تدل عليه سيرة الشيعية السياسية في سوريا مثل نظيرتها السنية، والنظام الأسدي مثل إسرائيل.
أما في الغرب فيصدر العجز عن التفكير من موقع الغير عن استبطان عقيدة تفوق وسيادة، تعكس سيطرة الغرب العالمية وثراءه وقوته خلال القرون الأخيرة. لا يخرج السيد المتفوق من نفسه لينظر إلى نفسه من موقع من هم أدنى منه، وهذا مثلما لا يستطيع «التابع» الذي تمكنت منه المظلومية من الخروج من سجن نفسه ليراها بعين غيره. ليس الأمر حتمياً، فهناك عادلون هنا وهناك، لكننا حيال شرط بنيوي قوي التأثير.
إسرائيل بالذات مزيج غريب من المظلومية والتفوق، من وراثة حية للاضطهاد اليهودي المديد الذي توجه الهولوكوست ومن عقيدة تفوق ديني وأخلاقي وثقافي يعززها السند الغربي. هنا يمكن الكلام على حاجزين في وجه التفكير من موقع الغير، الفلسطيني والعربي بالذات، حاجز المظلومية وحاجز التفوق، وليس حاجزاً واحداً. وما يحدسه المرء من وجود برنامج إبادي مستبطن في الكيان الإسرائيلي يجد جذوره في هذه الحاجزين. هناك وعد مظلم في هذا الحل النهائي للحل النهائي. فإن كان لوعد غير إبادي أن يكون ممكناً فما يلزم هو إعدام الآيخمانية بعد ستين عاماً من إعدام إيخمان.
ويبدو أن الامتناع عن التفكير من موقع الغير يدفع الذات باتجاه تعريف نفسها تعريفاً قبلياً أو هوياتياً، وليس تعريفاً بحقوق قواعد مطردة تعم الجميع. بقدر ما تحكمت المظلومية في مجالنا، فقد أخذت تنعقد على الدين الذي صار يوفر تسويغاً لأي أفعال متوحشة تمارس من طرفنا. سوريا مختبر رهيب في هذا الشأن. وفي الغرب تتوافق السيادة المتفوقة مع الحضاروية والدفاع عن الاستعمار، ومع الإسرائيلية الجامعة.
ومع القبَلية يحضر الثأر وليس العدل، والحرب وليس السياسة والحلول السياسية، والانفعال وليس الفكر الصاحي. إسرائيل بالذات دولة إثنية دينية، دولة ثأر وانتقام مستمر، قبيلة ناقمة بلا نهاية.
كاتب سوري
القدس العربي
—————————
ورقة المناصرة الفاعلة!/ حسان الأسود
لم تقتصر تداعيات عملية طوفان الأقصى على غزّة وأهلها، فما يُعلَنُ صراحةً عن نيّة تنفيذه، على لسان القادة السياسيين والعسكريين الإسرائيليين، هو نكبة ثالثة للشعب الفلسطيني أولًا، وهو تغييرٌ مدروس وممنهج للبنية الديمغرافية لفلسطين ثانيًا، وهو تكريسٌ لدولة الفصل العنصري الأخيرة في العالم، والقائمة على أسسٍ دينية قومية متطرّفة، وعلى أنقاض شعبٍ كاملٍ وحقّه في الوجود والحياة ثالثًا، وهو تغييرٌ للخريطة السياسية في المنطقة وتكريس واقعي للدويلات المفتّتة القائمة عل أسس طائفية أو مذهبية، تكرّس عنصرية إسرائيل ويهوديّتها، وتشرعنها في الوقت ذاته رابعًا. هو كذلك تكريس واضح لانهيار المنظومة الأخلاقية والقانونية التي قامت عليها منظمة الأمم المتحدة ومنظومة القانون الدولي. إنها تكريسٌ حقيقي ويومي ومباشر لمبدأ عدم المساواة في الحقوق بين البشر، وعدم المساواة في الخضوع لموجبات القانون الدولي، وفي مقدمته القانون الجنائي الدولي وقانون حقوق الإنسان. إنها تعميد أبدي لفكرة الدول التي يحقّ لها أن تفعل ما تشاء ومتى تشاء، وحيثما تجد مصلحة لها في ذلك، مقابل دولٍ وشعوبٍ عليها الانصياع على الدوام لمجموعة القوانين التي لا تطبَّق إلا عليها.
الآن، بعد أن فاق الانحياز الغربي للرواية الإسرائيلية حدّ التصور، وبعد أن خرق السلوك السياسي والإعلامي للغرب المعقول والمنطق، وبعد هذا الصمت العربي الأشبه بصمت الأموات، شعوبًا مغلوبًا على أمرها، ودولًا تخلّت أغلبيّة أنظمة الحكم فيها عن مسؤولياتها السياسية والوطنية والقومية والدينية، قبل الأخلاقية والإنسانية، وبعد أن عجزت مؤسّسات الأمم المتحدة المختلفة والنظام الدولي المعتلّ عن وقف المذبحة الجماعية، صار لا بدّ من قراءة المشهد ضمن مقاربةٍ مختلفةٍ تأخذ بالاعتبار الواجبات المفروضة على الشعوب العربية والإسلامية، وعلى الجاليات المقيمة منها في دول الغرب الديمقراطي “المتحضّر”. وتنطلق هذه المقاربة من ضرورة مخاطبة الرأي العام العالمي الذي هو ذاته من أوقف الحرب في فيتنام، ومن عرّى الحرب على العراق، وهو الذي سيكون بمقدوره الضغط لوقف المقتلة الجارية في غزّة.
يمكن في الدول الديمقراطية الاحتماء بالقانون، وبالتالي يمكن للمحامين والمحاميات وللمتخصّصين من المنظمات والجمعيات وأبناء الجاليات المناصرة للشعب الفلسطيني أن تبيّن للناس أساليب العمل التي لا تخرُق القانون، ويمكنها -بل من واجبها- أن تبدأ بحملات مناصرة ممنهجة عبر وسائل التواصل، لتعريف الناس بممكنات التحرّك. سيكون من الصعوبة بمكان حشد وسائل الإعلام التقليدية، وحتى وسائل التواصل الاجتماعي المنتمية كلها إلى المنظومة الغربية خلف هذه القضيّة المحقّة، لكن لا مانع من المحاولة بكل تأكيد، فثمّة فرقٌ واضحٌ بين تغطية المحطات الإعلامية والصحف الشهيرة الأميركية وتغطية تلك الأوروبية، كذلك هناك فرق بين منصّة X (تويتر سابقاً) وغيره من وسائل التواصل والمنصّات الرقمية الأخرى. يمكن أيضًا طلب ترخيص المسيرات والوقفات الصامتة تحت عنوان “لا للحرب”، وهنا سيكون لنشطاء السلام والبيئة دورٌ كبيرٌ وفاعلٌ في هذا الأمر.
الملاحظ والجدير بالذكر، أنّ ثمّة تعاطفاً شعبياً مع القضية الفلسطينية، ويزداد في صفوف التيارات اليسارية، كما في صفوف الطلبة والشباب، فهؤلاء أكثر تقبلًا لأفكار التحرّر والاستقلال وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها. وفي مقارنة بين التعاطف الشعبي مع القضية الفلسطينية عمومًا، ومع القضية السورية، نجد البون شاسعًا، ما يعود إلى عدّة أسباب، لعلّ أهمها العمر الزمني الأطول لمعاناة الشعب الفلسطيني، والوجود النشط للجالية الفلسطينية والأدوات المساعدة أكثر من خلال شبكة العلاقات العامة التي بُنيَت خلال العقود المنصرمة. عندما يهمّ الفلسطينيون لتسيير مظاهرة مناصرة لقضيتهم، فإنّ الأعداد تكون بالآلاف في الشوارع، وتجد من الجاليات العربية والإسلامية الكثيرين، كذلك تجد نشطاء السلام والبيئة واليساريين وفئات الفنانين والمثقفين. لم يأتِ هذا كلّه من فراغ، فقد بُني عبر سنوات طوال من الكفاح والتواصل وعبر الاندماج في نظام الحياة العامّة في المجتمعات الغربية، وهذه كلها لم تتوافر بعد للسوريين بسبب حداثة مأساتهم نوعاً ما، وبسبب التشويش الرهيب الذي استطاع النظام وحلفاؤه إشاعته عن ثورتهم، وبسبب مساعدة قوى ظلامية نُسبت إلى الثورة في هذا النهج.
الفرصة متاحة للفلسطينيين لقلب موازين القوى في شوارع الدول الغربية، ومع الصمود الذي يبديه أهل غزّة ومقاومتهم الصلبة لكل محاولات التهجير والتركيع، ومع طول أمد الحرب وارتفاع كلفتها السياسية، ومع اكتشاف أساليب التضليل والتدليس الإعلامي الغربي، سيتغيّر المزاج العام الغربي والعالمي. لن تتوسّع الحرب إقليميًا، فلا إيران لها مصلحة في توسعتها، ولا الولايات المتحدة أيضًا، فالأولى تخشى على برنامجها النووي الذي بات قيد الإنجاز، والثانية لا تريد أن تتورّط في حرب إقليمية كبرى قبل أشهرٍ معدودات من الاستحقاق الانتخابي الرئاسي. الساحة مفتوحة لنشاط (وتفاعل) القوى المدنية والسياسية ومجموعات المثقفين والفنانين وأصحاب المحتوى الهادف على وسائل التواصل الاجتماعي، من أجل تغيير موازين القوى، يبقى علينا أن نعرف كيف يمكن القيام بذلك.
————————
البلطجتان الأسدية والإسرائيلية والتراجيديات الشعبية المستعصية/ عبير نصر
بادئ ذي بدء، وعبر مسارد وصفية وتحليلية بعيدة عن يوتوبيا المدن ذات الفضائل المجتمعية المتخيّلة، يقدّم لنا تناولُ الظاهرة الفريدة والمركّبة لحكم الأسد لمحةً عامة عن احتلالٍ من نوع خاص، منعَ كلَّ تعبيرٍ عن الخصوصيات الإثنية واللغوية والثقافية في الفضاء العام، فخلّف تشابكاً عبثياً بين الجغرافيا والتاريخ والأيديولوجيا، لتبدأ صيرورة “الهوية الوطنية الممزّقة” بالتبلور كحصيلةٍ أولية لمفرزات هذا النظام الفاشي، الذي لم يقتصر تأثيره على السوريين، بل امتدت سمومه إلى الدول المجاورة. وعليه، نستطيع الجزم، باطمئنان، أنه مهما بلغت المعطيات من العمق فإنها لا تحيط بحجم مكر هذا النظام. أما استراتيجيته الاندماجية على مستوى الخطاب الرسمي العربي فتظهر مدى استغلاله للقضية الفلسطينية، على وجه الخصوص، غير آبه بالمقتضى السياسي والوطني والأخلاقي، ثم ارتباط ذلك بسؤالٍ مركزي آخر بشأن السيناريوهات المطروحة للمقارنة العادلة مع بنية الاحتلال الإسرائيلي، وشكل الأدوات المتبعة. ويمكن الاستدلال بمؤشّراتٍ واقعية لا تُعدّ ولا تُحصى، لإثبات أنّ ممانعة النظام السوري “للعدوّ الجار” نفسه حمّالة أوجه، تحوّلت مراراً وتكراراً إلى ساحةٍ مكشوفة للتوحش، ولعلّ النموذج الصارخ لهذا الانكشاف الفضائحي يتجسّد في اتخاذ نظام الأسد من القضية الفلسطينية ركناً استراتيجياً في البروباغندا الإعلامية، بغية احتكارها سياسياً وعسكرياً وعقائدياً، واستخدامها، وفق اعتبارات براغماتية، في حسابات الداخل وبازارات الخارج الإقليمية، بدلالة أنّ النظام السوري حافظ على قانون الطوارئ أكثر من 40 سنة بحجّة وجود صراع مع إسرائيل. بالتالي، مثلت إدارة هذا النظام الملفّ الفلسطيني خليطاً من التلاعب والقمع، ومن أبرز محطاته تدخل الجيش السوري في لبنان ومشاركته في مجزرة تلّ الزعتر المروّعة عام 1976، إضافة إلى حرب المخيّمات في النصف الثاني لثمانينيات القرن الماضي. ولا شكّ أن هذا كله مرتبط بنوع من الإخراج السياسي الدرامي للطقوس الأسدية الكرنفالية: دم وعنف، أوهام بطولة، نرجسية مريضة مليئة بالعناد والتبجّح، المزاوجة بين ملهاة الخطب العصماء والانتهاء بالتراجيديات الشعبية المستعصية.
وليس ثمّة عوائق موضوعية عند الإقرار بأنّ بين إسرائيل ونظام الأسد سيلا جارفا من الدلالات المرعبة، فمثلما اعتبر الجيشُ الإسرائيلي الفلسطينيين أهدافاً يتفنّن قنّاصوه بإصابتها داخل غزّة المحاصرة، فإنّ نظام الأسد، بدوره، يتصرّف مع السوريين بصفتهم أهدافاً بديلة. وفي الحقيقة، لم تتوقف فداحة الأمر هنا، إذ لم يتوانَ هذا النظام عن ضرب الشرعية الفلسطينية تحت شعارات الحفاظ على الثوابت التاريخية، ومثّلَ تغييب الشعب الفلسطيني من الجغرافيا والتاريخ أحد أهم المرتكزات الأساسية التي قام عليها المشروع الصهيوني، وشاركه فيها نظام الأسد، وليس أدلّ على ذلك من امتناع سورية عن التصويت، وكانت عضوا غير دائم في مجلس الأمن، على قرار المجلس 1397، في مارس/ آذار 2002، الخاص بحقّ الفلسطينيين في إقامة دولة لهم، على الرغم من أنه أول قرار من نوعه يصدر عن هذا المجلس. لا شيء يدعو إلى الاستغراب، فجوهر هذا النظام ينطوي على مخادعة تغطي على نزعة استمراء للاستعصاء الراهن، مع عدم وجود بديلٍ ناجز، بينما يدرك، ضمنياً، أنّ الحل لا يكمن في التشبّث بالواقع السياسي المتكلّس الذي تعيشه الساحة الفلسطينية، لذا تحوّل تدريجياً من خطاب حكم المستبدّ “المستنير” إلى خطاب المعاهدات والشعارات والوعود الواهية المتخمة بالديماغوجيا والذرائعية في آن واحد، والنيّة المبيّتة تطويق السوريين في كانتونات طائفية محشورة ومفكّكة، وتحويل البلاد إلى أكثر من حكم مزرعة شخصية وأقل من دولة ذات سيادة.
بطبيعة الحال، لم يُخْفِ نظام الأسد رغبته الجامحة في استحضار المستلزمات العقائدية لمشروعه السلطوي الداخلي، كترويج مصطلح الصمود والتصدّي أنه البديل عن النصر، مستغلاً الحيز العاطفي الثابت الذي شغله الصراع الفلسطيني من ثقافة الجمهور العربي ووعيه. لذا يزداد شعور الفلسطيني بالسوري، والعكس صحيح، في موازاة السيناريو المؤلم والمكرّر الذي يُمارس على قطاع غزّة المحاصر اليوم، بينما لم تكن الثورة السورية سوى قيامة شعبٍ بأكمله ضد سياسة حكم الرجل الواحد الذي ادّعى زوراً أنّ قضية فلسطين بوصلته، ففُضحت سياسته في تسويقها بنكهةٍ شعبوية خاصة لتنظيم شؤون ملكه، ورعاية مصالح عصبيته. من جانب آخر، وفي خصوص هذه البدهية، تكمن المشكلة في الانفصام عن الواقع، إذ لا يمكن أن يسمح النظام الأسدي بمقاتلة إسرائيل، فهذا يتناقض مع واقعه مستبدّا يحتكر السلطة في بلده، على يقينٍ بأنّ السياسة حقلُ المكائد والمناورات المشروعة، ما يعني أنّ مرحلة السماح بالكفاح المسلّح الفلسطيني كانت لتوظيفاتٍ لا علاقة لها بالصراع ضد إسرائيل على الإطلاق.
ولنكن أكثر شفافية ونعترف أنّ المنطقة العربية تعيش حالياً مخاضاتٍ هائلة، وما ينبغي أن يدركه الشعبان، السوري والفلسطيني، أنه لا توجد واقعية أكثر من الواقع ذاته، هم الذين يعيشون في إطار الدولة القهرية العنصرية، على اعتبار أنّ نظام الأسد ليس مجرّد حكم استبدادي تقليدي، بل هو واقع استعماري إحلالي مركَّب، يعيش وفق منطق “الأسد أو نحرق البلد”، بحكم أنّ أساليبه الاستيطانية عامة جداً وفضفاضة، ولإجرامه مقوّمات واضحة المعالم، ومستدامة، ويغذّي بعضها بعضا، وليس آخرها قصف مدينة إدلب بشكل خطير وممنهج مخلفاً عشرات القتلى والجرحى، فارضاً حالة من عدم الاستقرار وتهجيراً جديداً يزيد مأساة متأصّلة لأكثر من 12 عاماً. هذا يأخذنا بالضرورة إلى مشهدٍ موازٍ ومشابه، إلى غزّة، حيث تتواصل الاشتباكات والقصف المتبادل بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية ضمن عملية طوفان الأقصى، حيث بدأ مئات آلاف من الأطفال وعائلاتهم بالفرار ضمن مشاهد جحيمية تستبدل صورهم المفجعة الراهنة بمستقبلٍ فاجرٍ ورمزيٍّ سيثبّتهم غرباء. وبالفعل، بدأت بوادر هذا النفي والتغييب عندما أكّدت وزارة الصحة في غزّة أنّ أكثر من 45 عائلة مُحيت بالكامل من السجل المدني.
بالتساوق مع ما تقدّم، يبقى استمرارُ نظام الأسد محلَّ تساؤلٍ مُقلق، وأكثر من أي وقت مضى، خصوصا وأنه يستمد شرعيته من زعاق الممانعة العبثي، والمتاجرة بشعار “مقاومة الإرهاب” ليعزف على الوتر الحسّاس للدول الغربية، فمنظومة السيطرة الاحتلالية، بالمطلق، تسخّر ما يُفيدها من القانون الدولي لهذه الغاية. لذا نرى القواسم المشتركة واضحة بين عائلة الأسد ومن يسمّون أنفسهم “شعب الله المختار”، من خلال تسخير زمانهم ومكانهم لتحقيق “الإرادة الإلهية” المتجسّدة في السيادة والإبادة، متغاضين عن الإسقاطات البشرية لهذا الفكر الاستعلائي، ثمناً لدورهما الوظيفي “بلطجيَيْن” شرسين في إقليم مأزوم، معتمِدَين على سيناريو ابتكار الأزمات، كونه لا يؤدّي إلى قيام دولة، ولا إلى إيقاف الاستيطان.
وعليه، يجب ألا يغيب عن الفلسطينيين والسوريين معاً أنّ عدوّهما واحد، متّفق عليه، وهذا يشمل رؤيتهم إلى إسرائيل ونظام الأسد، وطرق تعاملهم معهما، إذ أضحت هذه الحقيقة بمثابة يقينياتٍ لا تحتاج أن تثبت صدقيتها في مسيرة الشعبين الكفاحية. ولهذا رفع الفلسطينيون، أخيرا، لافتات تدغدغ قلوبَ شركائهم في القهر، مكتوبا عليها “من فلسطين… هنا سورية”. نافل القول إنّ ظاهرة الاستيطان الأسدي، كما الإسرائيلي، لا تتخذ أبعاداً أحادية جامدة، فهي عملية مصادرة إدارية واقتصادية واجتماعية معقّدة، ضمن تصنيفاتٍ ديمغرافية وجغرافية قائمة على تمييز (قومي – طائفي) مُقونن وخفي، بهدفِ كسْبِ أكبر مساحةٍ ممكنةٍ من فائض الأرض العامرة بقطعان العبيد.
العربي الجديد
————————-
جدار عازلٌ جديدٌ لإسرائيل/ فاطمة ياسين
منذ إعلان الدولة عام 1948، حرصت إسرائيل على عزل نفسها عما يحيط بها، وتبدو الفكرة امتدادا لمقولات الشعب المختار المميّز. وفي حرب 1967، سيطرت إسرائيل على مزيد من الأرض، لتشكيل ستار واقٍ لها عن جيرانها من الدول العربية. ثم كرّرت الفكرة ذاتها على الحدود مع سورية، عندما أصدرت قرارا بضم الجولان السوري الذي شكّل لها جدارا جغرافيا عازلا تشرف به على السهول السورية، ويعطيها ميزة إنذار مبكر طبيعي تختفي خلفه. تكرّرت الحالة في جنوب لبنان، حين أوجدت كيانا شبه عسكري على الأرض اللبنانية في الجنوب. وقد شكل هذا الجيب الجغرافي حاجزا غطّى المنطقة الفاصلة بين “الحدود الإسرائيلية” والحدود اللبنانية. ولم يكن وضع ما سمّي غلاف غزّة غير تكرار للحالة الجغرافية الأمنية نفسها، بفارق أن الغلاف يقع داخل إسرائيل التي تسمى أراضي 48. آمنت العقلية العسكرية والسياسية الإسرائيلية بفلسفة الفصل، وحاولت أن تحتفظ بعرضٍ كاف يحميها من المفاجأة. ويمكن اعتبار الجدار العازل الذي بني حول الضفة الغربية جزءا من هذا التفكير. ولعدم توفر الأراضي الكافية ولتداخل المستوطنات الإسرائيلية في الضفة، اكتفت إسرائيل ببناء جدار خرساني عالٍ يؤمّن لها عزْلا من نوع ما. كانت إسرائيل تلجأ إلى تفريغ المنطقة من السكّان قبل أن تزرع كياناتٍ عسكريةً موالية لها أو تقوم بإدارتها عسكريا بنفسها وتستخدمها في دور منطقة عزلٍ أمنيٍ وإنذار مبكّر.
من الممكن أن تتعرّض غزّة حاليا للحالة نفسها، وتطبق إسرائيل نظريتها في العزل على القطاع، فقد تقلّص عدد سكان محافظتي غزة وشمال غزّة بشكل كبير، بعد عملية التهجير التي أمرت بها القوات الإسرائيلية، وبقي ما يقارب من نصف سكان غزّة في منازلهم نحو الوسط والجنوب، ورافق موجات الهجرة، عملية تدمير كبرى طاولت ربع الوحدات السكنية القائمة في المحافظتين المستهدفتين. كان عدد السكان في محافظة غزّة قد بلغ عشية بداية القصف الإسرائيلي 650 ألف نسمة، ما يجعلها أكبر مدينة يسكنها فلسطينيون في فلسطين والعالم، فيما بلغ عدد سكّان محافظة شمال غزة حوالي 300 ألف، غادر الجميع المنطقة تاركين وراءهم خرائب غير صالحة للحياة، فيما يبدو أنه تمهيدٌ ذو طبيعة عسكرية لإتاحة الفرصة للجيش الإسرائيلي أن يدخل غزّة من هذه المنطقة بالذات، بعد إفراغها، لتوفير دخولٍ آمنٍ للوحدات العسكرية، حيث ستُواجه منطقة خالية من المقاومة، وقد يكون هذا الدخول وشيكا، فقد خاطب وزير الدفاع الإسرائيلي، غالانت، جنوده وحثهم على الاستعداد لرؤية القطاع من الداخل، وحذرهم بأن الحرب قد تكون طويلة، ما يعني أن حالة عسكرية ستسود مساحاتٍ واسعة من القطاع، وستبقى هذه الحالة سائدة مدة طويلة، وكأن الوزير الإسرائيلي يمهد إعلامياً لدخول جيشه إلى شمال غزّة ليبقى هناك فترة طويلة.
لا يتجاوز عرض قطاع غزّة من ناحية الشمال عشرة كيلومترات، وهي مسافة يمكن أن تطاولها مقذوفات مدفعية من عيار مائة ملمتر، وتستطيع إسرائيل أن تسيطر من ناحيتي الشمال والشرق، وهي تسيطر فعليا على المنطقة من ناحية البحر، ما يعطيها إمكانية الإحاطة بمنطقة شمالي القطاع من ثلاث نواحٍ، ولا تبقى إلا واحدة، وهي الجهة التي طلبت إسرائيل من سكّان الشمال التوجّه إليها. ويحمل التركيز على منطقة الشمال طابعا انتقاميا في الوقت نفسه، فقد طاولت المستوطنات المحاذية قطاع غزّة من الشمال: زيكيم، سديروت، ناحل عوز، وكيسوفيم، ونتيفوت، هجمات حركة حماس مباشرة بشكل مؤثر، ويرشّح ذلك كله محافظتي غزّة وشمالها لتكونا منطقة عازلة تطبق عليها إسرائيل نظريتها في الاحتماء. ويمكن أن تكون خطّة المنطقة العازلة بديلة لخطّة الاجتياح الكامل التي لا تلقى شعبية دولية واسعة، كما تعطي السيطرة على شمالي غزّة إسرائيل النصر الذي تبحث عنه إعلاميا، فالطبقة السياسية الحاكمة الحالية تنتظرها ساعات عصيبة، بعد أن ظهرت منهارة تحت ضربة “حماس” المفاجئة.
—————————
الحرب على غزّة ومسلسل التطبيع/ بشير البكر
لن تكون الحرب الإسرائيلية على غزّة من دون ثمن باهظ، وتُخبرنا وقائعها كل يوم أن الفاتورة الكبيرة سيدفعها الشعب الفلسطيني، من الأرواح والبنية التحتية، ولكنها لن تكون بردا وسلاما على إسرائيل، وإنْ لم تكن أقسى الحروب التي خاضتها مع العرب، فهي لن تكون أقلّ ضررا من سابقاتها، في الضحايا والمعنويات والبنى التحتية والخسائر السياسية والاقتصادية والأخلاقية. وهي لن تنتصر من خلال حشد جيشٍِ جرّار لاجتياح غزّة، ولا عن طريق تأييد الولايات المتحدة، وبعض دول أوروبا لها بلا حدود، لأن نتائج هذه الحرب، بقدر ما تبدو محصّنة عسكريا، ستكون كارثية عليها على المديين القريب والمتوسط. وما لا يقبل الجدل أن الفرصة التي جاءت على طبقٍ من ذهب لاجتياح العالم العربي من خلال عملية التطبيع، سوف تتبخّر، وتذهب مع رياح الحرب المجنونة التي ستعيد إسرائيل إلى حجمها السابق، دولة استيطان، ومشروعا استعماريا، وآخر نظام أبارتهايد في العالم.
عملت واشنطن على استثمار حالة الضعف والتشرذم في العالم العربي كي تفرض إسرائيل على المنطقة من خلال اتفاقات التطبيع، وتجاوز عملية السلام التي هي، في جوهرها، الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني في دولة مستقلة على حدود الرابع من يونيو/ حزيران 1967. ورغم أن عملية التطبيع حقّقت اختراقا، فإنها بقيت تنتظر الإنجاز الكبير، اتفاق تطبيع بين إسرائيل والسعودية، وهو ما عملت عليه إدارة الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن وراهنت على إنجازه قبل الانتخابات الأميركية في نهاية العام المقبل، وسبق لولي العهد السعودي محمد بن سلمان أن أعلن، قبل أسابيع، في حديث إلى قناة فوكس نيوز الأميركية، أن السعودية اقتربت كثيرا من إقامة علاقات مع اسرائيل، وأن القضية الفلسطينية من بين نقاط الاتفاق الذي يجري التفاوض بشأنه.
أول نتيجة للحرب على غزّة ذات أثر كبير، إعلان مصدر مقرّب من الحكومة السعودية تعليق محادثات التطبيع، بعدما بدأت الرياض تستضيف، في الآونة الأخيرة، وفودا إسرائيلية رسمية تشارك في المؤتمرات الدولية. ومن شأن هذا التطوّر أن يغلق الباب أمام الفرصة التي انتظرتها تل أبيب، وربما ينسفها من جذورها، بالنظر إلى أن الخطاب الرسمي السعودي يرى في ما حصل من عدوان إسرائيلي على غزّة يؤكّد المخاوف السعودية أن الوقت لم ينضُج للتطبيع مع إسرائيل، وأن كل المؤشّرات كانت تؤكّد أن الوضع سينفجر، في ظل وجود حكومةٍ من المستوطنين، مشروعها الوحيد مصادرة آخر ما تبقّى من أراضي فلسطين، وتهجير الشعب الفلسطيني، وتهويد الأماكن المقدّسة، وخصوصا المسجد الأقصى. وعلى الأرجح، سيكون للموقف السعودي تأثيره على مواقف بقية الدول العربية التي اختارت طريق التطبيع بدرجاتٍ مختلفة، وسينعكس على الاندفاعة التي شهدتها ما تسمّى “اتفاقات أبراهام”، حتى لو كانت نتيجة الحرب على غزّة محسومة لصالح إسرائيل، على المستوى العسكري.
المسألة الأخرى التي لا تقل أهمية من الناحية الاستراتيجية استثمار إيران في هذا الحدث، وسواء شاركت في الحرب مباشرة، أو من خلال حزب الله وأطراف أخرى، أم لم تشارك، فإنها باتت طرفا في معادلة الصراع مع إسرائيل أكثر مما سبق، والذين كانوا يعملون على إبعادها وإضعافها، فرشوا أمامها السجّاد الأحمر، ولن تتمكّن تل أبيب وواشنطن من إخراجها من هذه المنطقة، طالما أنها ترفع لواء فلسطين. وفي جميع الأحوال، لن يكون الدخول الإيراني على الخط، من دون مقابل تتحمّل مسؤوليته الولايات المتحدة وأوروبا، كونهما لم يضعا ثقلهما من أجل حلّ للقضية الفلسطينية، وتجنيب المنطقة ما تعانيه من انهيارات وحروب أهلية وفوضى، سببها رفض إسرائيل التسوية السلمية، وتعطيل مؤسّسات الامم المتحدة، وتجميد العمل بالقانون الإنساني الدولي.
————————-
يستطيع العرب التأثير في حفلة الجنون الإسرائيلية/ غازي دحمان
استفادت إسرائيل من وضع العالم تحت وقْع صدمة، صنعتها دبلوماسيّتها وإعلامها باقتدار، وجعلت الجزء الأكبر من الرأي العام العالمي ضحية سردية عن موت أطفال واغتصاب نساء وأفعال خارج سياق المنطق الطبيعي، في غياب أي تأثير إعلامي أو دبلوماسي عربي يقدم صورة موضوعية لحقيقة الحدث.
اعتمدت استراتيجية إسرائيل على اقتطاع الحدث من سياقه العام، فكأن المشكلة بدأت يوم هجوم كتائب عز الدين القسام على مستوطنات غلاف غزّة ومعسكراته، أو كأن ما حصل في ذلك اليوم كانت نتيجة صيرورة طويلة من الاعتداء على إسرائيل، وليس سوى نسخة مكبّرة عن أحداث ظلت تحصل على مدى عقود بحق إسرائيل ويهودها.
واضح تماما أن الانسياق الغربي وراء الرواية الإسرائيلية ناتجٌ عن الإرباك الذي أحدثته الحملة الإعلامية التي قامت بها إسرائيل، بمساعدة مراكز الإعلام الكبرى فيي الغرب، التي تسيطر بدرجة كبيرة على الرأي العام الغربي، وتوجيهه باتجاهات معينة، مستفيدة من الضرب على أوتار مخاوفه من التطرّف والإرهاب، ومبرزة إسرائيل، التي كان شبابها لحظة الحدث في حلبة رقص كبيرة، بوصفها جزء من قيم الحضارة الغربية وثقافتها الفردية المحبة للحياة.
نتيجة ذلك، اعترفت مراكز القرار الغربية لإسرائيل في الحقّ بالردّ الذي ترتئيه وتقرّره، فكانت الرسالة الغربية لإسرائيل، قرّروا ونحن داعمون لكم. هذا ما أفصح عنه القرار الخماسي الصادر عن أميركا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا. وفي هذه الدول تأثيرات يهودية نافذة على مستوى الإعلام، وعلى مستوى النخب السياسية والثقافية.
وجرّاء ذلك أيضا، يبدو العالم يسير بخطى ثابتة نحو صنع مذبحة في غزّة وتقبّلها، أياً تكن طريقة إخراجها، لذا لم نر أي محاولة دولية للتوسّط أو طرح مبادراتٍ تهدف الى تهدئة الأوضاع. على العكس، ثمّة مسايرة واضحة للإسرائيليين في مشاريعهم التي تبدو خارج المنطق بأشواط، من نوع تهجير سكان غزّة الى سيناء ليتسنّى لإسرائيل القضاء على “حماس”، من دون أدنى اعتراض من دول غربية كبرى، حتى أن واشنطن، في جولة وزير خارجيتها، بلينكن، في الشرق الأوسط، بدأت التحرّك لتسهيل هذا المسار من خلال اقناعها العواصم العربية به، ربما بوصفه خيارا لا بديل عنه للخروج مما تعتبره واشنطن مأزقا وقعت به المنطقة.
إزاء ذلك، لا يبدو أن ثمّة موقفا عربيا تبلور أو في طريقه إلى التبلور، ثمّة تصريحات هنا وهناك تقتصر على رفض الانخراط في لعبة التهجير التي تخطّط لها إسرائيل، وبالكثير تدعو إلى ضبط النفس ومن الجانبين، الإسرائيلي والفلسطيني، وهو ما ذهب إليه بيان وزراء الخارجية العرب الذي أظهر الجانب العربي كأنه وسيط وليس طرفا معنيا بالحدث، الذي تشكّل الجزء الأكبر من مشهديّته، إن لم نقل على مدار عقود، على الأقل في الفترة التي وصلت فيها أعتى حكومة يمينية إلى السلطة في إسرائيل، ومارست أكثر الأفعال عنصرية واستعلاء، من دون مراعاة، ليس للقوانين الدولية والالتزامات التي تفرضها المعاهدات الدولية على الطرف المحتل، بل لمسار التطبيع الذي بدأته عدة دول عربية مع إسرائيل.
لا يختلف هذا الحياد الذي يتسم به الموقف العربي من تطوّرات غزّة الخطيرة، وإن تلحّ القاهرة وعمّان على أن التهجير خط أحمر، كثيرا عن الموقف الغربي المنساق خلف إسرائيل، إذ يشكل في مضمونه رسالة إلى إسرائيل وداعيميها فحواها أننا لا نملك أكثر من الدعوة إلى التهدئة، ولا ننوي القيام بأكثر من ذلك، والأمر متروك لتقديراتكم وما تروْنه وتقرّرونه. وربما يذهب بعضهم الى البوح للأميركيين إن لدينا ما يكفينا من مشكلات وأزمات، ونرجو أن تحلّوا الأزمة بعيدا عنّا.
هل هذا هو بالفعل مقدار فعالية العرب، أليس في أيديهم أوراق قوّة يمكن من خلالها إحداث تأثير ملحوظ في السياق الذي بدأت إسرائيل تطبيقه، تدمير غزّة وتهجير سكانها وقتل آلاف من أهلها؟، وهل العقل السياسي العربي لم ير بعد صورة الكارثة القادمة على غزّة وتداعياتها الخطيرة على المدى العربي، وخصوصا دول الجوار، أو ما كانت تسمّى في الأدبيات السياسية والعسكرية دول الطوق؟
تملك الأطراف العربية أوراقا عديدة من القوّة التي يمكن التلويح بها في مواجهة إسرائيل وداعميها، وبالإضافة إلى النفط والغاز، لديها المعابر والممرّات والأجواء، فضلا عن الاستثمارات الهائلة في الغرب، ليس بالضرورة استخدامها خدمة ل”حماس”، بل من أجل تغيير المعادلة القاتلة التي فرضتها إسرائيل على العالم عبر تهرّبها من تنفيذ اتفاقيات أوسلو، وإصرارها على عدم الاعتراف بحلّ الدولتين، فهذا النوع من المعادلات يحتاج قوة وازنة لتغييره، وهذه فرصة للعرب بأن يفعّلوا أوراق قوتهم في مواجهة تصرّفات إسرائيل التي سترتدّ خطرا على العرب أكثر من غيرهم، فمن يعتقد أن تهجير سكان غزّة والتقتيل فيهم لن يشكّل بيئة لولادة ديناميكيات جديدة من عدم الاستقرار والفوضى، لا يفهم بتاريخ الصراعات وصيرورتها في المنطقة.
هذا الموقف العربي يجب أن يتبدّل، لمصلحة الشعوب والأنظمة والاستقرار في المنطقة، لا تدعوا مجانين إسرائيل، الذين تحرّكهم الأساطير والأحقاد، يشكلون المنطقة على هواهم، فهؤلاء لن يصنعوا إلا الخراب والدمار.
————————-
القضية الفلسطينية وقضايا المنطقة لا تعالجها المسكّنات/ عبد الباسط سيدا
إثر العملية النوعية غير المسبوقة، طوفان الأقصى، التي نفذتها الفصائل المسلحة التابعة لحركة حماس في منطقة غلاف غزّة، إلى جانب رشقات القصف الصاروخي المكثفة التي طاولت عدة مواقع ومستوطنات إسرائيلية، ومقتل أكثر من ألف إسرائيلي ومن حاملي جنسيات أخرى من المدنيين (بينهم نساء وأطفال)، والعسكريين والمسلحين، إلى جانب آلاف المصابين؛ وما أعقبها من ردود فعل إسرائيلية عنيفة، تمثّلت في قصفٍ متواصلٍ لمدينة غزة بالطيران والمدفعية، أوقع مئات الضحايا من المدنيين، بينهم عدد كبير من النساء والأطفال، ومطالبة سكّان شمال غزّة بالتوجه نحو الجنوب، تمهيداً لهجوم إسرائيليٍّ برّي، وتفاعلات ذلك كله على الصعيد الشعبي الفلسطيني والعربي، جاء ارتفاع الأصوات الشعبوية التي حاول أصحابها، خصوصا من أنصار محور “المقاومة والممانعة” ركوب الموجة في محاولة لاستغلال العملية، والاستثمار في معاناة الشعب الفلسطيني المستمرّة منذ نحو 75 عاماً، وهي المعاناة التي لم تُعالج المعالجة المطلوبة، وإنما كانت القضية الفسطينية دائما ميداناً للمزايدات والشعارات من الأنظمة العسكرية الجمهورية العربية، التي وجدت في القضية المعنية نعمة لا نقمة، كما حاولت أن تدّعي باستمرار.
كما أهملت الإدارات الأميركية المتعاقبة، الجمهورية منها والديمقراطية، معالجة القضية الفلسطينية معالجةً عادلة مقبولة مقنعة للجانبين الفلسطيني والإسرائيلي؛ وظلت تلك الإدارات تعتمد مع هذه القضية المعالجة العرضية، عبر إعطاء الوعود المناسباتية التسويقية التي لم تتحقق، وإنما ظلت في عداد التطمينات الهلامية. هذا ما كان خلال المباحثات التي أسفرت عن اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل في 1978، وما ظهر جلياً من خلال كيفية التعامل مع مبادرة الأمير- الملك فهد عام 1981، والأمر نفسُه بالنسبة للوعود التي تضمّنتها اتفاقية وادي عربة بين الأردن وإسرائيل 1994. واستمر أسلوب التعامل ذاته مع الاتفاقية التي وقّع عليها في واشنطن عام 1993 كل من ياسر عرفات وإسحق رابين والرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون (اتفاقية أوسلو)، وهي التي كانت حصيلة مباحثات أوسلو السرّية بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل التي كانت قد بدأت بالتزامن مع مؤتمر مدريد في خريف عام 1991 الذي اعتبر في حينه بمثابة جائزة ترضية للدول العربية التي شاركت في حرب إخراج قوات صدّام حسين من الكويت في أواخر الشهر الثاني من عام 1991. ومن ثم كان التعامل غير الجدّي على الصعيد الدولي، سيما من الولايات المتحدة، مع مبادرة الأمير عبدالله التي تبنّتها جامعة الدول العربية في قمّة بيروت عام 2002، وهي المعروفة باسم الأرض مقابل السلام، ورفضتها إسرائيل. واستمر أسلوب التعامل ذاته في عهد الرئيس الأميركي الأسبق أوباما الذي كان قد وعد بإيجاد حلٍّ مقبولٍ للقضية المعنية، ولكن وعوده ظلت مجرّد حبر على ورق. وجاء ترامب ليعبّر عن انحيازه التام لصالح إسرائيل، ويقطع الطريق نهائيا على فكرة حل الدولتين عبر الاعتراف بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل، والصمت على سياسة بناء المستوطنات وتصرّفات المستوطنين، ومن ثم الاعتراف بضم إسرائيل الجولان، ويدفع باتجاه التطبيع الثنائي بين إسرائيل والدول العربية، وأدّى ذلك كله إلى هيمنة الفكر اليميني المتشدّد داخل المجتمع الإسرائيلي على حساب الأصوات المعتدلة التي كانت تُطالب بإنصاف الفلسطينيين، والتوصل معهم إلى حلّ واقعي قابل للحياة والاستمرار.
ومع استمرار اعتداءات المستوطنين على الفلسطينيين، والاستيلاء على ممتلكاتهم، والعبث بالمقدّسات الإسلامية والمسيحية، ارتفعت وتيرة الاحتقانات، وبات الوضع قابلا للانفجار في أي لحظة، خصوصا في مناخات وجود قوى إقليمية ودولية حاولت، وتحاول، استغلال الموقف لصالح حسابات وملفّات أخرى تخصّها هي بالدرجة الأولى.
واللافت الذي يستوقف أن عملية طوفان الأقصى أتت في أجواء استعدادات كانت قد قطعت شوطاً كبيرا على طريق التطبيع بين السعودية وإسرائيل، مقابل شروط طالبت بها السعودية بضرورة تحقيقها حفاظاً على حقوق الفلسطنيين، وكان من شأن هذه الخطوة، في حال تحقّقها وفق الشروط المطلوبة، أن تسحب ملفّ القضية الفلسطينية من متاجرة نظام ولي الفقيه في إيران الشعبوية بها أكثر من 40 عاماً، فالسعودية بما تحظى من أهمية رمزية استثنانية في العالم العربي والاسلامي، وبما تمتلكه من موارد مالية ضخمة، بالإضافة إلى قدرتها على التأثير في مختلف الأطراف، خصوصا في الداخل الفلسطيني، يمكنها أن تعيد التوازن إلى المعادلات المختلّة الخاصة بالقضية الفلسطينية، سواء من جهة إمكانية تحقيق المصالحة الوطنية الفلسطينية الداخلية، أو على صعيد إظهار موقف عربي داعم للقضية المعنيّة من خلال إطار مجلس التعاون الخليجي التي يعدّ التكتل العربي الأكثر انسجاما، وقدرة على التحرّك إقليميا ودوليا لحشد التأييد للقضية الفلسطينية. فقد أدرك نظام ولي الفقيه أنه سيفقد ورقته الأقوى على صعيد دغدغة عواطف العرب والمسلمين، وشرعنة “محور المقاومة” الذي يستخدمه للتستّر على مثالبه وإخفاقاته، بل على جرائمه في الداخل الإيراني، إذا ما تمكّنت السعودية، بالتعاون مع الدول العربية المؤثرة، من انتزاع ورقة القضية الفلسطينية منه؛ وهذا فحواه أن مشروع النظام المعني الممتد من إيران وصولا إلى لبنان، عبر كل من العراق وسورية، ووصولاً إلى اليمن سيتعرّض لتقويضٍ مدوّ، وسيكشف النقاب عن الانتهاكات والجرائم التي ارتُكبت بحق شعوب تلك الدول التي تحوّلت السلطات المهيمنة عليها إلى مجرّد أدوات تتحرّك بناء على التوجيهات الإيرانية، تلتزم الخطوات المطلوبة منها. وبغية التغطية على دورها التابع المنقاد، تمارس تلك السلطات لعبةً تضليلية اعلامية، لا تصمُد أمام أي جهد عقلي نقدي قادر على الربط بين الشعارات والمواقف والممارسات، ويمتلك ذاكرة بحثية.
الأمر الآخر الذي يستوقف هو الموقف الروسي على لسان كل من الرئيس الروسي بوتين ووزير خارجتيه لافروف، وهو الموقف الإنتهازي الذي يدّعي الوقوف إلى جانب الفلسطينيين في مواجهة الدول الغربية الداعمة إسرائيل، هذا رغم معرفتنا أن روسيا التي دخلت بجيشها وقوتها الجوية الضارية إلى سورية لتقاتل إلى جانب سلطة بشّار الأسد ضد الشعب السوري، ما كان لها أن تدخل لولا الموافقة الإسرائيلية؛ وهي الموافقة التي اشترطت التنسيق بين الطرفين، الروسي والإسرائيلي، وتجاوزت العلاقة بين الجانبين حدود التنسيق، لتصل إلى حد المغازلة التي تمثلت في إقدام روسيا، وبموافقات ضمنية من بشّار الأسد ومحوره “المقاوم، على تقديم “هدايا” رمزية لاسرائيل، لتكون على ثقةٍ بأن الدخول الروسي إلى سورية لن يكون خطراً عليها، وإنما على النقيض من ذلك سيكون عامل طمأنة لها. فإيران وروسيا اللتان شاركتا فعليا في قتل السوريين وتهجيرهم وتدمير بلادهم تتباكيان اليوم على ما يحصل للفلسطينيين في قطاع غزّة، وهما اللتان التزمتا بكل الاتفاقيات والالتزامات التي كانت بينهما وبين إسرائيل، ولم يعد هذا من الأمور المخفية أو السرّية، بل تشي بها كل التصرفات والتحرّكات.
هناك ملاحظات كثيرة تسجل على المواقف الغربية من القضية الفلسطينية، وانحيازها إلى إسرائيل، خصوصا الموقف الأميركي؛ ولكن في المقابل هناك مواقف غربية كثيرة داعمة للحقوق الفلسطينية، وهناك جهود كبرى في تقديم المساعدات للشعب الفلسطيني. كما أن الدول الغربية لم تتخلّ بصورة رسمية عن مشروع الدولتين. وفي المقابل، لا يمكننا، في جميع الأحوال، الإشادة بالموقفين الإيراني والروسي تجاه القضية ذاتها، وهي الإشادة التي تروّجها بعض الدول والمؤسّسات العربية، في محاول للضغط، وفق اجتهادات المروّجين، على الغربيين، وعلى الأميركان خصوصا، في هذا المجال، فالنظام الإيراني الذي تمكّن من خلخلة مجتمعات ودول عربية عدّة، وتمكّن من التمدّد إلى المفاصل ليتحكّم بها، وهو يستعد اليوم للتدخل في مزيد من الدول، ليساهم في مزيد من التخريب، هذا النظام لم ولن يكون عامل دعم لقضية الشعب الفلسطيني إلا في سياق دعائي يستغل عدالة القضية الفلسطينية، ليتاجر بها، ويستخدمها أداة تجييشية تعبوية لصالح أجنداته الإقليمية، ويعتمد في ذلك على أذرعه المذهبية و”العلمانية”، بغضّ النظر عن انتماءاتها المجتمعية. والأمر ذاته بالنسبة إلى روسيا التي أسهمت 13 عاما في قتل السوريين بصورة غير مباشرة ومباشرة، وغطّت سلطة آل الأسد سياسيا، سيما عبر مجلس الأمن من خلال استخدام حقّ النقض لمنع صدور أي قرار أممي من شأنه إدانة السلطة المعنية.
بقي أن نقول: ليس الانفجار الحادث حاليا بين الفلسطينيين والإسرائيليين الأول ولن يكون الأخير، ما دامت المعاناة الفلسطينيّة مستمرّة؛ وهي معاناة ستمتد ما لم يتم القطع مع سياسة الاستخدام الوظيفي الديماغوجي للقضية المعنية من مختلف القوى، خصوصا من النظام الإيراني. كما أن المعالجات العرضية التي كانت قد أثبت عدم نجاعتها، من الواضح أنها لن تنجح مستقبلاً. المعالجة المطلوبة هي المعالجة السببية التي من شأنها وضع حلول واقعية مقبولة للمشكلات القائمة؛ وهذا لن يكون من دون تبلور معالم موقف عربي قومي تقودُه دول الخليج.
ولن يكون الموقف العربي المتماسك فاعلا في غياب الموقف الفلسطيني الموحّد. وبعد توفر هذين الشرطين الحيويين تأتي خطوة الدعوة إلى مؤتمر إقليمي دولي، تلتزم أطرافه، بصورة جدّية، بخطّة طريق واضحة المعالم من جهة الخطوات المطلوبة، وسقفها الزمني، تؤدّي، في نهاية المطاف، إلى حل مستدام للقضية الفلسطينية وقضايا المنطقة، يفتح الآفاق أمام الاستقرار الأمني والازدهار الاقتصادي في المنطقة، لصالح سائر شعوبها من دون أي استثناء.
——————————
غزّة الشهيدة/ علي العبدالله
شكّلت العملية العسكرية، التي نفذتها كتائب عزالدين القسّام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، في منطقة غلاف غزّة يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري تحت مسمّى “طوفان الأقصى”، تنفيذا حرفيا لما تسمّى في العلم العسكري المعركة الشاملة والمنسّقة، التي تربط تحرّك القوات البرّية بالبحرية والجوية في تناغم وتكامل دقيقيْن، كأي جيشٍ حديث، ملحقةً بقوات العدو وأجهزة استخباراته هزيمة ساحقة بالمبادأة والمفاجأة، مذكّرة بمفاجأة هجوم أكتوبر 1973 على الجبهتين المصرية والسورية، قال حينها سيئ الصيت هنري كيسنجر: “انشغل الإسرائيليون بالتصوّرات عن الواقع”، وهو ما حصل اليوم أيضا، محقّقة نصرا عسكريا حمساويا واضحا وصاعقا.
جاءت العملية العسكرية الشجاعة لتقطع الطريق على سياق سياسي إقليمي بدأت مؤشّراته في الوضوح، تجسّد في سعي الولايات المتحدة إلى صياغة المشرق العربي عن طريق إقناع السعودية بإقامة علاقات سياسية ودبلوماسية مع إسرائيل، وتنفيذ مشروع ممرّ الشرق الأوسط، عن طريق ربط الهند بأوروبا بحرا وبرا، بطرق وقطارات سريعة عبر السعودية والأردن وإسرائيل، ومدّ شبكة ألياف ضوئية لتطوير وتسريع اتصالات الإنترنت وتبادل المعلومات الدقيقة، كخط ثان لتمرير التطبيع وتكريسه واقعيا، بحيث تضرب أكثر من عصفور بحجر: إدماج إسرائيل في المنطقة ومنحها دورا وازنا في ضوء مكانتها في الاستراتيجية الأميركية وقدراتها التقنية الكبيرة، وتعزيز الحضور الأميركي في المنطقة بمحاصرة خصومها وعزلهم، الصين وروسيا وإيران، وتقييد التحرّك التركي الذي تنامى أكثر من المقبول أميركيا.
انخرطت السعودية في المفاوضات، وإدراكا منها لمكانتها ودورها في العالمين العربي والإسلامي، وما سيُحدثه التطبيع بينها وبين إسرائيل من تأثير على الفضاء السياسي والجيوسياسي بدءا بفتح أبواب بقية الدول العربية والإسلامية أمام إسرائيل وانتهاء بتكريس هيمنة أميركية على المنطقة عقودا مقبلة، رفعت سقف مطالبها: مشروع نووي سعودي، بما في ذلك دورة تخصيب كاملة، واتفاق دفاعي أميركي سعودي يمنحها ضماناتٍ قوية بدفاع الولايات المتحدة عنها ضد أي عدوان، وتزويدها بأسلحة أميركية متطوّرة. وحتى تمرّر العملية داخليا وخارجيا بسلاسة وهدوء، أعادت العلاقات الدبلوماسية مع إيران بوساطة وضمانة صينية، وأعادت التواصل مع السلطة الوطنية الفلسطينية بتعيين سفيرٍ غير مقيم واستئناف تقديم مساعداتٍ مالية لها كانت قد قطعتها منذ سنوات، ودخلت في حواراتٍ معها لمعرفة سقف المطالب الفلسطينية التي قد تقبل بها لوضعها على طاولة المفاوضات، وذلك لتأمين غطاء فلسطيني رسمي للتطبيع.
أثار مشروع التطبيع السعودي الإسرائيلي مخاوف إيران وحركة حماس، لأن قيامه بغطاء فلسطيني سينهي كل ما حقّقته إيران من مكاسب خلال العقود الأخيرة بإمساكها بالورقة الفلسطينية، من تشكيل محور المقاومة إلى وحدة الساحات، من جهة، ويعني، من جهةٍ ثانية، إخراج حركة حماس ومشروعها السياسي من المعادلة وتلاشي مكانتها ودورها.
وقد منح غياب حلٍّ محدّد لحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة بالتخلّص من الاحتلال وإقامة دولة مستقلة عن محادثات التطبيع، وتجاهل الإدارة الأميركية الاستيطان الزاحف وهجمات المستوطنين على البلدات والقرى الفلسطينية واقتحامهم المسجد الأقصى واقتحام الجيش الإسرائيلي المتواتر المدن الفلسطينية والعبث فيها قتلا وتدميرا، منح هذا كله عملية 7 أكتوبر العسكرية شرعيتها وآنيّتها، بحيث تؤكد قدرة حركة حماس على الفعل وإجهاض الاتفاقات واستحالة القفز على دورها ومصالحها وتعيد طرح المطالب الوطنية الفلسطينية كما جاءت في قرارات الشرعية الدولية على الطاولة.
غير أن الخطّة العسكرية الدقيقة والطموحة وقعت في خطأين استراتيجيين قاتلين سيستنزفان مفاعيل النصر العسكري، أولهما السيطرة على المستوطنات والتمترس فيها وثانيهما أخذ رهائن مدنيين، فالتوجّه إلى إثبات القدرة على احتلال المستوطنات والتمترس فيها خطوة غير منطقية وغير مفهومة، لأن قادة الحركة ومخطّطيها العسكريين يعلمون أن هذا تحدّ كبير للحكومة الإسرائيلية، وأن إسرائيل، وكما في حروب غزّة الماضية، سوف تستخدم إمكانات بشرية وتقنية وناريّة لاستعادة الهيبة والمبادرة، وأن النتائج ستكون ضحايا ودمار كبيريْن. وأخذ رهائن مدنيين، بما في ذلك أطفال ونساء وكبار السّن ورعايا دول غربية من مزدوجي الجنسية، مسألة حسّاسة وستطلق رُهاب الرهائن في الغرب من جديد. وقد منح هذا آلة الدعاية الصهيونية فرصة تضخيم الخطر ببثّ روايات مختلقة عن ذبح الرُضع، وبقر بطون الحوامل وقطع رؤوس الرهائن أمام الكاميرات، ودفع الغرب إلى الكشف عن موقع إسرائيل وأهميتها في استراتيجياته في المشرق العربي ودورها الوظيفي في حماية مصالحه وتكريس هيمنته بالاصطفاف خلف العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة، عبر ترويجه الدعاية الإسرائيلية وشيطنة الشعب الفلسطيني وتحويله إلى وحوش وقتلة وإرهابيين، وقطع المساعدات المقرّرة له من قبل، واعتبار ما تقوم به إسرائيل دفاعا عن النفس ومنحها ضوءا أخضر للمضي في حصارها وتدميرها إلى حدوده القصوى؛ والتعبير عن عمق الارتباط بها عبر تزويده المعتدي الإسرائيلي بالأسلحة والذخائر والمسيّرات وحشد قواته وأساطيله أمام شواطئ فلسطين، لردع أي مشاركة في القتال من خارج غزّة، وتقبله الخيارات الإسرائيلية المتطرّفة بتدمير غزّة، ودفع سكان القطاع، البالغ عددهم أكثر من مليوني نسمة، نحو الرحيل إلى سيناء أو عبر البحر وافتتاح نكبة فلسطينية جديدة.
بدا الأمر وكأن واضعي خطة الهجوم المذهلة قد وضعوا السياسة على الرفّ. كانت الحصافة تقتضي تنفيذ خطة الهجوم ضد المواقع العسكرية الإسرائيلية المنتشرة في غلاف غزّة فقط وأخذ أسرى جنود ونقلهم إلى داخل القطاع، قبل أن يستفيق جيش العدو وحكومته من الصدمة والذهول والدخول في اتصالاتٍ دبلوماسيةٍ لطرح المطالب والشروط، فتكون المقاومة بذلك قد حققت المفاجأة الاستراتيجية، وأفهمت الجميع أنها قادرة على قلب الطاولة وخلط الأوراق، وأن أي عملية استبعاد لها وتجاهل لمطالبها لن تنجح.
نحن الآن في انتظار إسدال الستارة على المعارك بوقف العدوان الإسرائيلي على القطاع تحت ضغط مركّب من الخسائر البشرية بين المتحاربين إلى حجم الكوارث الإنسانية في القطاع وضغط الرأي العام العالمي الرافض للعدوان الذي عكسته التظاهرات الكبيرة التي خرجت، رغم المنع في معظم الدول الغربية والضغوط السياسية والدبلوماسية، والحاجة إلى إبقاء أقنية الاتصالات السياسية والدبلوماسية بين إسرائيل ودول التسوية والتطبيع العربية مفتوحة، من أجل استمرار جهود التطبيع الأخرى، وعندها سيُحدّد من الفائز بالنقاط وستُحسب النتائج والآثار السياسية والاقتصادية والإنسانية وانعكاسها الجيوسياسي في المنطقة، فخروج حركة حماس منتصرة بالنقاط سيعني بقاءها طرفا ثابتا ووازنا، ومعها إيران ومحورها، في المعادلة. وهزيمتها ستعني هزيمة المحور ووحدة الساحات التي بقيت قولا من دون فعل. وتنهض غزّة من جديد تلملم أشلاءها وتضمد جراح أبنائها، وتجد السير نحو غدها المجيد.
——————-
ساسة إسرائيل يدفعون ثمن غطرستهم/ عمر كوش
منذ انتشار المشاهد الأولية للحرب في غزّة بين مقاتلي حركة حماس والجنود والمستوطنين الإسرائيليين، جرت المقارنة بين عملية توغل المقاتلين الفلسطينين في ما عُرف بمنطقة غلاف غزة، وما حصل في حرب 6 أكتوبر (تشرين الأول) 1973، أو “حرب العبور”، التي شهدت اختراق التحصينات الإسرائيلية على جبهة قناة السويس، واجتياز خط بارليف، وأعلنت عن كسر أسطورة الجندي الإسرائيلي الذي لا يُقهر، فضلاً عن توفّر عناصر ودلائل جديدة في الحرب الدائرة حالياً، فتحت الباب واسعاً أمام استخلاص دروس تتجاوز اللحظة الراهنة.
قد يكون الوقت مبكراً لتقديم قراءة موضوعية، تحيط بما يحدث في قطاع غزة والمنطقة التي أرُيد لها أن تشكل غلافها، وتضع كل المؤشّرات ضمن سياقها في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني والإقليمي، وحق الشعب الفلسطيني المشروع في نيل حقوقه على أرضه، والذي أظهر تصميماً منقطع النظير للتضحية في سبيلها، وقدرة على مواجهة قوى الاحتلال الإسرائيلي، وخصوصا جيشها الأكثر تسليحاً وتمويلاً بين جيوش المنطقة، وتمريغ صورته بالوحل، وتبيان تهافت أوهام القوة والغطرسة لدى ساسة إسرائيل، وتلقين جنرالات الحرب فيها الدرس المطلوب.
ما يحدُث في غزّة، وفي سواها من الأراضي الفلسطينية المحتلة، هو تأكيد على مواصلة الفلسطينيين عدم الاعتراف ببشاعة الاحتلال، وعدم الخضوع للعدوان الإسرائيلي المستمر منذ سنوات، وكبح ادّعاءت رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، الذي يعمل على “تطهير الأرض” من أهلها وأصحابها، والإمعان في ممارسة عنصرية متواصلة لا تجد من يوقفها في المجتمع الدولي، خصوصا من ساسة دول الغرب المنحازين بشكل أعمى للاحتلال الإسرائيلي، والذين ساهموا في جعل قوى اليمين المتطرّفة في إسرائيل تعتقد أنه يمكنها فعل كل شيء قذر ضد الفلسطينيين، بالاستناد إلى الدعم الغربي المنفطع النظير، من دون أن يدفع ساستها وجنرالاتها أي ثمن، أو أن يسائلهم أو يعاقبهم أحد في العالم.
يدرك العالم أجمع بشاعة الاحتلال، وفظاعة الممارسات الإسرائيلية حيال الشعب الفلسطيني، لكن ساسة الغرب الساعين إلى إحداث تطبيع شامل في المنطقة مع إسرائيل، تحت ذريعة تحقيق السلام والأمن الإقليمي، ينسون أن صنع السلام لا يتم عبر تطبيع إسرائيل علاقاتها مع السعودية والإمارات وسواهما، بل عبر السعي إلى منح الفلسطينيين حقوقهم المسلوبة منهم. ولذلك لم يبذلوا أي مسعى حقيقي في سبيل التخفيف من تداعيات الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، التي تجاوزت الحدود وفاضت على دول الجوار والإقليم، وبات من أطول الصراعات أمداً، وأشدّها تعقيداً، بالنظر إلى التعنّت الإسرائيلي، وإنكار حقوق شعب بأكمله، واستمرار احتلال الأراضي الفلسطينية، وإقامة نظام فصل عنصري حيال فلسطينيي الداخل والخارج. والأنكى من ذلك كله أن ساسة اليمين العنصري المتطرّف في إسرائيل ينكرون ارتباط ما يقومون به من ممارسات بملفات المنطقة وقضاياها، وإسهامها في زيادة الاضطراب وعدم الاستقرار فيها، وذلك لأنهم يُمعنون في ضرب أي مسعىً يهدف إلى تحقيق السلام، عبر تغوّلهم في الاحتلال والاستيطان، فأصل القضية وفصلها هو الاحتلال والاستيطان الإسرائيليان. لذلك كان طبيعياً رد فعل المقاتلين الفلسطينيين، حين توغلوا في مستوطنات غلاف غزّة وما حولها، وأظهروا للعالم أجمع استعدادهم لدفع كل ما يملكون من أجل نيل فسحة من الحرية.
إذاً، جاء الرد الفلسطيني على انتهاكات قوى الاحتلال، التي تمارسها يوميا ضد الإنسان الفلسطيني، حيث لم تتوقف عن قتل الفلسطينيين، وترحيلهم، واعتقالهم، وتدمير أماكن عيشهم وسكنهم، والتفنن في اختراع طرق لتحقير كرامتهم الإنسانية، حتى بات الاحتلال كابوساً مرعباً، يجثم على صدور ملايين الفلسطينيين منذ عقود.
كان متوقّعاً أن تأتي لحظة انفجار الغضب الفلسطيني طوفاناً عارماً، كي تشكّل جزءاً من عقاب مستحقّ للمسؤولين عن الممارسات الاحتلالية، وبالتالي، على ساسة إسرائيل وجنرالاتها دفع ثمن غطرستهم وعنصريتهم، ولن يفيدهم قتل مزيد من المدنيين في قطاع غزّة الذي سبق أن حوّل الاحتلال معظم سكانه إلى محرومين من حقهم في العيش، ومحاصرين منذ سنوات.
لم ينفع إسرائيل بناء جدار الفصل العنصري، ولا الجدار الذي بنته حول قطاع غزّة، الذي كلف ملايين الدولارات، لأنه لم يجعل إسرائيل آمنة، إذ تمكّن فلسطينيون من اختراقه، وعبروا كل الحواجز والعوائق بالدرّاجات الهوائية، وتمكّنوا من دخول أماكن محصّنة، فيما لم تتمكن الغطرسة الإسرائيلية من منعهم، لأنهم أرادوا كسرها وتبيان هشاشة ما صرفت عليه إسرائيل مليارات الدولارات. وقد أظهروا صوراً لم يتوقعها جنرالات الحرب الإسرائيليين في حياتهم، حيث أثبت الاختراق الفلسطيني أن بإمكان بضع مئات من المقاتلين الفلسطينيين تمزيق ما نسجته الغطرسة الإسرائيلية، والأهم أنهم اثبتوا أن من غير الممكن الاستمرار في سجن أهالي غزّة، من دون دفع أثمان باهظة. لذلك، على ساسة إسرائيل تعلّم الدرس، والكفّ عن مواصلة سياستهم الرامية إلى محو الفلسطينيين، بالاستناد إلى دعم ساسة دول الغرب، ولن تجدي نفعاً تهديداتهم باجتياح قطاع غزة، وتسويته بالأرض، ومعاقبة ناسه، وكأنه لم تتم معاقبتهم جماعيا في حروب واعتداءات سابقة.
لقد ظن ساسة إسرائيل وجنرالاتها أن مواصلة الغطرسة كفيلة بإخضاع الفلسطينيين، وإفشال أي محاولة للحلّ السياسي، تفضي إلى إسترجاع الفلسطينيين جزءاً من حقوقهم، وراحوا يتمادون في اغتيال الفلسطينيين، وتهشيم عظامهم، واقتلاع عيونهم، وخطفهم من بين ذويهم، ومواصلة سجن آلاف الأسرى، ومعظمهم سياسيون، وإظهار تعنّت يشي بأنهم لن ينالوا حريتهم إلا بالقوّة، لذلك كان تركيز المقاتلين في عمليتهم على أسر عديد من الجنود والمستوطنيين الإسرائيليين، كي يحصلوا على تلك القوة اللازمة لمبادلتهم بالأسرى الفلسطينيين.
لن تنفع إسرائيل مواصلة غطرسة قادتها وساستها، الأجدى لهم العودة إلى تنفيذ الاتفاقات الموقّعة، والالتزام بقرارات الشرعية الدولية، لأن استمرارهم في ممارساتهم سيعني استمرار الصراع، وبقاء ممكنات تفجير الأوضاع من جديد. ولن يتمكّن أحد من دفن القضية الفلسطينية، فهي حيّة لا تموت، ولا تنتهي، وعنوانها تحقيق العدالة للفلسطينيين، ومساعدتهم على إشادة دولتهم على ما تبقّى من أرض فلسطين التاريخية.
———————-
حرب إسرائيل المجنونة لن تحطّم الفلسطينيين/ سمير الزبن
لم يتفوّق ما حدث في عملية طوفان الأقصى على كل تقدير فحسب، بل تفوّق على كل خيال أيضاً. فلم يتخيّل أحدٌ، ولا في إسرائيل ولا خارجها، أن مقاتلي حركة حماس بأسلحتهم المتواضعة، قد يهاجمون أقوى قوة عسكرية في المنطقة، والمحصنة بالجدران العازلة وكاميرات وأدوات المراقبة عالية الدقة والتقنية، ووراء هذه الجدران، جيشٌ بأحدث العتاد في العالم من دبّابات وطائرات حربية وطائرات تجسّس، وتملك أجهزة أمنية واستخباراتية بشرية وتقنيات تجسسية تصدرها إلى الآخرين. انهار ذلك كله في ساعات أمام وسائل قتال بسيطة، طائرات شراعية متواضعة، زوارق بدائية، بنادق عادية، درّاجات نارية، وقاذفات آر بي جي، جاؤوا من قطاع غزّة المحاصر منذ سنوات طويلة، تعرّض خلالها لاعتداءات إسرائيلية في عدة حروب شرسة خلال سنوات حصاره. ومن وسط هذا الحصار، جاء المقاتلون الذين يملكون الإرادة للردّ على الاعتداءات الإسرائيلية التي لا تنتهي، ليذلّوا المؤسّسة العسكرية وحكومة نتنياهو الأكثر تطرّفاً في تاريخ إسرائيل.
رغم ما نعرفه اليوم عن هذه العملية، فإن أبعادها وتفاصيلها، لن تُعرف قبل وقت من توقّف الحرب الإسرائيلية المجنونة على قطاع غزّة. فقد ترك الطوفان، الذي اجتاح فيه مقاتلو “حماس” بلدات غلاف غزّة، الوحدة العسكرية الإسرائيلية للمنطقة محطمة ومذلة ومهانة. وهاجموا عشرات المستوطنات في الغلاف، مخلفين أكثر من 1300 قتيل إسرائيلي، وعشرات الأسرى الذين تم اصطحابهم إلى داخل قطاع غزّة. وهي الخسارة الأكبر التي تُمنى بها إسرائيل في تاريخها بعد التي تكبدتها في حرب العام 1973، وهي حرب مع بلدين عربيين، مصر وسورية.
ترك “طوفان الأقصى” إسرائيل، بكل مستوياتها، مجتمعاً وحكومة ومؤسّسة عسكرية في حالة الصدمة، وكان الطوفان عنواناً لفشل إسرائيلي على كل المستويات، حيث المؤسّسة العسكرية التي تتباهى بها إسرائيل، لم تستطع حماية مواطنيها، ولم تستطع حماية نفسها من الهجوم الكاسح الذي أذلّها في مكمن قوتها أيضاً.
إسرائيل الغاضبة والمهانة والمذلّة لا تعرف كيف ترد على هذه الهزيمة التي منيت بها، فلا أهداف عسكرية كبيرة ولا حشود من الجنود في غزّة من الممكن استهدافها، فبنك الأهداف العسكري في قطاع عزّة فقير جداً أمام آلة الحرب الإسرائيلية الضخمة، لا بنى تحتية ولا آليات عسكرية ولا مواقع عسكرية يمكن أن تستهدفها طائرات إسرائيل الحربية وزوارقها ودبّاباتها، لذلك، لا تجد إسرائيل سوى السكّان المدنيين الذين تستهدفهم وتعمل بهم قوتها العسكرية، بذريعة أن مقاتلي “حماس” يتخفّون بينهم.
لقد حدّد رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الهدف من حربه الجديدة على قطاع غزّة بالقضاء على حركة حماس. وهذه المرّة الأولى التي تحدّد إسرائيل هدفاً أكبر من قدرتها على التنفيذ، وهو عكس ما كان يحصل. ومقارنة بحرب العام 1982، حدّدت إسرائيل الهدف بإبعاد قوات منظمة التحرير عن الحدود الإسرائيلية في ما عرف بعملية سلامة الجليل، والتي لم تعلن إسرائيل حينها أنها في “حالة حرب”، ولكنها تدحرجت وصولاً إلى احتلال قواتها بيروت، والبقاء عالقة في جنوب لبنان حتى العام 2000.
في حربها المسعورة على غزّة، أعلنت إسرائيل بأنها في “حالة حرب”، وهي حالة لم تعلن عنها منذ حرب 1973، وهو يعني أن إسرائيل ستذهب بعيداً في حربها على غزّة، والتي قد تتدحرج إلى لبنان، فالحرب على غزّة لا تحتاج منها إلى استدعاء 360 ألف جندي احتياط، وهو العدد الذي استدعته إسرائيل في حربها الحالية، وهذا يعني وجود تقديرات إسرائيلية بأن حزب الله سينضم إلى هذه الحرب، أو أن إسرائيل ستجرّه لدخولها، على اعتبار أن الوضع مواتٍ اليوم في ظل حالة الغضب الداخلية الإسرائيلية والغطاء الدولي والانحياز السافر والأعمى لإسرائيل، ما يسمح لها بارتكاب جرائم حرب هائلة من دون مساءلة دولية، بسبب الدعم الأميركي كل ما تريده إسرائيل، وهي التي تعمل اليوم حاجز صدٍّ سياسيا ودبلوماسيا في المنطقة والعالم، لقمع أي رد فعل غير مرغوبٍ فيه على الحرب الإسرائيلية بالغة الوحشية. ويأتي تشبيه ما جرى في غلاف غزّة بالهولوكوست وبـ “11 سبتمبر” الأميركي، ومساواة حركة حماس بـ”داعش”، وبالمقارنة بين عدد القتلى في “11 سبتمبر” وما حدث في غلاف غزّة، تكون إسرائيل قد خسرت عشرة أضعاف ما خسرته الولايات المتحدّة، ما يعني أن حرب استئصال هائلة بانتظار غزّة وقد تمتد إلى لبنان، لأن إسرائيل في حربها لا تشيطن “حماس” فحسب، بل تشيطن كل الفلسطينيين، وبذلك يصبح الجميع يستحق القتل.
إبلاغ إسرائيل الأمم المتحدة إن على سكان شمال غزة المغادرة إلى جنوبها، وهذا يشمل أكثر من 1.1 مليون فلسطيني، ويشكل هذا العدد أكثر من نصف سكان غزّة، والقصف الإسرائيلي العنيف الذي تتعرّض له الأماكن السكنية تستهدف هذا التهجير. وذلك كله يعني أن إسرائيل تسعى إلى اجتثاث سكّان غزّة وليس “حماس” وحدها، وأنها ستدمّر شمال غزّة بسياسة الأرض المحروقة، والتي من الواضح أنها ستدخلها برّياً خالية من سكّانها بترحيلهم، ومن يبقى سيعدّ جزءاً من مقاتلي “حماس”، ويتعرّض للقتل كما أعلنت قيادات إسرائيل.
ليس ما تقوم به إسرائيل حرباً على غزة، بل هي جرائم حرب موسّعة بذريعة الدفاع عن النفس، تريد أن توقع نكبة جديدة بالفلسطينيين انتقاماً لما جرى، إنها تخوض حرب تجريفٍ لسكّان غزة، أمام أعين العالم، الذي لا يسكت هذه المرّة عن جرائمها، بل يقف معها ويؤيدها ويغطّي جرائمها بتأييد الرواية الإسرائيلية من أكاذيب، عن قطع رؤوس الأطفال وحرق المدنيين، وهي ما يؤسّس لجرائم واسعة مدعومة من الولايات المتحدة، والتي تشكل جرائمها في العراق وأفغانستان نموذجاً يُحتذى، وستزيد إسرائيل عليها كثيرا من الدماء والتهجير.
كل الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل وترتكبها اليوم وسوف ترتكبها، ورغم كل التأييد الدولي لها، وطالما هي لا تريد أن ترى الفلسطينيين وحقوقهم في وطنهم، وتريد أن يكونوا دريئة للقتل فقط، كما كل حروبها مهما بلغت وحشيّتها، لن تجلب لها الأمن، بل ستزيد الغاضبين الفلسطينيين، والذين سيعملون على ضرب أمن إسرائيل المرّة بعد الأخرى.
—————————
جوهر الصراع بين مطالب الحقّ وعجرفة القوّة في فلسطين/ لؤي صافي
ثمّة مقاربتان أساسيتان في التعاطي مع الصراع الإسرائيلي الفلسطيني تميّزهما رؤية المتأمل في التحدّي الذي يواجه الشعب الفلسطيني. الأولى، والتي تحكم اليوم تفكير النخب السياسية الحاكمة، تنطلق من رؤية واقعية إلى الأشياء، رؤية تقوم على حسابات موازين القوة، وتعطي أولوية للقدرات الإنتاجية والعسكرية للأطراف المتصارعة، وهي لذلك ترى أن من العبث أن يتصدّى المستضعف للقوي عندما ترجّح موازين القوة قدرة من يملك السلطة والقرار على إلحاق أضرار كبيرة وخسائر فادحة في الجماعات السكانية المهمّشة. تنتشر هذه المقاربة اليوم بين النخب السياسية العربية في صراعها مع القوى التوسّعية في الغرب والشرق، وفي مقدّمتها تيار المحافظين الجدد، الذي يعتبر نتنياهو ممثلّه الأبرز. عمل قادة هذا التيار منذ تسعينيات القرن الماضي، ومن خلال إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش، على تحقيق تفوّق إسرائيلي كامل على المنطقة العربية، ووضعوا لذلك خطّة في نهاية تسعينيات القرن الماضي أطلقوا عليها اسم “الانفصال الكامل” (Clean Break)، وبدأوا بتنفيذها بوصول جورج بوش إلى البيت الأبيض، بغرض إعادة تشكيل المنطقة العربية لتنسجم مع احتياجات إسرائيل، وتحويل الأسواق العربية إلى سوق استهلاكي مفتوح لمنتجاتها، بما يمكّنها من استمرار في بناء قوتها من دون الحاجة إلى الاعتماد على مصادر التمويل الغربية. خطة “الانفصال الكامل” التي أعدها في عام 1996 فريق بقيادة ريتشارد بيرل ودوغلاس فايت (عملا مستشارين لجورج بوش الصغير) بطلب من بنيامين نتنياهو، تضمّنت بنوداً تتعلق بتغيير النظام العراقي وإضعاف سورية، والدخول في علاقاتٍ تجاريةٍ مع المنطقة العربية لتجاوز الصراع العربي الإسرائيلي وتحويله إلى صراع محلي، وتضمّنت أيضاً توصياتٍ بملاحقة المقاومة الفلسطينية إلى أماكن وجودها داخل غزّة والضفة الغربية.
المقاربة الأخرى لفهم الواقع وسبل التعاطي معه تتبنّاها غالباً القوى المهمّشة التي تواجه واقعاً متهاوياً وظروفاً معيشية صعبة، بسبب سلوكيات النخب المهيمنة على القرار الوطني. تقوم المقاربة الشعبية على رؤية مثالية وقناعات عميقة ترى أن الحقّ مقدّم على القوة وضابط لمسارها، وأنه قادر كذلك بما يحمله من زخم شعبي على تفكيك القوى الغاشمة المتكبّرة التي تسعى لتسخير مقدّرات الشعوب لتحقيق مصالحها الخاصة على حساب المصلحة العامة. وبدلاً من التعويل كلياً على حسابات القوّة، تميل الرؤية المثالية إلى الانطلاق من موازين الحق وقيم الإنسان، وإرادته الحرّة، وموازين التعاون والوحدة. وهذه الإرادة عميقة في المنطقة العربية، لأنها الإرث الذي تركته رسالات التوحيد على امتداد تاريخها الطويل. وهذا ما يجعل التحرّكات الشعبية التي تتبنّى مقاربة الحق في مواجهة القوّة تبدو، من وجهة النظر الواقعية، عاطفية وغير عقلانية، بل ساذجة وواهمة. تتجلّى هذه المقاربة اليوم في ثورات الربيع العربي التي تحرّكت بعفوية، استنكاراً لإسراف النخب الحاكمة في استخدام القوة لتحقيق مصالحها على حساب مصالح الشعوب، كما تتجلّى في الانتفاضات الفلسطينية المتكرّرة على امتداد العقود الماضية، وفي العمليات التي تخطّط لها فصائل المقاومة الفلسطينية، رغم التفاوت الهائل بين القوّة المحدودة التي تمتلكها والقوة التدميرية الهائلة التي تملكها إسرائيل، لفرض إرادتها ومشروعها الاستيطاني على الفلسطينيين، وعلى الدول العربية وشعوب المنطقة المتعاطفة معها، بل وعلى قوى إقليمية ودولية عديدة، رافضة ممارساتها التي تتعارض بصورة فاقعة مع كل القوانين الدولية والأعراف الإنسانية.
لكنّ النخب السياسية الحاكمة، والنخب المثقّفة التي تشاركها في واقعيتها السياسية، ما زالت عاجزة عن فهم العلاقة بين الحقّ والقوة، رغم كل الإخفاقات التي واجهتها على مدار قرن بسبب منظورها “الحسابي” الضيّق الذي يتجاهل بعداً رئيسياً في الصراع بين مطالب الحق وعجرفة القوة، وبالتحديد التراكمات النضالية التي تعيد، بمرور الزمن، ترتيب العلاقة بين الحقّ والقوة. نعم يمكن للقويّ الذي يملك وسائل القمع والبطش أن يستخدم تفوّقه لمنع أصحاب الحقّ من المطالبة بحقوقهم، وصولاً إلى انتصارات مرحلية في معارك المواجهة، لكنّه يبقى عاجزاً عن الانتصار في الحرب الطويلة التي بدأها، معوّلاً على قدراته على إلحاق الألم والمعاناة في خصومه، بما يملك من وسائل البطش والتنكيل.
هذا المنطق، الذي هو منطق القوة العارية الإسرائيلي في تعاطيه مع الفلسطينيين، ناجم عن جهل بالمصدر الحقيقي للقوة، واستخفاف بالآثار النفسية والاجتماعية على من يوظّفهم للبطش بخصومه من دون ضوابط أخلاقية ودينية وإنسانية. ولعل الحقيقة الأولى التي يجهلها من يسارع إلى استخدام القوة أن الطريق الأقصر لفقدانها هو التعجّل باستخدام أدوات القهر والبطش من دون حكمة أو مسؤولية، لأنّ ما قبل استخدام القوة المفرطة مختلفٌ تماماً عما بعدها، فثمّة عنصرٌ غير محسوب، غائبٌ قبل استخدام القوة العارية، حاضر بعد استخدامها، وهو تحوّل الخوف المربك في وعي المهمّشين إلى غضب محفز يدفعهم إلى تطوير وسائل مبتكرة لتغيير معادلة القوة الغاشمة التي تسحقهم وتغتال أحلامهم وأحلام أبنائهم. لا شيء يحفز الأفراد والشعوب للبحث عن أنجع الوسائل لمواجهة ظلم القوي أكثر من العيش في منظومة سياسية وعسكرية تتجاهل الحقوق وتُسرع لانتهاك كرامة من يخضع لسلطانها وجبروتها.
وهذا يقودنا إلى نقطة مهمة يجب استحضارها دائماً عند النظر إلى العلاقة بين الحقّ والقوّة، أو بين الحقوق والسلطة، أنّ العلاقة في أساسها علاقة تكامل، فالحقّ يحتاج للقوة لإقامة مجتمع إنساني تحفظ فيه الحقوق وتتكامل داخلة مصالح مكوّناته المتنوعة، والقوة تحتاج كذلك إلى الحقّ لمنع توظيفها خارج الإطار الذي تقتضيه قيم العدل والتعاون والتكافل والتراحم التي تليق بالإنسان وكرامة الإنسان. ذلك أن ضعف المجتمعات الإنسانية غالباً ما يتولّد عن تجاهل القيم الضرورية لبناء تلاحم وتعاون اجتماعيين، وأن رحلة بناء القوّة تبدأ دائماً بالتزام الناس قيم العدل والتكافل والتعاون التي هي السبب في تزايد قوّة أي مجتمع إنساني. ومن يتابع واقع الحياة في الأرض المحتلة، يلحظ تزايد التناقضات والصراعات الداخلية ضمن المجتمع الإسرائيلي باطّراد، نتيجة إصرار القوى الحاكمة فيه، التي تزداد تطرّفاً وعنصرية يوماً بعد يوم، على تجاهل كل الضوابط الأخلاقية والحقوقية، والمضي في مشروع عنصري استيطاني يضع الفلسطينيين أمام الخيار الوحيد الذي يملكونه، ويدفعهم إلى تكريس جهودهم لمقارعة الظلم والعدوان، سعياً نحو الحرية والكرامة. ومن يتابع التطورات في المجتمع الفلسطيني، يلحظ ازدياد تلاحم أبنائه وتضامنهم، ويرى إصرار المقاومة الفلسطينية على بناء قواها الذاتية لمواجهة عدوٍّ شرس، وتنامي قدرتها على الاستجابة للتحدّيات، واستعدادها لتقديم مزيد من التضحيات لردّ المشروع الاستيطاني التوسّعي الذي يشكّل تهديداً لقدرة الشعوب على الحفاظ على حرّيتها واستقلالها وبناء مستقبلها ومستقبل الأجيال القادمة.
العربي الجديد
———————–
الإعلام الفرنسي والحرب ضد غزّة/ سلام الكواكبي
لمجرّد كتابتي العنوان أعلاه، وفي صحيفة عربية، فأنا أُعرِّضُ نفسي فرنسياً إلى عقوبة مالية، أو إلى سجن ستة أشهر، وعقوبة مالية تُضاف إليه، وذلك بتهمة الاستخفاف بحجم مأساة الضحايا، وبالتالي، مساندة الجلادين العرب. وفي أفضل السيناريوهات، سأنال نصيباً مستداماً من الشتائم والتنديد والاتهامات التي ستجمع بين معاداة السامية وتأييد الإرهاب والانتماء إلى الجماعات الراديكالية. فالحديث اليوم عن “حربٍ” ضد غزّة صار من المحرّمات التي يجدُر تجاوزها والالتفاف عليها. وعلى النمط الشمولي، صار الخطاب الإعلامي الفرنسي الرئيسي مردّداً عبارات موحّدة، وكأنها صدرت في أمرٍ صباحي حري بالثكنات العسكرية. على ماذا ينصّ هذا الأمر؟ إنه، في الغالب، ينصُّ على تحديد الأوصاف الموجب استخدامها في صياغة الأخبار وفي التعليق عليها، فكما كان يُقال سابقاً إن الجيش الإسرائيلي قصف حاضرة فلسطينية وقتل العشرات وجرح المئات، في “ردٍّ” على إطلاق صاروخ مُصنّع يدوياً سقط في صحراء خالية، فإنه اليوم “يردُّ” على عملية عسكرية معقّدة ومُحكمة أوقعت مئات من القتلى والجرحى في صفوف العسكريين والمستوطنين والمدنيين.
يتضمّن هذا “الأمر اليومي”، المتجدّد منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، تشديداً على ضرورة استعمال عبارات “الإرهاب والإرهابيين” في الحديث عن الفعل وعن العناصر التي اقتحمت حائط الفصل العنصري ووطأت أقدامها أراضي الأجداد التي سلبها الصهاينة، وألقوا سكّانها في مخيمات اللجوء ضمن شريطٍ ضيقٍ من أرض فلسطين الذي اسمُه قطاع غزّة. وفي المقابل، لا إرهاب دولة عند التطرّق إلى القصف الإسرائيلي العشوائي على المدنيين وقتلهم بالمئات، فهنا إسرائيل تستخدم “حقّها” في الدفاع عن النفس ضد “الإرهاب” ليس إلا. إنها تواجه “وحوشاً” و”حيوانات بشرية” تقتل من دون تمييز. ومن المحتّم ألا ترد عبارة مستوطنة في الحديث عن النقاط التي هوجمت، فإما هي مدن أو كيبوتزات. أما الحفل الموسيقي، فبعد أن اكتفى الإعلام بتوصيفه كذلك في بداية التقارير الإخبارية، أُضيف إلى عنوانه “من أجل السلام”، لكي يُستنكر هذا العمل “الوحشي” ضد فتيان وفتيات يحتفلون بالسلام على بعد مئات الأمتار فحسب من أرضٍ تضم أكثر من مليونين وثلاثمائة ألف فلسطيني مُعرّضين لحصار وحشي منذ ما يقارب 17 عاماً. وقد هيمن توصيف الحفل إنه “من أجل السلام” على كل الخطاب الإعلامي.
ومن الضروري التمييز بين محطّات الأخبار المستمرّة، والتي تبحث عن ملء ساعاتٍ طويلة من البثّ بما يجلب المشاهدين إليها ويرفع من دخلها الإعلاني، من جهة، والصحافة المكتوبة التي يمكن لها، وبشكل نادر، أن تنشر مقالاتٍ تحتوي على شيءٍ من الإنصاف أو على الأقل تحاول أن تبتعد عن التجييش المهيمن تجاه الضحية. وأخيراً، هناك الإعلام “البديل” عبر الشبكة العنكبوتية الذي صار له جمهورُه، وخصوصاً من الجيل الشاب، والذي له بصمته الأكثر وضوحاً على تشكّل الرأي العام في فئاتٍ عمرية محدّدة. صار هذا الفضاء الإلكتروني مرتعاً لكل الأطراف من دون حسيبٍ سياسي ولا رقيبٍ أمني، ولحسن الحظ ربما، ما أتاح لحقائق كثيرة أن تظهر للعلانية، كقتل الجنود الإسرائيليين أسرى عُزّلاً من الفلسطينيين. كما فنّد أكاذيب كثيرة مُختلقة، كخرافة قطع الرؤوس وبقر البطون واغتصاب المستوطنات على سبيل المثال لا الحصر.
صارت “مدرسة” الديمقراطية الفرنسية معبداً للدعاية السياسية والأمنية الإسرائيلية التي تشوّه الحقائق وتختلق الأكاذيب عن ممارسات الضحية، وتنضح بالأعذار والتبريرات للجلّاد مهما تنوّعت أساليبُه (وقست) في التعبير عن عنصريته وكرهه العربي الفلسطيني، مسلماً كان أم مسيحياً أم ملحداً. فمشهد مستوطنين يهتفون أمام المسجد الأقصى “الموت للعرب”، تلبي حكومة الاحتلال طلبهم منذ 1948، يعكس قناعة راسخة لدى المتطرّفين الإسرائيليين الذين يحكمون اليوم في تل أبيب، من النادر أن تنشره وسيلة إعلام غربية عموماً، وفرنسية خصوصاً. وإن عرضته أقنية عربية كـ “العربي” مثلاً، فسيتم توجيه إصبع الاتهام لها بأنها تركّز على تفاصيل المشهد لتأجيج الكراهية والتحريض على الآخر. هكذا وبكل بساطة، بل بكل وقاحة.
أمام هذا الإعلام غير العادل، والذي لا يكتفي بمساواة الجلّاد بالضحية، بل هو يقلب الأدوار من دون أي وازعٍ مهني أو أخلاقي أو إنسانيٍ، يحار المتابع الواعي في إيجاد تفسيرٍ لما يمكن تسميته التحيّز لطرفٍ معتدٍ تاريخياً ضد طرفٍ مُعتدى عليه غالباً، ليُصبح هو الشيطان، لو أنه انتفض أمام شروط موته، فحقوق الإنسان التي يفهمها الغرب بشكل انتقائي وتمييزي هي تلك التي تُمنح للإنسان القاتل، وما على ضحيّته إلا الركون لمصيرها المحتوم، وإلا، ستُدان بتهمة الإرهاب. والتفسير السائد لدى بعض الأوساط المؤمنة بنظرية المؤامرة يكتفي بالإشارة إلى تأثير لوبي صهيوني على أهم وسائل الإعلام. في المقابل، يبدو أن الأمر أعمق بكثير، حيث يمكن الإشارة إلى ارتباطه بإرثٍ استعماري، ينظر من خلاله الرجل “الأبيض” إلى أبناء مستعمراته السابقة كأنصاف بشر. وأخيراً، يجدُر بالمرء التوقّف، في الحالة الفرنسية بالذات، أمام تفسيرٍ هذه الجملة: المتعاونون السابقون مع النازية يناصرون ضحاياها السابقين الذين أضحوا جلادين، وذلك تعزيزاً للنسيان.
————————-
حقّ الرَّدّ… في إدلب!/ رانيا مصطفى
يجيّر النظام السوري كل ما في وسعه من أحداثٍ في البلاد ضمن أجندةٍ تبرّر حملته العسكرية في الشمال السوري، وجديده أخيراً الاعتداء الإسرائيلي على مطاري دمشق وحلب؛ حيث عبّرت تصريحات رسمية من مصادر عسكرية عن أنّ الاعتداء “جزء من المنهج المستمر في دعم الجماعات الإرهابية المتطرّفة التي يحاربها الجيش العربي السوري في شمال البلاد، والتي تشكّل ذراعاً مسلحاً للكيان الإسرائيلي”، وأن هذا الجيش سيستمر في ملاحقتها وتطهير البلاد منها. وجاءت الحملة العسكرية التي يقوم بها النظام السوري على إدلب، الواقعة تحت سيطرة هيئة تحرير الشام، خيارا وحيدا متبقيا أمام النظام نفسه وداعميه الروس والإيرانيين، لقلب الطاولة ضمن الجغرافيا السورية، وإنهاء حالة الستاتيكو العسكرية التي بدأت في اتفاق آذار 2020، ورسّخت مناطق النفوذ، بتوافقاتٍ روسية تركية ورضى أميركي. وأصعب ما يواجهه النظام اليوم هو انفضاض الحاضنة الطائفية عن دعمه، وقد استفاد من حادثة استهداف حفل تخريج ضباط في الكلية الحربية في حمص بطائرة مسيرة، راح نتيجتها عشرات الضحايا، والذي يغيُّب النظام أية تحقيقاتٍ بشأن هوية الفاعل، ويكتفي برمي التهمة على “الإرهاب” وأطراف خارجية. وترجم هذا الاتهام بهجومٍ عنيفٍ على المدنيين في مناطق إدلب وريفها.
يركّز النظام في دمشق على الخروج من الزاوية الضيقة التي حُشر فيها خلال الشهرين الأخيرين، خصوصاً بعد أن أعلن العرب فشل المبادرة العربية لعودة النظام إلى الحضن العربي، بدلاً من “الأحضان الإيرانية”، نتيجة عدم استجابة دمشق لأي خطوة مقابلة لخطوة الانفتاح العربي؛ فيما لم تدُم الضجّة الإعلامية، سواء بوسائل إعلام النظام، أو وسائل التواصل الاجتماعي التابعة للرئاسة، المرافقة لزيارة عائلة الأسد إلى الصين واقتراب الانفراج الاقتصادي، وانتهت بانتهاء تلك الزيارة. أما الاحتجاجات اليومية في السويداء، فتكاد تكمل شهرها الثاني، وهي تزدادُ زخماً وثباتاً وتنظيماً مع مرور الوقت؛ ويعجز النظام عن الرد عليها بالعنف المعتاد استخدامه في احتجاجات 2011، في مناطق سورية أخرى، لأنه لا يملك أن ينعت السويداء بصفة الإرهاب، فيما أسقَطت إبداعات الناشطين في المحافظة في كتابة اللافتات المرفوعة في الاحتجاجات اليومية كل حججه عن المؤامرة الخارجية والمشاريع الانفصالية والحكم الذاتي، إضافة إلى أن خروج الغالبية العظمى لأبناء المحافظة، وانضمام مشايخ عقل الطائفة الدرزية إلى الحراك، زاد من ورطة النظام في كيفية الردّ، ولم تنجح محاولاته في شقّ الصف الدرزي، عبر الاستعانة بمشايخ ووجهاء نافذين من دروز لبنان، وموالين له ولحزب الله، أو بعض المنتفعين في محيط العاصمة دمشق.
يتحدّث إعلام النظام عن “انتصارٍ” مرتقب يحقّقه جيشُه في إدلب، وواقع الحال أن كل “الانتصارات” السابقة بسيطرته على مناطق سورية واسعة، بدءاً من 2013، في القصير وحلب وحمص وريفها الشمالي، والغوطة وكذلك في حماة وإدلب، كانت بتوافقاتٍ روسيةٍ تركيةٍ وفق مسار أستانة، وإنْ كانت مسبوقةً بتصعيد واقتتال. الآن جيش النظام، ومليشياته، في أضعف حالاته العسكرية والمعنوية. وإلى اللحظة، تتمثل الحملة العسكرية بقصف جوي ومدفعي على مناطق المدنيين حول طرفي الطريق الدولي حلب – اللاذقية، من دون محاولاتٍ للاقتحام. ما يحصل في الشمال السوري هو بموافقة روسية، لاستئناف الضغوط السابقة على تركيا واستكمال تطبيق التوافقات حول إبعاد تحرير الشام وبقية الفصائل الجهادية وحصرها في جيب أصغر شمالاً، وسيطرة النظام على جبل الزاوية ومجمل المنطقة جنوب الطريق الدولي M4، وتسيير دورياتٍ مشتركةٍ لفتحه وتحت خدمة الروس. ولا يبدو أن هناك توافقات روسية تركية جديدة، بل دلت المؤشّرات السابقة، ومنذ فوز أردوغان بولاية رئاسية جديدة، على ابتعاد أنقرة عن موسكو، وتقاربها أكثر مع الولايات المتحدة والغرب، في هذا الظرف العالمي الصعب، بسبب الحرب الروسية في أوكرانيا. وقد أعطيت أنقرة الضوء الأخضر، من الغرب، أو نوعاً من غضّ النظر، عما تقوم به في مناطق شمال شرق سورية، حيث حكومة الإدارة الذاتية، من قصف على المدنيين، في محاولة منها لاستكمال إنشاء منطقة حدودية عريضة، وإعادة اللاجئين السوريين إليها.
ما زالت روسيا تراهن على بقاء النظام في دمشق، رغم بلوغه أشدّ درجات الضعف، ورغم فشل مساعيها لإعادته إلى الحضن العربي، وفشل مخطّطاتها للمصالحة بين أردوغان والرئيس السوري، بشّار الأسد. ورغم تصاعد الاحتجاجات ضد الأخير مجدّداً، في السويداء، واحتمال اندلاعها في مناطق أخرى، بسبب تردّي الوضع المعيشي؛ باتت موسكو منبوذة من الغرب، وتسعى واشنطن إلى التضييق عليها في منطقة الشرق الأوسط، ومن ضمنها سورية. هذا يعني أن التوافقات بين الروس والأميركان بشأن الحل السوري صعبة في هذا التوقيت، وليس أمام روسيا سوى تدعيم بقاء النظام بكل السبل. من هنا يأتي دعم روسيا للقصف الهمجي الذي يقوم به النظام ضد الشمال السوري، إما لحفظ ماء وجه النظام، والقول إنه يملك من عناصر القوة والضغط على معارضيه المحليين، والقدرة على حشد الجيش والمليشيات والدول الداعمة له، خصوصا بعد أن استُقبِل بحفاوة في الصين؛ أو للضغط على تركيا لتقديم تنازلاتٍ بالانسحاب من بعض المناطق، مقابل تحقيق المصافحة المرجوّة بين الأسد وأردوغان، وإعادة قسم من اللاجئين، وهذا احتمالٌ صعب التحقق.
خلاصة القول إن النظام السوري بات في أشد حالات ضعفه، وليست حملته العسكرية الهمجية على إدلب وريفها سوى هروب من مأزقه، في السويداء، وفي تخلّي مؤيديه في الداخل عن دعمه، ومأزقه في فشل مسارات التطبيع العربي، والتركي، وتجدّد رفض الغرب تعويمه، ومأزق داعمه الروسي في أوكرانيا، فيما باتت التحرّكات الإيرانية مستهدفة أكثر في سورية، خصوصا بعد الاعتداء الإسرائيلي على غزّة أخيراً. ولا يحتاج تغيير النظام في دمشق إلا إلى دور مفقود في الوضع السوري، كان من المفترض أن تقوم بها بدائل سياسية سورية، غير موجودة، في ظل ارتهان أطياف المعارضة السورية كلياً إلى أجنداتٍ دوليةٍ وإقليمية متصارعة.
———————–
7 أكتوبر 2023/ مروان قبلان
مثل محطّات أخرى فارقة في الصراع العربي- الإسرائيلي (1948، 1967، 1973، 1982) سوف يُذكر السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 باعتباره نقطة تحوّل أخرى في تاريخ القضية الفلسطينية، ليس فقط لأن حركة حماس حطّمت الأسطورة الاستخباراتية والعسكرية والأمنية الإسرائيلية، وليس لأن إسرائيل خسرت في يوم واحد عددًا من القتلى يتجاوز ما خسرته في أي حربٍ أخرى مع العرب، وليس لأن قطاع غزّة سوف يدفع ثمنا غير مسبوقٍ نتيجة استماتة إسرائيل في استعادة “هيبتها”، بل أيضًا لأن عملية طوفان الأقصى (الاسم الذي أطلقته حماس على عمليتها التي اقتحمت فيها مستوطنات غلاف غزّة) قد تقلب كل المعادلات في المنطقة، وقد يكون لها تداعياتٌ دولية مهمّة، وسوف تكون نتائجها بالتأكيد مختلفة عن أي مواجهة سابقة حصلت بين غزّة وإسرائيل منذ انسحاب الأخيرة من القطاع أحاديا عام 2005.
إقليميا، يبدو أكيدا أن مسار التطبيع الذي كانت تدفع به الولايات المتحدة بين إسرائيل ودول خليجية، في مقدمتها السعودية، قد وضع على الرفّ حاليا، إذ سيكون من غير الممكن أن تمضي الرياض بهذا الاتجاه في ظل القصف الإسرائيلي الأعمى على غزّة وسقوط المئات، وربما الآلاف، من المدنيين الأبرياء. هذا يعني أن أحلام إدارة الرئيس الأميركي بايدن بانتزاع اتفاق “سلام” سعودي- إسرائيلي قبل انطلاق حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية العام المقبل قد تبدّدت. فوق ذلك، قد تنتهي إدارة بايدن، التي تسعى منذ وصولها إلى السلطة عام 2021، إلى التركيز على الصين، وتجنّب أي التزاماتٍ إضافيةٍ في منطقة الشرق الأوسط، إلى الدخول في حربٍ كبرى فيها، خصوصا في ضوء التحذيرات التي وجّهتها لحزب الله بأنها سوف تدخل الحرب إذا أقدم الحزبُ على فتح جبهة جديدة ضد إسرائيل من لبنان، وقد تضطرّ حتى، في حال توفّر دلائل على تورّط طهران في عملية طوفان الأقصى، إلى توجيه ضربة لها، أو مساعدة إسرائيل على فعل ذلك. وكانت إسرائيل حاولت ردع حزب الله وإيران عن فتح جبهة جديدة من خلال التهديد بتوجيه ضربةٍ إلى النظام السوري قد تؤدّي إلى إسقاطه، وهذا ثمنٌ كبيرٌ لا تستطيع إيران تحمّله. هذا يعني، بالتبعية، إغلاق كل مسارات التفاوض المفتوحة بين إيران والولايات المتحدة، والتي تسارعت بعد التوصل إلى صفقة إطلاق سراح الرهائن الأميركيين في إيران في الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول) في مقابل ستة مليارات دولار من الأموال الإيرانية المجمّدة في كوريا الجنوبية، وهي الصفقة التي تسبّبت بانتقادات شديدة لإدارة بايدن من خصومها الجمهوريين. هذا يعني عمليا أن أجندة إدارة بايدن الشرق أوسطية قد انهارت تماما، والتي كانت تقوم على تخفيف التوتر مع إيران، وتطبيع العلاقات بين دول الخليج العربية وإسرائيل، والتفرغ لمواجهة نفوذ الصين أو احتوائه.
ينقلنا هذا إلى تداعيات عملية طوفان الأقصى دوليا، إذ سيكون أي تورّط أميركي جديد في المنطقة محلّ ترحيب كبير في الصين، التي قطفت ثمار عقدين من حروب أميركا في العالم الإسلامي (2001-2021). خلال السنوات القليلة الماضية، بدأت أميركا، التي هالها صعود الصين السريع، تتدارك خطأها، فأنهت تورّطها في العالم الإسلامي، ونقلت تركيزها إلى منطقة شرق آسيا، حيث أخذت تُطبق الحصار على الصين. بالمثل، ستكون روسيا أحد أكبر المستفيدين من عملية “طوفان الأقصى”، وقد بدأت تداعياتها تظهر توًا، إذا اضطرت الولايات المتحدة إلى توجيه جزءٍ من العتاد المخصّص لدعم أوكرانيا إلى إسرائيل، ويبدو أن احتمالات توسّع المواجهات في الشرق الأوسط سوف تأخذ في المرحلة المقبلة حيّزًا كبيرًا من اهتمام واشنطن على حساب الصراع في أوكرانيا، خصوصا إذا تورطت واشنطن فيها. التداعيات الاقتصادية لمواجهات الشرق الأوسط على الاقتصاد العالمي المنهك لن تكون أقلّ أهمية، خصوصا إذا تطوّرت إلى حربٍ إقليميةٍ، وتعرّضت الممرّات البحرية للتهديد، ومعها إمدادات النفط، ما يؤدّي إلى ارتفاع الأسعار ومعها التضخّم، وحصول موجات احتجاج كبرى قد تشمل دولا في أوروبا. في كل الأحوال، قد يكون حقًا القول إن “طوفان الأقصى” ستتردّد أصداؤها عبر العالم، وقد “تغيّر وجه المنطقة”، ولكن في غير المعنى الذي قصده نتنياهو.
—————————
نقاش سوري حول دعم فلسطين؟!/ مروان قبلان
لم أتوقّع أن يأتي يومٌ يضطر فيه المرء إلى خوض نقاش بشأن مركزية القضية الفلسطينية في الفكر والوجدان العربي (السوري تحديدًا)، فهذا أمرٌ مسلَّمٌ به مثل قوانين الطبيعة، لا يحتاج المرء إلى نقاشها، هو يدرك كنهها فقط ويسلّم بها. لكن من الواضح أن الكارثة التي ألمّت بسورية خلال العقد الماضي، ولعبت إيران وحزب الله دوراً رئيساً فيها، أربكت تفكير بعضهم، فصاروا يروْن تماهيًا بين دعم القضية الفلسطينية ودعم المشروع الإيراني القائم في جزءٍ منه على استغلالها. وقد ظهر هذا التوجّه خصوصًا في الموقف من الحرب الإسرائيلية على غزّة، وفي تفسير قرار حركة حماس خوضها بأنه قرار إيراني، وفي هذا تحوّل خطير في نهج التفكير، يخدم المصلحتين، الإسرائيلية والإيرانية، بمقدار ما يؤذّي القضيتين السورية والفلسطينية معًا، ويضعهما في تناقض مصطَنع، في حين أنهما قضية واحدة، حيث يستمدّ الاحتلال والاستبداد كلٌّ منهما قوّته من الآخر ومن وجوده واستمراره.
لا ضير في أن نؤكّد ونذكّر، قبل كل شيء، بحقيقة أن القضية الفلسطينية سوريةٌ بامتياز، وهي كذلك قبل أن تكون عربية. دع جانبًا مسألة أنها لم تكُن، ولن تكون، قضية إيرانية. وهذا ليس موقفًا إيديولوجيًا مرتبطًا بأفكار القومية العربية، التي برزت في سورية منذ أواخر القرن التاسع عشر، بل هي حقيقة تاريخية وجغرافية وسياسية. فحتى عام 1864 كانت القدس تتبع إداريًّا لولاية دمشق، إلى أن فُصلَت عنها، إضافة إلى جبل لبنان (سمّي متصرّفية) بموجب قانون الولايات العثماني الجديد، وحُوِّلَت (القدس) إلى “سنجق” مستقلّ يتبع مباشرة لإستانبول (أو إسطنبول). وقد حصل ذلك نتيجة أحداث 1860 الطائفية في دمشق ومخاوف الباب العالي من استغلال القوى الأوروبية لها للتدخل في شؤون الدولة العثمانية. وفي المؤتمر السوري العام (1919 – 1920) الذي يعد أول برلمان وطني لسوريا الكبرى، كان الحضور الفلسطيني طاغيًا. وقد تركّزت مداولات المؤتمر، الذي ترأسه هاشم الاتاسي، حول رفض المشروع الصهيوني في فلسطين ورفض فصل فلسطين ولبنان عن الوطن الأم (سورية) وقُدِّمَت توصيات بهذا الخصوص إلى لجنة كنغ – كرين الأميركية التي انبثقت من مؤتمر السلام في باريس (1919)، للنظر في مستقبل الولايات العربية التي انفصلت عن الدولة العثمانية. وقد أوصت اللجنة حينها بالحفاظ على وحدة سورية. لا حاجة للخوض أكثر في التاريخ، ولا في مشاركة السوريين في مقاومة المشروع الصهيوني والانتداب البريطاني قبل إنشاء دولة إسرائيل وبعدها، باعتباره جزءًا من نضالهم الوطني ضد الاحتلال، فهذا كلّه موثّق ومعروف، بل ننتقل مباشرة إلى الحاضر لإيضاح ثلاث قضايا هامة مرتبطة بما يجري اليوم في غزّة:
أولاً: أنه، وكما أن القضية الفلسطينية ليست إيرانية، فإن “حماس” ليست جزءًا من المشروع الإيراني في المنطقة، ومشروعها إزالة الاحتلال، وليس الدفاع عن إيران، وخيارها خيار عربي بامتياز، بدليل أنها لم تتردّد في إدارة ظهرها لإيران والوقوف إلى جانب ثورة الشعب السوري عام 2012 عندما توافر لها ظهير عربي بديل (مصر). لقد اضطرّت “حماس” العودة إلى “الحضن الإيراني” فقط، بعد أن حاصرها أكثر العرب وأعلنوا الحرب عليها، علمًا أن الحركة تدرك أن إيران تستغلّ القضية الفلسطينية، وتستغلها هي أيضًا لإخفاء الوجه الطائفي لمشروعها الإقليمي، لكنها تجد نفسها في غياب البدائل مضطرّة إلى ذلك.
ثانيًا، تدرك “حماس” أن عضويتها في “محور المقاومة” لا تؤهلها لقيام بقية أعضاء المحور بالدفاع عنها أو الدخول في مواجهة مع إسرائيل من أجلها، أو من أجل فلسطين، ببساطةٍ لأنها ليست قضية إيران ولا المهمّة التي نشأ من أجلها حزب الله. ينتج من هذا: ثالثاً، أن قرار الحرب في غزة لم يتّخذ في طهران ولا في بيروت، بل اتخذته منفردة، ومن دون مشاورات، القيادة العسكرية لـ”حماس” في غزّة ممثلة بكتائب عز الدين القسّام، حتى إن القيادة السياسية لحماس في الخارج لم تعلم به، لأسباب بعضها أمني وبعضها مرتبط، على الأرجح، بوجود تبايناتٍ بين الداخل والخارج، بين السياسيين والعسكريين. فوق ذلك، يبدو أن إيران فوجئت بعملية “طوفان الأقصى” وبمداها وحجمها، كما تفاجأ حزب الله الذي استاء من وضعه على الهامش، ومن عدم استشارته في قرار حربٍ قد ينجرّ إليها مرغمًا، علاوة على أن ما فعلته “حماس” يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 يجعل “إنجازاته” في حرب تموز 2006 “هامشية”. أخيراً، ينبغي لفت الانتباه إلى أن المظاهرات المندّدة بالعدوان الإسرائيلي على غزّة، والتي امتدّت من جاكرتا إلى لوس أنجلوس، لم تمرّ بطهران.
——————————-
شرق أوسط جديد/ فاطمة ياسين
استخدمت إسرائيل أسلوب التحشيد الإعلامي والعسكري، تمهيداً للهجوم على غزّة، ومحاولة استئصال حركة حماس، وسط ضجيج وتحليلات كثيرة عن تغيّرٍ كبير يمكن أن يطاول الشرق الأوسط كله. تستند هذه التحليلات إلى إمكانية توسّع ميدان الحرب، ليشمل سورية وحزب الله وربما إيران، وحتى روسيا، باعتبارها موجودة عملياً في المنطقة، ويتحضّر الطرفان، الإسرائيلي والأميركي، بالفعل قبل البدء بالهجوم على غزّة، فقد دفعت الولايات المتحدة بالأسطول السادس إلى مياه المتوسّط الدافئة، وهذا الأسطول قوّة هائلة، تتكوّن من حاملتي طائرات على متنهما 175 طائرة وسفينة إنزال وأربع غواصات و15 مدمّرة وخمس سفن هجومية وخمسة طرّادات. ويشغل هذا الحشد العسكري أكثر من عشرين ألف شخص، وهي قوّة ذات قدرة نارية هائلة تُرابط حالياً على مقربة من شرق المتوسط، مما يعني أن الشرق الأوسط كله بالفعل أمام تهديد بتغيير ثوابته التقليدية، بدليل هذا الحشد العسكري، بالإضافة إلى ما يقرب من نصف مليون جندي احتياطي تجمعهم إسرائيل تمهيداً لحربها المقبلة، وقد بدأت بمسح أحياء في غزّة، كما حطّمت مدرّجات مطاري دمشق وحلب، واتّخذت احتياطاً عسكرياً مكثفاً في الشمال قبالة حزب الله.
يريد التحالف الذي يتشكّل حالياً حول إسرائيل تحييد روسيا، من خلال وضع الأسطول السادس على أهبة الاستعداد، وقطع طرق إمدادٍ محتملة عبر مطارات سورية، والسيطرة النارية على جنوب لبنان، حيث الخطر كبير من حزب الله، لتبدأ بعدها إسرائيل دخول غزّة بعد عزل الجبهات المحيطة. ولكن هل يكفي دخول غزّة، وربما تقطيعها بالمفارز العسكرية الإسرائيلية، بما يفقدها هويتها الجغرافية، حتى يتغيّر الشرق الأوسط؟
إعادة احتلال غزّة هو عملياً عودة إلى الوراء، وبالتحديد إلى ما قبل أغسطس/ آب عام 2005، حين قرّرت إسرائيل فك الارتباط من جهة واحدة، وترك غزّة وشأنها، لتجد نفسها بعد ما يقارب 20 عاماً تعود إليها. لا تمتلك الجارة سورية عملياً ما يمكنه صدّ هجمات إسرائيل الجوية، وهي غير قادرة على القيام بأي مبادرة عسكرية. وتشكِّلُ حسابات الداخل اللبناني بالنسبة لحزب الله أولوية، وبالتالي ما يمكن أن تُحدثه هذه الحرب هو إضافة عقدة جديدة إلى تعقيدات الشرق الأوسط.
استغرق الأمر نصف قرن تقريباً وحربيْن عالميتين ومعاهدات دولية عدّة، قبل أن تتحدّد معالم الشرق الأوسط الحالي، ثم خلا هذا الشرق من الاستعمار بمفهومه القديم، وتسلّمت قيادة البلاد سلطات “وطنية” ذات أشكال عسكرية غالباً، أو ممالك تمارس السياسة بشكل مباشر، ولم تفلح الثورات العربية التي انفجرت على مرحلتين منذ عام 2010 في تغيير المعادلة التي يقوم عليها الشرق الأوسط. سقط الحكّام في مصر وتونس وليبيا واليمن، وغرقت سورية في أتون حربٍ مدمّرة، وبقيت في جميع هذه الدول بنية النظام نفسها التي تقوم على معاداة الديمقراطية، وعلى النمط الاستهلاكي، وانتشار الفساد، والاعتماد بشكلٍ مُفرط على الدعم الخارجي، ولم تفلح كذلك الثورات في أفريقيا التي جرت في التسعينيات بزحزحة المعادلة عينها، رغم ارتباط الشرق الأوسط بشكل وثيق بأفريقيا وسرعة تأثّره بما يجري فيها، وشهدت أفريقيا في الآونة الأخيرة موجة ثانية من التغييرات التي رعاها العسكر على شكل انقلاباتٍ من دون أن يكون هناك دليل واحد على أن النظم الشرقية يمكن أن تتزحزح عن تقاليدها التي أرستها الاتفاقيات قيد شعرة. ورغم مرور هذا الشرق بنفق انهيار الشيوعية، وما أحدثه ذلك من جلبة وفوضى عارمة، لكن كل شيء بقي على حاله، وطوّرت، مع الوقت، بلدان الشرق مناعة ضد التغيير. والآن بعد عملية طوفان الأقصى، يجري الحديث عن تغيّرٍ في الشرق الأوسط، فهل يكون هذا الزلزال العسكري من القوّة بحيث تميد الأرض ويحدث التغيير بالفعل؟ وفي أي اتجاهٍ سيكون؟
—————————–
ليس على الفنّ أن يتوقّف في الحرب/ رشا عمران
مع بداية الحرب الإسرائيلية المجنونة على غزّة، أعلنت إدارة مهرجان الجونة السينمائي المصري تأجيله في دورته السادسة إلى وقت لاحق من الشهر الجاري (أكتوبر/ تشرين الأول)، وبعده أعلنت دار الأوبرا المصرية تأجيل فاعليات مهرجان الموسيقا العربية، تبعهما مهرجان القاهرة السينمائي الذي كان يفترض أن تبدأ دورته الجديدة في منتصف الشهر المقبل (نوفمبر/ تشرين الثاني). وجرى إلغاء مهرجانات فنية عديدة في الوطن العربي بسبب ما يحدُث على أرض غزّة، ومنها أيام قرطاج السينمائية. وأرى إلغاء المظاهر الاحتفالية المصاحبة عادة في مهرجانات من هذا النوع، كالحفلات الصاخبة وظهور النجوم على السجادة الحمراء مثلا، ما كان يجب أن يعتمد في كل المهرجانات الفنية والثقافية المجدولة في الفترة الحالية؛ أي أن تستمر الفاعليات الثقافية وتلغى المظاهر الصاخبة والمستفزّة للناس، وأن يُحشد لحملة تبرّعات ضمن هذه المهرجانات تخصّص لغزّة.
قد يرى بعضُهم أنه لا يوجد أي معنى للفن والإبداع في زمن الحروب وانتشار رائحة الدم والموت، ويرى آخرون أن الانخراط في فاعلياتٍ فنّية وثقافية في هذا الزمن هو بمثابة التجاهل لما يحدُث والتعامي عنه والاستعلاء على ضحاياه. تُغذّي وجهة النظر هذه مظلومياتٍ واقعيةً يتبنّاها بعض ضحايا الحروب السابقة والكوارث البشرية المشابهة (مثل كثر منا نحن السوريين حاليا). وفي المقلب الآخر، هناك من يرى أن لا معنى لإيقاف الحياة لأن حربا ما قائمة في مكان ما قريب، بل يجب أن يكون ذلك مدعاة للانغماس أكثر في مباهج العيشن لكون الحياة مرحلية وقصيرة والموت قريبا ولا ينتظر أحدا.
تستحقّ وجهتا النظر هاتان التفكير والتقدير والتفهّم، فمن جهةٍ ما يشعر ضحايا الحروب أنهم عرضةٌ دائما لسؤال الإحساس بالخذلان والمرارة وعدم الفهم، لماذا تسير الحياة في مكان آخر، بينما هم ضحايا إجرام وموت همجي يومي. وهذا في كل الأحوال سؤال قديم جدا طرح تاريخيا عبر الفنون، سواء في الموسيقا أو الفن التشكيلي أو في الأدب. ولا يبدو أن الإجابة عنه سوف تكون في المتناول، طالما أن منطق القوة والاستعراض والاستعلاء هو الذي يسود ضد الرحمة والتعاضد والتشاركية على هذا الكوكب. ومن جهة أخرى، يدفع فرط الموت وعبثيته البشر نحو التعلق بالحياة أكثر في محاولة لدفع الموت القريب أو تأجيله.
ولكن عدميةً مطلقةً في الحالتين السابقتين، تساوي الموت بالحياة، بحيث يتم تحييد كل ما هو كفيل بتغيير المعايير الموجودة لصالح استمرار الحال على ما هو عليه: استعراض مدمّر للقوة العسكرية والاقتصادية يغذّي التفوّق العرقي والطبقي والقومي، وينتج مزيدا من الفاشية التي تدمّر لا البشرية فقطن بل كوكب الأرض كله، بسبب صراعات المصالح والتفرّد بالسيطرة على موارد الكوكب. أما أدوات التغيير فتتمثل أكثر ما تتمثل في الفنون والإبداع والثقافة، حيث تُظهر القدرة الأكبر على فضح آليات التحكّم والسيطرة، والتي هي الأجدر بتفكيك علاقاتها المتشابكة، وكشفها أمام المجتمعات في المسيرة الطويلة لتغييرها واستبدالها بمعايير تُعلي من شأن العدالة والمساواة والتآخي والتشارك ونبذ خطاب الكراهية والعنصرية الذي يزداد غلوّا يوما وراء يوم.
لن تستطيع قصيدة وقف الحرب حتما، ولن يستطيع فيلم سينمائي ذلك، ولا عمل مسرحي، ولا تقدر لوحةٌ تشكيلية أو مقطوعة موسيقية علي وقف صاروخٍ قاتلٍ مصوّب نحو مشفى يضم أطفالا ونساء، لن تنقذ الفنون أحدا من موتٍ عشوائيٍّ مجنون، لكن تراكمها يمكنه أن يشكّل ذاكرة جمعية تكترث لقيم الجمال والحق والحياة ضد الموت والقباحة والقتل، خصوصا في وقت الحروب الطاحنة، فهي من أشكال المقاومة السلمية ضد جعجعة السلاح والعسكر، وهي من طرق فهم العيش والحياة وإنتاجهما في وقت تسيّد الموت والعدم، وهي من وسائل التأسيس لمستقبل ما بعد الحرب، المستقبل الذي تحاول القوى المسيطرة على كوكب الأرض اليوم تخصيصًه لفئاتٍ يجري القول إنها الأصلح للبقاء، بوصفها الأقوى والأغنى في استعارة حديثة للنازية، واعتمادها منطقا يرفع شعار مكافحة الإرهاب والقضاء على الإرهابيين الذين هم شعوب العالم الثالث المحكومة بمنظوماتٍ استبداديةٍ سياسيةٍ ودينيةٍ واجتماعية، تحارب أول ما تحارب الفنون والثقافة والإبداع، وتنظر إلى الموت في أكبر تماهٍ مع القتلة والمجرمين، تمارسه مجتمعات تعاني من ويلات الحروب وأهوالها.
—————————
فضيحة في غزّة/ رشا عمران
لم يسبق، في التاريخ الحديث، أن انفضح المجتمع الدولي وظهرت حقيقته كما يحدث في هذه الأيام، إثر عملية طوفان الأقصى وما تلاها من حربٍ مجنونةٍ تشنّها إسرائيل على قطاع غزة، تستهدف فيها كل مفاصل الحياة في غزّة، بما فيها المدنيون والأحياء والمجمّعات السكنية والمستشفيات والمدارس والأسواق ومراكز الإيواء. يترافق ذلك مع فرض حصار شديد على القطاع، تم فيه فصل الكهرباء وشبكة الإنترنت والمياه والدواء والغذاء مع قصف كل المعابر التي يمكن أن تكون منفذا لإيصال المساعدات إلى المحاصَرين تحت النار، ومع تهديد صريح إلى الدول التي تحاول إيصال المساعدات إلى غزّة. باختصار، تنفذ إسرائيل اليوم واحدة من أكبر حروب الإبادة ضد الفلسطينيين برعاية المجتمع الدولي ودعمه وحمايته. ولا تنفع اليوم محاولة إلقاء اللوم علي حركة حماس وتحميلها مسؤولية ما يحدُث، لكن ما يحصل إبادة فلسطينيي غزّة وتفريغ القطاع ومنحه للمستوطنين ومحاولة تهجير من يتبقى من سكانه علي قيد الحياة أو توطينهم في سيناء المصرية (هناك دعوات إسرائيلية إلى الغزّيين للتوجه نحو مصر)، وهي فكرة ومخطّط قديم لدى إسرائيل.
واللافت في هذه الحرب كمّ المبالغات في الميديا العالمية، وعلى لسان زعماء في العالم، (تصريحات الرئيس الأميركي بايدن، التي حاول البيت الأبيض التراجع عنها) عن همجية الفلسطينيين ووحشيتهم واعتماد صور غير حقيقية لما يحصل (بعض الصور من إدلب التي تقصف بالتزامن مع حرب غزة من روسيا والنظام السوري). وذلك كله لتجييش الرأي العام العالمي ضد الفلسطينيين وتبرير الإجرام الإسرائيلي (بوصفه ردّ فعل طبيعياً)، وتحقيق أهداف، ليست فقط إسرائيلية، بل هي أيضا دولية، غالبا تتعلق بترتيب جديد للشرق الأوسط، ليس ما يحدث في سورية والإقليم بمنفصل عنه بحال من الأحوال.
اللافت أيضا إطلاق الأكاذيب من الغرب عما يحدث حقيقة على الأرض وتبنّي الرواية الإسرائيلية بالكامل، والتي يتّضح تلفيقها يوما بعد يوم على لسان الإسرائيليين أنفسهم. لكن المجتمع الدولي لا يريد رؤية ذلك، ويستمر بالدعم غير المشروط لإسرائيل، مانعا أي مظهر من التعاطف مع الفلسطينيين، إلى حدّ منع مظاهراتٍ ضد الحرب على غزّة واعتقال من يحملون العلم الفلسطيني، وفصل من يؤيدون الفلسطينيين علنا من وظائفهم (في كندا تم فصل طيار مصري الأصل، لأنه وضع علم فلسطين صورة شخصية على حسابه في فيسبوك). طبعا يبقى الأكثر سوريالية خبر فصل الممثلة الإباحية لبنانية الأصل ميا خليفة من مجلة بلاي بوي بسبب نشرها فظائع ارتكبها الجيش الإسرائيلي على حسابها على “تويتر”. ما يطرح سؤالا مهما بشأن الحرّيات السياسية وحرية التعبير التي يفاخر بها الغرب، وحول ازدواجية المعايير التي لطالما كانت نقطة سوداء في عين المجتمع الدولي (الديمقراطي)؛ والتي تجعلنا، في نظر بعض دوله، لسنا أكثر من حيوانات بشرية (قالها أخيرا وزير الحرب الإسرائيلي)، نستحقّ الموت، أو على الأقل حياتنا أو موتنا لا تعنيان أي شيء للعالم المتحضّر.
المدهش أكثر أن هناك عربا كثيرين، منهم مثقفون، يتبنّون هذه النظرية، مثلما يتبنّون رواية إسرائيل عن حرب غزة الحالية. فهم يؤكّدون في حواراتهم وكتاباتهم على وسائل التواصل أن إسرائيل محقّة بما تفعله بغزّة حاليا، وأن مقاومي “حماس” وغزّة هم مجموعة من الهمج الذين يأسرون فتياتٍ إسرائيلياتٍ بقصد السبي والاغتصاب على الطريقة الداعشية، وأنهم هم المعتدون وهم يجرّون ويلات الحرب إلى المنطقة بأسرها، فعليهم وحدهم تحمّل النتائج.
يجير هؤلاء غزة والقضية الفلسطينية كلها لصالح “حماس”، وكأن قضية فلسطين والمقاومة فيها لم توجد قبل وجود “حماس”، وكأن إسرائيل ليست عدوّا قديما قتل وهجّر واحتل وحاصر وارتكب المجازر بحقّ الفلسطينيين والعرب؛ وكأنها، إسرائيل، ليست سببا مباشرا بكل ما عانته وتعانيه الشعوب العربية من استبدادٍ وقمع وفقر وجهل وانسداد الآفاق أمام أجيالها القادمة. أما أن يكون بعض هؤلاء من السوريين الذين هجّرهم ونفاهم وفتك بحياتهم نظام الأسد الذي لم يكن ليبقى، رغم كل ما ارتكبه من فظائع وجرائم، لولا دعم إسرائيل والمجتمع الدولي الداعم من دون شرط لإسرائيل، فتلك متلازمةٌ يجب البحث عن اسم جديد لها يتناسب مع حجم فضيحتهم.
——————————-
حرب غزّة… المفاجأة والصدمة/ بشير البكر
أبرز مسألة في الحرب التي شنّتها حركة حماس في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الحالي هي المفاجأة. ورغم أنها تعدّ من بين الشروط الأساسية في كل الحروب، فإن المفاجأة في هذه الحالة جديرة باهتمام خاص، كونها الوجه الآخر للفشل الاستخباراتي الإسرائيلي الفاضح على عدّة مستويات، والذي يمكن تقدير حجمه الأولي من خلال عدم وجود استعدادات لمواجهة عملية عسكرية من غزّة، يمكن أن تكبّد إسرائيل خسائر بالحجم الذي تعرّضت له في اليومين الأولين. ولا يقتصر الفشل على سوء التقديرات أو القراءات الإسرائيلية المستخفّة بالحالة العسكرية التي وصلت إليها قوة “حماس”، بل يتجاوزها إلى النظام الأمني الذي بنته إسرائيل على حدود قطاع غزّة، وصرفت عليه مبالغ كبيرة، حيث تجاوزت كلفة الجدار الأمني بطول تسعة كيلومترات أكثر من مليار دولار، بالإضافة إلى فشل الرصد من خلال الطائرات المسيّرة والكاميرات الحرارية والأقمار الصناعية والتصوير من الجو الذي تقوم به طائرات التجسّس المتخصّصة، بالإضافة إلى العملاء والمخبرين والتعاون الأمني مع أجهزة السلطة الفلسطينية الذي يعدّ أحد ضمانات الأمن الإستباقي الإسرائيلي.
أعقبت حرب أكتوبر/ تشرين الأول، قبل 50 عاما، سلسلة من التحقيقات الاسرائيلية في التقصير والفشل في عدم وجود أي تقديرات لاحتمال حربٍ عربية ضد اسرائيل، وشملت حتى رئيسة الوزراء الإسرائيلية في حينه غولدا مائير، التي مثلت أمام لجنة غرانات. ورغم أنها استطاعت أن تفلت من الإدانة، فإن الرأي العام ووسائل الإعلام في إسرائيل وخارجها حمّلوا حكومتها مسؤولية الفشل في عدم استشراف حرب كبيرة، شنّتها كل من مصر وسورية، وتمكن الجيشان، المصري والسوري، خلال ساعات، من عبور خطوط حرب حزيران/ يونيو (1967). ومن المبكّر اليوم تشكيل لجان تحقيق مماثلة في الاختراق الكبير الذي قامت به حركة حماس في غزّة، ولكن الوقت الذي تتحدّد فيه المسؤوليات سيأتي، وتتكشّف الحقائق. وإلى حين ذلك، تعدّ هذه المسألة الشاغل الأساسي للرأي العام والإعلام في اسرائيل وخارجها، الكل يتساءل عن غياب الأجهزة المتخصّصة بالأعمال الاستخباراتية والرصد والمراقبة وتحليل المعلومات. وعلى هذا الأساس، ستبقى هناك صدمة كبيرة لن تشفى منها إسرائيل، على الأقل، في وقت قريب، وخصوصا أن كلفتها كبيرة على مستوى الأرواح، والحالة النفسية للمجتمع الإسرائيلي الذي وصل إلى حالة من الانفصام عن الواقع، ولم يعد يحسب أي احتمال لرد فعل شعبٍ يعيش تحت احتلال استيطاني استعماري، وصار يتصرّف على اساس أنه حسم الصراع لصالحه، طالما أنه يمتلك جيشا قويا وعشرات الرؤوس النووية، عدا عن أن بعض العرب يتسابقون للتطبيع مع إسرائيل بلا ثمن، وهي ترفُض معادلة السلام مقابل السلام، وأخذت تفرض على بعض هؤلاء مقابلا، كي تقيم علاقات معهم.
ما هو أخطر من الفشل الاستخباراتي عدم اهتمام أصدقاء اسرائيل في الولايات المتحدة وأوروبا، في تقدير عواقب ما يمكن أن تقود إليه الحكومات الاسرائيلية المتوالية، منذ مقتل إسحق رابين على يد متطرف يهودي عام 1995، لأنه وقّع اتفاق أوسلو مع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، ومن بعد ذلك، اجتياح الضفة الغربية عام 2002 واغتيال عرفات عام 2004، والتراجع عن اتفاق أوسلو، واتّباع سياسة استيطان مكثف، هدفها تهويد الضفة الغربية وتهجير أهلها. وتعمل حكومة إسرائيل الحالية التي يقودها المستوطنون على ذلك بوسائل مختلفة، ما حوّل الضفة الغربية، خلال الأشهر المنصرمة من هذا العام، مسرحا حيا لحرب المستوطنين على الفلسطينيين، بدعم جيش إسرائيل وشرطتها، وبإشراف رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. وكل عمليات القتل اليومي واقتحامات الضفة الغربية وفتح أبواب المسجد الأقصى للمستوطنين تجري، ولم تحظ بأي ردّ فعل من أميركا وأوروبا، بما في ذلك عدم تنبيه قادة إسرائيل إلى عواقب سياساتهم الاستعمارية.
——————————
فضيحة “معرض فرانكفورت”: حرية الإبداع تحت وطأة الاستقطاب السياسي/ سوسن جميل حسن
في بعض الدول، أو الأنظمة الاجتماعية والسياسية، تكون السياسة تابعة للفكر وناتجة عنه، وفي بعضها الآخر يكون الفكر تابعًا للسياسة وخاضعًا لها، وبالتي فإن القيود المفروضة على الإبداع ومستوى الرقابة يختلف أيضًا. هذا موضوع إشكالي، ولا يمكن القول إن هنالك حرية تعبير مثالية لناحية هامش الحرية الممنوح للمبدع، أو المفكر، أو المثقف.
المعروف أن المجتمعات الديمقراطية تحمي الفكر والإبداع، وتمنح المفكرين والمبدعين هامشًا كبيرًا من حرية الرأي والتعبير، وأن المجتمعات المحكومة بالشمولية والاستبداد هي مجتمعات منغلقة، أو مغلقة، الفكر والإبداع فيها تابعان للسياسة ومحدداتها، وإن حرية الرأي والتعبير مقيدة بشكل كبير، لكن هل هذه المقولة دقيقة وتعبر عن الواقع بشكل نزيه؟
وإذا كانت المجتمعات الديمقراطية تتميز بالعلاقة الجدلية بين السياسة والفكر، أو الثقافة، وهذا ما يحمي السياسة والثقافة من الجمود والانغلاق، فإن السؤال دائمًا ما يطرح نفسه عند كل محاولة ترمي إلى تدخل السياسة في الإبداع، كما السجال الجاري اليوم في ألمانيا بسبب إيقاف منح الكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي جائزة ليتبروم في معرض فرانكفورت للكتاب في دورته الحالية الخامسة والسبعين (18 ـ 22 أكتوبر/ تشرين الأول)، عن روايتها المترجمة إلى الألمانية “تفصيل ثانوي” (2022)، وهذه الجائزة تمنح للمؤلفين من الجنوب العالمي، مع التحفظ هنا على هذا التصنيف الذي يُطرح بديلًا عن العالم الثالث، أو النامي، الذين تم نشر كتبهم حديثًا باللغة الألمانية، ولقد حظيت روايتها بإشادة عدد كبير من النقاد، فيما انتقدها آخرون بشدة، بدعوى أن الرواية فيها “إشارات معادية للسامية”، كما جاء في قرار جمعية ليتبروم لمنح الجائزة: رواية عدنية شبلي هي عمل أدبي مشغول بدقة يحكي عن تأثير الحدود، وما تفعله الصراعات العنيفة بين الناس. وكانت هيئة المحلفين قد اتخذت قرارها قبل أشهر عديدة من قيام حماس بمهاجمة إسرائيل في السابع من هذا الشهر، تحت عملية طوفان الأقصى.
وجاء في صحيفة “تاز” مقال يشير إلى أن الرواية “تفصيل ثانوي” تشوّه سمعة إسرائيل، بوصفها أنها أداة قتل، فالإسرائيليون هم مغتصبون وقتلة، بينما الفلسطينيون هم ضحايا المحتلين، هذا هو الأساس الإيديولوجي واللا إنساني لكتاب طافح بهذه الصور النمطية.
هل هنالك ما هو أقدر وأهم من الأدب في معالجة القضايا السياسية والاجتماعية والأزمات وكل القضايا الإنسانية ومشاكل الشعوب؟ إنها رسالة الأدب الأولى، وهي رسالة سامية ونبيلة، لذلك هنالك ضحايا كثيرون دفعوا أثمانًا باهظة في سبيلها، ولأنهم آمنوا بها، آخرهم سلمان رشدي، الكاتب البريطاني من أصول هندية، الذي تعرض العام الفائت إلى اعتداء من متطرف إسلامي أدى إلى فقدانه إحدى عينيه، وسيتم تكريمه في المعرض.
*****
رواية “تفصيل ثانوي” الصادرة في عام 2017 هي رواية قصيرة (113 صفحة)، تقسم إلى قسمين، في القسم الأول الذي ينتهي في الصفحة 57، هنالك جريمة اختطاف واغتصاب وقتل فتاة عربية في صحراء النقب، موثقة، وقعت في 13 أغسطس/ آب 1949، من قبل كتيبة عسكرية إسرائيلية جاءت إلى صحراء النقب، عثر أفرادها على سقيفتين وبقايا جدار سقيفة غير مهدم، هي كل ما نجا من المكان “بعد القصف العنيف الذي تعرض له في بداية الحرب”.
افتتح الضابط الحديثَ شارحًا بأن مهمتهم الرئيسية في أثناء وجودهم هنا ستكون، “بالإضافة إلى ترسيم الحدود الجنوبية مع مصر، ومنع المتسللين من اختراقها، تمشيط القسم الجنوبي الغربي من النقب، وتنظيفه من بقايا العرب”. وكان حريصًا على ترسيخ فكرة أن لوجودهم هناك وصمودهم أهمية لا تقل عن انخراطهم في عمليات عسكرية محددة، فلهم دور مركزي في السيطرة على المنطقة، وتثبيت خط الحدود الجديد مع مصر، وتأمينه من محاولات اختراق المتسللين. تدور الأحداث في ذلك الزمن على أربعة أيام فقط، 9 أغسطس/ آب، وحتى 13 منه، تقع فيها عملية استهداف مجموعة من العرب مع جِمالهم قرب نبع ماء، بعد جولات استطلاع عديدة بحثًا عن المتسللين، كما يقول الضابط قائد الكتيبة، وخطف فتاة مع كلب.
بأمر من الضابط تمارس الإهانة والإذلال بحق الفتاة، وذلك بتعريتها أمام الجنود، إذ يقوم الضابط بشق ثوبها، وتعريضها لخرطوم ماء، وإجبارها على غسل نفسها بالصابون، ثم تسليط الماء عليها، كما لو أنه يغسل دابة، أو آلية، ثم يقوم الحلاق بجز شعرها، ودهن رأسها بالوقود من أجل القمل، وإلباسها ثيابًا من ثياب الجنود، فتبدو كأنها واحدة منهم، إلا عندما تهمهم وتصرخ وتحتج، فتعود، بلغتها التي لا يفهمونها، غريبة عنهم، تنتهي مأساتها في اليوم الثاني، بعد اغتصابها من قبل قائد الكتيبة، ثم تناوب العساكر عليها، وأخذها للدفن بعد إطلاق عدة رصاصات عليها.
يقوم السرد في هذا القسم على الوصف والمشهدية، فيبدو شبيهًا بالسيناريو، مع براعة في وصف المكان، وكأن السرد كاميرا تصوّر، حتى يوشك المكان أن يكون أحد أبطال السرد، والتمكن في رسم شخصية الضابط، الذي تعرّض إلى لدغة عقرب في أول ليلة، جعلت السم يتغلغل في جسده، والورم مع النخر والتقيح يتمادى على فخذه، والحمى التي تتفاقم وتتمكن منه، فتختلط قشعريرتها بقشعريرة الشهوة والغريزة، في لحظات يتمازج فيها الضعف البشري في أحط حالاته، مع الجبروت والغطرسة في أقصاها، إذ في لحظة اغتصاب الفتاة بتقييدها وسد فمها، يكون الضابط الواقع تحت سطوة الحمى، في أشد الحالات ضعفًا وبحثًا عن الدفء في جسد آخر.
في هذا القسم، أيضًا، تتم الإضاءة على هدف تواجد الكتيبة هناك، انطلاقًا من الأهداف المعلنة حينها، بحسب السردية الصهيونية، ففي وليمة العشاء التي جمع الجنود إليها يتحدث الضابط إليهم: “الجنوب لا يزال في خطر، وعلينا أن نفعل كل ما في وسعنا للصمود والبقاء فيه، وإلا سنفقده. علينا ألا نتوانى وبكل ما أوتينا من قوة وعزم لبناء هذا الشق من دولتنا اليافعة، وحمايته والحفاظ عليه للأجيال المقبلة، ما يُلزمنا بأن نخرج للبحث عن العدو بدل انتظار ظهوره ’فمن ينوي قتلك، عاجله بالقتل’”. ثم يستفيض في التذكير بالسردية المعروفة، من أن هذه أرض الأجداد، وأن العرب يرفضون فكرة عيشهم فيها بدافع قانون عاطفتهم القومية العقيم، وهم أهملوها وتركوها مهجورة قرونًا طويلة، من واجبنا طردهم منها نهائيًا. في تركيز، أيضًا، على البون الشاسع الحضاري بينهم وبين العرب “البدو”، الذين لا يعرفون غير قلع النباتات والرعي، فمواشيهم تبتلع كل ما يمتد أمامها من خضرة. وأنهم هم سيحولون النقب إلى منطقة مزدهرة ومتحضرة ومركز للتعلم والتطور والثقافة، كما فعلوا بمناطق الشمال، ويذكّرهم بعبارة وجدوها عندما وصلوا إلى المكان على جدار شبه مهدم: “ليس المدفع الذي سينتصر، إنما الإنسان”. هذه العبارة التي سترد في القسم الثاني من السرد.
في القسم الثاني، الذي يبدأ مع الصفحة 58، تتولى السرد فيه بضمير المتكلم صحافية في بداية عملها الجديد، ومنزلها الجديد، ومع زملاء عمل جدد طيبين، تشغلها قضية الحدود، ليس الجغرافية فحسب، بل الحدود بين الأشياء، في العلاقات، في السلوك، وفي كل أمر، وتشغلها التفاصيل الثانوية، وهي تبرر ذلك بعدم قدرتها على تمييز الحدود بما فيها المنطقية، ما يجعلها تخطئ في تقييم أمر ما، حتى إنها تتمنى أنها لم تسبب أي إرباك حين ذكرت الموقف مع الجندي على الحاجز العسكري، أو “حين أُفصح أننا نحيا تحت الاحتلال”، وفي جو حرب باستمرار منذ وقت طويل، حتى إنه “لم يبقَ كثير ممن هم على قيد الحياة قادرين على تذكر التفاصيل الصغيرة المتعلقة بشكل الحياة الذي كان سائدًا قبل ذلك”.
يشغلها أمر مقالة كانت قد قرأتها عن جريمة موثقة لخطف واغتصاب وقتل فتاة جرت في صباح ما، سيصادف بعد ربع قرن بالضبط تاريخ ميلادها، ما يشكل الربط بين القسم الأول والثاني من الرواية، فتتصل بكاتب المقالة لتستفسر منه حول التحقيق الذي أجراه، وهل هنالك وثائق يمكن أن يطلعها عليها، فيخبرها بأن الوثائق في متحف الجيش الإسرائيلي في تل أبيب.
هذا التفصيل الثانوي، مصادفة يوم ميلادها مع يوم الجريمة بفارق ربع قرن، هو ما دفعها إلى الشروع في رحلة البحث في اقتفاء أثر تلك الجريمة، بالرغم من فاجعيتها، لكن هل هي نرجسية منها؟ تتساءل، ربما، لكن بالنسبة إليها لا تحب حياتها، ولا الحياة بشكل عام، كل جهودها تنصب في البقاء على قيد الحياة، الأمر ليس له علاقة بالنرجسية، إنما بسبب عدم قدرتها على تمييز الحدود بين الأشياء، والحكم على الأمور بشكل عقلاني، لكن المفيد هو النظر إلى التفصيلات الثانوية، كأن يلفتها أمر الغبار أكثر من مقتل الشبان الثلاثة في البناء الذي فجرته السلطات قريبًا من مكتبها لأنهم متحصنون فيه، أو كمن لا يرى في لوحة أمامه إلا بقايا ذبابة غطّت عليها.
تقرر الذهاب بنفسها من الضفة الغربية إلى جنوب إسرائيل لاقتفاء آثار الجريمة، والبحث عن “التفاصيل الثانوية” حولها، تريد أن تطلع على المكان، وترجع إلى الوثائق، فتبدأ الرحلة التي من خلالها تحكي تاريخ المنطقة، تبدأ منذ احتيالها على تقسيم المنطقة إلى مربعات سكانية أمنية، لكل منطقة حدود صارمة في ارتياد ساكنيها مناطق أخرى بمنحهم بطاقات ملوّنة تخص أمكنتهم، فتستعير بطاقة هوية زميلة لها، إلى أن يصدمها الواقع بتغير الأمكنة كلها، يصدمها بمحو كثير من الصور التي خبرتها، أو تعرفها، عن المكان، والتي تشير إليها الخريطة التي برفقتها وتعود لفلسطين قبل 1948، هناك محو واضح للجغرافيا وما تحمل من معالم هوية سابقة. فالمشهد كله، مع الخريطة الإسرائيلية، يؤكد على غياب كامل لوجود ما هو فلسطيني فيه، في أسماء المدن والقرى المخطوطة فوق اليافطات، وفي لوحات الإعلانات المكتوبة بالعبرية، وفي المباني حديثة العهد، وفي الجدران الإسمنتية الفاصلة.
عندما لم توفق في الاهتداء إلى مكان الجريمة، أو الحصول على ما يطفئ ظمأها ويهمد فضولها حول تلك الحادثة التي شعرت أنها معنية بها بشكل خاص، كونها ولدت بعدها بربع قرن بالتمام، أفلتت من يدها، كعادتها في علاقتها مع الحدود، دليلًا محتملًا ظنت أنه يكمن في ذاكرة من بقوا في المكان، عندما أقلت سيدة سبعينية في سيارتها، لكنها لم توفق في فتح حديث معها، وبعد أن أنزلتها حيث أشارت، بدأ الندم يوترها فعادت لتبحث عنها، لكنها دخلت في منطقة عسكرية، وسمع إطلاق رصاص عندما واجهت جنودًا في المكان “فجأة يغمرني ما يشبه الحريق الحاد في يدي ثم صدري، يليه أصوات إطلاق نار بعيدة”، وتنتهي الرواية بهذه الجملة.
لماذا ربط هذا العمل الإبداعي بأيديولوجيا ما، بينما هي معاناة فردية مرتبطة بمعاناة جماعية؟ أليس للشعب الفلسطيني حق في أن يعبّر عن معاناته؟ وهل الصراع العربي الإسرائيلي، برغم كل تعقيداته التي تراكمت مع الزمن، ليس قضية واقعية وحقيقية؟ وهل أن يتحدث فرد فلسطيني ما زالت حياة أجداده نابضة في وجدانه وذاكرته وواقعه اليوم، هو تطاول على إسرائيل ومعاداة للسامية؟
إن رواية “تفصيل ثانوي” عمل أدبي إبداعي لافت، فيه ما يصور قسوة الشعور الدائم باليأس وانغلاق الحياة، وما تؤدي إليه الصراعات العسكرية المستمرة من تدمير وتهديد للحياة، جدير بأن يؤخذ بعين النقد الأدبية فقط، لا أن يخضع لمشرط السياسة، أو يحاكم بادعاءات تستند إلى أيديولوجيا ما، خاصة في دولة تدافع عن قيم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والحريات وحقوق الإنسان، وحق الشعوب في الدفاع عن سيادتها وتقرير مصيرها.
في العودة إلى مقدمة المقالة، فإن ما يظهر فرقًا جوهريًا بين حرية الإبداع والتعبير في المجتمعات الديمقراطية، وتلك الواقعة تحت سلطة سياسة وثقافة استبدادية، أن هنالك آراء كثيرة ومواقف تدافع عن شبلي، وعن ضرورة استقلال الثقافة عن السياسة، فقد كتبت المتحدثة باسم جمعية الكتاب في برلين إيفا ميناس: “إما أن يكون الكتاب يستحق الجائزة، أو لا يكون، في رأيي قرار لجنة التحكيم بشأن شبلي الذي اتخذ قبل أسابيع كان قرارًا جيدًا للغاية، وسحبُ الجائزة منها سيكون خطأً جوهريًا، سياسيًا وأدبيًا”.
وقال دنيز يوجيل في الوقت نفسه: إن رواية “تفصيل ثانوي” بعيدة كل البعد عن الإشارات المعادية للسامية بشكل واضح.
بينما الأصوات الرافضة تصر على أن الرواية فيها إشارات إلى معاداة السامية، ويربط بعض منها ضرورة المنع بما يجري الآن في غزة وإسرائيل، كما جاء في صحيفة “تاز”: ربما لا يتم ذكر العنف ضد المدنيين الإسرائيليين، لأنه ينظر إليه على أنه وسيلة مشروعة في النضال من أجل التحرير من المحتلين، وهذا، بحسب الصحيفة، هو الأساس الأيديولوجي وغير الإنساني للكتاب. بينما لا ترى تلك الأعين الإبادة الجماعية التي تحصل في غزة، ويحاكم الشعب الفلسطيني بكامله على أنه حماس فقط.
ولا بد من الإشارة إلى أن جمعية ليتبروم قالت بشأن الجائزة والتطورات الأخيرة: بسبب الحرب في إسرائيل، قررت (مع الكاتبة) إلغاء حفل توزيع الجوائز في معرض فرانكفورت للكتاب، حسبما كتبت على موقعها الإلكتروني، فلا أحد يشعر بالرغبة في الاحتفال الآن. ولكن الكاتبة تقول إن القرار فُرض عليها، كذلك فإن جمعية النهوض بالأدب في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية ترغب في الاحتفاظ بالجائزة عن الرواية، رغم الانتقادات.
كما علق مدير معرض كتاب فرانكفورت يورغن بوس على الأحداث في الشرق الأوسط قائلًا: “إننا ندين الإرهاب الهمجي الذي تمارسه حماس ضد إسرائيل بأشد العبارات الممكنة. إن الإرهاب ضد إسرائيل يتناقض مع قيم معرض فرانكفورت للكتاب ويقف المعرض بتضامن كامل إلى جانب إسرائيل”، وبالتالي فإن الهدف هو “إبراز الأصوات اليهودية والإسرائيلية بشكل خاص في المعرض”!
ومن ردات الفعل على هذا القرار كان احتجاج ما يقارب 600 كاتب وناشر ومترجم حول العالم عليه، من بينهم ثلاثة نوبليين: آني إرنو/ عبد الرزاق قرنح/ أولغا توكارتشوك.
أخيرًا، كتبت جمعية ليتبروم في وقت سابق، ردًّا على طلب من منظمة حقوق الإنسان أنها “تفكر بشكل مكثف في شكل وتوقيت حفل توزيع الجوائز، في ضوء الحرب في إسرائيل، المقرر عقده في معرض الكتاب. والجائزة نفسها مبنية على معايير أدبية”، ما يعيد طرح السؤال مرة أخرى: أين هي حرية الفكر والإبداع من الاستقلال عن الاستقطاب السياسي؟
—————————
أنا لست بافلوفيًا بل غزّاويًا/ سلام الكواكبي
مع بدء العدوان الروسي على أوكرانيا، انتسبت لمجموعة افتراضية على إحدى وسائل التواصل الاجتماعي تحت عنوان “من أجل حرية أوكرانيا”. وكان هدف المجموعة الأساسي هو دعم نضال الاوكرانيين ضد الاحتلال الروسي مع تركيز الضوء على الابعاد الإنسانية الكارثية لهذا العدوان الآثم. واثناء أشهر العدوان، كنت متابعًا لصيقًا لهذه المجموعة ومتفاعلاً في أغلب حملاتها التي أدانت الغزو الروسي وجرائمه. واستمر تفاعلي الإيجابي مع المجموعة حتى جاء يوم السابع من تشرين الأول / أكتوبر الماضي بمستجداته الفلسطينية والشرق أوسطية، لاكتشف في اليوم التالي بأن عنوان المجموعة قد تغيّر دون أية محاولة، ولو شكلية، لاستشارة أعضائها وصار “من اجل حرية اوكرانيا وإسرائيل”.
هذا التغيير وضعني أمام مجموعة من الأسئلة التي تطرح نفسها بشكل تلقائي في مثل هذه المواقف. وبعد أن قمت بتوجيه رسالة مفصّلة إلى ميّسر المجموعة منددًا بهذا الدمج، وقمت بالانسحاب منها، توقفت أمام تعليقات المديح والتأييد لمثل هذا الانحراف عن هدف المجموعة من العدد الأكبر من الأعضاء. فهل كان التزامي بالانضمام إليهم والتضامن الى جانبهم مع قضية الشعب الأوكراني مجرد حسابات خاطئة دفعني اليها حماسي ضد المعتدي الروسي مًسقطًا بذلك تجربة وطني سوريا ومتجاوزًا الاختلافات التي يمكن أن تكون عميقة؟ لم تتأخر الإجابة التي استندت فيما استندت اليه لرفضي القاطع للمنطق البافلوفي الذي لطالما هاجمته وندّدت به في مختلف المجالات السياسية والثقافية والمجتمعية.
لن يتغير إذًا موقفي من الحدث الأوكراني، وعدالة قضية الشعب الأوكراني، كرد فعل على تضامن الرئيس فلوديمير زيلينسكي مع حكومة تل ابيب إثر هجوم فصائل فلسطينية على أراضٍ فلسطينية محتلة. كما لم أبنِ موقفي مما حصل ويحصل في غزة استنادًا على تبعية حركة حماس لطرف آخر من معادلة القتل في سوريا، ألا وهو جمهورية إيران الإسلامية. ولن يؤثّر في تضامني مع الشعب الفلسطيني قيام بعض من اغتصب قيادته، دينيًا وسياسيًا، بتأييد قتل شعبي السوري على يد الطغاة. ولن أتراجع عن تحديد الجاني والضحية بوضوح وصوتٍ عالٍ، إن انتصر المتظاهرون في تونس لغزة وهم يرفعون صورًا لبشار الأسد.
إدانتي لقتل المدنيين واختطافهم من قبل بعض مسلحي حماس، لا تؤثّر بسعيي إلى النظر إلى السياق بشموليته دونًا عن التوقف عند جزئياته، على أهميتها وانسانيتها. وسأستمر باعتبار من يعتمد المعايير المزدوجة والمتناقضة بالنظر إلى الحدث الفلسطيني كمن يستخدم واقيات النظر التي توضع للبغال حتى لا تتشتت نظراتها ذات اليمين وذات اليسار. وسأجد في مظاهرات التضامن الحاشدة في الدار البيضاء وفي الرباط حدثًا إيجابيًا ومؤشّرًا على وعيٍ قومي وانساني يتقاسمه أخوتي في المغرب رغم عدم خروج عُشرهم للتنديد بالهجمات الوحشية التي تعرّض لها شعبي وموطني طوال السنوات السابقة. وسأقرأ ما تنشره صحيفة لبنانية، لطالما بررت قتل وتهجير السوريين، من نصوصٍ مهمة تُعنى بالحدث الفلسطيني، وربما أعاود نشرها إن لزم.
لن أكون المتابع الساذج عفوًا أو انتقاءً لخطابات الطغاة إن هم تبنّوا قضية غزة قولاً لا فعلاً كعادتهم في وطن عربي ابتلى بالاستبداد المستدام. كما أنني سأستهجن مواقف شركائي في قضيتي السورية إن هم فاضلوا بتضامنهم، مبرئين أنفسهم من الموقف الإنساني والأخلاقي الواجب تجاه فلسطين. وإن دافعت حركة فرنسا الأبية ورئيسها التاريخي جان لوك ميلانشون، المعروف بمواقفه المخزية من الملف السوري، وحيدة عن الشعب الفلسطيني في ساحة فرنسية يهيمن عليها الرعب من اتخاذ الموقف، فسأشد على يده دون أن أنسى هزال موقفه من قضية شعبي السوري.
الموقف السياسي أو الأخلاقي او الإنساني يُبنى على القناعة والمحاكمة العاقلة ولا يمكن ان يُبنى على المقارنة أو القياس أو الانتقاء أو رد الفعل. فكما نندّدُ بازدواجية المعايير لدى الغرب “الحرّ”، حيث مهبط حقوق الإنسان وشرعتها، لا يمكن لنا إلا أن نتضامن مع كل القضايا الإنسانية والأخلاقية العادلة مهما خذلنا بعض المقربين منها نفاقًا أو عقيدةً.
وأخيرًا وليس آخرًا، فأبغض الأحوال هو إن كنّا نعاني من عقدة النقص التي تصيب في مقتلٍ عدداً ممن يبحثون عن اندماجٍ يُحابي مستضيفيهم في بلدٍ غربيٍ، ويعتقدون بأنهم إن تخلّوا عن المبادئ الكونية التي تعترف بحقوق الشعوب في تقرير مصيرها، سيحظون بنظرة رضا من الرجل “الأبيض”. يُلاحظ ذلك بشكل متصاعد في أوساط بعض المهاجرين، وخصوصًا منهم، أولئك الذين يسعون الى اندماج ظاهري وقادرين على أن يدفعوا ثمنه تخلياً عن كل المبادئ التي ادّعو يومًا بأنهم على صلة بها.
ما يؤلم في حمأة النقاشات والجدالات السائدة في هذه الأيام، بروز أصوات من داخل إسرائيل تُندّد بصريح العبارة بما يقترفه جنود الاحتلال أكثر مما يجرؤ بعض أقرباء القضية على البوح به. ومن شبه المقرف والباعث على الغثيان، مزايدة البعض ممن هم بعيدون عن مسرح الأحداث وغير مرتبطين بمآلاته، في مدح المعتدي وفي الدفاع عن وحشيته، مقابل أن يتقرّبوا من المستعمر الجديد ويُطبّعوا معه بأمرٍ من المستعمر القديم.
المدن
—————————-
حول هستيريا التهجير/ صبا مدور
كأنها نبوءة من غسان كنفاني كتبها قبل ستين عاما، محملاً بذكرى اللجوء من يافا، بهواء بساتين برتقالها، وبالمأساة التي كان على اللاجئين أن يعيشوها، قبل أن يقرروا العودة بأي ثمن، شاهراً وصيته: “لا تمت قبل أن تكون ندا”، فتحول اللاجئ والمكسور بفعل الاحتلال إلى ند للقوة العاتية، وللخذلان المستمر، وليورث روحه المتطلعة للعودة، قبل أن يموت.
هذا الميراث الفلسطيني، ليس ترفا، ولا هو بالأمل المهدور، هو في حقيقته بناء متراكم من الغيظ، والتجربة المرة، والتمسك بالارض. هو في حقيقته درس متصل من خبرات 75 عاما من اللجوء والشتات والعيش المر في ظل الاحتلال، وفي جحيم الخيانات الكثيرة. ان تكون ندا لعدوك، هو أن تكون قادرا على البقاء وحدك، وأن لا تموت قبل أن تخلق عوامل بقائك في شعبك.
لم يكن لغزة أن تعيش قيامتها لولا هذا النسيج المتصل من الرغبة بالحياة التي يهون دونها الموت، حتى ليبدو تكافؤ القوى بلا معنى ولا أهمية، لذلك فلا أفق ولا مستقبل لمخططات التهجير الجديدة، وهي تبدو استعادة للتاريخ اقرب للملهاة منها الى المأساة، فكيف يمكن تصور تكرار ما حدث عام 1948 ونحن ما زلنا نعيش تداعيات مأساته حتى هذا اليوم بعد عدة أجيال.
أدرك طبعا أن القوة الغاشمة، وفقدان كل شئ، متبوعة ببصيص أمل مصطنع، في أرض أخرى، قد يبدو مغرياً لمن يخطط له، لا سيما وأن الأمر لن يحتاج لغير رحلة مكيفة نحو الضفة الثانية من الحدود، إلى سيناء الفسيحة، لكن الواقع أكثر تعقيداً بكثير، حتى كان المخطط يبدو غبياً وحالماً، لكن المقترحات الغبية مثل هذه، لن تتطلب الإقناع، لأنه ببساطة مستحيل، بل ستحتاج للقسر، والإرغام، ستحتاج للعنف الأقصى والتجويع، والتنكيل بكل مظاهر الحياة، والقدرة على العيش، وحينها قد يجد الفلسطيني نفسه محاصراً بين الموت في أرضه أو العيش في أرض قريبة.
خطورة مخطط التهجير الجديد في غزة، ربما يكمن في تواطؤ الغرب لتنفيذه، وفي هشاشة القدرات العربية للاستمرار في مواجهته، لكن ذلك لا يعني نجاحه، ليس فقط لأنه غير قانوني وغير إنساني ومكشوف الدوافع، لكنه أيضا جاء في سياق فلسطيني مختلف تماما عن زمن النكبة، حينما حمل الهاربون من الاعتداءات والقتل مفاتيح بيوتهم، ظانين أنهم سيعودون قريبا، فلم يعد منهم أحد. هذه المرة يفرض السياق الجديد أنماطه، فهناك ميراث من الأسى، ومن التجارب المريرة، ووعي بما يجري، بل ووعي بما يمكن أن يحصل سواء جرى التهجير أو فشل.
ويتعلق الأمر ايضا بمواقف الدول المعنية، لا سيما مصر والأردن، وكلاهما لا يحتملان مسؤولية الانخراط في هذا المخطط، ولا يطيقان تداعيات تنفيذه، لكن الضغط الذي يمارس على الفلسطينيين اليوم بالقذائف والنار والموت الأعمى المتصل، وبالتجويع والحصار وقطع الأمل، كل هذا ستوازيه ضغوط كبيرة على الدول المعنية، تشمل الوعود الاقتصادية، لا سيما لمصر الغارقة في الديون، وقد تواجه أزمات اجتماعية وسياسية بسبب ذلك.
ولا يقتصر الأمر على تدمير غزة، بغرض تهجير أهلها، فلو فشل هذا المخطط الذي يكاد أن يتحول إلى نمط من الهيستريا، لن يكون مفاجئا أن يجري تفجير الحرب في ساحات أخرى، ولن يكون بعيدا ان يتحول ذلك إلى حرب إقليمية شاملة، وحينها فإن المراهنات قد تكون صفرية، ولربما يتم تنفيذ مخطط التهجير تحت غطاء الحرب الشاملة.
هل هو محض خيال؟ ربما يكون كذلك، لكن، النار الحالية في المنطقة، لم تعد وفقا لأي تحليل عصية على الامتداد، ولن يكون بمستطاع دولة عربية أو شرق اوسطية أن تبقى بعيدا عن الشظايا، في حال امتدادها إلى لبنان وسوريا، وربما العراق، أو حتى إيران، رغم أن الأخيرة ستسعى للاستفادة من ميزة الرغبة الاميركية بتجنبها، وبكفاية من يقاتل نيابة عنها من أذرع مسلحة تعمل في محورها.
المهم في كل هذه السيناريوهات، أن الوضع خطير، وأنه قد يحصل تهجير جزئي بالفعل، وذلك سيكون بحد ذاته تطوراً سيقود لمزيد من التصعيد في السنوات القادمة، ونتائجه أكثر شمولية مما حصل في تهجير بشار الاسد لنصف الشعب السوري، الذي أنتبه له الجميع، ثم اشاحوا النظر عنه.
————————–
طوفان وأكاذيب ودموع/ صبا مدور
لم تكن الحملة الإعلامية الغربية المكثفة ضد حركة حماس، غير مسبوقة، فقد حدثت من قبل مع العراق وصدام حسين عشية حربي تحرير الكويت 1991، وغزو العراق عام 2003، كما حدث منذ نحو عامين ضد روسيا وبوتين، وفيها جميعا بدا الغرب موحدا ومتماسكا، والإعلام (الحر) منقادا بطريقة تدعو للتساؤل فعلاً إن كان هناك ما يكفي من الحرية لظهور الصوت الآخر.
واقعيا، بإمكان الخطاب الغربي ومنه وسائل الإعلام، أن يسيطر على المجال العام الدولي، بسرعة ومهارة واحترافية عالية، وأن ينشر رؤاه من خلال إغراق إعلامي يحيط بالجمهور من كل جوانبه، حتى يتأكد من اختراق وعي الأفراد، لا سيما في الغرب ذاته، حيث يكون إبقاء الراي العام في دائرة البرامج السياسية للنخب، مهماً وجوهريا لتحاشي أي موانع شعبية من الصعب تجاوزها دون خدش المظاهر العامة للديمقراطية.
منذ اليوم التالي لبدء عملية طوفان الأقصى، تجند الإعلام الغربي ومجمل الخطاب السياسي للحديث بصوت واحد، دعما لإسرائيل وتنديدا بحماس، وكان هناك محور أساسي جرى التركيز عليه بشكل مباشر ومتكرر، هو (وحشية حماس)، وقد أسرف السياسيون الغربيون مثل بايدن وسوناك وشولتس وماكرون في وصف تلك (الوحشية) والتركيز على بعض تفاصيلها مثلما فعل الرئيس الأميركي الذي تحدث عن (قطع رؤوس أطفال واغتصاب نساء) قبل ان يعود البيت الأبيض ليوضح أن الرئيس لم يطلع بنفسه على ذلك، لكنه كرر ادعاءات وردت من مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي.
بالطبع لم يكن لهذا (التوضيح) أهمية تذكر، فقد سرى إدعاء بايدن وسط الراي العام، وتلقفه الاعلام المؤدلج، وأعاد ترديده سياسيون وكتاب ومغردون كأنه واقع لا جدال فيه، لا سيما وانه أصلا جاء في سياق من فيضان الاتهامات، التي تعود إسرائيل لتجديدها كلما بان كذب بعضها، كما فعل نتينياهو في اليوم التالي لكلمة بايدن.
والحقيقة أن أخطاء حماس الإعلامية ساهمت في منح الخطاب الغربي هذا، أدوات تساعده، ويتعلق الامر بالصور الأولى التي بثتها حماس في يوم 7 أكتوبر، ومنها اقتياد الرهائن والأسرى، ومشاهد جثث الإسرائيليين، فضلا عن التهديد الخاص بقتل رهينة مقابل قصف إسرائيل كل موقع بلا تحذير. مثل هذا المنطق لا يخلق ذعرا لدى حكومة إسرائيل، فنتيناهيو ربما سيكسب لو قتلت حماس أسراها، حيث ستضيق خناق الاتهامات حول نفسها، وتحظى إسرائيل بالتخلص من عبء الاسرى والرهائن، ويتحقق لها خيار (هانيبال) القائل إن جنديا ميتا أفضل من جندي أسير.
وفي خضم هذا الاستخدام الدعائي المحض، استعرض الخطاب الغربي لغة الجسد بشكل منهجي، حتى لكأن السياسيين الغربيين ينهلون من ملقن واحد، فيظهر سوناك وهو يخبئ دموعه، وكذلك بايدن، فيما يبكي كيربي وتدمع عينا نتنياهو، ويبدو الجميع في حالة من الحزن البالغ على الضحايا الإسرائيليين، ليكون منطق (الانتقام) من غزة مبررا ومقبولا، ذلك أن ما أظهره (حزنهم) سيبرر دعوتهم للانتقام ومنح إسرائيل صكاً مفتوحاً بلا روادع ولا حدود.
ترافق ذلك، مع سياق إعلامي غربي واسع برفض وانتقاد وإدانة كل من يتحدث بمنطق مختلف، بل يشمل الأمر، حتى السياسيين الغربيين (التقدميين) الذي تحدثوا عن الاحتلال الإسرائيلي بوصفه سبب لكل ما يحصل، أو أولئك الذي يفضون منطق الانتقام الإسرائيلي الذي يستهدف المدنيين في غزة بعقاب جماعي هو بحد ذاته من جرائم الحرب، أما مؤيدو حماس فقد كانت هناك دعوات لمحاكمتهم، بل وسادت بالفعل مخاوف من الاستهداف القانوني بدعوى معاداة السامية بحق كل من يفعل ذلك، أو أن يشارك في مظاهرات دعم أهالي غزة المدنيين.
وإذا كان الكثير من المسلمين والعرب، بل وحتى الغربيين أنفسهم قد عبر عن تعاطف انساني طبيعي مع الضحايا في غزة، ومنهم من رفض استهداف المدنيين الإسرائيليين مثلما تعاطف مع الفلسطينيين، فإن ذلك كله ليس مقبولا، لأنه يمكن أن يؤثر على الصورة العامة لإسرائيل كدولة ديموقراطية (وحيدة) في المنطقة، وكي لا يكون لأي من ذلك تأثير على الرأي العام الغربي، يمكن أن يشكل ضغطا على الحكومات هناك، ومن ثم على إسرائيل لوقف عمليات القصف واسعة النطاق.
ولا ندري بالضبط إلى أين يمكن أن تمضي علاقة الغرب مع ملايين العرب والمسلمين القاطنين فيه، فهم عند هنري كيسنجر أصبحوا (مجموعات ضغط) داخل دول الغرب، وأن احتفالهم بعمليات يوم 7 أ أكتوبر هو أمر (مؤسف) يبين (الخطأ الفادح الذي ارتكبته دول الغرب عندما سمحت لعدد كبير من الأشخاص بدخولها). هذا المنطق لكيسنجر لن يكون بعيدا عن منطق يميني أكثر تطرفا في الغرب، سيتخذ من تعاطف العرب اللاجئين والمهاجرين الطبيعي مع اشقائهم الفلسطينيين المدنيين سببا لإبعادهم أو التحشيد ضدهم بشكل عنصري.
وبكل الأحوال، فإن الطوفان الإعلامي الغربي المؤيد لإسرائيل، يجدد رؤية تاريخية حول علاقة الغرب مع إسرائيل، وحول ما يمكن أن يصل إليه العرب في علاقتهم بهذا الغرب، أو في طريقتهم بإدارة أزماتهم وتقديم أنفسهم وبناء قدرات إعلامية ونفسية توازي كل هذا الحشد والهجوم.
——————————
متى وكيف سيكون “طوفان الأقصى-2″؟/ عمر قدور
لا نعرف توقيت عملية “طوفان الأقصى-2″، فقط لدينا من المعطيات ما يقول بشبه يقين أنها آتية. عملية طوفان الأقصى الأولى تقول ذلك بمعزل عن الشعارات والاحتفالات، وبمعزل عن أصحاب “التفاؤل التاريخي” بحتمية انتصار أصحاب الحق. لقد أثبت هجوم حماس حتى الآن قدرة الفلسطينيين، الموجودين تحت المراقبة الإسرائيلية، على حشد الإمكانيات وشنّ هجوم مباغت واسع النطاق ألحق خسائر باهظة بالجانب الإسرائيلي. ما يُقال عن دعم إيراني، ومشاركة حتى في التخطيط للهجوم، له تأثير لجهة الاصطفافات السياسية الحالية فحسب، بينما لا يستبعد تحالفاتٍ فلسطينية مستقبلية من ضمن الصراع في المنطقة وعليها، ليعزّز من احتمال حدوث دورة عنف جديدة.
الخسائر الإسرائيلية لا تُقاس فقط بأعداد القتلى والمصابين، فغداً عندما ستبدأ المحاسبة ويبدأ التخطيط لاستباق “طوفان الأقصى-2” سيظهر حجم المطلوب لتلافي ما ظهر من تقصير عسكري واستخباراتي. الحديث في الأوساط الإسرائيلية عن التقصير بدأ في اليوم نفسه، بعد ساعات قليلة ليس إلا. هو حديث سهل بسيط تقليدي، يعتمد على وجود ثغرات في النظام الأمني؛ ينبغي محاسبة المسؤولين عن عدم كماله، ثم سدّ الثغرات بحيث لا يستطيع “العدو” اختراق النظام الذي صار مُحكماً أكثر من قبل.
لكن ما يبدو بسيطاً وبديهياً في التفكير السابق سيكون مُكلفاً جداً، لأن سدّ ثغرات النظام “أو وهْم فعل ذلك” يتطلب إنفاقاً متزايداً في الجانب العسكري والتكنولوجي، وإنفاقاً مستداماً على خطوط الفصل بين الإسرائيليين والفلسطينيين. الأهم أن الوقوع في دوامة سدّ ثغرات النظام يعني الدوران بلا نهاية في الحلقة ذاتها، للوصول في وقت طال أو قصُر إلى الخلاصة التي تفيد بعجز النظام عن أن يكون كاملاً.
إن تقليدية التفكير السابق تعني استخدام أساليب ردع تقليدية في ظل تطورات غير تقليدية، لا على الصعيد الإسرائيلي-الفلسطيني وحده وإنما على صعيد العالم ككل. من ضمن ما يحدث عالمياً، ولم تظهر نتائجه الفادحة بعد، أن احتكار وسائل العنف يصبح مستحيلاً يوماً بعد يوم، والحديث هنا عن وسائل عالية تكنولوجياً كان تُعتبر إلى وقت قريب من الأسرار الموجودة في حوزة دول قليلة متطورة. كُسِر الاحتكار التكنولوجي، وابتُدعت أسلحة جديدة، ومع كسر الاحتكار انتهى المفهوم القديم للسيطرة على الحدود، وصار تهريب التكنولوجيا الجديدة متاحاً لسهولة تهريب أساليب إنتاجها، وأيضاً لسهولة تدريب كوادر بشرية عن بُعد، أي أن ما كان يتطلب عمليات تهريب ملموسة واسعة النطاق، وكان معرّضاً للانكشاف من قبل أجهزة مخابرات قوية، صار متاحاً “افتراضياً” بنسبة كبيرة، وباتت عملية ملاحقته استخباراتياً شبه مستحيلة فوق أنها مرتفعة التكاليف.
يمكن الإشارة إلى الطائرات المسيَّرة كسلاح مُستحدث دخل بقوة في حروب الحكومات والتنظيمات أيضاً، وهو مجرّد مثال على تكنولوجيا تؤرّق أساليب الدفاع التقليدية، بسبب انخفاض تكاليف صناعة المسيّرات بالمقارنة مع تكاليف إنتاج وتشغيل أنظمة الدفاع التي تتصدى لها. لكن مثال المسيّرات لا يستوفي إلا قسطاً ضئيلاً من التطورات المرتقبة كنتيجة لاستخدامات الذكاء الاصطناعي في مضمار التسلح، وفي تعميم تكنولوجيا ذات استخدامات متعددة منها الاستخدام الاستخباراتي الذي لن يقتصر على الحكومات التقليدية، ليكون استثمار الذكاء الاصطناعي في وضع الخطط الحربية واحتمالاتها سهلاً جداً عطفاً على ما سبق.
ظهرت في السنوات الأخيرة أصوات متفرقة حذّرت من تسرّب تكنولوجيا الأسلحة والمتفجرات المتطورة والذكية إلى تنظيمات إرهابية، أو إلى أية تنظيمات أخرى قد تلجأ إلى العنف من دون احتساب العواقب التي يُفترض أن الحكومات التقليدية تضعها في حسبانها عندما تتخذ قرارات الحرب والسلم. اتسمت تلك التحذيرات عموماً بحساسية عالية إزاء “الإرهاب”، مع حساسية منعدمة إزاء مسبباته، لتصبّ في المنحى التقليدي المعتاد، والذي يتلخّص بالبحث عن سبل منع التنظيمات من الحصول على التكنولوجيا الجديدة.
في عملية “طوفان الأقصى” طغى على ما عداه الاهتمامُ بتوغل المقاتلين في المستوطنات وأسْرهم عدداً كبيراً من الرهائن، فوق العدد المهول غير المسبوق من القتلى الإسرائيليين في يوم واحد. حجبتْ وقائع التوغل ما قبلها من استعدادات، على صعيد إنتاج القذائف والمسيّرات وسواهما، وكذلك التقنيات الاستخباراتية. لكن صور هؤلاء المقاتلين تشير بدورها إلى عامل شديد الأهمية، يكمل ما سبق على صعيد كسر احتكار تكنولوجيا السلاح، فوجود ألوف أو عشرات ألوف الفلسطينيين المستعدين للقتال وللتضحية بأرواحهم ليس تفصيلاً “شاعرياً”. ووجودهم غير مرتبط بالراية السياسية التي يرفعونها الآن، بمعنى أن القضاء على حماس أو الجهاد أو فتح سيؤدي إلى خلق عناوين بديلة، مع ألوف المستعدين للقتال طالما الأفق السياسي “المنصف حقاً” مغلق أمام القضية الفلسطينية.
لقد كتب جدعون ليفي في جريدة هآرتس، غداة إطلاق عملية “طوفان الأقصى”: “وراء كل ما يجري توجد وقاحة إسرائيلية؛ فنحن اعتقدنا أنه مسموح لنا فعل كل شيء، وأننا لن ندفع أي ثمن أو عقاب”. ثم أتى على ذكر الانتهاكات الإسرائيلية بدءاً من تغطية المستوطنين الذين ينفّذون المذابح ويقتلون المدنيين الأبرياء، مروراً بتعمّد انتهاك حرمة المسجد الأقصى لاستفزاز الفلسطينيين، وصولاً إلى الطرد من البيوت وعمليات التطهير العرقي. وفي ما يخص قطاع غزة أكثر من غيره، والحصار الدائم عليه، كتب ليفي العبارة التي صارت شائعة: “لا يمكن سجن مليوني شخص إلى الأبد من دون دفع ثمن باهظ لقاء ذلك”.
لكن جدعون ليفي يمثّل أقلية بين النخب الإسرائيلية، وتشير نتائج الانتخابات بلا لبس إلى تقدّم اليمين بكافة أطيافه منذ بداية هذا القرن، لتجمع الحكومة الحالية تحالفاً يضم الأكثر تطرفاً ضمن اليمين “العلماني” إلى جانب الأحزاب الدينية المتطرفة، مع اتفاق جميع أطرافها على خطاب هو الأكثر تطرفاً وشعبوية. لذا ستشهد الأيام القليلة المقبلة استخداماً إسرائيلياً مفرطاً للقوة بعد إعلان حالة الحرب واستدعاء مئات ألوف جنود الاحتياط، وردّ الفعل هذا سيلقى على الأقل تفهّم المعارضة المصنَّفة في الوسط تحت شعار أولوية الوحدة الوطنية.
لا شك في قدرة إسرائيل على الانتقام وإيقاع أشدّ الأذى بالفلسطينيين؛ لقد فعلت ذلك مراراً من قبل، ومما تقوله عملية طوفان الأقصى أن العنف الإسرائيلي لا يردع أصحاب القضية رغم أرجحيته بميزان الربح والخسارة. ربما هذا ما يتعين على الإسرائيليين الانتباه إليه جيداً عندما تنتهي المعركة وترتفع الأصوات المطالبة بالمحاسبة، لأن استمرار الاكتفاء بمحاسبة الأمني من دون النهج السياسي هو بمثابة وصفة مجرَّبة لاستجلاب “طوفان الأقصى-2”. بموجب الوصفة ذاتها، لن يخالف الفلسطينيون قاعدة مخيفة يكبر حظها من الانتشار مع كسر تكنولوجيا السلاح، مفادها تحقيق العدالة المستحيلة سلْماً بتعميم وسائل استخدام العنف!
——————————-
هكذا هي الخطة:ردع إيران وإبادة غزة/ عمر قدور
قررت لندن إرسال قوات إلى المتوسط بعدما سبقتها واشنطن بإرسال حاملتَي طائرات، بالإضافة إلى الجسر الجوي الذي ينقل أسلحة وذخائر إلى تل أبيب. كل هذا من أجل الحرب على حماس؟ أو على غزة؟
في الحد الأدنى سيبدو الغرب مبالِغاً جداً برد فعله، فيما إذا أجبنا على السؤال السابق بـ”نعم”. لكننا نخطئ أيضاً إذا اعتبرنا وجود هذه القوات الغربية مجرد استعراض إعلامي، يُراد به تضخيم خطر حماس أمام الرأي العام الغربي والعالمي، والبناء على سابقة إنشاء تحالف دولي للحرب على داعش، خاصة أن مسؤولين أمريكيين شبّهوا حماس بداعش.
ولعل المفارقة الماثلة “ظاهرياً فقط” تتعزز بالتصريحات الأمريكية التي نفت سريعاً وجود معلومات عن ضلوع طهران في اتخاذ قرار عملية “طوفان الأقصى”، ليأتي في السياق ذاته قبل يومين إعلان الجيش الأمريكي عن عدم وجود تحركات قتالية لحزب الله، ما يعني في الحالتين أن العدو المستهدَف هو حماس بمفردها! أما فيما وراء النفي الأمريكي لضلوع إيران، وإبداء الرغبة في عدم توسيع رقعة الصراع، فهناك رسالة أمريكية لطهران مفادها عدم رغبة واشنطن في التصعيد، سواء كان هناك تنسيق بينها وبين حماس يخص العملية الأخيرة أو لم يكن، فالمهم وفق هذا التوجه أن تنأى طهران والحزب عن المعركة وإلا…
القوات الغربية مقبلة لردع إيران، كي لا تُفتح جبهة جنوب لبنان تحديداً، وبهذا تتفرغ إسرائيل تماماً لإبادة غزة. الرسالة هي: إما ابتعاد طهران عن المعركة الحالية أو الدخول في مواجهة إسرائيل المدعومة بالقوات الغربية. هذا لا يعني تلقائياً تصديق ما يروّجه حلف الممانعة عن قدرته على سحق إسرائيل في دقائق “أو أيام لا فرق”، وإن كان يشير إلى عدم جاهزية الجيش الإسرائيلي لحرب واسعة النطاق تُفرض عليه في توقيت ليس من اختياره.
والتهديد الغربي الذي يهدف إلى تحييد إيران عن المعركة ينطوي على معرفة وقبول غربيين بوحشيتها القصوى، وبوجود احتمال كبير أن تحرج وحشيةُ القوات الإسرائيلية حليفَ حماس الإيراني فتشتعل جبهة الجنوب على نحو غير مضبوط تماماً. أي أن القوات الغربية تساهم من الخلف في بقاء الوحشية الإسرائيلية بلا “آثار جانبية”، وهي مساهمة فعّالة لجهة كسر إرادة الفلسطينيين إذ يُبادون مرة أخرى وهم بمفردهم، من دون أي دعم حتى من النوع الذي لا يصل إلى الانخراط معهم في المعركة.
التأكيد مرة جديدة على أن الفلسطينيين وحدهم في المواجهة لا يتوخى كسر إرادة القتال لدى الفلسطينيين راهناً فحسب، بل على المدى البعيد أيضاً بما أن المحيط العربي أنهى الصراع الأشمل من قبل، ولم يبقَ في الإقليم من تعتاش دعايته عليه سوى محور الممانعة. وعندما يترك الأخير الفلسطينيين لمصيرهم “بخلاف دعايته” يكون قد برهن على نفاقه، ويكون من جانب آخر مهم قد سدد إلى حماس الطعنة المميتة أمام جمهورها الفلسطيني.
رغم ما ظهر من وحشية في الرد الإسرائيلي على “طوفان الأقصى” لم يصل الأمر بعد إلى الذروة التي يلوّح بها قادة تل أبيب؛ إنهم يتوعّدون جهاراً بإيقاع كارثة غير مسبوقة، وكلّما أوغلوا في التنفيذ تزايد الضغط المعنوي على محور الممانعة هذه المرة، لا على حكومات المنطقة التي طبّعت أو في سبيلها إلى التطبيع مع إسرائيل. لذا أتت أمس من بيروت تصريحات وزير الخارجية الإيراني كتوصيف لواقع الحال ليس إلا، فهو حذّر من أن فتح جبهات أخرى احتمال قائم في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي، وقال في تصريح آخر: “المهم بالنسبة إلينا هو أمن لبنان والحفاظ على الهدوء فيه، وهذا هو هدف زيارتي”. وكأنه بمجموع التصريحين يلاقي سياسة “الاحتواء” الغربية.
أما على صعيد ما يُدبَّر لغزة، فتتماهى التصريحات الغربية تماماً مع تصريحات قادة الحكومة الأكثر تطرفاً في تل أبيب، بما فيها تصريحات من فرنسا التي عُرفت تقليدياً بافتراق موقفها عن واشنطن ولندن. وتشبيه حماس بداعش لم يمنع تشبيهها بالنازية على خلفية القول أن “طوفان الأقصى” هو الأخطر بعد الهولوكست، رغم أن المحرقة اليهودية هي ابنة عنصرية غربية يُخشى اليوم من عودتها “ضد ضحايا غير يهود” مع نازيين جدد في العديد من البلدان. والمدهش، المثير للاشمئزاز على الأقل، ألّا يستنكر قادة في الغرب تصريح نتنياهو الذي توعّد الفلسطينيين بالإبادة بوصفهم حيوانات، ففي هذا التصريح تحديداً نطق نتنياهو بلسان هتلر الذي كان قد استخدم التعبير ذاته ضد خصومه، وفي مقدمهم اليهود، تمهيداً منه لإبادتهم.
اختزال ما يحدث بردع إيران، وبإشاحة الوجوه عن إبادة غزة، يغطّي بعلاقة حماس مع إيران على العديد من وجوده الكارثة الحالية، وهي كارثة وقعت بأفعال متعمدة، وليست محض كارثة إنسانية حسب الوصف الذي يستخدمه بعض الإعلام الغربي عندما يُضطر إلى الإشارة إليها. ونستطيع بسهولة، مثلما لا يعجز عن ذلك الغرب عندما يمتلك النيّة، رؤيةَ السياق الذي أوصل حماس إلى إيران، ومن قبله السياق الذي صعدت فيه حماس فلسطينياً بعد استنزاف إسرائيل رموز الاعتدال الفلسطيني، ثم مُنعت من المشاركة الديموقراطية في السلطة الفلسطينية ككل، بينما سُمح لها بإدارة سجن كبير هو غزة.
حتى تشبيه حماس بداعش قد يكتسب مصداقية مجازية فيما لو لوحظ معه أن حكومة نتنياهو الحالية تجمع تحالفاً عنصرياً ودينياً لا يقل تطرفاً عن داعش، ولو لوحظ أيضاً أن نتنياهو نفسه كان قبل ما يزيد عن خمس سنوات وراء إقرار الكنيست قانون يهودية الدولة الذي حوّل إسرائيل رسمياً إلى دولة فصل عنصري، إذ نصّ في بنده الأول على أنها “الوطن التاريخي للأمة اليهودية”، وعلى أن “لليهود فقط الحق في تقرير المصير”. لا يتغاضى العالم عن كل ذلك، بل يمكن بسهولة استرجاع تصريح للرئيس الأمريكي في الأيام الأخيرة الذي يؤكد على الدفاع عن “الدولة اليهودية الديموقراطية”!
يهدف ردع طهران إلى إفهامها أنّ لحجمها الإقليمي خطوطاً حمراء لا يُسمح بتخطيها، أما الإبادة في غزة فهي استكمال لسياقٍ معظمه غير متصل بالنفوذ الإيراني. وحتى إذا استخدمت طهران غزة كصندوق رسائل فإن ممارسات إسرائيل تجاه القطاع هي المسؤولة عن إتاحة هذه الفرصة أمامها، ويكفي للتذكير أن نشير إلى مقولة سابقة على تأسيس حماس تُنسب لشامير تارة ولرابين تارة، يتمنى صاحبها أن ينام ويفيق فيرى غزة قد ابتلعها البحر. في الواقع لا يفعل الغرب سوى مساعدة نتنياهو على تحقيق تلك الأمنية، وهو بذلك لا يكيل بمكيالين حسب مقولة شائعة لخطاب الممانعة إياه، الأسوأ أنه يكيل بالمكيال ذاته، فمن تخاذل للتو أمام الإبادة التي ارتكبها الأسد لن يغصّ بجرائم نتنياهو.
———————————-
ثرثرة على هامش مجزرة غزة/ عمر قدور
كان فحوى الإرهاب الفكري الذي مارستْه قوى غربية مسيطرة أن اللحظة هي لمحاسبة “إرهابيي حماس” ردّاً على عملية “طوفان الأقصى”، أما قول كلام آخر متصل بالصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، أو بغزة تحديداً، فيمكن “أو يجب” تأجيله إلى ما بعد الانتهاء من خطر وجود حماس. هناك ميل عربي مشابه، بأدوات مختلفة، تسعى فيه الأغلبية المساندة للقضية الفلسطينية إلى التركيز عليها، وتأجيل أي قول نقدي إزاء حماس إلى ما بعد انتهاء المعركة الحالية. بينما تسعى شريحة أضيق إلى التركيز على المعركة نفسها، وردّ الفعل الإسرائيلي الذي تسببت به عملية حماس، وتأجيل أي قول نقدي إزاء إسرائيل، ولو بذريعة أنه نافل وأننا نعرف عدوانية إسرائيل جيداً وهو ما كان يتعيّن على حماس أخذه في الحسبان.
الرأي العام الغربي لم يكن موحّداً إزاء الصراع، وستعود التمايزات للظهور كلما أوغلت إسرائيل في المجزرة. ورغم التأثيرين العاطفي والأيديولوجي، يصعب الزعم بأن وحدة العرب تجاه القضية الفلسطينية شأن مفروغ منه، فهناك على سبيل المثال لا الحصر افتراق في الآراء حول حماس وهو ليس بلا تأثير. إلا أن ما يوحّد بين المختلفين العرب هي تلك الفكرة التي في مرتبة البديهيات، ومفادها أنهم جميعاً يعرفون القضية الفلسطينية، بل هناك من يتململ من أي حديث عنها لكونه لن يأتي بجديد إطلاقاً.
بالطبع ليس عيباً ألا يعرف أي شخص القضية الفلسطينية معرفة جيدة أو سطحية حتى، بشرط ألا يزعم غير ذلك وهو يتحدث فيها. ويمكن القول أن العرب بنسبة ساحقة يعرفون فلسطين، لكن كما بيّنت الأحداث الأخيرة لا يعرفون غزة، ونجزم “من دون معركة مماثلة” أننا لا نعرف الضفة، ولا القدس…! ما نعرفه حقاً ليست فلسطين، ولا الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي؛ نحن نعرف فكرة فلسطين، نعرف عموميات القضية كما نقلتها لنا أيديولوجيات مختلفة. يعمّق من ذلك أولئك الذين يرون أنهم بغنى عن معرفة التفاصيل بما أنهم على دراية بجذر القضية، وبما أن التفاصيل “وفق تصوراتهم” ليست بذات قيمة.
هذا الوهم يتضافر مع الإرهاب الفكري الذي يُعلي من صوت المعركة، لأسباب تتباين حسب ممارسيه، وهكذا تفقد المعركة جانباً مهماً من جوانبها بوصفها كشّافاً قوياً واستثنائياً على ما وصل إليه الصراع ذاته، بصرف النظر مؤقتاً عن خطأ إشعالها أو صوابه. ما يقوله الوهم والجهل معاً أن وقت المعركة لا يصلح للتفكير الهادئ أو النقدي، وما يحدث دائماً أن المعرفة والتفكير الهادئ المستبعدَيْن أثناء المعركة لن يحضرا لاحقاً، في انتظار جولة مقبلة من العنف يُستنكف فيها عن المعرفة أيضاً تحت وهم امتلاكها!
لقد أضرّ بالقضية نفسها اعتبارُ القضية الفلسطينية قضيةَ العرب التي لا نقاش فيها، لأن التضامن مع أصحابها راح يتراجع بقدر ما تراجعت أيديولوجيا العروبة. ثم لم يتأخر الإسلاميون في جلب المزيد من العداء والخصوم للقضية، مع مساهمة متواضعة من أفراد وجدوا ضالتهم في استلهام مقولات اليمين الغربي.
على العموم، هي وصفة مجرَّبة أن يأتي تقديس قضية بالجهل بها، ثم بأولئك الناقمين على فكرة التقديس. ومما يجب أن يستوقف كثر من أصحاب الرأي، في الإعلام وعلى وسائل التواصل، أصوات بعض الإسرائيليين التي خالفت موجة العداء الأعمى الحالية، ومنها على سبيل المثال جدعون ليفي الذي نشر في هآرتس العديد من المقالات التي تشرح خلفيات المعركة الحالية، وتدين الحصار الإسرائيلي الخانق على غزة ومجمل الانتهاكات الأخرى. في هذه الأمثلة أيضاً، من المستحسن الكفّ عن الإشادة بشجاعة بعض الإسرائيليين الذين يخالفون غالبية عنصرية في مجتمعهم، فالأمر لا يتعلق بالشجاعة فحسب، وإنما بالمعرفة التي تُبنى عليها الشجاعة والمعلومات التي يقدّمونها دعماً لآرائهم.
بخلاف ما يريد غرباً وشرقاً أصحابُ مقولة “لا صوت يعلو على صوت المعركة”، يقترح جدعون ليفي وقلّة من أمثاله “عالمياً وعربياً” معرفةَ الأسباب والوقائع التي أتت بالمعركة، وإذا كانت الأولوية لإيقاف القتال فإن إنهاء المعركة حقاً يكون بالعمل على إنهاء أسبابها. العودة إلى الأسباب، بهذا المعنى، ليست عودة إلى بديهيات معروفة إلى درجة التململ من تكرارها، بل هي تذكير بما لا تعرفه نسبة عظمى غير متابعة للشأن الفلسطيني، ما يجعل النسبة ذاتها غير مؤهّلة للتفكير في حلول واقعية وحقيقية، وما يجعلها غير مؤهّلة لتكون صاحبة رأي عام خارج ما هو عاطفي أو أخلاقي بدرجة أقل.
الدارج عموماً أن أصحاب “لا صوت يعلو على صوت المعركة” يبتغون بمقولتهم إسكات الأصوات المعارِضة، إلا أن الأقرب إلى الواقع في حالتنا هذه أنهم لا يريدون أن تكون المعركة مناسبة للتعلّم، ولهذا ينبغي أن تقتصر المعلومة على وقائع مثل تفاصيل الهجوم والهجوم مضاد، ولا بأس حتى في الحديث عن ردّ فعل وحشي أو “غير متناسب” إذا كان يخدم على صعيد الردع. أي أن المطلوب، وما يتحقق بنسبة كبيرة، أن يكون القول العام أشبه بالثرثرة على هامش المجزرة.
إن إفراغ المعركة من المعنى يصبح هدفاً كي لا تحقق أدنى مكسب، ولو من نوع فكّ تدريجي للحصار المضروب على غزة منذ 16 عاماً، وهو ليس بالخسارة لأيّ من طرفيها. ولئن كان واحد من تعاريف الحرب أنها استئناف للسياسة “أو توسّل لها” بالعنف فإن إغراق هذا المعنى بالثرثرة طريقة جيدة لتسطيح مفهوم الحرب، كي يستخلص الطرف المستضعف أنه لن يحقق من خلالها ما لم يُتح له سلْماً.
مصيبة النقاش العربي، ضد أو مع حماس، هي في افتقاره إلى المعرفة بالوضع الفلسطيني وزعم امتلاكها معاً، ما ينطوي على رفض مبدأ التعرف على القضية التي تغيّر فيها الكثير، على الأقل منذ اتفاقية أوسلو وملاحقها. أي أن مشكلته ليست في تعدد الآراء، التعدد الذي ينبغي احترامه مع الحرص على تحلّيه بالمعرفة التي من دونها يصعب الحديث عن رحابة فكرية وأفق إنساني وهما ما نحتاجه في قضايا المنطقة الأخرى، وهما أيضاً ما يجدر التمسك به عندما تضغط قوى غربية لتفريغ مجتمعاتها من أفضل قيَمها. وفيما سبق كله، أهملنا الأسوأ الذي يحوّل جثة الفلسطيني إلى صندوق رسائل، يستخدمه بلا رأفة أصحاب الرأي الذين يتعمدون الاستنكاف عن المعرفة، ويتشفّون بالثرثرة إلى جوار جثث الضحايا.
————————
الهتاف العربي لنصرالله: حين يستعاد التاريخ كمهزلة أو انتقام/ منير الربيع
كأن التاريخ يعيد نفسه. بالنسبة إلى البعض، ربما، على شكل مهزلة. وبالنسبة إلى البعض الآخر هو سبيل للإنتقام. انتقام من اختناق طويل ومديد. فيدفع “المُنتقَمَ منهم” الى استشعار المهزلة. تُخلق هذه الجدلية في مدار مشاهدة صور الناس في الساحات والميادين العربية. في ميدان التحرير، وغيره من ميادين مدن العرب التي شهدت قبل سنوات تظاهرات جمّة، فخرجت في حينها شعوب بلغت قلوبها حناجرَها، فنادت بالحرية والعدالة الإجتماعية، ما لبثت أن خنقت في المهد أو أوديت إلى اللحد تحت عناوين كثيرة.
إلا أن الخروج المتجدد للناس حالياً، يُصبح له معنى مختلفاً، وتكون جهات عديدة كانت سابقاً في عداد رافضي التظاهر، بحاجة إليه، كما هو حال انظمة عربية، كذلك بالنسبة إلى من يرى نفسه مستفيداً من هذه التحركات ويريد لزخمها أن يتفاعل، ويزهو بما يُتلى، لا سيما عندما تناشده الجموع، وهو ما ينطبق على حزب الله مثلاً أحد أبرز المتحمسين للتحركات الشعبية، من بيروت إلى القاهرة والجزائر وغيرها، وهو الذي قمع كل من تظاهر قبل سنوات قليلة في بيروت. وكأن الربيع ينتقم لذاته.
بين المهزلة والانتقام
في معرض الإعلان الإسرائيلي الصلف عن مشروع تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى صحراء سيناء، كان الموقف المصري عنيفاً في الرفض. لم يجد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي من خيار أمامه سوى اللجوء إلى ملايين المصريين للتظاهر في الساحات والميادين رفضاً للاستجابة إلى المشروع، ورفعاً للضغوط التي تتعرض لها مصر، ولو اقتضى ذلك وصول ملايين المتظاهرين إلى سيناء وإلى رفح، ولعلّ ذلك يصبح هجوماً بشرياً معاكساً باتجاه القطاع لا على خطّ تفريغه. وفي ذلك ردّ لاعتبار الشعب، ولتظاهراته وما يطالب به. ولربما، بحال تطورت الأمور أكثر وأصر الإسرائيليون على مشروعهم بالإرتكاز إلى العمليات العسكرية لتحقيق التهجير، فسيجد بعض العرب ولا سيما مصر والأردن، البلدان المستهدفان بمشروع التهجير من غزة أو من الضفة، أن مصلحتهم تصعيد العمليات العسكرية ضد اسرائيل على جبهات أخرى لوقفها عند حدّ. قد يتجلى ذلك باللجوء إلى إيران وحلفائها الذين يتحمسون إلى القتال وفتح الجبهات، وهذه المرة بغطاء عربي، فيكونون في موضع الدفاع عن المصالح الإستراتيجية للأمن القومي العربي وليس عن فلسطين فقط. وهذا ما قد يراه البعض ايضاً مهزلة، والبعض الآخر سبيلاً للإنتقام.
ويمكن لجانب من الإنتقام أن يكون صامتاً، أو غير مباشر، فتكون التظاهرات دعماً لغزة والمقاومة الفلسطينية وحركة حماس، كنوع من رد الإعتبار، ونوع من التعبير عن مشاعر دفنت، وصرخات كُتمت، بما تصفها شعوب “إنقلابات” فيكون الإنتقام الأول في مصر مثلاً لمحمد مرسي، والثاني لثورات الربيع العربي، والثالث، لما يُعرف بإعادة الوقوف خلف “الإسلام السياسي” الذي تمّت شيطنته طوال السنوات الماضية، لكنه بالنسبة إليهم وفي العقل شبه الجمعي العربي هو الوحيد الذي حقق كسراً للعدو بنتيجة عملية طوفان الأقصى.
الهتاف لنصرالله مجدداً
ليس بعيداً في المشاهد أيضاً، أن تخرج جموع من المتظاهرين في مصر، أو الجزائر أو غيرهما للهتاف إلى أمين عام حزب الله حسن نصر الله، يدعونه لضرب تل أبيب، ووصفه بالحبيب. هو مشهد كان شبه مستحيل، حتى بالخيال، منذ أسابيع مضت. خصوصاً بنتيجة الشرخ الكبير الذي تحقق إثر الربيع العربي، وإثر تدخل حزب الله في سوريا قامعاً للثورة، وانخراطه في مشروع مضاد على قاعدة التدخل في ساحات عربية متعددة. صرخ مصريون وجزائريون بمناشدة نصر الله، وباعتباره خيارهم الوحيد أو خلاصهم، في رفع منسوب “الغضب العربي” وضرب إسرائيل. وهو ما يأتي بعد سنوات من القطيعة الوجدانية والسياسية العربية مع حزب الله ومع ايران. وبعد “محاولات” أميركية كثيرة لشيطنة الحزب في العالم العربي كما في لبنان، وفق ما هو معلن أو ظاهر. لكنها فرصة تأتي لردّ الإعتبار ايضاً، بمعزل عن الرأي السياسي، او التضارب في المشاريع، والتي تتساقط أمام غضبة الجمهور وتعبيراته العاطفية.
لم يتأخر حزب الله عن تلقف ذلك، فكانت قراءاته وتعليقاته واضحة في مسألة “تجاوز” ما كان من صراع سنّي شيعي في المنطقة. أخذ السنّة في جريرته كما في لبنان كذلك في المنطقة. وكأنه يعود بالزمن إلى ما قبل الربيع العربي وإلى ما قبل اغتيال رفيق الحريري وما تكرس بعده من انقسامات. وعلى ضفاف ذلك، تنشأ جدليات كثيرة، حول التاريخ ومساره، ومن يقف على الجانب الصحيح منه. ومن الجدليات المتجلية، إذا ما كان ذلك مسار طبيعي، أم أن هناك ما فوق الطبيعة يهندس كل ذلك. فطوال السنوات الماضية، ارتكزت القراءات السياسية على تقاطع في المصالح بين الأميركيين والإيرانيين، ما أسهم في اضعاف العرب وضرب حواضرهم ومجتمعاتهم ومباني دولهم، وصولاً إلى تكريس وجهة نظر تفيد بأن المصلحة الإستراتيجية لأميركا وإسرائيل هي في استشعار الخطر من المشروع الإيراني وإبقائه فزاعة قائمة بهدف دفع العرب إلى اسرائيل ودمجها في محيطها. وما إن سار العرب على هذا الطريق، حتى قُلبت الآية، فأصبحت إسرائيل تحتاج لمن يحميها، وتُصوّر إيران بأنها أكبر تهديد لها وللولايات المتحدة الأميركية، في مقابل عراضات وتحشيدات عسكرية غايتها “ردع” ايران. فيتجدد الإنقسام العربي، بين من يريد الذهاب باتجاه إيران، ومن يريد تعزيز العلاقة بالأميركيين باستقراء “العودة” الأميركية إلى المنطقة. فتعود دورة الزمن والتاريخ، الى حقبة الإجتياح الأميركي للعراق وما تلاها، من فرز بين ضفتين ومشروعين، وما بينهما من ارتدادات سياسية.
———————-
خيارات مريرة أمام سوريين في لبنان: “نخاف الحرب ولا ندري أين نهرب؟”/ إيمان حمراوي
يترقّب السوريون كما اللبنانيون التطورات في لبنان ما بين “حزب الله” وإسرائيل جراء القصف المتبادل بين الطرفين والمتكرر منذ بدء الحرب على غزة قبل أسبوعين، يتخوّفون من توسع الحرب بشكل يهدّد حياتهم، في ظل تهديد إيران بتوسيع العمليات في الشرق الأوسط، ما لم تتوقف إسرائيل عن استهداف غزة.
ينشر هذا التحقيق بالتعاون مع راديو “روزنة”
“لا شيء يقينا، من شظية أو قذيفة إن اندلعت الحرب”، يقول ناجي الزين، المقيم في أحد مخيمات عرسال على الحدود السورية اللبنانية، هو واحد من أكثر من 5 آلاف عائلة موزعة ضمن 142 مخيماً في المنقطة.
يتخوّف الزين كغيره من السوريين في مخيمات عرسال من نشوب الحرب، واشتعال الجبهة الجنوبيّة بين “حزب الله” وإسرائيل على خلفية الحرب على غزة، وسط انعدام أي مقومات للحياة، وعدم قدرته كغيره على السفر إلى مكان آخر. يضيف الزين: “الأبواب كلها مغلقة في وجوهنا، معظم الناس هنا لا تفكر بالعودة إلى سوريا، نريد منطقة آمنة لنا أوحلاً سريعاً بإعادة التوطين في دول ثالثة”.
تكرر إعلان اسرائيل قتل مسلحين لحزب الله وتنظيمات فلسطينية جنوب لبنان، ما أدى الى سقوط قتلى بينهم مقاتلون ومدنيون وصحافيون.هذا يعني تصاعد مؤشرات تحويل المنطقة إلى ساحة اشتباك محتملة خصوصاً في ظل دعوة عدة دول رعاياها لمغادرة لبنان أو الحد من رحلات الطيران الى بيروت وتساؤلات عديدة حول المصير الذي ينتظر هذا البلد الذي يتخبط ما بين أزمة وأخرى.
هل يهجّر اللاجئون مرة ثانية ؟
“لا نستطيع الخروج من لبنان، ولا نستطيع العودة إلى سوريا، ربما مصيرنا البقاء هنا مثلنا كبقية الشعب في حال نشوب أي حرب” تقول ضياء (37 عاماً) وهي ناشطة سورية مقيمة في شمالي لبنان.
تتحدث ضياء لـ”روزنة” عن خيارات مريرة وذكريات دفعتها للبكاء: “أكثر ما يمكننا فعله البقاء في منازلنا… لا أستطيع العودة إلى بلد تركته قبل 12 عاماً، بعدما قُتلت عائلتي فيه بمجزرة، هذا شيء لا يمكنني تحمله”.
تقيم ضياء مع بناتها الثلاثة في مدينة طرابلس، وهي المعيلة الوحيدة لهنّ، تقول: “لا أستطيع العودة إلى سوريا لأسباب سياسية تتعلق بالمحاسبة ومخاوف الاعتقال، أما السفر خارج لبنان فهو أيضاً أمر صعب، أحاول منذ سنوات وإلى الآن لم أنجح بذلك”. تضيف ضياء أنها مازالت تنتظر ردود الجهات المعنية بإعادة التوطين منذ سنوات لكن حالياً “هناك شتات وضجيج أفكار، لا أعرف ماذا أفعل”.
خيار العودة إلى سوريا مليء بالمخاطر الأمنيّة، إذ وثقت العديد من التقارير الحقوقية خلال السنوات الماضية عودة عشرات اللاجئين واختفاءهم بعد ذلك في مراكز احتجاز واعتقال تابعة للنظام. ناهيك عن موجة التحريض والكراهية ضد اللاجئين التي يتبناها مسؤولون في السلطة اللبنانية وتصاعدت مؤخراً حتى باتت مادة يومية في الكثير من وسائل الإعلام، ما نتج عنه تضييق على اللاجئين السوريين، وتطبيق سياسة “العودة الطوعيّة” القسريّة، بحجة مفادها أن “الحرب انتهت والبلد أصبح آمناً” حسب تصريح أصدره العام الماضي عصام شرف الدين، وزير الدولة لشؤون النازحين.
في تشرين الأول عام 2021 وثقت منظمة “هيومن رايتس ووتش” 21 حالة اعتقال واحتجاز تعسفي، و13 حالة تعذيب، و3 حالات اختطاف، و17 حالة اختفاء قسري، وحالة عنف جنسي مزعوم، من بين 65 من العائدين إلى سوريا من الأردن ولبنان بين عامي 2017 و2021 على يد النظام السوري والجهات الموالية له.
احتمالات النجاة
يقول مصطفى، المقيم في مدينة النبطية جنوب لبنان لـ”روزنة”: “من الطبيعي أننا متخوفون من الحرب، لا نريد تكرار ما حدث في سوريا”، ويضيف: “لا قدرة لنا على السفر خارج لبنان ولا على العودة إلى بلدنا، إلى أين سنهرب لا نعرف”، ويضيف متهكّماً: “نقطع تيكت للسما أحسن شي”.
يقيم في لبنان مئات آلاف السوريين غير القادرين على العودة إلى سوريا لأسباب أمنية حتى وإن نشبت الحرب مثل حال مصطفى، في حين هناك فئة قليلة اعتادت على زيارة سوريا كل حين والعودة إلى لبنان. وتقدر الحكومة اللبنانية عدد اللاجئين السوريين بمليون ونصف المليون، فيما توثق مفوضية اللاجئين حتى نهاية عام 2020 حوالي 865 ألف لاجئاً سورياً مسجلاً لدى لديها.
احتمالات عديدة تتبادلها العائلات السورية في لبنان، استعداداً لنشوب حرب محتملة بين إسرائيل و”حزب الله” بعد سلسلة من القصف المتبادل مؤخراً، إذ تتناقش عائلات سورية في لبنان عبر تطبيق واتساب حول الحلول لضمان بقائها على قيد الحياة في حال نشبت الحرب. تقول ضياء: “هناك من يفكر بشراء مؤونة لفترة لا بأس بها إن وقع الحصار، وهناك من يفكر أن النزوح للمجهول هو ما يمكن أن يحدث، كما حدث في سوريا قبل سنوات”.
تضيف ضياء أن أحد الحلول المطروحة في حال اتسعت رقعة القصف هي “اجتماع عائلتين أو ثلاثة في منزل محمي”.
العودة لمن يستطيع
أماني، شابة سورية مقيمة في مدينة صيدا، تقول: “كل الناس عم تحكي بالحرب وخايفة منها، الاحتمالية كبيرة” وفي حال حدثت “مثلنا مثل العالم، أهل غزة مو أحسن منا”. تعتبر أماني الوضع في لبنان ذاته في سوريا، “لا أمان في كلا البلدين، لوين الواحد بده يهرب؟”.
لا تستطيع أماني العودة إلى سوريا بعدما خرجت منها قبل عشر سنوات بسبب القصف والتهجير “لا بيت يأوينا هناك.. فضلاً عن الظروف الأمنية”، وتضيف أنها تعلمت خلال سنوات الحرب عدم التفكير في المستقبل: “عشنا ما يكفينا من الآلام، نعيش كل يوم بيومه”، وفق قولها.
يسكن أحمد، (35 عاماً) في مدينة صور، جنوبي لبنان، منذ عشر سنوات، يفكر بأن يعود إلى سوريا وعائلته إن تطورت الأحداث أكثر من ذلك في لبنان، يقول لروزنة: “بالنهاية بلدي، ولا حل آخر أمامي حينها” ويضيف: “في الأيام الأخيرة دوي القصف لم يهدأ ليلاً ونهاراً في الجنوب”.
“من الطبيعي أننا متخوفون من الحرب، لا نريد تكرار ما حدث في سوريا..لا قدرة لنا على السفر خارج لبنان ولا على العودة إلى بلدنا، إلى أين سنهرب لا نعرف..نقطع تيكت للسما أحسن شي”.
مصطفى -لاجئ سوري مقيم في مدينة النبطية جنوب لبنان
مناوشات وضحايا
تخوفات كثيرة باتت تقلق المقيمين في لبنان، مع تهديدات إيران بفتح جبهات جديدة ضد إسرائيل في الشرق الأوسط، في حال لم تتوقف عن استهداف قطاع غزة، والذي بدأت بشن حملة عسكرية مكثفة ضده، راح ضحيتها آلاف الفلسطينيين بين قتيل وجريح، ناهيك بتحريك إيران أذرعها في المنطقة، إذ أفادت تقارير أمريكيّة عن استهداف سفينة أمريكية في البحر الأحمر، واستهداف قاعدة “عين الأسد” في العراق، كذلك استهداف قاعدة أمريكيّة في سوريا.
هذا التصعيد سبقه إعلان المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، أفيخاي أدرعي، اليوم الجمعة، عن إعلان وزارة الدفاع الإسرائيلية تفعيل خطة إخلاء سكان كريات شمونة إلى بيوت ضيافة مدعومة من إسرائيل.
في حين أعلن “حزب الله” اللبناني، استهداف دبابتين من نوع ميركافا وناقلة جند في ثكنة حانيتا شمال إسرائيل، مؤكداً في بيان، سقوط قتلى وجرحى في صفوف الجنود الإسرائيليين، في حين أعلنت من جهتها إسرائيل رسمياً مقتل جندي اسرائيلي وإصابة ثلاثة جراء إطلاق “حزب الله”صاروخ مضاد للدروع، أما الولايات المتحدة الأمريكيّة حذّرت “حزب الله” من عواقب التدخل في الصراع الدائر بين إسرائيل وحماس.
من جهتها طلبت إسرائيل في الـ 16 من الشهر الجاري، بإخلاء 28 قرية ضمن مسافة تصل إلى كيلومترين من الحدود اللبنانية ما اضطر عائلات كثيرة للإقامة في منتجعات سياحية بعيداً عن الحدود، وسط تبادل لإطلاق النار بين إسرائيل و”حزب الله”.
مطالب “عودة ” السوريين
يعاني لبنان من انهيار اقتصادي في ذات الوقت يطالب مسؤولون فيه بضرورة عودة اللاجئين السوريين إلى بلدهم، بحجة أن أزمة اللاجئين “بلغت من الخطورة ما لم يعد في استطاعة لبنان تحمله”، بحسب تصريحات سابقة لرئيس مجلس النواب اللبناني نبيه برّي.
بدأت الحكومة اللبنانية منذ شهور بالعمل على خطة لعودة اللاجئين السوريين، وكلّفت لهذه المهمة لجنة وزارية برئاسة وزير المغتربين الذي عاد وتنحى عن مهمته، بعد أيام على إصدار البرلمان الأوروبي توصية تدعم بقاء اللاجئين السوريين في لبنان. وفي حزيران الفائت زار وزير المهجرين عصام شرف الدين العاصمة دمشق والتقى بعدد من المسؤولين لدى النظام السوري، وأعلن أن زيارته بحثت ملف عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم.
خلال الأشهر الأخيرة رحّل لبنان مئات السوريين، وأصدرت 19 منظمة لبنانية ودولية في الـ 11 من أيار الفائت، تقريراً طالبت خلاله بوقف ترحيل اللاجئين السوريين، وقالت إنّ الجيش اللبناني رحّل مؤخراً مئات السوريين بموجب إجراءات موجزة إلى بلادهم، حيث يواجهون خطر الاضطهاد أو التعذيب
صحفية سوريّة
درج
————————
ما بين أميركا وإسرائيل/ معقل زهور عدي
تغطي السحب الكثيفة التي تأتي بها رياح الدعم والتأييد الكبيرين من جانب الولايات المتحدة لإسرائيل حقيقة الاختلاف بين إستراتيجية الولايات المتحدة في هذه المنطقة والإستراتيجية التي يعمل عليها تيار اليمين الحاكم في إسرائيل.
إدراك ذلك الاختلاف مهم في وضع أي سياسة عربية في مواجهة المرحلة الخطيرة الراهنة.
بالنسبة إلى اليمين الإسرائيلي فإستراتيجيته شبه المعلنة هي تصفية القضية الفلسطينية عبر محورين منفصلين: دمج إسرائيل في المنطقة وبناء علاقات طبيعية مع الدول العربية من ناحية، وإجراء تغييرات ديموغرافية في الضفة وقطاع غزة تنهي أي احتمال لكيان فلسطيني ضمن فلسطين التاريخية وتعيد التوازن الذي فقد لصالح غالبية يهودية مقابل أقلية عربية قابلة للاندماج والذوبان بالمجتمع الإسرائيلي بصورة كاملة.
ويبدو اليمين الإسرائيلي متعجلا في الوصول إلى الهدف السابق طالما أن الظروف الدولية والإقليمية لا تعيق السير إلى الأمام مثلما كان الحال عليه حتى السابع من تشرين الأول/أكتوبر الحالي.
أما الولايات المتحدة فإستراتيجيتها للمنطقة جزء من إستراتيجية عالمية تشمل المواجهة مع الصين وروسيا والحد من التمدد الإيراني، والإبقاء على الهيمنة السياسية على أوروبا، والتحكم بإمدادات الطاقة، وإدارة الصراعات المحلية بحيث لا تخرج عن نطاق مصلحة الهيمنة الأميركية العالمية.
السؤال هنا: إلى أي حد يمكن للإستراتيجية الأميركية في المنطقة تقبل واحتواء الإستراتيجية الإسرائيلية؟ وأين يمكن أن تتعارض الإستراتيجيتان؟
ما يهم الإستراتيجية الأميركية هو بقاء درجة من الاستقرار في المنطقة، إذ لا مانع من وجود صراعات محدودة، بل يمكن أن يكون وجودها مفيدا إذا أمكن إدارة تلك الصراعات لاستهلاك طاقة شعوب المنطقة وإبقائها بعيدة عن الخروج عن نطاق الهيمنة.
تلعب إسرائيل دورا مركزيا كوكيل عن القوة الأميركية حيثما يقتضي الموقف، لكن يمكن ملاحظة تآكل ذلك الدور بسبب صعود قوى إقليمية أخرى كتركيا وإيران والسعودية.
العائق الرئيسي أمام تمدد القوة الإسرائيلية إضافة إلى صعود القوى الإقليمية الأخرى هو بقاء القضية الفلسطينية وتفجر الصراع العربي – الإسرائيلي داخل فلسطين التاريخية بصورة خاصة وخارجها بدرجة أقل حزب الله وإسرائيل.
ما تعمل عليه السياسة الأميركية هو تهذيب وترويض اندفاعة اليمين الإسرائيلي كي لا يتسبب في تحويل الصراع داخل فلسطين إلى صراع إقليمي يمكن أن يخرج عن السيطرة.
في المواجهة الحالية ليس مستبعدا وجود توافق إسرائيلي – أميركي على تهجير الفلسطينيين من غزة، لكن ذلك يرتبط بمدى تقبل الأطراف العربية للتهجير وموافقتها على تمويل إعادة إسكان سكان غزة في سيناء وفق ما أصبح معلنا من المشروع.
وبالطبع فهو يرتبط بسير معركة غزة وكيفية الانتهاء منها واحتواء ردود الأفعال المتعددة هنا وهناك.
أين إذن حدود الاتفاق /الاختلاف بين الإستراتيجية الأميركية والإسرائيلية؟
ربما يمكن العثور عليها في احتواء الصدام بين القوة الإسرائيلية والقوة الإيرانية بحيث لا يتحول إلى صراع مفتوح ومتفجر، أيضا في إبقاء بعض الخيوط بيد السياسة الأميركية من خلال علاقة مع بقية الدول الإقليمية والعربية، فالولايات المتحدة لا تقبل في نهاية المطاف دورا أقل من أن تكون لها اليد العليا في المنطقة وتلك مهمة لا يمكن أن تسند لإسرائيل وحدها.
يمكن فهم التأييد المطلق لإسرائيل حاليا كمحاولة لرأب الصدع الذي أصاب هيبة المؤسسة العسكرية الإسرائيلية وشكل انتكاسة لا يمكن الانتقاص من حجمها وتأثيرها، بالتالي فهو لا يعني بالضرورة تأييد إستراتيجية اليمين الإسرائيلي، وفي المدى الأبعد ربما يتم استخدام الفشل العسكري الإسرائيلي كما الدعم الأميركي للضغط على الحكومة الإسرائيلية لتجميد خططها الاستيطانية وسلوكها العدواني تجاه الفلسطينيين في الضفة والقطاع، لاسيما إذا ترافق مع استعادة المعارضة الإسرائيلية المبادرة وإسقاط حكومة بنيامين نتنياهو المتطرفة.
ومن المناسب هنا التذكير أن السياسة الرسمية الأميركية ومن ورائها الاتحاد الأوروبي مازالت تتبنى حل الدولتين بما يتعارض على طول الخط مع نهج اليمين الحاكم في إسرائيل.
لعل ما هو مطلوب من أي سياسة عربية تتصف بشيء من بعد النظر أن لا تتسبب في حشد كل الغرب وراء الولايات المتحدة في حين يتم دفع الولايات المتحدة لتلتحم مع الإستراتيجية الإسرائيلية. وعلى النقيض من ذلك فمن الضروري التركيز على ما يفصل بين الإستراتيجية الأميركية والإسرائيلية.
ويعني ذلك وجود دبلوماسية مرنة تجمع بين استخدام أدوات الضغط المتاحة على الغرب، وإبقاء الباب مفتوحا أمام التراجع عن سياسة الدعم الأعمى والمطلق لحكومة إسرائيل اليمينية.
بغير ذلك سيجد الموقف العربي الضعيف أصلا نفسه محشورا في الزاوية، ويكون لدى إسرائيل أفضل وقت لتضع إستراتيجيتها موضع التنفيذ لتصبح بحرفيتها جزءا من الإستراتيجية الأميركية لمرحلة قادمة.
كاتب سوري
العرب
————————-
عن الطاهر بن جلون و«المُخبرين المحليين»/ خليل صويلح
استيقظ الطاهر بن جلون صباح يوم السبت في 7 تشرين الأول (أكتوبر)، مكدّر المزاج، إذ لا بضاعة جديدة لديه صالحة للتصدير، فقد استهلك كل التوابل المغربية في صنع حساء يستسيغه الفرنسيون. تأمل الطبعات المتتالية من روايته «ليلة القدر» التي أوصلته إلى جائزة «غونكور» المرموقة، وتمنى لو أنه لم يكتب «العنصرية كما شرحتها لابنتي»، فليذهب المهاجرون إلى الجحيم، هؤلاء الذين لوّثوا أوروبا بروث أفكارهم وأصولياتهم المتشدّدة، ثم استغرب اللامبالاة تجاه روايته الأخيرة «العسل والمرارة» على رغم حمولتها الثقيلة من المعطّرات الشرقية بخصوص الاغتصاب والعنف والجهل. أحسّ بمرارة القهوة في فمه، إذ لم يندمل جرحه بعد، من فوز أمين معلوف بأمانة الأكاديمية الفرنسية مدى الحياة، فهو أحقّ منه بالمقارنة مع الفواتير التي دفعها بالتقسيط والجملة لجهة فضح أمراض الشرق.
تذكّر روايته القديمة «الرجل المحطّم» أو «المرتشي»، وقرّر أن يستفيد من خبرة بطل روايته في مجال الرشوة من موقعٍ مضاد، ولكن ما هي الرشوة التي ينبغي تقديمها للغة موليير؟ كانت صور اجتياح المستعمرات الإسرائيلية تتالى من شاشة التلفزيون الصامت. أعاد الصوت إلى الشاشة لمعرفة ما يجري تماماً. شكر «حماس» في أعماقه على هذه الهدية الثمينة التي قلبت مزاجه رأساً على عقب، وهتف على طريقة أرخميدس «وجدتها» ليكتب مقاله الأسبوعي في مجلة «لوبوان» عن هذا الحدث المزلزل إذاً، ولا شك سيكون مقالاً مدويّاً. كان عليه أولاً، أن يشعر بالعار إزاء هؤلاء «الحيوانات» في هجومهم «الهمجي» على «اليهود»، في جملة من هذا الطراز سينسف أكثر المتفرنسين الجدد نفاقاً، وربما سيتفوق على هنري ليفي نفسه. ثم من أين بزغ هؤلاء المعتوهون أمثال بوعلام صنصال، وكمال داوود، وياسمينة خضرا، فهؤلاء «لا يقولون أدباً، إنما يبيعون سلعة». أما بضاعتي فهي مغلّفة بالسيلوفان وتزيّن واجهات المكتبات على الدوام. ينبغي ألا ينافسني أحد على هذه الوليمة الدسمة التي أتت على قدميها، وسيكون دربي أخضر إلى جائزة «نوبل» للأدب. ففي فاتورة من هذا النوع، أظنّ بأنني استكملت دفتر الشروط والأوراق المطلوبة، وحتى الطوابع للصعود إلى منصة الأكاديمية السويدية. لا يعنيني باسكال بونيفاس وكتابه «المثقفون المزيفون»، ليثرثر ما يشاء عن النزاهة الفكرية وعديمي الضمير وأيتام الربيع العربي، لا أحد يمتلك الوصفة السحرية كما أمتلكها، هكذا سطوت على مذكرات سجين مغربي، وطهوتها بطريقتي في «تلك العتمة المبهرة»، وكأنني كنت السجين لا السجّان. لا أريد أن أرى هذا المسلخ البشري في غزة، فهؤلاء «أقل شأناً من الحيوانات». لن يلوثوا يوم عطلتي بدمائهم، فنشرة أحوال الطقس أكثر أهمية لنزهتي الباريسية من هذا الصراخ!
تحسّن مزاج الروائي الفرنكوفوني المستقيل من هويته الأصلية، لم يدم طويلاً، فهناك ذبابة تحوم حول الحساء تدعى بن علام صنصال، تسعى لاحتلال مكانه بالأدوات نفسها، وبجرعة أكبر، ثمّ أنه زار «إسرائيل» وهو ما لم يفعله بن جلون إلى اليوم، كما عمل على «تجميل صورة الاستعمار والحنين إليه، ليس فقط بالتعتيم على جرائمه، وإنما أيضاً بالاحتفاء بعملائه وتشويه مقاوميه». على المقلب الآخر، أتت قضية منع تكريم الروائية الفلسطينية عدنية شبلي في «معرض فرانكفورت»، وإقصاء روايتها «تفصيل ثانوي» بعد ترجمتها إلى الألمانية بمثابة تشويش إضافي على احتفالية المزيفين، وخصوصاً بعد توقيع بيان ضمّ كتّاب نوبليين بينهم آني إرنو، وإذا بأولئك الذين ظنّوا أنهم اجتازوا مسافة الأمان نحو حضن الآخر بوصفهم «مخبرين محليين» وفق ما يقول حميد دباشي في كتابه «وجوه سمراء وأقنعة بيضاء» بمهمة محدّدة هي تصدير السلعة المحلية الرثّة إلى لغة الآخر بما يرضي تصوراته عن الأكزوتيك الشرقي ومناصرة المحتل، السلعة المرغوبة بشدّة في السوق!
ملحق كلمات
———————–
التشابه الكبير في غزة وأخواتها السوريات!/ فايز سارة
قد يبدو العنوان غريباً، وللقراء الحق؛ ففي التبعية الكيانية والسياسية، كما في الجغرافيا والتاريخ وفي الموقع وعدد السكان وتركيبهم الاجتماعي والثقافي وغيرها، ثمة كثير من الاختلافات بين غزة فلسطين وكل من منطقة شمال غربي سوريا الأخت السورية الصغرى، التي يشار إليها باعتبارها منطقة السيطرة التركية، والأخت الثانية، منطقة شمال شرقي سوريا، التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية والمعروفة باسم «قسد» اختصاراً. بل إن ثمة فروقاً بين الأختين الأخيرتين في كثير من تفاصيل، يعجز كثيرون عن تعدادها، ولعل هذا أهم الأسباب التي تجعل العنوان حول تشابه الأخوات، وليس اختلافاتهن.
في تشابه حال الأخوات، أول ما يلفت النظر وقوعها الراهن تحت خط النار لحرب إسرائيلية، وأخرى سورية/روسية، وثالثة تركية، توجه جميعها إلى الأكثرية الأضعف من السكان، وأقل ما يمكن أن توصف به، أنها نار همجية شاملة، والأخيرتان يمكن أن تكوناً بعضاً من صفات أي حرب، لكنها في حالة الأخوات الثلاث، تشكل حالة ثأر لدماء ضحايا ما زالت ساخنة.
ويركز الإسرائيليون في وصف الحرب على غزة، أنها ساحقة ومدمرة وواسعة الأهداف، موجهة ضد حركة «حماس»، التي تسيطر على غزة، وهي رد على احتجاز إسرائيليين، وشن هجمات صواريخ على عشرات الأهداف، والتي أدت إلى خسائر بشرية ومادية كبيرة، في نتائجها أرقام مميزة، عما أصاب إسرائيل في أي من حروبها السابقة.
ولا يتجاوز نظام الأسد في أسباب فكرة الثأر في حربه على منطقة السيطرة التركية، فيؤكد أنها انتقام لما حصل في مذبحة الكلية الحربية بحمص، التي قتل فيها عسكريون وأهالٍ من المدنيين على هامش حفل تخريج ضباط الكلية، مما دفع قوات نظام الأسد والطائرات الروسية إلى شن هجمات واسعة على عشرات المدن والقرى والمخيمات، قتل وجرح فيها عشرات، وهجر عشرات آلاف، وشمل الدمار الممتلكات والمرافق العامة والبنى التحتية.
وتقارب الحرب التركية في شرق الفرات التجربتين السابقتين. إذاً هي ثأر لعملية تفجير إرهابية، ارتكبها عناصر من «حزب العمال الكردستاني» التركي(PKK) مؤخراً في العاصمة أنقرة، التي تصف الحزب بأنه منظمة إرهابية، وتصف «قسد» بأنها جزء منه، وقد دمرت العمليات التركية أهدافاً استراتيجية وحيوية كثيرة في مدن وقرى شرق الفرات، وقتلت وجرحت عشرات من المدنيين.
وثمة جانب لا بد من التوقف عنده في الحرب الجارية في المناطق الثلاث، وهي أن الحرب في جبهاتها الثلاث حرب مرحلية، سوف تتوقف عن حد إشباع القائمين بها الثأر والانتقام، وبهذا المعنى فإنها لن تتمخض عن حلول في جوهر الصراع القائم بين أطراف جبهاتها الثلاث، فهي لن تحل، ولن تسهم في حل للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، التي اندلعت حرب غزة على خلفيته، ولن تكون الحرب على منطقة السيطرة التركية مرحلة في حل ما للقضية السورية، ولا الحرب التركية ضد «قسد» ستوفر فرصة أفضل للأمن القومي التركي على نحو ما يسعى الأتراك، الأمر الذي يعني في الحالات جميعاً أن الحرب سوف تتكرر وتتكرر، وربما مرات كثيرة، ما دام لا حلول للأسباب الجوهرية.
ولعل من أهم مشتركات تشابه المناطق الثلاث، أنها مناطق محكومة بقوى الأمر الواقع، وليس من سلطة فيها تم انتخابها، أو جرى التصويت أو التشاور حول إمساكها السلطة، إنما جاء الأمر نتيجة تطورات سياسية وميدانية، أدت إلى فرض السلطة بالقوة، وهذا ما فعلته حركة «حماس» ذات التوجه الإخواني، وفعلته «هيئة تحرير الشام»، التي تعود نواتها الصلبة إلى «جبهة النصرة» فرع تنظيم «القاعدة» في سوريا، وأخواتها من التنظيمات المسلحة في المنطقة المنتمية إلى اتجاهات إسلامية محلية الطابع، فيما تتبنى نواة «قسد» المعروفة بحزب الاتحاد الديمقراطي(pyd) آيديولوجيا يسارية مركبة على تشدد قومي كردي، وتحكم كل واحدة من السلطات منطقة سيطرتها بالقوة الغاشمة المتشددة، فيما يصفها خصومها من الإسرائيليين ونظام الأسد والأتراك، بأنها قوى إرهابية، ورغم أن في ذلك بعض الحقيقة، فإن خصومها أسوأ؛ إذ هم في قائمة الأنظمة التي تمارس الإرهاب وتدعمه على نطاق واسع.
وانتقالاً من تشابه سلطات الأمر الواقع وطبيعتها، فإن التشابه يشمل بعض حال سكان تلك المناطق؛ ففي غزة يبلغ عدد السكان نحو 2 مليون وربع مليون نسمة، وفي منطقة شمال غربي سوريا أكثر من 4 ملايين، ويزيد سكان منطقة سيطرة «قسد» في شمال شرقي على 3 ملايين، ويعاني أغلب سكان المناطق الثلاثة من الفقر، وقلة فرص العمل، ومن هشاشة الخدمات الأساسية في الماء والكهرباء والمشافي والمدارس، وتسجل منطقة السيطرة التركية واحدة من أعلى نسب سكن المخيمات العشوائية في العالم، وواحدة من أسوأ نظم ونسب التعليم.
وتتعرض حالة التردي لسكان غزة وأخواتها إلى مزيد من التدهور في ظل الحرب الحالية، التي تجعل المدنيين أهدافاً أساسية لها، وتضع في جملة أهدافها المرافق العامة والخدمات تحت مسعى يتضمن زيادة صعوبات حياة السكان، وإشاعة الإحباط واليأس في صفوفهم بدعوى أنهم يشكلون حاضنة للإرهاب، وداعمون للجماعات الإرهابية، وهي ادعاءات يعرف أصحابها أنها غير حقيقية، ويعرفون أن قوى سيطرة الأمر الواقع في المناطق الثلاث، ليست محكومة بإرادة سكانها.
خلاصة القول، في تشابهات حال غزة وأخواتها السوريات، أن المناطق الثلاث على ما بينها من اختلافات، إنما ترسم ملامح وضع عربي سيئ، تتحالف في تكريسه قوى إقليمية، لا تدفع نحو الأسوأ فقط، بل إنها تترك المشاكل والقضايا دون حلول، وتقاوم كل مساعي الحلول التي بلورتها الإرادة الدولية والمبادرات الإقليمية وغيرها، وأن سلطات الأمر الواقع المحلية شريك واقعي للقوى الإقليمية رغم ما تبديه من اختلافات في الشعارات والسياسات، وكلها أمور تضع عالمنا والعرب الراغبين في تغيير واقعهم ومستقبلهم لتحرك فاعل ونشط نحو تركيز جهودها، والسعي لحل مشاكل المنطقة بصورة جدية.
————————
ازدواجية الغرب… ماذا عن الشرق؟/ عالية منصور
قبل أعوام كتبت على صفحات “المجلة” عن انفصام “الممانعة” الأخلاقي. يقتل ممثلوها الآلاف في سوريا ويدينون قتل رجل أسود في الولايات المتحدة، يحاصرون الفلسطينيين والسوريين ويقتلونهم جوعا في مخيم اليرموك وفي مضايا والزبداني، ويستنكرون ويغضبون لحصار إسرائيل الجائر لقطاع غزة.
تجارتهم بالمبادئ والقيم والقضايا ليست بالأمر الجديد، فمشروع “حزب الله” وكل من يدور في فلك إيران هو خدمة مشروع إيران التوسعي والحفاظ على مكاسبهم، أما فلسطين فهي للأسف مادة مربحة جدا للتجارة، يتاجرون بها ويتعاملون معها وفق مصلحة إيران فقط.
بعد عملية “طوفان الأقصى”، وبعد الرد الإسرائيلي الذي تمثل في عدوان همجي على قطاع غزة وقتل الآلاف من المدنيين، هالني أن أرى، وللأسف، أن “الممانعة” ليست وحدها من يعاني من انفصام إنساني وأخلاقي، أرعبني أن أرى الهجوم الذي يتعرض له كل من كان له موقف أخلاقي وإنساني وعقلاني.
لنبدأ من عملية “طوفان الأقصى”، العملية العسكرية التي قامت بها “حماس” ضد إسرائيل، والتي تسببت في قتل أطفال واعتقال مدنيين إسرائيليين وأجانب، وكان الرد الإسرائيلي بقتل آلاف الأطفال والمدنيين الفلسطينيين.
عندما صدرت بيانات عربية، ومواقف من شخصيات سياسية وثقافية وإعلامية أدانت قتل المدنيين والأطفال من كلا الجانبين، تعرض أصحاب هذه البيانات لحملة شرسة ليس فقط من بعض الشارع العربي، ولكن ممن يعتبرون من “النخب”، حملة تنطلق من مبدأ يقول: ما دامت إسرائيل قد قتلت أطفالا فلسطينيين فلماذا استنكار قتل أطفالها؟ وكأن قتل الأطفال يمكن أن يبرر.
في باكستان في عام 2017، أمر مجلس “الحكماء” المعروف أيضا باسم “بانشايات”، أو “جيرغا”، في منطقة باكستانية نائية، رجلا باغتصاب فتاة عمرها 16 عاما، بعدما تعرضت شقيقته للاغتصاب من قبل شقيق الفتاة التي صدر الحكم باغتصابها. قبل ذلك بسنوات، أصدر مجلس محلي آخر قرارا باغتصاب جماعي لامرأة اتهم شقيقها خطأ بحوادث اغتصاب.
نعم في بعض المناطق في باكستان المغتصب لا يحاكم، بل وبقرار “رسمي” من سلطة محلية أو قبلية يتم اغتصاب شقيقته كعقاب له، كيف لا والمرأة هي الحلقة الأضعف؟
إن صدمكم الأمر، اسألوا أنفسكم ما الفرق بين هذا وذاك؟ ما الفرق بين ما تقوم به بعض القبائل في باكستان ومن يبرر قتل أطفال إسرائيل لأن أهاليهم قتلوا أطفال فلسطين؟
فبرك الإعلام الإسرائيلي قصصا عن قطع رؤوس أطفال، حتى إن الرئيس الأميركي جو بايدن تبنى الخبر ليعود البيت الأبيض بعد ساعات ويبرر أو يتنصل من هذا التبني، فالرواية كلها مفبركة ولا أساس لها من الصحة.
نائب رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) صالح العاروري، قال في حديث تلفزيوني قبل أيام: “إن التعليمات كانت منذ البداية لدى مقاتلي القسام بالالتزام بتعليمات الدين الإسلامي في الحروب، والاكتفاء فقط بمقاتلة الجنود والمسلحيين”، مضيفا أن ما جرى هو “أن بعض أهالي القطاع عندما سمعوا بانهيار الحدود مع غلاف غزة سارعوا لدخول الغلاف، وحصل هناك بعض الفوضى”. إذن، أي انتهاك حصل لتعاليم الدين الإسلامي، فلا علاقة لحركة “حماس” به، إنهم الأهالي.
بدوره صرح خالد مشعل، الرئيس السابق للمكتب السياسي لحركة حماس بالخارج، في مقابلة مع “العربية”، بأن “لدينا أسرى من الجنود الإسرائيليين بما يكفي للتفاوض على معتقلينا، وأبلغنا بعض الدول باستعدادنا لتسليم الأسرى المدنيين”.
وإن سألنا: إذن، هل أسرت “حماس” مدنيين كما قال مشعل، أم إن الأهالي هم من فعلوا كما قال العاروري، فهل سنواجه بالتخوين؟
ولنفترض أن أهالي القطاع هم من أسروا المدنيين وبينهم أطفال (شاهدنا صور الإفراج عن أم وطفليها ثم أم وابنتها)، لماذا احتفظت الحركة بهم إن كانت تتبع تعاليم الدين كما تقول؟
عدد من الدول الأوروبية فرض قيودا وحظرا على المظاهرات المتضامنة مع غزة، ووصل الأمر بالتهديد باعتقال وترحيل من يخالف القرار، في وقت سمحت فيه هذه الدول نفسها بالتظاهر تأييدا لإسرائيل، ولكن الذي حصل أن مسيرات ومظاهرات في هذه الدول خرجت ورفعت العلم الفلسطيني وأعلنت تضامنها الكامل مع الفلسطينيين في غزة ونددت بحرب الإبادة التي يتعرضون لها على يد إسرائيل. حتى إن المحكمة العليا الفرنسية أبطلت قرار الحكومة الفرنسية وسمحت بالتظاهر في باريس تضامنا مع فلسطين.
في الولايات المتحدة الأميركية، الداعم الأكبر والأقوى لإسرائيل، نظم مئات اليهود الأميركيين اعتصاما مفتوحا في مبنى الكونغرس الأميركي مطالبين بوقف الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة ومنددين بالمجازر التي ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين.
في الوقت نفسه، كان بعض المتظاهرين العرب والمفكرين والصحافيين والسياسيين، يخبروننا كيف لو أن أمين عام “حزب الله” قرر فتح جبهة الشمال وشن حربا على إسرائيل فهم معه، ويغفرون له ما سبق. هم قادرون على أن يغفروا ويبيضوا صفحة حسن نصرالله، المسؤول عن قتل مئات آلاف السوريين مع بشار الأسد، من أجل فلسطين؟ هل من ازدواجية بالمفاهيم والقيم والأخلاق أكثر من هذه الازدواجية؟ يفاضلون بين قتلة؟ يفاضلون بين دماء الأطفال؟
فلسطين قضية حق، والتضامن معها واجب إنساني وأخلاقي قبل أن يكون واجبا عربيا أو إسلاميا، وازدواجية المعايير في الغرب ليست بالأمر الجديد. ولكن، هل لنا أن نسأل عن ازدواجية المعايير في شرقنا التعيس؟ هل لنا أن نتخيل أن تخرج مظاهرة ولو من بضعة أشخاص لا يتجاوزون أصابع اليدين تستنكر قتل الأطفال، جميع الأطفال؟ هل لنا أن نتخيل مجموعة من المسلمين تخرج في إحدى العواصم العربية أو الإسلامية تطالب بالسلام العادل، وتندد بقتل الأطفال؟
ما نحتاجه حقا هو بضعة أصوات شجاعة، لا تخاف من التخوين والتكفير، تسأل وتفكر وتقول لا للازدواجية، في الشرق والغرب، لا لقتل الأطفال أكانوا مسلمين أم يهودا أم مسيحيين أم أي شيء كانوه. لا للمفاضلة بين مجرمين وبين محتلين، يكفينا ما نعيشه من نكبات سياسية، لسنا بحاجة لنكبات أخلاقية وإنسانية.
إن ما تحتاجه المنطقة هو الاعتصام بالعقل والأخلاق التي تقول إن احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية ومعاملتهم بعنصرية وبوحشية تبرر قتلهم كما قال وزير الدفاع الإسرائيلي عندما وصف أهل غزة “بالحيوانات البشرية”، جريمة بحق الإنسان وبحق القانون الدولي، فهذا الاحتلال لا يجوز أن يظل قائما في عالم يدعي أنه يسير باتجاه المستقبل ورفاه الجنس البشري.
في المقابل، المبادرة العربية التي حددت أن أساس السلام هو دولة فلسطينية على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، يجب أن تكون أساس النضال الوطني الفلسطيني، وهو ما تبنته منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني والتي اعترفت بها إسرائيل، لكن “حماس” حتى اللحظة ترفض الاعتراف بها.
إن انتقادنا لـ”حماس” ليس لحملها السلاح ضد الاحتلال، بل سببه خروجها على قرارات الشعب الفلسطيني ومطالب الفلسطينيين التي أقرتها ووافقت عليها منظمة التحرير، والتي يجب أن تعترف بها “حماس” وتتوقف عن تكريس الانقسام الفلسطيني وفصل غزة عن الضفة وإهدار حل الدولة الفلسطينية، فقضية فلسطين ملك للشعب الفلسطيني وليست ملكا لميليشيا “حزب الله”، أو الحشد الشعبي العراقي، أو الحرس الثوري الإيراني.
المجلة
————————-
اللعنات لإسرائيل والموت للعرب/ عالية منصور
ما تعيشه غزة وما يعيشه أهالي غزة وسكانها، وهول المجازر المرتكبة بحقهم، وأعداد الضحايا التي ترتفع بالعشرات وأكثر خلال دقائق؛ عائلات بأكملها قتلت، مئات آلاف البشر بلا مأوى، بلا ماء ولا كهرباء، حرب إبادة بحق شعب بكامله، مشاهد صادمة تدمي القلوب، ولكن هل هي مشاهد مفاجئة؟
يقولون عندما تحل الكارثة لا مكان لصوت العقل. صوت العاطفة والغضب والحزن وحده مسموع، ولكننا نعيش كوارث مستمرة منذ أكثر من 75 عاما، في فلسطين وغيرها، نحيي ذكرى النكبة. لكن لا يمر بضع سنين علينا دون نكبات، من فلسطين إلى لبنان واليمن، من السودان والعراق وسوريا إلى ليبيا ومصر والصومال. هل نسيت أحدا من جمهورياتنا العربية المنكوبة؟
تختلف صور الموت والدمار، ولكنه في كل مكان، ونحن منذ أكثر من 75 عاما لا نفعل شيئا سوى الغضب الذي يقودنا إلى مزيد ومزيد من النكبات.
هل علينا أن لا نغضب ونحن نلملم أشلاء بعضنا البعض؟ هل علينا أن لا نصرخ ونحن نرى كيف يشيع الشهيد شهيدا، هل علينا أن نحافظ على توازن عقولنا ونحن نرى كيف تحول أطفالنا إلى أرقام ضحايا ترتفع في لحظات وكأنهم في سباق إلى الموت؟
نعم، إسرائيل ترتكب مجازر وحرب إبادة بحق الفلسطينيين. لكن هل كنا نتوقع غير ذلك؟ إسرائيل تنتهك القوانين الدولية والمعاهدات والمواثيق، ولكن منذ متى التزمت إسرائيل بالقانون والمعاهدات والمواثيق؟
وكي لا نسأل إن كانت قيادات حركة حماس طرحت على نفسها كل هذه الاسئلة قبل وأثناء التحضير والاستعداد وإطلاق عملية “طوفان الأقصى”، فنُتهم بالتخاذل، هل لنا أن نسأل إن استعدت حماس وهي تعد العدة لهذه العملية لما سيليها؟ هل جهزت الملاجئ لأهالي غزة؟ هل أمنت مخزونا من الماء والطعام والوقود ليصمد القطاع ولو لأيام قليلة؟
هل لنا أن نسأل ونحلم أن المجتمع الدولي- الذي برهن عن تواطؤ لا مثيل له مع الجريمة المرتكبة بحق الفلسطينيين- أرغم إسرائيل على وقف إطلاق النار ورفع الحصار عن غزة وتفاوض مع حماس، وهل لدى حماس ما تفاوض عليه غير ملف تبادل الأسرى، وهو ملف بالطبع له أهميته؟
منذ عشرات السنين والجميع يدرك أن الحل الوحيد لإنهاء معاناة الفلسطينيين، أو الحل الواقعي الوحيد لإنهاء معاناة الفلسطينيين يكمن في إقامة دولتين على حدود عام 1967، ولكن حكومات إسرائيل المتطرفة ترفض هذا الحل وتتهرب منه، وكذلك تفعل حماس.
يتوهم البعض أن عملية “طوفان الأقصى” التي كسرت هيبة إسرائيل العسكرية إلى الأبد، سترغم إسرائيل على القبول بحل الدولتين، ولكن هل تقبل حماس بحل الدولتين؟
يصب البعض جام غضبه على مصر لأنها ترفض إدخال الفلسطينيين إلى أراضيها، وتصر على إدخال المساعدات إلى القطاع بدل إخراج أهله، ولكن أليس تهجير أهالي غزة حلم إسرائيل القديم، أليس نقلهم إلى سيناء وإفراغ غزة من سكانها حلما طالما راود إسرائيل وسعت إلى تحقيقه؟
أين من توعد بتحرير القدس، وسمى فرقة من جيشه باسم “فيلق القدس”؟ لماذا لا نسمع أي مسؤول من حماس يقول لهم: “لقد خذلتمونا وخذلتم القدس وفلسطين”؟ ألم يطلق إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس لقب شهيد القدس على قاسم سليماني وهو الذي أجرم بحق العرب إجراما لا يقل عن إجرام إسرائيل بحق الفلسطينيين؟ أين النظام السوري وميليشيا “حزب الله” اللذين مارسا حرفيا بحق السوريين كل ما تمارسه إسرائيل بحق الفلسطينين، تحت شعار “محاربة الصهيونية”؟ أم إن هذا المحور يكتفي بإرسال اللعنات لإسرائيل بينما يرسل الموت للعرب على شكل ميليشيات طائفية حاقدة متعطشة للدماء.
هذا لا يعني بأي شكل من الأشكال أن ما تقوم به إسرائيل مبرر، هو جريمة إبادة، جريمة ضد الإنسانية جمعاء وليس ضد غزة وحسب، ولكن ألا يحق لنا نحن أيضا أن نغضب ونسأل؟
ستنتهي حرب إسرائيل على غزة، ولكن ماذا ستكون نتيجتها؟ آلاف الشهداء، هم ليسوا أرقاما، وإن أردنا أن يتعامل الغرب مع حياتنا على أنها ذات قيمة، فعلينا أولا أن ندرك نحن أن حياتنا لها قيمة، علينا أن نكف عن الدعوة للموت، فكيف إن كان موت كموت أطفال غزة؟ هم ليسوا خسائر جانبية، هم الخسارة والمصاب.
ستنتهي الحرب وسيكتشف أصحاب الشعارات من المستفيد من كل هذا، سيرون من استطاع بدمائنا خلط أوراق المنطقة كلها من حمص إلى غزة، ليقول: أنا هنا والقرار لي، ولا حلول في المنطقة من دوني، علما أنه لا يريد الحلول العادلة لأهالي المنطقة، هم فقط وقود في معاركه وحروبه التوسعية.
وفي النهاية، أقول: قد يرى البعض أنه كان بإمكاني تأجيل كتابة هذا المقال بضعة أسابيع احتراما لفلسطين وقضيتها وأهلها، لكن إيماني بفلسطين وقضيتها وحق الفلسطينيين في حل عادل يعطيهم حقوقهم، حتّم علي أن أعبر عن غضبي دون أن أغمض عيني عما أراه وأعيشه منذ سنين.
حمى الله فلسطين وأهلها، حمى الله غزة وخفف من مصابها، وأبعد عنها جرائم إسرائيل وتجار الدم.
المجلة
———————–
“7 أكتوبر”… هل يغير مسار التاريخ؟/ إبراهيم حميدي
هل يغير 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 مسار التاريخ في منطقة الشرق الأوسط؟ كنا في “المجلة” نضع اللمسات الأخيرة على عدد شهر أكتوبر. يتضمن عدة ملفات؛ أحدها عن الذكرى الخمسين لـ”حرب 6 أكتوبر” 1973. مفاجأة مصر وسوريا وفشل الاستخبارات الإسرائيلية في توقعها. تضمّن الملف مقالات ووثائق وساطة وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر لـ”فصل” الجبهتين وتحويل المفاجأة إلى تسوية تاريخية.
وقبل أن يجف حبر صفحات في جسد المطابع، وتعبر الكلمات عروق الشبكة العنكوبية، استيقظ الشرق الأوسط على مفاجأة جديدة في “7 أكتوبر” بعناصر جديدة:
الأولى، فشل استخباراتي إسرائيلي في توقع هجوم “حماس” وعبور جدار غزة في 2023، كما الفشل في توقع عبور مصري لـ”خط بارليف” في 1973.
الثانية، بخلاف الحروب العربية- الإسرائيلية السابقة، لم يكن الهجوم من دول وجيوش نظامية، بل من فصيل، هو “حماس” مدعوم بلاعب إقليمي وجهات عربية.
الثالثة، لأول مرة، منذ عام 1948، يجري الهجوم داخل إسرائيل، في أراضي الـ1948. نكسة يونيو/حزيران 1967 كانت في أراضي دول عربية وأسفرت عن خسارة الضفة الغربية والقدس وسيناء والجولان. “حرب أكتوبر” 1973 دارت في الأراضي السورية والمصرية المحتلة. اجتياح 1982 جرى في لبنان، وغير ذلك من اغتيالات عابرة للحدود والعواصم.
العناصر الثلاثة ليست قليلة، لكنها ليست الوحيدة التي تستدعي التوقف عند “7 أكتوبر” 2023: هناك قتلى مدنيون وضحايا كثر. ومخاوف من تهجير. كارثة إنسانية وحصار. أرقام غير مسبوقة حتى في حسابات الشرق الأوسط ومقابره. تلحف غربي بالرواية الإسرائيلية. استنفار وجودي إسرائيلي، وتوحد لانتقام أعمى في أبنية غزة وأجساد أطفالها. بحث عن قواعد للاشتباك ومخارج وسط الركام والدماء.
لكن هل يغير هذا اليوم مسار التاريخ؟ كأن الشرق الأوسط الرهيب ينهل من حبره السري والأحمر لكتابة صفحة جديدة بين صفحاته وقواميسه. هناك إرث من النكسات والنكبات والخيبات. كومة من الصفقات والرغبات والتسويات. أمام كل منعطف تحصل حرب. وبعد كل حرب تحصل تسوية. ولا بأس من العودة إلى التاريخ القريب- البعيد.
بعد النكسات الجغرافية في “نكسة يونيو”، جاء “انتصار أكتوبر”. اتفق الرئيسان أنور السادات وحافظ الأسد على الحرب واختلفا على السلام. بدأ الأول بـ”الفصل” ثم مضى بـ”أم الدنيا” إلى اتفاق كامب ديفيد. أما الأسد، فقد حرقه لهيب الحرب. عرف مكاسب السلطة ومخاطر السلام، فاكتفى بغطاء “فك الاشتباك”. طريق “قلب العروبة” إلى واشنطن يمر عبر تل أبيب، لكن على الطريقة التفاوضية السورية.
محطة ثانية في التسعينات بعد مؤتمر مدريد للسلام في 1991 غداة حرب، حرب تحرير الكويت وإعلان الأحادية الأميركية على رماد الاتحاد السوفياتي. وقّع رئيس “منظمة التحرير الفلسطينية” ياسر عرفات اتفاق أوسلو في 1993، والملك حسين اتفاق وادي عربة في 1994.
المحطة الثالثة كانت بعد عملية “عناقيد الغضب” في لبنان عام 1996. رئيس الوزراء الإسرائيلي شيمعون بيريس كان يريد أن “يحلق في السماء” على أجنحة “شرق أوسط جديد” بعد اغتيال سلفه إسحق رابين نهاية 1995. حصلت عمليات انتحارية في إسرائيل أوقفت المسار، وذهب إلى الحرب في لبنان، وخسر الانتخابات، وورثه اليميني بنيامين نتنياهو.
محطة رابعة، بعد حرب يوليو/تموز 2006 في لبنان. حرب مدمرة. تحدثت أميركا عن “مخاض شرق أوسط جديد”. انتهت الحرب بصدور القرار الدولي 1703: تحييد “جبهة الجنوب” مقابل تركيز “حزب الله” على بيروت وقراراتها.
7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، جاء في لحظة إقليمية ودولية. بعد “الاتفاقات الإبراهيمية”. واتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل. وكلام عن “ترسيم بري”. واتفاق أميركي- روسي يبعد ميليشيات إيران 80 كيلومترا عن خط “فك الاشتباك” في الجولان.
الصورة الأوسع للمشهد، مصالحات في الإقليم. مفاوضات أميركية– سعودية لتوقيع اتفاقات استراتيجية كبرى تضمن المصالح وتضع أسس شرق أوسط جديد، وتدعم الفلسطينيين لإحياء مفاوضات انتزاع حق الشعب الفلسطيني في دولته. وتتضمن النظر إلى شرق أوسط بمقاربة مستقبلية تجمع محصلة المصالح الكبرى، الأميركية والصينية والروسية، وتستفيد منها.
هل يغير “7 أكتوبر” مسار التاريخ؟ هل ينقل المنطقة، من مخاض آلامها وآمالها، إلى لغة المستقبل وطموحات أهلها وتحقيق حقوق الشعب الفلسطيني؟
في هذا العدد إجابات تنزف الآلام والأحلام وتتأبط بالتاريخ ولا تقع أسيرة له في استشراف المستقبل. هناك مؤشرات تدل على أن صفحة تطوى وأخرى تفتح، والشرق الأوسط مخلص لإرثه العتيد، في ترك الأسئلة مفتوحة والأجوبة حذرة؛ صفحة تغير التاريخ؟
————————-
هل سوريا جبهة جديدة في الصراع بين “حماس” وإسرائيل؟/ حايد حايد
ما إن أُعلن عن استئناف العمل في مطار حلب السوري في 14 اكتوبر/ تشرين الاول حتى وجه الجيش الإسرائيلي إليه ضربة أخرى أخرجته من جديد من الخدمة. وفي وقت سابق من اليوم ذاته، قصفت تل أبيب سوريا، ردا على صاروخ أُطلق من المنطقة الجنوبية باتجاه هضبة الجولان المحتلة. وقد لا يكون في ذلك التصعيد مفاجأة كبرى، فقد حُشدت قوات مدعومة من إيران ونُشرت على طول الحدود السورية الإسرائيلية منذ 9 أكتوبر/تشرين الأول.
ومع ذلك، أثارت هذه التطورات التي برزت مؤخرا تساؤلات حرجة حول احتمال استخدام سوريا لفتح جبهة جديدة مع تكثيف الهجوم الإسرائيلي المستمر على غزة. ويُفاقم هذا القلق حقيقة أن تل أبيب انخرطت في تبادل لإطلاق النار مع “حزب الله” في جنوب لبنان، اعتمادا على استراتيجية العين بالعين. وفي حين أن النظام السوري قد لا يمتلك الموارد اللازمة أو الرغبة في الشروع في مسعى محفوف بالمخاطر كهذا، فإن وجود قوات عدة تدعمها إيران في سوريا، ومن ضمن ذلك “حزب الله”، وميليشيات الحشد الشعبي العراقية، يفتح الباب واسعا أمام أطراف أخرى للقيام بهذه الخطوة، ولا سيما إذا استمرت الأعمال العدائية في التصاعد على جبهات أخرى.
وقد ركز رد الحكومة السورية بشكل أساسي على إصدار بيانات رسمية تدين إسرائيل، إلى جانب إجراء مشاورات مع الأطراف الإقليمية والدولية بهدف تهدئة الوضع. وعلى الرغم من الامتناع عن استخدام لغة التهديد العلنية، إلا أن الخطوط الأمامية السورية مع إسرائيل لم تبقَ هادئة؛ ففي مساء يوم 10 أكتوبر/تشرين الأول، أُطلقت قذائف هاون من سوريا باتجاه مرتفعات الجولان، التي تخضع للاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1967. وسرعان ما ردت إسرائيل بإطلاق نيران المدفعية باتجاه مصدر الهجوم. وبعد يومين، شنت إسرائيل هجمات صاروخية متزامنة على المطارين الرئيسين في سوريا وتحديدا في دمشق وحلب، وهو الأمر الذي أدى إلى توقفهما عن العمل.
وتشير بعض المصادر إلى أن هذه الضربة محاولة لتعطيل طرق إمداد الأسلحة الإيرانية إلى سوريا، وقد تزامنت مع الزيارة المخطط لها لمسؤول إيراني في وزارة الخارجية إلى سوريا، مما يشير أيضا إلى أنها تحذير لإيران من التدخل المحتمل من خلال سوريا و”حزب الله” في لبنان.
ومع ذلك، ورد أن هجوما صاروخيا آخر قد شُن من سوريا يوم 14 أكتوبر/تشرين الأول، وهو الأمر الذي أدى إلى توجيه ضربة إسرائيلية لاحقة إلى مطار حلب بعد أن استأنف عمله. والجدير بالذكر أنه لم تعلن أي جماعة مسؤوليتها رسميا عن الهجمات الصاروخية التي شُنت ضد إسرائيل، ووصل الأمر بوكالة الأنباء السورية الرسمية إلى حد الامتناع عن الإبلاغ عن الحادث. ولكن، تُشير المصادر إلى أن جماعة فلسطينية تابعة لـ”حزب الله” هي التي نفذت كلا الهجومين الصاروخيين على الأرجح.
وفي العموم، يُشير الحجم المحدود لهذه المناوشات إلى أن غايتها إيصال رسائل سياسية عبر الوسائل العسكرية. وتهدف إيران إلى التأكيد على أن إحجام النظام السوري عن المشاركة على نحو مباشر في عمل عسكري ضد إسرائيل لا يعني أن الفصائل المسلحة الأخرى العاملة في المنطقة لا يمكنها القيام بعملٍ كهذا. وهذا أمر يتمتع بأهمية، وبخاصة عند النظر إلى واقع أن الميليشيات غير السورية العاملة هناك تتلقى توجيهاتها من إيران وليس من دمشق.
ومن ناحية أخرى، استخدمت إسرائيل أعمالها الانتقامية بهدف إيضاح أن صراعها المستمر في غزة لم يُعق قدرتها على تعطيل محاولات إيران لنقل الأسلحة الاستراتيجية إلى سوريا أو عبر سوريا. وعلاوة على ذلك، تهدف إسرائيل إلى إظهار استعدادها للاشتباك على جبهات متعددة، والرد خارج حدودها إن هي استُفزت.
ولا يبدو، لسوء الحظ، أن الوضع يسير نحو التهدئة، سوى أن التنبؤ بتطوراته ليس بالأمر اليسير. وفي الوقت الحاضر، يظل الاستهداف المتبادل على طول الخطوط الأمامية السورية الإسرائيلية هو السيناريو الأكثر ترجيحا. ومن شأن هذه الحوادث المحدودة أن تُمكن إيران ووكلاءها من الحفاظ على مظهرهم المتمثل في اتخاذ إجراءات لدعم المقاومة الفلسطينية، من دون التورط في صراع غير مُحبذٍ مع إسرائيل.
والهدف الآخر الذي قد تخدمه هذه المناوشات هو الإبقاء على القوات الإسرائيلية في أماكن تمركزها على طول الحدود السورية المحتلة، وإعاقة انتشارها للاشتباك في غزة. وقد تزداد وتيرة هذه الهجمات مع اشتداد القتال في قطاع غزة بهدف تحقيق هذه الغاية.
ومن الجدير بالذكر أن هذه المناوشات المحدودة لن تقتصر بالضرورة على استهداف إسرائيل. فقد هددت قوات الحشد الشعبي العراقية مؤخرا باستهداف الأصول الأميركية في المنطقة، ومن ضمنها سوريا، في حال أقدمت الولايات المتحدة على التدخل في الحرب الدائرة بين حماس وإسرائيل، أو إذا قامت تل أبيب بــ”توسيع ساحة المعركة”.
ولا يزال احتمال حدوث مواجهة عسكرية أكبر مع إسرائيل انطلاقا من سوريا منخفضا نسبيا. وإن حدثت تلك المواجهة، فسيكون سببها على الأرجح التصعيد الإسرائيلي في مواجهة “حزب الله” في لبنان. لقد التزمت الاشتباكات المستمرة بين تل أبيب و”حزب الله”، في أغلبها، بقواعد الاشتباك الراسخة بين الطرفين. ومع ذلك، ومع تأكيد “حزب الله” وإسرائيل على الرد على كل هجوم، والإشارة إلى استعدادهما لتجاوز الحدود، يظل التصعيد غير المقصود احتمالا واردا.
وتتزايد احتمالات حدوث تطورات كهذه في بيئة تتسم بالضغوط المتزايدة، إذ يحكمها الصراع المتصاعد بين إسرائيل وغزة، واحتمالات انهيار مقاومة حماس، وارتفاع عدد الضحايا الفلسطينيين. وقد يؤدي تطور كهذا إلى تصعيد مماثل على جبهات أخرى، ليس فقط في سوريا، بل أيضا في العراق واليمن.
وفي كلا الاحتمالين، ستستمر سوريا ساحة معركة تنخرط فيها دول أخرى، وعلى رأسها إيران وإسرائيل، في صراع يجري عن بُعد. وفي حين أن دعم الشعب السوري الراسخ لفلسطين لم يتزعزع، فإن استخدام السوريين كبيادق في هذه الصراعات ليس الطريقة التي يختارونها للتعبير عن تضامنهم.
المجلة
——————————
هل قلت إنها آلة قتل؟
ندوات مُلغاة وبيانات استنكار وانسحابات جماعية، في هذه الأجواء التي ظلّلتها الحرب على غزة افتَتح معرض فرانكفورت للكتاب دورته الخامسة والسبعين. بدأ كل ذلك ليلة الجمعة، قُبيلَ بدء أعمال المعرض وبعد مضيِّ أسبوع على عملية طوفان الأقصى في فلسطين وتفاعلاتها، حين قرر المعرض إلغاء حفل تسليم الكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي جائزةَ LiBeraturpreis، والتي تمنحها مؤسسة ليت بروم (Lit Prom) الممولة جزئياً من الحكومة الألمانية ومن معرض فرانكفورت للكتاب نفسه. أرجعت المؤسسة أسبابها في بيان إلكتروني نشرته إلى نشوب «الحرب التي بدأتها حماس، والتي يعاني منها ملايين الأشخاص في إسرائيل وفلسطين». تزامنَ خبرُ إلغاء حفل توزيع الجائزة مع تصريحٍ أدلى به مدير المعرض يورغن بوس، موضحاً فيه أن «الحرب الإرهابية ضد إسرائيل تتناقض مع كل القيم التي يدافع عنها معرض كتاب فرانكفورت»، ومعلناً نيَّته توفيرَ مساحة إضافية بشكل استثنائي في هذه الدورة لأصواتٍ إسرائيلية.
لم يُفلح الغياب شبه الكامل للكاتبات والكُتّاب العرب عن فعاليات المعرض، بالإضافة إلى انسحاب هيئات نشر ومؤسسات عربية وغير عربية، في تفادي مواقف الصدام والتوتر؛ حيث ألقى الكاتب السلوفيني سلافوي جيجك في الحفل الافتتاحي خطاباً توبيخياً لإدارة المعرض بعد يومٍ على مجزرة المشفى المعمداني، وصف فيه ما يحدث في الدورة الحالية من المعرض بالـ«فضائحي» مُديناً غياب أي إمكانية لتحليل «الصراع»، ومنتقداً وكيف لم يأت اسم فلسطين حتى كلفظ إلا على لسان الرئيسة السلوفينية في نهاية خطابها (سلوفينيا هي ضيفة الشرف لمعرض الكتاب في هذه الدورة). ويُذكَر أن موقف جيجك الذي أثار حفيظة جزء من الحاضرين، والذي تعرَّض بسببه إلى المقاطعة واعتُبر «جريئاً» في سياق الحاضر الألماني، قد جاء بعد افتتاحه الخطاب بإدانة صريحة لعملية طوفان الأقصى.
من جناح منشورات لافابريك في معرض فرانكفورت للكتاب
رواية تفصيل ثانوي للكاتبة عدنية شبلي، والتي حازت عنها جائزة LiBeraturpreis من ليت بروم عام 2023، تسترجع وقائع جريمة اعتداء وقتل حدثت على أرض الواقع اقترفها أفرادُ وحدةٍ من جيش الاحتلال الإسرائيلي بحق فتاة بدوية في النقب عام 1949، الجريمةُ التي تعودُ لتتبُّع خيوطها بعد عقود صحفيةٌ مقيمةٌ في رام الله. كانت الرواية قد تعرضت للتشهير واتُّهمت بمعاداة السامية في عدة مناسبات، وتناولتها مقالات صحفية تستهجن تصويرها لإسرائيل «كآلة قتل»، ما ساهم غالباً في اتخاذ قرار إلغاء حفل التسليم، بما يشمل استهجاناً وصل إلى حد مقارنة منح الجائزة لرواية كرواية تفصيل ثانوي باحتفال العرب في حي نويكولن وتوزيعهم الحلوى ابتهاجاً بمقتل مدنيين إسرائيليين.
يوضح الكاتب السوري محمد العطار، الذي أعلن انسحابه من ندوة كان يُفترض أن تجري ضمن فعاليات المعرض، أسباب انسحابه: «جاء قرار الانسحاب بعد الإعلان عن إلغاء مراسم تسليم جائزة أدبية للكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي، الجائزة التي كانت قد حصلت عليها منذ شهور عن روايتها تفصيل ثانوي. المخزي أيضاً أن هذا الإعلان ادَّعى استشارة عدنية قبل اتخاذ القرار، وهو ما نفته عدنية لاحقاً نفياً قاطعاً. من المُقلق حقاً أن تتخلى فعالية ثقافية بحجم معرض فرانكفورت للكتاب عن دورها الأساسي في توفير مناخ قائم على حرية التعبير والنقاش، خاصة في الأجواء الحالية في ألمانيا التي تشهد تضييقاً غير مسبوق على كل الآراء والأنشطة الداعمة للقضية الفلسطينية».
بالنسبة للكاتب المصري، شادي لويس، والذي انسحب بدوره من ندوةٍ خاصة بالأدب العربي المعاصر، هناك نقطتان ساهمتا في قرار انسحابه؛ الأولى متعلّقة بالجدوى في ظل ما يحدث: « ما معنى أن نتكلم عن الأدب والناس تُقتل جماعياً في نفس الساعة، وما معنى أن نتكلم عن الأدب العربي في ألمانيا التي تمنع أي مظاهرات للتضامن مع الفلسطينيين والتنديد بذبحهم وتُجمِّد المعونات المخصصة لهم، وفي الوقت ذاته ترسل سلاحاً وذخيرة للإسرائيليين. يعني تورط مباشر في القتل».
«النقطة التانية» يستأنف شادي «أننا في لحظة أصاب الغرب فيها لوثة الحرب، انهيار مفاجئ للثقة في إمكانية التواصل والحوار، فيه تعطُّل لوظيفة لغة مشتركة، كل تعبير يمكن اتهامه بمعاداة السامية وحجبه وقصه وإلغائه. من فرنسا اللي بتمنع مسرحية فلسطينية لفرانكفورت، للجارديان اللي بتفصل رسام كاريكاتير عشان رسمه لنتنياهو. فيه مصادرة كاملة ومسبقة على الكلام ضد طبول الحرب، وافتراض مبدئي وأساسي أنه الفلسطينيين وعلى الأغلب العرب كلهم هم حيوانات وفي أفضل الأحوال بشر من درجة أدنى. وده كله سياق يخلي الواحد ماعندوش رغبة لا أنه يتواصل مع الأوروبي ولا يسمعه ولا يفهمه ولا يحاول يقنعه بحاجة. مش مضطر أقنع الأوروبي أني مش حيوان، دي مهمة مهينة جداً والأفضل هو الانسحاب والصمت».
في تصريح صحفي مُقتضَب أعلن مدير المعرض «حزنه لانسحاب فعاليات عربية» من المعرض، مؤكداً أن المعرض يقف بالتساوي مع «ملايين الضحايا على الطرفين ممن أثَّرت الحرب على حياتهم».
قرار الإلغاء هو جزءٌ من صورة أعم في المشهد الأوروبي حالياً وفي ألمانيا على وجه الخصوص، حيث تعمل آلة الإلغاء بحق الصوت الفلسطيني والصوت الداعم لفلسطين على مستويات عدة، وما يبدأه جهاز الشرطة في الشوارع ومع المتظاهرين تُكمِلُه الهيئات الثقافية ومنصات الإعلام بذريعة معاداة السامية. والصوت الذي لا تُسكته الهراوة يلاحقه الحذف والترهيب والضغوطات وصولاً إلى الفصل من العمل وحملات تشويه السمعة العلنية، وعلى «ذنوبٍ» لا تتجاوز في بعض الأحيان إعجاباً ببوستات سوشل ميديا.
منذ عقودٍ تُواجه شتى أشكال العمل والإنتاج الثقافي والمناصرة الفلسطينية عوائقَ وتضييقاً في ألمانيا. يكثر الحديث عن الذنب التاريخي الألماني وتَمثُّله في هذا التضييق. مظاهرات يوم النكبة ممنوعة في برلين، في المظاهرات الفلسطينية قد ترفع لافتة: «الحرية لفلسطين من الذنب الألماني»، إذ يبدو أن كثيراً من عبء المحاكمة الألمانية اللامنتهية لتاريخها يقع على كاهل القضية الفلسطينية، وقد بدأت آثار هذا التوجه تظهر بشكل ملموس في العقدين الأخيرين على نحوٍ ممأسس ومتداخل مع سيرورة العمل الثقافي من جهة، وعلى شكل نوبات تصعيد تتكثف في مناسبات بعينها من جهة أخرى؛ مثل حملة اتهامات معاداة سامية بالجملة للفنانين الفلسطينيين المشاركين في معرض دوكمتنا الفني في مدينة كاسل الألمانية عام 2022، ويصل إلى حد أن تنشر صحيفة بيلد في ظل الوقائع الحالية عنواناً مثل: البرابرة بيننا لمقال مرفق بصورة مظاهرة تنتصر لفلسطين في شارع العرب في برلين، كذلك سبق وأن صنَّف البرلمان الألماني (البوندستاغ) حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على إسرائيل (BDS) عام 2019 كمجموعة تستخدم تكتيكات معادية للسامية لتحقيق أهدافها السياسية، في ذلك الحين لاحقت حملات التشهير والضغط أي صوتٍ معارض لهذه الخطوة، مثل مدير المتحف اليهودي في برلين حينها، بيتر شيرفر، والذي اضطر للاستقالة من منصبه على إثر الضغوطات، بعد نشره لتويتة تضم رسالة مفتوحة من باحثين وأكاديميين يهود ضد قرار البوندستاغ بتجريم حركة (BDS). بعضُ الحوادث كانت مثيرة للضحك على فظاعة ما تُمثِّلُه وتستبطنه من تربصٍ ومزاودة، مثل احتجاجاتٍ ظهرت في حمّى مهاجمة معرض دوكمنتا ضد حفلة (BDSM) التي أُعلن عنها في المدينة، ظناً من المهاجمين أنها حفلة تابعة لحركة مقاطعة إسرائيل (BDS)!
عنوان صحيفة بيلد
ما قد يُعَدّ معادياً للسامية في العرف الألماني السائد، يمتد على طيف واسع من أشكال التعبير والتفاعل. في خطاب سلافوي جيجك المذكور سابقاً في هذا التقرير، قوطع جيجك مرتين على الأقل من قبل أحد الحاضرين بنبرة لا تخلو من تهديد مستبطن، والذي اتهمه بإجراء مقارنة، وهو ما يعتبر، إلى جانب التنسيب (relativasion) في السياق الألماني، جزءاً من ممارسة عامة متهمة بمحاولة تبسيط جرائم مرتكبة بحق ضحايا من اليهود عبر مقارنتها بجرائم أخرى بهدف الإقلال من شأنها، وهي تهمة تعود جذورها إلى عقود سابقة وتم البناء عليها وبلورتها منذ أواخر عقد الثمانينيات، حين كان مؤرخون ألمان محافظون متهمون بمحاولة التقليل من أهوال الهولوكوست بمقارنته بجرائم ستالين مثلاً، وذلك خلال ما عرف بخلاف المؤرخين.
يطرح أفراد وتجمعات وفعاليات ثقافية على الدوام مبادرات ونقاشات حول إشكاليات الرقابة على العمل والنشاط الفلسطيني في ألمانيا، تشهد حضوراً وتفاعلاً من النشطاء والفاعلين الثقافيين الفلسطينيين أنفسهم والعرب بالدرجة الأولى، مع قلة من الأصوات والتفاعلات الألمانية حتى الآن.
موقع الجمهورية
————————–
الكوفية بوصفها إقلاقاً للسلم العام
ملاحظة المحرر: من المعتاد أن يطلب كتّاب وكاتبات يتعاونون معنا من داخل سوريا أو من دول جوارها عدم توقيع مقالاتهم بأسمائهم الصريحة، وذلك خوفاً على سلامتهم الشخصية أو سلامة عائلاتهم، خاسرين بذلك علنية نشاطهم وحقّهم في أن يُحتَسَب عملهم في سجلّهم الشخصي.
كاتب هذا التقرير، وهو صحفي سوري مقيم في ألمانيا ومتابع لشؤونها ومنخرط في حياتها العامّة، لم يوقّعه باسمه الصريح، وذلك لخشيته من حملات التصيّد الإلكتروني الرائجة في ألمانيا هذه الأيام بشأن فلسطين، ومفاعيلها على أمنه وسلامته المعنوية، وأثرها المحتمل على حياته المهنية وأوضاعه القانونية.
الاسم المستعار «تضحيةٌ» لا تُذكر وسط الكارثة التي نعيشها، ولربما يَعتبر البعض هذا الإجراء مبالغة من طرف الكاتب، ولكن ارتأينا تحررياً أن نترك سجِّلاً يقول إن كاتباً لاجئاً من بلد قمعي كسوريا قد فضّلَ الكتابة من ألمانيا وعنها باسمٍ مستعار في لحظةٍ من اللحظات، كمساهمة صغيرة محتملة في نقاش حول حرّية التعبير والحق بالأمان المعنوي والوظيفي بمعزل عن الموقف السياسي، تُظهِرُ الأيام الحالية أن ألمانيا بحاجة ماسّة له.
******
سمير عابد
يوْقفُ شرطيان ألمانيان أسمران شابةً ترتدي قبعة عليها تصميم علم فلسطين في برلين، ويطلبون منها خلعها رغم أنها غير مشاركة في أي احتجاج أو مظاهرة فلسطينية، ورغم عدم وجود تشابه بين علم فلسطين ورموز حماس، تكتب الصحفية ميليسا جان مستغربة على موقع X. وفي مساء السبت، الرابع عشر من تشرين الأول (أكتوبر)، كان كاتب هذه السطور واقفاً عند تقاطع شارعي زونن آليه (المعروف بشارع العرب) ورويترشتراسه في نويكولن البرلينية، يراقب من بعيد سيارة صالون ضخمة للشرطة، يطارد عناصرها من يُشتبه بأنهم محتجون فلسطينيون في المكان.
عندما تجاوزتْ مجموعةٌ من الشرطة الشارع بدا كل شيء هادئاً، إذ لم يكن هناك متظاهرون على الجانب الآخر من الشارع بل مجموعة من المتفرجين. دفع شرطيٌ يرتدي ملابس مكافحة الشغب شاباً كان واقفاً قربي بكل بساطة، آمراً بـ«فتح الطريق» بطريقة عدائية، وعندما رد عليه الشاب بشكل عفوي بدفعة خفيفة مسائلاً إياه ماذا دهاه حتى يدفعه بهذه الطريقة، تجمعت بقية العناصر عليه ورموه أرضاً مانعين أي أحد من الاقتراب، فيما كانت الناشطة السورية وفا مصطفى بين آخرين يسألونهم: ما الذي فعله لتفعلوا به ذلك؟ لكن دون جدوى. قُيِّد وسِيقَ لأخذ بياناته.
يُمثّل هذان المشهدان الأجواء التي يعيشها الفلسطينيون-ات والمتعاطفون-ات معهم من المنطقة العربية في برلين، وفي عموم ألمانيا، خلال الأيام القليلة الماضية منذ هجوم حماس على مواقع عسكرية ومستوطنات إسرائيلية في محيط قطاع غزّة في السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، وانتشار صور وأخبار مروعة عن قتل واختطاف مدنيين.
1.شبكة تأسست في الولايات المتحدة قبل عقد لدعم الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، بحسب بياناتها، ولديها فروع في مختلف الدول الأوروبية. صنفتها إسرائيل في العام 2021 كمنظمة إرهابية، كجزء من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وكانت الشبكة قيد المراقبة في ألمانيا حتى قبل قرار المستشار بحظرها، لكونها «معادية للسامية ولإسرائيل»، بحسب رئيس فرع برلين للمخابرات الداخلية. الشبكة تعهدت في بيان غاضب من القرار بالطعن مستقبلاً فيه باستخدام جميع السبل القانونية المتاحة.
وبُعيد انتشار الأخبار، جاء انتشار صورٍ التُقطت لأشخاص يُعتقد أنهم ينتمون لشبكة «صامدون» الفلسطينية1 التي أعلن المستشار أولاف شولتز عن حظرها في وقت لاحق في خطاب في البوندستاغ، وهم يوزعون البقلاوة على المارة في نويكولن البرلينية احتفالاً بهجوم حماس، ما فجّرَ موجة سخط في المشهد السياسي الألماني أجمع، بِدءاً بالمستشار شولتز وانتهاءً بعمدة حي نويكولن الاشتراكي مارتن هيكل، الذي ساءه توزيع الحلوى وتمجيد حرب فظيعة «فيما يتساقط الإرهاب على إسرائيل» على حدّ وصفه.
«ينبغي أن يقولها المرء بوضوح: من يعيش في ألمانيا ويوزع الحلوى في نويكولن أو أينما كان تعبيراً عن فرح شديد، لا ينتمي إلى هذه البلاد. من يدعم هذا الإرهاب ويحتفل به هو نفسه ليس أفضل من مرتكبيه. لا ينبغي أن نصبر على ذلك سياسياً»، كتبت سيراب غولر، النائبة في البرلمان الاتحادي الألماني (بوندستاغ) عن الحزب المسيحي الديمقراطي، وهي من أصول تركية.
وقد تحدثت الشرطة عن تواجد عناصرها في مكان توزيع الحلوى، وتَحقُّقها من هوية البعض وتسجيلها دعاوى جنائية ضدهم، وعن تواصلها مع النيابة العامة في هذا الخصوص.
منذ اليوم الأول للهجوم، تكاد الشرطة الألمانية لا تغادر حي نويكولن وخاصة شارع زونن آليه- شارع العرب، وهي تفتش وتدقق وتفضُّ التجمعات غير المسجلة رسمياً لدى السلطات، وتأخذ بيانات المخالفين-ات. طوابير طويلة تقف قرب سيارات شرطة، فيما يسوق عناصرها المزيد إلى المكان لتسجيل بياناتهم تمهيداً لملاحقة قضائية محتملة لاحقاً.
في الثامن من تشرين الأول (أكتوبر) صَرَّحت الشرطة عن تَحقّقها من هوية 40 شخصاً، وتوجيه تهم التهجُّم على موظفي إنفاذ القانون ومقاومتهم والشغب، وذلك بعد فضِّ تجمع بالقوة رُميت على عناصر الشرطة زجاجات خلاله، وأصيب اثنان منهم. كذلك، أعلنت الشرطة عن دهنها علماً فلسطينياً باللون الأبيض، كان قد رُسم على نصب في ساحة هيرمان بلاتز الملاصقة لـ«شارع العرب». وعند اكتشافها رسمه من جديد في الموضع نفسه، أعادت إخفاء العلم «لوجود دلائل على أن المكان يستخدم لتمجيد الهجوم على إسرائيل».
وفي العاشر من تشرين الأول ذكرت الشرطة أنها تحققت من شخص في حي نويكولن، سبق وأن صدر بحقه قرار منع مزاولة النشاط السياسي، وهو يرتدي رموزاً فلسطينية، وأنه قام بمقاومة عناصرها ما أدى إلى إصابته واثنين منهم، مشيرة إلى أنه «في سياق نشاطات معادية لإسرائيل، كان هناك المزيد من التحقق من هويات الأشخاص والطرد من المكان».
حظر التظاهر
واظبت الشرطة أيضاً على الإعلان عن منع جميع المظاهرات التي قُدِّمَت طلباتٌ لترخيصها لدى السلطات في ساحة باريسر بلاتز عند بوابة براندنبورغ، وفي نويكولن، وكل المظاهرات البديلة، لأنها «تشكل خطراً على الأمن والنظام العام»، أو «يمكن الانطلاق من كونها أو من المثبت أنه سيُساء استخدامها لأجل تمجيد هجوم حماس»، مشيرة إلى أن «سلطاتنا أخذت في الحسبان الوضع في الشرق الأوسط والجرائم التي وقعت في المظاهرات في السابق وأحداث نهاية الأسبوع الماضي».
ومن بين المظاهرات الممنوعة حتى العشرين من تشرين الأول الجاري تلك التي طلبت الترخيص باسم «برلينيون-ات يهود ضد العنف في الشرق الأوسط وضد قتل إخوتنا في غزة. لليهود والفلسطينيين نفس الحق» أو «تضامن مع المدنيين في قطاع غزة»، وذلك «لأن المشاركين في التجمع سيتعاطفون على الأرجح مع حماس». ووسط تعميم المنع بدت الموافقة على مظاهرة في ساحة بوتسدامر بلاتز ظهر الأحد الماضي، دعا منظموها لإحضار أعلام فلسطين فقط، استثناءً. لكن هذا الاستثناء لم يَدُم طويلاً، إذ فضّت الشرطة المظاهرة بطريقة عنيفة كما أظهرت مشاهد مُصوَّرة. وقد زعمت الشرطة أن الاعتصام شهد تدفقاً كبيراً لأشخاص يحملون رموزاً فلسطينية، أمر اعتبره المنظم غير مرغوب فيه وغير مخططٍ له، لذلك مُنع الاعتصام قبل بِدئه.
وكان من اللافت أيضاً وقوف إريس هيفتس، عضوة رئاسة جمعية «صوت يهودي لأجل سلم عادل في الشرق الأوسط» في اليوم نفسه في ساحة هيرمان بلاتز حاملة لافتة كتبت عليها «كيهودية إسرائيلية: أوقفوا الإبادة الجماعية في غزة»، محاولةً، بحسب بيان الجمعية، إثبات عدم صحة تصوير وسائل إعلام إسرائيلية وألمانية نويكولن كمكانٍ خطر على اليهود. اقتربَ منها شرطيٌ وأخبرها بأن ما تقوم به غير قانوني، في إشارة إلى التجمّع دون ترخيص، فردت بأنه ليس ثمة تجمع هنا، بل تقف كفرد وتعبر عن رأيها ببساطة. وبعد احتجازها مؤقتاً استطاعت إقناع عناصر شرطة آخرين بحجتها وعادت إلى الوقوف في الساحة.
شملَ المنعُ العديد من المدن، كميونيخ وفرايبورغ ومانهايم وغيرها. ففي فرانكفورت، وبعد أن رفعت المحكمة الإدارية الحظر عن مظاهرة تقدمت ناشطة إيرانية بطلب تنظيمها، باعتبار أن الحظر يشكل تعدياً غير متناسب مع حق حرية التجمع، عادت محكمة إدارية أعلى درجة لفرض الحظر، متفقة مع بلدية المدينة التي جادلت بأنه سيكون هناك «تحريض وأقوال معادية لإسرائيل ومعادية للسامية». حكم نفذته شرطة المدينة، ولا يمكن الطعن فيه إلا أمام المحكمة الدستورية. ومع عدم مغادرة الناس مكان المظاهرة المحدد قبل المنع، احتجزت الشرطة البعض وسجلت بياناتهم وحدثت بعض المناوشات. واعتبر مايك جوزيف عمدة فرانكفورت (وهو من أصل سوري) قرار المنع صائباً خلال ظهور له في مظاهرة متضامنة مع إسرائيل في المدينة، قائلاً: «من يهاجم الحياة اليهودية في مدينتنا فهو يهاجم مدينتنا، وسنتخذ إجراء ضده».
وكانت مقدمة الطلب، إيتاك باراني، العضوة في منظمة «فلسطين»، قد احتُجِزَت بشكل وجيز لدى الشرطة التي قالت إنها اشتبهت بتحريضها و«الموافقة» على ارتكاب جرائم. حيث نُقل عنها قولها علناً في «مؤتمر صحفي»: «بالنسبة لي هذا الكسر للسجن هو فعل مقاومة ناجح. ليس هناك إرهابُ حماس وليس هناك إرهابُ الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين».
الأساس القانوني للحظر
تُعَدُّ عتبة شروط حظر التظاهرات عالية في ألمانيا، على ما أكدت عليه المحكمة الدستورية، ويُعد خياراً أخيراً ينبغي على السلطات قبل اللجوء إليه النظرُ فيما إذا كان بوسعها السماح بالاحتجاجات تحت شروط، أو السماح بإقامتها ومراقبتها وفضِّها عند الضرورة. ينبغي على أي حال أن تقدّم السلطات مخطط توقعات وجود خطورة، تجيب فيها على أسئلة مثل ما إذا كانت قد حدثت وقائع في مظاهرات مماثلة تبرر حظر التظاهرة، وفيما إذا كانت الشرطة قد مرت بتجارب سلبية مع منظمين مُعيَّنين.
وليس حظرُ التظاهرات الفلسطينية جديداً؛ إذ منعت المحكمتان الإدارية والإدارية العليا في برلين قبل أشهر مظاهرات ذكرى النكبة، مبررة بكونها قد تشهد إطلاق شعارات معادية للسامية ومُحرِّضة، وتمجيداً للعنف وتعبيرات عن الاستعداد لارتكاب العنف. وينص قانون التجمع في بعض الولايات، كشأن برلين، على إمكانية حظر مظاهرة عندما يتم فيها التحريض على جنسية أو مجموعة إثنية ما.
ولطالما كان حظر التظاهر مثيراً للجدل في ألمانيا، التي تؤكد على وجود ضوابط للحريات. حيث شكلت تظاهرات حركة «التفكير الجانبي» المناهضة لسياسة الحكومة بخصوص الإغلاق والوباء ومنعها في برلين وغيرها من المدن، أزمةً مع منع بعض المحاكم الإدارية خروجها لأسباب متعلقة بالأمن العام وعدم التزام المشاركين بالشروط، لتقرر محاكم أخرى أعلى درجةً منها لاحقاً إلغاء الإجراءات التقييدية، فيما أكدت المحكمة الدستورية وجوب تمكين التظاهر حتى خلال الوباء. لم يكن من بين الأسباب المقبولة للحظر حينها الإدلاء بآراء تُعتبر متجاوزة للحدود، «إذ ينبغي على الدولة الديمقراطية الحرة أن تتحمل مثل هذه الآراء» على حد وصف التلفزة الألمانية العامة.
مع أم ضد؟
رغم ذلك، لم يكن حظر المظاهرات الفلسطينية في الأيام العصيبة السابقة أمراً مفروغاً منه، حيث تناولته الصحافة الألمانية؛ فنشرت صحيفة تاتز اليسارية مادة يعبر فيها أحد صحفييها، إريك بيتر، عن دعمه لقرار الحظر كحالة استثنائية، مُعتبِراً أنه وإن كان حظر التظاهر أمراً حسّاساً ديمقراطياً لكنه أفضل من بديل سيء، مشيراً إلى أن الحظر يقي برلين «احتفالاً غوغائياً في زونن آليه، يُنكَر فيه قتل حماس البربري للمدنيين، ويُنادَى فيه بمحو إسرائيل». ويشير إلى أن التوقعات التي تدعو للحظر مُبرّرة، كإطلاق شعارات معادية للسامية ومُحرِّضة، خاصة بالنظر إلى التجارب السابقة. «للتعبير الحر عن الرأي حدود، ينبغي أن تُقاس وفق المعايير الحضارية الدنيا. لا عيب ديمقراطي في ألا تسمح للفاشيين والإسلامويين بالنزول عن عتبتها». ومع ذلك، يدعو بيتر لأن يكون حظر طلبات التظاهر متوازناً ومبرراً، وأن يكون من الممكن الوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني المضطهد، والحداد على ضحاياه، معتبراً أن فرض اشتباه عام بمعاداة السامية ليست وسيلة دولة قانون ديمقراطية، داعياً الفلسطينيين للتحرك والتوضيح بأن مظاهراتهم ليست منصَّة للكراهية.
فيما تُعارض زميلته، ماري فرانك، في رأي مقابل هذا الحظر، وتعتبر أنه «مع تفهّم الرغبة في منع كل ما يشرعن بطريقة أو أخرى فظائع حماس، لكنه (الحظر) لا يتوافق مع الحق الأساسي بالتعبير عن الرأي وحرية التجمع في مجتمع ديمقراطي، لأن الاشتباه باحتمال وقوع جرائم لا يكفي لفرض منع… وذلك لحسن الحظ. وإلا سيصبح من الممكن حظر كل تظاهرة بهذه الحجة، وسيفسح النظام الاجتماعي الحر الطريق لدول بوليسية، لا يتم التسامح فيها مع آراء غير مريحة».
ورأت فرانك أنه لا يمكن أخذ حركة التضامن الفلسطينية ككل بجريرة ما فعله محسوبون على حركة «صامدون» بتوزيعهم الحلوى، وسحب حق التعبير عن الرأي عنها، موضحة أن «فلسطين ليست تماماً حماس، ولا يقاسي الفلسطينيون-ات انتهاكات حقوق إنسان شديدة من إسرائيل فحسب بل من حماس أيضاً، التي تسيء لهم باستخدامهم كدروع بشرية».
وتحدثت الباحثة كاثرينا غابور، التي ألَّفت كتاباً عن تعايش الفلسطينيين والإسرائيليين في برلين، في مقابلة تلفزيونية عن خوف الفلسطينيين في برلين إلى حد ما من التعبير عن آرائهم في الصراع، لأنها تُصنَّف مراراً وتكراراً على أنها معادية للسامية.
هذا ما يراه أيضاً أوفا ينسن، نائب مدير مركز بحوث معاداة السامية في الجامعة التقنية في برلين، قائلاً: «بصرف النظر عن الوضع الحالي، يعد صعباً على الفلسطينيين، إلى حد ما، التعبير عن آرائهم دون أن يواجَهوا فوراً بتهم معاداة السامية»، الأمر الذي يجده ينسن إشكالياً.
ورغم كونه مُشكِّكاً في صوابية منع التظاهرات بشكل عام، يرى حظرها بعد المجازر المروعة في إسرائيل في محله، خاصة عندما تُدعَم حماس فيها، لأن ذلك «يجرح اليهود ويهددهم»، على حد توصيفه.
مع ذلك، يرى أنه لا ينبغي أن يكون حظر المظاهرات الفلسطينية مُعمَّماً، بل ينبغي إجراء موازنة بين الرفض والقبول لكل طلب، داعياً إلى إقناع الفلسطينيين-ات بأن دعم حماس لن يفيدهم إن كانوا مهتمين بحلٍّ لصراع الشرق الأوسط.
ورأت غابور أن المشكلة في ألمانيا تكمن في أن لديها، بالنظر إلى تاريخها، موقفاً رسمياً يقول إنهم يقفون إلى جانب إسرائيل ويدافعون عن حقها في الوجود. أمر يبدو واضحاً أكثر هذه الأيام من خلال تواجد العلم الإسرائيلي في كل مكان. لكن بالمقابل ليس هناك موقف رسمي ألماني يقول إنهم إلى جانب الفلسطينيين الذين يتعرضون للهجوم بُعيدَ ذلك. لطالما كان هذا هو الوضع، وبات أكثر وضوحاً هذه الأيام.
لا حدود للحظر
واكتسبَ التضييق على حرية تعبير الفلسطينيين-ات في ألمانيا بُعداً جديداً في الأيام الماضية، مع اعتبار أي إظهار لرمزٍ فلسطيني، أو معظم صيغ التضامن مع القضية الفلسطينية، تهديداً للأمن العام وتضامناً مع حماس. فقد اعتبر رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البوندستاغ، ميشائيل روت، أن من يصيح «فلسطين حرة» في الشوارع يصبح شريكاً لحماس التي تريد مسح إسرائيل من الخارطة، ومحو شعبها، «لم أكن أعتقد بإمكانية تواجد هذه الكراهية المتعصبة ضد إسرائيل في ألمانيا والاتحاد الأوروبي. ثمة خطر تدميري في ذلك».
وبعد اشتباك معلم في مدرسة في حي نويكولن مع طالب (14 عاماً) رفع علم فلسطين في الباحة، وتبادلهما الضرب، أصدرت كاترينا غونت-فونش سيناتور التعليم في ولاية برلين قراراً يمنع ارتداء الكوفية الفلسطينية وكل الرموز الأخرى في المدارس، بزعم أنها تشكل تهديداً للسلم فيها.
وقالت إن «أي تصرف استعراضي أو رأي يمكن فهمه على أنه داعم أو موافق على الهجمات ضد إسرائيل أو داعم للمنظمات الإرهابية المنفذة لها كحماس أو حزب الله، يُمثل في الوضع الراهن تهديداً للسلم المدرسي، وهو ممنوع». وتضمَّنَ المنع حتى «الرموز والإشارات والآراء التي لم تصل إلى حدود المسؤولية الجنائية»، بما في ذلك الكوفية، واللواصق المكتوب عليها «فلسطين حرة»، أو «خارطة إسرائيل الملونة بألوان علم فلسطين»، وصيحات «فلسطين حرة».
لقي هذا الحظر الشامل لكل ما يُعرِّفُ الفلسطينيون أنفسهم عبره انتقادات من الحزب الاشتراكي المعارض، الذي رأى أنه يساوي بين حماس ومواقف شرعية ومعتدلة ومحمية دستورياً من وجهة النظر الفلسطينية، واعتبر الحظر مشكوكاً فيه دستورياً وغير ملائم.
موقع بزفيد في ألمانيا تعقَّبَ أيضاً تعليق طلاب جامعة بارد الخاصة علم فلسطين في سكنهم الطلابي، وسأل حكومة ولاية برلين عن ذلك، فردّت معتبرةً نشر العلم «تعبيراً عن التعاطف مع الهجوم الإرهابي لحماس»، ورأت فيه دليلاً على أن هناك حاجة كبيرة للتصرف ومكافحة معاداة السامية بكثافة أكبر وباستدامة أكبر. فيما عبَّرت إدارة الجامعة عن إدانتها لقتل حماس المدنيين واختطافهم، لكنها أشارت إلى حق الطلاب في التعبير عن رأيهم، وبينهم من هو قادم من فلسطين وإسرائيل.
ورداً على سؤال من صحفي ألماني، أكد المتحدث باسم وزارة الداخلية الألمانية يوم الاثنين 16 تشرين الأول، أن مجرد إظهار العلم الفلسطيني «ليس ذا صلة جنائية».
ويمرّ اليهود المقيمون في برلين بوقت عصيب أيضاً، وفق ما صرحوا به لوسائل إعلام ألمانية. فهناك تقارير عن مشاعر خوف سائدة في الوسط اليهودي من أعمال عنف ضدهم، وعن عدم إرسال أطفالهم إلى المدارس ورياض الأطفال. كذلك، ظهرت صور لرسم نجمة داوود على أبواب بعض المباني التي يقيم فيها يهود، شاركها السفير الألماني في إسرائيل شتيفن زايبرت.
تبعات قانونية لما يمكن تفسيره كتضامن مع حماس
وسائل الإعلام الألمانية عجَّت في الأيام الأخيرة بشروحات حول كيفية معاقبة داعمي حماس. فأوضح خبيران قانونيان من شبكة آ إر دي أنه يمكن معاقبة موزعي الحلوى وفق الفقرة 140 من قانون العقوبات، المخصصة لمعاقبة من «يكرّم جرائم أو يوافق عليها» علناً، حتى وإن وقعت خارج ألمانيا، بشرط أن يقلق ذاك الفعل السلم العام، مشيرين إلى تعديل قانون العقوبات في 2020 ليصبح حرقُ أعلام الدول الأجنبية محظوراً، وذلك بعد أن شهدت شوارع برلين حينها حرق أعلام إسرائيل.
وقد يكون لدعم حماس تبعات، وفقاً للمادة 54 من قانون الإقامة، التي تنص على تسهيل الإبعاد عن ألمانيا للأجنبي عندما يوافق على ارتكاب جرائم ضد السلم والإنسانية وجرائم حرب أو جرائم إرهابية، وفقاً للقناة الألمانية الثانية.
وكانت وزارة العدل الاتحادية قد نشرت تغريدة بعنوان «ينبغي ألا يحصل المعادون للسامية على جواز سفر»، موضحة أن من لا يتقبل «نظام قيمنا» في الدستور لا يمكن أن يصبح ألمانياً، وأن معاداة السامية أو دعم جريمة غير إنسانية هو سبب استبعاد قوي من التجنيس وفق قانون الجنسية الجديد.
وخطا السكرتير العام للحزب المسيحي الديمقراطي المعارض، كارستن لينمان، خطوة متشددة أكثر بمطالبته بسحب الجنسية الألمانية من المشاركين في الاحتفال بهجوم حماس إن كانوا مزدوجي الجنسية. فيما دعا الحزب المسيحي الاجتماعي البافاري، في خطة من 4 نقاط، إلى حبس المُحرِّضين على إسرائيل لمدة 6 أشهر على الأقل، وربط منح الجنسية واللجوء بالاعتراف بحق إسرائيل بالوجود، وسحب الجنسية الألمانية من مزدوجي الجنسية حال دعمهم للإرهاب، على حد توصيفه.
وأكد السكرتير العام للحزب الاشتراكي الحاكم، لارس كلينغبايل، على دعمه ترحيل «من يحتفل بحماس في الشوارع الألمانية ولا يحمل الجنسية الألمانية»، معتبراً أنه ينبغي أن يكون هناك «توافق ديمقراطي في مجتمعنا على إدانة إرهاب حماس». لكنه حذَّرَ من «مساواة العرب أو المسلمين مع إرهاب حماس»، ومن الإدانة المُعمَّمة التي قد تهدد التماسك المجتمعي.
وفي ظل هذه الأجواء، أثار إلغاء حفل منح الروائية عدنية شبلي جائزة عن روايتها تفصيل ثانوي في معرض فرانكفورت للكتاب سخطاً في مختلف أنحاء العالم. وحاول المعرض تدارُك الأمر بمواظبته على التوضيح على موقع X بأنه لم يقدم على الخطوة، بل منظمة «ليتبروم» المانحة للجائزة. وعلى موقع المنظمة يمكن قراءة ما يلي: «بسبب الحرب التي بدأتها حماس، التي يعاني منها الملايين في إسرائيل وفلسطين، قررت ليتبروم عدم عقد حفل جائزة ليبراتوروبرايس في معرض فرانكفورت للكتاب. تبحث ليتبروم عن صيغة ووضع مناسب للمناسبة في وقت لاحق». في الوقت نفسه، أشار حساب المعرض إلى أنه سيُبرز الأصوات اليهودية والإسرائيلية على نحو خاص، مشيراً إلى أن المعرض يقف بتضامن كامل إلى جانب إسرائيل.
ويمكن تلخيص مدى التوتر السياسي الذي يعيشه الساسة الألمان حالياً لتبيان أنهم يفعلون المطلوب، أو ربما ما هو أكثر، من أجل إسرائيل، بإلغاء رئيسة الحزب الاشتراكي الحاكم، ساسكيا إيسكن، لقاءاً قصيراً مع السيناتور الأميركي بيرني ساندرز، الذي زار برلين في الأيام الماضية، لكونه لم يعبّر عن دعمه لإسرائيل بشكل كافٍ، رغم إدانته هجوم حماس، هذا علماً أن ساندرس يهوديٌّ فقَدَ بعضاً من أقاربه في المحرقة. واقعة علَّقت عليها مغردة بالقول: «بتنا في مجتمع (أقف مع) بتعنت وبدون أي شروط، إلى حد لم يعد يُسمَح فيه بأي معارضة أو تقييم موضوعي البتة».
* * * * *
عن معاداة السامية في ألمانيا
مساواةً بصيحاتٍ من الواضح أنها معادية للسامية، كـ«خيبر خيبر يا يهود»، تُفسَّر صيحات وشعارات «فلسطين حرة» أو «من النهر الى البحر فلسطين ستكون حرة» على أنها معادية للسامية في ألمانيا، وتُرى على أنها مُشكِّكة في حق إسرائيل في الوجود وداعية لإبادة شعبها.
وكثيراً ما يصعب تمييز ما يعتبره الساسة والسلطات الألمانية معاداة للسامية، خاصة مع تبني الأحزاب السياسية السائدة تفسيراً متشدداً لمعاداة السامية. ففي العام 2017 تبنى البوندستاغ تعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى المحرقة لمعاداة السامية، ليكون مُرشِداً للسلطتين التنفيذية والقضائية وللقطاع التعليمي. لكن، على عكس باقي دول العالم، تبنى أيضاً جزءاً من الأمثلة التنفيذية التي طرحها التحالف، الخاصة بمعاداة السامية المتعلقة بإسرائيل، لتكون جزءاً من التعريف، إذ يشمل التعريف عبارة: «إلى جانب ذلك، قد تكون دولة إسرائيل، والتي تُعتبر جماعة يهودية، هدفاً لمثل هذه الهجمات».
وقد عارض الخبير القانوني الأميركي المختص بخطاب الكراهية كينيث ستيرن، الذي ترأَّسَ اللجنة التي وضعت التعريف، هذه المقاربة في حديث مع إذاعة في دي إر الألمانية، قائلاً إنهم أرادوا وضع تعريف دولي عابر لمعاداة السامية، لا أن يُستخدم التعريف كسلاح في «مطاردة ساحرات» سياسية، أو أن يقول شخص لآخر «أنت معادٍ للسامية»، ولم يريدوا البتة قمع آراء بعينها، لكن هذا ما تبيَّن حدوثه، الأمر الذي يثير قلقه.
وأوضح ستيرن أن المشكلة تكمن في أن الجماعات اليهودية اليمينية تتخذ التعريف كسلاح وتقوم بمأسسته، وعندما يتخذونه كسلاح يُحرِّفون معناه ليوائم أهدافهم السياسية. هذا ما حدث في ألمانيا عندما شُكِّلت مفوضيات مكافحة معاداة السامية على الصعيد الاتحادي وفي الولايات في 2018، وبالتالي تمت مأسسة التعريف، وأُسيء استخدمه مراراً ضد آراء غير مرغوب فيها. بحسب الإذاعة الألمانية، بدا ذلك واضحاً عندما استهدف البوندستاغ حركة مقاطعة إسرائيل BDS، في العام 2019، وناقش وأقرَّ قراراً قدمته غالبية الأحزاب السائدة يعتبر نشاط «بي دي إس» معادياً للسامية، ويطالب بشطب الدعم المالي المقدم لداعمي الحركة على جميع المستويات الاتحادية والمحلية.
كينيث ستيرن رأى أنه «بسبب التاريخ الألماني ومشكلة الهوية لديهم، يتبنى الساسة الألمان موقفاً متشدداً للغاية ويقدمون دعماً منحازاً لإسرائيل في الصراع الفلسطيني».
أموس غولدبرغ، بروفسور التاريخ في الجامعة العبرية في القدس، أوضح حينها أن مساواة معاداة الصهيونية وانتقاد إسرائيل بمعاداة السامية هي استراتيجية سياسية لدى إسرائيل، تُناقَش علناً في الكنيست. هي سياسة خارجية وليست نظرية مؤامرة.
وأشار غولدبرغ إلى أن حكومة إسرائيل ليس لديها ردٌ على النقد المتعلق بالصهيونية والاحتلال والمستوطنات، لذلك فإن طريقتها الوحيدة لمواجهة كل هذه الأسئلة هي اعتبار هذا النقد معاداة للسامية، أما الجانب الآخر فيتعلق في رغبتها منذ عقد بإلغاء القضية الفلسطينية كلياً من الساحة الدولية، وذلك عبر اعتبار السردية الوطنية الفلسطينية بحد ذاتها معادية للسامية.
ولفت غولدبرغ في حديثه مع في دي إر إلى عيش العديد من اليساريين اليهود في ألمانيا، لكنهم لا يعدون صوتاً شرعياً لليهود، بل على العكس يُعتبَرون معادين للسامية لأنهم ناقدون للغاية للسياسات الإسرائيلية. تالياً، يرى المرء وضعاً غريباً، يقف فيه ألماني ليس بيهودي ليخبر يهودياً بأنه لا يعلم ما الذي يعنيه أن تكون يهودياً ويتهمه بمعاداة السامية، «أمر لا تجده في أي مكان آخر في العالم، هو أمر خاص بألمانيا»، على حد وصفه.
عندما أرسل غولدبرغ رسالة مفتوحة مع 239 أكاديمي يهودي من إسرائيل وكل أنحاء العالم يدعو المستشارة حينها، أنجيلا ميركل، والساسة الألمان لعدم قبول القرار المتعلق بحركة المقاطعة في البوندستاغ، لم تستجب. بل أدت مشاركة المتحدث الصحفي للمتحف اليهودي في ألمانيا خبراً عن الرسالة إلى استقالة مدير المتحف بيتر شيفر بعد «حملة مطاردة ساحرات» ضده، وفق توصيف غولدبرغ.
وقبل أن يصدر قرار «بي دي إس»، أثارت وثيقة سرية (ما يسمى ورقة غير رسمية) حصلت عليها صحيفة ألمانية الجدل نهاية العام 2018، فالوثيقة هي رسالة أرسلتها الحكومة الإسرائيلية إلى الحكومة الألمانية، يُفترَض أنها غير موجودة ولا ينبغي التعليق عليها، تدعو فيها إسرائيل ألمانيا إلى تطوير آليات تمنع حصول منظمات تتدخل في شؤون إسرائيل، أو لديها توجهات معادية لإسرائيل، على الدعم المالي، مُضمّنةً في الرسالة قائمة بـ34 منظمة غير حكومية ووسائل إعلام ناقدة في إسرائيل وفلسطين. وتشير الوثيقة إلى استضافة نشطاء بي دي إس في مهرجان برليناله السينمائي ودعم صناديق ألمانية لأفلام يصنعها هؤلاء النشطاء، داعية إلى ربط مواصلة دعم هذه المؤسسات بإيقاف هذه النشاطات. فيلكس كلاين، مفوض مكافحة معاداة السامية لدى الحكومة الألمانية، قال إنه كان سينتقد الرسالة كتدخل في الشأن الداخلي الألماني لو أنها كانت مطالب رسمية.
عندما دعا كلاين لجنة خبراء قانونيين في البوندستاغ لإبداء رأيها في قرار البوندستاغ ضد حركة المقاطعة بي دي إس، ردت بأنه سيكون، كقانون، مخالفاً للدستور. مع ذلك ما زال القرار البرلماني ذو ثقل لدى السلطات عندما يتعلق الأمر باتخاذ قرارات إجرائية.
وفي مارس 2021، صدر «إعلان القدس حول معاداة السامية» كمقابل لتعريف التحالف الدولي، ولا يعتبر الإعلانُ مقاطعةَ إسرائيل معاداةً للسامية في حد ذاتها.
غولدبرغ، أحد المبادرين لوضع «إعلان القدس»، أوضح أن تعريف التحالف الدولي يعتبر انتقاد سياسة إسرائيل معاداةً للسامية حتى يثبت العكس، مشيراً إلى أن الكثير من الداعمين للفلسطينيين ينتقدون إسرائيل على سياستها، وبعضهم يتجاوزون الحدود إلى معاداة السامية، لكن النقد من حيث المبدأ ليس معادياً للسامية بل هو نقد سياسي، مبيناً أن استخدام لغة صورية معادية للسامية، أو شيطنة إسرائيل بشكل يفوق ما يمكن إثباته، يمثل تجاوزاً للحدود نحو معاداة السامية، وهنا الفرق.
وأشار أيضاً إلى أن إعلان القدس ينطلق من افتراض البراءة، فيما ينطلق تعريف التحالف الدولي من كون النقاش الناقد هو في ذاته معادٍ للسامية.
وكان غولدبرغ قد نشر مقالاً على صحيفة فرانكفورتر ألغماينه الألمانية قبل أشهر، انتقد فيه مفوض الحكومة الألمانية لشؤون معاداة السامية فليكس كلاين، الذي اعتبر وصف إسرائيل بدولة فصل عنصري معادياً للسامية. ووصف غولدبرغ كلاين بالإيديولوجي والبعيد عن الواقع، معتبراً أن «اتهام إسرائيل بكونها دولة أبارتهايد ليس معادياً للسامية. فذلك يصف الواقع».
كينيث ستيرن رأى بدوره أن تعريف «التحالف الدولي» وُضِع لغرض آخر، لا لاستخدامه لوصف شخص ما بأنه معاد للسامية لقوله شيء عن إسرائيل فحسب، وأن شتم الناس بكونهم معادين للسامية بات شائعاً لدرجة بات من الصعب معها معرفة ماهية مُعاداة السامية.
موقع الجمهورية
——————
اللون الفاقع في خلفية اللوحة/ رشا النداف
إلى هالة، وعن هالة…
إلى فلسطين، وعن فلسطين
إلى سوريا، وعن سوريا
إلى ذلك الثقل المتراكم فوق حناجرنا حين نختنق بالدموع، إلى أولئك الذين لا يعرفون التعامل مع الحزن إذ استنزفوا كل أشكال الحزن. إلى وحدتنا وتوحدنا، إلى منازلنا المستأجرة في غير أوطاننا، ومنازلنا في أوطاننا، إلى كل شجرة زرعناها في أرض مررنا بها، ولم تكن أرضنا.
صباح الخير يا هالة
ما رح اسألك إذا أنتي منيحة، بس ارجعي…
أرسلتُ هذا لهالة في الثامن من تشرين الأول (أكتوبر)، أي بعد يومٍ على طوفان الأقصى، وانشغلت بعدها بما يسمى حياة يومية حتى أنني لم ألحظ أن رسالتي لم تصل. وبعد أربعة أيام، تحديداً فجر يوم الخميس، مرّ مشهد الرسالة غير المقروءة عابراً أمامي للحظة فعدتُ إليه، لم تصل رسالتي إلى هالة.
«رشا، هدي شوي، لا تنفعلي، لا تكرزي، رواق ماعندن انترنت، روحي فيس بوك، ودوري على هالة…» أُحدثُ نفسي.
هالة
«بكره السياسة، أنا بحب الحياة»، أول جملة وجَّهتها هالة لي حين سألتها إن كان نقاشنا المحتدم قد أزعجها لتتركنا وتبتعد. لم تكن صديقتي بعد، كنا قد التقينا صدفةً في أحد مقاهي بيروت في أيار (مايو) 2021، وكان النقاش الترند حينها حول مواجهات القدس؛ اشتباكاتٌ بدأت بتوترٍ بين متظاهرين فلسطينيين وشرطة إسرائيل في 6 أيار 2021 نتيجة قرار المحكمة الإسرائيلية العليا بشأن إخلاء سبع عائلات فلسطينية من منازلها في حي الشيخ جراح، في الجانب الشرقي من البلدة القديمة في القدس، لإسكان مستوطنين إسرائيليين.
سوريون ولبنانيون وفلسطينيون نتحدث كلٌّ من خلفياته المأساوية، فغالبية السوريين في تلك الجلسة اعتبروا أن تدخل حماس العسكري في أنشطة المقاومة الفلسطينية المدنية كالتظاهر السلمي قد دمّر فرصة الفلسطينيين في كسب المعركة، وغالبية اللبنانيين وجدوا أن المقاومة السلمية لا تجدي نفعاً مع إسرائيل، وإن كرهوا هم أنفسهم كلبنانيين حزب الله، لكنهم سيصفقون لتدخله إلى جانب حماس. وغالبية الفلسطينيين وإن كرهوا حماس كانو يجدون أنهم قادرون على التعامل معها بشكل مدني لاحقاً، لكن الآن كل وسائل المقاومة ضد إسرائيل هي وسائل مبررة ولا يمكن رفضها أو تقويضها «لو بدنا نتحالف مع الشيطان».
أما هالة، التي تركت الطاولة وابتعدت لتحرق حديثنا وسيجارتها معاً، لم تكن تريد سوى أن يتوقف الموت، واليوم توقف عندها.
فلسطين
فلسطين داري ودرب انتصاري
تظل بلادي هوى في فؤادي
ولحناً أبيا على شفتيا
وجوه غريبة بأرضي السليبة
تبيع ثماري وتحتل داري
وأعرف دربي ويرجع شعبي
إلى بيت جدي إلى دفء مهدي
فلسطين داري ودرب انتصاري
نشيدٌ حفظناه عن ظهر قلب في الصف الأول الابتدائي، أي في سن السادسة، أطفال، نحمل ثقل القضية الفلسطينية على شفاهنا، نتعلم أنها أرضنا التي اغتُصبت، ودارنا التي دُمِّرت، وأحلامنا التي سُرقت، وطفولتنا التي احترقت. وأنها أهلنا ونبض عروقنا وموطن أنبيائنا وجذر تاريخنا ومأساة حاضرنا الممتد إلى ما لانهاية.
بكل دراميّاتنا، ورغم كل إيديولجياتنا وبعد كل فذلكاتنا وتحليلاتنا والنظر في ما ورائيات مآسينا وقراءة كل جوانب الحدث ونقد الكل ومديح الكل ورفض الكل والتضامن مع الكل، نحب فلسطين…
بلدٌ لم تطأها أقدامنا يوماً، ولم نر منها إلا الدمار والرماد على الشاشات، نعرف يقيناً بشكل لا يخضع لأي منطق أنها أجمل بقاع الأرض، وأن رائحة ليمونها أزكى رائحة على الأرض، ومرارة زيتونها أحلى من قصب السكر.
نُصادق ناسها وأهلها مجرّد أن نسمع صوتهم يقول «آه ويللا»، يصبحون أصدقاء وأحباء وأقرباء بلهجتهم، بكوفيتهم، بعلمهم، بسمارهم، برقصهم على أغانٍ لم تحمل يوماً معنىً مجرداً من النضال، فأغانيهم عن الحب نضال، وأغانيهم عن الفرح نضال وعن الأعياد نضال، حتى أغانيهم عن النضال نضال.
وهالة كانت صديقتي، وكنا أصدقاء الحزن والغربة لا أصدقاء النضال.
سوريا في عيون هالة
تسألني هالة عن نظام الأسد؛ «دخلك انتوا ليش بتكرهوه؟» سؤالٌ أضحكتني سذاجته، كأنَّ «ابنة النضال الفلسطيني» يجب أن تكون أكثر دراية من هذا!.
لأبدأ في محاكمة نفسي لأنها تطلق أحكاماً قطعية عمّن يجب أن يعرف؛ لماذا كان على هالة أن تعرف؟ لماذا لا يمكن للفلسطينيين أن يكونوا أناساً عاديين، يولدون رُضّعاً فيُكاغون لا يهتفون، يتعلمون المشيَ فيلعبون الغميضة لا حرب الشوارع، يتعلمون الكلام فيتحدثون بالفساتين والألعاب والنزهات وقصات الشعر وألوان المناكير لا بالسياسة، يدخلون الجامعات فيدرسون الهندسة والطب والموسيقى وعلوم الطبيعة لا التاريخ والوطنية والعلوم السياسية.
حدّثتُ هالة لليالٍ طويلة عن سوريا، عن الخوف والموت والتعذيب والفقر والفساد والعسكر والحواجز، عن الـ2011 وأدرينالين الثورة، وعن 2012 والأمل، و2014 والخذلان، و2016 والتأقلم، و2019 والاستسلام.
حدثتُها عن الحصار والمجازر والكيماوي والمقابر الجماعية، عن الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري وداعش والنصرة وقسد، عن الحولة والقصير ودرعا ودوما وعفرين، وكانت تستمتع، ولم تكن تعلّقُ أبداً، إلى أن جاء يومٌ قاطعتنا فيه والدتها بمكالمة فيديو عبر الوتس أب، لتستقبل هالة تلك المكالمة بقولها «يمّا، يا محلا إسرائيل» وتتابع وسط ذهول والدتها «إسرائيل عدو، فينا نكرهو، هذولا السوريين مين بدهم يكرهو؟».
القضية
تعالي نجيب قهوة من ستارباكس، تقول هالة
بس أنا ما بشرب من ستار باكس
ليش!!!
عادةً ما أجيبُ على هذا السؤال بعفوية نزقة، وبديهية العارف بردّات الفعل المتوقعة على إجابته؛ «بدكن تتمسخروا اتمسخروا، بس ستار باكس بيدعم الجيش الإسرائيلي، وإن كانت المقاطعة موقف تافه وغير مؤثر، ما رح موت بلا قهوتهن».
لكن حين نظرتُ إلى هالة لأجيبها وجدت سؤال «الليش» ظاهراً على ملامح وجهها على شكل حاجب مرفوع وفم مُعوَّج، وعلى جسدها على شكل خصورة وهزة قدم. «ما بعرف، يمكن نحنا برغش يا هالة، بس عم جرب كون برغشة ما بتعض، حتى لو هاد بيعني انها رح تموت من الجوع». أسدلَتْ يديها وابتسمت، حلوقتني حول كتفي وجرّتني أمامها: «يا بنتي خلص، يلعن ستار باكس، وقهوتهن، والبيرا الألمانية والشاي الإنكليزي والنبيذ الفرنسي والحشيش اللبناني، تعي نروح نشرب نعنع».
تحاول هالة إنكار كل المعاني المحمّلة على هويتها لمجرد أنها فلسطينية، تدرس التصوير السينمائي ولا تحلم بتصوير أفلام عن الحرب، أو عن القهر في بلداننا، تريد أن تصور أفلاماً هوليودية شبيهة بـ Mamma Mia، أفلام عن الحب والحياة والجمال والموضة والنساء والرقص، ولا تنفك تلاحقها أفلام الواقع.
تخرّجتْ نهاية عام 2021 من جامعتها في بيروت، وانتهت صلاحية إقامتها مع بداية عام 2022، وعادت إلى غزة. بهذه البساطة، عادت إلى موطنها، بيتها وحياتها، وكأنها حتى في عودتها تُنكر ما يعنيه كون وطنها هو فلسطين، وأن بيتها وحياتها في غزة، فقد وضّبت حقائبها بعفوية الإنسان الطبيعي الذي انتهت رحلته في مكان ما، والآن عليه أن يعود إلى بيته. لم تسأل ماذا يمكنها أن تفعل للبقاء، أو أين يمكن أن تكون وجهتها التالية، لماذا الوجهة التالية، الناس ينتهون من أسفارهم ويعودون إلى بيوتهم.
وأنا في وداعها أيضاً لم أسألها ما الذي يُعيدك إلى هناك، وقاومتُ أي ملامح تشي باستغرابي أو استنكاري، ساندتُها في شعور الطبيعية وحتمية العودة إلى البيت، ربّما لأنني شعرت أنني لو كنت مكانها، وبإمكاني العودة إلى سوريا بعد رحلة مؤقتة، لكنتُ عدت.
أنعيكم هالة
الشهيدة هالة
اسمٌ من بين مجموعة أسماء من عائلتها نفسها، في نعيٍ أشير لها فيه على صفحتها في فيسبوك، مانشيت بات كليشيه: «بنيران الاحتلال الإسرائيلي» راحت هالة.
تواصلاتُنا الإلكترونية المقتصرة على مشاركة فيديوهات ريلز مضحكة تحاكي مواقف سخيفة عشناها معاً كانت بمثابة تعذيب حرفي لفقدانها، فهي الآن مُختَصَرة بتلك المواقف، لا ذاكرة إلا لضحكاتنا.
لم تكن هالة صديقة نضال، بل كانت صديقة اللحظات المسروقة من النضال لصالح الحياة.
لم تكن هالة مناضلة ضد الاحتلال ولا ضد الديكتاتوريات ولا ضد الفقر ولا ضد الاضطهاد، كانت مناضلة إلى جانب الحياة.
لم تكن هالة وسط المشهد، أو محور الحديث، أو رأس الحربة، أو السنفور المعارض، كانت عازفة البيس، واللون الأساسي الفاقع في خلفية اللوحة.
واليوم لا أكفّ أسأل، هل سيتذكر أحدٌ هالةَ هالة، أم أنها ستندثر رقماً في إحصائيات الحروب؟
موقع الجمهورية
———————
طوفان الأقصى.. قراءة في مآلات المعركة/ حسام طرشة
تُعتبر معركة “طوفان الأقصى”، في نظر الشعب الفلسطيني في “غزّة”، أمراً استراتيجيّاً بل ولعموم فلسطين؛ خاصّة قضية “المسجد الأقصى” و”القدس” والوجود الفلسطيني في مناطق 1948. هذه المعركة كانت ضرورية رغم كلّ العسر الذي يعاني منه القطاع، فالمعركة أشبه ما تكون بـ “جيش عسرة” لعدّة أسباب:
1. تصاعد الاعتداءات وما لا يُغطى إعلاميّاً هو أضعاف ما تم تغطيته.
2. سلوك نظام الاحتلال الممنهج في مناطقه التي تهدف إلى إفراغ مناطق 1948 من الوجود الفلسطيني من خلال سياسات تُفضي إلى الهجرة باتجاه الضفّة أو إلى خارج البلاد.
3. تسارع خطوات المحتلين والمستوطنين باتجاه المسجد الأقصى وتجاه المرابطين حوله في القدس.
4. الأداء الكارثي لمنظمة التحرير الفلسطينية في الضفّة ومآلاته الكارثية (عرف مسؤولوها أو جهلوا).
5. زيادة الخناق على أهل غزّة خاصّة مع انسداد قنوات دعم القطاع من مصر بسبب سياسات النظام المصري الحالي، وهذا سيفضي إلى اعتماد شبه كامل للقطاع على ما سيقدمه نظام الاحتلال للقطاع فقط.
6. ضعف الخيارات السياسية لحماس، خاصة مع التقدم الخطير في خطوات التطبيع العربي، وعدم وجود أي خيار باتجاه سلام مع العدوّ المحتلّ.
ما سبق وغيره، يجعل من معركة “طوفان الأقصى” معركةً وجوديّة ضروريّة وملحّة بالنسبة للفلسطينيين عموماً ولأهل غزّة بشكل خاصّ.
وكتقدير موقفٍ لمآلات هذا الحدث الخطير المفاجئ؛ يمكن القول بأن أحد الأهداف الأساسية التي يمكن أن تقبل بها السلطات في غزّة كنتيجة لمعركة “طوفان الأقصى” هو امتلاك أدوات وأوراق لمفاوضات مقبلة تحمل فيها قيادة القطاع (غزة) قائمة مطالب استراتيجيّة، قد يكون في طليعتها منافذ للقطاع على العالم خارج الهيمنة الصهيونية على المعابر الداخلية مع المناطق المحتلّة من دون تقديم تنازلات باتجاه سلام مع الاحتلال؛ منها مشروع (الكوريدور مع الضفّة الغربية “الممرّ الآمن) الخيار الذي لم يولد بسبب عدم تنفيذه من قبل نظام الاحتلال الصهيوني، وكان الممرّ الآمن بندا في اتفاق غزّة – أريحا 1994 الذي وُقع في الخامس من شهر أيار/مايو في القاهرة؛ على إثر اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى. كما تمّ ذكر الممرّ في اتفاق في العام التالي لاتفاق غزة – أريحا، وذلك في اتفاق طابا عام 1995، وتضمن البند التاسع والعشرون في الاتفاقية ذكر ملف الممر الآمن بين الضفة الغربية وقطاع غزة، ولم تلتزم إسرائيل بما ورد، كما جاء ذكر الممرّ الآمن في صفقة القرن 2019 التي لم يُكتب لها النجاح.
والخيار الآخر في هذا الصدد، وهو الأكثر واقعيّة وفائدة بالنسبة لحماس، هو إعادة تفعيل معبر رفح مع مصر، بحيث يخرج قرار إغلاقه وفتحه من يد السلطات المصرية إلى اتفاق دوليّ يقيّد سلوك النظام المصريّ تجاه فتح وإغلاق المعبر.
وثمة مطلب ثالث يتمثّل في إعطاء كوريدور بحريّ وميناء يصل غزّة بخطوط التجارة الدولية، وهذا من أكثر الخيارات صعوبة من حيث قابلية التطبيق.
ومن المطالب التي يُفترض أن تكون في أولويات قيادة قطاع غزّة:
1. تحرير أعداد غفيرة من الأسرى في سجون الاحتلال.
2. إيقاف جميع مظاهر الاعتداء على المسجد الأقصى والمصلّين والمرابطين في القدس.
3. إيقاف عمليات القضم الممنهجة للمناطق وإنشاء المستوطنات اليهودية.
في المقابل لا بدّ أن نذكر ما يمكن أن تقدمه قيادة قطاع غزة غير مسألة تسليم الأسرى بين يديها لنظام الاحتلال! ولا أظنّ أن حماس قادرة على تقديم أي تنازل له علاقة بمسار مفاوضات أو سلام! فخيارات قوى المقاومة الإسلامية (حماس) (الجهاد الإسلامي) ليست واسعة في هذا الصدد، ولم يعد المحتلّ يقبل بأي اتفاقيات مع السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير بعد سلسلة فشل الاتفاقيات السابقة بسبب غياب الفصائل الفلسطينية الإسلامية عن هذه الاتفاقيات. وهذا يضعنا أمام محدودية في الخيارات.
أما بالنسبة لخيارات نظام الاحتلال الصهيوني، فأبرزها تناولاً في الرأي العامّ هو سيناريو الاجتياح البرّي، ويقف أمام إمكانية حصول هذا السيناريو مآلات في غاية الخطورة، تجعل النظام الدوليّ والدول الحليفة للكيان الصهيوني حجر عثرة أمام مثل هذا السيناريو؛ إذ مآلات ذلك قد يكون انفجار مواجهات إقليمية واسعة قد تصل إلى حرب حقيقيّة. ناهيك عن الخوف من الانتفاضة والغضب الشعبي العربي والإسلاميّ الذي سيضغط بقوّة على الأنظمة لاتخاذ مواقف صارمة حيال الاجتياح البرّيّ.
إلا أن لدى الاحتلال الصهيوني خيارات أخرى قد تكون مؤثرة وخطيرة؛ منها إدخال حركة حماس في نظام التحالف الدوليّ للحرب على الإرهاب مما يُدخل الاحتلال الصهيوني في منظومة التحالف الدوليّ وبالتالي دخول عموم فلسطين، وربما دول الطوق، لاستهداف مقدّرات حماس البشريّة وهذا أخطر سيناريو يهدد باحتماليّته التحرّك الأميركي العسكريّ والسياسي باتجاه الوقوف بجانب الاحتلال في معركته، مما يعني استهداف حماس لتجفيف منابعها تماما كما حصل مع تنظيم القاعدة وداعش.
ومن ذلك أيضا خنق القطاع بمزيد من الحصار وإيقاف كل ما يدخل القطاع من المعابر الداخلية، بالإضافة إلى إرغام مصر على مزيد من التشديد (رغم خمول معبر رفح بسبب سياسة نظام مصر) لتركيع القطاع بمن فيه. ومما يمكن أن تستثمره قوى الاحتلال، إيقاف الكثير من الاتفاقيات والقنوات مع جهات أوروبية وعربية وغربية يستفيد منها القطاع تحت بند مزيد من الحصار.
ومن الأدوات التي يمكن للاحتلال الصهيوني استخدامها في الحرب إجبار منظمة التحرير على مزيد من التنسيق ضد وجود حماس والجهاد في الضفة الغربية.
لن تنتهيَ هذه الحرب إلا بطاولة مفاوضات مصيرية وتاريخيّة، وستشهد تغييرات جذرية في خريطة التحالفات السياسية والعسكرية بشكل كبير، فهل نشهد جبهة عربيّة موحّدة تقف مع الشعب الفلسطيني لمواجهة استحقاق هذه الحرب؟
تلفزيون سوريا
———————————-
الشرق الأوسط القديم.. الشرق الأوسط الجديد/ أحمد البرهو
قبل مئة عام كان تشجيع التطبيع بين الأفراد: “اليهود والمسيحيين والمسلمين” في بلاد الشّام، أو حتى في الدولة العربيّة التي اتّفق عليها الشريف حسين مع وزير الخارجيّة البريطاني “مكماهون” – ما يعني ضمناً الاعتراف بحق شعوب المنطقة بالاتكاء على موروثها من العيش المشترك لبناء مدنيّة محلّيّة- كان ذلك ليكون أكثر منطقيّة وإنصافاً من اتهام شعوب وثقافة المنطقة بالقصور عن تحقيق المساواة بين الأفراد، ومن ثمّ إعادة تشكيل “الشرق الأوسط” بما يناسب الرائي من الغرب الأقصى والأوسط!
حصلت بريطانيا وفرنسا -من عصبة الأمم- على “حق” انتداب سوريا الكبرى لتمدين شعوبها، وسوريا الكبرى آنذاك امتداد جغرافيّ مفتوح وتكامل اقتصاديّ ممكن، واليهودي -مثل غيره من المسلمين والمسيحيين- جزء أصيل من نسيج المجتمع المحلّي، يمتلك العقار ويمارس مهنة أو تجارة كغيره، وخرجت جيوش الاستعمار المباشر من بلادنا بعد تقسيم الجغرافيا إلى “دول” على رأسها: حكومات ونخب تنهج “الفصل بين التراث وبين الدولة”، وجملة اتهامات للثّقافة المحلّية.
وفي زمن التمدين ذاك -الذي لم تنصب خلاله المجتمعات الشرقيّة محارق لليهود أسوة بمحارق النزعة المادّيّة النازيّة ولا هجّرتهم باعتبارهم ساميين يستحيل قبول التساوي معهم- لكن وقعت أحداث -لا يعقل نسبتها إلى التراث المحلّي بعد الانفصال عنه- صبّت كلّها في نهاية المطاف -للأسف- في رفد تهجير أوروبا لليهود إلى فلسطين بيهود سوريين وعراقيين ومصريين، ما يعني أنّ مدنيّتنا الحادثة بالفعل والمتّهمة خسرت أحد أعضائها!
اليوم – كما في كل يوم من سيرورة التمدين خلال المئة عام الأخيرة- لا تزال تنصحنا النّخب الغربيّة بالواقعيّة الماديّة لنتحضّر ويقبل بعضُنا بعضاً بغض النظر عن الدين أو العِرق. في حين تمارس علينا تلك النّخب ازدواجيّة معايير تعيق تلك الواقعيّة!
وخلافاً لمواطن كندي لا موارد طبيعيّة في أرضه ولا أطماع دول متحضّرة ولا قداسة ولا تاريخاً لجغرافية منطقته، ولا حكومات مستبدة تمنع تمثيل مصالحه السياسيّة الواقعيّة؛ لعلّنا غير مخيّرين تماماً إنما مجبرون على معالجة سياقات عديدة لتفسير واقعنا: سياقات أيديولوجيّة دينيّة بعدد أدياننا وطوائفنا وما أكثرها، وسياقات واقعيّة مادّيّة تحسب بدقّة مصالح الأطراف العالميّة والإقليميّة، ثمّ مصالح الأطراف المحلّيّة المرتبطة بهذا الطرف أو ذاك؛ لكن بحال من الأحوال ليس للفرد منّا من فاعليّة كبرى.
عبد الوهاب المسيري مفكر إسلامي مصري لكنّه يفسّر حدث “إسرائيل” بمفردات الأيديولوجيّة الإسلاميّة؛ بل يعتقد أنّ الصّهيونيّة فرع عن الثقافة المادّية الغربيّة، وممثّل لمصالح الإمبرياليّة الغربيّة في إقامة دولة وظيفيّة تخدم هيمنته على موارد المنطقة!
نشأت الذريعة السياسية لإقامة “إسرائيل” وطناً قوميّاً لليهود خلال مرحلة الوعي الحداثي الأوروبي وصراعه البيني على الموارد الطبيعيّة؛ ما استدعى بدوره ذريعة تمدين ذلك العالم “المتخلّف/ الغني بالموارد” باستعماره، ثم انكفأ الاستعمار المباشر -بعد ارتكابه حربين عالميتين- فانسحبت جيوشه من معظم البلدان تاركة خلفها “إسرائيل” ووعياً يقول: لتنتصروا على إسرائيل والغرب عليكم بـ”فصل التراث الديني وغيره ليس عن الدّولة فحسب بل عن التمدين الحديث”، إضافة إلى نخبٍ سياسيّة وثقافيّة حافظة لمعايير الغرب الذي يجب أن نكون صورة عنه!
ورغم أنّ الغرب نقد تراثه الحداثي والمجازر التي تسببت لـ “اليهود والغجر والمعوقين وكبار السن”، فاعتذر مطوّلًا لليهود، إلّا أنّه ظل متعنّتاً أمام غير اليهود من أفارقة وآسيويين، وظلّت “إسرائيل” -الفكرة النّاشئة في حقبة الحداثيّة القوميّة الأوروبيّة والبحث عن الموارد- تتلقى دعماً جديداً من وعي غربي طهراني فقط من إبادة اليهود؛ وظلّ نموذج “إسرائيل”: الدولة التي لا تفصل بين الدين وبين الدولة؛ بل تبني مشروعيّة وجودها على السرديّة الدينيّة؛ وظل التصنيف الغربي لأداء هذه “الدولة” باعثاً على التناقض!
مثل غالبيّة المسؤولين الغربيين الذين ينتهزون الفرصة للتعبير عن تطهرهم من النّازيّة جاءت كلمات رئيسة المفوّضيّة الأوروبيّة “أورسولا” -في شهر 4 من هذا العام – وهي تُهنّئ إسرائيل بذكرى إنشائها، وتصفها بالديمقراطيّة؛ في مبالغة لا تدّعيها إسرائيل ذاتها وهي تلغي شعباً فلسطينيّاً من الجغرافيا والتاريخ، وتمارس سياسة الفصل العنصري بحق الفلسطينيين وتحاصر مليوناً ونصفَ المليون منهم برّاً وبحراً وجوّاً في “غيتو” طوله نحو أربعين كيلومتراً وعرضه ما بين (5-15) كم اسمه غزّة!
لكن ثمة سؤال أساسي ربّما يجدر بوجدان الاتحاد الحضاري وحريّة الفرد وحقوق الإنسان مواجهته: هل كان إنشاء إسرائيل وما تلاها من:
تقسيم بلاد الشّام.
تهجير الشعب الفلسطيني.
التحكم -ليس بمصير الفلسطينيين فحسب- بل بمصير شعوب المنطقة برمّتها..
هل كان هذا “خطأ تاريخيّاً” تسبب بآلام لملايين البشر الآخرين -غير اليهود الذين طردتهم أوروبا- أم ستظل مصالح الاستعمار تنكر آلام الملايين، وتدفع المال لمستشرقين وخبراء كـ”برنارد لويس” للدفع إلى اعتبار ما آلمنا “صحيحاً”؟!
ثمّة إسرائيل الآن؛ وحديثٌ عن شرق أوسط جديد، وتصوّر الجديد فرع عن تقييم القديم بطبيعة الحال، فإذا كانت “إسرائيل” هي “الصح” فهذا يعني أنّ كلّ ما حولها من تاريخ وجغرافيا وشعوب إنّما هي أخطاء ينبغي إصلاحها قياساً إلى “إسرائيل”!
محور الشرق الأوسط الجديد واضح ليس في تصوّرات مستشرق يهودي بريطاني أميركي كبرنارد لويس فحسب بل في الخرائط المنسوبة إليه منذ ثمانينيّات القرن الفائت كذلك، وفي تصريحات وزيرة الخارجيّة الأميركية السّابقة “كوندليزا رايس” عن الفوضى الخلّاقة في تسعينيّات القرن؛ وفي السياسة الخارجيّة الأميركيّة أو ما ينكر رؤيته أصحاب مقولة: “ليس لأميركا مشروع واضح للمنطقة”!
أين المدهش في قول رئيس الوزراء الإسرائيلي إنّه في صدد “تغيير وجه الشّرق الأوسط” في أعقاب “فيضان الشعب الفلسطيني الأخير” وما علاقة الانتفاضة الأخيرة إذا كان نتنياهو قالها قبل أسبوعين من ذلك على شاشة cnn بالعربي الكلام، وكان قبل ذلك أيضاً قد أشهر أمام الأمم المتّحدة خريطته التجاريّة ومسارها من الهند مروراً بالإمارات والسعوديّة والأردن فـ “إسرائيل”، وهو ما كان بايدن قد أعلن عنه خلال كلمته في قمّة العشرين أيضاً، ما يعني الكشف عن الجانب الاقتصادي من مشروع الشرق الأوسط الجديد!
الجانب الاجتماعيّ للمشروع ربّما يمكن تتبع مساره هو الآخر في “الاتفاقيّات الإبراهيميّة” التي جرى الإعلان عنها عام 2020، ولا تزال السّعوديّة حتّى الآن -رسميّا على الأقل- خارج تلك الاتفاقيّات، ورغم استثناء العراق وسوريا ولبنان من الخريطة فإنّ تحوّل الخطاب السياسي والإعلامي في: العراق الذي أسقطت أميركا نظامَه، ولبنان الذي جاء نظامه السّياسي بعد حرب أهليّة، وسوريا التي تحوّلت ثورتها إلى “حرب أهليّة” -تحوّل الخطاب إلى تبنّي مفهوم “المكوّنات” والتسليم به كأنّه مسلَّمة يمارسها مناضلو “المكوّنات الديمقراطيّة” طواعية؛ كل ذلك يعبّر عن مناخ ما يتم الدفع به بغض النظر عن جدواه؛ إذ ما القيمة المدنيّة لقبول ابن القبيلة -العرقيّة أو الدينيّة- ابن قبيلته ديمقراطيّاً؛ إلّا أنّ التقسيم الهويّاتي بهذا الشّكل يتوافق -سبحان الله- مع خرائط برنارد لويس!
ثمة تصور واضح عن شرق أوسط اقتصاديّ جديد إذن، إلّا أنّه بذريعة قصورنا كـ”مكوّنات” لا يقبل بعضها بعضاً هذه المرّة، ومن ثمّ لا بدّ من تقسيمنا مجدّداً!
بالمقابل، وإضافة إلى الغبن الذي يمكن أن يدفع أنظمة مستثناة من الجدوى الاقتصاديّة -كالصين وكإيران- إلى الشّغب، ثمّة شعب فلسطيني لم يعثر على وجوده في الخريطة، فثار من جديد دفاعاً عن وجوده.
—————————
هل تغيّر حرب غزة الأخيرة وجه الشرق الأوسط؟/ مصطفى إبراهيم المصطفى
صبيحة السابع من تشرين الأول 2023 فوجئ العالم بأحداث مباغتة ومتلاحقة تحدث في العمق الإسرائيلي. وانشغلت وسائل الإعلام العربية والعالمية في نقل تفاصيل ما يحدث باهتمام شديد؛ ذلك أن الهجمات والعمليات التي شنتها حركة “حماس” تحت مسمى “طوفان الأقصى” كانت فريدة من نوعها.
حجم التعاطف الدولي الذي حصلت عليه إسرائيل بالإضافة إلى شارع غاضب يطالب بأقسى أنواع الانتقام؛ تنظر إليه حكومة “نتنياهو” القادمة من أقصى اليمين على أنه إطلاق يد إسرائيل لترد بالطريقة التي تشاء. لذلك هي سارعت لإطلاق عملية عسكرية تحت مسمى “السيوف الحديدية” في محاولة لاستعادة الهيبة وقوة الردع التي تآكلت على نحو غير مسبوق كنتيجة طبيعية لعملية “طوفان الأقصى”.
بعد حملة قصف جنوني قيل إنه خمسة أضعاف القصف الذي تعرض له لبنان عام ٢٠٠٦ خرج “نتنياهو” ليقول: إن القصف الجوي الذي تتعرض له حماس في غزة مجرد بداية.. سنغير وجه الشرق الأوسط. أي؛ هل في نية إسرائيل أن تتوسع في حملة ترميم صورتها التي تشوهت لتطول قوى وجماعات أخرى غير “حماس” كما فعلت الولايات المتحدة التي غزت العراق بعد غزوها لأفغانستان؟
في الواقع؛ ما زال هذا موضع تكهن وترقب، فجملة “سنغير وجه الشرق الأوسط” تحتمل الكثير من التأويلات، فاقتصار الرد الإسرائيلي على ضرب غزة يعيدنا إلى ما قالته صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية إنه “مهما حدث في هذه الجولة من الحرب بين إسرائيل وغزة فقد خسرنا بالفعل، وإن كل ما تفعله إسرائيل من الآن فصاعدا لن يكون له أي معنى حتى لو عثرت على محمد الضيف (قائد كتائب عز الدين القسام التابعة لحماس) في مخبئه وقدمته للمحاكمة فلن يكون لذلك أي معنى.
حسب الروايات القادمة من إسرائيل؛ هناك تيار داخل المؤسسة العسكرية يرى أن إسرائيل لم يعد لديها ما تخسره. لذلك، عليها أن تستغل هذا الدعم الدولي وتوجه ضربات مؤلمة لكل خصومها في المنطقة ابتداء من حزب الله وانتهاء بالميليشيات الإيرانية الموجودة في سوريا، ولا بأس إن وصل الأمر لضرب قوات النظام السوري كأسلوب للضغط لدفعه إلى إخراج الميليشيات الإيرانية من سوريا. بهذا تكون إسرائيل قد أعادت بعض الهيبة لجيشها من خلال إبراز مقدرته على خوض الحرب على أكثر من جبهة.
إذا افترضنا أن إسرائيل توسعت في حربها الانتقامية ونجحت بإلحاق الأذى بخصومها تكون بالفعل قد غيرت وجه الشرق الأوسط ولو جزئيا – يرتبط هذا بحجم الضرر الذي ستلحقه بالخصوم – ولكن السؤال الملح قبل كل ذلك؛ هل يمكن لـ “نتنياهو” الحصول على موافقة أميركية بأن تتوسع إسرائيل في حربها الانتقامية خارج حدود غزة؟ حقيقة إن الجواب من غير تردد هو: لا. حتى ولو قررت إسرائيل اختصار التوسع بالعملية العسكرية باقتصارها على بعض العمليات الأمنية؛ كاغتيال وتصفية بعض الشخصيات الوازنة لا يمكن لها أن تحصل على تأييد لهذا الخيار.
رغم أن المزاج العام في الولايات المتحدة، ولأول مرة منذ حرب العراق، أصبح أكثر مرونة حيال إمكانية انخراط الإدارة الأميركية في حرب إلى جانب إسرائيل، إلا أن الإدارة الأميركية ذاتها لا ترغب بهذا الخيار، فالولايات المتحدة وحلفاؤها منهمكون بإدارة الحرب الأوكرانية التي وترت الأوضاع دوليا، وعززت انقسام المشهد العالمي. هذا بالإضافة إلى تفرغ الولايات المتحدة لصراعها المحتدم مع الصين.
لقد أرسلت الولايات المتحدة حاملة الطائرات إلى المنطقة بهدف معلن هو الردع. بمعنى أنها تهدف إلى جعل المعركة محصورة في غزة، وكان قد سبق ذلك تصريح لمسؤول أميركي كبير قال فيه: إن إيران تسعى لتوريط الولايات المتحدة في حرب في منطقة الشرق الأوسط. أضف إلى ذلك أن الموقف الأميركي أصبح معروفا منذ زمن بعيد بأنها تتحاشى الانخراط بقوة في مشكلات الشرق الأوسط، وأن فكرتها بالانسحاب من هذه المنطقة مازالت قائمة رغم أنها أصبحت موضع تردد في الآونة الأخيرة.
نظريا؛ ستجري الأمور على هذا المنوال. أي، ستحاول الولايات المتحدة حصر الحرب الإسرائيلية في غزة ومنع انزلاقها إلى مكان يجعل التحكم بمسار الأحداث غير ممكن. هذا نظريا، ولكن المشكلة تكمن في أن النزاعات المسلحة من أصعب الأنشطة التي يمكن التحكم بمساراتها، إن لم تكن الأصعب على الإطلاق. إن خطأ الحسابات هو السمة المميزة للحروب، وهو أحد أهم أسباب اندلاعها. لذلك من الصعب التكهن بمجريات الأحداث في الأيام القادمة، فالحسابات معقدة جدا.
المشكلة أن ذبح غزة لن يكون كافيا لإنقاذ نتنياهو من وصمة العار التي ألحقتها حكومته بإسرائيل، وهو في نفس الوقت سوف يشكل إحراجا شديدا للمحور الذي تنتمي إليه حماس إن بقي على الحياد يتفرج بينما غزة تذبح. بين هذا وذاك؛ أغلب الظن أن وجه الشرق الأوسط سوف يتغير، ولكن بأي اتجاه؟! هذا ما يصعب تقديره.
———————
“طوفان الأقصى” وكسر إسرائيل.. هل الحرب الإقليمية ممكنة؟/ منير الربيع
إنها الضربة الأقسى التي تتلقاها إسرائيل في تاريخ وجودها. أهميتها أنها في داخل الأراضي المحتلة والتي تعتبرها إسرائيل محمية. يمكن لتداعيات عملية طوفان الأقصى أن تسهم في تغيير وجه منطقة الشرق الأوسط، كما يمكن لها أن تسهم في ترسيخ واقع جديد عنوانه تصدّر حركة حماس للمشهد الفلسطيني، وما يعنيه ذلك من إضعاف للسلطة الفلسطينية وإنهائها، وما له من تبعات على الوضع الإقليمي. لا يزال من المبكر الحديث في التحليل والتكهن والاستشراف حول ما سينتج عن هذه العملية ولكن السيناريوهات كثيرة ولا بد من استعراضها.
بالمعنى الاستراتيجي للعملية، فإن حركة حماس أظهرت تفوقاً كبيراً في العتاد والعديد ونوعية الهجوم. وذلك لا يمكن فصله عن الإطار الذي تضع حماس نفسها فيه كحليف أساسي في محور المقاومة الذي تقوده إيران. وبالتالي في النتيجة السياسية أو الاستراتيجية لا بد لإيران من تحقيق مكاسب سياسية على المدى الأبعد. لا سيما أن توقيت العملية يأتي في ظرف دقيق وحساس تمرّ به المنطقة، خصوصاً في ظل المفاوضات التي كانت قائمة في سبيل المزيد من اتفاقات التطبيع. وبذلك تقول المقاومة الفلسطينية، إنها لا توافق على ذلك ولا يمكن إبرام أي اتفاق بدون ضمان حقوق الشعب الفلسطيني. في المقابل أيضاً، فلا بد لإيران أن تقول كلمتها أيضاً في تثبيت نفسها ودورها في المنطقة لسنوات طويلة مقبلة، من العراق إلى سوريا ولبنان ففلسطين، ليس في غزة فقط بل في الضفة مستقبلاً.
ولكن قبل الوصول إلى مرحلة الاستنتاجات التي لا تزال شبه مستحيلة في هذه المرحلة، لا بد من مراقبة الردّ الإسرائيلي، حجمه وآلياته. كما لا بد من مراقبة الموقف الأميركي، وإذا كان التصعيد مطروحاً فذلك يستدعي انخراط حلفاء حماس في المنطقة بهذه المعركة. بالنسبة إلى السيناريوهات الإسرائيلية، فهناك من لا يزال في مرحلة جنون العظمة، ويظنّ نفسه قادراً على إعادة تجربة حرب الـ 67 في مواجهة إسرائيل لأكثر من دولة وعلى أكثر من جبهة والانتصار فيها. آخرون يفكرون في استنساخ تجربة حرب الـ 73، والتي تلقت فيها إسرائيل هزيمة كبرى، لكنها عادت واستفاقت وعززت من موقعها العسكري والتفاوضي فذهبت مع مصر إلى مفاوضات اتفاق السلام. أما التجربة الثالثة التي يفكر بها بعض الإسرائيليين هو الذهاب إلى تكرار تجربة اجتياح لبنان في العام 1982 والوصول إلى بيروت وإخراج منظمة التحرير منها، وبالتالي يريد هؤلاء تنفيذ اجتياح بري لغزة وضرب حركة حماس وتهجير أكبر عدد من الفلسطينيين.
كل هذه السيناريوهات دونها صعوبات، لا سيما السيناريوهين الأول والثالث. فعلى الرغم من دخول أميركا بشكل مباشر أو غير مباشر في هذه الحرب إلى جانب إسرائيل، وإرسال حاملتي طائرات ومدمرات عسكرية بحرية، إلا أن ذلك يهدف إلى تعزيز الردّع وعدم جعل إيران، حزب الله، وحلفائهما يتدخلون في تلك الحرب وترك إسرائيل في مواجهة غزة. في المقابل، الإيرانيون والحزب يعتبرون أنه لن يسمح لإسرائيل بتحقيق أهداف عسكرية كبيرة في غزة أو ضد حركة حماس، وإذا حصل فسيتم الدخول في المعركة. ولكن الدخول في مثل هذه المعركة قابل لتحويل الوضع إلى معركة إقليمية، لا سيما أن حلفاء إيران في العراق، لبنان، وحتى اليمن، سينخرطون ما سيدفع الأميركيين إلى التدخل وخصوصاً على الحدود السورية العراقية لمنع تدفق المقاتلين، وهذا بحد ذاته ستكون له أبعاد كثيرة وتداعيات أكثر. لذلك الجميع يريد تجنّب مثل هذا السيناريو.
عملياً، فإن إسرائيل تسعى إلى تحقيق أهداف عسكرية أساسية في غزّة، لتحسين صورتها واستعادة هيبتها، وبعدها يمكن للوسطاء الدوليين التدخل في سبيل وقف إطلاق النار وإعادة إطلاق المفاوضات، لكن ذلك لن يكون متاحاً الآن أو بشكل سريع. في كل الأحوال، فإن عملية طوفان الأقصى، فتحت أفقاً جديداً للصراع أو للتفاوض، بما يتعلق في كسر هيبة إسرائيل وإجبارها على تقديم تنازلات قاسية، وبعدها إعادة تفعيل البحث في حل الدولتين، من خلال قوى جديدة ستجلس على طاولة التفاوض بعيداً من السلطة الفلسطينية. أما بحال لم يجد التفاوض طريقه إلى المرحلة العملية، فهذا يعني أن الحرب الطويلة ستبقي الأوضاع مفتوحة على كل الاحتمالات بما فيها اشتعال المنطقة، وتحويلها إلى نقطة اجتذاب دولي تتداخل فيه وتتدخل جهات وعناصر كثيرة كما هو الحال بالنسبة إلى الحرب الروسية على أوكرانيا.
تلفزيون سوريا
————————–
غزة التي أرعبت الاحتلال وفضحت الغرب/ غسان ياسين
بدت لقطات الاقتحام وكأنها مشاهد سينمائية من فيلم ما أو أنها مشاهد تصور مناورات تدريبية، للوهلة الأولى كان يصعب تصديق أنها مشاهد حقيقية لعملية اقتحام قامت بها فصائل فلسطينية داخل الأراضي المحتلة، كان كل شيء مباغتاً ومدهشاً وجميلاً، لكنها ولحسن الحظ كانت مشاهد تصور عملية حقيقية بالفعل حدثت يوم السبت 7/10/2023 هذا التاريخ الذي سيحفر طويلا في ذاكرة الاحتلال وذاكرة الفلسطينيين والعرب جميعاً.
في السنوات الأخيرة وبعد تراجع مخيف للدور العربي الفاعل في المنطقة والإقليم ظن الإسرائيليون وخلفهم داعموهم أن كل شيء يسير بحسب رغباتهم، وأن التطبيع الخليجي الذي بدأته الإمارات سينهي كل شيء ولن يتحدث أحد من العرب بعد اليوم عن الدولة الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني في أرضه المحتلة، هوان وضعف عربي وصل لحد تصرف كوشنير المستشار السابق للرئيس الأميركي وكأن المنطقة مشاع له ولحكام الإمارات ويتعاملون معها كما لو أنها شركة ضخمة مفلسة وبحاجة إلى إدارة جديدة وهيكلة للديون، وصلت جرأة حكام الإمارات ومعهم كوشنير وطاقمه إلى اختراع دين جديد لإلباس المنطقة ثوبا جديداً من الذل والضعف عليه شعار جميل وبراق هو التسامح!
هذه العملية المنظمة والمباغتة والضخمة أربكت دولة الاحتلال بشكل غير مسبوق، فلأول مرة تتعرض إسرائيل لمثل هذا الهجوم من الداخل، عملية كشفت زيف ادعاءات التفوق العسكري وادعاءات سطوة القبة الحديدية وكل الأسطورة الاستخبارية برمتها، خلال ساعات سيطر الخوف والذهول على كل الكيان شعبا وحكومة ومؤسسات وظهر عجزهم أمام سيل من القذائف والاقتحامات، وكان عدد القتلى الإسرائيليين كبيرا وتتقصد حكومة الاحتلال للتخفيف من غضب الرأي العام من خلال عدم ذكر العدد الحقيقي وهي تصدر إحصائية جديدة كل يوم وآخر. إحصائية بثت اليوم كانت 1300 قتيل فيما الرقم الحقيقي بحسب مصدر خاص داخل حماس يفوق 2500 قتيل إسرائيلي، وهناك المئات من الأسرى الإسرائيليين أيضا معظمهم من جنود ما يسمى غلاف غزة.
ردة فعل قادة دولة الاحتلال والذي جاء فاشياً وعنصرياً عبر التهديد بسحق المدنيين وتدمير قطاع غزة جاء نتيجة طبيعة هذا الكيان الذي قالت عنه منظمات حقوقية دولية إنه كيان فصل عنصري، وأيضا جاءت نتيجة حجم الضربة القاصمة التي تلقاها، لكن ما كان مفاجئا وغير متوقع هو ردة فعل الغرب برمته أي أمريكا ومعها أوروبا، إذ خرج بايدن بتصريحات صادمة وفيها معلومات خاطئة استخدمها للتحريض على المدنيين في غزة، حيث قال إنه شاهد أطفالاً إسرائيليين تقطع رؤوسهم من قبل الفلسطينيين، وقدم كل الدعم لحكومة نتنياهو في تبرير مسبق لكل الجرائم والانتهاكات التي حصلت وستحصل لاحقا نتيجة هذا السعار الذي أصاب الكيان الهش، أوروبا بدورها وكعادتها في الملفات الدولية تبعت أميركا بل إنها زاودت عليه بدعم الكيان بشكل غير مسبوق لدرجة خرج معها وزير الداخلية الفرنسي يهدد كل من يتعاطف مع الفلسطينيين بالسجن حتى لو أنه كتب منشوراً على وسائل التواصل الاجتماعي، يحصل هذا في فرنسا التي تعتبر رسومات شارلي إيبدو حرية رأي فيما كتابة منشور تضامني مع أطفال غزة جريمة تستدعي السجن لمدة خمس سنوات.
اللافت أكثر هو اعتبار ساسة وإعلاميين غربيين ما يحدث في فلسطين المحتلة بأنه حرب دينية تستدعي النفير العام وكأنهم يدعون للجهاد المقدس، واحد من هؤلاء كان السياسي الأميركي العتيق هنري كيسنجر حين قال إن المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين خطر على الأوروبيين، وأضاف أن الأوروبيين أخطؤوا حين سمحوا لأشخاص من ديانات وثقافات مختلفة (يقصد المسلمين تحديدا دون أن يسميهم) بالقدوم إلى أوروبا لأنهم يشكلون خطراً عليها. بدورهم بعض الإعلاميين في المؤسسات الإعلامية الكبرى والعريقة تحولوا إلى محققين جنائيين حين استضافتهم لأي مسؤول فلسطيني دون أي اعتبار للمهنية والموضوعية ولا لدماء الأبرياء التي تسفك في غزة.
بعد هذا الدعم الغربي اللامحدود عسكريا وإعلاميا نحن أمام مذبحة كبري تحدث على الهواء مباشرة وبمباركة الجميع دون استثناء، فحين ترسل أميركا حاملتي طائرات للمنطقة لتقديم الدعم المعنوي واللوجستي لجيش الاحتلال، وحين يخرج الساسة في الغرب بمثل هذه التصريحات التي تبرر هذه المذبحة والتأصيل لها في انتهاك واضح لكل المواثيق الدولية ولكل القيم التي حارب الغرب لتصديرها للعالم بعد انتصاره في الحرب العالمية الثانية.. هذا يعني أننا أمام مواجهة طويلة لن تقتصر على ما يحدث في فلسطين المحتلة، فحكومة إسرائيل تريد تنفيذ نكبة جديدة عبر تهجير سكان غزة لمصر بسيناريو مشابه لما حصل أثناء اجتياح بيروت حين أُجبرت منظمة التحرير الفلسطينية على الخروج من لبنان بمساعدة نظام حافظ الأسد. صحيح أن سيناريو تهجير أهل غزة إلى مصر صعب المنال لأنه يواجه رفضا مصريا واضحا حتى اللحظة، وبطبيعة الحال لن يقبل الفلسطينيون هذا السيناريو، لكن الاحتلال في سعيه هذا سيواصل تدمير البنية التحتية للقطاع ودك البيوت فوق ساكنيها، أي إن عدد الضحايا قد يتضاعف كثيرا في حال لم يكن هناك تحرك للجم الاحتلال.
إسرائيل منذ زرعها في هذه المنطقة وهي تحظى بدعم كبير سواء من الغرب أو غيره ولا ننسى على سبيل المثال أن الاتحاد السوفييتي اعترف بهذا الكيان قبل الولايات المتحدة الأميركية، لكن هذا لا يعني أن الدول العربية ودول المنطقة لا تستطيع فعل شيء سوى التصريح وكأن زعماء هذه الدول ناشطون سياسيون! لا أحد يريد أن ترسل الدول جيوشها لأنها ستكون في مواجهة مباشرة مع أميركا لكن هناك الكثير من الأدوات والهوامش لدى الدول تستطيع استثمارها جيدا لوقف المذبحة لكنها بحاجة إلى شجاعة في اتخاذ القرار.
في هذه اللحظة التي ترتكب فيها طائرات الاحتلال مذبحة بحق المدنيين في غزة يصعب التكهن بمآلات الأمور لكن هناك حقائق باتت واضحة وجلية بعد هجوم السبت 7 من تشرين الأول تتلخص بألا أمن لأي إسرائيلي بعد اليوم طالما أن الفلسطينيين غير آمنين، وأن هذا الاستقرار الخداع وهم وأن كل الدعم الغربي مهما وصلت قوته لا يمكن له أن ينسي الفلسطينيين حقوقهم وأن ما حدث يوم السبت سيحفر الكثير من الخوف في نفوس الإسرائيليين وفي كل المدن المحتلة، وليس فقط في محيط غزة، وسيحفر أيضا الكثير من الأمل لدى الفلسطينيين ومعهم العرب بأن قضية فلسطين ستبقى حاضرة حتى يحصل الفلسطينيون على دولتهم.
————————–
إيران تسعى لتشويه الوعي الشعبي بقضية فلسطين/ حسن النيفي
ما تزال القضية الفلسطينية تحتفظ بالدور الأكبر في صياغة الوعي السياسي العربي وتوجيهه منذ أربعينيات القرن الماضي وحتى الوقت الحاضر، سواء على مستوى السياسات الرسمية أو على المستوى الشعبي العام، بل يمكن التأكيد على أن تداعيات نكبة فلسطين سواء في عام 1948 أو 1967 كان لها أثر مباشر على نشأة وتكوين الإيديولوجيا القومية بشتى أشكالها وتجلياتها، إذ إن احتلال فلسطين من جانب الصهاينة ومهمّة التصدّي للمشروع الصهيوني وتحرير دولة فلسطين شكّلت – وما تزال – أبرز ركائز الخطاب السياسي لمجمل التنظيمات والقوى القومية، وربما يرى البعض أن حضور قضية فلسطين تجاوز التخوم القومية، وبدا له أثر واضح حتى في نشأة وبلورة الرؤى الفكرية لدى بعض التيارات الإسلامية التي تشكّلت في بدايات القرن الماضي وعلى أعقاب فشل تيار الإصلاح الديني أو ما سُمّي بتيار النهضة في أواخر القرن التاسع عشر.
لم تؤثر عمليات الصلح المنفردة التي أبرمتها بعض الدول العربية مع إسرائيل على حضور القضية الفلسطينية في الوعي والوجدان العربي، بل يمكن التأكيد على أن أشدّ حالات العداء الشعبي لإسرائيل ربما كانت لدى شعوب الدول التي بادرت بالتطبيع، الأمر الذي يؤكد أن مناهضة الكيان الصهيوني لم تعد، كما لم تكن من قبل، قراراً سياسياً يقرّه أو يزيله حاكمٌ ما، أو جماعة أو فرد، بل هي ثقافة متجذّرة في الوجدان الشعبي للعرب والمسلمين، وهذه الثقافة تأسست على قضية عادلة، وقد تعززت عدالتها – مع مرور الزمن – بتضحيات هائلة وكفاح مشروع، لم تواجهه إسرائيل إلا بالمزيد من التوحّش والإجرام، وبالتالي إن أُريد لهذه الثقافة أن تتغيّر، فذلك لن يكون إلّا برجوع الحقوق إلى أصحابها أولاً، وهذا ما لم تبدُ علائمه حتى الوقت الراهن، بل مما هو شديد العيان، استمرار إسرائيل في سياستها الاستيطانية، واستمرارها في اغتصاب الحقوق، وقمع أصحابها وقتلهم واعتقالهم، فهل سيتحوّل الكيان الغاصب المحتل إلى فاعل خير ليتامى القمع والإرهاب؟
تجاوزُ القضية الفلسطينية لوقائعها المادية وتحوُّلها إلى قيمة رمزية في الوجدان العربي والإسلامي جعلها عُرضةً للاستثمار وشعاراً مُغرياً وجاذباً للسياسات الشمولية، وفي طليعتها السياسات الإيرانية التي تفوقت على الأنظمة العربية في قدرتها على الاستثمار في الإرث الرمزي والنضالي للمقاومة الوطنية الفلسطينية، وعلى الرغم من انقسام المواقف العربية الرسمية والشعبية حيال سياسات إيران ومصداقيتها حيال قضية فلسطين طيلة ثلاثة عقود مضت، فإن ثورات الربيع العربي، والثورة السورية على وجه الخصوص، جسدت منعطفاً حاسماً في كشف زيف المسعى الإيراني ليس حيال فلسطين فحسب، بل حيال المنطقة العربية برمتها.
لعل الكشوفات المعرفية للثورة السورية، قدّمت فهماً جديداً لتعاطي جيل الثورات مع قضاياهم المصيرية ومن ضمنها القضية الفلسطينية، ولعل أبرز علائم هذا الفهم الجديد هو تحطيم الوهم المتراكم الذي كان يقيم التخوم بين عدو خارجي وعدو داخلي، ذلك أن هذه الثنائية، قد فقدت معظم أسسها، بل أثبتت أنها مجرّد وهم حاول الطغاة تأبيده، ومن ثم اتخاذه ذريعة لممارسة طغيانهم وفجورهم بحق شعوبهم، فاضطهاد إسرائيل لشعب فلسطين واضطهاد نظام الأسد للسوريين يتناسلان من رحم الظلم ذاته، وحرية الشعوب جماعات وأفراداً هي كلٌّ واحد لا يتجزأ، أضف إلى ذلك، أن أي مسعى لتحرير فلسطين أو أي بقعة أرض محتلة، يقتضي أولاً استعادة الشعوب إرادتها المكبّلة، واسترجاعها لحريتها وكرامتها، لتتمكّن من استعادة المبادرة، وإعادة السلطة من أيدي جلّاديها إلى الشعوب. وبناءً على هذا الفهم يدرك السوريون قبل سواهم أن إيران التي توغلّت ميليشياتها الطائفية في معظم الجغرافيا السورية، وقد بادرت قبل غيرها إلى قتل السوريين منذ العام 2012 بالسواطير وارتكاب أفظع المجازر بحق المدنيين نصرةً لحاكم جلّاد، لا يمكن أن يحظى خطابها بأدنى درجات المصداقية، إلّا إذا استطاعت أن تقنع العالم أن تحرير القدس مقرون بقتل السوريين والتنكيل بهم، علماً أن خطر السياسات الإيرانية لم يعد قائماً على ثورة السوريين فحسب بل بات مصدر خوف وعدم استقرار لمعظم دول المنطقة.
العامل الأهم والرابط المشترك الذي جسّدته قضية فلسطين، والأكثر تجذّراً في وجدان العرب، بين بعضهم البعض، وبين العرب والمسلمين، يتعرّض لحالة من التشويه بل ربما حالة من التصدّع نتيجة لاستثمار إيران في القضية الفلسطينية وقدرتها طيلة سنوات خلت، على تجييش وشراء ولاءات بعض الفصائل الفلسطينية التي وجدت ضالتها في طهران، سواء بدوافع إيديولوجية أو مالية، فمنذ أن انطلقت عملية (طوفان الأقصى) في السابع من الشهر الجاري يُثار الحديث مُجدّداً بل يتنامى لغطٌ كبير يمكن أن يتحول إلى مستنقع آسن ليصطاد فيه أعداء الحرية والمشككون بنضال الشعوب وتضحياتها تحت ذريعة أن من بادر بالعملية العسكرية هي حركة حماس المعروفة بعلاقاتها لإيران، ما يعني أن قرار عملية طوفان الأقصى كان إيرانياً، وبهذا ينحرف الحديث نحو الدور الإيراني الآثم بحق الثورة السورية من أجل تنحية الاهتمام بجرائم الاحتلال الصهيوني بحق أهل فلسطين، في مسعى واضح يهدف إلى تشويه الوعي والتهليل لمنطق التضليل والتجييش القائم على الإثارة دون استبصار لسيرورة ما يجري بحق الشعب الفلسطيني على أيدي الصهاينة.
ما ينبغي أن يدركه أصحاب منطق الإرجاف والتشكيك والإثارة أن قضية فلسطين هي أكثر أصالةً وتجذّراً في الوجدان العربي والإسلامي من أي مسار، إذ لقد شهد مسار القضية الفلسطينية على مدى أكثر من سبعة عقود توافد المزيد من القوى والشخصيات والفصائل والتيارات الإيديولوجية بمختلف أشكالها على قيادة منظمة التحرير وسواها من التجمعات الأخرى، وربما اختلف العرب والمسلمون كثيراً حول تلك القوى والشخصيات ولكنهم لم يختلفوا أبداً حول حق الشعب الفلسطيني في الدفاع عن نفسه والنضال من أجل تحرير أرضه واستعادة كرامته، ثم إن الموقف من فصيل أو حركة أو من طرف إقليمي معادٍ للثورة السورية، كإيران مثلاً، ينبغي ألّا يؤدي إلى فقدان البوصلة واتخاذ موقف لا ينسجم مع المبادئ الأساسية للثورات، ثم إن التسليم بمنطق النأي عن قضية فلسطين بحجة تحكّم إيران بقرار حماس ألا يعني التسليم لإيران بهذا التسلّط والركون إلى مصادرتها لحق الشعوب العربية في الاهتمام بمصير فلسطين؟
لقد جسّدت قضية فلسطين على مدى خمسة وسبعين عاماً، إرثاً نضالياً ليس لقضايا التحرر العربية فحسب، بل لمجمل حركات التحرر في العالم، كما أن الثورة السورية، بثرائها المعرفي والثقافي، قد عزّزت لدى الجميع مفهوم وحدة الحق الإنساني ووحدة المبادئ، وبالتالي وحدة النضال الإنساني المشروع في سبيل التحرر من العبودية واسترجاع الحقوق، ولعل الدفاع عن القضية الفلسطينية من بوابة الدفاع عن الكرامة والعدالة والمبادئ الإنسانية، ورفض الطغيان والإذلال، لهو السبيل الأكثر تماهياً مع نبل القضية الفلسطينية وعدالتها، فضلاً عن أن صلابة الموقف الشعبي العربي والإسلامي حيال قضية فلسطين ينبغي أن يكون صلباً أيضاً أمام المسعى الإيراني الرامي إلى اختراق الموقف العربي والتسلّط على الإرادة الفلسطينية، فكما كانت وما تزال قضية فلسطين عاملاً جامعاً لمشاعر العرب والمسلمين، فينبغي ألّا تتحوّل بفعل المسعى الإيراني إلى عامل انقسام وتشتت، وهذا لن يتحقق بإدارة الظهر والركون لمنطق التشكيك والاستخفاف بتضحيات الشعب الفلسطيني، بل بمزيد من الوعي الفاضح لقذارة المنهج الإجرامي بوجهيه الإسرائيلي والإيراني معاً.
————————–
طوفان الأقصى وتحولات جيوسياسية في المنطقة/ فراس رضوان أوغلو
مهما تغيرت الأحداث في العالم ومهما تنوعت يبقى الشرق الأوسط هو قلب العالم السياسي والجغرافي لأنه يربط بين قارات ثلاث وبحار سبعة، علاوة على ما يمتلكه من طاقة أو طرق الطاقة والتجارة وعليه فإن الطموحات الغربية في الشرق الأوسط ستبقى قائمة وسيقابلها طموحات دول المنطقة ومن يقف خلفهم من دول متحالفة معهم، وبالتأكيد القضية الفلسطينية لا تزال هي المشكلة الرئيسية للسلام والاستقرار في الشرق الأوسط.
على مدى عقدين ونيف كانت حركة حماس عبارة عن مقاومة فلسطينية ضد التدخلات الإسرائيلية وأغلب أعمالها العسكرية عبارة عن ردة فعل وليس العكس، واليوم تحولت المقاومة الفلسطينية من الدفاع إلى الهجوم وتحولت المقذوفات البدائية في تسعينيات القرن الماضي إلى طائرات بدون طيار وصواريخ موجهة رغم الحصار الشديد والمضايقات والهجمات المستمرة التي يتعرض لها الفلسطينيون، ولا يمكن عزل هذا التطور التكنولوجي لحماس دون مساعدات من الخارج وهذه المساعدات تعطيك مدى الصراع الاستراتيجي بين بعض دول المنطقة وإسرائيل مما أفضى عن حماس صاحبة المبادرة العسكرية طوفان الأقصى. وهنا لا يجب إنكار الأسباب الداخلية التي كان لها دور في تفجير هذه العملية العسكرية فالاحتقان على الجانب الفلسطيني واستمرار حصار غزة وتوسيع الاستيطان وانتهاكات المستوطنين للمسجد الأقصى وحكومة نتنياهو المتطرفة كلها كان لها دور في هذه الحرب.
بالطبع ستكون هنالك تداعيات إقليمية لهذه العملية وتغيرات جيوسياسية في جميع دول المنطقة، فعملية التطبيع العربي مع إسرائيل ستأخذ بالانحسار والتوقف المرحلي رغم وجود علاقات دبلوماسية رسمية من عدة دول مع إسرائيل، ذلك لأن صورة إسرائيل القوية قد اهتزت بعد هذه العملية، كما أن تعاطف العرب والمسلمين مع فلسطين سيزيد من الضغط على الحكومات العربية للابتعاد عن إسرائيل. كما ستكون هنالك ضربة أخرى على الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا فهذا الممر لا يمكن تأمينه دون إيجاد صيغة سلام بين الفلسطينيين وإسرائيل، وهذه الصيغة لن تكون إلا بحل الدولتين فهل تفكر إسرائيل بهذا الأمر بعد انتهاء حربها مع حماس والتي لا يبدو لها أُفق محدد.
ومن المؤكد أن هذه الأزمة ستساعد في تحسين صورة إيران في الشرق الأوسط، ومن ناحية أخرى تقوية تحالفها مع روسيا التي يبدو أنها ستصطف لصالح حماس في ظل وجود حكومة اليمين المتطرف (نتنياهو) التي دعمت أوكرانيا في حربها مع روسيا وستكون روسيا سعيدة برؤية صرف انتباه الغرب عن الحرب الأوكرانية وتقليص الإمدادات العسكرية عنها.
في هذه الحرب سيتصاعد دور بعض دول المنطقة مثل مصر والأردن بشكل كبير وإعلان مصر رفضها لأي تغيير ديمغرافي في غزة بحجة الحرب على حماس، وهي تعلم أنها الأن ربما البوابة الوحيدة لإمداد الشعب الفلسطيني بما يحتاجه من مواد أولية وغيرها، لذلك سنشهد توافدا واتصالات مكثفة مع القاهرة في هذه الحرب وربما تفرض بعض شروطها مستفيدة مما يجري، وأما تركيا التي أعلنت على لسان رئيسها رجب طيب أردوغان رفضها للسياسات الإسرائيلية وأن على إسرائيل أن تتصرف كدولة وليس كمنظمة وأن أي صيغة احتلال للأقصى الشريف مرفوضة، طبعاً ما يحصل من حرب الأن يصب في مصلحة أنقرة فالطريق التجاري من الهند إلى إسرائيل يبدو أنه قد يتحول نحو الأناضول وحتى خطوط الطاقة من إسرائيل نحو أوروبا ستتجه نحو بلاد الأناضول.
في هذه الحرب الرابحون كثر والخاسر الوحيد هو تل أبيب، فالتموضع الجيوسياسي لكثير من دول المنطقة قد يصبح أفضل وعلى حساب إسرائيل، وحتى الخسائر الاقتصادية التي تطول إسرائيل بسبب هذه الحرب تحتاج فترة لترميمها، فالغرب الذي كان يمد تل أبيب هو في ضائقة اقتصادية نوعاً ما بل العالم كله يشهد تضخماً اقتصادياً، وحتى لو قررت اجتياح غزة فالخسائر ستكون أكبر مما يتوقعها أحد وربما تجر إسرائيل لخسائر هي بغنى عنها.
————————-
“طوفان الأقصى”: ردع إسرائيل وفرملة التطبيع وإعادة الاعتبار لخيار المقاومة/ عدنان علي
العملية العسكرية غير المسبوقة التي بادرت إليها المقاومة الفلسطينية في 7 الشهر الجاري على الحدود مع قطاع غزة، والتي لم تنته بعد، ولم تتضح أبعادها النهائية، من الواضح أنها مختلفة عما سبق، وسيكون لها ولا شك نتائج جدية في سياق الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، والعربي الإسرائيلي بشكل عام.
سوف تظهر الكثير من التحليلات لهذا التطور الذي يحمل مضامين استراتيجية، قد تسهم في إعادة رسم المعادلات في المنطقة. وإذا حاولنا قراءة سريعة لما انجلى حتى الآن من المشهد، فيمكن الإشارة إلى عدة نقاط هامة. ومنها على سبيل المثال من النواحي الأمنية والعسكرية والاستراتيجية:
– تمكن المقاتلين الفلسطينيين من عبور الحدود بهذه السهولة، واحتلال قواعد عسكرية والسيطرة على مستوطنات، وقتل وأسر المئات من العسكريين والمستوطنين، وسوقهم إلى القطاع، يشكل نقلة نوعية في مجريات الصراع منذ قيام الكيان الإسرائيلي عام 1948، ولم يحدث ذلك من قبل طيلة سبعين عاما. وكان تمكن الجانب العربي، سواء أكان دولا أم فصائل، من أسر جندي أو بضعة جنود إسرائيليين، يعد حدثا كبيرا في مجريات الصراع.
– وهذا الخرق الفلسطيني للحدود، تكرر كثيرا حتى بعد زوال المفاجأة والصدمة من جانب الجيش الإسرائيلي، ما يعني أن هذا الجيش غير قادر على ضبط الحدود، برغم عشرات المليارات التي أنفقتها على بناء السياج العازل المزود بأحدث معدات المراقبة والإطلاق التلقائي للنيران، والمدعوم بما يسمى “القبة الحديدية”. إنه فشل كامل لمنظومة الأمن الإسرائيلية، وانكشاف مدو لمدى هشاشتها.
– هذا التطور، لا شك يسهم في تهشيم صورة إسرائيل وجيشها “الذي لا يقهر”، ويعظم في الوقت نفسه من شأن المقاومة، لدى حاضنتها الشعبية، وفي مواجهة المشككين الكثر بجدواها سواء من الفلسطينيين أم العرب.
– ومن الملاحظ أيضا، تطورات ملموسة في قدرات المقاومة العسكرية، سواء على صعيد جمع المعلومات الاستخبارية، أم تطوير فرق الكوماندوس البرية والجوية والبحرية، فضلا عن تحسن واضح في القدرة الصاروخية، حيث باتت صواريخ المقاومة توقع قتلى وتدميرا واسعا بين الإسرائيليين، خلافا للحروب السابقة، حيث كان أثرها ضعيفا للغاية، حتى وصفت بأنها مجرد مفرقعات إعلامية.
– وفي المقابل، لم يبل جيش الاحتلال حسنا في المواجهات مع المقاتلين الفلسطينيين، ونال أداؤه انتقادات واسعة من جانب الإعلام الإسرائيلي، ووصف بالارتباك والبطء وضعف القيادة، ولم يجد هذا الجيش طريقة لتعويض هذا الفشل القتالي، إلا بتكثيف الغارات الجوية على قطاع غزة بعيدا عن ساحة المعارك، في محاولة لإيقاع أكبر ما يمكن من خسائر بين المدنيين.
وعلى الصعيد السياسي، لا شك أن هذه التطورات سيكون لها مفاعيل كبيرة على المستويين الفلسطيني والعربي، وصورة الصراع مع إسرائيل بشكل عام. وبعد أكثر من ثلاثة عقود من تبني خيار المفاوضات من جانب الفلسطينيين والعرب، نجد أن حصيلة هذا المسار ليست مساوية للصفر وحسب، بل دفعت بالقضية الفلسطينية خطوات إلى الوراء، واستطاعت إسرائيل تدريجيا طي المطالب المشروعة للشعب الفلسطيني في التحرر وإقامة الدولة المستقلة على حدود 1967، وإرهاق الفلسطينيين بمطالب يومية لا تتعدى المطالبة بوقف الاستيطان وضم الأراضي والاقتحامات للمسجد الأقصى والإفراج عن المعتقلين.
ولا شك أن خيار المقاومة سوف يستعيد زخمه بعد هذه التطورات بوصفه الطريقة المثلى لمخاطبة العدو الإسرائيلي الذي بات يسيطر على قيادته القوى الأشد تطرفا في إسرائيل والرافضة كليا لأبسط الحقوق الفلسطينية.
وفي هذا السياق أيضا، يشكل “طوفان الأقصى” ضربة قوية لحركة التطبيع العربي مع إسرائيل والتي دفعت إليها الإدارات الأميركية وأثمرت عن اتفاقات للتطبيع اعتبارا من العام 2020 مع كل من الإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب، وكان من المقرر أن يتوج ذلك بدخول السعودية على خط التطبيع، وسوف يكون من نتائج هذه التطورات إعادة التركيز على القضية الفلسطينية، وإعادة الاعتبار للطرف الفلسطيني باعتباره الطرف الأهم في أية معادلات تخص العلاقة مع إسرائيل، ولا يمكن لأحد تجاوزه.
————————
استثمار الأسد وحلفائه في العدوان الإسرائيلي على غزة/ مالك الحافظ
ليس بجديد سعي كل من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وحليفه رئيس النظام السوري بشار الأسد إلى استغلال نكبات الدول والمدنيين لتجييرها من أجل خدمة مصالحهم السياسية.
بغض النظر عن الأسباب والموجبات التي دفعت حركة “حماس” لإطلاق عملية “طوفان الأقصى”، وهي أكبر عمل عسكري تبرز تداعياته بشكل ملموس منذ بدايات تأسيس الكيان الصهيوني، إلا أن المراقب لسير الأحداث وسخونة ومعاني التصريحات الديبلوماسية والتحركات السياسية أو حتى التقارير الصحفية الوازنة المتعلقة بها؛ يدرك تماما المطامع السياسية الآثمة التي تدور في أذهان بوتين والأسد واستغلال دماء المدنيين الفلسطينيين.
في الوقت الذي لم تخرج فيه دمشق بشكل رسمي عن إطار البيانات الاستنكارية لأحداث التصعيد الإسرائيلي على قطاع غزة الفلسطيني، ذكرت تقارير صحفية أن مسؤولين إماراتيين (أبو ظبي حليفة حالية موثوقة لدمشق) حذروا السوريين من إشعال أي جبهة ضد الإسرائيليين خلال فترة “طوفان الأقصى” وما يليها، وبأن أبو ظبي أبلغت الإدارة الأميركية في واشنطن بتفاصيل ما جرى في إطار هذا التنسيق.
إذا ما صحت تلك التقارير فإن ذلك يعتبر بمثابة خدمة قيمة قدمتها أبوظبي للأسد، فالأخير الذي يستجدي أي تطبيع عربي لتحصيل مكاسب تقربه من رضى واشنطن وتخفيف العقوبات على نظامه سيجد فرصة ثمينة بذلك من أجل الادعاء بأنه التزم بمطالب الإمارات وبالتالي القدرة على التفاهم معه لاحقا وحتى الوصول إلى ملف تطبيع مشترك بين دمشق وتل أبيب إذا دعت الحاجة والظروف.
عمليا يدرك الأسد أنه قد يحقق مكسب سياسي من لا شيء تماما، فأي قدرة لديه يمكن أن تواجه أو تحرك جبهة لم تتفعل ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي في الجولان خلال فترة العقود الماضية، وكذلك الحال أيضا فقد انكشفت هزالة القدرات العسكرية لدى النظام بمواجهة الإسرائيليين خلال السنوات الحالية إثر تكرار عمليات القصف والاستهداف الإسرائيلية لعموم المناطق السورية دون رقيب أو أي مستوى جدي من إمكانات الرد.
في حين أن الدور الإيراني قد يكون شبه غائب في التأثير من خلال الجبهة السورية، فطهران التي دائما ما تعلن عنها دعم “حماس” قد تكتفي بدعم تحريك الجبهة الفلسطينية، فالتصعيد الواسع قد لن تكون بوارده حتى على صعيد جبهة جنوب لبنان وإن كان “حزب الله” قد قام ببعض التصعيد إلا أنه لن يتجاوز مستويات أعلى كون التصعيد من قبل أذرع النفوذ الإيراني سيضر بعديد الملفات، لا سيما ملف المفاوضات النووية الإيراني، وكذلك احتمالات تزايد التقارب السعودي الإيراني، فضلا عن أزمة الملف اللبناني المستمرة سياسيا واقتصاديا، والتي قد تضر الحزب المدعوم إيرانيا في حال دخل على خط المواجهة المشتعلة حاليا، سيما وأن واشنطن كانت قد أطلقت مؤخرا تحذيراتها لإيران بعدم التدخل بالتطورات العسكرية الأخيرة في الأراضي الفلسطينية.
بالمقابل فإن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، والمسؤولين الروس انتهجوا خطابا أكثر وضوحا حيال قضية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ولكن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال اهتمامهم بمآسي الشعب الفلسطيني والدمار البشري والمكاني الذي تتسبب به آلة القصف الإسرائيلية بعد كل عملية تصعيد ضد الفلسطينيين، ولكن هذه المرة كان موقف روسيا أكثر وضوحا حيال مسألة تتعلق بالتطورات الأخيرة في غزة، والموقف غير مستغرب عن خباثة المطامع الروسية ومشاريعها في المنطقة، حيث لم ينفك الروس عن تحميل مسؤولية ما يحصل لواشنطن، معتبرين أن هذا الصراع سببه فشل واشنطن وبأنه لا خيار عن دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية. ولكن السؤال هنا هل هذا الموقف من أجل القضية الفلسطينية؟ بالتأكيد فإن الموقف الروسي ينطلق من سببين لا ثالث لهما، الأول مهاجمة الأميركان في ملف جديد لخلق موقف سلبي ضد الولايات المتحدة ضمن إطار الصراع السياسي غير المباشر المشتعل بينهما بسبب عدة ملفات كبرى، ليست الحرب في أوكرانيا وحدها متسببة بهذا الصراع السياسي. وكذلك اتصالا بهذا الجانب فإن روسيا التي اعترفت بعلاقاتها الإيجابية مع الإسرائيليين وقد ظهر ذلك جليا في مواقف كثيرة أكبر من أن تحصى خلال السنوات الماضية، لكنها تريد تسجيل موقف ضد واشنطن وفي الوقت نفسه فإنها تدعم ضمنيا حربا طويلة الأمد ضد غزة حتى ولو كانت على حساب المدنيين الفلسطينيين، وذلك طمعا في تأجيج الفوضى وخلق منطقة توتر جديدة في المنطقة، وضمان خلق منطقة صراع عسكري آنية تهم الولايات المتحدة بشكل مباشر، وذلك من أجل تخفيف الضغط الموجود على روسيا منذ بداية غزوها للأراضي الأوكرانية.
——————–
هل مشكلة إسرائيل مع حماس أم مع الفلسطينيين؟/ د. أسامة عثمان
تركّز الدعاية الإسرائيلية، وعلى لسان رئيس الحكومة الأكثر عنصريَّةً وتطرُّفًا في تاريخ دولة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، بعد عملية “طوفان الأقصى”، على حركة حماس؛ لشيطنتها، بوصمْها بالإرهاب، أو بمقاربتها بداعش، أو حتى بالنازية، في محاولات للقضاء على حُكْمها، وعلى بِناها؛ العسكرية والسياسية، وحتى الاجتماعية، وغيرها، ولكن الفعل العِدائي على الأرض أوسع وأعمق من أن يُحصَر في حماس، أو سائر فصائل المقاومة، في قطاع غزة، أو في سائر الأراضي المحتلة في فلسطين، وخارجها.
إنَّ الذين تُدمَّر بيوتُهم وأبراجُهم السكنية، على رؤوسهم، وعلى رؤوس أطفالهم وكبار السن، والنساء، من دون حتى إنذار مسبَق، وعلى مرأى من العالم، والذين يتلقَّوْنَ القنابل الفسفورية المحرَّمة، دوليًّا، هم الفلسطينيون، والذين يُمنَع عنهم الماء والطعام والكهرباء والوقود، والذين طَلَب منهم نتنياهو حرفيًّا، أن “يَخرجوا”، ثم هدَّدهم، بالموت، إنْ لم يفعلوا، هم جزء كبير من الشعب الفلسطيني، وليس بوصفهم أعضاءً في حركة حماس.
وكمرحلة أولى، تمهيدية، كما يبدو، طلبت حكومة الاحتلال من مليون ومئة ألف فلسطيني، (الانتقال) إلى جنوب القطاع، فأخيرًا أصدر الناطق العسكري الإسرائيلي بيانًا (مهمًّا) لسكَّان مدينة غزة طلَب منهم فيه مغادرتها إلى جنوب وادي غزة، بذريعة الحفاظ على سلامتهم.
فمن الواضح أن التحدي الذي يقف في وجه المشروع الاحتلالي الإحلالي هم الشعب الفلسطيني الذي لا يزال مقيمًا في مدنه وبلداته، وصامدًا في قراه ومخيماته، برغم كل الظروف الاحتلالية التي لا تُحتمَل، وعلى مدار عقود، بما يقارب المليونين، وربع المليون، في قطاع غزة، وما يقارب ثلاثة ملايين وربع المليون، في الضفة الغربية، فهذا وجهٌ من وجوه الصراع؛ البُعْد الديمغرافي، إذ بات الهدف معلنًا، زيادة عدد المستوطنين في الضفة الغربية إلى مليون مستوطن.
والحقيقة أن العداء متبادَل، فكما لا تطيق دولة الاحتلال رؤية الشعب الفلسطيني في بلده، وترى مجرَّد عيشه الطبيعي، حتى لو لم يقاوم، بالمعنى الشائع للمقاومة، فإن الشعب الفلسطيني أيضًا لا يمكنه التسليم بحالة الاحتلال التي تتفاقم وتتعمَّق، فالرافض لإسرائيل واحتلالها، ليست حماس، وحدَها، إنما هي تحاول التماهي مع أبناء شعبها، في هذا الهدف الكبير المجمَع عليه، حتى من السلطة الفلسطينية التي كانت توقَّفت المفاوضات بينها وبين دولة الاحتلال، منذ أبريل/ نيسان 2014، بسبب انسداد الأفق السياسي، ورفْض قادة الاحتلال، وعلى رأسهم نتنياهو الاستجابةَ إلى أدنى ما يسمَّى باستحقاقات العملية السياسية، كوقْف الاستيطان، أو تجميده، والكفِّ عن توسيع المستوطنات على حساب الأراضي الفلسطينية؛ ما يعني وأد مشروع حلِّ الدولتين، بل السعي السياسي، ثم السعي الفعلي الميداني، إلى التهام ما تبقَّى من فلسطين، وفرْض سيادة الاحتلال على مناطق ج، (التي تمثل قرابة 60% من مساحة الضفة الغربية)؛ الخارجة عن سيطرة السلطة، تمهيدًا للضمّ، وقلْ مثل ذلك عن اللاجئين، وحقِّهم في العودة، وأكثر من ذلك عن المسجد الأقصى، والإعداد الحثيث المتسارع لإقامة الهيكل المزعوم، على أنقاضه، وإسدال الستار عن أيّ قضية ممَّا يسمَّى بقضايا الحل النهائي. وذلك من طرف واحد، هو الطرف الاحتلالي، وهو في أقبح حالاته، العنصرية، كما عكسته تصريحاتُ وزير دفاعهم، يؤاف غالانت، عن حصار أهل غزة، وحرمانهم كلَّ احتياجاتهم: “إننا نواجه حيوانات بشرية”.
صحيحٌ أن حماس وغيرها من فصائل المقاومة شكَّلوا رأسَ حربة، لكن العمل الاحتلالي الجاري الآن، لا يقتصر على استهداف حماس، وإنما يستغلُّ الحدث الذي قامت به، في المستوطنات المحيطة بغزة، وفي القواعد العسكرية القريبة؛ يستغلُّه، ومعه التعاطف الدولي الغربي الرسمي، والدعم شبه المطلق، ولا سيما من أميركا، في تنفيذ مخططات مُبيَّتة تهجيرية، وقد صرّح بهذا الهدف نائب وزير الخارجية السابق، داني أيالون، على قناة الجزيرة باللغة الإنجليزية، إذ حثَّ الفلسطينيين في غزة على الخروج إلى مصر، إلى صحراء سيناء، (زاعمًا أنه خروج مؤقَّت، ولأسباب إنسانية) إلى مساكن، وبِنية تحتية، ستجهزها دولة الاحتلال، والمجتمع الدولي، مقارِنًا ذلك بسابقة السوريِّين الذي هجّرتهم المجازر الوحشية لنظام بشار الأسد، قرابة مليوني سوري، الذين استقبلتهم تركيا، بحسب أقواله.
هذه المواقف المعلنة، لا تدع مجالًا للشك في أن الضحية الكبرى المراد الإجهاز عليها ليست حماس، فقط، وإنما في الأساس الشعب الفلسطيني، وبقاؤه على أرضه، وهو يسمعه، صريحًا، من غُلاة المتطرِّفين العنصريِّين في القدس المحتلة، وغيرها، حين يصرخون بـ”نكبة ثانية”، أو حين يردِّدون شعار: “العربيّ الجيِّد هو العربيّ الميِّت”. الشعب الفلسطيني يعي هذا الاستهداف، ويستشعره، يوميًّا، وفي تفاصيل حياته، قبل حتى وجود حركة حماس.
هذه العقلية الاحتلالية التي تفعِّل، الآن، فكرة الترانسفير، تثبت أن الترحيل والتهجير ليس هدفًا خاصًّا ببعض الأحزاب والحركات العنصرية، من أمثال حركة “المنعة اليهودية”، بقيادة ما يسمَّى وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، الذي عُرِف بعنصريته تُجاه العرب وعدائه لهم، واشتُهر بوضعه صورة منفِّذ عملية مجزرة المسجد الإبراهيمي، باروخ غودلشتاين، على جدار منزله، ووصفه بالبطل، أو حزب “البيت اليهودي” ممثّلًا بوزير المالية، بتسلئيل سموتريتش، الذي قال إنه على الفلسطينيين في الضفة الغربية أنْ يختاروا إمَّا الموت، وإمّا الرحيل، وإمّا الخضوع لدولة الاحتلال.
كلُّ هذه المعطيات عن دولة الاحتلال، ونظرتها إلى الشعب الفلسطيني ووجوده، ومستقبله في وطنه، ليست جديدة، فطالما أُعلِنت، وإن كانت وتيرة الحديث عنها، بعد عملية “طوفان الأقصى” ارتفعت، وخطوات تنفيذها باتت وشيكة، إلا أن المقلق، والمَعِيب هو هذا الاصطفاف الدولي الرسمي، في المجمل، مع مثل هذه القيادات الإجرامية، وأننا لا نرى خطوات جِدِّية، حتى الآن، من الولايات المتحدة، مثلًا، تفيد برفض هذه المساعي الاحتلالية نحو تدمير الوجود الفلسطيني الإنساني في غزة ثم في الضفة الغربية.
ولكن يبقى العامل العربي بالغ الأهمية والاستراتيجية، من الدول المجاورة والمرشَّحة للتعاطي مع هذه المخطَّطات البالغة الخطورة والمفصلية، وهي مصر، ثم الأردن؛ أنْ تُظهِر بالأفعال، قبل الأقوال، وقوفًا حازمًا وحاسمًا، أمام هذا التمادي الفاشي الاحتلالي؛ لأنه في أقلِّ الدوافع، لن يتوقَّف عند حدود فلسطين، ولن ينقلب فجأة، فيما لو سُهِّلتْ له تلك المهمة الاستئصالية، إلى جارٍ إنسانيٍّ مُسالِم، يحترم الحقوق، ويخضع للقانون الدولي، إنما رغباته التوسُّعية العنصرية رهْنُ قدراته، وإنضاج الظروف الدولية، لصالحه.
————————
الدور الإسرائيلي وتلازمه مع الأنظمة العربية والغرب/ فراس سعد
سيشعر أي إنسان طبيعي بالعار من موقف ألمانيا المتسرع بإيقاف تقديم المساعدات للفلسطينيين، بعد عملية طوفان الأقصى الأخيرة، فلم يبلغ مستوى التماهي الألماني بالسياسة الإسرائيلية هذا الحد أبداً رغم أن ألمانيا يعيش فيها مليونا عربي على الأقل بينهم فلسطينيون إضافة إلى خمسة ملايين مسلم، ما يمكننا من القول إن هذا الموقف الأخير إذا ما صار مرجعية في السياسة الخارجية لألمانيا فهو يعني إذكاءً لنيران الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وتماثلاً بل تطابقاً مع الموقف الأميركي المنحاز تاريخياً لإسرائيل، الموقف الذي يعتبره بعضهم أحد أهم أسباب استمرار الصراع بين الطرفين، ويعد هذا الموقف الأميركي المنحاز، السبب في فشل مفاوضات السلام وتضاؤل إمكانية تأسيس دولة فلسطينية على كامل أراضي الضفة وقطاع غزة.
والحقيقة ليس الموقف الأميركي بغريب فليست إسرائيل سوى ولاية أميركية أو ولاية أوروبية زرعت بالاحتيال والدبلوماسية والحرب في جنوب بلاد الشام وشرق مصر.. فإسرائيل هي امتداد استعماري لأوروبا وقطعة متبقية من أرض العالم البريطاني الاستعماري الذي لم تكن الشمس تغرب عنه، وبديل عن الاستعمار الكلاسيكي يضمن استمرار نهبه للعالم العربي بطرق حديثة.. فإن كلاً من فلسطين وسوريا والعراق.. هي بلدان ما زالت مستعمَرة، وفقاً للنمط الجديد من الاستعمار الذي ولد ما بعد الحرب العالمية الثانية، وبالتالي فإسرائيل ليست كياناً طبيعياً قائماً بذاته ولا يمكن أن تصبح كذلك في يوم من الأيام… إنها قاعدة ضخمة لإدارة عمليات متقدمة لأميركا وأوروبا في الشرق الأوسط، تديران بواسطتها حربهما مع العالم العربي، وليس إعلان القيادة العسكرية الأميركية عن توجه حاملة طائرات أميركية إلى شواطئ فلسطين في اليوم الثاني لعملية طوفان الأقصى، ومسارعة وزير الخارجية الأميركي لزيارة تل أبيب، سوى دليل على ما تقدم.
إسرائيل باعتبارها “القاعدة” الأميركية الأضخم في الشرق الأوسط استخدمتها المصالح الأميركية والأوروبية لافتعال مشكلات دينية عبر احتلالها لأماكن مقدسة عند المسلمين (المسجد الاقصى وقبة الصخرة) وتأجيج الصراع على هذا الأساس بحيث تصبح السياسة والثقافة لدى الجمهور العربي المسلم متعلقة إلى حد كبير بمسألة الصراع الديني مع اليهودية الصهيونية بل مع المسيحية الصهيونية، أي أن الدين يصبح أولاً والسياسة والثقافة تالياً، وهو ما يمكّن أميركا ومؤسساتها الضخمة من توجيه سياسات الأنظمة العربية لتحقيق هدفين استراتيجيين متكاملين:
الأول: نتيجة احتلال إسرائيل وتحولها إلى قوة عسكرية تهدد إقليمي الشام ومصر أولاً ثم منطقة الخليج فرضت أميركا نفسها حامية للأنظمة العربية بشرط استئثارها بالبترول العربي والثروات الباطنية الأخرى عبر النهب اللصوصي، إذ تتم سرقة البترول والثروات العربية بأبخس الأسعار، ومن ثم تشترط على الأنظمة العربية وضع أموالها “المقبوضة” كثمن للبترول في بنوك أميركا وأوروبا. وهي بذلك حقيقة تقبض على “رؤوس” هذه الأنظمة بقبضها على رؤوس أموالها..
الثاني: وهو لا يقل خطورة عن تأسيس واحتلال إسرائيل لفلسطين، ويتمثل بإفساح المجال لولادة النظام العربي الانقلابي العسكري الأمني في سوريا والعراق ومصر وحتى الجزائر والسودان.. بحجة مواجهة إسرائيل ومعركة تحرير فلسطين، والحقيقة فإن الدور الأساسي لهذا النظام العربي كان رعاية تخليف الشعوب العربية وكبح تقدمها الطبيعي، إذ شنت هذه الأنظمة حروباً متعددة على الشعوب العربية كيما تبقى في طورها الزراعي وما قبل الزراعي فلا تتقدم إلى التصنيع، ولتبقى مجتمعات استيراد واستهلاك فلا تتحول إلى الإنتاج الكبير والتصدير، هذه الحروب شنتها الأنظمة العربية على جميع الجبهات من الزراعة إلى التعليم والعسكرة والثقافة والصحة (بسبب الفساد والإهمال المنظم اشترى رجال أعمال إسرائيليون سلسلة مشافٍ مصرية بواسطة شركة إماراتية سنة 2021 ).
تستخدم الأنظمة العربية في حروبها على شعوبها أجهزة الأمن والفساد المنظم وعصابات المخدرات وجيش من الدعاة ورجال الدين لترسيخ قيم القرون الوسطى وعاداته باسم الدين، كذلك تستخدم فيها مناهج تربوية وجامعات ومثقفين وفنانين دعاة للغرب وقيمه وأنماطه السلوكية باسم التنوير والعلمانية.. الخ
وبالعودة إلى العلاقة العضوية ما بين إسرائيل والأنظمة العربية فإن كليهما يشكلان حالة متكاملة متناغمة، ومثال على هذا التناغم أن إسرائيل بعد ثلاثة أيام من طوفان الأقصى وجهت تحذيرا للنظام السوري باستهداف رئيسه بشار الأسد شخصياً وقيادات النظام من الدرجة الأولى في حال تم إطلاق قذائف من الجولان أو حتى من جنوبي لبنان، وعلى الرغم من هذا التحذير الإسرائيلي غير المسبوق، فقد أطلقت قذائف من المنطقتين باتجاه الأراضي المحتلة فما كان من بعض القنوات العربية إلا أن أوردت أخباراً عن القصف وعن الرد الإسرائيلي عليه، لكن إسرائيل لم ولن تقصف أي مقرٍ قيادي للنظام الأسدي، حتى لو بدا ذلك للسوريين والعرب كلهم تراجعاً عن الوعيد الإسرائيلي لبشار ونظامه، فالجيش الإسرائيلي قصف طوال سنوات مواقعَ للجيش السوري والميليشيات الإيرانية، من دون أن يقترب من أي مكان لقادة النظام.
ولا شك أن بشار الأسد ومعلمه خامنئي هما أهم لإسرائيل من نتنياهو نفسه، تبعاً للدور اللذين يلعبانه في نطاق الاستراتيجية الأميركية الإسرائيلية في تدمير المنطقة وإضعافها بما يناسب استمرار إسرائيل وبقاءها كوسيلة لبقاء النهب الأميركي لثروات المنطقة، بترولاً وأموالاً مهربة وعقولاً مهجّرة بقوة الفساد، وأيدي عاملة طامحة لحياة كريمة، هاربة من القمع والاستبداد.
——————————
حكومات الطوارئ وغزة وأخلاق الحرب/ رشيد الحاج صالح
أعلن بنيامين نتنياهو، الأربعاء الفائت، تشكيل “حكومة طوارئ”، وسمح هذا الوضع له بشن حرب لا هوادة فيها على قطاع غزة وتهجير سكّانه وقتل من يستطيع منهم.
طبعاً في حالة الطوارئ لا تحاسب الحكومات على كثير من تصرفاتها وقراراتها مثلما تجسر على القيام بأعمال تخالف القوانين والشرائع والأعراف بحجة أن البلاد في حالة حرب، أو حالة استثنائية تستدعي تعليق القوانين Iustitium.
نتنياهو يستفيد من عرف سياسي معروف في الدول الحديثة، وموجود منذ أيام الإمبراطورية الرومانية القديمة، يتم من خلاله اللجوء إلى قوانين الطوارئ لمنح نفسه مزيداً من الصلاحيات، وإعفائها في الوقت نفسه من أي محاسبة، وتحرره من أعباء البيروقراطية، فقوانين الطوارئ اليوم لم تعد ظاهرة خاصة في البلدان غير الديمقراطية وحسب، بل إنّ اليمين في الدول الغربية أخذ يفكر في الاستفادة منها خاصة إذا كان التحالف الحاكم متطرفا وعنصريا ويؤمن بالقوة كوسيلة وحيدة للسياسة.
وإذا كانت إحدى التعريفات الغريبة للسياسة بأنها حالة من الاستعداد للحرب فإن نتنياهو أكبر من يجسد هذا التعريف، وإذا نظرت بعض التعريفات إلى الحرب بأنّها حالة فشل للسياسة فإن نتنياهو أيضا خير من يجسدها، مع فارق أنه لا يرى في السياسة إلا وسيلة للحصول على ما تستطيع الحرب الحصول عليه، ولكن بلا حرب.
لكن وطالما لجأ نتنياهو إلى الحرب وتمكن من حماية نفسه بحكومة طوارئ فإنه لن يتوانى عن فعل كل ما يستطيع مستفيدا من تغطية إعلامية تقوم على الافتراء وتمنح تبريرا مسبقا لكل ما سيقوم به.
يبيّن بيار منان أن إعلان الأوضاع الاستثنائية وقوانين الطوارئ أمور تساعد الحاكم من التحرر من التزاماته القانونية والعادية أمام الشعب الذي يحكمه، والبرلمان الذي يراقبه، بل تسمح له أن يطلب منهما الوقوف معه بكل ما يملكون من قوة دون مقابل حتى تنقضي تلك الأوضاع الاستثنائية لأن الجميع في مركب واحد.
أما أهم بيئة سياسية تساعد على فرض قوانين الطوارئ، أو “حالة الاستثناء” كما يسميها جورجيو أغبامين، فهي “سردية الحرب”، التي تدفع المجتمع للعيش حالة الحرب أو إمكان الحرب، وأن عليه الاستعداد الدائم لمثل ذلك الإمكان، ما يؤدي إلى ظهور ما يمكن أن نسميه “أخلاق الحرب”.
يذكر أن غالبية الأيديولوجيات القومية والدينية رسّخت في الأخلاق السياسية لشعوبها أن وجودها (أي الشعوب) محفوف بالمخاطر، وأن عليها أن تصارع وتحارب لكي تحافظ على وجودها، بل إن هذه السردية كثيراً ما استخدمت حتى من قبل البلدان الديمقراطية ولا سيما من قبل أميركا عام 2001 وسعيها لفرض بعض القوانين الاستثنائية.
ولا شك أن تلك الأيديولوجيات المرددة لسردية “الظرف الاستثنائي” الطويلة (امتد قانون الطوارئ في بعض البلدان العربية إلى نحو نصف قرن) تدفع الخاضعين لها إلى التفكير بطريقة مختلفة.
وأوّل تلك الطرق المختلفة هناك حالة “تعليق الأخلاق”، أو وفق ما يقول ليفيناس: إن الإمكان الدائم للحرب يجعل من الأخلاق أمراً “سخيفاً”، مجاريًا في ذلك قول هوبز: “أفكار الصواب والخطأ، والعدل والظلم لا مكان لهما في زمن الحروب”، مثلما يتحول “الغش” إلى فضيلة أساس.
ويستفيد نتنياهو من حالة الطوارئ من حيث إنها حالة يمكن الاستفادة منها ليس بوصفها موجهة للخارج وحسب، بل إنها تستخدم من أجل مواجه الأعداء الداخليين من الأطراف السياسية الأخرى، لدرجة أن اللجوء إلى قوانين الطوارئ يزداد كلما زاد خطر “الأعداء الداخليين” وليس العدو الخارجي كما يلاحظ بدقة كارل شميث.
بل إن هناك أمثلة تاريخية معروفة (نابليون بونابرت، صدام حسين، حافظ الأسد..) تبيّن أن حكومات سعت إلى حروب خراجية، بعضها حقيقي وبعضها الآخر متخيّل، فقط للمزاودة وإسكات أطراف داخلية غير راضية عن تلك الحكومات.
فالفلسطينيون في غزة، منذ أوسلو، لا يشكّلون خطراً على إسرائيل في حال قبولها بحل الدولتين وموافقتها على القدس الشرقية عاصمة لدولتهم المنشودة، وهي حقوق أقل بأضعاف مضاعفة من حقوقهم التاريخية.
وعلى الرغم من ذلك لا يقبل نتنياهو بتلك الحلول، ليس لأي سبب سوى لأن السلطات في البلدان العربية لا تريد أن تدعم الفلسطينيين لأنها مشغولة بالحفاظ على نفسها، والسيطرة على الشعوب التي تحكمها، ولعل هذا ما يفسر السكوت الرهيب لتلك الأنظمة عما يحصل في غزة والاكتفاء بعبارات الإدانة التي تستثير سخرية العرب منذ عدة عقود. وهو ما يعني في النهاية أن السبب الحقيق لحرب نتنياهو اليوم هو السلطات العربية نفسها وليس ميزان القوة، ميزان القوة سبب ثانوي وليس سببا جوهريا.
وهنا نصل إلى فارق حاسم بين حكومات الطوارئ في الدول الديمقراطية والدول الديكتاتورية، فالأولى تستخدم قوانين الطوارئ لاستباحة حياة الشعوب الأخرى، أمّا في حالة الدول الديكتاتورية فلا يستخدم قانون الطوارئ إلا لاستباحة حقوق وحياة أهل البلد، مع ملاحظة أن قوانين الطوارئ حالة ملتبسة حتى في البلدان الديمقراطية وتترافق ببروباغندا وحملة كذب كبيرة حتى تتمكن الحكومات من إقناع شعوبها بضرورة فرضها. فالديمقراطية وعلى الرغم من سعي الناس إليها في كل مكان إلا أنها، للأسف، لم تمنع الأحزاب العنصرية والمتطرفين من الوصول إلى سدة الحكم وتنفيذ سياساتهم، والأمثلة على ذلك كثيرة.
أما الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين فلا يرى من مهمة حكومات الطوارئ سوى استباحة الإنسان في أي مكان، فقانون الطوارئ يعني بكل بساطة التوقّف عن تطبيق القانون، وهذا يعني أن القانون بصورته الموجودة لم يتمكّن من إحلال العدل والسلام بين الناس الأمر الذي دفع الطرف الأقوى إلى الخروج فوق قواعد اللعبة.
فقوانين الطوارئ هي فرصة أيضاً للتفكر بالقوانين العادية وضرورة إيجاد طرق لإنفاذها، حتى لو لم يقبل الأقوياء بذلك. وهذه قضية لم تحل بعد لأن القوانين هي في النهاية مبنية على العنف في جوهرها، أي لا تفرض إلا من قبل من لديه القوة لفرضها، كما يلاحظ جاك دريدا. وإلى ذلك الحين لا بديل للشعوب عن السعي وراء حقوقها وبناء حياة الكرامة أيا كانت قوانين الطوارئ التي تفرض عليهم.
—————————-
الديموقراطيات المذعورة/ محمد برو
كغيره من المشاهد الكثيرة المتكررة، نقف مجدداً أمام المشهد الدموي في غزة، مصحوبا بفورة التضامن المتوحش، الذي تمارسه الديمقراطيات الغربية في الدفاع الشرس عن السردية الإسرائيلية، متغافلة عمداً، عن المحرقة الفلسطينية في غزة، والتي لم يبق بيت من بيوت العالم لم يشهد مدى وحشيتها، في قتل الفلسطينيين وتدمير مدنهم وتخريب البنية التحتية عمدا، وضرب المشافي التي تحاول ما استطاعت أن تنقذ أرواح الضحايا، وقطع شرايين الحياة من ماء ودواء وكهرباء، إمعاناً في الحصار، وتهيئة للمجزرة الكبرى التي يحضرون لها، أمام بصر العالم وسمعه بل وتحريضه، كل هذا مشفوعا بسيول التصريحات التي تبرر لها ما ستفعله، وتؤكد ولاءها الأعمى لدولة الاحتلال، واستعدادها الفوري لإرسال الإمدادات العسكرية لتعزيز قدرات جيش الاحتلال على القتل، بالوقت ذاته نشهد كيف تحرك دولة عظمى حاملات طائراتها نحو السواحل الفلسطينية، في استعراض تافه لغطرسة القوة، هل هو خوفهم الحقيقي على ربيبتهم إسرائيل.
مرت عقود طويلة ونحن نكرر من دون أدنى تفكير، أن أميركا تحرص على دولة إسرائيل حرصها على حماية مصالحها في الشرق الأوسط والمنطقة العربية، مع أننا لو راجعنا خمسين سنة مضت، وقمنا بجردة حساب سنجد أن أميركا تدفع المليارات سنويا لتعزيز وحماية دولة إسرائيل، دون أدنى إفادة لصالح هذه الدولة العظمى، هل هي تلبية لرغبة الغرب العميقة بإبقاء اليهود بعيدا عنها، أم هي شراكة تمليها الرؤية الدينية للمسيحية الإنجيلية في الولايات المتحدة الأميركية، أم هو الضغط الفعال للوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الأميركية، أم هو شكل من أشكال صراع الحضارات، أم هي تجسيد لحرب راعي البقر على الحضارات العريقة التي يحفل بها المشرق العربي، وهذا ما تبدى جليا في الحرب الهمجية على العراق، لا يبدو أن أي تعليل مما سبق يكفي منفردا لتفسير المشهد السريالي، كيف يقبل دافع الضرائب الأميركي أن تذهب هذه المليارات إلى إسرائيل، مع العلم أن جميع الخدمات والمصالح التي قدمتها دولة إسرائيل للولايات المتحدة الأميركية، خلال خمسين سنة مضت، إن افترضنا جدلا أنها حصلت “والأرجح أنها لم تحصل أبداً” تستطيع الولايات المتحدة الأميركية أن تتحصل عليها وبالمجان من كثير من الدول العربية التي تمثل أنظمة وظيفية لن تتوانى عن تلبية أدنى رغبة للأخ الأكبر. المكسب الأهم الذي تجنيه الولايات المتحدة من دعمها الأعمى للكيان الصهيوني، هو تعميق كره هذه الشعوب حيالها، وترسيخ صورة الشرطي الفاسد، للدور الذي تلعبه في دعم دولة الإرهاب” إسرائيل” فعن أي استثمار رابح يحدثنا جو بايدن.
يتحدث الساسة الأميركيون عن المصالح الاقتصادية مع الكيان الصهيوني، ولو أرنا أن نجري مقارنة، بين صادرات إسرائيل للولايات المتحدة، وبين صادرات بلد ليس له هذا الضجيج الإعلامي مثل إيرلندا، سنجد أن إسرائيل تصدر من المنتجات الإلكترونية ما قيمته خمسة مليارات دولار سنوياً بينما تبلغ صادرات إيرلندا من المنتجات الإلكترونية إلى الولايات المتحدة سنويا ما قيمته عشرون مليار دولار، ولو علمنا أن حجم التبادل التجاري السعودي الأميركي في عام 2022 تجاوز 65 مليار دولار، بينما لم يبلغ حجم التبادل الإسرائيلي الأميركي الخمسين مليار دولار في العام نفسه.
أما عن دور إسرائيل في محاربة الإرهاب، فهذه عبارة سمجة لم يعد من الضروري الوقوف عندها، فالعالم اليوم بقضه وقضيضه، وبفعل معاينته اليومية لتجاوزات وانتهاكات إسرائيل الفاقعة لكل العهود والمواثيق الدولية، والأعراف الإنسانية وحقوق الإنسان، والقرارات الأممية، بات يعرف أن الكيان الصهيوني، تخلق في البدء عبر ممارسة الإرهاب الدموي، وهو اليوم من أعرق وأكبر مخلقي وممارسي ومصدري الإرهاب في العالم.
ما تفسير هذا التسابق المحموم لنيل رضا الكيان الصهيوني؟ وتأييده بشكل غير مسبوق، هذا الذي نشهده اليوم، لا يصدر إلا عن حالة رعب عميق متلبس بمعظم القادة الغربيين، من أن يفسر أي تصريح أو صمت له، على أنه سلوك معادٍ للكيان الصهيوني، وبالتالي يفقد حلمه في البقاء في منصبه. لم تطلب إسرائيل من دول غربية تجريم من يعلن وقوفه مع أطفال وضحايا غزة، لكنهم فعلوا ذلك بتلقائية خاطفة، مدركين أن هذا الكيان الذي يتشارك مع حافظ الأسد ووريثه عقيدة الولاء المطلق “من لم يكن معنا فهو علينا” ولو تذكرنا خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتانياهو” في الكونغرس الأميركي قبل ثماني سنوات في عهد الرئيس أوباما، وكيف أن أعضاء الكونغرس كانوا يقفون ويصفقون بشكل هستريائي عقب كل جملة يتفوه بها، وبشكل لم نكن نشهده إلا في القاعة التي يخطب فيها رئيس كوريا الشمالية مخاطبا جموع الرعايا المسكونين بالخوف، لعرفنا مقدار الخوف الذي يحمله معظم السياسيين الأميركيين والغربيين، من احتمال خسارتهم للدعم الصهيوني، أليس هذا إرهابا تجاوز حدود المعقول.
كل هذا مجتمعا يترك الباب مفتوحا على مصراعيه، للعديد من التفسيرات التي لم تنجح حتى الآن في تفسير هذا الدعم المنقطع النظير للكيان الصهيوني، هذا المشهد السريالي المرعب، يشي بعصر يتوحد فيه الإرهاب الدولي بالتفاهة والجنون، عصر يختنق فيه الأمل بالعدالة والحرية، عصر تسقط فيه جميع الخدع والأكاذيب التي ابتلينا بها، عبر أزمنة طويلة، عصر يجعل الأفق شديد العتمة، وفق موازين القوى المتحكمة في هذا الكوكب، والتي يستحيل بقاؤها على ما هي عليه، فنهاية التاريخ لم تأت بعد.
————————–
لماذا نقف مع غزة؟/ رشا عمران
الأمر بغاية البساطة: انتبه إلى ما يريده الفلسطينيون وكن معه؛ هكذا سوف تخفف عن نفسك عبء الخطأ لو كنت تظن أنك غير متأكد من رأيك بما يحدث، أو لو كنت غير واثق من صحة موقف ما في ذهنك. يبدأ الانحياز إلى القضايا العادلة بالانحياز إلى أصحابها، هذه البديهية بالغة البساطة تصبح لدى كثر من العرب اليوم معضلة كبيرة، سببها الأول الإيديولوجية التي تتخذ في أوقات كثيرة دور (الطماشة) على البصيرة وعلى الباصرة معا؛ ذلك أنها تمنع رؤية الاتجاهات كلها لصالح خط مستقيم واحد لا تعرجات فيه، مع أن القضايا الوطنية والسياسية هي قضايا مرت عبر تاريخها وتمر بكثير من المتعرجات والمنعطفات ما يمنع معها الرؤية الأحادية التي توصم الكثير من معتنقي الإيديولوجيات حاليا.
ينسب كثر من العرب (منهم مثقفون) حيادهم تجاه الأحداث الأخيرة الجارية على أرض فلسطين المحتلة وفي غزة تحديدا، بأن حركة حماس هي المسبب لها، وهي التي وضعت الفلسطينيين على خط النار الحالي وهي التي استفزت إسرائيل لتصب حمم الجحيم على رؤوس أهل غزة. ويتذرعون أيضا بأن لحماس أجندات أخرى لا تكترث لمصلحة فلسطين والفلسطينيين، بل هي تتبع مصالح أنظمة دول أخرى كالنظام الإيراني والنظام السوري مثلا، وأن ما فعلته في السابع من أكتوبر الحالي هو خلط للأوراق لتنفيذ مخطط ما، وبالتالي عليها أن تتحمل ما جنته يداها.
واللافت أن هناك سوريين مع الثورة السورية وضد النظام السوري يرددون كلاما كهذا ويعلنون حيادهم تجاه الأحداث الأخيرة، دون أن يخطر لهم التفكير للحظة واحدة أن ما يقولونه حول حماس وغزة وفلسطين ينطبق في كثير منه علي الوضع السوري والقضية السورية؛ إذ من السهل على مؤيدي النظام السوري القول إن من ثاروا على النظام هم السبب فيما وصلت إليه سوريا وهم السبب في استفزاز النظام ليصب جحيم غضبه على السوريين، فلو أن أحدا من السوريين لم يثر لبقيت سوريا هادئة، ولو أن أحدا من الثوار السوريين لم يستخدم السلاح لما قام النظام السوري برد فعله دفاعا عن نفسه؛ هذا كلام نسمعه دائما من مؤيدي النظام (أفرادا وجماعات)؛ وهو للأسف ما يردده حاليا سوريون عن حماس وغزة وإسرائيل؛ أين المنطق في هذا؟ وهل يختلف هذا المنطق عن منطق المطبعين المتعاملين مع العدو الصهيوني؟ هل هذا فعلا وقوف على الحياد؟ علينا إذا أن نعذر مؤيدي النظام السوري على موقفهم من الثورة وأهلها، هم يقفون وراء نفس الذريعة ويعتمدون نفس المنطق في حيادهم؛ أما القول بأن حماس وقفت مع النظام السوري ومدعومة من إيران التي تقتل السوريين وبالتالي فالوقوف معها هو إعطاء مشروعية لما يفعله النظام السوري وإيران بالسوريين، فهو كلام يحمل خطأ كبيرا ذلك أنه يختزل فلسطين وقضيتها التاريخية بتنظيم صغير ظهر بعد أن توافقت كل الأنظمة علي تصفية الحركة الوطنية التقدمية لصالح تنظيمات مذهبية ودينية، هل فلسطين هي حماس؟ وهل أهل غزة كلهم حماس؟ إذا فإن الثورة السورية كلها الإخوان المسلمون والنصرة وداعش، وبالتالي من حق النظام محاربتها بوصفها إرهابا. هذا ليس سوى منطق متخاذل عن اتخاذ موقف في الزمن الصعب، موقف من له حسابات شخصية في الوقت الذي تمنع فيه معظم دول العالم التعبير عن الوقوف مع فلسطين في مشهد موت بين للديموقراطية وحرية التعبير في العالم المتحضر سوف لن ينساه التاريخ مطلقا.
ثمة إيديولوجيا من نوع آخر يقف أصحابها على الحياد بذريعة التنوير وأن من يمثلون القضية الفلسطينية الآن هم إسلاميون متطرفون لا يختلفون عن التطرف الإسرائيلي، وأن هذا التمثيل أنهى القضية وحولها إلى صراع ديني واختزل فلسطين كلها بالأقصى حتى إن اسم العملية الأخيرة (طوفان الأقصى) يلغي اسم فلسطين لصالح إيديولوجية دينية لها مصالح محددة وضيقة، كما أن لدى العرب حاليا كثيرا من المشكلات السياسية والقضايا التي ليست بأقل أهمية من القضية الفلسطينية؛ مبدئيا يجب القول إن صاحبة هذه السطور تقف على الضفة الأخرى المعاكسة والمناهضة لكل الإسلام السياسي أو لكل التنظيمات الدينية، (الدين لله والوطن للجميع) في سوريا وفلسطين وكل العالم، والمجتمعات القائمة على الدين هي مجتمعات فاشلة والدول التي تحكمها هي دول فاشية، بالنسبة لي هذا مبدأ لا أحيد عنه. كما أنه، ورغم التهليل والفرح بعملية طوفان الأقصى التي حركت مشاعر كانت شبه ميتة في وجدان كثير من العرب، فهي أول عملية من نوعها في قلب الكيان منذ عام 1973، إلا أننا جميعا كنا خائفين من ردة الفعل الإسرائيلية أولا، وخائفين من أن تكون هذه العملية مقدمة لمخطط كبير لم تظهر بنوده للعلن بعد؛ وربما قد يكون رد فعل المجتمع الدولي العنيف وغير المفهوم أو المبرر تجاه كل من يعلن تضامنه مع الفلسطينيين هو لمحاولة تضخيم العملية وتبرير ما سيحدث لاحقا، (ظهر التضخيم في تلفيق أخبار عن ارتكابات قام بها عناصر حماس ضد أطفال ونساء إسرائيليين وتم التراجع عن هذه الأخبار لاحقا). لكن رغم كل ما سبق فإنه ينبغي التفكير مليا في التزام الحياد (تأييد بعض العرب للعدو الصهيوني فيه من الوضاعة ما لا يستحق الحديث عنه أساسا). ذلك أن إسرائيل لم تكن يوما حمامة سلام، ولم تتوقف يوما عن التنكيل بالفلسطينيين، ولا عن محاولات تهجيرهم واحتلال بيوتهم وأراضيهم، ووجود ما يسمى بغلاف غزة هو نتيجة للمحاولات الدائمة للتهجير، إسرائيل تحاصر غزة منذ زمن، تمنع عن أهلها كل شيء تقريبا، بنت جدارا ضخما كي تحدد حركتهم، المعابر حولهم مقفلة إلا بأوقات محددة، يعيش أهل غزة بسجن مفتوح بكل معنى الكلمة، تنتقم منهم إسرائيل وتقصفهم كل مدة بحجة تصفية حماس، ولنكن واضحين أيضا: يمكن لإسرائيل لو أنها تريد فعلا تصفية قادة حماس أن تفعل ذلك دون أن تدمر بيتا واحدا أو تقتل مدنيا واحدا؛ الجميع يعرفون هذا، لكن إسرائيل تجد في بقاء حماس مبررا قويا لضرب غزة مرة إثر مرة، وتهجير شعبها المتمسك بأرضه. ما يحدث اليوم، على الأرجح، هو المحاولة الأخيرة للتهجير، فالإعلان عن الحرب البرية والطلب من أهل غزة التوجه نحو مصر، والتحركات العسكرية الأميركية والبريطانية في البحر المتوسط، وعدم تدخل حزب الله حتى الآن، وضرب العمق السوري مع ما يحدث أصلا في سوريا (قصف النظام لإدلب وقصف تركيا لمناطق “قسد”). وما سبق الإعلان عنه عن قرب الوصول لاتفاق التطبيع بين المملكة السعودية وإسرائيل، كل هذا الذي يحدث يقول إن هناك مخططا كبيرا يتجهز الآن لبلادنا يدفع ثمنه الفلسطينيون وأهل غزة أولا.
كيف يمكن الوقوف على الحياد مع أخبار كهذه؟ لم تترك الأنظمة العربية والمجتمع الدولي لنا من كرامتنا سوى إعلان مواقف أخلاقية في القضايا العادلة، الحياد معها يعني التخلي عن آخر ما تبقى لنا من الكرامة، يعني التخلي عن قيمة مقاومة الظلم والوقوف في وجهه، يعني التساوي التام مع مؤيدي الأنظمة الفاشية والاستبدادية والقاتلة المحمية من إسرائيل حرفيا مهما ادعت عداء لها، نقف مع غزة ليس فقط لأجل الأقصى ولا لزجل الإسلام ولا لأجل العروبة ولا لأجل أي إيديولوجية، نقف معها لأن شعبها (لا حكامها) مقاوم، ولأن قضية فلسطين هي أم القضايا العربية ولأن لا حل لكل مآزقنا وهزائمنا السياسية والأخلاقية دون حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية، نقف مع غزة لأن العدالة قيمة كبيرة ولأن الظلم حارق ومخيف، ولأن للأخلاق وجه واحد فقط هو الوقوف ضد الظلم مع المظلوم والوقوف مع الضحية ضد القاتل.
——————
الهجوم الإسرائيلي على غزة حرب إبادة/ أحمد عيشة
تندهش وأنت تسمع إلى مواقف صناع القرار في الغرب أو تقرأ عناوين معظم الصحف فيه، فضلاً عن الإعلام المرئي، من بشاعة نمط الخطاب الموحّد في البلدان الديمقراطية على طرفي الأطلسي، في موقفها المعلّب مما يجري في فلسطين – قطاع غزة، هذا الموقف البارد الذي يقول بكل ثقة إن ثمة إرهابيين ينتمون إلى حماس نفذوا هجوماً مباغتاً على مدنيين إسرائيليين وارتكبوا بحقهم جرائم بشعة تذكّر بما جرى أيام هتلر والمحرقة، وبهذا الموقف يجرد أصحاب ذلك الخطاب الفلسطينيين -سكان غزة وغيرهم- من انتمائهم البشري، حيث يؤطروهم في فئة الإرهابيين، الذين يرتكبون مجازر متوحشة ضد مدنيين في بيوتهم! وبالتالي يستوجب أمر ملاحقتهم إلى الأبد. وعلى الطرف الآخر، يتعاطف أكثرية الناس مع هذا العمل مدركين سببه الأصلي، الاحتلال، وبنفس الوقت يتخوفون من ارتباطاته مع الأنظمة القمعية في المنطقة.
لم يكن هذا التوحّد أو العمى الغربي عما يجري ناتجاً عن جهل أو عدم دراية بمجريات الأمور، فهم مطلعون حتى على أدق الخفايا، وإنما ينبع موقفهم هذا من موقف متعمد متأصل في تركيبة الدول ذات الإرث الاستعماري، هذا الإرث الذي لا يزال يتحكم في كثير من المواقف تجاه تحرر الشعوب، ويكسبه عدائية أكثر. ويتكثف الموقف عندما يتعلق بمنطقتنا، وخاصة للبلدان المحيطة بإسرائيل، التي أسست بمشيئة غربية استعمارية ولا تزال تتمتع بأفضل رعاية من دول الغرب عموماً، مع العلم أن إسرائيل قامت معتمدة على عصابات من شذاذ الآفاق الإرهابيين، الذين تدفقوا إلى فلسطين وارتكبوا أبشع المجازر، بحيث صنفت عام 1975 كشكل من أشكال العنصرية، وبالطبع، لا تزال ترتكب إبادة بحق الفلسطينيين، بفعل متعمد من دون أن تلقى أي إدانة وضغط، وإنما الدعم بحجة “الدفاع” عن النفس!
في الحدث الأخير، عملية طوفان الأقصى، الذي يسجل سابقة مهمة من حركة مقاومة تجاه بلد محتل، كان خطاب المحتلين شديد الغطرسة والعدائية، ممهداً الأرض أمام العدوان البشع، وكاسياً إياه بلغة بشعة وصلت إلى حد تجريد الفلسطينيين من آدميتهم، من إنسانيتهم، من كونهم بشراً، عدا أنهم يعانون أبشع أنواع التمييز العنصري (الأبارتهيد)، حيث يصفوهم بأنهم “حيواناتٍ بشرية” في تبرير لقتلهم العاري، إضافة لممارسة أشكال أخرى من القتل مثل الحصار والتجويع، كل ذلك مترافقاً مع إبادة للمكان بعد البشر، وهي فعلة تشترك كثير من أنظمة بلادنا، وخاصة الأسدية مع نظام الفصل العنصري فيها، ولا تلقى الردع أو الموقف الحاسم منها.
يعود موقف الدول الغربية على ضفتي الأطلسي، فضلاً عن المصالح وهي محدد قوي لسياستها، إلى أسس فكرية نظّر لها كل من برنارد لويس وصموئيل هنتنغتون تجاه شعوب المنطقة، تحت صيغ مختلفة، كشعوب ذات غالبية إسلامية، باعتبارها تهديداً محتملاً تجاه الغرب ومنبعاً للتخلف وبالتالي الإرهاب، وخاصة بعد فشل التجربة الروسية في الاشتراكية، وسيادة الولايات المتحدة كقطب واحد كانت أولى إنجازاته سحق العراق واحتلاله، وإلغاء القرار الذي يعد الصهيونية حركة عنصرية نهاية عام 1991 (كشرط لمشاركتها في مفاوضات مدريد)، كل ذلك من دون النظر أو حتى التفكر في دور الغرب في سحق ونهب تلك البلدان، وحتى رسم حدودها على أسس قابلة للانفجار في أي وقت، وتغذية الصدوع القائمة بالتشارك مع أنظمة ما بعد مرحلة الاستعمار المباشر، تلك الأنظمة التي بنت علاقتها مع الشعوب على أسس عدائية أيضاً، وهو ما يشكّل جذر المشكلات في منطقتنا.
أما عن دوافع عملية طوفان الأقصى وارتباطاتها وتشعباتها، فقبل كل شيء وبعيداً عن حسابات الربح والخسارة، فهي عمل نوعي، سواء خططت لها بمفردها أم شاركها آخرون، لم تواجه إسرائيل مثلها منذ تأسيسها، كما أنها رد فعل طبيعي جداً على حصار شعب وتجويعه لأكثر من (15) عاماً، بغض النظر عن الموقف من السلطة القائمة في غزة -حماس- التي تولت السلطة عبر الانتخابات، هذه السلطة ذات الخلفية الإسلامية، التي تندرج بشكل من الأشكال ضمن الأهداف التي تجب محاربتها من الغرب، ومن الأنظمة العربية. ضمن هذه التشابكات، ونتيجة لتخلي الأنظمة العربية تماماً عن الهم الفلسطيني وحصره بتقديم بعض المساعدات كما يجري مع السوريين، كانت الفرصة مواتية لإيران لتملأ هذا الفراغ، وتغلف أهدافها الإمبراطورية بالهيمنة على المنطقة العربية أو التشارك مع إسرائيل عليها، وهو ما يفسر جزئياً التصارع الإسرائيلي -الإيراني، من خلال “دعم” حركات المقاومة في فلسطين.
إن محاولة تفهم موقف حماس لا تعني أبداً تبريره، وبالتحديد مع إيران وهذا ينعكس اليوم في مواقف أكثرية الأنظمة العربية إضافة إلى إيران وميليشيا حزب الله في لبنان، حيث المواقف الخجولة أمام هذا العدوان والقتل، إضافة إلى أن إيران يمكن أن تضحي بكل أهل فلسطين، وليس بحماس فقط، من أجل مصلحتها وخاصة في مفاوضاتها حول البرنامج النووي، وهذا ليس سراً، لكن لا بد من أخذه بالحسبان في العلاقة مع هذه الكيانات.
يبقى السؤال هل يخدم هذا العمل الفلسطيني البطولي إيران، وهل ستسّخره إيران خدمة لمصالحها أو ورقة في مفاوضاتها مع الغرب حول برنامجها النووي وغيره من القضايا المتشابكة؟ سؤالاً مطروحاً في ظل حالة التصارع الدولي وخاصة في منطقتنا. والجواب البسيط والأساسي أن أول من يستفيد أو يخسر هم الفلسطينيون، وذلك تبعاً للنتائج التي ستلي هذه المعركة. أما الأطراف الأخرى، فلم يعد هناك ثمة استقلالية لحدث بعينه، وإنما تسعى الدول الكبرى إضافة للأطراف الإقليمية للاستفادة مما يحدث وتوظيفه لخدمة مصالحها أولاً، وهذا يقتضي منها دعم طرف من الأطراف، بغاية الحصول على مقعد على طاولة التفاوض على مصالحها وسط التصارع الجاري اليوم على إعادة رسم خريطة المنطقة.
في هذه المعركة التي يتعرض فيها الفلسطينيون لمذبحة حقيقية تصل حدّ الإبادة، لا شك أن حماس، مثلها مثل حركات المقاومة وقوى الثورة، تتعرض لأصعب امتحان سياسي وأخلاقي، ويتلخص بالتعاون والاستقلالية مع الأطراف الداعمة، وهذا ما يشغل ذهن الناس الداعمين لحق الفلسطينيين في مقاومتهم، ويتركهم في حالة من القلق، وخاصة أولئك الذين يعانون من مثل هذه العلاقات.
—————————
عن حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية/ عمر كوش
الحرب التي يشنها ساسة إسرائيل وجنرالاتها ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، ليست رداً على “طوفان حماس”، وليست فقط حرباً ضد حركة “حماس”، أو من أجل “اجتثاثها”، بل تنحدر بشكل رهيب، ومبيّت له، إلى نمط من القتل الجماعي والإبادة الجماعية للفلسطينيين في قطاع غزة. إنها حرب إبادة محكومة بعقلية فاشية بربرية، فَقَد من يشنها ضميره الإنساني. والمخزي هو أن ينحدر ساسة الولايات المتحدة، وعدد من ساسة دول أوروبا، إلى ذات المستوى اللا إنساني، عبر وقوفهم إلى جانب كل ما تفعله إسرائيل وجيشها، وتأييدهم حرب الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين، سواء من خلال المجازر، أو عدم فعلهم أي شيء حيال منع إسرائيل الماء والغذاء والدواء والوقود عن أكثر من مليونين ونصف إنسان في قطاع غزة، فضلاً عن سياسة التهجير القسري العلنية، وذلك على الرغم من أن أولئك الساسة يعون جيداً، أن كلاً من الإبادة الجماعية والتهجير القسري هي جرائم وفق القانون الدولي، وعار أخلاقي دائم في جسد الإنسانية، ولا يوجد على الإطلاق أي ما يبرر ارتكابها بحق الفلسطينيين.
إنها بربرية اليمين العنصري الحاكم في إسرائيل، التي لم يتوان أصحابها، في مارس/ آذار 2003، عن إعطاء الأوامر لجيش الاحتلال بدعس الناشطة المدنية الأميركية، راشيل كوري، التي وقفت مع حق الشعب الفلسطيني في الحياة، وضد سلب أراضيه المحتلة لإقامة المستوطنات. وتظهر اليوم بوصفها استمراراً للعقلية البربرية المتوحشة لساسة إسرائيل الذين لم يتوقفوا عن ارتكاب أبشع الجرائم بحق الفلسطينيين طوال عقود عديدة دون أن يسائلهم أحد. وتنهل هذه العقلية اللا إنسانية من وحل العقيدة الصهيوينة القائمة على اتباع نهج التطهير العرقي، وتشريد الفلسطينيين من بلادهم، واحتلال ما تبقى من وطنهم. وما الحرب التي تشنها إسرائيل في أيامنا هذه على قطاع غزة، تحت مسمى “السيوف الحديدية”، إلا استكمال لحروبها العدوانية التي لم تتوقف ضد قطاع غزة، منذ تنفيذ خطة فك الارتباط عام 2005، وتندرج تحت ذات العقيدة الأمنية لساسة إسرائيل وجنرالات حربها، التي تبيح لهم التصرف كما يحلو لهم، رافعين شعار “كل شيء في الحرب مباح”، الذي يبررون تحت يافطته استخدام جيشهم قنابل الفوسفور الأبيض في قصف المناطق السكنية في قطاع غزة، واستهداف الفلسطينيين بشكل عشوائي، وقطع الكهرباء والماء والوقود والطعام عنهم، ومنع وصول كافة السلع إليهم، وبالتالي، لن يكترثوا بمناشدات المؤسسات الأممية والحقوقية، الداعية إلى وقف سياسة العقاب الجماعي حيال سكان غزة.
تكشف مشاهد القتل والدمار اليومية في قطاع غزة، التي تعرض على شاشات التلفزة، الشيء الكثير عن الحرب القذرة التي تخوضها الآلة العسكرية الإسرائيلية، وتُذّكر السوريين بمشاهد القتل والدمار التي تعرّض لها الشعب السوري على يد نظام الأسد، لذلك ليس مصادفة أن يجري الحديث لدى بعض المتابعين عن أن إسرائيل تقوم بتنفيذ نموذج أو “قواعد حماة” على قطاع غزة.
غير أن ذلك كله، لا يعني عدم اتخاذ موقف من الحرب الإسرائيلية، أو بالأحرى إدانتها بوصفها عدواناً سافراً على الشعب الفلسطيني، أتى على أعمار آلاف الأطفال والنساء والرجال، وأصاب بشراً في أجساهم، وأدمى نفوسهم، بهدف إبادتهم، وتحويل غزة إلى ركام من الدمار بلا بشر. ولا يخفى أيضاً أن الشرارة الأولى كانت جراء عملية “طوفان حماس” التي قتلت وأسرت إسرائيليين، وأن الرد الإسرائيلي ليس موجهاً ضد الحركة، وداعميها في المحور الإيراني المسمى محور المقاومة، الساعي إلى خلط الأوراق وتوظيف القضية الفلسطينية في مشروع ملالي إيران الإقليمي، بل تعداه ليتحول إلى اعتماد إسرائيل جريمة الحرب المعممة على نطاق قطاع غزة من أقصاه إلى أقصاه، وإحالة الشعب الفلسطيني إلى كتل بشرية لاجئة في بلادها وخارجها، فيما تمادت الإدارة الأميركية في تزكية العدوان ودعمه، عبر دعم إسرائيل بالسلاح والمال، والسعي إلى تنفيذ خطتها الرامية إلى تفريغ قطاع غزة، تمهيداً لرمي الفلسطينيين إلى صحراء سيناء، فجاء وزير خارجية الولايات المتحدة، أنتوني بلينكن، لتسويق فكرة تدشين “ممر آمن” بين قطاع غزة ومصر، وباتجاه وحيد نحو مصر، بحيث يفضي إلى تهجير المدنيين الفلسطينيين من القطاع إلى شمال سيناء، تمهيداً لإفراغه من أهله، وتحويلهم إلى لاجئين في مصر. وقد بدأت إسرائيل، بالفعل، بإجبار سكان شمالي غزة بالنزوح إلى جنوبه، حيث لا مأوى فيه ولا ماء ولا غذاء، وبما يشكل خطوة في اتجاه التهجير نحو مصر، وبالتالي، فإن كل ذلك يكشف أن ساسة إسرائيل بمختلف انتماءاتهم اليمينية العنصرية والدينية، لا يفترقون في التطرف عن عناصر تنظيم “داعش”، فضلاً عن أنهم حوّلوا إسرائيل إلى دولة يهودية، تقوم على نهج الفصل العنصري.
لا علاقة لحرب الإبادة التي تنفذها إسرائيل في غزة بما يشاع عن الثأر مما فعلته حماس، رغم أنها استخدمته ذريعة، كونها تتم بناء على نهج سابق، يجري استكماله. كما أن شحن الولايات المتحدة حاملات طائرتها إلى البحر المتوسط، ترافق مع نفي إيران التورط في الحرب، وذلك على لسان مرشدها علي خامنئي شخصياً، ومع نفي أميركي وإسرائيلي، بحجة غياب الدليل على هذا التورط، وبالتالي فإن الحشود الأميركية غير متصلة بالتصميم على منع أو ردع إيران أو ذراعها اللبناني ممثلاً بحزب الله، لأنهما ليسا في وارد الانخراط في الحرب، على الرغم من رفعهما يافطة وحدة ساحات المقاومة الزائفة، إلى جانب أن ساسة إيران يعرفون تماماً ما هي الخطوط الحمراء، التي لا يُسمح لهم بتخطيها، لذلك لن يجهزوا صواريخهم لاستخدامها مباشرة في نصرة غزة والدفاع عن أهلها الذين يتعرضون لإبادة جماعية، الأمر الذي يشي بأن ساسة طهران أرادوا توظيف ما قامت به حماس لتوجيه رسائل للولايات المتحدة وللدول العربية والأقليم، وذلك على حساب دماء المدنيين الفلسطينيين. أما ساسة الغرب، فهم اعتادوا على مساندة نظرائهم الإسرائيليين في جميع حروبهم، لذلك لن يكترثوا بما تخلفه حرب الإبادة، فمن خذل السوريين وتغاضى عن الجرائم التي ارتكبها نظام الأسد لن يتحرك ضميره ضد جرائم إسرائيل.
————————
الإعلام في خدمة إباحة الدم/ مالك داغستاني
تصف صحيفة الغارديان عملية طوفان الأقصى بأنها “أحداث 11 سبتمبر الإسرائيلية”. بينما تتسابق وسائل الإعلام الدولية، بما فيها المرموقة منها، على تشبيه مقاتلي حماس بالدواعش الذين يحتجزون “السبايا”، ويقتلون المدنيين والأسرى. قرأنا جميعاً بل وسمعنا الرئيس الأميركي بايدن وهو يتحدث عن قطع مقاتلي حماس لرؤوس الأطفال، قبل أن يعتذر البيت الأبيض عن ذاك التصريح الذي لم تثبت صحة العلومات الواردة فيه.
يبقى السعار الحقيقي (الذي يستحق الدراسة كحالة نموذجية) هو ما يحدث في الإعلام الألماني. ما أدى لتجييش هائل في الشارع ضد الفلسطينيين والقضية الفلسطينية، وليس ضد حماس فقط. فأن تصدر التعليمات بفصل أي طالب يرتدي الكوفية، أو يحمل العلم الفلسطيني من المدرسة، فهذا يفوق الموقف الإسرائيلي نفسه. وأن يمنع ويجرم أي تأييد أو دعم للضحايا الفلسطينيين في غزة، فهذا ما لا يحدث في إسرائيل، على شدَّة ما يحدث هناك. ربما يغدو الأمر مفهوماً قليلاً، مع مراجعة التاريخ الألماني اتجاه اليهود، وقراءة فظائع الهولوكوست.
بداية يجب أن أوضح شخصياً، أنني بطبيعتي لا أنحاز لأية حركة أو تيار سياسي يستخدم ويوظف الدين (أي دين) في السياسة. وإذا أضفنا للأمر أن يكون مدعوماً من إيران، كحالة حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي، ويتحرك ضمن المشروع الإيراني للمنطقة، فسيزداد موقفي شدّة من مثل تلك التيارات. أعلم أن كلامي هذا لن يعجب البعض، ولكن هذا أنا، وهذا رأيي بدون أية توريةٍ تراعي المختلفين. ولكن هل يمكن أن ننظر للأمر اليوم فقط من هذا المنظار؟ ولأشرح فكرتي أكثر سأسأل، هل كانت حركة كحماس لتجمع كل أولئك المقاتلين والمناصرين، لولا بيئة الظلم والقهر وسلب الحرية التي تعيشها تلك البيئة، بسبب الاحتلال؟
وأكثر من ذلك، لطالما اعتقدتُ، أن حماس ليست جزءاً أصيلاً من مشروع الهيمنة الإيرانية على المنطقة. المشروع الذي يعتمد على حوامل طائفية في العراق وسوريا ولبنان واليمن. حماس (وهي عقدياً خارج الطائفة) بالنسبة لإيران لها دور وظيفي مرحلي فقط. طبعاً هذا لا يعني أن مقاتلي حماس وكثير من كوادرها، يؤدون فقط هذا الدور الوظيفي. هم بالتأكيد أصحاب قضية، وقضية عادلة، لكنهم للأسف يعالجونها بالأسلوب الإيراني. وإن كان هذا غير مبرر، إلا أنه يبدو مفهوماً، بسبب أن كل أفق آخر لمقاومة الاحتلال قد سُدَّ في وجه عدالة القضية الفلسطينية، وليس هنا مجال الحديث عن تراجع قضية فلسطين في أجندات الدول العربية التي تبنتها وحملتها لعقود، ولا عن تآكلها حتى في الوجدان العربي الشعبي.
بالعودة للإعلام الغربي، فهو يناقش ما حدث يوم 7 تشرين أول/ أكتوبر، وكأنه معركة تجري بين طرفين في حالة صراع طبيعية، بمعزل عن جريمة الاحتلال المستمرة منذ عقود. متبنياً مقولة أن دولة آمنة تعرضت لهجوم همجي من قبل الإرهابيين، قبل أن يتابع هذا الإعلام القصص الشخصية للقتلى أو الرهائن من الجانب الإسرائيلي، ويعرض مآسيهم. بالتأكيد أنا أعتبر الكثير منها مآسي إنسانية حقيقية بالنسبة لعائلات هؤلاء، لكن الكارثة في الأمر أن هذا الإعلام لم يلتفت للضحايا الفلسطينيين لا قبل العملية ولا بعدها.
في كل المواد الصحفية التي راجعتُها، لم يعالج أحد من كتابها، مسألة 800 طفل فلسطيني فقدوا حياتهم خلال أسبوع، ولا مسألة 500 من النساء سقطن تحت القصف الهمجي الإسرائيلي على قطاع غزة. وكأن كتّابها يتبنون نوعا من المطابقة بين حماس وكامل سكان قطاع غزّة الذين يستحقون العقاب. أي إنهم يغفلون الفارق بين أكثر من مليوني مدني، رجال ونساء وأطفال، وبين المقاتلين. ليبدو الأمر وكأنه تمهيد إعلامي لتبرير تدمير القطاع، بغض النظر عما سيخلف ذلك من الضحايا المدنيين.
تسأل صحيفة ديرشبيجل سيدة ألمانية مسؤولة عن الاندماج، عن مقطع فيديو يتم تداوله. يبدو في الصورة مُدرساً في منطقة نيوكولن وهو يصفع طفلاً على وجهه بسبب أنه كان يلوح بالعلم الفلسطيني في باحة المدرسة. تجيب السيدة بأنها شاهدت المقطع لكنها لا تستطيع قول أي شيء، وترى أن وضع المدارس يزداد توتراً، لذا تم التخطيط لعقد اجتماع أزمة مع مديري المدارس. “يجب أن يكونوا قادرين على السيطرة على الوضع، فيما لو اندلعت الكراهية لإسرائيل في باحات المدارس”.
إذاً مجرد حمل العلم الفلسطيني بالنسبة لتلك السيدة هو حالة تعبر عن كراهية إسرائيل! وكأن لا احتلال ولا تشريد للفلسطينيين، ولا أياً من الجرائم التي قامت بها حكومات إسرائيل المتعاقبة ضد الفلسطينيين. وأكثر من ذلك، كأن لا سياق تاريخي لهذا الصراع بدءاً من إقامة دولة من المهاجرين اليهود على أرض تم طرد سكانها، وصولاً إلى تجريم من يعارض جريمة الاحتلال تلك. رغم أن انفجار من أجبروا على ترك أراضيهم وعاشوا محاصرين في سجن الاحتلال، هو أمر طبيعي، وكان يتكرر على هذا النحو عبر التاريخ، ومن كل الشعوب التي عانت من الاحتلال.
هل يبدو لكم أنني أكتب هذه المرَّة محكوماً بالعاطفة؟ لن أنكر ذلك، فالصور التي تأتي عن الضحايا وعن التدمير في غزّة تحرك الوجدان والعواطف آنيَّاً أكثر من القدرة على التفكير بعقل منطقي بارد. ولكن هذا لن يمنعني من رؤية الأمر من وجوه أخرى. فحماس قدمت للإعلام مادة جاهزة لتسويقها أمام الرأي العام الغربي، ذاك الإعلام الذي لم يكتفِ بإدانة حماس وحسب، بل يبدو وكأنه ذهب نحو إدانة الشعب الفلسطيني وقضيته.
“نحن لا نحتفل بوفاة خصومنا” قولٌ ينسب لإسحاق رابين. سيستشهد به الكاتب فريدريك ميرز ليضيف بأنه “لو قام أحد مقاتلي حماس بجر جثة مدني في الشوارع، فسوف يُهتَف له، وإذا قام جندي إسرائيلي بذلك فسوف يعاقب” ليصل إلى الاستنتاج بأن إسرائيل مختلفة، وأن خصومها، حماس ومؤيدوها، يمكن أن يسكرهم موت خصومهم الإسرائيليين حتى لو كانوا نساء أو أطفال.
يستشهد الرجل بمقطع مصور ظهر فيه مقاتلون من حماس يضعون جثّة فتاة بثيابها الداخلية في خلفية شاحنة صغيرة، ويسيرون بها في شوارع غزة، مهللين ومرددين العبارة الأشهر غربياً “الله أكبر”، العبارة التي تسِمُ، كعلامة تجارية مسجلة، الإرهابيين في الذهن الغربي. تعلق إحدى الناشطات النسويات الألمان على ذات الصورة بالقول “يعتبر جسد الأنثى بالنسبة للإرهابيين التابعين لحماس وإرهابيي تنظيم “الدولة الإسلامية” رمزا للقوة التي يجب كسرها بأي ثمن”.
سرعان ما أصبحت الشابة العشرينية “شاني لوك”، وهي تحمل الجنسيتين الألمانية والإسرائيلية، أحد أهم وجوه الحرب ضد حماس في الإعلام العالمي والألماني على وجه الخصوص، بعد انتشار المقطع المصور. لوك رهينة احتجزت من مهرجان موسيقا كان يقام قريباً من غزّة. وهي الصورة الأبرز اليوم في الإعلام الألماني المطالب بضرورة تحريرها بعد أن بثت والدتها تسجيلا مصورا تقول فيه أن ابنتها ما زالت حيّة وتعالج من إصابة بالغة في الرأس في أحد مشافي غزّة.
يشاهد الغربيون جسد شاني لوك بحسرة وحزن، وهذا محق، لكن الكارثة أنهم لا يشاهدون على وسائل إعلامهم إلا نادراً صور مئات الأطفال الغزّيين الضحايا وهم يدفعون ثمن ما لم يفعلوه. وكأن هناك موافقة، أو على الأقل غض نظر، عن إبادة الفلسطينيين باعتبار أن من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها بمواجهة الإرهاب بهذه الطريقة الإجرامية. هل كل الإعلام الغربي يعمل على هذا النحو، وعلى نفس الموجة؟ بالتأكيد لا، ولكنه الصوت الأعم والأقوى، حتى ليكاد يغيب أي صوت آخر.
————————
كيف يمكن أن تعيد حرب أكتوبر الجديدة تشكيل الصراع السوري؟/ محمود علوش
قبل خمسين عاماً، شنت سوريا إلى جانب مصر هجوماً مزدوجاً على إسرائيل بهدف تحرير كل من شبه جزيرة سيناء وهضبة الجولان. وقد تمكّنت سوريا وقتها من استعادة السيطرة على أجزاء من الهضبة بما في ذلك مدينة القنيطرة. مع مرور خمسة عقود بالضبط على تلك الحرب، قد يُعيد التاريخ نفسه من جديد وإن بشكل مختلف. لقد اختارت حركة حماس ذكرى حرب أكتوبر لشن هجوم كاسح على إسرائيل، والذي أدى فيما بعد إلى إعلان إسرائيل حالة الحرب وشن هجمات مدمرة على غزة وهي تُخطط بالفعل لشن هجوم بري على القطاع. يُمكن لاجتياح بري إسرائيلي أن يوسع رقعة الحرب إلى مستوى إقليمي لأن إيران تواصل عبر وكلائها في المنطقة إرسال رسائل بهذا الاتجاه. وفي حال انفجر صراع إقليمي، فإن سوريا لن تكون بمعزل عنه. وقد يؤدي ذلك في نهاية المطاف إلى إعادة تشكيل الصراع السوري.
على عكس حرب أكتوبر الأولى، التي حرّكتها ديناميكيات إقليمية، فإن الحرب الحالية تُحركها بصورة أساسية ديناميكيات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. لا يُمكن بالطبع تجاهل الديناميكيات الإقليمية التي أسهمت في توفير الظروف الكاملة للوضع الحالي مع اختلاف أن دور مصر وسوريا يختلف بشكل جذري الآن. فمن جانب، فقدت القاهرة الكثير من تأثيرها التاريخي في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي كنتيجة لدخولها في معاهدة سلام مع إسرائيل وكنتيجة لتراجع دورها الإقليمي مقارنة بما كان عليه خلال حقبة السبعينيات. ومن جانب آخر، لم يعد لسوريا منذ حرب أكتوبر الأولى دور جوهري يُذكر في الصراع، مع استثناء أنها أصبحت بعد اثني عشر عاماً من الحرب تؤدي دوراً وظيفياً لصالح إيران في صراع الظل مع إسرائيل. كما أنها تحولت إلى دولة فاشلة تتقاسم القوى الإقليمية والدولية النفوذ على جغرافيتها. بهذا المعنى، فإن سوريا ستكون في سيناريو مواجهة إقليمية بالوكالة بين إسرائيل وإيران مفعولاً به وليس فاعلاً على غرار حرب أكتوبر الأولى.
حتى لحظة كتابة هذه السطور، لم تظهر مؤشرات قوية على احتمال تطور الحرب بين إسرائيل وحماس إلى حرب إقليمية. لكن المخاطر تتزايد. في الخامس عشر من الشهر الجاري، حذر وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان من أن حلفاء إيران في المنطقة جاهزون للانخراط في الحرب في حال لم توقف إسرائيل عدوانها على غزة. من المفارقات أن طهران تُفضل استخدام وكلائها في المنطقة للانخراط في هذه الحرب، بدل الانخراط المباشر فيها. علاوة على أن هذه الاستراتيجية تنسجم مع العقيدة الإيرانية التي ترتكز على خوض الحروب بالوكالة للحد من تكاليفها على إيران نفسها، فإن لدى طهران القدرة بالفعل في التأثير القوي على ديناميكية الحرب دون الانخراط المباشر فيها. إلى جانب الوجود العسكري الإيراني القوي في الجبهة الجنوبية السورية المتاخمة لإسرائيل، فإن طهران قادرة على استخدام قواتها والجماعات التي تُديرها في سوريا والعراق لاستهداف القوات الأميركية. كما أن حزب الله، الذي يُمثل القوة الضاربة لإيران في المنطقة، ولديه حضور عسكري قوي في سوريا، سيكون سلاحاً إيرانياً فعالاً على الجبهة الجنوبية اللبنانية في مثل هذا السيناريو.
مع أن التحالف الاستراتيجي الذي يجمع النظام السوري مع إيران وثيق جداً، إلا أن النظام سيسعى لعزل نفسه عن الانخراط في الحرب لصالح إيران، إما لأن قدراته العسكرية منهكة أو لأن أولويته ستكون البقاء أو كليهما معاً. رغم ذلك، فإن قدرته على منع إيران من استخدام وجودها العسكري في سوريا في إطار حرب بالوكالة مع إسرائيل محدودة جداً. تمتلك طهران اليد العليا في جنوب سوريا بفعل حضورها العسكري القوي وقد عملت بالفعل على تعزيز هذا الوجود في الأيام الأخيرة وفق ما ذكره تقرير لمعهد دراسات الحرب في واشنطن. لكنّ النظام سيتعين عليه دفع أثمان في حرب الوكالة. في الأيام القليلة الماضية، استهدفت ضربات جوية إسرائيلية مطاري دمشق وحلب في حين بدا أنها رسائل تحذيرية إسرائيلية من العواقب. ومن المرجح أن تكون البنية التحتية السورية هدفاً واسعاً لإسرائيل في حال تحولت الجبهة الجنوبية السورية إلى ساحة قتال ضد إسرائيل. في حين أن الضربات الجوية التي تشنها إسرائيل باستمرار على أهداف إيرانية في سوريا منذ سنوات لم تُشكل تهديداً وجودياً لنظام الأسد، إلا أن إسرائيل قد تعمد هذه المرة إلى تدمير القدرات العسكرية للنظام على نحو يُشكل تهديداً وجودياً له. لقد وعد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في تغيير الشرق الأوسط بعد هجوم حماس، وبالتأكيد فإن سوريا لن تكون بمعزل عن الهدف الإسرائيلي كما لبنان.
رغم أن إيران ما تزال حذرة حتى اليوم في دفع وكلائها في المنطقة إلى الانخراط في الحرب، إلا أنها تُدرك العواقب التي ستجلبها فيما بعد على دورها في المنطقة وحضورها في سوريا في حال نجحت إسرائيل في تدمير حركتي حماس والجهاد الإسلامي في قطاع غزة. ستُصبح إسرائيل أكثر جرأة في ضرب الوجود الإيراني في سوريا، كما ستُكثّف مساعيها لقطع إمدادات الأسلحة التي تصل إلى حزب الله عبر سوريا. ومن غير المستبعد أن يكون حزب الله الهدف التالي لحرب إسرائيلية في المستقبل. تعمل هذه الهواجس كمحفز قوي لطهران للانخراط بالوكالة في الحرب الراهنة بقدر أكبر من الحذر من العواقب. من بين أكثر التساؤلات أهمية في سيناريو مواجهة إقليمية تتعلق بالتداعيات المحتملة على ديناميكية الصراع في سوريا. بالنظر إلى أن جانباً مهماً من قدرة النظام السوري على تغيير موازين الحرب الداخلية لصالحه يتمثل في الدعم العسكري الإيراني له، فإن تراجع هذا الدعم لصالح التركيز على جبهات الوكالة مع إسرائيل سيؤدي إلى إضعاف تأثير إيران في المعادلة السورية في المستقبل المنظور وربما البعيد أيضاً.
تبدو قدرة الحالة السورية المسلحة المعارضة على توظيف سيناريو المواجهة الإقليمية لعكس مسار الصراع في سوريا محل شك بالنظر إلى دور روسيا في الصراع وتخلي تركيا، الداعم الأساسي المتبقي للمعارضة عن هدف الإطاحة بنظام الأسد. كما أن الولايات المتحدة، التي يُمكن أن تدفعها حرب إقليمية إلى تغيير مقاربتها للصراع السوري، لا تمتلك وسائل التأثير الكافية لتغيير مساره. مع ذلك، فإنه في سيناريو مواجهة إقليمية، قد يتغير جانب كبير من الحسابات الإقليمية والدولية في الصراع السوري لأنها ستتعامل مع شرق أوسط جديد أكثر اضطراباً وأكثر تأثيراً على مصالح القوى الإقليمية والدولية. حقيقة أن تركيز روسيا للكثير من مواردها القتالية على الحرب في أوكرانيا يجعل من الصعب عليها مواجهة أي محاولات لإعادة تشكيل الصراع في سوريا. كما أن انخراطاً عسكرياً أميركياً في سيناريو مواجهة إقليمية، يقوض قدرة واشنطن على ردع طموحات تركيا للقضاء على الإدارة الذاتية لوحدات حماية الشعب الكردية. وقد يعمل هذان الأمران كمحفز قوي لتركيا لتوسيع مناطق نفوذها في الشمال السوري بما يُساعدها في تحقيق مشروع المنطقة العازلة التي تطمح إليها وفرضها أمراً واقعاً.
—————————
أسباب انحياز بايدن الفجّ لصالح إسرائيل/ فراس فحام
حرص الرئيس الأميركي جو بايدن منذ اليوم الأول لعملية طوفان الأقصى التي شنتها الفصائل الفلسطينية، على تأكيد دعمه لإسرائيل، وتأييد إضعاف حركة حماس في قطاع غزة، ووصل به الأمر لتولي مهمة الدفاع عن جريمة قصف مستشفى المعمداني في غزة، والتي راح ضحيتها المئات من الأبرياء، إذ نفى بايدن في أثناء زيارته إلى تل أبيب في أعقاب الحادثة مسؤوليةَ إسرائيل عن استهداف المستشفى.
لم يقتصر دعم إدارة بايدن لإسرائيل على الشق السياسي، بل أرسل الجيش الأميركي حاملتي طائرات وسفناً حربية إلى حوض البحر المتوسط، مع إعطاء أوامر لـ 2000 جندي أميركي بالاستعداد للانتشار في إسرائيل، ووُضعت أسراب من الطائرات الحربية على أهبة الاستعداد.
هذا الانحياز الكبير، بدا معاكساً للأجواء السلبية التي هيمنت على علاقة إدارة بايدن الديمقراطية مع حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة، لتقفز إلى الأذهان أسئلة منطقية عن سبب تغير مزاج الإدارة الأميركية الحالية، والظهور وكأنها تريد انتشال حكومة نتنياهو من أزمتها.
لا شك أن موقف بايدن مفيد له على الصعيد الداخلي، لجهة استقطاب أصوات اليهود والحصول على دعم اللوبي اليهودي النشط في الولايات المتحدة، ومنافسة مرشح الجمهوريين على كسب هذا الدعم، خاصة أن الانتخابات الرئاسية الأميركية تقترب شيئاً فشيئاً، لكن السعي وراء المكاسب الانتخابية ليس الدافع الوحيد المفسّر لسلوك الإدارة الأميركية الحالية، ويوجد حسابات سياسية معقدة وراءه.
لا تقرأ الإدارة الأميركية الحالية هجوم الفصائل الفلسطينية على أنه تحرك فلسطيني بحت بمعزل عن تأثير أطراف دولية أخرى، ويتم تداول معطيات في الأوساط الأمنية الأميركية تفيد بمشاركة روسية في هجمات سيبرانية أسهمت بالتشويش على الجيش الإسرائيلي في أثناء وبعد عملية طوفان الأقصى، ويعتبرها الجانب الأميركي قرائن على دور روسي هدفُه مزيدٌ من زعزعة النفوذ الأميركي في العالم، ولذا تتغاضى واشنطن بشكل فجّ عن الاستهداف الإسرائيلي المباشر لأهداف مدنية في غزة، لأنها فيما يبدو ترغب في معاقبة حماس وحاضنتها على تنسيقها الأمني مع روسيا، وسط ارتفاع التوتر بين الجانبين إلى مستويات كبيرة في أعقاب المواجهة غير المباشرة بينهما في أوكرانيا.
من جهة أخرى، لا يرغب بايدن في ارتكاب إسرائيل أي خطأ عسكري يسهم في توسيع رقعة المعارك إقليمياً، لأن خيار واشنطن هو التركيز على هزيمة روسيا في أوكرانيا، وبالتالي فإن التأكيد على الالتزام بالدفاع عن إسرائيل وتأييدها بشكل واضح، يظهر بايدن بمظهر الصديق الحريص على المصالح الإسرائيلية، ويتيح له المجال للتحكم أكثر في رد فعل تل أبيب بما يضمن ضبطه، وبالتوازي مع ذلك أرسلت واشنطن رسائل مباشرة وغير مباشرة لإيران تحذرها من الدخول على خط التصعيد، وكل ما سبق يخدم الهدف الأميركي المتمثل بعدم تمدد الحرب.
منذ قمة بايدن مع ولي العهد السعودي في أواخر عام 2022، وفشل الرئيس الأميركي في إقناع السعودية بتجاوز تفاهماتها مع روسيا وبالتالي زيادة إنتاج النفط، ثم التطبيع السعودي – الإيراني بوساطة صينية، شعرت واشنطن بحجم فقدانها للتأثير في منطقة الشرق الأوسط لصالح تنامي الدورين الروسي والصيني، ولذلك انتهج بايدن صاحب مشروع “إعادة روسيا إلى حجمها الإقليمي” نهجاً خاصاً هدفه استعادة زخم العلاقات مع الحلفاء التقليديين مثل السعودية وإسرائيل وبدرجة أقل تركيا.
تجسدت المساعي الأميركية باستعادة الزخم في منطقة الشرق الأوسط بفتح باب التفاوض مع الرياض وأنقرة بهدف تقديم ضمانات أمنية لهما حيال التهديدات المحيطة، ووافقت واشنطن على وساطة تركية – أردنية لفتح قنوات اتصال مع حماس قبل التصعيد الأخير في غزة، بهدف إبعاد حماس عن المحور الإيراني – الروسي، بالإضافة إلى نشاط مكثف من قبل القيادة المركزية الأميركية نتج عنه عقد جملة من الشراكات الأمنية والعسكرية مع دول خليجية مثل البحرين واليمن لزيادة الفاعلية الأميركية في بحري الأحمر والعرب، كما تقود واشنطن حالياً جهوداً دبلوماسية مع الأطراف الليبية هدفها إنهاء الانقسام في البلاد، مما يعني انتفاء الحاجة للاستعانة بروسيا، والعمل بشكل تدريجي على إنهاء نفوذ الأخيرة في ليبيا لضمان سلاسة تدفق الطاقة منها إلى الدول الأوروبية لتحقيق مزيدٍ من أمن الطاقة الأوروبي عبر إيجاد بدائل عن الغاز والنفط الروسي.
وأخيراً، يبدو أن الإدارة الأميركية وجدت في التهديدات التي تتعرض لها إسرائيل فرصة للتأكيد على نفوذها في الشرق الأوسط، وعلى عدم تخليها عن حلفائها التقليديين.
——————–
مواقف الأطراف الإقليمية من طوفان الأقصى/ محمود سمير الرنتيسي
بالرغم من تصدر الإدارة الأميركية كلاعب خارجي رئيسي فيما يتعلق بمعركة طوفان الأقصى التي بدأتها كتائب القسام والتي قامت دولة الاحتلال الإسرائيلي بالرد عليها بشكل إجرامي من خلال قتل أكثر من 3000 فلسطيني، بينهم مئات الأطفال، فإن مواقف الأطراف الإقليمية مهمة جداً خاصة في ظل المصالحات الإقليمية التي حدثت في الفترة الأخيرة بين هذه الأطراف. وتأتي أدوار مصر والأردن ولبنان كدول طوق وإيران وتركيا والسعودية وقطر في طليعة الأدوار الإقليمية.
إن موقف مصر مهم جدا بحكم موقعها ودورها التقليدي في القضية الفلسطينية ولعبها دور الوسيط خلال الحروب السابقة بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، من زاوية أخرى يبدو أن مصر هذه المرة ليست طرفا خارجيا بل يراد لها أن تكون جزءا أساسيا من المؤامرة على غزة وتم الضغط عليها من الأميركان لفتح المجال لتهجير سكان غزة إلى سيناء، وحتى الآن ما تزال مصر تقاوم الضغوط الأميركية عليها بخصوص استقبال الفلسطينيين من غزة، وبالتأكيد لابد أن تستمر مصر على هذا الموقف لأن تهجير السكان من غزة جريمة، وثانيا لأن هذا يعني نقل المسألة الفلسطينية واللجوء الفلسطيني من مسؤولية الاحتلال إلى مسؤولية مصر وهذا سيكون مشكلة مزمنة لمصر.
من جهة أخرى فإن الأردن هو الآخر الذي يعد موطنا لعدد كبير من اللاجئين الفلسطينيين الذين هاجروا في 1948 ويتوقون للعودة إلى بلادهم منذ ذلك الحين، يقف في قلب هذه القضية حيث إن توجه الفلسطينيين بمئات الآلاف للحدود الأردنية الفلسطينية التي تصل إلى 350 كيلومترا أصبح أجندة البلد، والآن هناك العديد من الدعوات والمبادرات للتوجه للحدود يوم الجمعة وقد أعلنت العديد من العشائر عن موقف داعم للمقاومة في غزة بالرغم من تحذيرات وزارة الداخلية من الذهاب إلى الحدود. ويعد موقف البلد الذي يمتلك علاقات جيدة مع إسرائيل والولايات المتحدة، وحاليا هناك ازدياد في حرارة التصعيد في الأردن قد ينفجر مع تزايد الهجمة الصهيونية على غزة. وسيعمل الأردن على تنفيس الاحتقان ومنع تأثر وضعه الداخلي بما يجري في غزة لكن ليس معروفا إلى أي درجة سيكون هذا ممكنا.
بخصوص الموقف الإيراني فإن إيران أكدت عدم معرفتها بالعملية وتوقيتها وهي في قلب المعادلة بالنظر إلى اتهام الاحتلال لها بدعم حماس عسكريا كما أن قدوم حاملات الطائرات الأميركية كان رسالة واضحة لإيران لمنعها من أي تدخل محتمل، وعلى كل حال لا يعد التدخل الإيراني المباشر متوقعا حاليا وتمارس إيران الآن عبر وزير خارجيتها دبلوماسية مكوكية مع تركيا وقطر ومصر وروسيا وفرنسا من أجل منع الحرب على غزة عبر الرسائل التي أوصلتها بأن ازدياد التصعيد عن هذا الحد سيوسع الصراع.
وهنا يمكن أن نتحدث عن حزب الله الذي يعد الطرف الأقوى في لبنان والذي انتقل من مرحلة المراقبة إلى مرحلة المناوشة المحدودة والسماح للفلسطينيين بلبنان للقيام بعمليات عبر الحدود وإطلاق للصواريخ، ويعتقد أن الحزب في حالة تأهب لكن دخوله في مواجهة شاملة ليس مرجحا حتى اللحظة.
أما بخصوص الموقف التركي فإن تركيا كانت دائما تعلي صوتها في انتقاد وإدانة الإرهاب الإسرائيلي إلا أن هناك تراجعا هذه المرة عن المرات السابقة، ويعتقد أن لذلك سببين الأول هو دخول تركيا في مقاربة دولية وإقليمية تخشى أن تنقلب ضدها إذا اتخذت موقفا واضحا، والثاني أنها تقدم نفسها كوسيط كما هو الحال بين روسيا وأوكرانيا. وعلى كل الأحوال فإن حالة الغضب في أوساط تركيا تتزايد وهذا قد يرفع من سقف الخطاب التركي لكن ما يزال من غير المتوقع أن ترفع تركيا نبرتها كما في 2018 نظرا لتموضعها الإقليمي الحالي إلا إذا حدثت أحداث كبيرة مغيرة للواقع سواء في ميدان المعركة أو في علاقاتها مع الغرب.
على مستوى السعودية فإن الملف الأبرز الذي سيكون له انعكاس مباشر هو ملف التطبيع الذي يتوقع أنه لن يعاد فتحه على المدى القريب على الأقل إذا استمرت الواقع الحالي للمعركة، وستكون نتيجة المعركة مهمة جدا على مسار التطبيع بين السعودية ودولة الاحتلال.
وبالنسبة للموقف القطري فإنه يقوم بالوساطة بالتنسيق مع الأميركان ومن خلال علاقة جيدة مع حركة حماس ولديه خبرة قوية من خلال العمل مع طالبان ومع إيران وحماس في قضايا وساطة سابقة.
بشكل عام مع الأيام الأولى للحرب بدت القوى الإقليمية أكثر تحفظا عن الإعلان عن موقف ضد إسرائيل مع الوقوف الأميركي الحاسم مع الاحتلال، ولكن تدريجياً هناك تحسن نسبي في مواقف هذه الأطراف، ومع دخول الموقف الروسي والصيني فإن الاستفراد الأميركي بهم سيكون أصعب خاصة في ظل قراءتهم للواقع الدولي عموما.
على كل الأحوال القضية الفلسطينية دخلت مرحلة من أهم مراحلها ومن المهم الانتباه ألا تمر هذه المرحلة إلا لصالح القضية الفلسطينية، وبالرغم من أن المشهد الإقليمي ما زال ضعيفاً إلا أنه مع ذلك قد لا يسمح للاحتلال بالاستفراد بغزة بالرغم من اختلافه مع حماس. كما أن حالة التعاون في المنطقة قد تضفي لإمكانية اجتراح مشاريع وحلول سياسية جديدة وهذه أيضا لابد أن يتم الانتباه لكل تفاصيلها وعدم السماح بأي خطوة من شأنها أن تقضم المزيد من حقوق الشعب الفلسطيني.
——————————
إسرائيل صورة الغرب وسوطه/ غسان ياسين
لو لم تكن إسرائيل موجودة لاخترعناها -أوجدناها- بهذه الجملة بدأ الرئيس الأميركي جو بايدن زيارته التضامنية لتل أبيب، الزيارة التي أراد من خلالها بايدن إعادة الثقة للكيان الذي هزت أركانه مجريات يوم 7/10/2023. وكان بايدن استبق زيارته بعدة تصريحات أعلن من خلالها دعمه اللامحدود لإسرائيل، رئيس الوزراء البريطاني بدوره جاء على متن طائرة عسكرية وأدى حركة استعراضية خلال نزوله من الطائرة المحملة بالأسلحة في رسالة أخرى واضحة على تقديم كل الدعم للاحتلال. منذ أول يوم للهجوم الإسرائيلي على الأراضي المحتلة انقلب حال الغرب وأظهر توحشاً غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية.
فجأة وبدون مقدمات تخلى الساسة الغربيون عن كل القيم والمبادئ والحقوق التي قاتلوا لتصديرها للعالم واستخدموا لغة في تصريحاتهم وعبر وسائل إعلامهم كالتي يستخدمها قادة التنظيمات المتطرفة عادة سواء كانت اليسارية أم الإسلامية أم حركات اليمين المتطرف، لغة فيها استحضار الديني والعرقي بشكل فج لأجل تهيئة الرأي العام لديهم لمعركة طويلة ولتبرير كل الجرائم التي ارتكبت وسترتكب لاحقا بحق الفلسطينيين. إنه سعار أصاب الغرب بكل مؤسساته وتحول إعلامه إلى شيء يذكرنا بوكالة أعماق التي أنشأها تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام.
مديرة معرض فرانكفورت الدولي للكتاب قالت في افتتاح المعرض قبل أيام نحن هنا لندعم إسرائيل بدون لكن، صحيفة دير شبيغل وهي أعرق صحيفة ألمانية عنونت صفحتها بخبر عن استهداف مستشفى المعمداني: صاروخ فلسطيني يصيب مستشفى في غزة. وزير الداخلية الفرنسي والذي سبق أن أعلن أنه سيعتقل كل من يكتب منشورا تضامنيا مع فلسطين صب جام حقده على لاعب نادي اتحاد جدة الفرنسي كريم بنزيمة فقط لأنه تعاطف مع أطفال غزة، ونائبة في البرلمان الفرنسي طالبت بسحب الجنسية منه، وأوساط إعلامية فرنسية طالبت بسحب كل الألقاب الرياضية بما فيها الكرة الذهبية والتي تمنحها فرانس فوتوبول سنويا لأفضل لاعب في العالم، يحدث هذا في فرنسا التي مارست التضييق في السنوات الأخيرة بشكل كبير على الجاليات المسلمة لدرجة تتدخل فيه الدولة حتى في ما يريد أن يلبسه المسلمون، وفي الوقت ذاته تعرض جماجم ضحاياها في المتاحف!
السعار وصل لدرجة تبني بايدن نفسه رواية إسرائيل عن استهداف المستشفى رغم أن الدلائل العسكرية والميدانية تؤكد أن الاستهداف إسرائيلي، جامعات عريقة ومؤسسات أكاديمية غربية تلقت تهديدات بوقف الدعم في حال أقامت أي نشاط داعم لوقف استهداف المدنيين في فلسطين.
لكن.. لماذا كل هذا السعار الغربي؟
الغرب وعلى رأسه أميركا وبريطانيا شعروا بالمهانة وأصابهم جرح عميق في كبريائهم وغرورهم بعد الهجوم الكبير الذي قامت به فصائل فلسطينية على الجيش الإسرائيلي الموجود بين المستوطنات في الأراضي المحتلة، هذا الهجوم هز صورة الكيان الذي أوجده الغرب كقاعدة عسكرية متقدمة له في الشرق الأوسط قرب منابع النفط وقرب الممرات الاستراتيجية والتي تصل شرق العالم بغربه وجنوبه بشماله. الغرب الذي طالما ردد أن إسرائيل هي واحة الديمقراطية في صحراء المنطقة -العربية- وأن جيشها لا يقهر، أوجدوه أيضا تحت ذريعة التخلص من عقدة ذنب لازمتهم لأنهم هم من ارتكب المجازر ونصب المحارق لليهود سابقا خلال حروبهم الطاحنة. الوزير الإسرائيلي الذي وصف الفلسطينيين بأنهم حيوانات بشرية كان ينطق بلسان حال الغرب برمته، فالغرب يرى بقية البشر بمرتبة أدنى منه حتى على مستوى القدرات العقلية، هناك منظرون غربيون كثر كتبوا في بداية صعود الليبرالية الغربية عن تفوق العرق الأبيض وأنه وحده من يجب أن يسود العالم وبقية البشر ليسوا أكثر من مجرد عبيد ومستهلكين للمنتجات والأفكار والقيم التي يريدها الرجل الأبيض، عنجهية وغرور وصلت لحد أنهم عاقبوا لاعبا ليس لأنه هاجم المثليين جنسيا بل لأنه رفض إبداء التعاطف معهم في وقت يعاقبون كل لاعب أو فنان أو أي شخصية عامة بالإقصاء لمجرد إبداء تعاطف بسيط مع أطفال غزة، الغرب يريد منا أن نقبل قشور حضارته وقيمه دون أي نقاش وأي حق في التساؤل وفي الوقت ذاته يدعم الديكتاتوريات في وجه أي حراك ديمقراطي في رسالة مختصرة وواضحة: الديمقراطية لنا لأننا أسياد الكوكب والعبيد ليس لهم سوى الفتات وإن اعترضوا فلهم الموت.
لا يمكن الفصل بين الغرب وإسرائيل لأن هذا الكيان هو انعكاس لصورة الغرب الحقيقية وكل ما يقوم به في المنطقة مجرد دور وظيفي، ولأن إسرائيل متغلغلة داخل البنية السياسية والثقافية للغرب بشكل يستحيل معه الفصل بينهما. كيف سنصدق الغرب عن ديمقراطية إسرائيل وهو يدعم يهوديتها أي أن تكون دولة اليهود وحدهم.. هل يمكن الجمع بين الديمقراطية وبين يهودية الدولة؟ بالطبع لا لكن الغرب الذي يريد منا أن نكرر خلفه أن الفلسطينيين هم من قصف المستشفى في غزة هو ذاته من يريد أن نقبل بوجود كيان يهودي في منطقتنا.
ونحن نتابع الإعلام الغربي وتصريحات قادته نشعر وكأن الدول الغربية دخلت في حالة حرب وأعلنت تطبيق الأحكام العرفية في مجتمعاتها في تطبيق حرفي لمقولة جورج بوش الابن بعد هجوم تنظيم القاعدة على برجي التجارة: من لم يكن معنا فهو ضدنا!
انهار كل شيء بسرعة وكشر الغرب عن أنيابه التي كدنا ننساها خلال عقود من الكلام المعسول عن الحريات والقيم رغم وجود عشرات الشواهد على توحشه الأعمى من هيروشيما وصولا لمجزرة ملجأ العامرية في بغداد وغيرهما الكثير من الجرائم التي ارتكبها الرجل الأبيض، لا حوار حضارات ولا تنظير لحوار الأديان كل شيء اختفى وكأنه لم يكن. وحشية سيكون لها تداعيات على المدى القريب والبعيد، وإذا كانت هزيمة 67 واحتلال القدس نتج عنه ظهور التنظيمات الجهادية وصولا لتنظيم القاعدة بالإضافة لنشاط منظمة التحرير الفلسطينية عسكريا خارج فلسطين، وإن كان تغلغل إيران في العراق بعد الغزو الأميركي نتج عنه ظهور تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام فإن المذبحة الحالية بحق الفلسطينيين والإهانة التي يوجهها الغرب للعرب والمسلمين سينتج عنها تنظيمات وحركات كثيرة ترفع راية استعادة جزء من كرامة هذه الشعوب المقهورة.
———————–
غزة والشمال السوري وحدة الدم وتخادم الطغاة/ حسن النيفي
حين تصبح لغة التفجع ونبرة الألم وصراخ المظلوميات هو الصوت الأقوى في المشهد العام، فمن الطبيعي آنئذٍ أن يكون استنساخ العواطف ونبش ما تراكم في الذات الجمعية من قهر موروث وتبادل التهم والبحث عن مساحات جديدة لم تُجلد من الجسد هو الشغل الشاغل، وذلك في حالة غياب شبه تام لمنطق التبصّر وصوت العقل والتفكير الموضوعي بمنأى عن الضغوط الناتجة عن استمرار الخراب، مع التأكيد – بالطبع – على أن تلك الجائحة النفسية التي تجتاحنا كسوريين، لها ما يبررها ولا يمكن التنكر لها أو تحاشيها إذا بقيت ضمن حيّزها الطبيعي، أي في سياقها النفسي الإنساني الطارئ، ولم تتحوّل إلى حالة ثابتة ومنطلق لتحليل الوقائع وتفسيرها، وحينها لن يكون بمقدور التفكير المعطوب سوى إنتاج العطب ولا شيء سواه.
الخوف من الاستغراق في التفكير تحت وطأة المواجع له كل مقوّمات الحضور في المشهد السوري نتيجة لسياقات سياسية وميدانية شديدة التعقيد تزداد تحكّماً في سيرورة ثورة السوريين يوماً بعد يوم، ولعل ما أحدثه زلزال الحرب على غزّة جسّد ذروة لتلك السياقات المُركّبة، فبالتزامن مع العدوان الوحشي للكيان الصهيوني على سكان غزة، وكذلك بالتوازي مع العدوان الأسدي الروسي المستمر على إدلب وريف حلب الغربي، ينشغل الكثير من السوريين بمعترك ثالث فيما بينهم، ويكاد يودي هذا المعترك بما تبقى من أواصر فكرية أو نفسية أو اجتماعية، إذ ينزاح الاهتمام أو التفكير بالمصادر الحقيقية للمشكلة، ويتم التوجه نحو ما يمكن أن يؤسس لمزيد من الشروخات والفجوات لدى العاملين بالشأن السوري العام. ما نعنيه بالمعترك الثالث هو الانشغال الكلي حول مشروعية ما قامت به حركة حماس أو عدم مشروعيته، باعتبارها هي من بادر يوم السابع من شهر تشرين الأول الجاري بعملية نوعية أدت إلى اختراق غلاف غزة والتوغل إلى عمق مستوطنات الكيان الصهيوني، والحديث عن المشروعية يأتي على خلفية الموقف السلبي العام من حركة حماس نتيجة لتحالفها مع إيران التي تشارك نظام الأسد في قتل السوريين، إذ كيف يمكن للسوري الذي يُقتل أبناؤه برصاص ميليشيات إيران أن يناصر حركة حماس وهي أحد أذرع إيران؟ والحق أن كل رأي طرف من الأطراف المتناحرة يحمل في طياته جانباً من الصواب، فالقائلون إن حماس تتحالف مع رأس الشر إيران، وإيران هي الأكثر استثماراً بنشاط حماس كلامهم صحيح، وكذلك القائلون إن حركة حماس لا تجسّد حالة إجماع وطني على المستوى الفلسطيني بسبب مرجعيتها الإيديولوجية التي تجعلها أكثر ولاءً، بل تماهياً مع تيار الإسلام السياسي، فهذا أيضاً صحيح.
ولكن ثمة من يقول أيضاً: قبل السؤال عن مشروعية عملية حماس ألا ينبغي السؤال عن مشروعية الاحتلال الإسرائيلي، أليست مقاومة المحتل وبكافة السبل والوسائل أمراً مشروعاً تقره جميع شرائع الأرض والسماء؟ بل ربما كانت الحالة الطبيعية هي مقاومة المحتل وليست مهادنته أو الركون إلى ما يريد تأبيده، وما يمارسه الكيان الصهيوني بحق سكان غزة من حصار وإهانات واعتداءات مستمرة طيلة سبعة عشر عاماً ألا يجيز للفلسطينيين الدفاع عن أنفسهم ودفع الجور عن أبنائهم ونسائهم ومقدرات عيشهم؟ وهل كانت إسرائيل – طيلة خمس وسبعين سنة من احتلالها لفلسطين – تبحث عن مبرر أو ذريعة لعدوانها المتكرر على الحق الفلسطيني أم إن استمرار وجودها – ككيان أو دولة – مقرون باستمرار نهجها الاستئصالي الدموي بحق جميع سكان فلسطين؟
ليس مطلوبا من السوريين الثائرين على نظام الإجرام الأسدي أن يصفوا حماس بغير ما هي عليه، وليس مطلوباً منهم قلب الحقائق والتنكر لماهية تحالفاتها سواء مع إيران أو سواها من أعداء ثورة الشعب السوري، ولكن في الوقت ذاته ليس من حقهم تجريدها من خيار مقاومة المحتل الإسرائيلي، فتحالفات حماس مع العدو الإيراني لا تعفيها من مقاومة المحتل الصهيوني، وأيضاً مقاومتها للمحتل الصهيوني لا تعطيها صكوك البراءة من جرّاء تحالفاتها المشبوهة مع إيران، ولا يوجب هذا الموقف على أي مناهض لنظام الأسد أن يجري نوعاً من التماهي بين حركة حماس – كمشروع سياسي إيديولوجي – وقضية فلسطين باعتبارها قضية شعب له كل الحق في الدفاع عن أرضه وطرد المحتل.
كان من الممكن أن يتيح العدوان على غزة الوقوف على حقائق أكثر نصاعة وجدوى من إشكالية حماس وارتباطاتها الإقليمية، باعتبار هذه الارتباطات قائمة ولا تحتاج إلى مزيد من التنقيب والإثبات، فتزامن العدوان الإسرائيل على شعب فلسطين مع شراسة العدوان الأسدي على الشمال السوري تؤكد تأكيداً قاطعاً بأن قضية السوريين من أجل تحررهم من طغيان النظام الأسدي لا تختلف في جوهرها عن نضال شعب فلسطين لطرد الكيان الغاصب لبلادهم، وأن الدم السوري المراق من جراء استهداف الطيران الأسدي والروسي للأسواق الشعبية والمستشفيات في الشمال السوري لا يختلف عن الدم المراق في مشفى المعمداني في غزة، وأن الحق الإنساني في الحياة والدفاع عن الحريات والحقوق هو مبدأ متكامل لا يمكن أن يتجزأ، وانطلاقاً من تلك الحقائق يمكن الوقوف أيضاً على قذارة بلا حدود للعديد من المواقف الدولية المتخادمة في قتل الشعبين السوري والفلسطيني، فما معنى أن تطالب روسيا مجلس الأمن باتخاذ قرار بوقف إطلاق نار شامل في غزة، بينما ترفض وقف القتل والدمار بحق السوريين، ويتكامل هذا الدور بالموقف الأميركي الداعم بلا حدود للعدوان الإسرائيلي على أطفال غزة، والمدّعي – في الوقت ذاته – مناهضته للإرهاب؟ بل ربما تبلغ المهزلة ذروتها حين نجد أن نظام الإبادة الأسدي يرفع عقيرته مطالباً بوقف الحرب على غزة، فيما تستمر أدوات إجرامه بحصد أرواح السوريين. ربما كان التفكير في صلب تلك المفارقات الموجعة يتيح لنا تعزيز القناعة بأن قضية فلسطين كانت جامعة للعرب والمسلمين، ويجب أن تبقى كذلك.
——————————-
تخادم الإجرام الإسرائيلي الأسدي وأوجه التشابه بينهما/ العقيد عبد الجبار عكيدي
لعله ليس بغريب أبداً أن تنطوي أهوال الحروب وفجائعها الموجعة على جملة من المفارقات التي توازي بغرابتها بل ووقاحتها أهوال الحروب ووحشيتها، ولئن بدت وقائع هذه المفارقات أو إرهاصاتها الأولية غير صادمة نظراً لتاريخ طويل من الصراع العربي الصهيوني اختزل الكثير من سلوك الدول والأنظمة وبيّن نفيسها من قبيحها، إلّا أن التجليات المكتملة لتلك المفارقات وتجسيداتها الدقيقة على الأرض تجعلنا لا نتحدث عن مجرّد تماثل هنا أو هناك، بل يمكننا الوقوف أمام مناهج مستنسخة تؤدي دوراً تكاملياً وتخادماً في المصالح فيما بينها.
ما نعنيه بالاستنساخ المنهجي بالتحديد هو ما يقوم به الكيان الصهيوني حيال سكان غزة منذ اليوم السابع من شهر تشرين أول الجاري، وبين ما مارسه نظام الأسد – وما يزال – بحق الشعب السوري. ولعل إدمان نظام دمشق على ممارسة الجريمة بحق السوريين وقدرته اللامحدودة على ابتداع وسائل وطرائق الإجرام جعل الكثير من السوريين يعتقدون جازمين أن السلطة الأسدية حيال مواجهتها للشعب السوري تفوقت على الكيان الصهيوني من حيث فظاعة الإجرام كماً ونوعاً، بل غالباً ما رأى السوريون أن نظام الأسد لم يدخر طريقة من طرائق القتل الشنيعة إلا ومارسها بحق شعبه، بدءاً من البراميل المتفجرة ومروراً بالقتل الجماعي ودفن المواطنين وهم أحياء، وصولاً إلى الإبادة الحقيقية بالسلاح الكيمياوي، أضف إلى ذلك أنه حين كانت تقوم قوات الأسد وحليفها الروسي باستهداف المستشفيات ودور العبادة والمخابز والأسواق الشعبية في إدلب وحلب وحمص وجسر الشغور وسواها من البلدات السورية، كان يستحضر السوريون جرائم الاحتلال الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني في سياق مقارنة مع ممارسات سلطة دمشق بحق السوريين، وذلك للخروج بنتيجة يتفوق فيها النظام الأسدي على الدوام، ولسنا بحاجة للإشارة إلى أن المقارنة ليست بين جيد وسيئ على الإطلاق، أو هي ليست لتبرئة أو تبرير صنيع أحد الطرفين، بل هي مقارنة بالأصل بين سيئ وأكثر سوءاً.
ربما ما يعزز هذا المنحى من المقارنة هو ما قام به العدو الإسرائيلي يوم السابع عشر من تشرين الأول الجاري حين استهدف مشفى المعمداني في غزة، وقد أودى هذا الاستهداف بحياة أكثر من خمسمئة شهيد، وإصابة أضعافهم، وما يزال العشرات في عداد المفقودين تحت الأنقاض، وبهذا لم يعد نظام الأسد وحلفاؤه الروس هم الوحيدون الذين يقصفون المشافي بالطائرات ويجهزون على المرضى وهم على أسرّتهم، بل ربما كان الصنيع الإسرائيلي المماثل في الجريمة يحيل إلى مرجعية أسدية في علم الإجرام لا تتقوّم على جانب ميداني في القتل والتدمير فحسب، بل هي لا تكتمل إلّا بتتالي فصولها الإجرامية كاملة، ونعني بذلك الخطوات التالية لقصف المدنيين والإثخان بقتلهم، إذ يتم توجيه إبلاغ لمن بقي حيّاً من السكان بترك الديار والنزوح خارج المدينة، أي إفراغ المدينة من سكانها والإجهاز على بنيتها التحتية وتسويتها بالأرض، وهذا المنهج القائم على الاستئصال وإفراغ المدن من سكانها هو النهج ذاته الذي مارسته قوات الأسد في حلب الشرقية والغوطة وداريا والزبداني ودرعا والقصير، إذ كان يوضع السكان أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الموت تحت وابل قصف الطائرات والمدفعية، أو النزوح من الديار ومغادرة المدينة، وبالفعل منذ أن بدأت إسرائيل حربها المتوحشة على سكان غزة، قامت بموازاة ذلك بتوجيه بلاغ بوجوب مغادرة سكان غزة لمدينتهم، وربما الضغوطات التي مارسها وزير خارجية أميركا طوني بلينكن على كل من مصر والأردن طالباً منهما أن يفتحا أبوابهما لسكان غزة إنما يأتي في سياق استكمال منهج الاستئصال الذي مارسه الأسد حيال المدن السورية.
ربما أفضى تخادم المناهج بين الأسد وحلفائه من جهة وإسرائيل وحلفائها من جهة أخرى إلى تبادل للأدوار يختزل الكثير من القذارة وبلادة الضمير، لعل أبرز ما يحويه هذا التخادم هو مطالبة روسيا في مجلس الأمن بوقف شامل لإطلاق النار في غزة، ولكن أميركا من جهتها ترفض، بينما في حالات أخرى حين يُطرح موضوع وقف إطلاق النار في سوريا والتطبيق الفعلي للقرارات الأممية فإن روسيا هي التي ترفض وواشنطن هي التي تبدو حريصة على وقف الحرب وإرساء السلام، ثم تبلغ المفارقة ذروة القذارة حين يطالب نظام الأسد بوقف العدوان الإسرائيلي على سكان غزة، بينما هو يستمر بحربه وعدوانه على إدلب مستهدفاً رجالها ونساءها وأطفالها بكل حمم الموت والدمار، ليتعدى التشابه بين المنظومتين الأسدية والصهيونية إلى حد التطابق حين حاول قادة الكيان الصهيوني وداعمهم الأميركي إلصاق جريمة قصف مشفى المعمداني بفصائل المقاومة الفلسطينية، في تجسيد مطابق لما فعله نظام الأسد وروسيا حين استخدامهم السلاح الكيماوي لقتل السوريين في الغوطة الشرقية وخان شيخون وخان العسل ومناطق سورية أخرى واتهام فصائل الثورة السورية بفعل ذلك.
——————–
البوصلة الحقيقة لوحدة الساحات/ محمد فواز
في حديث لقناة “تي آر تي العربية” رد نائب رئيس حركة حماس في الخارج موسى أبو مرزوق على سؤاله عن التنسيق مع إيران والفصائل المنضوية تحت محور المقاومة ليجيب: “للأسف لا يوجد تنسيق” “بالتأكيد هناك اتصالات وحوارات ودعوة للمشاركة، ولكن أقول وبمنتهى الصراحة كنا نتوقع أن يكون التفاعل مع الحدث أكثر كثيرا مما جرى اليوم ونحن ندعوهم لمزيد من المشاركة…” بعدها أيضا وفي نفس الاتجاه قال رئيس مكتب حركة حماس في الخارج خالد مشغل:” حزب الله قام مشكورا بخطوات لكن تقديري أن المعركة تتطلب أكثر، وما يجري لا بأس به لكنه غير كافٍ. ورأيي بأنه اليوم المطلوب أكثر من طوفان، هكذا يصنع التاريخ، ليس بالخطوات المحدودة الخجولة المترددة، يُصنع بالمغامرات المدروسة.”
بشكل علني يخرج مسؤولو حركة حماس للتأكيد على ضعف التنسيق مع إيران وأطراف محورها وبأنهم انتظروا وينتظرون أكثر مما قدم.
في رواية محور إيران التأسيسية، فإن إنشاءه قام على مقاومة إسرائيل وبالتالي يتوقع عند كل عملية تجاه الكيان حضور إيران وأبرز أذرعها في المنطقة- حزب الله- خاصة في العمليات الكبيرة كعملية “طوفان الأقصى.” اليوم يواجه الكيان الإسرائيلي أكبر صفعة في تاريخه وفي داخل الأراضي المستقرة لديه “والآمنة” عادة ليأتي تدخل المحور باهتا!
بعد مرور أكثر من عشرة أيام على العملية لم يقدم المحور سوى الخطابات الداعمة من جهة وعمليات مدروسة ومحدودة في الجنوب اللبناني من جهة أخرى. ضغط حماس على إيران وحزب الله للتدخل لم يُكتف بإبدائه في الغرف المغلقة، بل خرج للعلن في تصريحات عدة وفي مشهد فاقع وضع علامات استفهام عن حقيقة وحدة الساحات وحقيقة محورية المقاومة لدى إيران.
المفاجئ أكثر من ردة فعل حزب الله المحدودة هو صمت رئيس النظام السوري بشار الأسد الذي يعتبر محوره أن تثبيته في موقعه هدفه الأول والأخير مقاومة إسرائيل في وجه مشاريع التطبيع والخيانة. فعلى الرغم من قصف إسرائيل لمطارات النظام السوري في حلب ودمشق، لم يحرك النظام ساكنا وأبعد نفسه عن الأحداث بشكل شبه كلي حتى الساعة.
لتقييم موقف محور المقاومة من الضروري فهم أمرين، الأول حجم العملية المنفذة والثاني هو طريقة تفكير المقاومة وسلم أولوياته.
حجم عملية لا تستطيع إيران تحمله
بالنسبة لحجم العملية فقد أصبح معلوما للجميع أن زلزال 7 أكتوبر على إسرائيل لم يسبق له مثيل. فقد تعرضت إسرائيل لهجوم مباغت في داخل مناطق سيطرتها الكلية بفشل ذريع لصورة الكيان ومخابراته وأجهزته العسكرية والأمنية كلها حيث أوقع القسام خسائر بالآلاف وأسر المئات في وقت كانت فيه إسرائيل فاقدة للسيطرة بشكل تام. مقارنة بالحروب السابقة بين الكيان وغزة فقد كان مجموع قتلى الكيان 116 منذ العام 2008 وفي حروب استمرت 100 يوم تقريبا. في هذه السنوات كذلك بادلت حماس أسيراً إسرائيلياً واحداً بأكثر من 1000 من أسراها. إذا من السهل بعد مراجعة حجم السقوط الأمني والتكنولوجي ومراجعة الأرقام ومقارنتها تخيل حجم الصفعة التي تلقاها الكيان. استراتيجيا أيضا، فإن الكيان سيواجه صعوبات أكبر الآن في الترويج للأمن والأمان في المستوطنات والتسويق للسكن فيها سيكون أصعب بكثير إضافة لارتفاع منسوب الثقة بالنفس لدى المحور المقابل لإسرائيل حتى أصبح الإعلام يقول “إن كانت حماس المحاصرة من كل جانب فعلت ما فعلت بإسرائيل فكيف لو هاجمها حزب الله مثلا وهو الذي ينعم بخط إمداد بري وجوي غير مضبوط بينه وبين إيران؟”
إيران أولا
لكن إيران وحزب الله المروّجين لقدرتهم الكبيرة بعد صفعة حماس يدركون جيدا أن ردة الفعل الغربية ستكون على قدر الفعل أو متناسبة معه على أقل تقدير، وبالتالي لم يفاجؤوا بحضور البارجات الأميركية والأوروبية بسرعة وإعلان حالة الدعم المطلق لإسرائيل حتى وصل الأمر بأميركا لإيصال رسالة للحزب بأنه سيكون في مواجهة أميركا في حال تحرك في وجه إسرائيل.
إضافة، فإن محور المقاومة يصح أكثر تسميته بمحور إيران، فهي البوصلة الرئيسية فيه ومصلحتها هي الأساس وفي هذه العملية تجلى هذا الخيار بشكل واضح. فإيران التي حققت مكاسب عسكرية وسياسية عديدة في السنوات الأخيرة لا تريد خسارتها بـ “تهور” في لبنان يلقيها في حرب مع الغرب كل الغرب.
إذا، الحزب وإيران لا يريدان العودة للخلف في عملية بناء القوة التي راكموها وهم الطامعون في مرحلة سلام في المنطقة يثبتوا فيه ما كسبوه ويعززوه بانفراجة اقتصادية بعد أن تتم الاتفاقات. في الوقت عينه، يحرج المحور من ترك غزة وحدها فيكثفوا الضغط الدبلوماسي والإعلامي لعدم تطور الأوضاع في فلسطين لأبعد من الواقع الحالي ويهددوا بالتدخل في حال تمادى الاحتلال.
حتى هذا احتمال التدخل يتركه الحزب وإيران مطاطا فلا يعلم حتى الساعة متى يقرر أن الخطوط الحمر قد تم تخطيتها وبالتالي يجب التدخل مع التأكيد على أن تفضيل الحزب وإيران هو لعدم الانخراط في الحرب مع القيام بعمليات محدودة تحفظ ماء الوجه ومع مختلف أنواع التحركات لمحاولة لجم إسرائيل عن الاجتياح البري “لاستئصال حماس” دون التيقن بأنهم حتى في هذه المرحلة سيتدخلوا.
أما الأسد وباقي أذرع المقاومة فهم بكل تأكيد خائفون من إغضاب أميركا ويفكرون في مصالحهم داخل بلدانهم وغير بعيد أن يحاولوا الاستفادة مقابل صمتهم أو تعطل حركتهم.
صحيح أن حزب الله يتحرك في لبنان وصحيح أن التصريحات الإيرانية قوية وعالية النبرة وهو ما يؤكد وجود شيء من وحدة الساحات، ولكن في عمق والتأثير يجلس المحور- عسكريا- جانبا خوفا على تضرر رأسه (إيران) ولو على حساب قطع أهم أطرافه (فلسطين) والذي لطالما روج أنه هو الرأس نفسه!
قادت إسرائيل مجزرة خيالية بحق المدنيين العزّل في مستشفى فهل هذا المستوى أيضا من المستويات التي لا تستدعي تحرك المحور؟؟
——————-
التغيير الديموغرافي سياسة أم هدف؟/ فارس الذهبي
لعل ثاني ما يوحد سياسات الأطراف المتصارعة في الشرق الأوسط هو الجرأة في تنفيذ التغيير الديموغرافي، عبر سياسات وأدوات تنفيذ غاية في التطرف والقسوة، ليكون العنف هو أول ما يوحد أنظمة الشرق الأوسط.
فمع تكوّن الصورة الحالية للخريطة الجيوسياسية لهذا الشرق الأوسط الذي نعيش فيه، تعالت أصوات رافضة لهذا التقسيم الجائر بالنسبة للجميع، عرباً وتركاً وأكراداً وفرساً ويهودا وأرمنا وتركمانا وسريانا. ليستغرق الانغماس في الخريطة الحالية قرابة قرن من الزمن قبل أن يعاد النظر في خريطة سايكس بيكو من جديد، عبر نظرية أطلقتها وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس بُعيد احتلال العراق وحديثها عن الفوضى الخلاقة التي ستعيد تشكيل الشرق الأوسط الجديد على حد تعبيرها.
النظام السوري كان أشد من نفذ هذه السياسة عبر تغييره وإعادة تموضع قرابة نصف التعداد السكاني للجمهورية السورية (نحو 12 مليون إنسان) انتقلوا بشكل كامل أو جزئي إلى دول الجوار في تركيا والأردن ومصر ولبنان والغرب، ولا يدري إنسان كيفية أو مصداقية وعود إعادتهم إلى بيوتهم، حيث تم تفريغ مدن بكاملها من أهلها وسكانها، في مقابل تقارير أممية وصحفية تتحدث عن توطين لاجئين أفغان وباكستانيين ومواطنين عراقيين ولبنانيين في بيوتهم، ولنا في داريا وريف دمشق الغربي وجنوبي دمشق وأرياف حلب المثال الصارخ.
في مقلب آخر تم إفراغ سيناء من بعض سكانها، وتم تهجير أهالي مدن كردية من أهلها في سوريا، تهجير أهالي مدن وبلدات في العراق من سكانها وتوطين “أغراب” مكانهم حسب تعبير السكان الأصليين. في مدن مثل ديالى وجرف الصخر وحزام بغداد ونينوى ومحاولات في الأنبار.
في لبنان يشتكي الساسة المحليون من مخاوف تراودهم من محاولات تغيير ديموغرافي تطول بلدهم بهدف توطين اللاجئين السوريين والفلسطينيين هناك، بينما تمارس إسرائيل علانية وعلى لسان وزراء في الحكومة المصغرة التغيير الديموغرافي، وتتحدث عن ضرورة التخلص من السكان الأصليين للبلاد من الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة وحتى عرب 48، كبديل وحيد للتخلص من القنبلة الديموغرافية التي تحيق بإسرائيل نتيجة ارتفاع نسبة المواليد بين الفلسطينيين بالمقارنة مع الإسرائيليين أنفسهم، ومؤخراً نحن بصدد خطة نتنياهو التي تفترض تهجير مليوني إنسان من قطاع غزة إلى صحراء سيناء من أجل إعادة توطينهم فيها، ولإفراغ القطاع بالكامل من أجل تدمير البنية التحتية لحركة حماس فيه، قبل السماح بإعادة أعداد منتقاة من السكان إلى القطاع تحت إشراف دولي وعربي.
تبدو هذه الصورة القاتمة أشبه بسياسات قاسية جداً مستمدة من طموحات مارسها جوزف ستالين في فترة حكمه للاتحاد السوفييتي، مع الشعوب التي تقطن هناك، حيث أنه قد قام بتهجير ملايين من المسلمين إلى سيبيريا ومئات آلاف من الأوكرانيين من أرضهم، وعشرات آلاف من التتار والشيشان والأرمن وغيرهم في محاولة لتشكيل لوحة ديموغرافية تلائم صورته للعالم الذي كان يريد تشكيله.
نجح من خطته ما نجح، ولكن أجزاء كبيرة منها لا تزال تعاني من اضطرابات شديدة ولا تزال بلدان الاتحاد السوفييتي السابقة تعاني من عقابيلها، مثل الصراع الأخير بين أذربيجان وأرمينيا.
في الشرق الأوسط، يتم الإعداد لصورة مشابهة لما حلم به ستالين، عبر إعادة تشكيل بلدانه عبر تغييرات قومية وإثنية صارخة، تتيح إعادة ترسيم الحدود من جديد بناء على هوية سكانه أو قوميتهم أو دينهم أو عرقهم، يبدو جميع الحكام منسجمون مع ما يحدث، والبعض منهم يساهم بشدة في تنفيذ هذه الخطة، عن قصد أو من دون قصد، ويبدو البعض الآخر متخوفاً ومترددا في القبول بما يجري، ويسعى جاهداً لإعادة ما أمكن من السكان إلى أرضهم على الأقل في موقعين مهمين هما فلسطين وسوريا، فالموقف الرسمي العربي واضح وجلي فيما يخص شؤون اللاجئين السوريين الذين يتمنع النظام السوري عن القبول بعودتهم وكأنهم لم يعودوا مواطنين سوريين بعد أن رفضوا سياسات حكم استمر أكثر من نصف قرن، بينما في فلسطين تتمسك الدول العربية بحل الدولتين الذي يعني إعادة تجميع ملايين الفلسطينيين في دولة فلسطينية وليدة، ستكون مركزاً يسمح لملايين المهجرين من الشعب الصامد أن يعودوا إليه ويتنعموا بجنسيته، بما يريح بلداناً مثل لبنان والأردن من مخاوف التغيير الديموغرافي الذي يعنيه عدم عودة اللاجئين الفلسطينيين.
أما في العراق وشمالي سوريا وغزة فليس لأحد أن يعرف ماذا تحمل الأيام لملايين السكان الأصليين، وهل سيعودون أم لا. لكن ما يشكل مفصلاً حاسماً لهذا السؤال هو الموقف أو القبول بالسماح لإسرائيل بتهجير مليوني إنسان، مما سيشكل سابقة بعد النكبة 1948، وسيتم اعتماد الإجراء الإسرائيلي كأساس قانوني في الشرق الأوسط يسمح للحكومات بتثبيت التغيير الديموغرافي في بلدانهم، دون أن ننسى أن رأس النظام السوري تحدث علانية عن تجانس جيد نشأ في سوريا بعد الحرب.
لكن كيف سيُبنى الشرق الأوسط الجديد في ظل مظلوميات وتهجير واحتلال وانعدام تام للعدالة؟ حيث أن الجواب يأتي دوماً بأن غياب القانون يسمح على الدوام للقوة العسكرية والعنف بتهجير السكان، فعلتها إسرائيل في فلسطين 1948، ولم يتغير شيء، وفعلوها أيضاً في الجولان1967ولم يتغير شيء، ولربما ستفعلها إسرائيل في غزة وجنوبي لبنان إن استمرت الحرب الحالية، وسيتم توطين أهالي غزة في مصر، وأهالي الجنوب اللبناني في سوريا ربما، مما سيعني أن الطرف العسكري الآخر في هذا الصراع يتفق بشكل كامل مع السياسات الإسرائيلية عبر موافقته على تشكيل الشرق الأوسط الجديد كلياً، فهل تتخلى البيوت عن أصحابها، وهل يتنكر الشجر لزرّاعه، وهل تنسى الشوارع من مشى عليها يوماً، أم هذا هو حال العالم الذي لا يعترف إلا بالقوة.
—————————-
الحشد السياسي لتبرير الإبادة الجماعية/ لمى قنوت
تتصاعد وتيرة شيطنة القضية الفلسطينية وداعميها، وتندمج تهمة الإرهاب ودعمه مع “الإسلاموفوبيا” و”العداء للسامية” في الخطاب السياسي، بقيادة الإعلام الصهيوني وساسته، ويتلقفها الإعلام الرسمي في دول الشمال العالمية وخاصة تلك الدول ذات الإرث الاستعماري الذي يعمم خطابًا يشبّه المقاومة الفلسطينية بـ”داعش”، ويعتبر هذه المقاومة تهديدًا وجوديًا ليس فقط لإسرائيل وإنما للعالم الغربي أجمع، وبالتالي فإن أي شكل من أشكال التضامن مع الفلسطينيين والفلسطينيات هو مناصرة لهذا التهديد الوجودي.
يراكم الإعلام الصهيوني وساسته تجييش هذه الشيطنة، مثل تصريح وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، الذي وصف المقاومة الفلسطينية بعد انطلاق عملية “طوفان الأقصى” بأنها “داعش غزة” وعناصرها “حيوانات بشرية” وهدد “كل من يأتي لقطع الرؤوس” بالقضاء عليه.
تعبّد هذه الخطابات الطريق لتبرير سياسة الإبادة الجماعية التي ينتهجها الاستعمار الصهيوني ضد سكان غزة، من القصف الكثيف والمتواصل جوًا وبرًا وبحرًا على القطاع، واستخدام ذخائر الفوسفور الأبيض المحظور استخدامه ضد المدنيين، وحرمان سكانه البالغ عددهم أكثر من مليوني شخص من مياه الشرب والكهرباء والوقود، وصعوبة تقديم الحد الأدنى من الخدمات المنقذة للأرواح مع كثافة القصف، والدعوات الفاشية لتهجير سكانه قسرًا تارة إلى سيناء، وتارة بإصدار الأمر بنزوح قسري لمليوني شخص من سكان القطاع من شماله إلى جنوبه خلال 24 ساعة، وهذه الظروف تنطبق وبمقتضى القانون الدولي على المادة “2” من جريمة الإبادة الجماعية التي تقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية (الفقرات أ وب وج).
لقد أسهم التجييش السياسي والإعلامي الرسمي في دول الشمال بالانتشار الكثيف لخطاب فاشي يحض على ارتكاب الجرائم ومن ضمنها جرائم الإبادة الجماعية، فمثلًا، طالب متظاهرون في نيويورك بقتل الفلسطينيين وتسوية غزة بالأرض، وفي كندا، تهجّمت كاتبة على سيدة تضع العلم الفلسطيني على سيارتها، وطلبت منها أن تنشر ما تصوره، وأعطتها اسمها الكامل لتضع لها إشارة (Tag me)، وقالت لها بصلافة: “أنتِ يجب أن تُغتصبي وتُسحلي في الشوارع أمام أطفالك”.
لم ينعكس التجييش الرسمي على الخطاب ودعم الكيان الإسرائيلي سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا، بل طال سلوكًا عقابيًا للمتضامين مع القضية الفلسطينية، رجالًا ونساء بتنوعاتهن، مثل الفصل التعسفي من العمل، وإلغاء أو تقييد حسابات على وسائل التواصل الاجتماعي، وتوقيف متظاهرين ومتظاهرات في بعض المدن، وحظر مظاهرات في بعض الدول.
المناصرون للقضية الفلسطينية الشباب، نساء ورجالًا، الذين تعلموا في جامعات دول الشمال العالمية، يقودون اليوم خطابًا متماسكًا وعميقًا على مواقع التواصل الاجتماعي بلغات أجنبية، يتسم خطابهم بصبغة أكاديمية مقدمة بلغة بسيطة سهلة الفهم، متأثرة بالأدب والفكر المقاوم لأيديولوجيا تفوق “العرق الأبيض” (white supremacy) والذي قدمه عديد من المفكرين والناشطين، نساء ورجالًا، من السكان الأصليين وحركة الحقوق المدنية السوداء في أمريكا الشمالية.
تستثمر جهود المناصرة هذه الأرضية الموجودة المؤمنة والمتعاطفة مع هذا الفكر المقاوم، فتقدم حجة مضادة لـ”بروباغندا” وسائل الإعلام الرئيسة التي تفبرك موافقة الرأي العام على خيار الحرب، كما فعلت وسائل الإعلام تلك في 2003 قبل احتلال العراق.
إن الدعم العسكري والسياسي والاقتصادي والثقافي للاحتلال الإسرائيلي يعني دعمًا غير مشروط لجرائم الحرب والجريمتين ضد الإنسانية، المتمثلتين في الفصل العنصري والاضطهاد، وحماية لمجرمين يعيشون في كنفه، يتمتعون بالدعة والراحة والدعم، رغم الكشف المتواصل عن جرائمهم، مثل الفيلم الوثائقي الإسرائيلي الذي تناول مذبحة الطنطورة التي وقعت في 22 و23 من أيار 1948، وعُرضت فيه شهادات ناجين من المذبحة، وشهادات مجرمين من جنود كتيبة 33 من “لواء ألكسندروني”، قتلوا فيها أكثر من 230 فلسطينيًا ودفنوا شهداءها في مقابر جماعية.
وبدل أن يُحاكم المجرمون في الكيان كما يقتضي القانون الدولي، يُدعم اقتصاده وتستورد منه عديد من دول العالم تكنولوجيا لمراقبة الشعوب، الأمر الذي تحدث عنها بإسهاب كتاب “مختبر فلسطين: كيف تُصدر إسرائيل تكنولوجيا الاحتلال إلى العالم؟” للكاتب اليهودي أنتوني لوينشتاين، الذي يشرح فيه “كيف تستخدم إسرائيل الفاشية العنصرية والمتطرفة الأسلحة والتكنولوجيا المتقدمة وأسوار المراقبة على 5.5 مليون فلسطيني محتل ومضطهد بقسوة”.
إن المعايير المزدوجة التي تشجع السياسات الإجرامية المتواصلة للاحتلال الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني، ومنعه من حقه في تقرير مصيره وحقه في مقاومة الاحتلال وإقامة دولته، ونزع سردية مقاومته منذ 75 عامًا، لم ولن تُنهي القضية الفلسطينية، ولا يمكن استبدالها أو القفز عليها باتفاقيات تطبيع مع المتهافتين، فوجدان أغلبية شعوب هذه المنطقة متعلق بفلسطين، وينتقل ذلك من جيل إلى جيل.
————————
تهجير السوريين كمقدمة لتهجير الفلسطينيين/ إبراهيم العلوش
كان تهجير أكثر من 12 مليون سوري من بيوتهم، اعتبارًا من العام 2011، تدريبًا للرأي العام في المنطقة على قبول تهجير البشر، ومقدمة لإقناع العالم وإجبار الدول الأخرى على قبول المهجرين الفلسطينيين وتصفية قضيتهم.
إصرار إسرائيل على دعم بشار الأسد بدأت تتوضح بعض أسبابه في خلق سابقة تهجير كبيرة، فالقسوة التي تعامل بها نظام الأسد مع السوريين كانت مدعومة إعلاميًا على الأقل من القوى الإسرائيلية طويلة اليد في الدبلوماسية و”الميديا” العالمية، وظلت إسرائيل تصر على استمرار دعمها لبشار الأسد، رغم أنه تحالف مع إيران (عدوتها)، أو ربما هي الدولة المتواطئة معها في هذا السيناريو كما يعتقد أصحاب أفكار المؤامرة.
نحن السوريين ننظر اليوم إلى أحداث القصف والتهجير في غزة، ونسترجع ذكرياتنا المريرة ونحن نفر بجلودنا من تحت القصف من قبل نظام الأسد وداعميه الإيرانيين والروس، ونحمل من تحت رماد بيوتنا تهمة الإرهاب والدواعش والعملاء، التي يتم وصمنا بها لتبييض مخططات التهجير، والتي تتلاعب بها إيران، وتبتسم لها إسرائيل من خلف ستارة المسرح الدموي.
لماذا أصرت إسرائيل وداعموها الغربيون على استمرار بشار الأسد، لماذا أضاعت فرصة نجدة الشعب السوري واكتساب بعد إنساني يبيض وجودها ويعطيها بعض التعاطف من قبل السوريين الذين يموتون تحت القصف حتى اليوم.
قصف غزة أظهر حاجة إسرائيل إلى سابقة في التهجير، وهي سابقة قريبة نفذها بشار الأسد بدم بارد، والإسرائيليون اليوم يجاهرون بأوامر تهجير أهل غزة إلى مصر وبدعم أمريكي وأوروبي، وقد وصلت البوارج إلى الجوار بمشهد يذكرنا نحن العرب بمشهد بوارج العدوان الثلاثي في العام 1956.
أفعال إسرائيل اليوم تكرار شبه حرفي لأفعال نظام الأسد من قصف المدنيين وتهجيرهم، وتوزيع التهم عليهم، ونشر الدعايات التي تنتزع إنسانية البشر وتحولهم إلى حيوانات بشرية، كما قال هتلر، وكما يردد وزير الدفاع الإسرائيلي اليوم.
الدول الغربية تصفق للقصف وتشارك بتوزيع “بروشورات” التهم ضد كل من يحتج على الموت العلني لأهل غزة، بحجة أنهم ممسوسون بشياطين الإرهاب، بعد أن أطفؤوا لعبة حقوق الإنسان على الجانب الفلسطيني، وأبقوها مشتعلة على الجانب الإسرائيلي، الذي أبكى وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية ووزراء خارجية الاتحاد الأوروبي المتعامين عن رؤية ما يحدث للمدنيين في غزة، الذين سقط عليهم أكثر من 4000 طن من المتفجرات في يوم واحد فقط هو يوم الخميس 12 من تشرين الأول الحالي، كما يؤكد الجيش الإسرائيلي.
ما ينقص إسرائيل من السيناريو السوري هو استعمال السلاح الكيماوي (أو النووي باعتبارها دولة نووية) ضد المدنيين، والاستعانة بقوات أجنبية للمساهمة في إبادة أكبر عدد ممكن من سكان غزة المنبوذين من حقوق الإنسان، ومن حق الإسعاف، والشرب، والإطعام، والإنارة، التي أعلن الجيش الإسرائيلي قطعها عن قطاع غزة.
وهذا يذكرنا نحن السوريين بحصار حمص، وحصار الغوطة، وحصارات لا عدّ لها، أجبرت المدنيين على أكل الحشائش خلال أشهر طويلة، قبل أن يستسلموا للرحيل إلى الدول المجاورة، أو أن يتقبلوا راكعين شروط النظام المنتصر على المدنيين.
يطلب الإسرائيليون من مصر استقبال أهالي غزة واستيعابهم في صحراء سيناء، وقد يمارس الأمريكيون والأوروبيون مزيدًا من الضغوط على مصر، للخضوع واستقبال أهالي غزة الذين تحلم إسرائيل بمحو وجودهم، كما حصل في مرتفعات ناغورني كاراباخ وتهجير الأرمن منها خلال الشهر الماضي.
يخشى الأردن أيضًا من هذا “الترانسفير” الذي أعلنه الجيش الإسرائيلي، والذي يعتبر أكبر وأسرع “ترانسفير” للسكان، إذ طلب الإسرائيليون، في 13 من تشرين الأول الحالي، ترحيل 1.1 مليون إنسان خلال 24 ساعة، مع ملاحظة أن عودتهم غير مضمونة وتخضع لإرادة إسرائيل.
إيران تلعب من خلف الستار وتتاجر بالقضية الفلسطينية، ولن تتردد ببيع سكان غزة والموافقة على تهجيرهم للحفاظ على نفوذ “حزب الله” في الدولة اللبنانية التي يرتع فيها فسادًا، إذا ضمنت الدول الأخرى لإيران بقاء نفوذه، أما إذا حصلت على ثمن أكبر لمصلحة استقرار دولة الملالي، فهي لن توفر بيعهما من أجل سلامتها!
مصر والأردن أكثر الدول العربية المعرّضة لنتائج التهجير، وهدد الإسرائيليون مصر بالتجويع إن لم تقبل تهجير أهالي غزة إلى سيناء، وقد كررت الإدارة الأمريكية عدم ضمان عودة الفلسطينيين إلى بيوتهم إلا بعد دراسة دقيقة، وقد تستغرق تلك الدراسة مدة أطول من المدة التي لا يزال ينتظر نهايتها مهجرو 1948 ومهجرو 1967 وبقية المهجرين الفلسطينيين الذين حكمت عليهم إسرائيل بالنفي الأبدي.
السيناريو السوري واضح، ولا يزال طازجًا، وقد وفره جيش الأسد بشكل مجسّد على الأرض، وضمنت إسرائيل السكوت العالمي عن فظائعه، فهل يستعد العالم العربي لنكبة، أو لنكسة، أو لمأساة جديدة تفوق ما سبقها؟ أم يتشبث الفلسطينيون بأرضهم ويمنعون إسرائيل من تحويل هزيمتها إلى نصر بتهجيرهم، وعندها قد يجبرون العالم على تطبيق القوانين الدولية، بعد أن ذاقت إسرائيل مرارة الذل الذي كانت تسقيه للفلسطينيين طوال 75 عامًا.
——————————
عملية “طوفان الأقصى”، تطوراتها، وأبعادها، وتداعياتها المحتملة
مركز حرمون للدراسات المعاصرة
في صبيحة اليوم التالي ليوم الغفران اليهودي، استفاقت إسرائيل على صدمة لم تكن تتوقعها، حيث اجتاحت السياجَ بين غزة وغلافها الذي يضم عشرات المستوطنات والكيبوتسات والقطع العسكرية، مجموعاتٌ مقاتلةٌ من حركة حماس قُدّر عددها بنحو 1000 مقاتل، عبروا السياج بطرق مختلفة، برًا وبحرًا وجوًا (منها الطيران الشراعي وربما منها الأنفاق)، وسيطروا على معظم هذه المستوطنات والقطع العسكرية، مستفيدين من أن جيش الاحتلال الاسرائيلي واستخباراته في حالة استرخاء بمناسبة العيد وأغلب الجنود في إجازات. الصدمة التي لم يفق منها الإسرائيليون حتى اليوم الثاني أربكت الجيش الإسرائيلي واستخباراته وشرطته، حيث تمكن المقتحمون الفلسطينيون من قتل نحو 1200 إسرائيلي، بين مدني وعسكري، منهم 200 ضابط، فيهم 11 ضابطًا قائدًا برتب عالية، كما تمكنوا من أسر أكثر من مئة ونقلهم إلى داخل القطاع، ومن جرح نحو 2600، ولم تتمكن إسرائيل من استعادة السيطرة الكاملة حتى اليوم الثالث.
فاجأت تلك العملية كثيرًا من الأطراف المعنيّة بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، سواء القريبة والبعيدة، من حيث النوع والحجم والتوقيت والنتائج، وفتحت باب تساؤل كبير حول قدرة المقاومة الفلسطينية في غزة على تهريب احتياجات هذه العملية، بالرغم من الحصار البري والبحري والجوي الخانق. وكانت قبل ذلك مفاجأةً كبيرة لإسرائيل، من حيث الخسائر، ومن حيث فشل أجهزتها الأمنية والعسكرية في اكتشاف التحضير للعملية، وفي الاستعداد لمواجهتها. وهذا ما سيدفع إسرائيل للانتقام من القطاع، ولا سيّما بعد أن حظيت بدعم القوى الغربية والولايات المتحدة، سياسيًا وعسكريًا، مستغلّة ما حدث من قتل لمدنيين وأسر لبعضهم.
السؤال الأساس الذي يطرحه الحدث يدور حول الردّ: هل سيبقى محصورًا في قطاع غزة، أم أن هناك احتمالًا لأن تدخل جبهات أخرى على خط الصراع، تُحدث تغييرًا في قواعد الاشتباك القائمة في المنطقة منذ حرب تموز 2006، على اعتبار أن ملفاتها مترابطة تحركها وتتحكّم فيها إيران؟ أو هل يدفع هذا الحدث الكبير قيادة إسرائيل إلى البحث عن حل “عادل” يقبل به الفلسطينيون، مثل قبول قيام دولة فلسطين المستقلة في الضفة والقطاع؟ أم أن مثل هذه الأفكار لا تزور العقول المتطرفة التي تتحكّم في إسرائيل، ولا سيّما أن سلوك إسرائيل وأفعالها على الأرض يدلّان على أنّ هدفها قتلُ فكرة الدولتين أو فكرة الدولة الواحدة للعرب واليهود.
ثانيًا: الاحتلال الإسرائيلي ونظام الأبارتايد أساس المشكلة
عمدت إسرائيل منذ توقيع اتفاق أوسلو (غزة أريحا أولًا) عام 1993، إلى محاولات التنصّل من الاتفاق، وزرع المزيد من المستوطنات على حساب الأراضي التي يُفترض أن تكون أراضي للدولة الفلسطينية الموعودة، وساهم في ذلك الصعود المتنامي لليمين الإسرائيلي وسيطرته التدريجية على الحقل السياسي الإسرائيلي، مع تراخي الضامن الأميركي في الضغط على إسرائيل لتنفيذ تعهداتها، ولعب الانقسام الفلسطيني ما بين سلطتي رام الله وغزة دورَه في تمييع الموقف الإسرائيلي والدولي، وقد عمدت حكومات إسرائيل إلى حصار غزة بشكل خانق ودائم، وشنت عدة حروب متواترة عليها منذ العام 2009، وزاد الطين بلة صعود اليمين المتطرف يتصدّره وزير الأمن الإسرائيلي الحالي إيتمار بن غفير، الذي يشارك في حكومة نتنياهو القائمة حاليًا، ويسعى لفرض أجندته المتطرفة على الفلسطينيين عبر استفزازهم الدائم باقتحامات المستوطنين المتكررة بمرافقته للمسجد الأقصى، بل إنه يسعى لفرض أجندته على الشارع الإسرائيلي أيضًا، بمحاولة تغيير الواقع القانوني الناظم لعمل الدولة الإسرائيلية منذ قيامها.
التطرّف والضغط الإسرائيلي، مع صمت العالم عن أفعال إسرائيل، زادا في التطرّف الفلسطيني، وخلقا واقعًا نشأت في مناخه مجموعات صغيرة غير مترابطة وانتحارية، راحت تعمل على طريقة الذئاب المنفردة، وقد واجهتها إسرائيل بمزيد من الاجتياحات والقتل، في جنين ونابلس وحوارة وغيرها من المدن الفلسطينية، وذلك بعد أن كان النضال الفلسطيني يأخذ منحًى مختلفًا وخلاقًا، وقد توّجته الانتفاضة الأولى كانون الأول/ ديسمبر 1987، ثم الانتفاضة الثانية التي بدأت في 28 كانون الثاني/ يناير 2000 وانتهت عمليًا في 8 شباط/ فبراير 2005، اللتان أكسبتا القضية الفلسطينية تأييدًا دوليًا واسعًا بخاصة عند الشعوب الأوروبية، وأشاعتا في المجتمع الإسرائيلي نقاشًا وانقسامًا حول وجوب الدخول في حل لقضية الشعب الفلسطيني، وحول حقّه في تقرير المصير، وبعد أن أفضت تلك النقاشات بعد أربع سنوات من الانتفاضة الأولى إلى وصول إسحاق رابين إلى السلطة وتوقيع اتفاق أوسلو، راح التطرف الإسرائيلي الصاعد يستدعي تطرّفًا فلسطينيًا مضادًا.
يكتب أحد الإسرائيليين (جدعون ليفي) في صحيفة (هآرتس) الإسرائيلية، في 8 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري: “يتحمّل بنيامين نتنياهو مسؤولية ثقيلة جدًا عمّا حدث، وعليه أن يدفع الثمن، لكن الأمر لم يبدأ معه ولن ينتهي بعد رحيله، وعلينا أن نبكي بمرارة على الضحايا الإسرائيليين، لكن علينا أيضًا أن نبكي على غزة، غزة التي معظم سكانها لاجئون خلقتهم أيدي إسرائيل، غزة التي لم تعرف يومًا واحدًا من الحرية”(1).
ثالثًا: رد الفعل الإسرائيلي
تلقّت إسرائيل ضربة قوية كسَرت هيبتها، وستكون لها تداعياتها في الداخل الإسرائيلي، بعد وقف القتال وبدء التحقيقات لتحديد المسؤولين عما حدث وعن الفشل الإسرائيلي الاستخباراتي والعملياتي، لذلك كما هو متوقعٌ من حكومة يمينية، فإن ردة الفعل الإسرائيلية الأولية تمثلت بشنّ عمليات قصف جوي عشوائي وكثيف على قطاع غزة، شمل حتى الآن أكثر من 2000 هدف، منها قصف معبر رفح بين القطاع وسيناء لتعطيل حركة النزوح، ومنع دخول المساعدات، وقد تسبب ذلك في قتل 560 وجرح 5000 من المدنيين الفلسطينيين حتى الآن، ونزوح 250 ألفًا من سكانها، لجأ أغلبهم إلى مدارس الأونروا، ولجأ قسم إلى الحدود مع رفح، وفرضت على القطاع حصارًا خانقًا، حيث قطعت إمدادات الماء والكهرباء والطعام، وفعّلت إسرائيل البند الثامن من قانون الدفاع الإسرائيلي، الذي يعطي الحكومة الحق في شن حرب شاملة، وهو البند الذي لم يُفعّل منذ حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، واستدعت 300 ألف من جنود الاحتياط، كذلك رحّب نتنياهو بدعوة زعيم المعارضة الإسرائيلية يائير ليبيد، بتشكيل حكومة وحدة وطنية لكن بدون شروط مسبقة (2)، وهو الخيار الذي تذهب إليه إسرائيل عادةً عند خوضها حروبًا شاملة، وأكثر نتنياهو من تصريحاته النارية التي تحاول تهدئة الداخل الإسرائيلي والحفاظ على تماسكه، بقوله إن إسرائيل تواجه حربًا وجودية، مهددًا بأن رد الفعل الإسرائيلي سوف يغير خريطة الشرق الأوسط. ولعله يقصد معادلات الصراع في الشرق الأوسط، التي تكون إسرائيل طرفًا فيها، لأن تعديل الخرائط ليس رهن رغبته، وهو خارج إمكاناته موضوعيًا.
رابعًا: في ردود الفعل الإقليمية والدولية
ردود الفعل العربية والإقليمية
أثار حجم الضحايا الإسرائيليين، وممارسات مقاتلي (حماس) بحقّ المدنيين وتوثيقها وبثّها، الهياجَ والعدوانية الإسرائيلية، وقد استعملتها إسرائيل لكسب التأييد لما تفعله. ومن جانب آخر، تسعى مصر -من دون جدوى- لأن توقف عجلة الصراع، وتتوسّط قطر لإجراء صفقة تبادل أسيرات بين حماس وإسرائيل، وكانت حماس قد هددت بأن تُعدم أسيرًا على الهواء، بعد كل هجوم إسرائيلي لا يسبقه إنذار، كعادة إسرائيل في الحروب السابقة، والسعودية من جهتها أصدرت خارجيتها بيانًا دعت فيه إلى وقف التصعيد، وتواصل اتصالاتها مع الدول الفاعلة للضغط على إسرائيل، من أجل وقف عدوانها على المدنيين الفلسطينيين، أما وزير خارجية لبنان، فقد صرّح بأن لبنان لا يريد أن يجرّ إلى حرب لا يستطيع تحمل نتائجها، والمقصود بكلامه هنا “حزب الله”. ومن جهة ثانية حذّرت تركيا من اتساع رقعة الصراع في المنطقة، أما إيران فقد دعت إلى عقد جلسة لدول المؤتمر الإسلامي لبحث التطورات في غزة، وتنصّل المرشد الإيراني علي خامنئي من الاتهامات لإيران بأنها تقف خلف هجوم حماس، وادعى أنهم يدعمون قضية فلسطين، في حين أدانت أغلب الدول العربية القصف الإسرائيلي على غزة.
في ردود الفعل الدولية
هذه هي المرة الأولى التي تحظى فيها إسرائيل بكلّ هذا الدعم والتعاطف الغربي، حيث سارعت كل الدول الغربية إلى إبداء تعاطفها مع إسرائيل، بصفتها ضحية “إرهاب حماس”، في حين ذهبت الولايات المتحدة إلى إعلانها تقديم مساعدات عسكرية وغير عسكرية على وجه السرعة، وأرسلت حاملة طائراتها جيرالد فورد إلى شرق المتوسط، وعززت طيرانها في قواعدها في المنطقة، وحذّر وزير خارجيتها أنطوني بلينكن الأطراف الأخرى من محاولة استغلال ما يجري في غزة والدخول على خطّ الصراع المستجد، والمقصود بالتحذير بداهة إيران وأذرعها في المنطقة، وفي مقدمتهم حزب الله اللبناني، والتحذير ذاته ورد على لسان مسؤول في البنتاغون مهددًا “حزب الله” من مغبة اتخاذ قرار خاطئ بفتح جبهة ثانية مع إسرائيل (3)، وعرضت على إسرائيل التعاون الاستخباراتي لتحرير الأسرى الإسرائيليين في القطاع، ويمكن التدليل على جدية الموقف الأميركي بتلك الجلسة التي عقدها مجلس الأمن الدولي في 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 لبحث التطورات على خلفية هجوم حماس، من دون أن يُصدر المجلس بيانًا رئاسيًا يدعو الأطراف لضبط النفس، مما يدلل على أن الولايات المتحدة قررت إعطاء إسرائيل الوقت الكافي لتصفية حساباتها مع حماس، كذلك صدر بيان مشترك عن الدول الخمس (أميركا، فرنسا، بريطانيا، ألمانيا، إيطاليا) يعلن استعدادها لمساعدة إسرائيل في الدفاع عن نفسها (4)، وأعلن الاتحاد الأوروبي وقف المساعدات التنموية إلى الفلسطينيين، وقدرها 691 مليون يورو سنويًا (5).
خامسًا: حول محور المقاومة وتوسّع دائرة الصراع
اتجهت بعض التوقعات إلى إمكانية دخول “حزب الله” على خط الصراع، لتخفيف العبء عن حماس، كونها أحد مكونات محور المقاومة الممولة والمدعومة من إيران، إلا أن الواقع لم يُظهر ما يوحي بأنّ حزب الله في هذا الوارد، وليس في حسابات إيران هذا الأمر، على الرغم من إطلاق بعض القذائف من جنوب لبنان باتجاه مزارع شبعا في اليوم الثاني للحرب، ومن محاولة تسلّل أربعة مقاتلين تابعين لمنظمة الجهاد الإسلامي في لبنان عبر الشريط الحدودي إلى داخل إسرائيل، حيث خاضوا اشتباكًا مع قوات إسرائيلية أدى إلى جرح ثلاثة جنود إسرائيليين وقتل اثنين من المقاتلين الأربعة، وقد تبع ذلك غارات إسرائيلية على موقع لحزب الله قتل فيها ثلاثة عناصر للحزب وجُرح أربعة، مع ذلك ليس من المرجح أن يُتخذ القرار بدخول الحزب على خط الصراع. وفي السياق، أطلقت قذائف هاون، أول أمس، من “سرية عابدين” في ريف درعا الغربي، باتجاه منطقة “تل الفرس” المحتلة في الجولان السوري، ولم تُطلق من لبنان كي تبقى جبهة لبنان محايدة، ذلك أن “محور المقاومة” ليس في حالة مريحة، ومشغلته إيران ليس من مصلحتها خوض حرب شاملة، فهي تجيد ممارسة حرب الوكالات عبر أذرعها في المنطقة، لكن المقام هنا مختلف، وتصريح نتنياهو بأن “أعداءنا يدركون معنى قدوم حاملة طائرات أميركية إلى السواحل الإسرائيلية”، ليس كلامًا في الفراغ.
سادسًا: استنتاجات
دخول حماس بهذا الشكل والتكلفة الكبيرة التي حمّلتها لإسرائيل، وكسرت هيبتها وقوة الردع الإسرائيلية المدعاة، وضعت إسرائيل أمام تحدٍّ غير مسبوق، سيكون له آثاره على المجتمع الإسرائيلي ذاته، وعلى اتجاهات قواه السياسية.
قياسًا على حجم الخسارة الإسرائيلية على المستويين البشري والمعنوي، وعلى العنف المفرط الذي مارسته إسرائيل على غزة حتى الآن؛ يُتوقع أن تتابع إسرائيل الحرب. وربما تذهب إلى خيارات متقدمة منها اجتياح القطاع، ولكن تكلفة هذا الخيار المميت ستكون دمار غزة وقتل أعداد كبيرة من الفلسطينيين، غير أن اجتياح غزة لن يكون نزهة للإسرائيليين، وسيكلفهم الكثير.
على الرغم من تصريح محمد الضيف، القائد العام لقوات القسّام، بأن “إسرائيل ستكون واهمة، إذا اعتقدت أن الصراع سيبقى محصورًا في غزة”، وعلى الرغم من تصريحات نتنياهو بأن إسرائيل مستعدة لكافة الخيارات، ومن استنفار جيشها على الحدود الشمالية، فإنه من المستبعد دخول “حزب الله” أو الميليشيات الإيرانية الحرب إلى جانب حماس، لا من جنوب لبنان ولا من جبهة الجولان، ولن تستعجل إيران التفريط بما أنجزته، ونظرية ترابط الساحات ليست سوى بروباغندا إيرانية سمجة. وبالمقابل ليس من مصلحة إسرائيل الحرب على أكثر من جبهة، ما لم تضطر إلى ذلك.
بغضّ النظر عن حسابات الربح والخسارة من عملية حماس، فإن أصل المشكلة يكمن في احتلال إسرائيل للأرض الفلسطينية وحصار غزة، والاعتداءات على الأقصى، والاستيطان والتمييز العنصري، ورفض حل الدولتين، ورفض حل الدولة الديمقراطية الواحدة على كامل أرض فلسطين التاريخية. والدعم الغربي الأميركي والأوروبي لإسرائيل، مع إغماض العين عن كلّ ما تفعله، يتحمّل مسؤولية كبيرة في مأساة الفلسطينيين في غزة وفي الضفة وفي الشتات.
المراجع:
1) موقع معًا الفلسطيني: https://www.maannews.net/articles/2102416.html1)
2) وكالة الأناضول تاريخ 8/10/ https://www.aa.com.tr /30108442
3) سكاي نيوز عربي: 2023https://www.aa.com.tr /30108442
4) سكاي نيوز عربي: https://www.skynewsarabia.com/middle-east/1660439
5) موقع العربية https://www.alarabiya.net/arab-and-world/2023/10/10
6) موقع نبض https://nabd.com/s/126231766-81a2215-
مركز حرمون
————————-
عن دوافع “طوفان القدس” والتطرف/ محمود الوهب
مع ازدياد الصلف الإسرائيلي في السنوات القليلة الماضية، وخاصة مع حكومة اليمين الديني المتطرف التي يرأسها سيء السمعة “بنيامين نتنياهو” إلى درجة أنها لم تعد تكتفي بزيادة قضم الأراضي الفلسطينية، وبناء المستوطنات، ولا بقتل الفلسطينيين بسبب أو بدونه، ولا بتجاهل الأمم المتحدة وقراراتها، بل إنها تجاوزت ذلك كلِّه إلى نوع من التحدي الوقح، بالسماح لها ولمن يواليها من غلاة اليهود المتدينين باقتحامهم حرمة المسجد الأقصى لثلاثة أيام على التوالي، والاعتداء بالضرب على بعض الفلسطينيين مسيحيين ومسلمين كانوا هناك، وعبر صمت أمريكي مريب، أما ما هو أكثر خطورة أنَّ تلك الحكومة، وذلك اليمين، أخذا يفصحان عن نواياهما ويعلنان صراحة عن أحلامهما الفعلية بضم كامل ما تبقى من الأراضي الفلسطينية..! وبذلك يسدل الإسرائيلي الستار على القضية الفلسطينية برمتها.. فما الذي أبقاه للفلسطيني غير بذل الروح والدم مقابل الوجود؟! ويتهم بعد ذلك اليمينُ الإسرائيليُ محاولاتِ الفلسطينيين انتزاع حقوقهم، بالتطرف وبداعش كما يتحدث نتنياهو..
ذلك كله لفت انتباه بعض الإسرائيليين الذين يفكِّرون بواقعية، وبمصالح إسرائيل على المدى البعيد.. ولعلَّ ما جاء في مقالة “جدعون ليفي” قراءة دقيقة وتأكيد لذلك! فقد قال في صحيفة “هآرتس” يوم الأحد 8 أكتوبر، أي صباح عملية “طوفان الأقصى” منتقداً وساخراً من بًلَهِ الاحتلال وحمقه:
“فكرنا أنه مسموح لنا أن نفعل أي شيء، نعتقل، نقتل، نسلب، نحمي مستوطِني المذابح، نطلق النار على الأبرياء، نقتلع عيونهم، نهشّم وجوههم، نرحّلهم، نأخذ أراضيهم ونخطفهم من أسرِّتهم، نقوم بتطهير عرقي، نواصل حصاراً جائراً على غزة، وكل شيء سيكون على ما يرام..”.
نعم إنه لوصف دقيق.. وإذا كان واحد من الإسرائيليين شعر بذلك لا لأمر إنساني، بل خشية على أمن إسرائيل ذاتها، فما بالك بمن تنصبُّ على رأسه ويلات الصهاينة فواجع موت وخراب، وعيونه تتطلَّع نحو مجتمع دولي غير مكترث أصلاً، وبخاصة الأمريكان والأوربيين، فلعله يلمس منهم موقفاً يعبِّر عن حسٍّ إنساني ما. لكن الحقيقة البيِّنة أنَّ هؤلاء لا ينتبهون إلى مثل هذا الأمر إلا عندما تنفجر الضحية تعبيراً عن معاناة قهرها، فيسارعون إلى إلصاق تهمة الإرهاب بها..
لا شك بأن إسرائيل قادرة على الاستمرار في عدوانها، وهي تمارسه الآن، وبأساليب وحشية، وعلى نحو أعنف مما كانت تفعله من قبل، فهي تستند إلى ما جرى، وإلى تغطية من الدول “الحضارية” المشار إليها.. هؤلاء الذين لا تستيقظ لديهم المشاعر الإنسانية إلا عندما يحاول بعضهم لجم عنصرية الصهاينة، وردِّ عدوانها المستمر منذ خمسة وسبعين عاماً على الشعب الفلسطيني..
ما يهمنا هنا، وبغض النظر عما إذا كانت إيران قد أوعزت لمنفذي عملية طوفان القدس تغطيةً لتفجير الكلية الحربية في حمص أو لغيرها مما تفكر به إيران، فالعملية جاءت أولاً، في سياق نضال الشعب الفلسطيني الطبيعي، وربما لأول مرة تؤكد أنَّ إمكانية الشعب الفلسطيني المعنوية عالية جداً، كما تؤكد عدالة قضيته، أما قدراته على استخدامها فكبيرة جداً، مع ملاحظة قلة أدواته وضعف فاعليتها، قياساً لما تمتلكه إسرائيل، وعلى الرغم من ميل موازين القوى الدولية لصالح إسرائيل، وتأتي قوة العملية بعد خروج عرب التطبيع من المعادلة كلها.
ثانياً- لا أحد لديه وهم بأن هذه العملية لن تتبعها مآسٍ.. ولكن لا أحد أيضاً يجهل أنها نوعية ومفاجئة، وموجعة للإسرائيلي، وستبقى كابوس رعب يجثم على صدر الإسرائيليين على المدى البعيد لما تشكله من هواجس خوف وقلق دائمين.. فأغلب الإسرائيليين مهاجرون لا يمتلكون على الأرض الفلسطينية من شروط المواطنة غير قوة الجيش مصدراً أساسياً لأمنهم، فضلاً عن الحماية الأمريكية والأوربية ودعمهما.. أكَّد ذلك، منذ يوم العملية، امتلاء مطار “بن غوريون” بآلاف الذاهبين إلى بلدانهم التي قدموا منها، أو سياحة إلى بلدان أخرى (وصل إلى مدينة أنطاليا في تركيا) نحو 1700 زائر خلال يومي السابع والثامن من أكتوبر الجاري ما يؤكد الوجود الهش لهؤلاء المواطنين، وهو ما يذكِّرنا ببدايات انطلاقة حرب تشرين عام 1973..
ثالثاً- قد تؤدي هذه العملية الهائلة بالضحايا المدنيين الذين تجاوزوا الألف من الطرفين حتى الآن، وبعشرات الأسرى، وربما أكثر، والأسرى موجودون عند الفلسطينيين، وتراهم في الصور وهم يساقون إلى المخابئ “خرافاً” أمام شباب فلسطين.. أقول قد تؤدي لا إلى تبادل الأسرى فحسب، بل ربما إلى الإفساح في المجال أمام حل الدولتين الذي ما يزال ينتظر منذ اتفاقية أوسلو 1993 والأخرى التي عرفت بأوسلو2 عام 1995، ثمَّ المبادرة العربية عام 2002.. وكل ذلك لم تلتفت إليه الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة..
رابعاً- سوف يكون لهذ العملية منعكسات سلبية على القوى السياسية الإسرائيلية كلها، وعلى حكومة نتنياهو اليمينية بالذات، وأظنها سوف تسقطها، بغض النظر عما تفعله اليوم، فضلاً عن تأثيرها السلبي على اليمين الديني عموماً، وبخاصة بعد أن تهدأ الأمور قليلاً.. أما الخوف فسوف يبقى معششاً في نفوس الإسرائيليين..
أخيراً يمكن القول إنَّ الحكومة الإسرائيلية سوف تستخدم كل لؤمها وحقدها مداراة لسياستها وتطرفها وجنونها الذي تمارس بوحشية خلال هذين اليومين إذ قتلت حتى الآن 140 طفلاً و105 نساء وصحفيين من بين نحو أكثر من سبعمئة قتيل، وهدمت مئات البيوت فوق ساكنيها والمراكز الصحية، والأماكن التي يمكن أن تكون ملاجئ، ومحلات أو مصانع المنتجات الغذائية والحيوانية، وقطعت الماء والكهرباء عن غزة بالكامل. فماذا نسمي ذلك كله أليس التطرف بعينه؟! لاشك بأن التطرف مرفوض ومدان من أينما جاء، وهو تلويث لمقاومي التطرف إن حصل.. وإذا كان الموقف الأمريكي والغربي عموماً لا يؤازر اليوم أهالي غزة في تعرضهم للإبادة، ويتذرع بالتطرف، فلماذا لم يسارع هؤلاء إلى لجم المتطرفين الإسرائيليين بتطبيق قرارات الأمم المتحدة وأولها قرار التقسيم ذاته.. وإنهاء هذا الملف الذي يقلق المنطقة منذ خمسة وسبعين عاماً..
كلنا شركاء
———————–
عين على غزة/ غطفان غنوم
أمام هذا الصلف والوقاحة الإسرائيلية المدعومة من المجتمع الدولي الذي يفترض به أن يقف موقف المندد بوحشية الرد الاسرائيلي المفرط بالعنف على قطاع غزة، المزدحم بالفلسطينيين الذين يتعرضون لحرب إبادة حقيقية لا تفرق بين كبير أو صغير، شيخ أو امرأة، وفي ظل انهدام كل فرص النجاة والحياة أمام شعب يتعرض أصلًا لحصار اسرائيلي مقيت منذ سنوات طويلة؛ أمام هذا كله يبرز السؤال الأساسي: أين تقف الجيوش العربية مما يجري حاليًا؟
يلقي البعض باللائمة على المقاومة الفلسطينية ويحملها مسؤولية ما يجري في مبالغة تعسفية جدًا، تفترض ضمنًا بأن الكيان الصهيوني ذا السوابق الإجرامية لن يقترف جريمته فيما لو خنع الشعب الفلسطيني لظروفه الموضوعية الإجبارية المفروضة عليه والتي تطوق فرص حياته الكريمة بحقول من الألغام.
هذه الملامة تتناسى تاريخًا طويلًا من الاستفزازات الممنهجة، ومن الضغط الهائل الذي طبق على الشعب الفلسطيني، لتغدو ضغطًا إضافيًا يواجهه الشعب الفلسطيني، فما أصعب وأشد حزنًا أن تبرر موتك وتشرح ظروفه كل يوم وكل ساعة، بينما يصفق العالم لقاتلك الذي تدعمه آلة إعلامية عالمية، مقروءة ورقيًّا، ومشاهدة تلفزيونيًا، ومسموعة إذاعيًا، ومتناقلة عبر وسائل تواصل اجتماعية مشبوهة التوجه.
على الجانب المقابل، تجد الصورة معاكسة تمامًا، فالدعم العالمي للعدوان الاسرائيلي هذه المرة ذهب مذهبًا خياليًا، فقد تجاوز في وقاحته حد المعقول لاختلاق جرائم ونسبها للفلسطينيين ثم الاعتذار علنًا عنها، كما فعل البيت الأبيض.
ولم يغفل هذا الدعم تقديم الأسلحة والعتاد أو الأموال والدعاية التبريرية للجريمة العلنية التي تحدث على مرأى ومسمع العالم كله.
ماركات عالمية معروفة لم تخجل من المباهاة بتقديم الدعم، ومشاهير ونجوم فاخروا بوقوفهم لجانب العدوان دونما تردد.
إذًا نحن في عالم تخلى حتى عن أقنعته التقليدية في الكذب، ودفع بوجه جديد وعنوان جديد للواجهة لا يراعي سوى المصلحة دون أي تلطيف للفعل الهمجي.
المقاومات لا تنشأ من العدم، المقومات الشعبية تنشأ وتتطور مع تطور الصراعات، وتتناسب أساليبها طردا وشدة مع أساليب الاحتلالات والقمع الذي تتعرض له شعوبها.
والمقاومة الفلسطينية بغض النظر عن سياقاتها الداعمة وأهدافها الضمنية أو العلنية ليست استثناء، ولا يمكننا بحال من الأحوال نفي تمتعها بعاملي العقيدة والإدارة، فالعقيدة دفعتها نحو تطوير نفسها عسكريًّا وعلميًّا وصناعيًّا خلال سنوات مريرة من حروب متتالية في مواجهة اسرائيل، والإدارة مكنتها من ترتيب نهج صارم اعتقدت به والتزمت كوادرها بممارسته.
قد يكون العاملان السابقان هما ما تفتقد الجيوش العربية النظامية، التي جردت من فعاليتها واختطف قرارها بيد الحكام، وخاصة المطبعين منهم، منذ اتفاقية كامب ديفيد التي مهدت الطريق للعدو الاسرائيلي للتمدد ثقافيًّا وعسكريًّا في بلدان الجوار دون تلكؤ أو تراخ أو رادع.
واقع الحال العربي المؤسف، يشي بأن المحنة العربية والكارثة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني المتروك، ستستمر لأجل لا يمتلك به العرب شأنًا ولا قرارًا، وأن هذه الجيوش النظامية انتقلت بمهماتها من الدفاع عن الأرض العربية والشعوب لقمعهم.
أن تتفق أو تختلف مع صوابية قرار حماس، فذلك لا يعني أبدًا أن تمنح العدوان الاسرائيلي مباركة تبرير العدوان.
الشعب الفلسطيني في غزة يتعرض لإبادة علنية، وهذا هو العنوان الوحيد الذي يجب أن يكون ماثلًا نصب أعين الجميع، التي أصاب بعضها الرمد وغيرها العمى.
———————
يد حزب الله على الزناد والقرار في طهران… احتمالات انتقال الحرب في غزة إلى سوريا/ عمار جلّو
وضع قائد “فيلق القدس”، إسماعيل قآني، جميع الميليشيات الموالية لإيران الموجودة في سوريا في حالة تأهب قصوى، بعد أيام من لقائه بقادة ميليشيات عراقية لتنسيق جهود الميليشيات الولائية، حيث تقوم غرفة عمليات مشتركة بمراقبة التحركات في سوريا، مع جهوزية لإعطاء القرار بأي عملية.
إذ شنّ سلاح الجوّ الإسرائيلي، ولأول مرة في 12 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، غارات على مطارَي دمشق وحلب معاً، وأخرجهما من الخدمة. واستهدف يوم الثلاثاء الماضي، مواقع عسكريةً في جنوب سوريا، وتصاعدت مناوشات “حزب الله” مع القوات الإسرائيلية عقب عملية “طوفان الأقصى”، كما تصاعدت احتمالات توسّع الحرب المشتعلة في غزة، بين حركة “حماس” والجيش الإسرائيلي.
فالجبهة السورية غير بعيدة عن التصعيد المحتمل، وفقاً لخبيرة مركز الأهرام للدراسات والبحوث الإستراتيجية، رابحة سيف علام، لذا أقدمت إيران على إعادة نشر قوات وصواريخ “الحرس الثوري” من دير الزور إلى الخط الحدودي المطل على هضبة الجولان السوري المحتل، مع استدعائها الضباط المتخصصين في القصف المدفعي على وجه الخصوص للانتشار في هذه المنطقة.
وكان، الرئيس الأمريكي، جو بايدن، قد حذّر خلال اجتماعه بقادة المنظمات اليهودية في أمريكا، “أي طرف آخر معادٍ لإسرائيل يسعى إلى الاستفادة من الوضع في إسرائيل وغزة”، محدداً إيران، دون تسميتها اسمياً، وقال إن عليها “توخي الحذر” وعدم التدخل في الحرب بين إسرائيل وحماس. وعندما سُئل عن إمكانية تدخّل إيران أو “حزب الله”، رد بالقول: “لا تنخرطوا في هذه الحرب”.
بدورها، نقلت دولة الإمارات تحذيراً إلى نظام الأسد في سوريا من التدخل في الحرب بين حماس وإسرائيل، أو السماح بشن هجمات على الأخيرة من الأراضي السورية، حسب موقع أكسيوس.
وسيّر البنتاغون حاملة الطائرات الأمريكية “يو إس إس جيرالد آر فورد”، إلى الشواطئ المحاذية لإسرائيل في البحر الأبيض المتوسط، لتنضم إليها لاحقاً حاملة الطائرات الثانية “يو إس إس دوايت دي إيرزنهاور”، بهدف تحذير إيران والميليشيات الموالية لها، من الانضمام إلى الحرب في غزة، من خلال شنّها هجمات ضد إسرائيل.
إذ إن الخطر الحقيقي لتداعيات عملية “طوفان الأقصى”، حسب الرئيس والمدير التنفيذي لمعهد الشرق الأوسط، بول سالم، يأتي من تشجيع إيران لـ”حزب الله”، وهما لا يرغبان في خسارة رصيد إستراتيجي كـ”حماس”، على فتح جبهة ثانية عبر الحدود المشتركة مع إسرائيل من الجهة السورية أو اللبنانية، منبّهاً إلى تجاوز تبادل إطلاق النار عبر الحدود المشتركة مع لبنان ما كان معهوداً فيها منذ حرب عام 2006.
في المقابل، حذّر الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، من احتمال توسع نطاق الحرب، من خلال فتح جبهات أخرى، عادّاً، خلال اتصال مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أن هذا الاحتمال آخذٌ في الازدياد.
بدوره، رأى وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، أن “وقت الحلول السياسية ينفد، وأن التوسع المحتمل للحرب إلى جبهات أخرى يقترب من المرحلة الحتمية”، ملمّحاً خلال مقابلة مع الإعلام الرسمي الإيراني إلى إمكانية إقدام “جماعات المقاومة” على مباشرة العمل الوقائي الاستباقي، مشيراً إلى أن “”قوى المقاومة في المنطقة تتخذ القرار بنفسها، وتتحرك بنفسها دفاعاً عن استقلال بلدانها والتصدي للاعتداءات الإسرائيلية المتكررة”.
فيما تزعم مصادر غير موثوقة، وصول قرابة 500 من عناصر “الحشد الشعبي العراقي” إلى لبنان وسوريا استعداداً “لأي صراع واسع النطاق قد يحدث مع إسرائيل”.
مبدأ توحيد الجبهات
عملت إيران على زيادة تنسيقها مع وكلائها الإقليميين، من خلال مجموعة واسعة من المظاهر، منها مبدأ وحدة الساحات في مواجهة إسرائيل، حسب المرصد المصري، بهدف رفع كلفة أي تصعيد عسكري إسرائيلي تجاه إيران أو أحد وكلائها، كحالة استخدام الأراضي اللبنانية (والسورية أيضاً)، منطلقاً لاستهداف إسرائيل في نيسان/ أبريل الماضي، برغم عدم تطبيق المبدأ خلال التصعيد الإسرائيلي تجاه حركة الجهاد في أيار/ مايو الفائت، مشيراً إلى اجتماعات أمناء الفصائل الفلسطينية، ثم رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، مع أمين عام “حزب الله” حسن نصر الله، في 6 و9 نيسان/ أبريل الفائت، في بيروت، بالإضافة إلى اجتماعات المسؤولين الإيرانيين الدبلوماسيين والعسكريين مع قادة هذه الفصائل، ما يعزز تفعيل هذا المبدأ.
خلال السنوات الماضية، راكمت الميليشيات الإيرانية مكاسب عدة، لن تضحّي بها دفعةً واحدةً لأجل حماس، حسب الباحث المشارك في المنتدى العربي لتحليل السياسات الإيرانية، مصطفى النعيمي، الذي يعتقد بإمكانية استخدامها تدريجياً وليس دفعةً واحدةً، وفق منطق التصعيد والتصعيد المقابل. ويمكن استقراء الأمر، من ملاحظة عدم تغيّر قواعد الاشتباك المعمول بها سابقاً في جنوب لبنان بين “حزب الله” و”إسرائيل”، حيث يتم الرد على أي ضربة من أحد الطرفين وفق هذه القواعد، دون وجود مؤشرات حالية على تغييرها، وينطبق ذلك على الأراضي السورية، حيث تم الرد على تراشق القذائف الواردة منها وفق القواعد نفسها.
ويقول النعيمي في حديثه إلى رصيف22: “تشترك إيران وإسرائيل في منطق فصل الملفات وعدم الرغبة في توسيع ساحات الاشتباك، بحيث تتفرغ إيران لتسريع جهود تدعيم القدرات العسكرية لـ’حزب الله’، ولعل وصول طائرة شركة ‘ماهان’ الإيرانية، المرتبطة بـ’الحرس الثوري الإيراني’ إلى مطار دمشق يوم الأربعاء الفائت، يعزز هذا الرأي”.
حزب الله والقرار الإيراني
من الصعب تخيّل عدم توسع الصراع خارج حدود غزة، في ظل وجود حلفاء لحماس في لبنان وسوريا في وضع يسمح لهم بالتدخل، حسب تشارلز ليستر، وهو زميل أول ومدير برامج سوريا ومكافحة الإرهاب والتطرف في معهد الشرق الأوسط، خصوصاً بعد مقتل أربعة مقاتلين من “حزب الله”، أحدهم فلسطيني سوري من دمشق، بعد محاولة تسلل برّي ضيّق، أعقبها إطلاق الصواريخ من قبل “حزب الله” على طول الحدود اللبنانية، فيما شوهدت قوة لا تقل عن 100 مقاتل من الميليشيا اللبنانية وسواها من وكلاء إيران وهي تنتشر على الحدود مع مرتفعات الجولان، ما يدلل على أن الحدود “الوتسفالية”، لا تهمّ شبكة وكلاء إيران الإقليمية كثيراً.
نحن أمام سيناريوهين، حسب منسّق تجمع “مصير”، أيمن أبو هاشم: “الأول، وجود توافق إسرائيلي-أمريكي مع إيران، يتم من خلاله تحييدها وعدم تدخلها في هذه الحرب، مقابل ثمن متعلق بتوافقات أمريكية/ غربية بخصوص ملفها النووي وغيره من القضايا العالقة بينهما. وتدعم هذا السيناريو، بعض المؤشرات، ومنها عدم تصعيد الأداة الإيرانية الأقوى في المنطقة، ‘حزب الله’، خارج الحدود المألوفة، بمعنى عدم مشاركته فعلياً بثقله وإمكاناته العسكرية في هذه الحرب. وسينعكس هذا السيناريو على الساحة السورية، بعدم توجيه ضربات إسرائيلية كبيرة أو ساحقة إلى إيران وميليشياتها في سوريا”.
ويضيف في حديثه إلى رصيف22: “يقوم السيناريو الثاني، على تدخّل إيران أو ميليشياتها الإقليمية، مع تصاعد الوضع الخطير في غزة والداخل الفلسطيني، ما يضعنا أمام حرب واسعة تخرج عن نطاق الجغرافيا الفلسطينية. وهو ما يبدو ضعيف الاحتمال ولا يوجد ما يعززه حتى الآن، في ظل تملص إيران من علاقتها بعملية ‘طوفان الأقصى’. لكن في حال أصبح هذا السيناريو واقعاً حقيقياً فسيكون له انعكاسه على الساحة السورية، التي ستصبح مفتوحةً كساحة حرب، وربما ستكون ساحة الحرب الرئيسية ضد إيران وميليشياتها”.
في حال توسّع العمليات الإسرائيلية لاحتلال مساحات شاسعة من غزة، ومحاولة اقتلاع حماس بالكامل، قد يختار “حزب الله” فتح جبهة ثانية، بمباركة إيران، حسب بول سالم، الرئيس والمدير التنفيذي لمعهد الشرق الأوسط، فالطرفان لا يريدان خسارة حماس كأصل إقليمي. ولمواجهة هذا الاحتمال، نقلت إسرائيل بعض القوات إلى حدودها الشمالية مع لبنان، مع التهديد بانتقام إسرائيلي ضد “الجبهة الثانية” لا يدمر لبنان فقط، بل سيتضمن هجمات مدمرةً على إيران وحليفها في دمشق.
ويضيف سالم أن العديد من الميليشيات في لبنان والضفة الغربية وسوريا تتبنى العداء لإسرائيل، كجزء من حملة جنّدها “الحرس الثوري الإيراني” لتطويقها بالأسلحة المقذوفة، وهو ما يثير القلق، وقد استدعى أحد مسؤولي البنتاغون للقول: “في الوقت الحالي نراقب في جميع أنحاء المنطقة بحثاً عن أي مؤشرات أو تحذير من أن هذه الجماعات ستفكر في مواصلة هذا الصراع أو الدخول فيه بطريقة تؤدي إلى تصعيده”.
استهداف إيران في سوريا
مع تطور الصراع، ستضرب إسرائيل في مرحلة ما الأصول الإيرانية في سوريا، ولكن ليس في إيران نفسها، حسب صحيفة “فورين أفريز”، التي أضافت: حتى الآن، استوعبت طهران مثل هذه الضربات في سوريا دون شعورها بالحاجة إلى الرد مباشرةً عليها، بعد إشارتها إلى دعوة البعض في إسرائيل لضرب الأهداف الإيرانية، حتى لو كان ذلك لإرسال إشارة فقط.
يعتقد الكاتب الصحافي ومدير موقع “شرق نيوز”، فراس علاوي، أن “الإسرائيليين يحاولون توسيع نطاق العمليات العسكرية، في مقابل حذر من إيران وأذرعها في جنوب لبنان وجنوب سوريا، وهو ما يُشير إليه النفي شبه المتكرر من قبل إيران بشكل خاص، ومحاولة إلصاق أي عمل من الجنوب بعناصر فلسطينية. وفي الوقت نفسه، هناك محاولة من ‘حزب الله’ لاستغلال الوضع، وإظهار نفسه كمؤيد للعمليات العسكرية، ومؤيد لحماس بتبنّي بعض العمليات”.
وفي إفادته لرصيف22، يقول علاوي: “لا تريد واشنطن توسيع دائرة العمليات العسكرية في الوقت الحالي”، ويعتقد “بوجود محاولة إسرائيلية-أمريكية للتركيز على غزة دون إهمال باقي المحاور، من خلال استهدافها من قبل إسرائيل، بهدف إبقائها غير مستقرة. وفي الوقت نفسه، عدم التصعيد بشكل كامل، حتى يتسنّى لإسرائيل ترتيب أوراقها في المنطقة على الأقل، ويتسنى كذلك للولايات المتحدة ترتيب حضورها في المنطقة. لذا، في المنظور القريب، لن نشهد أي تصعيد”.
ووفق رأيه، يرتبط الأمر بما ستحمله الأيام القادمة: هل ستنجح الوساطات التي تقوم بها الدول خاصةً الدول العربية، أم أن الأمر ذاهب إلى التصعيد؟ مشيراً إلى انتظار معرفة واشنطن مصير المعتقلين الأمريكيين في غزة.
وحسب الزميلة الأولى ومديرة برنامج حل النزاعات وحوارات المسار الثاني في معهد الشرق الأوسط، رندة سليم، هدف إسرائيل التي تلوح في الأفق باقتحام غزة، هو تدمير البنية التحتية العسكرية لحماس، وقتل قيادتها، ونزع منشآت تصنيعها للأسلحة، وسلبها القدرة على إعادة بناء حكمها في غزة. وهذه الأهداف مجتمعةً خط أحمر بالنسبة لـ”حزب الله”، مما يعني أن استهداف البقاء السياسي والجسدي لـ”حماس”، سيوّلد صراعاً أوسع، مشيرةً إلى أن خيار توسّع الصراع مرتبط بالإجابة عن أربع أسئلة:
إمكانية تحقيق إسرائيل لأهدافها المذكورة، بما فيها اغتيال القيادة الرئيسية؟
عمق العملية العسكرية الإسرائيلية في غزة ودمويتها؟
مصداقية التهديد الأمريكي، وإلى متى ستواصل عملياتها الهجومية؟
كيفية تأثير حرب متعددة الجبهات على الرأي العام في المنطقة وخارجها؟
رصيف 22
—————————
لماذا نحب أوطاننا ونضحي في سبيلها؟/ إيناس حقي
منذ أن اندلع الربيع العربي واستشرست السلطات العربية في مواجهة معارضيها، بدأت موجات هجرة عربية جديدة يتقدمها السوريون بحكم حجم العنف الذي طبقه النظام السوري في مواجهة الانتفاضة الشعبية العارمة، وطلع علينا موالو الأنظمة بمقولات تتهم المغادر لوطنه بالخيانة، من نوع الجملة التي كررها كثير من السوريين: “الوطن ليس فندقاً نغادره حين تسوء الخدمة”، ولكنني أتساءل ما هو الوطن إذاً؟ إن لم يكن الأمان والاستقرار، إن لم يكن إحساس الانتماء هو معادل المواطنة؟
صحيح أن المنفيين من أوطانهم يعانون من آلام الفراق، ويحاولون استعادة الوطن الضائع بشتى الوسائل، ولعل أبسط وسيلة متوفرة مرتبطة بأطباق الطعام، إذ يتداولون المواقع التي توفر المواد الأولية، وعناوين االمحلات التركية والعربية. يتذمر اللاجئون بلا هوادة من أوطانهم الجديدة رغم أنها لاتقارن من أي باب من الأبواب بالأوطان القديمة، أتذكر أنني قرأت منشوراً على فيسبوك كتبه أحد الأصدقاء اللاجئين في دولة اسكندنافية يستغرب فيه أنه يعيش في دولة صنفت الأولى في العالم في مؤشر السعادة، وتساءل: لمَ أشعر بالكآبة إذاً؟ ولكن كل هذه الغربة وصعوباتها، جعلتني أفكر بمبدأ حب الوطن والتضحية في سبيله. مما أوصلني لسؤال: “لم نحب أوطاننا؟ وكيف نتبنى مبدأ التضحية بالنفس في سبيل الوطن؟”.
أفكر بأن الوطن لا يمكن أن يكون البقعة الجغرافية بقدر ما هو الناس وعلاقاتنا بها وشعور الإلفة في المكان الذي نعتاده، ولكنني أعتقد أيضاً أن الوطن هو قدرتنا على فهم وتوقع آليات الحياة، وأن أصعب ما نواجهه في الغربة هو عدم إمكانية التوقع لأننا نعجز عن الفهم لاسيما فيما يتعلق بالتفاصيل الإدارية في الدول البيرقراطية وفي مقدمتها فرنسا.
أؤمن بما قاله يانيس فاروفاكس وزير المالية اليوناني الأسبق وعضو حركة ديم25: “ليست الحدود إلا خدشاً على سطح الأرض، ليس لها أي معنى، كل ما تفعله هو زيادة أرباح تجار البشر”. وأؤمن أيضاً أن حدود سوريا هي حدود فرضت علينا بموجب اتفاقية لم نشارك في اختيارها. وبالتالي لا يفترض أن ننتمي لمكان بقدر ما ننتمي للكوكب الذي نعيش فيه وللبشر في كل مكان، ولكن هل أستطيع تطبيق قناعاتي النظرية عندما يصبح الوطن وحدوده التي نرفضها على المحك؟
أفكر منذ سنوات بمسألة حب الوطن، ولاسيما في الحالة السورية والأعقد ربما في الحالة الفلسطينية، فقد خلقنا وانتمينا إلى أوطان يدفع أبناؤها بلا توقف ثمن الانتماء إليها، وسط عجز المتعاطفين وتواطؤ العالم. يقدم أبناء وبنات هذه الأوطان الكثير فيما يقدم لهم الوطن القليل وقد لا يعطيهم شيئاً. لا فرص، لا مستقبل، لا جوازات سفر، لا حقوق، ولكنهم بالمقابل مستعدون لفداء هذه الأوطان بحياتهم. ما هو السر؟أعتقد أن السر هو كم الظلم الذي يتعرضون له، ورغبة دفينة بالحرية والكرامة، أحب أن أعتقد أن السعي للحرية أصيل في الإنسان وأن التضحية في سبيل الوطن إنما هي تضحية في سبيل قيمة الحرية المجردة التي تعلو على المساحة الجغرافية والمكانية. ولكنني أتمنى بالمقابل أن تسمح أوطاننا لمواطنيها بالتضحية دون أن يكون الموت هو الثمن، ودون أن تكون الحرب هي الوسيلة، وأتذكر مشاهد من الفيلم البديع “كل شيء هادئ على الجبهة الغربية” الذي حصد أوسكار أفضل فيلم أجنبي العام الماضي، إذ يتناول القادة العسكريون الطعام الفاخر ويتذمرون من أن المعجنات ليست طازجة فيما يناقشون شروط وقف إطلاق النار، على حين يتضور العسكر على الجبهة جوعاً ويموتون بشكل عبثي ودون تحقيق تقدم يذكر. أكره الحرب، أكره مبدأ القتل، ولا أصدق أن البشرية في عصرنا هذا لم تتوصل إلى طريقة أخرى لحل النزاعات، أو لعل البشرية وجدت طرقاً أخرى لكن الإرادات السياسية ومعامل السلاح لها رأي آخر.
حين نعجز عن العيش، ويصبح خيار التمسك بالوطن رديفاً للموت، هل علينا البقاء؟ لاجواب لدي، لا سيما أنني فضلت النجاة والحياة مما حملني عقدة وذنب الناجي تجاه أولئك الذين بقوا يتحملون وطأة الظلم والعنف ويواجهون بكل شجاعة ويدفعون ثمن خيارهم بالبقاء بكل بسالة.
منذ بدأ قصف غزة في الأيام الماضية وأنا أفكر، ماذا إن لم تكن المغادرة خياراً؟ ماذا عن الحصار المطبق؟ ماذا إن كانت الخيارات هي خيار واحد؟ يكاد وضع أهل غزة من المدنيين العزل اليوم يكون التجسيد الحي للظلم الذي يعيشه كل مهمشي العالم.
لا ترتبط كل هذه التداعيات بفكرة الحق، فالحق هو أن يعيش كل أبناء هذا الكوكب بسلام، ولاسيما أن موارده تكفيهم جميعاً ليعيشوا باكتفاء ودون عنف، وأن ينسجموا مع الطبيعة ويعيشوا جنباً إلى جنب مع كائنات هذا الكوكب، ولكن واقعنا اليوم يختلف كثيراً، وجذر هذا الاختلاف هو نظام عالمي متوحش، تتركز فيه السلطة والمال في يد الأقلية التي تسحق وتستغل وتدعم القوي وتقتل الضعيف وتسرقه دون النظر إلى أي حق ودون الاستناد إلى أي شرعة يمكن أن تحكم البشرية. يلجأ المظلومون اليوم إلى مؤسسة الأمم المتحدة التي يتكون مجلس أمنها من الأقوياء والمعتدين أنفسهم الذين يعطلون القانون ويسيرون العالم على هواهم.
أقلب صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، وأتأمل كم نحن كثر، أبناء الظلم، وكم هم قلة أولئك المتحكمون وحملة شرعة العنف، لم لا نستطيع مواجهتهم إذاً؟ لم نعجز عن الاجتماع والصراخ رافضين؟ أعتقد أن القلة تخشى أكثر ما تخشاه اجتماعنا وتعمل كل بكل ما أوتيت من شرور على تفريقنا، وإلهائنا بالخلاص الفردي والأزمات اليومية، تشغلنا بلقمة الخبز وتأمين الاحتياجات كي لا يكون لدينا رفاهية التفكير والأهم كي لا نجتمع، ولكن الأمل يبقى أن أجيالاً شابة تمتلك كل القدرة على التواصل والتفكير، ولعلنا نستيقظ يوماً على طوفان من البشر الرافضين للظلم، الباحثين عن العدالة، الذين يؤمنون بحقهم وحق غيرهم في الحياة والحرية والعدالة، وكما قال ياسين الحاج في عنوان كتابه: “بالخلاص ياشباب”.
رصيف 22
————————–
“متجهون نحو كارثة صحية عظيمة”…. نداءات من داخل قطاع غزة/ زينة شهلا
“تحذير! السيطرة على الأوبئة ستكون صعبة بسبب نقص المياه في ظل استمرار عدوان الاحتلال”. بيان مقتضب خرج من مسؤول دائرة العدوى في وزارة الصحة الفلسطينية صباح الثلاثاء الفائت، ونقله تلفزيون فلسطين، وتحدث عن واحد من الجوانب الكارثية التي تنتظر أكثر من مليونين من سكان قطاع غزة، بعد عشرة أيام من القصف المستمر والحصار المطبق إثر انطلاق عملية “طوفان الأقصى” صباح السابع من تشرين الأول/ أكتوبر.
على مدار الساعة، تنتشر بيانات وتحذيرات من جهات فلسطينية محلية، ومؤسسات أممية ودولية عاملة في قطاع غزة أو خارجه حول مدى كارثية الوضع نتيجة القصف غير المسبوق على كافة أنحاء القطاع وتدمير البنى التحتية إلى جانب الحصار المطبق، ونحن هنا نتحدث عن منطقة كانت تعاني أساساً من بنى تحتية متهالكة بفعل سنوات الحصار الطويلة.
فإلى جانب الخسائر البشرية والمادية الهائلة التي تكبدها القطاع والتي وصفت حتى اليوم بأنها “غير مسبوقة” في أي من الحروب السابقة التي عاشتها فلسطين، فإن عدداً من الكوارث الصحية والبيئية تتهدد السكان، وتزيد من الحاجة إلى هدنة إنسانية فورية وفق ما تطالب به المنظمات كافة، لفتح ممرات آمنة ودخول كل أنواع المساعدات الضرورية وإمكانية دعم القطاعات الطبية والصحية وغيرها، قبل أن “ينفد الوقت”.
نقص المياه وانتشار الأمراض
يوم الثلاثاء، أشارت وكالة غوث وتشغيل لاجئي فلسطين “الأنروا” إلى أن “شح المياه يمثل مشكلة كبرى في غزة”، محذرة من أن “الناس سيموتون إذا لم يتوفر الماء، وسيصابون بالجفاف والأمراض المنقولة عبر الماء، في ظل انهيار خدمات المياه والصرف الصحي بما في ذلك إغلاق آخر محطة في غزة لتحلية مياه البحر يوم الاثنين”. كما نوّهت اللجنة الدولية للصليب الأحمر إلى أن “الأسر في غزة تعاني بالفعل من صعوبة الحصول على مياه نظيفة”، مضيفة بأن الأهالي لا يحتملون بأن يسقوا أطفالهم العطشانين ماء ملوثاً.
ويعاني القطاع أساساً من عجز حاد في موضوع المياه، إذ يفتقد أكثر من 90 بالمائة من سكانه للمياه العذبة، وتتمثل مصادر المياه التي يعتمد عليها في الخزان الجوفي ومياه شركة “مكروت”، وهما مصدران تتحكم بهما قوات الاحتلال، إلى جانب محطات تحلية مياه البحر وتجميع مياه الأمطار لكنهما مصدران يعانيان من محدودية الإنتاج وسوء البنية التحتية. أما مع العملية العسكرية الأخيرة، وانقطاع الكهرباء، وقطع سلطات الاحتلال التام للمياه عن غزة، فإن الحصول على المياه بات أشبه بالمستحيل.
سيؤدي كل ذلك دون شك لآثار كارثية على صحة سكان القطاع، فالأمر لا يقتصر على “العطش”، بل يتعداه لانتشار الأمراض، والحفاظ على النظافة الشخصية، وغيرها من الممارسات. وقد أشارت منظمة أوكسفام يوم الثلاثاء إلى أن “الوضع في غزة يهدد بأن تصبح أرضاً خصبة للكوليرا وأمراض أخرى. كما قالت وزيرة الصحة الفلسطينية مي الكيلة خلال مؤتمر صحافي يوم الأربعاء بأن “انقطاع المياه وتدهور منظومة الصرف الصحي يزيدان مخاطر تفشي الأمراض السارية”.
الاكتظاظ داخل الملاجئ
“أكثر ما يقلقنا اليوم هو تكدس النازحين في مراكز الإيواء، المجهزة بإمدادات مياه ومواد صحية شحيحة جداً، وفي كل مركز ما يزيد عن 5000 نازح”، يتحدث أحد عمال الإغاثة في جنوب قطاع غزة لرصيف22، مفضّلاً عدم التصريح باسمه. وتقدر منظمة الأنروا أن قرابة مليون شخص نزحوا داخل قطاع غزة منذ بداية الحرب.
ويشرح المتحدث أكثر بالقول: “مراكز الإيواء في مدينة غزة والشمال متروكة بسبب إجبار الاحتلال المؤسسات الأممية والدولية على المغادرة، ما أدى إلى ترك ما يزيد عن 200 ألف نازح في المراكز بلا خدمات، إلى جانب ذلك هناك ما يقرب من 500 ألف نازح ترك شمال غزة ومدينة غزة باتجاه الجنوب”.
ينتشر النازحون الآن وفق المتحدث في أماكن عشوائية أو في منازل أقارب ومعارف، بالإضافة إلى دور العبادة وما شابه، في حين أن مراكز الإيواء طافحة والخدمات فيها أقل بكثير مما يلزم، ويتابع: “هناك نقص كبير جداً في مياه الشرب والمياه بشكل عام، وهناك غياب تام لمواد النظافة والتعقيم، وهناك أيضاً عجز كبير في توفير احتياجات النساء والأطفال والحوامل وذوي الأمراض المزمنة”. وقد تحدث موظفون في منظمة أوكسفام عن أن “الملاجئ غير مجهزة أبداً، فهي عبارة عن مجرد مدارس”.
إلى ذلك، هناك صعوبات بالغة في جمع النفايات ما يعني تكدسها وتحولها إلى مصدر للأمراض وخطر كبير على البيئة، إذ لم تجمع هذه النفايات بمختلف أنواعها منذ اليوم الأول لانطلاق العمليات العسكرية والقصف على القطاع، وباتت القوارض والحشرات تنتشر في مختلف المناطق، والسكان يشتكون من عوارض صحية مرتبطة بهذا الأمر. يضاف إلى ذلك تكدس الجثث وعدم القدرة دوماً على دفنها بالسرعة المطلوبة، ما يزيد من خطر انتشار الأوبئة بسبب تحللها.
كعاملين في القطاع الإنساني، يحاول متحدثنا ومن معه من زملاء توفير احتياجات النازحين الأساسية، “لكن في ظل منع دخول المساعدات والوقود والدعم الطبي والإنساني فإن وضعنا مأسوي وخدماتنا ضعيفة”، يقول. ويختم: “حتى الآن يصعب تقدير الأمور، لكنها ذاهبة باتجاه مكرهة صحية عظيمة. إذا استمر الحال هكذا فمن المحتمل جداً مواجهة بعض الأوبئة والأمراض الجلدية والأمراض الخطرة كمرض السحايا”.
خليط مدمر من الأسلحة
منذ بداية طوفان الأقصى، أبلغ مواطنون ومراسلون وخبراء عن استخدام إسرائيل أنواع أسلحة مختلفة وحديثة في قصف غزة، بعضها محرّم دولياً مثل الفوسفور الأبيض واليورانيوم المنضب، وهو أمر أكدته هيومن رايتس ووتش في تقريرها الصادر بتاريخ 12 تشرين الأول/ أكتوبر. إلى جانب العديد من القنابل والذخائر المتفجرة ذات القدرات التدميرية الهائلة، والتي أشار كثير من شهود العيان لكونها “غير مسبوقة”.
ومن الشهادات حول الأنواع المختلفة من الأسلحة المستخدمة، ما نشره تلفزيون فلسطين حول “حزام من القنابل ألقتها قبل قليل طائرات الاحتلال شكلت سحابة دخان غير معروف التكوين فوق حي الزيتون شرق مدينة غزة”، وكذلك ما أشار إليه تقرير صادر عن المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان عن “إصابات غريبة في غزة بسبب نوعية الأسلحة المستخدمة”.
عدا القتل والتدمير، فإن لاستخدام هذه الأسلحة آثار صحية وبيئية طويلة المدى. بالنسبة للفوسفور الأبيض، فهو مادة حارقة شديدة الاشتعال، لها تأثير حارق كبير على البشر، ويمكن أن تشعل النار في المباني والحقول، ولها تأثيرات مدمرة على البيئة والنباتات وقد تبقى عالقة في التربة العميقة لعدة سنوات دون أي تغيرات. أما اليورانيوم فهو معدن سام يمكن أن يؤثر على وظائف مختلفة في جسم الإنسان لدى التعرض له، كما أن بقاء مخلفاته وتأثيرات نشاطه الإشعاعي يمكن أن تؤدي لإصابات بالسرطانات وغيرها من الأمراض الخطيرة المزمنة، وكذلك آثار سلبية للغاية على البيئة والتربة والكائنات الحية.
سيحتاج الكشف عن الكوارث التي ستلحقها الحرب الأخيرة والأسلحة المستخدمة فيها على صحة سكان غزة وجودة الحياة والبيئة فيها، سنوات طويلة. قبل قرابة أربعة أعوام، نشرت “مجلة إدارة المخاطر والكوارث” دراسة حول تلوث التربة والمياه شمال قطاع غزة بفعل قصف قوات الاحتلال، وبينت بأن مستويات هذا التلوث أعلى من الحد المسموح به من منظمة الصحة العالمية. وهذه الحرب لن تكون استثناء.
رصيف 22
———————-
==================