أوقفوا حرب الابادة الجماعية التي تقوم بها اسرائيل في غزة – مقالات لكتاب سوريين حصرا- القسم الثاني
القسم الأول من هذا الملف على الرابط التالي:
أوقفوا حرب الابادة الجماعية التي تقوم بها اسرائيل في غزة – مقالات لكتاب سوريين حصرا- القسم الأول
صنفت هذه المقالات في هذا الملف حسب الموقع الذي نشرت فيه ورتبت حسب التاريخ، الأحدث في الأعلى.
————————————-
تحديث 08 كانون الثاني 2024
======================
القدس العربي
————————
غزّة والعداء للسامية: اهتراء مضطرد لفزّاعة عتيقة/ صبحي حديدي
4 – يناير – 2024
قرار (أو بالأحرى: اضطرار وإجبار) كلودين غاي، رئيسة جامعة هارفارد الأمريكية، الاستقالة من منصبها مؤخراً، كان فصلاً إضافياً، ولعله الأكثر دراماتيكية حتى الساعة، في جولات «صيد السَحَرة» التي يديرها اليمين وغالبية مجموعات الضغط اليهودية والإسرائيلية في الولايات المتحدة، ضدّ الحياة الأكاديمية عموماً، وحرّيات التعبير داخل الحرم الجامعي للطلاب والأساتذة خصوصاً. الخلفية ليست خافية البتة، إذْ أنها تدور علانية حول المواقف من حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة، وكذلك في عموم فلسطين التاريخية؛ وأمّا جذورها فتضرب عميقاً في ذهنيات محافظة ويمينية عريقة، لا تنحسر تارة إلا لتتصاعد أكثر وأشدّ شراسة تارة أخرى.
ونتيجة جلسة استماع في الكونغرس، مطلع كانون الأول (ديسمبر) الماضي، لثلاث من رئيسات جامعات أمريكية بارزة، حول التسامح مع خطابات وأنشطة للطلاب مناصرة للفلسطينيين اعتُبرت معادية للسامية؛ سارعت إليزابيث ماجيل من جامعة بنسلفانيا إلى الاستقالة، تبعتها غاي مؤخراً، ولم يبقَ في الميدان سوى سالي كورنبلث من معهد ماساشوستس. طريف، ولافت تماماً، أنّ رأس الحربة في الاستجواب كانت النائبة عن الحزب الجمهوري إليز ستيفانيك، الشهيرة بوقوفها خلف ادعاءات الرئيس الأمريكي السابق ببطلان الانتخابات الرئاسية لعام 2020، والأشهر بأنها من دعاة نظرية «الاستبدال الكبير» العنصرية القائلة بمحو الأمريكيين البيض على أيدي مهاجرين غير بيض؛ ثمّ الأكثر شهرة في إعلانات دعائية عنصرية فحّة خلال حملتها الانتخابية.
لم تغبْ عن ملابسات قيادة ستيفانيك للاستجواب في الكونغرس حقيقةُ أنها كانت تمارس طرازاً من الانتقام الشخصي، بالنظر إلى أنّ هيئة معهد السياسة في جامعة هارفارد سبق أن أبعدتها عن عضوية الهيئة بسبب مزاعمها الزائفة حول نتائج الانتخابات الرئاسية. صحيح أنّ غاي لم تكن يومها رئيسة الجامعة، فهي لم تشغل المنصب سوى ستة أشهر؛ وأنّ هيئة إدارة المعهد مستقلّة في قراراتها؛ إلا أنّ رغبة معاقبة الجامعة يصعب أن تُستبعد من مجموعة نوازع متأصلة لدى ستيفانيك وأضرابها من ممثلي اليمين المحافظ، حول اتهام الجامعات الأمريكية بالخضوع لتيارات اليسار ونظريات ما بعد الاستعمار والـ»ووك»…
وفي مقال رأي، نشرته بالأمس صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية، تطرقت غاي إلى عدد من النقاط التي اعتبرت أنها تكمن فعلياً في خلفية استقالتها، أو بالأحرى اضطرارها إلى هذا القرار؛ على رأسها «مساءلة التزامي بمحاربة العداء للسامية» ولكنّ مضمونها الأبرز هو «نسف المُثُل التي أحيت هارفارد منذ تأسيسها: التميّز، الانفتاح، الاستقلال، والحقيقة». وأولى نتائج حملة ستيفانيك وأضرابها تمثلت في إغراق بريد غاي برسائل الشتائم، والتهديد بالقتل، وإطلاق صفة الـN-word التي تشير إلى المحتد الزنجي. ولم تغفل غاي التشديد على التالي: «الحملة ضدي كانت تتجاوز جامعة واحدة ورئيساً واحداً. ذلك كان مجرد اشتباك واحد في حرب أعرض لتقويض الإيمان العام بأعمدة المجتمع الأمريكي». وهذا لأنّ «المؤسسات الموثوقة من كلّ الأنماط، من الصحة العامة إلى وكالات الأنباء، سوف تسقط على الدوام ضحية محاولات منسقة لتدمير شرعيتها وتخريب مصداقية قادتها».
وفي فقرة، حاسمة على نحو خاص لأنها تضرب بجذور الواقعة في أعماق أخرى ليست أقلّ مغزى على مستويات اجتماعية وسياسية وسلوكية وإيديولوجية، تكتب غاي: «لست غافلة أنني أشكّل مادة خام مثالية يُرشق عليها كلّ قلق حول المتغيرات الأجيالية والديمغرافية التي تحيط بالحرم الجامعي: امرأة سوداء اختيرت لقيادة مؤسسة مرموقة. امرأة تنظر إلى التنوّع كمصدر للقوّة والدينامية المؤسسية. امرأة دافعت عن المناهج الحديثة التي تتراوح بين علم الكمّ إلى تاريخ الأمريكيين الآسويين المهمل طويلاً. امرأة تؤمن بأنّ ابنة مهاجرين من هاييتي يمكن أن تقدّم شيئاً للجامعة الأقدم عند الأمّة».
والحال أنّ واقعة استجواب قيادات الجامعات على خلفية التهمة العتيقة، العداء للسامية مترافقة مع معاداة الصهيونية، تدخل في سياق أوسع نطاقاً وحمّال دلالات عديدة؛ هو، في إيجاز قد لا يقتضي الكثير من التفصيل، الاهتراء المتصاعد لسياجات التحريم التي كانت تحظر، في مستويات ردعية قانونية وتشريعية، التطرّق إلى المفهوم في ذاته، أوّلاً؛ فكيف بتدقيق أصوله التاريخية والاجتماعية والأخلاقية والثقافية، وكيف (تحديداً، في الواقع) بما اكتنفه ويكتنفه من أساطير وخرافات، ومن تشويه وتلفيق واختلاق. ذلك لأنّ جرائم الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، وحروب الإبادة والتطهير العرقي واستهداف المشافي والمدارس والملاجئ والأسواق، وممارسات النهب التي تبدأ من الأطفال الرضع ولا تنتهي عند مكاتب الصرافة… أسقطت، وتواصل إسقاط، المحرّم والممنوع والمسكوت عنه بصدد المعنى الفعلي للتهمة العتيقة، وما إذا كانت مجرّد فزّاعة لدى دولة الاحتلال وأنصارها مجموعات الضغط الصهيونية واليهودية، أخذت تتآكل وتهترئ وتنكشف.
وأيّ تطرّق، جدّي الطابع ومنعتق من كوابح التحريم، إلى شيوع العداء للسامية في الولايات المتحدة تخصيصاً؛ لا يصحّ، منهجياً على الأقلّ، أن يتجاهل الواقعة النوعية التي شهدت إقدام المواطن الأمريكي جيمس فون برون، 88 سنة، على اقتحام متحف الهولوكوست في قلب واشنطن، على مرمى النظر من البيت الأبيض، مدججاً ببندقية، حيث أطلق النار فجرح عدداً من حرس المتحف وأودى بحياة أحدهم، قبل أن يخرّ هو نفسه صريع طلقاتهم. كان الرجل، للإشارة المفيدة، أبيض البشرة، ضابطاً سابقاً في البحرية الأمريكية خلال الحرب العالمية الثانية، حائزاً على أربع نجوم تقدير بسبب بسالته في القتال، حامل بكالوريوس في الصحافة، وعضواً في جمعية Mensa التي تزعم أنها تضمّ الـ 2٪ الأذكى في الولايات المتحدة.
المعلومات التمهيدية أفادت بأنّ الرجل لم يكن يخفي أفكاره الكارهة لليهود، وهذا ما يلمسه المرء دون عناء عند زيارة موقعه الشخصي على الإنترنت، وقراءة بعض كتاباته وبينها مقالة بعنوان «خطأ هتلر الأسوأ: أنه لم يحرق اليهود بالغاز!» على سبيل المثال الأوضح. كان لديه، كذلك، كتاب بعنوان مستمدّ من عبارة شهيرة جاءت في التلمود، وتُنسب إلى الحاخام شمعون بن يوشاي، تقول بالحرف: «أقتلوا حتى الأخيار في صفوف الوثنيين اللايهود» والتي تبدو ـ إذا انتُزعت من سياقاتها التاريخية والحربية الصرفة، كما يساجل بعض فقهاء التلمود ـ دعوة صريحة إلى الإبادة الجماعية.
لكنّ فون برون، على نقيض ما حاولت أن توحي به وسائل الإعلام الأمريكية، لم يكن حالة «منعزلة تماماً» سواء على المستوى الفردي، أو حتى ضمن نطاق منظمته التي يطلق عليها اسم «إمبراطورية الغرب المقدّسة»؛ بل يندرج في تراث أمريكي واسع ضارب الجذور، لعلّ «جبهة العاصفة» Stormfront هي أفضل تعبيراته اليوم. وهذه المنظمة أطلقها سنة 1994 دون بلاك القيادي السابق في منظمة Ku Klux Klan العنصرية، ثمّ القيادي في «حزب البيض القومي» الذي كان اسمه «الحزب النازي الأمريكي» حتى العام 1967. وتقول الإحصائيات إنّ عدد زائري الموقع ارتفع من 5000 سنة 2000 إلى 52,500 سنة 2005، كما أنّ أعداد المنتسبين الجدد إلى هذه المنظمة تجاوزت الـ 2000 بعد وقت قصير من إعلان فوز باراك أوباما في الانتخابات الرئاسية.
والأرجح أنّ النائبة الأمريكية ستيفانيك تدرك جيداً طبائع الروابط الوثيقة بين العداء للمهاجرين والعداء لليهود، ضمن نظرية «الاستبدال الكبير» ذاتها في المقام الأوّل؛ وأنّ اهتراء فزاعة العداء للسامية يمكن أن يطلق وحوش النظرية من مكامن المحرّم فيكرس سياج التحريم، بما يعني أنّ الإطاحة بأمثال رئيسة جامعة هارفارد لن يكون أكثر فداحة من مزحة… ثقيلة الظلّ!
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
—————————-
إسرائيل والمذبحة الفلسطينية/ غسان المفلح
4 – يناير – 2024
في كل حرب تقوم بها إسرائيل على جزء فلسطيني، تهتم البشر بتفاصيل هذه الحرب.
أعداد القتلى والجرحى، حجم التدمير في البنى التحتية الذي طال هذا الجزء من فلسطين.
تهتم بالتفاصيل السياسية المرافقة لهذا الحدث، مفاوضات، مسؤولون من دول عدة يتنقلون بين العواصم الدولية والإقليمية من أجل وقف القتل الإسرائيلي في هذا الجزء أو ذاك من فلسطين. يتركز التداول في هذا الحقل على هدنة أو على إيقاف هذه الحرب التي تشنها إسرائيل.
هذا ما يغطيه الإعلام عموما في هذا الوقت من العدوان على غزة. إنها رواية المذبحة الأساس. إنها راوية استطاعت القوى الداعمة لإسرائيل والمساهمة الأساسية في نشوء الدولة- المذبحة.
تركت مسافة مليئة بالأحداث والتفاصيل والقتل والاقتلاع وتشريد الفلسطينيين في أصقاع الأرض، بين أي حدث طارئ في هذه السيرة الإسرائيلية، وبين التأسيس المذبحة.
لحظة التأسيس
لم هذا التأسيس مطروحا على الطاولة منذ عدة عقود. نحن الآن نتحدث عن طرف فلسطيني فيه من الصفات والعيوب الكثير، بوصفه السبب في قيام مذابح قطاعية في هذا الجزء أو ذاك من فلسطين.
الآن حماس والجهاد الإسلامي، قبلها فتح والفصائل الأخرى الفلسطينية، وقبلها أيضا خطف الطائرات من قبل منظمات محسوبة على المقاومة الفلسطينية. في العدوان الجاري الآن على غزة يحدث أيضا إبعاد المسافة عن لحظة التأسيس ومتطلباتها وتفاصيلها، هذه اللحظة هي سبب القتل الحاصل على الفلسطينيين. هي سبب الإبادة المستمرة تحت يافطات شتى. ليبرز دوما عدو فلسطيني مجسد، له اسم. تبرزه وسائل الإعلام الدولية والغربية خاصة والأمريكية بشكل أخص. الآن وفي هذه اللحظة بالذات هنالك عدو إرهابي نحن كغربيين صنفناه بذلك. هنا مربض الفرس عدو أيضا قطاعي أو جزئي راهن في هذه الحرب أو هذا العدوان. ليبرز عنوان عريض “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”.
المسافة الزمنية والحدثية وأعداد القتلى والمشردين المقتلعين من أرضهم بفعل الكثافة النارية الإسرائيلية والكثافة التسويقية الغربية للرواية الإسرائيلية العارضة دوما. إنها الآن كما أسلفت “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”.
هي المسافة بين كل عدوان وبين الحدث الأصلي، هو قيام إسرائيل المذبحة. بفعل ميزان القوى الكاسح منذ أربعينيات القرن العشرين أو العقد الزمني للحظة التأسيسية هذه، وبين العدوان الحالي على غزة نتحدث عن ثمانية عقود من السنين.
إعادة السيناريو
في كل عدوان يعاد السيناريو نفسه، بغض النظر عن التفاصيل التي تختلف من عدوان إسرائيلي إلى آخر. لم تعد اللحظة التأسيسية مطروحة على الطاولة. البشرية كلها نسيت هذه اللحظة بما فيها المستوى السياسي الفلسطيني، بكل فصائله وتعقيدات هذا المستوى.
لا يمكننا فهم هذا التوحش الإسرائيلي في غزة، هذا الحجم من التدمير، هذه الأعداد الكبيرة من القتلى والجرحى. هذه الشراسة الإعلامية المرافقة أيضا لهذا العدوان، إلا إذا عدنا إلى الحدث الأصلي.
إنه تأسيس إسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني. لحظة التأسيس هذه بنيت وتمت رعايتها من قبل ميزان قوى دولي كاسح آنذاك، بنيت على أساس واحد هو إنهاء الوجود الفلسطيني. إنهاء أي تعبيرات سياسية فلسطينية من أي نوع كان.
لا يحق للفلسطيني المقتلع أن يكون له تمثيل سياسي لأنه أساسا بلا قضية. لا يحق للاجئ الفلسطيني أن يعود إلى دياره، حيث لا ديار له، إنها الأرض التي تمتلكها عصابات أرض الميعاد.
هذه الأسطورة، عصابات أرض الميعاد تمتلك هذه الأرض الفلسطينية حتى قبل أن تأتي إليها في زمن التأسيس ذاك. لا يمكننا فهم أي عدوان قطاعي إسرائيلي على الفلسطينيين دون العودة للحظة التأسيس هذه.
للسيرة الإسرائيلية التأسيسية هذه وجه آخر لابد لنا من التعرض له ولو بعجالة. حسنا نحن كغرب ساهمنا بتأسيس إسرائيل، بقي أن نملأ البناء المؤسس بنظام ديمقراطي!! كي يتفوق عنصريا على جيرانه من العرب بوصفهم العدو المحتمل الدائم لقيام إسرائيل أو لدولة إسرائيل. لكن العرب غيبوا تقريبا عن لحظة الفعل لأسباب كثيرة لسنا بوارد التطرق لها هنا.
النظام الديمقراطي هذا بني على لحظة تجييشية واحدة بين قواه السياسية، وهي كيف اقتلع أو اقتل مزيدا من الفلسطينيين؟ هذا بداية هذا النظام الديمقراطي.
كيف أبعثر القضية الفلسطينية من خلال بعثرة مستوى سياسي يليق بها ليمثلها. ممنوع قيام تمثيل فلسطيني له شرعية دولية يضع لحظة التأسيس على الطاولة. مع تراكم القوة الإسرائيلية وتراكم النفوذ الأمريكي والغربي بتنا نتحدث الآن عن أحقية قيام دولة فلسطينية على جزء صغير من فلسطين.
هذا الحديث لا يمنع من العمل الدؤوب على الزمن الفلسطيني الضعيف، والمجدول بالنسبة لهم العمل على مزيد من الضعف أيضا. بماذا تتنافس الأحزاب الإسرائيلية؟ ماهي المادة الأساس البرنامجية في هذا التنافس؟
إنها المزيد من الحفر لفن القضية الفلسطينية نهائيا إلى غير رجعة. هذه اليافطة البرنامجية هي العمود الفقري للنظام الديمقراطي الإسرائيلي.
لو استعرضنا تاريخ الانتخابات الإسرائيلية لوجدنا خنق الفلسطيني، هو أهم يافطة رفعت لهذا التنافس الانتخابي. إضافة بالطبع إلى سوق المزايدة بين قوى التجمع الإسرائيلي، التي تفتتح عند كل عدوان على الفلسطينيين.
وصلت في العدوان الأخير إلى عناوين تتكرر إسرائيليا، بكلمات مختلفة لكنها تحمل جوهرا واحدا الإبادة للقضية الفلسطينية، وابادة عدد أكبر من الفلسطينيين واقتلاعهم.
لهذا شاهدنا عناوين لتصريحات بعض فعاليات المستوى السياسي الإسرائيلي تتحدث عن إلقاء قنبلة نووية على غزة، عن قتل مئة ألف من سكان غزة فورا، عن تهجير الفلسطينيين من غزة إلى مصر. حقل المزايدة هذهس لو دققنا فيه لوجدنا الحضور القوي للحظة التأسيسية لقيام دولة إسرائيل- المذبحة.
لن نتحدث هنا عن عماد الدستور الإسرائيلي الذي يقوم على مقولة “إسرائيل دولة يهودية”. فيكتمل المشهد العنصري لهذه اللحظة التأسيسية هي. لهذا أزعم أنه من المناسب في كل عدوان أو دون عدوان مباشر، كالذي يحدث في غزة الآن، يجب ألا تغيب عن الطاولة، تلك اللحظة التأسيسية لإسرائيل والقوى الدولية الفاعلة فيها وحركة هذه الدول عند كل عدوان على الفلسطينيين.
كاتب من سوريا
——————-
خاطرة حول النظام الدولي… مع رأس السنة الجديدة!/ موفق نيربية
2 – يناير – 2024
يخطر على البال سؤال ملحّ في هذه الفوضى العارمة: هل ستكفي حروب العامين الأخيرين بحساسيّتهما المرتفعة لإعادة استقرار النظام الدولي على أسس مختلفة؟ أم أننا بحاجة إلى تطوراتٍ أكثر دراماتيكية بعد؟ وهل يمكن أن يكون هنالك من يعدّل الموازين، كما فعل الكاردينال الفرنسي ريشيليو تحت قيادة لويس الرابع عشر، الذي لم يعرفه جيلنا قديماِ إلّا من خلال رواية «الفرسان الثلاثة»؟ كانت مناهضة «الملك الشمس» و»الكاردينال الداهية» لآل هابسبورغ أقوى بكثير من الانتماء الديني، وتلك بذرة حداثة أخرى، ولو لم تكتمل يومها.
لم يتبلور النظام الدولي سابقاً إلّا من خلال الحروب والملل منها، منذ الخروج من دولة القرون الوسطى الإمبراطورية والدينية، وبعد حرب الثلاثين عاماً التي حصدت ثمانية ملايين من الضحايا، توارد على المدينتين المختارتين الألمانيتين (أوسنا بروك ومونستر، التي اختار كلّ طرف إحداهما) للمحادثات حوالي 109 من الوفود تمثّل الامبراطورية الرومانية المقدّسة الكاثوليكية الآفلة من جهة، ومملكة السويد مع عدد من الممالك والإمارات البروتستانتية، إضافة إلى فرنسا الكاثوليكية بدورها أيضاً. صكّت الاتفاقيتان في نصوصهما ما عُرف في ما بعد باسم «السيادة الويستفالية Westfallen Sovereignty»، التي تعطي لحكومات الدول الحديثة كلّ الحق بشؤونها داخل حدودها، التي لا يتدخّل بها أحد. هنا تأسّس التقليد الذي يعطي للطغاة الحق بفعل ما يشاؤون بشعوبهم، لكنّه يحفظ للدول استقلالها أيضاً، من دون حريّة. لم تتطلّب الخطوة التالية في صناعة النظام الدولي مثل ذلك العدد من الضحايا. كان عدد الجنود الذين قُتلوا في حروب الثورة الفرنسية ونابوليون بونابرت مليونين ونصف المليون فقط، مع نصف مليون من المدنيين تقريباً. انعقد مؤتمر فيينا بإدارة مترنيخ قبل نهاية تلك الحروب، ولكن بعد اتّضاح مسارها، في العامين 1814- 1815، الأول مع هزيمة نابوليون الكبرى قرب لايبزغ، والثاني مع الهزيمة النهائية السهلة في واترلو.
في مؤتمر فيينا، اعتُمدت «السيادة الوطنية» أيضاً بتفصيل أكثر، مع مبدأ «توازن القوى»، وحقوق «مناطق النفوذ»، وتمّ توقيع الاتفاقية قبل معركة واترلو بتسعة أيام، الأمر الذي يعكس ضعف فرنسا بعد زمن من التوسّع والهيمنة، وبالنتيجة تخلّت فرنسا عن الأراضي المفتوحة وكان هذا طبيعياً بعد هزائمها الطارئة، واكتسبت بروسيا والنمسا وروسيا مناطق جديدة. لم يكن هنالك من ربح موضوعي إلّا لهولندا، التي قامت كدولة على حساب أراضي النمسا السابقة.
بسبب عقلانية اتفاقات فيينا، عاشت قرناً كاملاً، حتى اندلاع حرب كونية جديدة هي الحرب العالمية الأولى عام 1914، التي حدثت لأنّ العالم قد تغيّر، ليس بسبب الصراع الكولونيالي ثمّ الإمبريالي لاحقاً – وحدهما، لكنّ مخاض تحوّل الولايات المتحدة إلى دولة عظمى متميّزة وذات إرادة للقيادة، أخّر ولادة ذلك النظام الذي نشأ يومذاك، وربّما قرّب المرحلة والحرب اللاحقة التي لم تتأخّر.
تأسّس النظام الدولي الجديد إثر تلك الحرب، وبعد سقوط حوالي عشرين مليوناً من الضحايا. وقامت الدول المنتصرة يومذاك بتأسيس «عصبة الأمم» بعد محادثات صلح فرساي، أو «مؤتمر باريس للسلام»، التي استغرقت وقتاً مهماً لتنسيق مصالح المنتصرين مع سلام العالم واستقراره، كما أراد المتفاوضون نظرياً.
تأسست تلك الطبعة الأولى من الأمم المتحدة تحت عنوان الحفاظ على السلام الدولي، وشمل نظامها منع الحروب من خلال الأمن الجماعي ونزع السلاح وتسوية النزاعات بالتفاوض والتحكيم، إضافة إلى تفصيلات أخرى من نوع ظروف العمل ومعاملة السكان الأصليين والصحة العالمية وحماية الأقليات – في أوروبا خصوصاً. كان في ذهن فلاسفة تلك العملية كتاب إيمانويل كانط حول «الحكومة العالمية» والسلم العالمي. لكنّها افتقرت إلى أدوات وآليات فرض قراراتها. كما اعتمدت على الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الأولى (بريطانيا وفرنسا وإيطاليا واليابان الأعضاء الدائمين الأوائل في المجلس التنفيذي) لتنفيذ قراراتها، أو الالتزام بعقوباتها الاقتصادية أو توفير جيش عند الحاجة.
ذلك «العَوار» أو «العطب» في معاملة المهزومين المذِلّة، خصوصاً ألمانيا، لم يتأخر بتاتاً في التمهيد للحرب العالمية الثانية بعد تسعة عشر عاماً من تأسيس «العصبة». استمرّت تلك الحرب ستة أعوام، وحصدت بين 70 و85 مليوناً من الضحايا. كان ذلك أيضاً مدعاة لإعادة النظر في النظام الدولي، الذي نتج عنه قيام هيئة الأمم المتحدة، بميثاق ومعاهدات ولوائح كادت تكون شاملة بحداثتها، لكنّ نقاط ضعفها تجسّدت في ما تمّ الاتّفاق عليه بين الدول المنتصرة في الحرب، خصوصاً حول تركيب مجلس الأمن وأعضائه الدول الخمس أصحاب الحق المطلق بممارسة الفيتو، الذي يسمّم السياسة الدولية حالياً، إضافة إلى قيام البنك الدولي وصندوق النقد الدولي مع تأسيس تلك الهيئة الدولية. منذ ذلك الوقت، ومؤخراً بالمعنى النسبي: طرأ انهيار الاتحاد السوفييتي والكتلة الاشتراكية، والعولمة، ثمّ الحادي عشر من سبتمبر. لكنّ روسيا قامت من جديد وعلى سياسات قومية من خلال بوتين، وحدثت حرب العراق 2003، وتطوّرت إيران وقدرتها على تصدير أيديولوجيّتها… مع نشوء «البريكس»، والأكثر أهمية انبعاث الاقتصاد والقوة الصينيتين. وفي هذه الأجواء المتلبّدة المتقلقلة، حدثت حربان مؤخراً، وكلاهما ما زالتا مشتعلتين من غير أفق واضح تماماً. ابتدأ البحث في «اليوم التالي» حيث الخصم ضعيف في غزة؛ ولم يبدأ شيء مماثل في أوكرانيا بعد، رغم أن حربها قاربت العامين مع انقلاب العام الحالي. في أوروبا، هنالك دور حاسم للتنافس على صياغة النظام الدولي المقبل: تعترض روسيا على توسّع حلف الناتو والاتّحاد الأوروبي حولها، وتريد العودة إلى الطاولة ذات الكرسيين، أو على الأقل ذات الكراسي الثلاثة، في قيادة العالم. وفي الشرق الأوسط، هنالك تأكيد بالقوة على وجود إسرائيل القيادي واستمراره في المنطقة من جهة، وفشل في ذلك من جهة أخرى، مع دور لإيران في ذلك الحراك، ودور متردّد لروسيا التي تخشى على مكتسباتها في سوريا على الأقل.
كلاهما- حرب أوكرانيا/ أوروبا وحرب غزّة/الشرق الأوسط – مسرحان للصراع في منطقتين أرادت الولايات المتحدة في الأعوام الأخيرة تخفيف التركيز عليهما وتشديده في الشرق الأقصى، قرب سواحل الصين. ثمّ تعثّرت خطواتها لاندلاع تلك النيران هنا وهناك. لولا وجود أسلحة الدمار الشامل بوفرة بين أطراف الصراع الكبيرة، ربّما احتاج الأمر سنوات لعقد «مؤتمر أو مؤتمرات للصلح أو السلام»، لكنّ الخطر داهم، وسوف يفرز الضغط نقاطاً لتفريغه أكثر فأكثر. وإذا كان هنالك من يريد المزيد من الوقت للمناورة والتأنّي، فعنده أمثلة أخرى من التاريخ غير المذكورة أعلاه، أصغر حجماً في الظاهر. أقصد هنا «مؤتمر باريس للسلام» عام 1856، لبحث آثار ونتائج حرب القرم – بالصدفة هنا- وكان الكلّ ضدّ روسيا: بريطانيا وفرنسا والخلافة العثمانية والنمسا وبروسيا وبيديمونت- سردينيا. في ذلك المؤتمر تمّ وضع عدة أسس في القانون الدولي والبحري والحربي خصوصاً، وتمّ تبريد الخلاف – تحت ضغط الهزائم الساخنة والعقل البارد- حول جزيرة القرم بين العثمانيين والروس وحماية المسيحيين في القرم وكذلك تحييد البحر الأسود، (وكذلك الخلاف بين الفرنسيين والروس أيضاً على حماية الأرثوذكس في فلسطين، بطريقة دفعت الروس إلى الانسحاب من الاتفاقية بعد حربهم مع فرنسا 1870- 1871). ورغم انهيار الاتفاقية بالفعل، إلّا أنها أرست أسساً للعلاقات الدولية بطريقة غير مسبوقة. مع نهاية عام، أو عامين، أثارت ذكرى ذلك المؤتمر علاقته بالحربين القريبتين جغرافياً على الأقل مما يجري حالياً.. وحرّضتها أيضاً تنبؤات بحرب ثالثة – ضرورية وكارثية مثلهما- في خليج الصين أو مضيق تايوان. يتوق العالم إلى خبزه وسلامه وحريّته.. معاً؛ وربّما يكون أكثر واقعية بقليل حصول ذلك، بغياب ترامب.
منذ أكثر من أربعمئة عام، كتب شكسبير مسرحية «العاصفة»، وقال على لسان أنطونيو، وهو يحاول بناء استراتيجية تجمعه مع سيباستيان: «الماضي هو مقدمة تمهيدية». كان يقصد من ذلك المثال أن كلّ ما حدث معهما من قبل، لا بدّ أن يقودهما لانتهاز الفرصة والقيام بما ينبغي لهما تنفيذه.. ولم يكن يعني أبداً مجرّد الاستغراق في حكايا عمّا مضى وانقضى!
كاتب سوري
———————-
حدود إسرائيل لما بعد الفرات والنيل؟/ رياض معسعس
2 – يناير – 2024
هل يمكن لإسرائيل أن تتمدد على الخريطة العربية دون مباركة أمريكية وتواطؤ غربي بشكل عام؟
الإجابة عليه بديهية وهي بالطبع النفي. فالولايات المتحدة التي أخذت على عاتقها الدفاع عن دولة محتلة توسعية لا يمكن أن تكون فقط لخدمتها والحفاظ على أمنها كما اعتادت أن تقول، بل هي شريكة لها “وولية أمرها”، فهذه الدولة المارقة التي لم تحترم يوما قرارا دوليا، وتستمر في احتلال الأراضي العربية، منذ نشأتها لم يكن أن يكتب لها الحياة لولا عاملان أساسيان: الدعم الغربي وعلى رأسه أمريكا من ناحية، وتخاذل الأنظمة العربية في نصرة الشعب الفلسطيني، والتوجه إلى العدو والاعتراف به بعمليات تطبيع مجانية من ناحية أخرى. عملية طوفان الأقصى التي استولت على الكثير من الوثائق السرية من مراكز الاستخباراتية داخل دولة الاحتلال كشفت عن مخطط إسرائيلي يظهر خريطة الأراضي التي تنوي احتلالها لتقوم عليها دولتها، الخريطة تظهر مساحات واسعة تتعدى نهر الفرات والنيل (وهو الشعار الذي تردده إسرائيل) فهي تقتطع أجزاء كبيرة من سوريا والعراق والأردن ولبنان والكويت والسعودية، ومصر. ولكن هل هذه الدولة التي تسيطر على هذه المساحات الشاسعة وخيراتها ستتمكن لوحدها وبإمكانياتها تحقيقها؟ وهل لأمريكا دور أساسي فيها، أو مشاركة مباشرة؟
للإجابة على هذه الأسئلة لابد وأن نعود إلى عدة منظرين ومستشارين إسرائيليين وأمريكيين لفهم الدوافع الخفية لأمريكا في مباركة المشروع الإسرائيلي الاستراتيجي في الشرق الأوسط، الذي يعتبر كآخر هجمة استعمارية من الغرب للشرق الأوسط.
يعتبر ليو شتراوس (يهودي ألماني) المنظر والمرشد للمحافظين الجدد وخاصة في صفوف الحزب الجمهوري الأمريكي، وتتلخص نظريته في التفوق والدعوة لعسكرة الديمقراطية، والدعوة إلى زيادة تسلح الولايات المتحدة لتكون قوة عسكرية باطشة تقوم بما أسماه “التدمير الخلاق”: “التدمير الخلاَّق غايتنا في بلادنا وفي العالم. علينا أن نهدم النظام القديم، كلَّ يوم، وفي الميادين كلِّها، من التجارة إلى العلوم فالأدب فالفن فالسينما فالسياسة والقانون” هذه النظرة المتعالية للأمريكي “المتفوق” عبر “التدمير الخلاق” رسم سياسة أكثر من إدارة أمريكية.
وكان شتراوس قد دعا للسيطرة على منابع الطاقة في العالم كي يتسنى للشركات الأمريكية الاستيلاء على معظم العائدات النفطية والغازية في العالم مما يسمح لها تغطية نفقات القواعد والأساطيل البحرية الأمريكية المنتشرة في العالم التي تستنزف الميزانية الحربية الأمريكية (تقدر التكلفة في حالة السلم حوالي مليار دولار يوميا).
السيطرة على أوراسيا
في خضم الحرب الباردة بين حلف الناتو وحلف وارسو ظهر مستشار الأمن القومي الأمريكي زبيغنو بريجينسكي للرئيس الأمريكي جيمي كارتر كواحد من أهم الشخصيات الاستراتيجية.
في كتابه “رقعة الشطرنج الكبرى” يرى أن الرقعة الجغرافية التي تحتل وسط العالم بين أوروبا وآسيا هي أهم منطقة في العالم، وتمتد من أفغانستان إلى المغرب مرورا بأوكرانيا التي اعتبرها أهم دولة من حيث إمكانياتها القادرة على تفكيك الاتحاد الروسي، وعلى أمريكا أن تركز استراتيجيتها عليها بعد الحرب الباردة لتكون رأس الحربة في ضرب روسيا، وبالنسبة للعرب دعا إلى تفكيك النظام الإقليمي العربي وطمس عروبته، وإعادة تشكيله على أسس عرقية وطائفية، في كتابه بين جيلين يقول:” هناك شرق أوسط مكون من جماعات عرقية ودينية مختلفة، بعيداً عن أساسِ مبدأ الدولة-الأمة، التي يجبُ أنْ تُحول إلى كانتونات طائفية وعرقية، يجمعها إطار إقليمي (كونفدرالي)… وهذا سيسمح للكانتون الإسرائيلي أن يعيش في المنطقة، بعد أنْ تُصفى نهائياً، فكرة القومية”.
وهذه النظرة التي دأبت الإدارات الأمريكية المتعاقبة على تحقيقها بالتعاون مع حليفتها إسرائيل تم التعبير عنها فيما بعد تحت شعار ” الشرق الأوسط الجديد”
الاحتواء المزدوج
مارتن إنديك (يهودي بريطاني) سفير أمريكا في إسرائيل أطلق مصطلح “الاحتواء المزدوج” والمقصود به احتواء العراق وإيران، لأنهما يشكلان الخطرين الحقيقيين على إسرائيل، ويضاف إلى هذه الواجهة الهدف الثاني وهو السيطرة على منابع الطاقة في إيران والعراق (بعد السيطرة على مصادر الطاقة في الخليج) كما أوصى ليو شتراوس، وقد عملت الولايات المتحدة بنصيحة إنديك في الهجوم على العراق في عهد بوش الابن وإدارة المحافظين الجدد تحت ذرائع واهية باتهام نظام صدام حسين بامتلاك أسلحة دمار شامل، لكنها لم تتمكن من احتواء إيران التي كانت أذكى من أن تقع في فخ احتلال الكويت، وتداركت الخطر بالعمل على امتلاك أسلحتها والتطلع إلى سلاح نووي رادع يهدد مباشرة إسرائيل في حال أي هجوم عليها.
تجزيء المجزأ
عوديد ينون، مستشار سابق لآرييل شارون، ومن كبار الموظفين السابقين في وزارة الخارجية الإسرائيلية وصحافي في جورزاليم پوست نشر في ثمانينيات القرن الماضي كتابا لاستراتيجية يتوجب على إسرائيل اتباعها وهي تجزيء المجزأ:” فالعالم العربي لا يمكنه أن يشكل كتلة متجانسة لأنه منطقة تكثر فيها الإثنيات والطوائف والأقليات العرقية والدينية، وعليه لا بد من تفكيك الدول التي كانت من نتاج استعماري” وحدد ينون الدول التي يجب تجزئتها كسوريا مثلا تجزأ لأربع دول، والعراق لثلاث، ومصر لدولتين، والسودان لأربع.. وهكذا.
هذه المخططات الاستراتيجية نرى نتائجها اليوم على أرض الواقع تماما كما جاء فيها: ضرب العراق وتدميره وتجزئته على أسس طائفية وعرقية وبناء قواعد أمريكية فيه، تدمير سوريا وتجزئتها على أسس طائفية وعرقية ودعم الأكراد في عملية انفصالية وبناء قواعد أمريكية (يوجد 6 قواعد عسكرية أمريكية في سوريا دون موافقة النظام السوري)، واعتراف أمريكي بضم الجولان من قبل الرئيس دونالد ترامب كهدية لإسرائيل.
تقسيم السودان لدولتين في العام 2011 وربما لثلاث أو أربع دول مستقبلا، تقسيم ليبيا والسيطرة على نفطها بين شرق وغرب، ضرب اليمن وتقسيمها طائفيا بين شمال وجنوب.
فرض عمليات تطبيع مع دولة الاحتلال لست دول عربية والحبل على الجرار التي كان من نتائجها الأولية تحويل هذه الدول إلى دول منزوعة الإرادة وتحويلها إلى لعب دور الوسيط بين دولة الاحتلال والمقاومة في فلسطين، بل ودعم بعضها لدولة الاحتلال ضد المقاومة في غزة، واستلام إيران مشعل تحرير القدس.
وكما لكل آلية (ميكانيزم) ربما حبة رمل تعرقل مسارها جاءت عملية طوفان الأقصى كحجر عثرة في طريق المشروع الصهيوـ أمريكي الكبير (المعلن منه، وغير المعلن) في بناء دولة لإسرائيل كبرى مساحتها تتعدى ما بعد الفرات والنيل كما أظهرت الخريطة التي تم الكشف عنها. فبدا واضحا وضوح الشمس في يوم صيف أن مستقبل المنطقة برمتها يجري إعادة صياغتها حسب مصالح صهيوـ أمريكية مشتركة، وأول الخاسرين فيها دول الوسطاء والتطبيع الذين تخلوا عن المقاطعة والمقاومة.
كاتب سوري
———————
سوريا وفلسطين وما وراء نموذج الإبادة السياسية/ ياسين الحاج صالح
27 – ديسمبر – 2023
تأتي من غزة كل يوم صور «سوريا»: أجساد محطمة، دمار كاسح، وانهيار متفاقم للحياة المدنية، حتى أن بعض الصور السورية فعلاً نسبت إلى غزة، بما في ذلك من قبل مساندين للحكم الأسدي. على أن هناك فارقاً في كثافة إنتاج الموت والدمار بين سوريا وغزة. خلال شهرين ونيف حققت إسرائيل بسلاح متفوق ودعم غربي فاجر ما احتاج إلى سنوات من الحكم الأسدي وحماته، ثم أن مساحة القطاع الصغيرة قياساً للقوة النارية الإسرائيلية تيسر بدورها فارق الكثافة. لكن وصف المحصلة لا يختلف: استباحة للبشر بلا حدود، وسط ما يتراوح بين اللامبالاة والدعم الدولي، كأنما المستباحون خارج العالم، جنس غريب خطير.
الكلام على فلسطنة السوريين بوصف إسرائيل نموذجاً شرقأوسطياً للإبادة السياسية يقيم علاقة بنيوية بين القتل الجماعي للسوريين والفلسطينيين، ويحوز ميزة تفضيلية على تصورين منافسين. تصور أول إيديولوجي يمانع جمع بلد عربي يجاهر بممانعته لإسرائيل مع إسرائيل ذاتها في نموذج إبادة سياسية يشملهما. لكن من شأن نظرة إلى الزمنية المتوسطة، نصف قرن وزيادة من الحكم الأسدي أو العقود الستة للحكم البعثي، أن يوضح كفاية تعرض المجتمع السوري لقطع رأس سياسي متكرر، يحاكي ما تعرض له الشعب الفلسطيني. ونعرف بعد ذلك أن المثال السوري مندرج كذلك في نظام إبادة سياسية أوسع انتشاراً في المجال العربي، هو بمثابة إعادة إنتاج لإسرائيل في بلداننا كلها بدرجات متفاوتة. والتصور الثاني هو افتراض تفاهم تحت الطاولة بين الحكم الأسدي وإسرائيل، بحيث يبقى النظام وتتدمر سوريا، وقد يحال إلى تصريحات إسرائيل متكررة بالفعل عن أنه ليس لديهم مشكلة مع نظام بشار الأسد، أو حتى أن إسرائيل تريده أن يبقى. لا ضرورة لافتراض اتفاق سري، والتصريحات المذكورة لا تحيل حتماً إلى شيء كهذا. تحيل بالأحرى تقديرا إسرائيليا عقلانيا بأن نظاماً لا يكف عن إبادة محكوميه الذي تربطهم بالفلسطينيين روابط كثيرة وعميقة هو شيء طيب.
وفضلاً عن ذلك فإن الكلام على فلسطنة السوريين، وهو يعود فيما يخص كاتب هذه السطور إلى عام 2015 على الأقل، يمكن أن يكون ركيزة لنضال مشترك، وبالتأكيد لرفض صراع المظلوميات الذي يريد البعض هنا وهناك تنشيطه.
على أن فلسطنة السوريين تحتاج بعد غزة إلى تكميلين. أولهما أننا نرى اليوم ضرباً من «سرينة» الفلسطينيين، استباحتهم العلنية الفاجرة التي يحدث أن يسوغ متكلمون إسرائيليون بالذات بما قام بها النظام الأسدي بمحكوميه، بما يضفي مزيداً من الوجاهة على فكرة أن النظم الشرق أوسطية، ونظم العالم ككل، تصنع ممكنات لبعضها، وصولاً إلى صنع مستحيلات، أو ما كان يبدو كذلك قبل قليل. فإذا أمكن هنا قتل الناس بعشرات الألوف ومئاتها بالتعذيب، أو بالسلاح الكيماوي أو بالبراميل، وبالفوسفور الأبيض والقنابل الفراغية، فلماذا لا يمكن هناك؟ والتكميل الثاني يتمثل فيما يبدو من أن نموذج الإبادة السياسية بالذات يقوم على أرضية اجتماعية فكرية سياسية، تشرِّع الإبادة: قتل البرابرة أو الهمج أو غير المتحضرين، أو الإرهابيين في لغة الأسديين والإسرائيليين على حد سواء. هذه الأرضية ليست حديثة جداً، فهي تتلامح باتساع منذ عقود، منذ ثمانينيات القرن العشرين على الأقل، لكنها تلقت دفعاً حاسماً مع فشل الثورات العربية، أي فشل التحول الديمقراطي في منطقتنا، ثم عبر صعود التيارات القومية والدينية اليمينية في الغرب، مستفيدة جزئياً على الأقل من «أزمة اللاجئين».
في المجال العربي يأخذ هذا النموذج الاجتماعي الفكري السياسي الجديد شكل حداثة فوقية بلا سياسة ولا حقوق ولا نقاش عام ولا حتى مجتمع، ومثاله الإمارات العربية المتحدة. ولا يقع نظاما بشار الأسد وعبد الفتاح السيسي خارج هذا التكوين، وأن تكن مناهجهما في نزع السياسة والحقوق والنقاش والاجتماع مغايرة، وتقوم أساساً على النظر إلى السكان كفائض بشري يعامل بفائض من العنف الخام. وفي بلدان الغرب يأخذ النموذج شكل النزعة الحضارية، التي تدافع عن أوروبا بيضاء ومسيحية أو مسيحية يهودية، وتضع المهاجرين واللاجئين تحت الرقابة، على نحو ربما تشغل ألمانيا موقعاً طليعياً فيه. بعد غزة ثمة تآكل للنقاش العام في بلدان قامت نظمها الديمقراطية على النقاش العام، وهناك ترسخ للصوت الواحد في أنظمة الصوت الواحد مثل بلداننا. طريق التجاوز، تجاوز محدودية النقاش باتجاه إشراك الغائب: المهاجرين، الملونين، النساء، الفقراء، والبيئات الحية، مسدود.
ما يميز هذا النظام هو أنه يقوم على نزع إنسانية القطاعات غير صاحبة الامتيازات من البشر وجعلهم فائضين أو نافلين، على طريقة الأنظمة الشمولية حسبما حللتها حنة آرنت. لكن لسنا حيال شكل جديد من الشمولية اليوم، بل ببساطة شكل جديد من الحكم الطبقي المتطرف: حكم أرستقراطيات ممتازة، تجنح لأن تكون وراثية، سواء كانت الوراثة عائلية (سوريا)، أم عسكرية (مصر)، أم إثنية دينية (الهند وإسرائيل) أم «حضارية» (في الغرب)، يجمعها معاً شرط اللابديل والعمل على تأبيد الحاضر. وهذا أخطر ما في الأوضاع الراهنة، لأنه يعني بصور مختلفة حرباً مفتوحة ضد المستقبل، على نحو ما نعرف من المثال السوري. يجمعها كذلك استهتار متزايد بالحياة البشرية يبدأ في الغرب من اللاجئين والمهاجرين الذين اقترح زعيم حزبي ألماني قبل قليل نقلهم إلى رواندا (سائراً على خطى حكومة المحافظين البريطانية)، لكن لا يحتمل أن يقف عندهم، بعد السوريين والفلسطينيين والأفغان يأتي دور عموم المسلمين، بمن فيهم الأتراك، وبعدهم ربما الأفارقة… وعموماً، لا يبدو أنه مر وقت منذ الحرب العالمية الأولى على الأقل كانت «الجماهير» عبر العالم كله تقريباً بلا وعود وبلا اعتبار، تعيش حاضراً ضحلاً عنيفاً لا ينتهي، وتعاني من الاستباحة والقتل الجماعي.
فإذا صح ذلك كانت الفلسطنة نموذجاً يتعمم شرق أوسطيا وعالمياً، ويتوافق مع بنى اجتماعية تقوم على الامتياز وعلى تأسيس فكري لللامساواة (البيان المشين لهابرماز وآخرين يمكن فهمه كمساهمة في هذا التأسيس عبر المجاهرة بالدعوة لتضامن انتقائي). وكانت الإسرلة القائمة على إخراج الفلسطينيين من الحقوق والسياسة والنقاش، وتفتيت مجتمعهم، وأكل كيانهم، الوجه الآخر للفلسطنة إقليمياً وعالمياً. وتقوم الدول أكثر وأكثر بدور حراسة هذا النظام الجديد، فتسحق المتمردين عليه، وتؤلف قلوب قطاعات من النخبة، وتجعل حياة القطاعات غير القابلة للرشوة أشد صعوبة. ولعل زمن الاغتيالات ليس بعيداً جداً.
الغرض أن المسألة أوسع من سوريا وفلسطين، وأن هناك عمقا استراتيجيا عالميا للاستباحة والإبادة الجارية، يتثمل في تحول عالمي محافظ، أسفر عن وجه رجعي وعدائي بعد غزة. وأن التعامل مع البشر كفائض يستحسن التخلص منها بفائض من العنف قد يصير سياسية مقبولة بذارئع مختلفة.
وعل نطاق أضيق، الغرض هو المساهمة في إعادة التأسيس الفكري لخطاب الربيع العربي على نحو يعيد الربط بين قضية الديمقراطية والتحرر من الطغيان بالتحرر الفلسطيني ومقاومة الاستعمار بصوره القديمة والجديدة. منذ سبعينيات القرن الماضي أخذ يتلامح هذا الربط، وإن لم يصغ في صورة جذرية تظهر أسرلة الحاكمين وفلسطنة المحكومين. قبل قليل استطاع حرباء متلون وعاشق لنفسه أن يصف الربيع العربي ككل (وليس الثورة السورية وحدها) بـ»الربيع الغربي». عدا عن نزعة اتهام وكراهية مميزة للحكم الأسدي والثقافة الأسدية، وعدا عن إرسال الكلام كيفما اتفق دون نقاش ودون برهنة، هذا جزء من الهجوم الإيديولوجي الذي تطلع دوماً إلى تخوين النضال الديمقراطي، مرة باسم العلمنة، ومرة باسم القومية، وفوقهما اليوم ركون تام إلى الاستعمار الإيراني وأدواته ومنابره الطائفية.
كاتب سوري
—————————
2023 سورياً: عام المجاعة والكبتاغون وثورة السويداء/ بكر صدقي
27 – ديسمبر – 2023
كانت البداية مع زلزال السادس من شباط الذي دمر مناطق واسعة من شمال وغرب سوريا، امتداداً للمناطق المجاورة في جنوب شرق تركيا، وتسبب في مقتل عشرات الألوف وجرح أعداد غير معروفة في البلدين، وتشريد آلاف العائلات عن بيوتهم ومناطق سكناهم. في حين استبشر نظام بشار الأسد في الزلزال نفسه خيراً حين بادرت دول عربية لاستغلال فرصة الكارثة بالانفتاح عليه من بوابة المساعدات الإغاثية، كما جمدت الولايات المتحدة العقوبات الاقتصادية المفروضة عليه في إطار قانون قيصر. ونشطت الحركة الدبلوماسية في اتجاه دمشق، بمناسبة المأساة، فتم إنضاج ما سمي بالمبادرة العربية لحل «الأزمة» السورية، عبر مجموعة لقاءات على مستوى وزراء خارجية عدد من الدول العربية، وصولاً إلى إعادة مقعد النظام في الجامعة العربية، بعد طرده منه لـ12 عاماً، تمهيداً لمشاركة رأس النظام في القمة العربية التي انعقدت في مدينة جدة السعودية منتصف شهر أيار.
تعامل النظام في الأشهر التي تلت قمة جدة مع المبادرة العربية بالطريقة نفسها التي لا يجيد غيرها، وفقاً لمبدأ «وافقهم على كل شيء، ولا تفعل أي شيء» آملاً في أن يمل العرب من مطالبته بتنفيذ شروطهم، ويقدموا له انفتاحاً سياسياً ومساعدات اقتصادية بلا مقابل. الحق أن «ورقة عمان» التي تبنتها الجامعة العربية تضمنت شروطاً يصعب على النظام الاستجابة لها من غير أن يفقد الكثير من منظور تمسكه بالسلطة، إضافة إلى شرط ينطوي على التخلص من الوجود الإيراني في سوريا هو عاجز عن تحقيقه حتى لو أراد ذلك. أما التوقف عن تصدير المخدرات إلى الأردن ودول الخليج فهو يعني فقدان مصدر مهم للتمويل يقدر بمليارات الدولارات، وورقة ابتزاز للدول العربية لا يمكنه الاستغناء عنها. والحال أن الرائز الأساس للأردن ودول الخليج في الانفتاح على النظام إنما هو وقف تدفق الكبتاغون من سوريا، بعدما بات هاجساً يمس الأمن القومي للدول المذكورة، كما أن ازدياد الضغوط العربية على النظام للالتزام بما تعهد به من شروط «الورقة» أدى إلى إضافة السلاح إلى المخدرات في «سلة التهريب» الذي استمر النظام فيه كورقة ضغط مقابلة على تلك الدول.
في غضون ذلك كانت أوضاع الناس الاقتصادية والمعاشية تتدهور إلى مستويات مخيفة، والعملة السورية تسقط سقوطاً حراً بما يؤدي إلى تفاقم التضخم وعجز شرائح اجتماعية تزداد اتساعاً عن شراء أبسط مستلزمات الحد الأدنى للحياة. تضافر ذلك مع انسداد الأفق وفقدان الأمل، بعدما اكتشف الناس أن الانفتاح العربي على النظام لم ولن يؤدي إلى أي تحسن ملموس في حياتهم بسبب تعنت النظام في الاستجابة لشروط ذلك الانفتاح، فأديا معاً إلى تململ في أوساط موالية للنظام عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بين تموز وآب، مع توجيه النقد إلى رأس النظام بالذات في تلك الأوساط، ثم اندلاع انتفاضة السويداء المستمرة إلى اليوم بعدما قطعت كل خطوط الرجعة وطالبت بإسقاط النظام وطردت شبيحته وأغلقت مقار حزب البعث في عدد من مدن المحافظة.
من جهة أخرى اندلع صراع مسلح بين قوات سوريا الديمقراطية ومقاتلي عشائر في ريف محافظة دير الزور على خلفية إطاحة «القوات» برئيس المجلس العسكري لدير الزور الذي سبق وعينته بنفسها، ليمتد إلى أرياف محافظتي الحسكة وريف حلب بما أنذر باشتعال صراع عربي كردي، خمد بعد فترة لكنه لم ينطفئ تماماً. واستغل النظام والميليشيات الإيرانية تلك الفوضى لتحقيق مكاسب ميدانية في المناطق المعنية.
وفي الأول من شهر تشرين الثاني وقع هجوم على الأكاديمية العسكرية أثناء احتفال يقام سنوياً بتخريج دفعة من الضباط، وقع ضحيته نحو مئة شخص بين عسكريين ومدنيين، وزعم النظام أن الهجوم حدث بطائرات مسيّرة انطلقت من مناطق «خفض التصعيد» في محافظة إدلب وجوارها، ليشن حملة قصف مستمرة إلى الآن أوقعت مئات القتلى من السكان.
وفي السادس من الشهر نفسه وقع هجوم انتحاري على مبنى وزارة الداخلية في أنقرة، اتهمت الحكومة التركية بتنفيذه الوحدات الكردية في سوريا، فبدأت حملة عسكرية جوية استهدفت بصورة خاصة منشآت حيوية كمحطات توليد الكهرباء وتكرير النفط ومحطات الوقود، ولم تتوقف هذه الحملة أيضاً إلى اليوم.
وفي السابع من الشهر نفسه شنت كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس هجوماً نوعياً على المنطقة المتاخمة لقطاع غزة، قتلت فيه نحو 1500 بين عسكريين ومدنيين، واختطفت نحو 240 أسيراً مدنيين وعسكريين بينهم ضباط. وتطلب الأمر ثلاثة أيام ليتمكن الجيش الإسرائيلي من إعادة سيطرته على «غلاف غزة» وإنهاء تواجد المقاتلين الفلسطينيين هناك. في حين أطلقت إسرائيل آلتها الحربية، وبخاصة القصف من الجو، منذ اليوم الأول وما زالت حربها الوحشية مستمرة إلى اليوم، بعدما اقترب عدد القتلى الفلسطينيين من أحد عشر ألفاً نسبة كبيرة منهم أطفال ونساء، وكلهم تقريباً من المدنيين.
في هذه الأجواء اتجهت الأنظار بداهةً نحو «محور الممانعة» بقيادة إيران، وبخاصة إلى ذراعها في لبنان حزب الله. لكن التهديدات الأمريكية المباشرة من خلال حشد القوة البحرية قرب شواطئ شرق المتوسط، والتحذيرات المتكررة، جعل إيران وحزب الله ينأيان بنفسيهما عن الحرب، مكتفيين برشقات محسوبة إلى المناطق الحدودية القريبة من لبنان وسوريا. واكتفت إسرائيل بالرد واحدة بواحدة، متجنبة توسيع نطاق الحرب بما يتسق مع الموقف الأمريكي. لكنها واصلت هجماتها على الأهداف الإيرانية داخل سوريا، بما في ذلك قصف مطاري دمشق وحلب مرتين، وقتل منسق الميليشيات الإيرانية في سوريا قبل يومين. يضاف إلى ذلك هجمات محسوبة على أهداف أمريكية على الأراضي السورية في الشمال الشرقية، من قبل ميليشيات تابعة لإيران، لم توقع قتلى إلى اليوم.
في غضون ذلك غاب الأسد عن وسائل الإعلام منذ شهر أيلول، في الوقت الذي تجري فيه صراعات عديدة على الأراضي السورية، وتستمر الانتفاضة المدنية في السويداء، وانتهت المبادرة العربية بصورة نهائية.
مجموع هذه المعطيات يعطينا صورة مأساوية عن سوريا في 2024، ولا يمكن التكهن بتغيرات محتملة ستتوقف على كيفية انتهاء الصراعات المستمرة في سوريا وجوارها، وبخاصة في غزة.
كاتب سوري
———————–
فلسطين ومعارك المسلمين الفاصلة/ رياض معسعس
25 – ديسمبر – 2023
إذا استثنينا معركة القادسية التي أتت على نهاية الإمبراطورية الفارسية في العراق، فإن كل المعارك التي وقعت بين جيوش المسلمين والجيوش الأجنبية الغازية جرت في فلسطين، وإن دلت على شيء فإنها تدل على أن هذه الأرض المقدسة كانت ولا تزال محط أطماع القوى الأجنبية وخاصة الغربية منها خلال القرنين الماضيين، ونهاية بالهجمة الصهيونية في القرن الماضي، واحتلال فلسطين التي شهدت، منذ بدء التاريخ، حروبا لا تنتهي آخرها معركة «طوفان الأقصى». هذه المعركة سيكون لها، كما معارك المسلمين المظفرة السابقة، أكبر الأثر على مستقبل فلسطين والمنطقة ككل مهما كانت النتائج، فقد أثبتت هذه المعركة تشابها مع المعارك التي سبقتها في نواح عدة، لكنها اختلفت في نواح أخرى.
في كل المعارك كانت أعداد المسلمين أقل بكثير من أعداد الغازين، لكن الأسلحة كانت شبة متماثلة، في حين أن معركة طوفان الأقصى تواجه قوى دولية كبيرة تستخدم كل أنواع الأسلحة إلى جانب دولة الاحتلال بأسلحة فردية على رقعة صغيرة من الأرض وتحقق انتصارات عليه.
في كل المعارك التاريخية الأخرى كان المسلمون في كل البقاع يقفون إلى جانب جيوشهم، على عكس المعارك الضارية والقصف البربري لدولة الاحتلال وقتل المدنيين فإن الفلسطينيين اليوم لم يجدوا أي دعم من الأنظمة العربية والإسلامية. كما ساهمت هذه المعركة في انقلاب جذري لصالح القضية الفلسطينية لدى الرأي العام العالمي الذي يشاهد يوميا مدى وحشية الهجمات البربرية لجيش الاحتلال على المدنيين والأطفال الذين يدفعون الثمن غاليا. وبهذه المعركة لن تعود عقارب الساعة إلى الوراء.
معركة اليرموك
كانت معركة اليرموك أكبر معركة يخوضها المسلمون ضد الإمبراطورية الرومانية. وكانت القوات الإسلامية بعد فتح حمص سنة 635 تتوزع في أماكن مختلفة، فأبو عبيدة الجراح في حمص، وخالد بن الوليد بقواته في دمشق، وشرحبيل بن حسنة مقيم في الأردن، وعمرو بن العاص في فلسطين. أمر أبو عبيدة بأن تتجمع الجيوش كلها في جيش واحد والتحرك إلى اليرموك في فلسطين (حاليا تتبع للأردن) وسلم خالد بن الوليد القيادة، وبلغ عدد جنود جيوش المسلمين حوالي 46 ألف مقاتل في مواجهة جيش الروم بقيادة هرقل البالغ عدده حوالي 300 ألف جندي. وفي فجر 12 من آب/أغسطس 636 التحم الجيشان في معركة حامية الوطيس أسفرت عن انتصار المسلمين وهروب الروم الذين ركب بعضهم بعضا وهم يتقهقرون حتى انتهوا إلى مكان مشرف على هاوية تحتهم، فأخذوا يتساقطون فيها. وبلغ الساقطون في هذه الهاوية عشرات الألوف، وسميت تلك الهاوية «الواقوصة» لأن الروم وقصوا فيها، وقتل المسلمون من الروم في المعركة نحو خمسين ألفا، خلاف من سقطوا في الهاوية.
كانت معركة اليرموك من أعظم المعارك الإسلامية، وأبعدها أثرا في حركة الفتح الإسلامي، فقد لقي جيش الروم – أقوى جيوش العالم يومئذ – هزيمة قاسية، وقد أدرك هرقل حجم الكارثة التي حلت به وبدولته، فغادر المنطقة نهائيا وهو يقول: «السلام عليك يا سوريا، سلاما لا لقاء بعده، ونعم البلد أنت للعدو وليس للصديق، ولا يدخلك رومي بعد الآن إلا خائفا». كانت هذه المعركة نقطة مفصلية في مستقبل الفتوحات الإسلامية بعد القضاء على الوجود الروماني في سوريا (الكبرى) الذي بدأ في العام 64 قبل الميلاد على يد الامبراطور بومبي.
معركة حطين
تعتبر الحملات الصليبية على فلسطين أول حملات استعمارية استيطانية شاركت فيها معظم الدول الأوربية وعلى رأسها فرنسا التي أطلقتها بنداء من البابا أوربان الثاني في العام 1096 دعا فيه المؤمنين لتحرير «قبر المسيح» من المسلمين «الكفار». وهذه الحملات تشبه إلى حد بعيد الحملة الاستيطانية الصهيونية إذ إن كليهما اعتمدتا على ذرائع دينية لاحتلال أراضي فلسطين وطرد شعبها، وكلاهما حملات استعمارية توسعية تهدفان إلى احتلال أكبر مساحات من الأراضي. وقد نجح الصليبيون بعد مجازر مروعة بالمسلمين والمسيحيين على حد سواء في الاستيلاء على فلسطين ومدن أخرى في سوريا، واستمر هذا الاحتلال حوالي قرنين إلى أن تمكن صلاح الدين الأيوبي من تكوين جبهة إسلامية موحدة تحت قيادته وقاد الجيش الإسلامي لخوض معركة حطين الفاصلة في 4 تموز/يوليو1187 وكان يوم سبت، فتقدم بجيش تعداده حوالي 25 ألف مقاتل في مواجهة الجيش الصليبي الذي وصل تعداده إلى حوالي 63 ألف مقاتل، فكانت الغلبة للمسلمين بعد معركة خسر فيها الصليبيون 30 ألف مقاتل واستسلم عدد كبير منهم وفر الباقون.
هذه المعركة الفاصلة قضت على أكبر مخطط استعماري في القرون الوسطى. وغيرت خريطة التوزيعات السياسية في المنطقة، وتم تحرير القدس والمدن السورية عكا، ويافا، وعسقلان وصيدا، وبيروت، وجبيل، وسواها، وتم طرد كل الجيوش الصليبية من سوريا وفلسطين.
معركة عين جالوت
لم يطمئن العالم الإسلامي من هزيمة الصليبين التي جاءته من الغرب حتى اقبلت عليه حملات المغول من الشرق. ففي العام 1258 تمكنت جحافل المغول بقيادة جنكيز خان بالاستيلاء على حاضرة المسلمين بغداد ودمرت بناها ومكتباتها وارتكبت أبشع المجازر فيها (كما نرى اليوم في غزة)، ثم غزت المدن السورية حلب وحمص ومدنا أخرى واتجهت جنوبا بجيش يقوده هولاكو واحتلت مدن فلسطين. وكان السلطان المملوكي سيف الدين قطز قد استلم حكم مصر بعد صراعات دموية بين نهاية الأيوبيين وبداية المماليك، وكان هولاكو ينوي الاستيلاء على مصر فأرسل للسلطان رسالة تهديد مع أربعة رسل فقتلهم قطز وعلق جثثهم على أبواب القاهرة، ورد عليه برسالة تهديد أخرى، قال فيها «إننا لا نستسلم أبدا وسنخوض الحرب معكم، وإن عشنا فسعيدا، وإن متنا فشهيدا، ألا إن حزب الله هم الغالبون». وسار بجيش إلى سهل عين جالوت مع القائد الظاهر بيبرس حيث وقعت المعركة المظفرة في الثالث من أيلول/ سبتمبر 1260، وشارك قطز بنفسه في المعركة بعد أن ألقى بخوذته على الأرض تعبيرا عن عدم خوفه من الموت وأطلق صيحته الشهيرة «وا إسلاماه وا إسلاماه». وكانت هذه المعركة من أبرز المعارك الفاصلة في التاريخ الإسلامي وهي الأولى التي خسر فيها المغول المعركة التي كانت فاصلة وبهذه الخسارة الفادحة تم ضم وتوحيد العالم الإسلامي تحت حكم المماليك لأكثر من 270 عاما.
هزيمة نابليون
بعد سنوات عدة من الثورة الفرنسية التي وضعت مبادئ حقوق الإنسان عاد الغرب وخاصة فرنسا وبريطانيا في تجربة جديدة في السيطرة على الشرق الأوسط بعد المحاولة الصليبية السابقة. بدأت بمصر في حملة نابليون بونابرت ثم فلسطين ومنها كانت الخطة للسيطرة على كامل سوريا وإسقاط السلطنة العثمانية. فأبحر بقوة عسكرية تقدر بـ36 ألف مقاتل، تحملهم 300 سفينة ويحرسهم أسطول حربي فرنسي مؤلف من 55 سفينة، ومدفعية، وسمّيَ بجيش الشرق، وفي صباح الأول من يوليو/تموز 1798 زحف الجيش باتجاه مدينة الإسكندرية وحاصرها، وتمكّن من احتلالها، ثم القاهرة، وبعد أن استولى نابليون على مصر بعد عدة ثورات مصرية ضده، وجه جيشه إلى غزة ثم حيفا حيث ارتكب فيها أفظع المجازر (حوالي 4 آلاف مسلم مدني تم ذبحهم، كما يحصل في غزة اليوم) وكان غرض نابليون من ارتكاب هذه المجزرة أن يصل صداها إلى المدن الفلسطينية والشامية الأخرى كافة فتخر العزائم عن مقاومته، خاصة مدينة عكّا المحصنة، من واليها أحمد باشا الجزار. وقال: «إذا استوليت على عكا يُصبح الشرق في قبضة يدي، وإذا بلغتُ سوريا أشعلتُها ثورة ضد الأتراك، أما إذا وصلت القسطنطينية فإني سأخلع السلطان العثماني وأُقيم دولة جديدة، ومنها أصلُ إلى النمسا (عدو فرنسا الجمهورية آنذاك) فأسحقُها، لكن أماني نابليون تبخرت على أسوار عكا، وأصيب جيشه بمرض الطاعون، (وكان نابليون أول من وعد اليهود بأن يجعل لهم وطن في فلسطين بعد أن حررهم في مؤتمر السنهدرين في باريس)، وعندما عاد مهزوما ترك وراءه 700 جندي فرنسي مصاب أمر قتلهم بالسم. لقد كانت معركة عكا معركة فاصلة أفشلت خطة استعماريه كبيرة، إلى أن جاءت الحرب العالمية الأولى وتحقق لفرنسا وبريطانيا استعمار الشرق الأوسط ومنها فلسطين التي أودت إلى النكبة الفلسطينية بعد اعلان دولة اسرائيل التي أفرزت الكثير من الحروب والمعارك والمجازر البربرية لدولة الاحتلال، كان آخرها «طوفان الأقصى» ولن تكون الأخيرة.
كاتب سوري
——————————-
مودي ونتنياهو: عمومة الإيديولوجيا بين الصهيونية والهند/ صبحي حديدي
21 – ديسمبر – 2023
إذا لم تكن مفاجئة سلسلة مواقف دول غربية مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا والنمسا، أو خيارات بعض قيادات الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي، في الانحياز إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي والتغطية على/ أو التواطؤ مع حرب الإبادة ضدّ المدنيين من أطفال ونساء وشيوخ قطاع غزّة؛ فإنّ سلسلة أخرى من المواقف ركنت إليها دول آسيوية، في طليعتها الهند بقيادة رئيس الوزراء الحالي نارندرا مودي، تنطوي على مفاجأة من طراز ما، رغم أنها تدخل في سيرورة متلاحقة سبقت عملية «طوفان الأقصى» والتوحش الإسرائيلي ضدّ القطاع.
صحيح، بالطبع، أنّ العلاقات الهندية – الإسرائيلية شهدت قفزات نوعية منذ سنة 2014 مع صعود حزب بهارتيا جاناتا بزعامة مودي؛ تجاوزت، بمعدلات قياسية، التطورات البطيئة التي أعقبت استئناف العلاقات مع دولة الاحتلال في سنة 1992، خلال عهد رئيس الوزراء الهندي الأسبق ناراسيما راو. ليس خافياً، كذلك، أنّ التعاون بين نيودلهي وتل أبيب يسجّل معطيات دراماتيكية: من 200 مليون دولار سنة 1992، إلى 10,1 مليار دولار سنة 2023، في الاقتصاد والتجارة فقط؛ أي باستثناء المبادلات العسكرية، حيث تشتري الهند من دولة الاحتلال معدات عسكرية بقيمة 2 مليار دولار سنوياً، بما يمثّل 30% من مجموع صادرات الاحتلال في هذا الميدان. وخلال زيارة قام بها مودي إلى دولة الاحتلال في تموز (يوليو) 2017، وزيارة مقابلة من بنيامين نتنياهو إلى الهند مطلع 2018؛ جرى توقيع سلسلة من الاتفاقيات، صنعت في مجموعها صيغة تحالف ستراتيجي متعدد المستويات والحقول.
ومع ذلك لم تكن هذه القفزات كلّها، أو سواها، خلف شدّة الانحياز الهندي الأخيرة لصالح دولة الاحتلال؛ إذْ لم يكن أمراً عابراً أن يسارع مودي إلى التغريد، صبيحة 7 تشرين الأول (أكتوبر)، لإدانة «حماس» والتضامن المطلق مع الاحتلال؛ ولم تكن ضرورات التعاون الاقتصادي والعسكري والأمني هي وحدها خلف لجوء الشرطة الهندية وأجهزة الأمن المختلفة إلى قمع التظاهرات المناصرة للفلسطينيين على الأراضي الهندية، مقابل تشجيع ورعاية المظاهرات الأخرى المتعاطفة مع الاحتلال. والمحصلة، بأسرها، لم تكن كافية كي تمتنع الهند عن التصويت على مشروع قرار في الأمم المتحدة يدعو إلى هدنة إنسانية، وثمة استطراداً أسباب أشدّ عمقاً تسيّر هذه الخيارات وتكيّفها، أو حتى تتحكم بها.
ثمة، أوّلاً، نمط جيو – سياسي يسوقه مراقبون كثر ويتصف بدرجات متفاوتة من الصواب والصلاحية، كما في حرص مودي وحكومته على تعميق العلاقات مع الولايات المتحدة أو عدم تعكير صفوها عبر البوابة الإسرائيلية؛ أو، في المقابل، قطع الطريق على الصين ضمن المنافسات الآسيوية/ الآسيوية أو مع دول خليجية مثل السعودية والإمارات (خاصة في مشاريع مثل «I1U2»، و»كوريدور الهند – الشرق الأوسط -أوروبا»)؛ أو، ثالثاً، تسخير النفوذ الإسرائيلي في صدّ الانتقادات الأوروبية لمواقف الهند المحابية لروسيا حول الملف الأوكراني؛ أو رابعاً، وليس آخراً، ردع انتقادات بعض العواصم الغربية بصدد تورّط الهند في اغتيالات الانفصاليين السيخ على الأراضي الكندية.
وثمة ثانياً، ولعلّه الجوهري والأهمّ، نمط إيديولوجي وعقائدي وشعبوي تنبثق محاوره الكبرى من اليقظة العارمة للقومية الهندوستانية، التي كانت أصلاً وراء صعود بهارتيا جاناتا ومجموعة مودي، من جانب أول؛ والتماهي، التكويني ولكن الآخذ في الاطراد، بين الصهيونية سياسة وممارسة وفلسفة، و»الهندوتفا» بوصفها نبراس النزعات القوموية الهندية والتي باتت فلسفة شبه رسمية للسياسة الحكومية الهندية منذ صعود مودي، من جانب ثانٍ. وكما أنّ الصهيونية أقامت معظم ركائزها على فكرة «الوطن القومي لليهود»، فإنّ الهندوتفا تقيم الكثير من أركانها على مفهوم الـ»أكهند بهارات»، أو «الهند غير المجزّأة»: لا مكان للفلسطينيين في فلسطين حسب الصهيونية، ولا مكان للمسلمين في الهند الكبرى حسب الهندوتفا. وإذ تسير الصهيونية في طبعة أمثال نتنياهو وإيتمار بن غفير نحو منظومات الأبارتيد، فإنّ الهندوتفا على يد أضراب مودي وأميت شاه تستعيد الكثير من جذورها التأسيسية مطلع القرن المنصرم كحركة فاشية تعتمد النقاء العرقي.
وكان ف. د. سافاركار (1883-1966)، وهو المفكر والسياسي الأبرز في الأطوار التكوينية للنزعات القوموية الهندوستانية وصاحب اصطلاح الهندوتفا، لا يفوّت فرصة من دون إبداء الإعجاب بالفكرة الصهيونية، والحثّ على الاقتداء بها ونقلها إلى الهند على أصعدة سياسية واجتماعية ومذهبية. وكانت المقارنات التي يعقدها بعض القومويين الهندوستان بين سافاركار وتيودور هرتزل تدعو إلى السخرية، أكثر بكثير مما تستدعي المفارقة الصارخة؛ بالنظر إلى أنّ الأوّل كان بالغ الإعجاب بشخص أدولف هتلر، وله تصريح شهير يقول فيه: «مؤكد أنّ هتلر أفضل من بانديت نهرو في اختيار ما يلائم ألمانيا». وظلّ يرى في الصهيونية «ابنة عمّ» للهندوتفا في جوانب عديدة، أبرزها عنده مسألة التفوّق العرقي وتجييش الدين ومفهوم العصبة، وأنّ الأمم يمكن أن تُبنى على أساس هوية أحادية منفردة.
ومن جانب آخر، لا يقلّ حساسية وخطورة: كما أنّ اليهودية ليست الصهيونية، أو العكس؛ فإنّ الهندوسية ليست الهندوتفا، أو العكس. وفي كتابه «جوهر الهندوتفا»، 1921، يهوّم سافاركار هكذا: «الأفكار والمُثُل، الأنظمة والمجتمعات، الفِكَر والعواطف التي تمحورت حول هذا الاسم [الهندوتفا] متنوعة للغاية وجدّ غنية، عظيمة القوّة والعمق، شديدة الشمول ولكنها مع ذلك عظيمة الحيوية حتى أنها تتحدى كلّ محاولات التحليل. أربعون قرناً، إذا لم يكن أكثر، تضافرت لصياغتها على هذا النحو. أنبياء وشعراء، محامون وقضاة، أبطال ومؤرخون، كلهم فكروا وعاشوا وناضلوا وماتوا لمجرّد أن تُنطق هكذا. ذلك لأنها بالفعل ليست نتاج أفعال لا حصر لها، متصارعة تارة أو متمازجة تارة أخرى لعرقنا بأسره، ولهذا فإنّ الهندوتفا ليست كلمة، بل هي تاريخ».
هذا التهويم كان يتطابق، على نحو صاعق أحياناً، مع أفكار هرتزل في «الدولة اليهودية»، وخلال عشرينيات القرن المنصرم شدّد سافاركار على علاقة العمومة التي تجمع الهندوتفا مع الصهيونية؛ واعتبر أنه «إذا تحققت أحلام الصهاينة ذات يوم، وأصبحت فلسطين دولة يهودية، فإنّ هذا سوف يسعدنا على قدر المساواة مع أصدقائنا اليهود». فالقومويون الهندوستان، خاصة دعاة التفوّق العرقي في صفوفهم، لم يعتبروا أنّ المقارنة بين الهندوتفا والصهيونية محض اختلاق أو مصادفة عشوائية؛ بل (حسب الباحث من جنوب أفريقيا آزاد عيسى في كتابه الذي صدر مؤخراً بالإنكليزية تحت عنوان «أوطان معادية: التحالف الجديد بين الهند وإسرائيل»)، كان يمثّل حالاً تبادلية، وحوارية طويلة، بين اليهودية والهندوسية بوصفها «حضارتين على امتداد العصور».
ويبقى واجباً استذكار حقيقة أولى تاريخية تقول إنّ الهند، ما قبل مودي وحزب بهارتيا جاناتا ظلت صديقة القضية الفلسطينية على نحو عزّ العثور عليه عند العديد من الأنظمة العربية الحاكمة؛ والسجلّ يفيد بأنّ نيو دلهي صوّتت لصالح فلسطين (وبالتالي ضدّ دولة الاحتلال) في عشرات القرارات التي تخصّ حقوق الفلسطينيين بصفة شاملة، ومسائل انتهاكات إسرائيل لحقوق الإنسان، وحقّ العودة، والسيادة الفلسطينية. حقيقة ثانية تقول إنّ نقلات كبرى في تطوير العلاقات الهندية ـ الإسرائيلية تمّت خلال فترات حكم حزب المؤتمر، وحين كان كبار رجالاته في سدّة السلطة (نهرو وأنديرا وراجيف غاندي)؛ وليس فقط خلال فترات حكم الأحزاب ذات التوجّه القومي الهندوستاني.
الأمر الذي لا يبدّل تأثير علاقات العمومة بين الصهيونية والهندوتفا في الزمن الحاضر تحديداً، حيث يُحرق العلم الفلسطيني في شوارع هذه الهند، إياها.
كاتب سوري
—————————–
ترحيل القضية السورية مستمر/ موفق نيربية
19 – ديسمبر – 2023
في 31 مايو 2014، صرح بان كي مون للصحافيين «بأسف بالغ قررت أن أقبل طلب الإبراهيمي مغادرة منصبه». وأعرب الأخضر الإبراهيمي الذي كان حاضراً عن «حزنه الكبير لمغادرة منصبه، فيما تمر سوريا بوضع بالغ السوء».
في حين كرر بان كي مون يومها انتقاده، النظام والمعارضة السوريين «لإخفاقهما» في وضع حد للنزاع. وقال «ألح عليهما مجددا أن يفكرا في مستقبليهما، إنه بلدهما، مستقبلهما»، لافتا إلى أن الأمم المتحدة «موجودة لمساعدتهما». لكنه أقر أيضاً «بأننا لم نكن قادرين على إحراز تقدم نحو حل سياسي» للنزاع السوري.
استقال الإبراهيمي على الرغم من انعقاد مباحثات (جنيف 2) منذ مطلع العام بين المعارضة والنظام، التي أصرّ الائتلاف قبل دخولها على استبعاد إيران منها، وتحقّق له ذلك. لكنّ مسار الأمور تناهى إلى حائط النظام الإسمنتي في رفضه للأجندة المعروضة، وحائط المعارضة في وقوفها لا تتزحزح تحت الضغوط الإقليمية وسياسات الإسلاميين فيها، عند نقطة تشكيل جسم الحكم الانتقالي الذي ستؤول إليه كامل السلطات، قبل أي نقطة أخرى في المخطط.
ذلك اليوم نفسه الذي استقال فيه الإبراهيمي مُحبطاً بانسداد أفق القضية السورية، في 13/5/2014، زار وفد من المعارضة السورية برئاسة أحمد الجربا رئيس الائتلاف المعارض يومها، واشنطن، وقيل إنه اجتمع مع باراك أوباما في البيت الأبيض. في الحقيقة لم يجتمع أوباما مع الوفد كما كان مقرّراً، بل أطلّ قليلاً على الاجتماع، وباركه، وانسحب.. بعد أن سمع ما لا يرضيه من طلبات مبالغ فيها للحصول على أسلحة قادرة على التصدّي لطيران الأسد ودبّاباته، مع المطالبة أيضاً بمنطقة حظر طيران فوق البلاد. كان أوباما يومها قد ازدرد كلامه حول الخطوط الحمر قبل بضعة أشهر، عندما هاجم الأسد الغوطة الشرقية بغاز السارين وقتل حوالي 1200 من السكان اختناقاً، معظمهم من الأطفال. فضّل الرئيس الأمريكي اللجوء إلى تردّد الكونغرس لتبرير وتشريع امتناعه عن تنفيذ وعده أو وعيده. بعد عام من حادثة الغوطة والخطوط الحمر، تأسّس التحالف الدولي الذي تزعّمته الولايات المتّحدة لمحاربة «داعش» في سبتمبر، وتذكّرت إدارة أوباما ثاراتها مع نقّاد تردّدها السابق، لتطلب منهم المشاركة في مهمّة التحالف، مع اشتراط استبعاد محاربة النظام، بالتوازي مع محاربة «داعش»، الأمر الذي رفضه أردوغان، ومن ثمّ المعارضة السورية. والتزمت» قوات حماية الشعب» الكردية بدفتر الشروط برؤية أكثر مرونة وروحاً عملية، ودخلت في مخطط عمل التحالف/ حين أبلت في معركة عين العرب/كوباني منذ سبتمبر 2014، وتركّزت الأنظار عليها، خصوصاً بعد تطوير بنيتها حسب المشورة الأمريكية، عند تشكيل قوات سوريا الديمقراطية، الأكثر مراعاة نسبية لعرب الجزيرة السورية.
إذن، في ذلك العام المشهود، توجّه مسار القضية نحو تجميدها عموماً، في اللبّ وليس في القشور وكلام المناسبات، وترافق الأمر مع تطوّر دولي آخر، على الأرض الأوكرانية، تمثّل في فرار الرئيس يانوكوفتش الموالي لموسكو، وسيطرة قوى ليبرالية على الحكم مستندة بدورها إلى ثورة الميدان البرتقالية وزخمها. سيطر بعدها جنود بلباس عسكري أخضر، روس مموّهون، على جزيرة القرم، رغم كلّ الاحتجاجات الدولية، الغربية خصوصاً. ها هي ذي أوكرانيا، بأزمتها نفسها، وحربها الطاحنة الجديدة التي شنّتها روسيا البوتينية عليها، تتدخّل مؤخّراً بالطريقة نفسها، لتحجب القضية السورية عن أنظار قوى العالم الفاعلة، وتكرّس وجودها، أو تعمّقه على الأرض ليصبح من معالمها العادية (وهذا موضوع مستقل بذاته). لا يتعارض هذا مع كون الحرب تهدف بشكل مباشر إلى منع انضمام أوكرانيا إلى الناتو، وأيضاً إلى الاتّحاد الأوروبي.
في منطقة أخرى أكثر قرباً وتأثيراً، توغّلت إسرائيل في عام 2008 داخل قطاع غزة وردّت حماس بإطلاق الصواريخ، ثم باشر الجيش الإسرائيلي في ديسمبر عمليّته» الرصاص المصبوب» في غزة، التي استمرّت حوالي الشهر ونتج عنها آلاف الضحايا بين الفلسطينيين، والعشرات بين الإسرائيليين. في الشهر التالي قام الإخوان المسلمون في سوريا بتجميد معارضتهم لنظام الأسد، وطرحوا مبادرة للصلح، لإتاحة الفرصة للتركيز على حرب غزة، كما قالوا، تلك الحرب التي كان لهيئة التنسيق الوطنية أيضاً موقف رحّب بتجميد الإخوان لمعارضتهم فيها. جعل ذلك المسار المعارضة السورية التقليدية في أضعف أوضاعها، واستقبلت الربيع العربي وهي على تلك الحال. ومن ثمّ، زاد تحالف إعلان دمشق المعارض ضعفاً على ضعفه، في حين رحّبت» هيئة التنسيق الوطنية» على لسان منسّقها حسن عبد العظيم بخطوة الإخوان تلك. لكنّ ذلك التوافق لم ينفع «الهيئة» حين تشكيل المجلس الوطني – أواخر عام 2011 الذي شهد منذ مارس انطلاق الثورة الشعبية – باتفاق بين الإخوان وتفريعاتهم وإعلان دمشق، على استثنائها وعزلها الذي لم يزعجها كثيراً. بضعف المعارضة التقليدية، الذي صنعته يداها مع النظام، تأسّس فشل الحراك العظيم في تحقيق مهمته. في العامين الأخيرين، هنالك ظرف جديد، ومعالم حالة مختلفة، على الرغم من اشتراك حرب غزة وحرب أوكرانيا من جديد في تغيير المعادلة الدولية كلّها، الأمر الذي يجعل غياب القضية السورية محسوماً وغير قابل للنقاش أيضاً. فبعد أن ابتدأ تغيير الاستراتيجية الأمريكية وطريقة تحضيرها للنظام العالمي المقبل: «النظام الدولي الليبرالي القائم على القواعد»، الذي كانت سائداً، إنه النظام العالمي الذي قام مع نهاية الحرب العالمية الثانية، ويصرّ ميرشايمر- أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو الشهير بواقعيته السياسية، على أنه النظام الذي ابتدأ يتبلور بعد انتهاء الحرب الباردة، وربّما كان هذا أقرب (وأكثر واقعية أيضاً).
في هذا النظام الجديد أصبح هنالك ثلاث قوى كبرى فاعلة: الولايات المتحدة والصين وروسيا. تبقى الأولى هي الأكثر أهمية وقدرة، تليها الصين بقدراتها الاقتصادية المندفعة إلى الأمام، مع قدرات عسكرية ممكنة، ثمّ روسيا بسلاحها التقليدي والنووي المهم والبارز. وعند النظر استراتيجياً، لا بدّ من الانطلاق من أن الصين هي خصم المستقبل الرئيس والحاسم، ولا بد من مواجهتها كهدف أوّل، لأنّ روسيا تتنازعها عوامل الأفول والفاعلية في الوقت نفسه، لذلك لا بدّ من تفعيل اتفاق لوكوس، الذي يؤلّف بين القوى المناوئة للصين في الشرق الأقصى، واعتباره مركز الثقل في الاستراتيجية الأمريكية. يعني ذلك تخفيف ذلك الثقل عن أوروبا والشرق الأوسط بكلْ تعقيداتهما التاريخية. اعترضت المسألة ومن ثمّ الحرب الأوكرانية مسار التحوّل في أوروبا، وتعترض حرب غزّة – والمسألتين الإسرائيلية والفلسطينية – الآن تغيير مسار الشرق الأوسط. ودخلت السياسة الأمريكية في حيص بيص. جمع الرئيس بايدن بين المسألتين في طلب واحد لتمويل الاستراتيجية الأمريكية فيهما من الكونغرس، يعاني من صعوبات وتعقيدات بالغة. تبلغ كلفة ذلك القانون مئة وعشرة مليارات دولار عداً ونقداً. وتبلغ «الفوضى» ذروتها حين يتبيّن أن ما عرقل ذلك القرار هو حرص الجمهوريين على مقايضتها بتمويل للجدار العازل مع المكسيك، الذي يمنع أو يحدّ من الهجرة عبر الحدود مع المكسيك. ليظهر من ثمّْ أن السياسات الانتخابية تستطيع تجاوز الاستراتيجيات وتقطع الطريق عليها، وتزيد عوامل تلك الفوضى ومفاعيلها.
في منطقتنا، عادت الولايات المتحدة بترسانة استراتيجية هائلة، واهتزّت اتفاقات أبراهام التي أسّسها ترامب بشدّة، بعد أن انبعثت روح معاداة إسرائيل من خمولها إثر اعتداءاتها على أهل غزة، المدنيين خصوصاً، ومدّ بوتين وحكومته بعض أصابعه أبعد مما أتيح له سابقاً، وتغيّرت المواقف اندفاعاً أو امتناعاً.. ولعلّ المرارة الأشدّ يمكن لحظها لدى السوريين، الذين زاد شعورهم بتخلّي العالم عنهم، وبأن الحربين الراهنتين تأكلان من نصيبهم من الاهتمام، رغم كلّ تضامنهم العميق مع الشعبين الفلسطيني والأوكراني، أمام هجمات حكومتي بوتين ونتنياهو.
كأنه ترحيل للقضية السورية إلى ما وراء الأفق.
كاتب سوري
———————–
وأد حرية التعبير: قواسم الديمقراطيات الغربية والكيان الصهيوني/ صبحي حديدي
14 – ديسمبر – 2023
في فرنسا، التي يزعم معظم ساستها أنها بلد الجمهورية وأرض حقوق الإنسان ومهد الثورة الفرنسية والكومونة، لم يتأخر وزير الداخلية بالتضامن مع زميله وزير العدل في إصدار قرارات عاجلة معلنة، وأخرى اتخذت صيغة تعميمات داخلية، تمنع أي تظاهرة مؤيدة لحقوق الشعب الفلسطيني؛ بعد ساعات أعقبت ذيوع أخبار «طوفان الأقصى» وابتداء حرب الإبادة الإسرائيلية ضد» المدنيين من أطفال ونساء وشيوخ قطاع غزة. وحين أفتى مجلس الدولة، بوصفه سلطة التحكيم الرسمية الأعلى في البلاد، بأنّ المنع لا يمكن أن يكون عاماً معمماً هكذا، ويتوجب النظر إلى طلبات التظاهر طبقاً لكلّ حالة على حدة؛ شهدت فرنسا حالات عجائبية (لأنها، أيضاً، مهد السوريالية) من حظر مظاهرة تأييد للفلسطينيين في العاصمة باريس، والسماح بأخرى للغرض ذاته في مرسيليا.
بريطانيا، بلد أوليفر كرومويل والـ«ماغنا كارتا» والدستور الأقدم منذ العصور الوسطى والحديثة، احتاجت إلى إقالة وزيرة الداخلية في حكومتها؛ كي تُرفع عن تظاهرات تأييد الفلسطينيين صفات «الكراهية» و«الشغب» و«الدهماء»، الأمر الذي لم يكبح جماح التأثيم وكمّ الأفواه وخنق حريات التعبير. زميلتها وزيرة الدولة للعلوم والابتكار والتكنولوجيا اتهمت اثنتين من أعضاء «معهد البحث والابتكار»، كيت سانغ من جامعة إدنبره وكامنا باتيل من جامعة لندن، بالإعراب عن «آراء متطرفة» بصدد الحرب في غزة؛ وأمهلت الهيئة يوماً واحداً لـ»تعديل» خططها، بما في ذلك «توقيف هذه المجموعة»؛ الأمر الذي تمّ بالفعل، واستتبع استقالة 7 من أعضاء المجموعة، والدخول في صدام مفتوح مع اتحاد الجامعات.
في ألمانيا للمرء أن يحدّث بلا حرج، فالحال هناك ليست جديدة ولا تدور حول الحرب على غزّة لأنها إنما تبدأ من عقدة الذنب تجاه الهولوكوست، ولا تنتهي عند اليقظات المتعاقبة للتيارات النازية المتجددة. وأمّا في الولايات المتحدة فإنّ الحال أشدّ ابتذالاً من أن تُختصر على أيّ نحو توصيفي أو تمثيلي، خاصة حين يختلط وأد حريات التعبير بصدد القضية الفلسطينية، مع انفلات من كلّ عقال لخطابات العنصرية والتفوّق الأبيض والفاشية والشعبوبة. والحصيلة، على امتداد تسعة أعشار الديمقراطيات الغربية، قد تجعل المرء يترحم على انتهاك الحقوق المدنية وحريات التعبير داخل أنظمة الاستبداد والقمع، الأشرس والأقدم.
وكي لا تغيب دولة الاحتلال الإسرائيلي عن مشهد خنق الحريات هذا، بوصفها أيضاً «واحة الديمقراطية» الوحيدة في الشرق الأوسط كما يتشدق أصدقاؤها هنا وهناك؛ لم ينقضِ زمن طويل على واقعة تأثيم رسام الكاريكاتير الإسرائيلي أفي كاتز، والذهاب إلى درجة اتهامه (وهو يهودي الديانة، كابراً عن كابر) بـ… العداء للسامية! الرسم نشرته مجلة «جيروزاليم ريبورت»، وكان يحاكي صورة فوتوغرافية التقطها مصوّر الأسوشيتد برس أوليفييه فيتوسي، تُظهر رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو وقد تحلّق حوله عدد من نوّاب الليكود، الذين تلهفوا على أخذ صورة «سيلفي» احتفاء بتمرير قانون «قومية الدولة» في الكنيست. كانت روح الكاريكاتور مكتملة العناصر في اللقطة»، كتب كاتز، و»كلّ ما فعلتُه هو تحويلها إلى رسم»… وأيّ رسم، والحقّ يُقال: مجموعة خنازير مجتمعة، مع عبارة مقتبسة حرفياً من «مزرعة الحيوان»، رواية جورج أورويل الشهيرة، تقول: «كلّ الحيوانات متساوية، لكنّ بعضها أكثر مساواة من آخرين».
إدارة المجلة خضعت للضغوط، وفصلت كاتز من عمله رغم أنه كان في عداد الأعلى شعبية بين كتّابها ومحرريها. كذلك التزمت الصمت حول أسباب الفصل، ثمّ ــ بعد انتقال الحكاية إلى وسائل الإعلام الدولية وانطلاق حملات متعددة للتضامن مع كاتز، واستقالة اثنين من كبار محرّري المجلة ــ خرجت أخيراً بالتبرير التالي: «الرسم تجاوز خطوط الخطاب المشروع. ذلك لأنّ صورة الخنزير تعيد إلى الأذهان تذكارات معادية للسامية استُخدمت ضدّ اليهود على مدار التاريخ. وقبل وقت قصير كان باحث مرتبط بحركة حماس قد أعلن أنّ الله حوّل اليهود إلى خنازير وقرود، ونحن كصحيفة صهيونية لا نستطيع قبول هذا التناظر التحقيري».
وإزاء وقائع كهذه، وسواها أخرى كثيرة ومتنوعة بالطبع، يتوجب على المرء أن يبدأ من التمسك التامّ بالحقّ في حرّية التعبير، خصوصاً حين يتصل الأمر بالأعمال الإبداعية، وأياً كانت المظانّ والطعون ضدّ العمل. وبالطبع، هذا يشمل أيضاً حقّ المرء في ممارسة مختلف أشكال الاحتجاج القانوني على هذا أو ذاك من الأعمال الفنّية، كأن يخرج المرء في تظاهرة سلمية أو حتى أن يرفع دعوى أمام القضاء… طبعاً في البلدان التي يكون القضاء فيها سيّداً ومستقلاً!
الجانب الثاني، والجدليّ، من المسألة هو أنّ تنظيم حرّية التعبير في الغرب المعاصر يخضع غالباً لمعايير الكيل بمكيالين؛ بمعنى أنّ عملاً يطال الإسلام (إحراق المصاحف مثلاً) قد يلقى معاملة مختلفة عن عمل آخر يطال المسيحية أو اليهودية، سواء من حيث حجم ونطاق الضجة الإعلامية، أو الإجراءات القانونية التي تتخذها الدولة. وعلى سبيل المثال، السابقة الأبرز لقمع الأعمال الفنية في التاريخ البريطاني المعاصر كانت توقيف مسرحية «الهلاك»، للمسرحي وكاتب السيناريو البريطاني المعروف جيم ألن، الذي يعدّ الشريك الإبداعي الأوّل للمخرج السينمائي الكبير كين لوش. والتوقيف جرى في لندن، ثمّ في دبلن، سنة 1987 لأنّ المسرحية تتناول التواطؤ بين الشخصية الصهيونية البارزة رودولف كاشتنر والضابط النازي الأشهر أدولف إيخمان. وكانت الصفقة تنطوي على تسهيل النازيين هجرة 2000 من اليهود الهنغار إلى فلسطين، مقابل سكوت المؤسسة الصهيونية عن سوق قرابة نصف مليون يهودي إلى معسكرات الاعتقال!
كذلك يصحّ الاستدراك بأنّ القوانين المعمول بها في بريطانيا اليوم حول قضايا التشهير ضدّ العقائد والأديان، وهي إجمالاً التشريع المعروف باسم قانون التجديف، تؤمّن الحماية للديانة المسيحية، وبالأحرى للمذهب الأنغليكاني وحده تقريباً. ولأنّ بريطانيا توجهت إلى تعديل ذلك القانون وسنّ تشريعات جديدة تتيح للأقليات الدينية الأخرى ضمانات أفضل أمام القانون، فقد شهد البلد ما يشبه «حروب تحسين المواقع»، إذا جاز القول؛ خاضتها وتخوضها بعض الأقليات الدينية النافذة لإسماع صوتها والتشديد على حقوقها، كي يخرج القانون ملبيّاً على نحو أفضل لهواجسها.
ولا بدّ أيضاً من وضع مختلف وقائع انحطاط حرّية التعبير في سياق تراجع الحرّيات العامّة في الغرب جرّاء القوانين التي صدرت بعد 11/9، والتي تتذرّع بمكافحة الإرهاب وحماية أمن الأوطان والمواطنين؛ ولكنها في الواقع تنتهك حرّية التعبير على نحو صارخ ومباشر، وتعيد إنتاج مكارثية جديدة في صلب الهيكلية القانونية في معظم الديمقراطيات الغربية. وليس عجيباً أن يلجأ كثيرون إلى مقارنة 7/11/2023 بـ11/9/2001، لأكثر من غاية؛ بينها العثور على ذرائع لتبرير وأد الحرّية في التفكير حول حرب الإبادة الإسرائيلية.
وهذا يردّ الملفّ إلى الإسرائيلي كاتز، الذي ساجل بأنّ معايير حرّية التعبير في دولة الاحتلال هي التي تغيّرت، أو بالأحرى انحطت، لأنّ ياكوف فركاش (زئيف)، أحد مخضرمي الكاريكاتور الإسرائيليين، كان ــ في سنة 1980، وفي صحيفة «هآرتس» ــ قد استخدم صورة الخنزير لتمثيل جميع وزراء حكومة مناحيم بيغين، وعلى رأسهم أرييل شارون، فلم يُفصل من العمل، ولم يُتهم بالعداء للسامية. فلا عجب، والحال هذه، أن تنحطّ حرّيات مماثلة في بلدان لا تسير خلف جيش الاحتلال في ارتكاب جريمة حرب تلو أخرى، فحسب؛ بل تمتدح همجيتها أيضاً، وتغسل ما يُراق فيها من دماء الأبرياء.
كاتب سوري
—————————
في معنى الفيتو الأمريكي في مجلس الأمن/ بكر صدقي
13 – ديسمبر – 2023
جاء الفيتو الأمريكي الأخير على مشروع القرار الداعي إلى وقف إطلاق النار في غزة تتويجاً لما بدأه الرئيس بايدن في السابع من تشرين الأول بالدعم غير المشروط لحرب إسرائيل الإبادية على قطاع غزة. كل التصريحات الأمريكية بشأن مطالبة إسرائيل بـ»التقليل من عدد الضحايا المدنيين» الفلسطينيين لا قيمة لها، فواشنطن تعرف أن المستهدفين بالقتل هم المدنيون أساساً، لأن مقاتلي حماس أو الفصائل لن يقفوا في العراء بانتظار سقوط القنابل عليهم، ولأن المباني والمستشفيات والمدارس التي يحتمي بها المدنيون هي التي تقصفها القوات الإسرائيلية كل يوم.
وتعرف إدارة بايدن أن الهدف المعلن لحرب إسرائيل، تدمير حماس، هو هدف لا يمكن تحقيقه إلا بتدمير القطاع مع جميع سكانه الذين تقول إسرائيل إن حماس تستخدمهم كدروع بشرية. وما الفيتو الأمريكي في مجلس الأمن على وقف إطلاق النار إلا إجازة لآلة القتل الإسرائيلية لقتل كل ما ومن تجده في طريقها من «دروع بشرية» هي لحم أطفال غزة ومدنيوها عموماً.
الأسوأ من ذلك أن هذا الفيتو قد جاء بعد قلب إسرائيل لطاولة المفاوضات حول تحرير الأسرى وإنهاء الهدنة التي سمحت بتبادل قسم منهم، والعودة إلى الحرب من حيث توقفت. ذلك أن الهدنة، على محدوديتها الزمنية واشتراطاتها الإسرائيلية التعجيزية، كانت فسحة للسياسة في وسط الحرب، ونافذة يمكن البناء عليها لوقف الحرب وعودة إلى مفاوضات أكثر شمولاً تمنح الأمل لحل سياسي حقيقي هو وحده الكفيل بأن ينهي الهواجس الأمنية الإسرائيلية المزعومة مقابل قيام دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة حتى لو لم تلبَّ كامل تطلعات الشعب الفلسطيني.
لم يفوّت نتنياهو هذه الفرصة التي منحها الفيتو الأمريكي ليعلن عن الخلاف مع المنظور الأمريكي لمرحلة «ما بعد حماس» أو ما يسمى باليوم التالي بعد انتهاء الحرب، فقال إنه لا يريد أن يرى في غزة، بعد الحرب، «لا حماسستان ولا فتحستان»! أي أنه يرفض تسليم الحكم في قطاع غزة للسلطة الفلسطينية التي من المفترض أن إسرائيل ترتبط معها باتفاق سلام. وكمن يريد شرح الأمر لمن لم يفهمه بعد أضاف أنه لن يعود إلى ارتكاب «غلطة أوسلو»! وهذا على أي حال هو إعلان ما هو معلن في الأفعال منذ سنوات، بالكلام الصريح هذه المرة. فنتنياهو بكلام أوضح لا يريد للفلسطينيين أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم. مع أنه يكرر القول، هو وأركان حكمه، بأنه لا يريد إعادة احتلال غزة. ليس لدى إسرائيل ما تقدمه إذن غير الحرب الدائمة بلا أي أفق سياسي. ففي الجينات الإسرائيلية إدراك بأنها كيان غير طبيعي مزروع بالقوة في هذه منطقةٍ لا يمكن لشعوبها القبول بوجودها، وهو ما يعني الحرب الدائمة مع التوسع في الاستيلاء على الأراضي المجاورة كلما سنحت الفرصة، والتخلص من العبء الديموغرافي للفلسطينيين بقدر المستطاع.
سواء أعلنت حكومة نتنياهو أو لم تعلن، من الواضح أن هذا القتل المهول للمدنيين له غاية لم تعد تخفى على أحد، ألا وهي تهجير الفلسطينيين إلى أي مكان خارج حدود القطاع (حالياً). تحدثت تقارير إعلامية متواترة، على أي حال، عن دراسات لأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية تدعو لانتهاز فرصة الحرب القائمة لتهجير أكبر عدد ممكن من سكان قطاع غزة في اتجاه الأراضي المصرية، وثمة وزراء يمينيون في حكومة نتنياهو يتحدثون علناً عن ذلك. وإذا نظرنا إلى مجريات الحرب منذ بدايتها سنلاحظ تطبيقاً تدريجياً لخطة التهجير بكل وضوح. في البداية طلب جيش الاحتلال من السكان النزوح جنوباً لتفادي القصف، ثم واصلت القوات البرية تقدمها جنوباً وصولاً إلى خان يونس، ويستمر القصف اليومي لمدينة رفح في أقصى الجنوب. أضف إلى ذلك منع دخول المساعدات الإنسانية عبر الحدود مع مصر، مع قطع الماء والكهرباء منذ بداية الحرب. هذه الشروط كفيلة بدفع السكان المدنيين للهروب عبر الحدود، وهي مقفلة في وجوههم إلى الآن. يريد نتنياهو أن يصرخ الفلسطينيون مستسلمين ويطالبوا بالسماح لهم بعبور الحدود في اتجاه الأراضي المصرية. وبذلك ستتعرض مصر لضغوط كبيرة شعبية ودولية ليصبح التهجير حلاً للهروب من الموت قتلاً أو جوعاً. ثمة تسريبات عن «خطة بـ» للتهجير إذا استمرت مصر في رفضها لاستقبال النازحين، يتحدث بها أركان حكومة الحرب الإسرائيلية، وهي تهجيرهم إلى الولايات المتحدة والدول الأوروبية. وإذا طرح هذا «الحل» علناً في المداولات الأممية لا نستبعد أن تقبل بعض الدول الغربية باستقبال أعداد من النازحين الفلسطينيين من غزة، وهي تلك الدول التي أمضت سنواتها الأخيرة وهي تضع الجدران العالية أمام أفواج المهاجرين الهاربين من جحيم الحروب والأوضاع المستعصية كحال السوريين والعراقيين والليبيين وغيرهم.
إسرائيل لا تريد أن تصبح دولة طبيعية بعلاقات سلام مع جيرانها، حتى حين يقبل بعض هؤلاء الجيران بالتطبيع معها، لأنها تدرك في قرارة نفسها أنها لا يمكن أن تصبح كذلك.
الفيتو الأمريكي، في الخلاصة، ليس فقط إجازة للقتل والتدمير، بل كذلك لتهجير أكبر عدد من الفلسطينيين، أي للقضاء على أي فرصة مستقبلية للسلام.
كاتب سوري
————————–
ما يحدث في غزة يحدث في العالم/ ياسين الحاج صالح
13 – ديسمبر – 2023
ما يحدث في غزة طوال شهرين وأسبوع يحدث في العالم. القتل العنيف والتدمير والحصار والإذلال والتجويع، والاستباحة التي تتجاوز حدود الإنسانية، كلها تحدث في العالم، في كل مكان من العالم. الدعم الغربي المتطرف لإسرائيل والفجور في الانحياز لنظام يجمع بين الاستعمار الاستيطاني والفصل العنصري والاستعداد الإبادي، يحدث في العالم، فيصنع وقائع وممكنات؛ وقائع سيئة وإجرامية تجعل الحاضر لا يطاق، وممكنات من نوعها، تصادر قطعة كبيرة من المستقبل. ثم أن «ما نفعله في العالم نفعله لأنفسنا» على ما يقول إيمانويل وولرشتاين، في عبارة محكمة تتضمن امتناع الفصل بين أفعال التدمير الموجهة نحو الخارج وما يحدث في دواخل الأنفس والدواخل الاجتماعية من دمار. فإذا كان ما يُفعل في العالم هو الاستباحة والإبادة، وهو ما يجري فعلاً، فإن هذا يحدث في كل مكان، ليس لهم وحدهم، بل لنا كذلك، أياً يكونون هم وأياً نكون نحن. يحدث للبيئة كذلك، فلا عدالة بيئية في أرض محتلة، بحسب ما قالت غريتا ثونبرغ، الناشطة البيئية الشهيرة، وهي أشد امتناعاً في أرض تعرضت لخمسة وعشرين ألف طن من المتفجرات خلال أقل من شهرين، ما يعادل نحو 12 كيلوغراماً للفرد الواحد في غزة، بما يجعل مساحات من القطاع غير قابلة للعيش، حتى لو توقف حرب الإبادة والتدمير الإسرائيلية اليوم.
وما يحدث في غزة يحدث في كل مكان لأن العالم أكثر تمازجاً من أي وقت مضى على مستويات متعددة: المعلومات والصور وتكنولوجيات الاتصال، فضلاً عن درجات متقدمة من الاختلاط البشري، وتماثل في النظم الاقتصادية. هذا التمازج بنيوي وغير عكوس، أو تستحيل معاكسته بغير بعنف مهول يمزق ما صنعته تفاعلات طويلة الأمد، ليعيد إقامة العالم حول انقساماته وفوارقه السياسية والثقافية والدينية القديمة، على ما تسعى تيارات اليمين القومي والديني في كل مكان.
اليوم، لا يبعد أن يصير هذا المستحيل واقعاً، فالعنف المهول نراه سلفاً يمارس في غزة، ويمارس عنف خطابي ورقابي في بلدان الغرب، موجه نحو إعادة نصب حواجز ضد التفاعل العالمي. في الوقت نفسه تريد الحكومات الغربية أن تساهم في الحرب ضد غزة وأن ترفض وقف إطلاق النار على أهلها، ثم أن لا يكون ثمة رد فعل على ذلك. يبدو هذا مستحيلاً بدوره. وإلى اليوم لا يبدو العنف خيراً ممكناً لتحقيق هذا المستحيل، ليس في المجتمعات الغربية على الأقل.
ثم أن ما يحدث في غزة يحدث في العالم كذلك لأن فلسطين شأن عالمي بدلالة كون محتليها أبطال العالم في العالمية، وممن لا يكفون ليل نهار طوال السنوت والعقود عن الترويج لأنفسهم عالمياً. لقد عوْلم التحالف الأمريكي والغربي الإسرائيلي فلسطين، نقلها معه إلى كل مكان، ما يعني استحالة معاكسة هذا الاتجاه دون فك التحالف نفسه. في هذه المساحة الصغيرة ينعقد ويتعقد صراع يعني مباشرة مليارين من البشر وأكثر، وبصورة غير مباشرة جميع البشر، فلا يمكن المبالغة في أن ما يحدث في غزة وعموم فلسطين يمكن أن يكون حاسماً في رسم مستقبل العالم ككل.
والواقع أن ما حدث في فلسطين منذ النكبة إلى اليوم يبدو مستحيلاً؛ هذا المسلسل من عذاب لا ينتهي أشد استحالة من أن يكون واقعياً، وهو ما شهدت عليه الطفلة الغزاوية المصابة التي كانت تلح في مساءلة مسعفيها «عما إذا كان ما حدث لها حلم أم جد وحقيقة». مستحيل كذلك أن تجري تعرية وإذلال فلسطينيين أمام الكاميرات، وأن يعرض ذلك في إسرائيل وفي منابر إعلامية غربية كأمر عادي، بل كإجراء قتالي مشروع، دون أن يذكر أحد أن التعرية والإذلال كانت من أول ما يجري لليهود المجلوبين إلى معسكرات الاعتقال النازية. هذا ليس المثال الوحيد للقول إن إسرائيل التي ولدت، جزئياً على الأقل، من إبادة، وطورت حول تلك الإبادة مظلومية أصلية وفوق تاريخية لا تقبل التقادم، تستبطن بفعل ذلك بالذات إبادة، نراها بالفعل تنبسط أمامنا منذ عقود، وإن في إيقاع أبطأ من الإيقاع النازي العاصف. وليس بعيداً عن الإبادة المستبطنة في مشروع إسرائيل أن الطرف الآخر في إبادة اليهود، ألمانيا، لم تكن أقرب إلى ماضيها التوتاليتاري أكثر مما هي الأسابيع الماضية بعد «طوفان الأقصى». هناك اليوم ما يقارب عقيدة رسمية بخصوص إسرائيل يراد فرضها على الجميع.
لا يقتصر الأمر على أن ما حدث في ألمانيا أيام النازيين يعاود الحدوث في فلسطين، بل أن ما يحدث في الماضي يحدث في الحاضر أيضاً. الزمن يمضي، لكن التاريخ لا يتغير. وهذا أثر مباشر للفرادة الجوهرية للجينوسايد اليهودي، الهولوكوست، ولامتناع مقارنته بشيء آخر، أي لتعاليه على التاريخ، على نحو يجعله أصلاً دائماً مستمراً. فإذا انطلقنا من أولوية التاريخ على الزمن أو أن الزمن تاريخي، بدا لنا مضي الزمن مقاساً بالشهور والسنوات والعقود شيئاً سطحياً وغير حقيقي، وأن الزمن التاريخي في واقع الأمر لا يتغير، أنه أبد مثل الزمن السوري طوال أكثر من نصف قرن من حكم السلالة الأسدية. ليس الأبد زمناً فارغاً، أو زمن سرعة منتظمة يسير متهادياً؛ بالعكس، إنه زمن مراوحة في المكان لا تتحقق بدورها دون عنف مهول. عنف خطابي يقرر فرادة معاناة بعينها، وفرادة معنى مستخلص منها، كما عنف فيزيائي يميز احتكار أدواته إسرائيل أكثر ما يميز. وهما معاً، العنف الخطابي والعنف الفيزيائي، مما يميزان «سوريا الأسد» منذ نشاتها مطلع سبعينيات القرن الماضي.
على أن الميزة الجوهرية للأبد هي غياب الوعد العام. ليس هناك وعد للفلسطينيين بغدٍ مختلف إذا هم استسلموا اليوم. مشكلة الفلسطينيين هي وجودهم، ولذلك فإن استسلامهم السياسي لا يكفي. وفي الأصل بالمناسبة ظهرت حماس، وتظهر الإسلامية عموماً، بأثر افتقار مجتمعاتنا إلى وعود أرضية، والسعي وراء وعود سماوية بديلة. بل وليس هناك وعد للإسرائيليين بغير مزيد من القلق الوجودي في مواجهة أي تحديات سياسية وأمنية وديمغرافية، ومزيد من ترسيخها كدولة يهودية مسلحة، وما يبثه ذلك الصفاء من مزيد من القلق الوجودي ومن نوازع التطهير والإبادة.
ونعرف كذلك أنه ليس هناك وعد سوري عام من أي نوع. فقط ميراثية عائلية بحماية أجنبية.
ويبدو مركب الأبد واللاوعد شرطا عالمياً اليوم. عالم بلا بديل، أي بلا مستقبل كذلك. نعيش زمناً تكرارياً راكداً، يبدو أنه يزداد تصلباً وتعصباً بعد غزة. هذا نذير فقط بمستقبل انفجاري، باجتياحات طوفانية للعنف، بأهوال قيامية، قد تكون غزة مجرد نافذة عرض صغيرة لها.
عنف اليوم عنف إبادي موجه نحو الأبد، ليس «العنف الثوري» الذي كان ملء الأنظار والأسماع قبل قرن من اليوم وحتى قبل عقود خلت. إسرائيل التي «وجدت لتبقى» نموذجه الأصفى. ومع هذا النموذج يعود كل عنف تاريخ الاستعمار، وكل عنف تاريخ الطبقات ذات الامتيازات، وكل عنف المشاريع الفاشية القائمة على النقاء العرقي أو الديني.
إنه عنف مُوضّع ومنتشر في الوقت نفسه، محلي وعالمي، في غزة وفي كل مكان من العالم.
كاتب سوري
—————————–
============================
العربي الجديد
——————————-
إسرائيل وكل عناصر إرهاب الدولة والإبادة الجماعية/ يقظان التقي
08 يناير 2024
يفتح طلب جنوب أفريقيا من قضاة محكمة العدل الدولية “أن يأمروا إسرائيل بوقف عملياتها في قطاع غزّة، واتّخاذ تدابير طارئة عملياً، والتخلي عن القتل القسري للفلسطينيين في قطاع غزّة، والسماح للسكان بالحصول على المساعدات الإنسانية”، على بدايات نوعية ومؤشّرات مهمّة في تطبيق قواعد القانون الدولي، حيث تتهم جنوب أفريقيا إسرائيل بانتهاك اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها.
وثيقة من 84 صفحة في مقاربة مهمة وقراءة متحرّرة، تفكّك الأسس التي قامت عليها الدولة العبرية، وهي تدين قتل الفلسطينيين والاعتداءات الخطرة على سلامتهم الجسدية والنفسية، وإخضاعهم المتعمّد لظروف إنسانية قاسية لا تُحتمل. جرائم يمكن وصفها بأنها إبادة جماعية، ويمكن استخلاصها من طبيعة وصور ووقائع العملية العسكرية الإسرائيلية في غزّة واستمراريتها. وعلى إسرائيل المثول لتبرير اغتصابها فلسطين، وارتكاب المجازر، وإقامة المستوطنات، واتباع استراتيجية توسعيّة، وتبرئتها من جرائمها المرتكبة وصورها الدموية في قتل الأطفال والنساء والمسنّين على مرأى من المجتمع الدولي.
بدأ العالم يتكلّم بحسّ جديد عن خطر غياب السياسة والقانون، وإنه إذا لم يكن هناك سياسة عالمية، حتماً سيكون هناك مزيد من الحروب، وما جرى في غزّة ليس استثناءً، فالسياسة العالمية حوّلت الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط إلى “معسكر كبير” من القمع والاضطهاد، فتجري فيه حروب أهلية واقتتال وعنف وتهجير، وأوجدت معها سيناريوهات الإقصاء أو الاختفاء لغير المرغوب بهم من دول وشعوب.
الجغرافيا السياسية هذه هي الخطر الأول على الاقتصاد والاستقرار العالمي. والعالم متكلّس، محنّط، متكدّس في أجسامه وضمائره. إنه العالم الذي في رسم نهاياته، يطحن أحلام العالم وآماله واحتجاجاته.
تداعيات الحرب في أوكرانيا، واحتمالات استمرار الصراع بين إسرائيل وحركة حماس أشهراً عديدة، والاضطرابات في البحر الأحمر ستؤثر في المعادلات الاقتصادية، حيث يفيد الاقتصاديون بأن 60% من النتاج المحلي العالمي سيتأثر سلبا. كذلك فإن المحطات الإنتخابية العالمية معطى ثقيل.
تجسّد إسرائيل المشروع الغربي أكثر من أي شيء آخر. الغرب وإسرائيل معاً ليسا السبب في نفور الدول العربية فحسب، بل أيضاً معظم البلدان الأفريقية والآسيوية وفي أميركا اللاتينية التي لم تعد قادرة على تحمّل صور التعالي والتسلط والهيمنة والنظرية الغربية الفوقية والعنصرية الاستعمارية. كأن العالم فردٌ واحدٌ يختزن كل الأفراد. وهذا ما يفسّرعدم التضامن مع أوروبا في مواجهة الغزو الروسي في أوكرانيا. ليس التضامن مع الفلسطينيين من منطق معاداة السامية، بل ضد أوروبا والولايات المتحدة، وهو ما تجسّده إسرائيل في صراعها الطويل لمحو القضية الفلسطينية. حالة استعمارية، غريزية، كاسرة، متوحّشة، مستفزّة. من ذلك العالم القاسي والجنون والوحشية، وما سبّبته وما شهدته فلسطين من مجازر وآلام يلقي اللوم على الولايات المتحدة ذاتها، لأنها لم تكمّل مهمتها في أيٍّ من الأماكن الساخنة، وتركت عناصر الصراع العربي – الإسرائيلي متفاقمةً من دون أي قرار حاسم، وقد أضاعت عقوداً من السنوات، من دون تقدّم بقوة لإنجاز حل سلمي عادل. لذلك، ليس من المستغرب أن إسرائيل تمثل كل هذا النفور العالمي اليوم بتجسيداته المريعة المبنيّة على قصصٍ مأخوذة من مصادرها ووقائعها، ومن الجنود الإسرائيليين، وموثقة في وسائل الإعلام والمراكز الإعلامية والسياسية، وأصبحت أكبر خطر على السلم والأمن الدوليين والمصالح العالمية، حتى الدول التي ما زالت مُمسكة بزمام الأمور في طريقة تقويمها، وما يدلّه ضميرها إلى الحق ومناهضة البربرية العسكرية الإسرائيلية.
يأتي مضمون المبادرة في توقيت يمثل صرخة للعالم بما يحدُث من حروبٍ ونزاعاتٍ في دول عدّة، وللخروج منها حتى يعيش العالم بسلام، وتمثل فيه إسرائيل هذا الشأن الخطير في إرهاب الدولة، ويجري التصدّي له بعناصر جديدة وجريئة لإدخالها ضمن الجرائم الدولية، وخصوصاً محكمة الجنايات الدولية التي تأسّست عام 1998.
وقد جرت محاولاتٌ عديدة لتعريف الإرهاب في كل الدوائر العالمية، وكشفت قصور هذه المحاولات في بلوغ أهدافها، حين يتعلّق الأمر بدراسة العنف وسلوكيات العدوان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية. هذا الارهاب مارسته الآلة العسكرية منذ 1948، وكرّسته بالمفهوم الحديث لحرب الدفاع التي تعود إلى التفسير اليهودي عن الحرب المقدّسة، وتعود جذور هذا المفهوم إلى اليونان وروما القديمة وفلاسفة القرون الوسطى، في الفكرة ذاتها التي سادت حرب الخليج، إنها حربٌ غير عادلة على الفلسطينيين، وبالتاكيد لا تسودها الإرادة الصلبة التي كسرتها بجدارة كتائب الشهيد عز الدين القسام وشقيقاتها في المقاومة الفلسطينية المسلحة.
دعوى جنوب أفريقيا مأخوذة من ذاكرة تشبه الفصل العنصري الذي واجهته، وتذكّر بالضغوط القانونية الدولية الملزمة لتعريف الإرهاب الدولي (الأفراد والدولة)، وهو الشعار الذي كان قد استُخدم عام 2001 في قرار مجلس الأمن 1373، واتفق عليه عالمياً، وهو بحاجة بعد أحداث غزّة إلى التدقيق والتوضيح، مع بروز محاولات دولية لإبرازه مع الاعتراف بالصعوبات التي تواجهه، من نوع إلزام محكمة العدل الدولية إسرائيل بوقف الحرب والجرائم التي ترتكبها باعتبارها جرائم ضد الإنسانية (أنطونيو غوتيريش)، وتتوافرعناصرها على الأرض قانوناً وفعلاً في غياب المراجع الضرورية والأساسية لمعالجة ذلك في سياقه السياسي أو القانوني، وفي النهاية، ينتحر الإسرائيليون جميعاً.
صدرت، منذ ثمانينيات القرن الماضي، تعريفات كثيرة للإرهاب الدولي، ارتبطت بالسياسة الأميركية، وبواقع التصدّي للجرائم التي استهدفتها في الشرق الأوسط، وفي مواجهة الأنظمة السياسية المعادية في أماكن أخرى، ولا سيما الأميركية، مثل نيكارغوا والسلفادور وغواتيمالا وغرانادا وغيرها، وتطوّرت بعدها، في ما عرف بإعلان “النظام العالمي الجديد” (1999)، وفي قمّة شرم الشيخ لمحاربة الإرهاب (1996)، وبعدها بشهر ارتكبت إسرائيل مجزرة “عناقيد الغضب”، وتلتها أحداث 11 سبتمبر (2001). اعتقدت الإدارة الأميركية أنها تستطيع تخويف العالم بقدراتها الهائلة وحسمها، واعتمدت، في ذلك الشأن، على معادلة أمنت بها وحاولت تطبيقها “فليكرهونا طالما أنهم يخافوننا”، إلا أن هذه المعادلة لم تسفر عن النتيجة المطلوبة، والنتيجة أن حرب غزّة حوّلت كراهية أميركا حقيقة واقعة عالمياً، ومن دون خوف تحت وطأة ذاكرة مثخنة بجراح عميقة من ظلم التاريخ في الشرق الأوسط.
أي تعريف شامل وموضوعي للإرهاب الدولي يجب أن يتناول الإرهابَين معاً، إرهاب الأفراد من رؤساء ووزراء وضبّاط وعسكريين، وإرهاب الدولة، وقد رفضت بعض الدول مثل هذا الموجب المحرج، وامتنعت عن اتّخاذه بحق الدول التي تمارسه إزاء دول وشعوب أخرى، وتحديداً إسرائيل، وبذرائع مختلفة كالدفاع عن النفس أو كرد واحتواء، أو كموقف تصعيد آمن. هذه الذرائع سقطت كلها، ولا تغطيها الوقائع، وتحمّل إسرائيل مسؤولية أمام القانون الجنائي الدولي، حيث إرهابها مدعوم من الدولة وسياساتها وأعمالها مباشرة من دون التباس ولا تحفّظ.
———————————–
عن جرائم للاحتلال ترفد أركان الإبادة الجماعية/ سوسن جميل حسن
06 يناير 2024
رفعت جنوب إفريقيا دعوى ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، بتهمة ارتكاب جرائم إبادة جماعية بحقّ الشعب الفلسطيني، وهذا الموقف، الذي لم يبدأ مع العدوان الجاري على قطاع غزّة، إنما قبله، يحسب لهذه الدولة التي تحترم تاريخها وإرثها، وتختار الموقف الأخلاقي في ما يخصّ قضايا الشعوب، في وقت ما زال فيه وصف جرائم إسرائيل بالإبادة الجماعية محلّ نقاش على مستوى العالم، على الرغم من توفّر الأدلّة والبراهين الدامغة لحظة بلحظة، منذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزّة على الأقل، حتى في أوساط النخب الثقافية، ومن بينها أيضًا دول عربية تتحاشى إدراج هذه التسمية في خطاباتها ومنابرها الإعلامية، كما لو أن التوصيف انتهى في مساره التاريخي منذ إطلاقه في الاتفاقية العالمية لمنع الإبادة الجماعية لعام 1948، لتصبح في الذاكرة والوعي العام العالميين تعني “الهولوكوست” فحسب، أو لتصبح المعنى المرادف للمحرقة التي ارتكبتها النازية بحقّ اليهود، علمًا أن تاريخ البشرية حافلٌ بجرائم الإبادة الجماعية، والاحتلال الإسرائيلي لفلسطين زاخر تاريخُه بجرائم يمكن وصفها بالإبادة.
وهذه الجريمة التي نصّت عليها أيضًا المادة السادسة للنظام الأساسي لمحكمة الجنايات الدولية في 1998 موصوفة، لها عدة معايير أو أركان، وهي تعني أيًّا من الأفعال المرتكبة بقصد التدمير الكامل، أو الجزئي لجماعة قومية، أو إثنية، أو دينية، وذلك بقتل أفراد من الجماعة، إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأفراد من هذه الجماعة، إخضاع الجماعة عمدًا لظروف معيشية يُراد منها تدميرها المادي كليًّا أو جزئيًا، وفرض تدابير تحول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة، ونقل أطفال من الجماعة عنوة إلى جماعة أخرى. كل أركان الجريمة متوفّرة في ممارسات إسرائيل الإجرامية بحقّ الشعب الفلسطيني في حربها الحالية، وبحقّ الفلسطينيين في الضفة الغربية أيضًا.
لكن لو استعرضنا تاريخ إسرائيل منذ قيامها، دولة محتلّة، بل وقبلها بما سطّرت العصابات الصهيونية من مجازر وتهجير لسكان البلدات والقرى والفلسطينية، لوجدنا ممارساتٍ أخرى تقوم بها إسرائيل تستبطن النيّة في الإبادة، من دون أن تُدرج من أركان الجريمة، منها الضرب بعرض الحائط كل بنود القانون الدولي الذي يُلزمها، لكونها سلطة احتلال، بالمسؤولية تجاه الشعب المحتلة أرضُه، وتجاه البيئة التي يعيش فيها، وإن هذا الانتهاك للبيئة ومصادر العيش تهديدٌ وجودي، يؤدّي، في النهاية، إلى التدمير المادي للشعب الفلسطيني.
قبل كل شيء، لم تكفّ إسرائيل منذ تأسيسها وإعلانها دولة، عن الاستيلاء على أراضي الفلسطينيين وبناء المستوطنات لليهود القادمين من كل بقاع الأرض، فالمشروع الاستيطاني، بعدما احتلت إسرائيل ما تبقى من فلسطين التاريخية (الضفة الغربية والقدس الشرقية وغزّة) في 1967، يتوسّع حتى يقارب عتبة المليون مستوطن، ويشار إلى أنها دمّرت 160 كيلومترًا مربعًا من الغابات لإقامة مستوطنات لها في الأراضي المحتلة في 2014. ما حرم الفلسطينيين، ليس فقط من أرضهم، إنما من أنشطتهم الزراعية التي كانت تشكل ركنًا مهمًّا من اقتصادهم ومعيشتهم، والقضاء على مساحات خضراء وغابات وأشجار مثمرة، كانت تشكّل جزءًا من هوية المنطقة جغرافيًّا وتاريخيًّا. ليس هذا فحسب، بل تستولي على المياه لصالح المستوطنات على حساب الفلسطينيين، ففيما تقدّر منظمة الصحة العالمية حاجة الفرد اليومية من المياه في حدّها الأدنى مائة ليتر، فإن المواطن الفلسطيني لا يحظى، في أحسن الحالات، ب80 ليترًا في المتوسّط، مقابل 260 ليترًا للفرد الإسرائيلي، وهذا في الحالات العادية. أما هذه الأرقام بالنسبة للفلسطينيين ففي تراجع، بل يعاني سكّان قطاع غزّة من العطش وحرب المياه، إن في وقت الحصار أم في الحرب الحالية، وذلك بالتحكّم بمصادر المياه، أو بقصف محطات التحلية وتدميرها، كذلك بالنسبة إلى المياه المالحة أو مياه الصرف الصحي، ففي وقت الحصار وما ينجم عنه من تقييد على المواد المستوردة أو الداخلة إلى غزّة، فإن معالجة مياه الصرف الصحي أو المياه المالحة لا يتم بالشكل الفعّال، وبالتالي، يتم صرف معظمه في البيئة، إما بلا معالجة أو بمعالَجة جزئية. ويقدّر ما تنتجه غزة بنحو 160 ألف متر مكعب يوميًا من مياه الصرف أو أكثر، ثلاثة أرباع منها لا يزال غير مُعالَج بكفاءة وفعالية، ما يضرّ بالبيئة الحيوية في كل مجالاتها، كذلك اللجوء إلى تصريفها في البحر يزيد من المشكلة البيئية. هذا عدا التلويث البيئي بمخلفات المستوطنات التي توجّه باتجاه أراضي الضفة والقطاع، وعدا التلوّث البيئي بالمواد الكيماوية والمخلّفات الإشعاعية، فالمصانع الكيماوية والنووية الإسرائيلية تُطلق مواد مشعّة ومواد كيماوية سامّة في الضفة الغربية وغزّة، كما بينت الدراسات، إلى جانب تقارير عن مطامر لدفن النفايات المشعّة في أنحاء الضفة الغربية وغزّة، وارتفاع عدد الأطفال المصابين بالإعاقات والتشوّهات وأمراض السرطان في المنطقة.
هذه الممارسات التي دأب الاحتلال على القيام بها، والتي تصبّ جميعها في خانة انتهاك الحقوق والتضييق على العيش والتمادي على الأراضي في محاولة تصحيرها، ما يفقد آلاف الفلسطينيين المزارعين مورد رزقهم، تنجُم عنها أخطارٌ مباشرة، منها ما يمكن توصيفه بالتطهير، وترمي إلى أهداف مبطّنة، وهي التهجير، ويمكن عدّها محاولةً لبتر علاقة الفلسطينيين بأرضهم وكسر نفسيتهم.
أليس كل ما سبق، وهو غيضٌ من فيض إجرامي بحقّ السكان الفلسطينيين “الأصليين”، يشكّل ركنًا أساسيًّا من جرائم ضد الإنسانية؟ جرائم إبادة جماعية مخاتلة، قد لا ينتبه إليها العالم، أو ربما لا تحدث صورها وأخبارها صدمة في الوعي العالمي لدى الشعوب، أمام الجرائم الفاجرة التي تمارسها إسرائيل في حربها الوحشية اليوم على قطاع غزّة، حيث تنقل الصور والمشاهد من ميدان الحرب مباشرة، وتظهر الويلات الجماعية التي يتعرّض لها المدنيون، والتي لا يمكن عدّها، بأي شرعة، أخطارًا جانبية تنجم عن الحروب، فهي أخطار لكنها ليست جانبية، بل هي بؤرة الحدث الذي يرمي إلى تهجير الفلسطينيين، ولا يُخفى هذا الهدف بل صرّح به عديد من المسؤولين والوزراء في حكومة الكيان المحتل، وقطع صلاتهم بأرضهم، عن طريق الذهاب بالوحشيّة والقتل الجماعي إلى أقصى حالاته وأشدّها تطرّفًا.
هل تنضم دول أخرى إلى جنوب إفريقيا في رفع دعاوى من هذا النوع على إسرائيل؟ وماذا عن الدول العربية؟ هذا واحد من المرتكزات الرئيسية التي تحتاجها قضية الشعب الفلسطيني من أجل عدالتها وأحقّيتها.
———————————
الفلسطينيون في الثورة السورية… عسكرياً/ عبد الجبار عكيدي
06 يناير 2024
لعل الانقسام الذي أحدثته الثورة السورية إبّان انطلاقتها في مارس/ آذار 2011 في صفوف المواطنين الفلسطينيين المقيمين في سورية يكاد يكون شبيهاً بالانقسام ذاته داخل المجتمع السوري، إذ إن الذاكرة الفلسطينية لا تزال زاخرةً بإرث مأساوي عصيّ على النسيان، ولهذا وجد قسم كبير من الفلسطينيين أن هذه الثورة على نظام الأسد هي بوجه حاكم طاغية قتل منهم عشرات الآلاف، وما إن دخلت الثورة السورية في طوْرها المسلّح، حتى بدأ الفرز بين مؤيدي الثورة ومؤيدي الأسد أكثر وضوحاً، فمنذ الأيام الأولى لانطلاق الثورة، انخرط أبناء المخيّمات الفلسطينية في سورية بكل أشكال الحراك، وفي أسبوعها الأول 21/3/2011، ارتقى أول شهيد فلسطيني في مخيّم درعا، وسام الغول، في إحدى التظاهرات، وتبعه آلاف الشهداء الفلسطينيين الذين شاركوا في كل جوانب الثورة، المدنية والعسكرية.
كانت المشاركة الفلسطينية في الجانب العسكري مهملة في أدبيات الثورة السورية، ولم تجر إضاءة عليها، رغم أنها كانت وازنة ومهمة، وأنه كانت للفلسطينيين في سورية بصمات وأدوار مهمة وفعّالة، وكانت لهذه المشاركة مستويات متعدّدة، فبعض أبناء المخيّمات أسّسوا تشكيلات عسكرية ذات عناوين فلسطينية عملت إلى جانب فصائل الجيش الحر في أماكن مختلفة، كما حدث في مخيّمات اليرموك ودرعا والرمل الجنوبي (الفلسطيني في اللاذقية) ومخيّم حمص وقرى جنوب دمشق وبلداته. وهناك آلاف من أبناء المخيّمات ممن انضمّوا مباشرة ضمن تشكيلات الجيش الحر أفرادا، كما حصل في مخيمي النيرب وحندارات في حلب… ودفاعا عن الحقيقة التي غابت عن سوريين كثيرين، وربما هناك من أراد تغييبها عن قصد، تسلط هذه المقالة الضوء بالأرقام والوقائع والأدلة على مستوى المشاركة الفلسطينية في الثورة ضد النظام.
ولعل التوجّه العام لدى قادة فصائل الجيش الحر كان بدمج المجموعات الفلسطينية ضمن تشكيلاتهم، من دون أن يكون لها عنوان فلسطيني خاص ومستقل يعملون من خلاله، قد أدّى الى حجب معلوماتٍ كثيرة عن طبيعة (ونوعية) مشاركة الفلسطينيين في البعد العسكري للثورة السورية؟
منذ بداية الثورة، حصلت حالات تململ في أوساط ضباط جيش التحرير الفلسطيني وعناصره، رغم المراقبة الأمنية اللصيقة على أي صوتٍ يعرب عن انحيازه أو تعاطفه مع الثورة السورية، فارتكبت مخابرات النظام في الأشهر الأولى للثورة تصفية ضبّاط جيش التحرير الفلسطيني الذين أعربوا، في جلسات خاصة، عن امتعاضهم من سلوك النظام بقتل السوريين. منهم رئيس أركان قوات حطين العميد الركن رضا الحضرا، وقائد كتيبة أجنادين العقيد الركن عبد الناصر مقاري، ورئيس قسم المدفعية في قوات حطين العقيد الركن أحمد الحسن، والعميد الركن الطبيب أنور السقا، فكان لتصفيتهم صدى كبير وأدت إلى حالة غضب في أوساط الفلسطينيين السوريين.
بعد هذه التصفيات، حصلت انشقاقات كثيرة على مستوى ضباط الفصائل الفلسطينية وعناصرها في دمشق ودرعا، كان أكبرها في منطقة عدرا في ريف دمشق، حين انشقّ قائد الكتيبة 421 صاعقة قوات القادسية، العقيد الركن خالد الحسن (أبو عدي) مع مجموعة من ضباط وصف ضباط وجنود الكتيبة، والذي قاتل الى جانب فصائل الجيش السوري الحر في الغوطة وجنوب دمشق حتى استشهد في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في مخيم اليرموك عام 2015.
كان الفلسطينيون في مخيّمي درعا والرمل الجنوبي في اللاذقية سباقين بالانخراط في العمل العسكري بجانب فصائل الثورة، مستفيدين من تجاربهم وخبراتهم القتالية التي اكتسبوها سابقاً من العمل الفدائي، فأسهموا بتلك الخبرات في تطوير عمل فصائل الجيش الحر، وجرى توظيفها في الأعمال العسكرية وتدريب فصائل سورية عديدة على الأسلحة والتصنيع وحفر الأنفاق وغيرها، وكان لكوادر حركة حماس في البدايات دور بارز، وخصوصا في التدريب والتصنيع، فكان أول من بدأ بتصنيع العبوات الناسفة الشهيد جهاد دياب أبو زيد، وهو من أبناء مخيم درعا للاجئين الفلسطينيين، ثم تأسس أول تشكيل عسكري من أبناء المخيّم تحت مسمّى (كتيبة الشهيد طاهر الصياصنة) بقيادة الشهيد ربيع حبيب، بداية عام 2012، ثم تشكّلت كتيبة شهداء الأقصى، بقيادة الشهيدين محمد فريج وعرفات عوض وهما من أبناء المخيم، بالإضافة لكتيبة أكناف بيت المقدس التي عملت في الريف الغربي لدرعا وريف دمشق، وكان قادتها وعناصرها من حركة حماس كما هو معروف لدى كثيرين، بالإضافة إلى كتيبة أبناء الأقصى، بقيادة الفلسطيني الأردني الشهيد عمّار أبو سرية، التي عملت ضمن صفوف لواء توحيد الجنوب التابع للجيش الحر، والكتيبة 421 صاعقة بقيادة العقيد الركن قحطان طباشة الذي انشقّ عن جيش التحرير الفلسطيني مع مجموعته واستشهد وهو يقاتل إلى جانب فصائل الثورة السورية، في معركة زيزون، بداية شهر نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2012.
وفي مخيم الرمل الجنوبي (اللاذقية)، قامت مجموعة من الفصائل الفلسطينية بتصنيع الصواريخ والعبوات الناسفة والحشوات المتفجّرة والألغام وتدريب الفصائل على صناعتها وتدريبها على السلاح وأساليب القتال، وتشكّلت بعض الفصائل التي تحمل عناوين فلسطينية للدفاع عن المخيم، كان من أبرزها كتيبة هندسة المجاهدين، بقيادة النقيب في منظمة التحرير علي الخطيب، المعروف بأبو عبيدة الفلسطيني الذي تعرّض للإصابة في معركة الدفاع عن الحي، وانضمت فيما بعد للواء أحباب الله التابع للجيش الحر في جبل الأكراد.
أما المشاركة العسكرية الكبرى للفلسطينيين فكانت في دمشق وأحيائها الجنوبية، وكان من أبرز الفصائل الفلسطينية التي تأسّست وعملت إلى جانب فصائل الثورة هناك، كتيبة عبد الله عزّام، بقيادة القائد الحمساوي بهاء صقر، والمرافق الشخصي لخالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في حينه، محمد أحمد زغموط، الملقب بأبو أحمد المشير، وكتائب أكناف بيت المقدس التي أسّسها مسؤول الحركة في سورية يحيى الحوراني (أبو صهيب) وقائدها العسكري، القيادي في حركة حماس محمد مأمون الجالودي (أبو جودت) المعتقل في سجون النظام، وكان لهم دور كبير في تدريب عديد من فصائل الثورة، في أغلب المحافظات الثائرة، على السلاح والتكتيك العسكري وتصنيع الصواريخ والعبوات التي أوكلت مهمتها للقيادي في الحركة محمد بلال أبو هلال، ومنها لواء العهدة العمرية في بلدة يلدا، بقيادة الفلسطيني السوري إسماعيل شمّوط أبو هاني، والعقيد في حركة فتح أحمد بدوان أبو محمد، وكذلك كتيبة أحرار جيش التحرير الفلسطيني بقيادة العقيد الشهيد خالد الحسن أبو عدي، والملازم أول الشهيد إياس النعيمي، وأيضاً لواء أحرار فلسطين بقيادة العقيد في حركة فتح الشهيد أبو عمار حميد، والقيادة الحرة لتحرير فلسطين بقيادة محمد أبو زيد، وهو منشقّ عن الجبهة الشعبية – القيادة العامة مع مجموعة زملائه (ما لبث أن عاد إلى دوره التشبيحي).
في الجانب الآخر، لا يمكن تجاهل استخدم النظام مليشيات فلسطينية تابعة لأجهزة مخابراته، كانت أدواتٍ وظيفية بيد النظام بمواجهة الفلسطينيين والسوريين معاً، من أبرزها فتح الانتفاضة والجبهة الشعبية القيادة العامة، كما أنشأ مليشيات جديدة أكثر ولاءً له، أبرزها “فلسطين حرّة” و”الصاعقة” و”لواء القدس” الذي شكله محمد سعيد عام 2013، من شبيحة مخيمي النيرب وحندارات في حلب، على أثر اختطاف مخابرات النظام مجموعة من جيش التحرير الفلسطيني من أبناء مخيّمي حندارات والنيرب وقتل أفرادها في أثناء مغادرتهم مركز التدريب، في مصياف، لقضاء إجازتهم، وكان عددهم 12، بالإضافة إلى السائق، وهو من أبناء مخيم النيرب، وإلصاق التهمة بالجيش الحر في إدلب، علماً أن تسريباتٍ كانت من بعض قيادات الفصائل الفلسطينية بأنهم موجودون في فرع أمن الدولة في حماه. وبعد أيام، أبلغ النظام ذويهم باستلام جثثهم من المشفى العسكري في إدلب، لإحداث حالةٍ من العداء مع الثورة، وإذكاء روح الفتنة بين المجتمعين الفلسطيني والسوري، وقد نجح في ذلك إلى حد كبير في مخيّم النيرب.
تشكّل إعادة التذكير بالمشاركة الفلسطينية في الثورة السورية أحد الأجوبة عن أحاديث واتهامات بأن الفلسطينيين السوريين لم يشاركوا فيها أو اصطفّوا مع النظام، وهذا غير صحيح وغير دقيق، بل كان لديهم انقسام كحال المجتمع السوري، لكن القسم الأكبر منهم انحاز إلى ثورة الشعب وشارك في الجانب العسكري، ما يؤكّد أن موقف الفلسطينيين مع الثورة السورية يقابله موقفٌ مماثل من السوريين بالوقوف الى جانب إخوانهم الفلسطينيين في معركتهم مع الاحتلال الصهيوني، وما يتعرّضون له من إبادة جماعية في غزّة، وأن هذه المعركة تحمل دلالات مشتركة على أن الفلسطينيين والسوريين يخوضون معركة ضد الاستبداد والاحتلال، فكما كان من الطبيعي أن يتمسّك الفلسطينيون السوريون بحقهم بالعودة إلى فلسطين، كان أيضا من الطبيعي أن يتمسّكوا بحقهم بالحرية باعتبارهم جزءا أصيلا من المجتمع السوري.
———————————–
المثقّفون العرب وغزّة/ بشير البكر
05 يناير 2024
لم تُحرّك الحرب الإسرائيلية على غزّة المثقّفين العرب. وهذه ليست المرّة الأولى التي ينأى فيها هؤلاء عن حدث مصيري في المنطقة العربية، ويبدو أنها لن تكون الأخيرة، فقد سبق لهم أن تعاملوا مع قضايا أخرى مصيرية بسلبيةٍ واستخفاف، لا يليقان بالدور التاريخي للمثقّف، وبما لا يرقى إلى ما نهضت به النخب التي سبقتهم منذ بداية القرن العشرين، وكانت صاحبة دور مهم على صعيد التأسيس الفكري الجديد للأمة، والتصدّي للمهمّات الكبرى مثل مواجهة الاستعمار والاستقلال والوحدة العربية والنكبة واحتلال فلسطين، الذي شكّل المحور الأساسي لحركة الثقافة والسياسة في العالم العربي، من المحيط إلى الخليج.
وحينما يأتي حديث مسؤولية المثقّفين العرب، فإن المطلوب منهم يتجاوز إصدار عرائض تضامن مع أهل غزّة، أو كتابة جملة على وسائل التواصل، إلى الحضور عبر المنابر المحلية والخارجية، وهذا متاحٌ أمام أصحاب قامات معروفة من كتّاب وفنانين وصلوا إلى العالمية، وصوتهم مسموع في الغرب. وفي وُسع بعض هؤلاء القيام بذلك لو أرادوا، ويمكن لعدد منهم أن يخاطب الرأي العام الغربي، ببساطة، عبر الصحف في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، مثل نيويورك تايمز، الغارديان، واللوموند. إلا أنهم يعتكفون، للأسف، ويكتفون بالفرجة على ما يحصل، مثل قطاعاتٍ أخرى من الفنانين والصحافيين، وحتى رجال الأعمال، أصحاب الاستثمارات المالية في أوروبا والولايات المتحدة.
ومن المؤسف أن بعض هؤلاء، بدلا من أن يحرّك الحدث ضميره باتجاه العدالة والحقوق، اختار الوقوف إلى جانب الاحتلال، فانبرى يدافع عن إسرائيل، ويدين الهجمات التي قامت بها الفصائل الفلسطينية على الجيش الإسرائيلي في مستوطنات غلاف غزّة يوم 7 أكتوبر، ولم يتوقّف أمام تاريخ طويل من الاحتلال حوّل هذه المساحة الصغيرة إلى أكبر سجن في العالم، يتحكّم به من جهات البرّ والبحر والجو، ويقنّن الماء والغذاء والكهرباء. وعوضا أن يرى بعض هؤلاء المسألة على استقامتها، فإنه بقي عند القشور، وانخرط في تيار الذين تبنّوا الدعاية الإسرائيلية التي ثبت تهافتها، وفنّدتها وسائل الإعلام، من بينها صحيفة هآرتس الإسرائيلية، التي كشفت عن دور الجيش الإسرائيلي في قتل مدنيين إسرائيليين أثناء الاشتباكات التي حصلت في المستوطنات صباح الهجوم.
ويجدر هنا التنويه بمواقف مثقّفين في أوروبا والولايات المتحدة، تحدّوا الترهيب الذي مارسته اللوبيات الصهيونية ووسائل الإعلام ومراكز التأثير والضغط في الصحافة والفن والتعليم الجامعي. ومنذ اليوم الأول للحرب على غزّة، خرج بعض هؤلاء بتصريحات ومواقف، ساهمت في تغيير اتجاه الرأي العام، مثلما حصل من حركة “فنانون من أجل فلسطين” في بريطانيا، التي وجّهت رسالة مفتوحة بعد أسبوع من الحرب، وقّعها قرابة خمسة آلاف كاتب وشاعر ومثقّف وممثّل وموسيقي وصانع أفلام بريطاني، اتّهموا فيها الحكومات بـ”مساعدة إسرائيل وتحريضها لارتكاب جرائم حرب في غزّة”. ولم يتوقف هؤلاء عند هذه الرسالة، بل واصلوا التضامن بوسائل مختلفة، منها المشاركة في المظاهرات الكبيرة، الأمر الذي حفّز قطاعات واسعة من الشباب من جنسياتٍ وخلفياتٍ مختلفةٍ للانخراط في دعم القضة الفلسطينية. وقد فقد بعض هؤلاء وظائفهم أو تمويل أفلامهم وإلغاء معارضهم الفنية، وامتدّت حالة الاشتباك إلى بلدان أخرى مثل فرنسا، التي يعد فيها صوت اللوبيات المؤيدة لإسرائيل عاليا، وصدرت عدة عرائض ذات قيمة كبيرة، منها التي تدور حاليا، ووقعها ما يتجاوز ألف مثقّف منهم الحائزان نوبل للأدب، لوكليزيو وآني إرنو، وكتاب آخرون وأكاديميون، وهناك سينمائيون، منهم الممثلة البلجيكية، فيرجيني إيفيرا، ولاعب كرة القدم السابق إريك كانتونا. وأبرز ما جاء في الرسالة وصف إسرائيل بـ “دولة الفصل العنصري”.
———————————
عنصرية غربية مزدوجة تجاه الفلسطينيين/ حيّان جابر
04 يناير 2024
منذ صباح 7 أكتوبر، سارعت المنظومة الإعلامية والسياسية والأكاديمية الغربية إلى إدانة عملية طوفان الأقصى، ونعتها بالعملية الإرهابية، ووسم كلّ من يتحفّظ عن إدانتها؛ حتّى لو لم يؤيدها، بالإرهابي والمعادي للسامية، استنادًا إلى ما أشيع عن مسار العملية من قتلٍ للأطفال، وبقرٍ لبطون الحوامل، واغتصابٍ للنساء، وقتلٍ للمستوطنين العزّل. بل نستطيع القول إنّ مسار الإدانة والتنديد هذا ما زال مستمرًا لدى معظم هذه الجهات والأطراف، مؤسساتٍ وأفرادًا.
يمثّل مسار الإدانة الغربية هذا سلوكًا عنصريًا صافيًا تجاه كلّ ما هو فلسطيني، بل ومعاديًا له، وهو ما قد تصح تسميته “معاداة الفلسطينية”، إذ استند هذا السلوك إلى رواياتٍ متناقلةٍ من دون بذل أيّ جهدٍ للتحقّق منها، وكأنّها سلوكٌ يوميٌ معتادٌ، لا يغيّر التحقق منها التقييم العام له. في حين نجد أنّ الحقائق والإثباتات المرتبطة بقضية فلسطين وأرضها وشعبها تثبت العكس، أي أنّ الطرف الذي يمارس الإرهاب والقتل والتهجير والتنكيل بالآخر هو الاحتلال الصهيوني لا المقاومة الفلسطينية. وهنا، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الحقائق والمعطيات التي نتحدث عنها هي المدعمة بتقارير دوليةٍ وغربيةٍ أكاديميةٍ وحقوقيةٍ وإعلاميةٍ من أكثر المصادر موثوقيةً ونزاهةً وشهرةً في العالم، من هيومن رايتس ووتش، إلى منظمة العفو الدولية، مرورًا بتقارير مفوّض الأمم المتّحدة بشأن الأراضي الفلسطينية المحتلة، وسواهم من المنظمّات والهيئات الدولية الموثوقة.
بناءً عليه؛ يمثّل اندفاع المنظومة الإعلامية والسياسية الرسمية والأكاديمية الغربية سلوكًا عنصريًا بغيضًا تجاه الفلسطينيين وقضيتهم العادلة، فالعنصرية، وفق الاتّفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، هي “أيّ تمييزٍ أو استثناءٍ أو تقييدٍ أو تفصيلٍ يقوم على أساس العرق، أو اللون، أو النسب، أو الأصل القومي، أو الإثني، ويستهدف أو يستتبع تعطيل، أو عرقلة الاعتراف بحقوق الإنسان، والحرّيات الأساسية، أو التمتّع بها، أو ممارستها على قدم المساواة، في الميدان السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي، أو في أي ميدانٍ آخرَ من ميادين الحياة العامة”. استنادًا إلى هذا التعريف، نلحظ تقييدًا تجاه عرقٍ قوميٍ هو الفلسطيني، يعرقل الاعتراف بحقوقهم الإنسانية، وحرّياتهم الأساسية، من حقّهم في إنهاء الحصار اللاإنساني المفروض عليهم من الاحتلال الصهيوني، وحقّهم في تقرير المصير، وحقّهم في التحرّر من سجون الاحتلال، الذي يتخذهم رهائن وأسرى لديه، إلى حقّهم في التحرّر الكامل والشامل، وحقّهم في العودة الكاملة وغير المشروطة إلى بلداتهم ومدنهم التي هُجّروا منها قسرًا، وطبعًا حقّهم في إقامة دولتهم الفلسطينية المستقلة وكاملة السيادة دون شرطٍ أو قيدٍ.
أيضًا؛ نجد في موقع منظمّة العفو الدولية (أمنيستي) توضيحًا مهمًا ودقيقًا لأنماط التمييز العنصري وأشكاله، منها “أن تنظر السلطات إلى فئات معينة على أن أفرادها يُرجح أن يكونوا مجرمين بسبب ما هم عليه”، وهو ما ينطبق تمامًا على سُعار الإعلام الغربي بعد عملية “طوفان الأقصى”، إذ انطلقت جلّ الاتهامات من سلوكٍ عنصريٍ مزدوجٍ تجاه الفلسطيني، رجّحَ صدق الادعاءات الصهيونية، من دون الحاجة إلى أيّ دليلٍ أو إثباتٍ، وبالتالي، من دون الحاجة إلى التحقّق منها. لا بل أدّت تلك العنصرية البغيضة إلى غضّ النظر عن دلائل معاكسةٍ تاريخيةٍ وراهنةٍ، منها تقارير المنظمّات والمؤسّسات التي أشرنا إليها سابقًا، ومنها شهادات بعض المستوطنين الناجين من المواقع التي استهدفتها عملية طوفان الأقصى، الذين تحدثوا عن قصف قوات الاحتلال؛ برًّا وجوًا، للمستوطنات وساكنيها، بل وتعمّدها قصف المنازل التي كانوا فيها، فضلاً عن استهدافها؛ ربّما من دون قصدٍ، جمهور حفل موسيقي أقيم قرب مستوطنة “ريعيم”، وهو ما أكّدته تحقيقات شرطة الاحتلال لاحقًا.
هذا السلوك العنصري لا ينبغي تبريره حتّى لو ثبتت صحّة الادّعاءات لاحقًا، فالقاعدة القانونية والإنسانية تقول “كلّ متهمٍ بريءٌ حتّى تثبت إدانته”، فكيف إذا دحضت معظم تلك الادّعاءات؟ تؤكد الصحافية الصهيونية، شيلي بحموفيتش، محاولة حكومة الاحتلال ومؤسّساته الأمنية منع التحقق من ادّعاءاتها التي بثتها بخبثٍ منذ 7 أكتوبر، إذ تقول “هناك حملةٌ عنيفةٌ لمنع كلّ تحقيقٍ أو حديثٍ عن أوامر الاستهداف في بئيري (في 7 أكتوبر)”. رغم ذلك، دُحضت بعض تلك الادّعاءات، ومنها ما وصفته الصحافية نفسها بقولها “الجنرال حيرام أمر بقتل إسرائيليين؛ وأبطال إسرائيل يدافعون عن أطفال إسرائيل ولا يقتلونهم”، وهو ما يحوّل أصابع الاتهام بشأن قتل الأطفال يوم 7 أكتوبر من المقاومة الفلسطينية صوب جيش الاحتلال وقوّاته الأمنية.
لا يقتصر دحض الادعاءات الصهيونية على ذلك فقط، بل كشفت التقارير التي نشرتها صحيفة هآرتس الصهيونية عن عشرات الأكاذيب الصهيونية، وهو ما أكّده تقرير صحيفة ليبيراسيون الفرنسية، التي أجرت تحقيقًا واسعًا استند إلى البيانات الصهيونية ذاتها، وعرضها في تقريرٍ بعنوان “إسرائيل 7 أكتوبر: مذبحة وغموض”، نشر في 13/12/2023، تضمّن نفيًا لوجود قطعٍ للرؤوس، أو بقرٍ لبطون حوامل، أو قتلٍ لرضّع؛ وفق التقرير هناك رضيع واحد قتل بالرصاص من دون تبيان الجهة المسؤولة عن قتله، إضافةً إلى الاشتباه بمقتل رضيعٍ ثانٍ في منزله المحروق من دون التطرّق لكيفية احتراق المنزل ومن المسؤول عن حرقه.
كذلك لم تتمكّن مراكز التحقيق الطبية الصهيونية من إثبات ادّعاء الاحتلال بترافق عملية طوفان الأقصى مع اغتصاب نساء المستوطنات الصهيونية، إذ لم تُثبت الفحوص الطبية أيًّا من تلك الادّعاءات، فضلاً عن نفيها عبر شهادات المحتجزات في غزّة بعد عودتهم إلى منازلهم وأسرهم ضمن صفقة التبادل المبرمة بوساطة قطريةٍ ومصرية بين حركة حماس والاحتلال الصهيوني في نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.
أخيرًا؛ لم يشهد تاريخ المقاومة الفلسطينية الطويل أيّ فعلٍ ممنهجٍ كعدوانٍ تجاه حاضنة الاحتلال الاجتماعية، خصوصًا في ما يتعلّق بقطع الرؤوس، والتمثيل بالجثث والأجساد. رغم ذلك، سارعت المنظومة السياسية والإعلامية والأكاديمية الغربية إلى تشبيه عملية طوفان الأقصى بممارسات تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وهو ما يكشف عن عنصريةٍ مزدوجةٍ تجاه الفلسطينيين جميعًا، أولها عنصريةٌ تجاه فلسطين وشعبها وقضيّتها “معاداة الفلسطينية”، والثانية عنصرية تجاه المسلمين عامةً “الإسلاموفوبيا”، تعمّم سلوكيات “داعش” على جلّ المسلمين ومنهم فصائل المقاومة الفلسطينية، من دون تمييزٍ بين تيارات الإسلام السياسي المختلفة. الجدير بالذكر هنا أنّ عدد أعضاء “داعش” وفق شركة “soufan” الأميركية يبلغ نحو 40 ألف مقاتلٍ حتّى عام 2017، منهم من انضم قبل إعلان الخلافة، ومنهم بعدها، وهو ما يمثل أقلّ من 0.02% من مجمل أعداد المسلمين في العالم، البالغ قرابة 1.9 مليار مسلم!
بعد مضي نحو ثلاثة أشهر على عملية طوفان الأقصى، ما زالت المنظومة الغربية السياسية والإعلامية والأكاديمية تصرّ على تبنّي الادّعاءات الصهيونية، رغم عدم ثبوتها، بل ودحض معظمها، أو على الأقلّ دحض قسمٍ مهمٍ منها، وهو ما يوضح حجم العنصرية الغربية تجاه فلسطين وشعبها وقضيّتها، ويضع على عاتق أحرار العالم والتقدّميين منهم عبئًا ثقيلاً في مكافحة هذه العنصرية البغيضة ومقاومتها، خصوصًا في ظلّ استمرار قادة الاحتلال؛ وفي مقدّمتهم بنيامين نتنياهو، تكرار الأكاذيب ذاتها مرارًا وتكرارًا متجاهلين الحقائق التي تنفيها.
———————————
هل اقتربت الحرب الإقليمية؟/ غازي دحمان
03 يناير 2024
يشي سياق الحرب الإسرائيلية على غزّة بأن التطورات وصلت إلى منعطف مفصلي، في ظل عدم قدرة الجيش الإسرائيلي على الحسم وتحقيق الأهداف التي أُعلن عنها، إذ شيئا فشيئا يتكشّف لإسرائيل انها تطارد السراب، فلا تفكيك حركة حماس ممكن، نظرا إلى مرونة هياكلها وانخراطها ضمن حواضنها الاجتماعية، ولا إعادة الأسرى، بالأدوات والوسائل التي يتم استخدامها، محتملة وممكنة. هذا ما يجعل المخارج معقّدة إلى أبعد الحدود، ويجعل خيارات فريق إدارة الحرب الإسرائيلي صعبة، ذلك أنهم لم يضعوا، منذ البداية، استراتيجية خروج عملانية، بل على العكس شيّدوا واقعا يستحيل الخروج منه إلا بهزيمة كبرى، وقد كان لتركيبة الحكومة الإسرائيلية الحالية دور كبير في الوصول إلى هذا المأزق، انطلاقا من حقيقة أنها جمعت كل أتباع التطرّف في إسرائيل والذين تحركهم الأساطير ولا يتقنون وضع الاستراتيجيات العملانية والتكتيكات المناسبة ولا إدارة التفاوض.
وعند هذا المعطى، يجب عدم الركون للتقديرات بأن إسرائيل المنهكة والمستنزفة في غزّة لن تذهب باتجاه توسيع بيكار الحرب في المنطقة. على العكس، كان يمكن أن تكون إسرائيل أكثر تعقلا وأقل تهوّرا لو حققت نصرا حاسما في غزّة، لو أنجزت الأهداف التي رفعتها حكومة نتنياهو، ليس فقط ليقول نتنياهو إنه حقّق ما وعد به، ولكن ذلك سيكون في التقييم الإسرائيلي عنصرا مهما في قراءة البيئة الاستراتيجية، بعد إزاحة فاعل مؤثّر من حسابات الصراع الإسرائيلية، وانعكاس هذا الأمر على وزن إسرائيل في الواقع الإقليمي.
وثمّة عنصر آخر، سيكون دافعا لتصرّفات إسرائيل المتهورة في المرحلة القادمة، يتعلق بالحوامل الاجتماعية لمنظومة الحكم الإسرائيلية الحالية، فالمتطرفون في إسرائيل هم أصحاب الكفة الأثقل في الميزان السياسي، وهم لم يصلوا إلى هذه المرحلة الا بعد نضال وعمل دؤوب لسنوات طويلة، استطاعوا خلالها هزيمة التيارات العلمانية واليسارية ودفعها إلى الانكفاء، وهؤلاء لن يقبلوا بهزيمةٍ مدوّية تسمح بعودة تلك التيارات، وتراجع فعاليّتهم وتأثيرهم في صنع السياسة وتشكيل توجهات إسرائيل في المرحلة المقبلة، وهؤلاء أصبح لهم ثقلا موازيا في أغلب قطاعات الحياة الإسرائيلية من التعليم والثقافة والاقتصاد وغيرها.
تبعا لذلك، باتت الحرب الإقليمية مجرّد تحصيل حاصل، فالحرب في غزة وصلت إلى نهايتها الفعلية، لم يعد لدى الجيش الإسرائيلي حتى بنك أهداف، وحتى قتل سكان غزّة إذا كان الهدف منه دفعهم إلى الخروج من القطاع بات هدفا غير عملي، وبالتالي لا يستحقّ ما يُصرف عليه من ذخائر وأسلحة ستحتاجها إسرائيل في المرحلة المقبلة، والمؤكد أن إسرائيل ستضطر مرغمة للبحث عن صيغة في غزّة، لكن في ظل أزمة إقليمية أكبر تستطيع من خلالها حكومة نتنياهو تبرير توقف الحرب أو تجميد فعاليتها إلى حد كبير.
والواقع أن تصريحات قادة إسرائيل أخيرا، وزعم جنرالاتها أنهم يواجهون سبع جبهات، وكذلك تأكيد قائد الأركان الإسرائيلي هرتسي هاليفي أن قواته على جهوزية عالية في الشمال ومستعدّة للهجوم إذا تطلب الأمر، وإقراره بالموافقة على خطط وضعها مجلس الحرب المصغّر، بالإضافة إلى تأكيد السفيرة الأميركية في العراق، بعد استهداف القوات الأميركية مقرّات مليشيات الحشد الشعبي في الحلة، جنوب بغداد، أن هذه القوات ستضرب بقوة كل من يستهدف مصالح بلادها وأمن موظفيها، لهي مؤشّرات ساطعة إلى مسارات الحرب في المرحلة المقبلة، بالإضافة إلى وضع الإقليم بالكامل تحت مجهر المراقبة الأميركية والإسرائيلية، والإصرار على استمرار إخراج مطارات نظام الأسد من الخدمة وقتل قيادات مؤثرة بحجم رضي موسوي الذي يعتبر الدينامو المحرّك للفعالية الإيرانية في جبهات المشرق، هي أيضا مؤشرات إلى أسلوب تجهيز البيئة الاستراتيجية المحيطة بإسرائيل للحرب.
تبدو جبهة جنوب لبنان المرشّحة الأقوى للحرب الإقليمية، وقد منعت واشنطن حتى اللحظة نقل إسرائيل الحرب إلى هذه الجبهة لاعتبارات وحسابات أمنية تتعلق بأمن قواتها في العراق وسورية والخوف من حدوث فوضى في البحر الأحمر والخليج العربي، لكن من الواضح أن أميركا أقامت في الأيام الأخيرة ترتيبات لوجستية في هاتين المنطقتين وتأمين شبكات حماية لمصالحها وقواتها تسمح للقادة العسكريين الأميركيين الخوض في خيارات لم يكن ممكنا الخوض فيها قبل فترة، ويجب الأخذ في الاعتبار حقيقة أن القيادات العسكرية الأميركية استثمرت الفترة الطويلة نسبيا للحرب في غزّة والتفاعلات التي جرت على هامشها في الإقليم لعمل تقدير موقف عسكري للتعامل مع المخاطر وقراءة أوضاع الفاعلين في المنطقة.
لكن، ما هي حدود الحرب الإقليمية في حال اشتعالها، هل مزيد من التدمير والقتل، وخصوصا أن واشنطن ستظهر بشكل صريح بوصفها فاعلا أساسيا فيها؟ كانت إسرائيل في بداية الحرب قد هدّدت إيران بتغيير المعطيات في سورية ولبنان، أي باختصار ستعمد إلى تدمير هياكل السلطة في البلدين، وخصوصا في سورية، ما سيؤثر بالقطع على النفوذ الإيراني برمّته ويغيّر توجهات البلدين نهائيا.
يبقى أنه في الحروب لا يمكن الجزم بطبيعة المسارات المقبلة، لكن ثمة احتمالاً عالياً، تكشف عنه التطورات، بتوسيع الحرب الإسرائيلية صوب الشمال في فترة قريبة، إذا لم تحدث مفاجأة في حرب غزّة تلجم الحكومة المتطرّفة عن خوض حرب واسعة.
————————————
ما ينتظرنا في 2024/ مروان قبلان
03 يناير 2024
كان لافتا في منتدى الدوحة الذي عقد بين 10 و12 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، إشارة السيناتور الجمهوري البارز ليندسي غراهام إلى أن سنة 2024 ستكون مفصلية للمنطقة والعالم. من غير الواضح ما إذا كان غراهام يستند في كلامه هذا الى معطياتٍ، بحكم منصبه الذي يشغله في مجلس الشيوخ منذ أكثر من 20 عاما، أم أن ذلك مجرّد تقدير شخصي من عندياته. مع ذلك، تفيد تطوّرات العام المنصرم المستمرّة بأن العام 2024 قد يكون بالفعل مفصليا للمنطقة والعالم، ففي منطقتنا تستمر جملة من الصراعات المرشّحة للتصعيد بفعل الحرب الإسرائيلية القائمة على غزة منذ ثلاثة شهور، تشمل لبنان الذي يستمر وضعه الاقتصادي والسياسي في الانهيار على وقع فراغ رئاسي قائم منذ أكثر من عام، واليمن الذي دخل على خط الصراع العربي – الإسرائيلي بفعل الهجمات الحوثية على خطوط الملاحة البحرية في البحر الأحمر وخليج عدن، والردّ الغربي الذي يتصاعد على ذلك، ما يهدّد عملية السلام الهشّة التي بدأت بهدنة إبريل/ نيسان 2022، وصولا إلى مسوّدة الاتفاق السعودي – الحوثي أخيرا، وتأثيرات ذلك المحتملة على اتفاق بكين الذي خفّض التوتّر بين السعودية وايران في مارس/ آذار الماضي، وهناك طبعا سورية التي تتصاعد فيها حروب الوكالة بين إيران وحلفائها من جهة وأميركا وإسرائيل من جهة ثانية، وفوق ذلك كله يقبع ملف إيران النووي الذي يشهد توترا واضحا على وقع حرب غزّة بعد إصدار الوكالة الدولية للطاقة الذرّية تقريرا مهما، الأسبوع الماضي، يتّهم ايران بتسريع تخصيب اليورانيوم بنسبة 60%.
باتت كل هذه الملفّات مرتبطة بحرب غزّة ونتائجها المحتملة، والتي ستكون لها تأثيرات عميقة عليها جميعا، لكن المنطقة المرشّحة أكثر من غيرها لتكون مسرح تصعيد كبير خلال 2024 هي لبنان، حيث تتزايد، مع انتقال إسرائيل إلى المرحلة الثالثة من حربها على غزّة وسحب جزء مهم من قواتها هناك، احتمالات شنّ عمل عسكري كبير لإبعاد حزب الله عن الحدود إذا فشلت الجهود السياسية في تحقيق هذا الغرض، فإسرائيل لن تقبل، على الأرجح، أن تبقى تحت احتمال حصول 7 أكتوبر/ تشرين الأول جديد على حدودها الشمالية، حتى وإن كانت كل التقديرات تفيد بأن حزب الله غير معني بأي تصعيد ضد إسرائيل ما لم تتعرض إيران لهجوم كبير.
بعيداً عن المشرق العربي، ينبغي خلال العام المقبل مراقبة تطورات جملة من الصراعات التي تشهدها منطقة أفريقيا العربية، خصوصا في ليبيا والسودان، فضلا عن انعكاسات الوضع الداخلي في إثيوبيا على ملف سد النهضة والنزاع حول مياه النيل مع مصر والسودان.
عالميا، يعد 2024 عاما انتخابيا بامتياز، إذ يشهد 40 بلدا انتخابات رئاسية أو تشريعية، تنطلق هذا الشهر (يناير/ كانون الثاني) في تايوان، ويرجّح أن تكون لنتائجها تداعيات مهمّة على علاقتها مع الصين إذا فاز القوميون، كما هو متوقّع. ستشهد الولايات المتحدة وعدد من دول أوروبا والهند أيضا انتخابات مفصلية ستكون لها انعكاساتٌ كبرى. ففي الولايات المتحدة، يسيطر شبح عودة ترامب إلى البيت الأبيض، رغم كل العقبات التي تواجهه في ساحة القضاء، على الحياة السياسية في أميركا والعالم، ويرجّح أن تتردد أصداؤها في القارّات الخمس، كما حصل في ولايته الأولى، بدءا من أوروبا التي ترتعد فرائصها من هذا الاحتمال، وصولا إلى الشرق الأوسط والخليج والموقف من إيران والصين وروسيا وحربها في أوكرانيا. في انتخابات أوروبا (النمسا، بلجيكا، البرتغال، وغيرها)، يتوقّع أن تتقدّم قوى اليمين، وإذا تزامن ذلك مع فوز ترامب في أميركا سوف تكون لذلك تداعيات كبرى على مستقبل الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. في الهند، يتوقّع أن يفوز ناريندرا مودي واليمين الهندوسي المتطرّف بولاية جديدة، ما يعني تفجّر مزيد من العنف في شبه القارّة الهندية، خصوصا مع تحوّل ما تسمّى “أكبر ديمقراطية في العالم” تحت قيادته الى دولة بوليسية تتجسّس على المعارضين وتلاحقهم بالاغتيال، كما حصل مع أحد المعارضين “السيخ” في كندا. هذه العناوين وغيرها سوف تشغلنا على الأرجح خلال العام المقبل، وقد تكون تداعياتها بالفعل مفصلية، أخذا بالاعتبار ما يجري حاليا في منطقتنا والعالم.
—————————-
في عودة الحديث عن حرب أهلية إسرائيلية/ مالك ونوس
02 يناير 2024
إذا كانت عملية طوفان الأقصى قد غيَّبت الكلام الذي ساد طويلاً في الفترة التي سبقتها، وتوقّع فيها مسؤولون وسياسيون ومحللون، وأيّدتهم استطلاعات رأي، اندلاع حرب أهلية إسرائيلية، فإن هذه العملية وتداعيات الحرب الإسرائيلية القائمة على غزّة لم تلغِ أسباب اندلاعها، بل على العكس، قد تصبح من العوامل التي ستزيد في أسباب ذلك الاندلاع. وفي هذا الإطار، لوحظت في الأيام القليلة الماضية العودة إلى التحذير من حربٍ أهليةٍ إسرائيلية، خصوصاً في ظل الحديث عن فشل الجيش الإسرائيلي وحكومة الحرب في مهمة القضاء على حركة حماس، وتوصُّل بعض الإسرائيليين إلى قناعة بشأن صعوبة تحقيق هذا الهدف، علاوة على صعوبة استمرار الحرب على الشاكلة التي تجري وفقها. ويأتي هذا الكلام في وقتٍ يصرّ فيه قسم كبير من غلاة اليمين المتطرّف، الشريك المتدين في الحكومة، على عدم المشاركة في الأعباء الحكومية، ومنها المتعلقة في الحرب على غزّة، بينما في الوقت عينه يطالبون بمخصّصات إضافية، منها ما يتعلق بتسليح المستوطنين بالرشّاشات، وتزويدهم بأجهزة حماية ومراقبة، مقدّمةً لتشكيلهم مليشيا خاصة بهم.
وفي هذا السياق، لا يمكن أن تمر تصريحات رئيس الأركان الإسرائيلي السابق دان حالوتس أخيرا عن احتمال اندلاع حربٍ أهلية إسرائيلية، مرور الكرام، لو لم يكن خطرها ما زال ضاغطاً؛ إذ دعا في مؤتمر حركة الاحتجاج ضد التعديلات القضائية في حيفا، أواسط ديسمبر/ كانون الأول الجاري، إلى إطاحة نتنياهو، بوصف الانتصار الوحيد الممكن تحقيقه، بعد فشل الجيش الإسرائيلي بالانتصار في الحرب على غزّة، عزل نتنياهو، كما قال. وبينما أقرّ حالوتس بأن إسرائيل لم تنتصر في الحرب، قال إنها لن تنتصر فيها، بل إن ما سيكون هو صورة الخسارة بدلاً من صورة النصر، لذلك لا بد من خلع نتنياهو. وتوقَّع أن يطلق أنصار وزير الأمن القومي اليميني المتطرّف إيتمار بن غفير النار على المتظاهرين الذين دعاهم حالوتس إلى الاستعداد لمعركة إطاحة رئيس الحكومة، ما قد يؤدّي إلى انزلاق المجتمع إلى حرب أهلية.
وليست هذه المرّة الأولى التي يتحدث فيها حالوتس عن حرب أهلية إسرائيلية، إذ تحدّث عن الأمر في بداية السنة الماضية، وكذلك في أكتوبر/ تشرين الأول سنة 2022. وفي جميع تصريحاته عن الحرب الجارية، كان بن غفير حاضراً، وأفصح فيها عن مخاوفه من تنفيذ الأخير أفكاره الخطيرة، وهو كلام يأتي بعد توجّه هذا الوزير إلى تشكيل مليشيا خاصة بالمستوطنين بتمويل وتسليح من الحكومة اليمينية التي يشارك فيها. وذهب حالوتس بعيداً حين قال إن الحرب الأهلية قد اندلعت عملياً سنة 1995، حين اغتال أحد أنصار بن غفير رئيس الوزراء الأسبق إسحاق رابين لأنه كان ماضياً في عملية السلام مع الطرف الفلسطيني وبقية العرب. وأشار إلى أن بن غفير سيعزّز الصدع الموجود في المجتمع الإسرائيلي بين اليهود الغربيين الأكثر علمانية وليبرالية، من النخبة الذين يديرون الاقتصاد ويدفعون الضرائب ويتحمّلون أعباء الخدمة العسكرية، والذين يطلق عليهم في الصحافة العبرية تسمية “إسرائيل الأولى”، واليهود الشرقيين وسكان المستوطنات من المتدينين والمتعصّبين الذين يسمّون “إسرائيل الثانية” الذين لا يخدمون في الجيش، بينما يطالبون بالاستفادة أكثر من مقدّرات الدولة وبإصلاح القضاء على طريقة نتنياهو في الإصلاح.
في سياق التطبيع مع العرب، ربما ظهرت خشية لدى بن غفير وأنصاره من سكّان المستوطنات من تفكيك هذه المستوطنات التي يسكنونها، إذا ما انسحبت الحكومة الإسرائيلية من الضفة الغربية، ثمنا للتطبيع مع دول عربية أخرى. وبالتالي، يتكرّر السيناريو الذي حصل عندما قررت حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل أرئيل شارون الانسحاب من عزة وتفكيك المستوطنات فيها وترحيل المستوطنين منها بالقوة. لذلك لا مجال لديهم لمواجهة مخطط كهذا سوى التسلح وربما مواجهة الجيش لمنعه. وبفضل العقل الأمني لدى حالوتس، ربما يكون قد استشعر الخطر في بن غفير والمليشيا التي يعتزم تشكيلها، خصوصاً أن أنصاره حصلوا على 25 ألف قطعة سلاح من أصل 40 ألف قطعة صودق على تزويدهم بها لتأسيس فرق حراسة في المستوطنات، وفق وثائق نُشرت أخيرا.
وانطلاقاً من التسليم بأن المجتمع الإسرائيلي متناقض دينياً واجتماعياً وسياسياً، وليس لديه ما يمنع انفجاره سوى الخطر الخارجي الذي تمثل على مدى 75 سنة من عمر الكيان الإسرائيلي بالفلسطينيين والدول العربية المحيطة، فإن تراجع هذا الخطر في نظر بعض الإسرائيليين بعد اتفاقيات التطبيع الإسرائيلية مع دول عربية قد يؤدي إلى تضاؤل تأثير العوامل الجامعة. ومن هنا، زادت فرص اندلاع قلاقل داخل الكيان بسبب زيادة تغوُّل اليمين المتطرّف في مفاصل الدولة، وبروز قادته الأكثر تطرّفاً وفاشية على السطح واحتلالهم المشهد خلال السنوات الأخيرة مع وصولهم إلى الكنيست، ومشاركتهم في حكومة نتنياهو الحالية. وقد لوحظ الغضب والتوتّر وشدة الاستقطاب في المجتمع الإسرائيلي عندما نزل هؤلاء إلى الشارع بأعداد ضخمة لمواجهة المتظاهرين الذين كانوا يخرجون أسبوعياً احتجاجاً على التعديلات القضائية التي طرحها نتنياهو.
ويدفع اليمينيون من التيار الديني المتطرّف إلى إقرار التعديلات القضائية التي تهدف إلى تقييد السلطة القضائية واستقلاليتها، بما فيها المحكمة العليا، من أجل زيادة قوّة السلطة التنفيذية، وهو ما يعدّه بعضهم ضرباً من الدكتاتورية والاستبداد، في وقتٍ يحتاج فيه المجتمع الإسرائيلي إلى مزيد من الديمقراطية لاحتواء الصراعات القائمة سلمياً. أما هدفهم فهو دفع الحكومة إلى ضم الضفة الغربية وتشريع المستوطنات وتوسيعها، وفرض الالتزام الديني على المجتمع ومؤسّساته لتعميق سيطرتهم. وإذ تزداد قوتهم وتنمو شوكتهم يوماً بعد يوم، بعدما انتقلوا من الهامش إلى مركز السلطة، ربما نراهم قريباً في الشوارع لمواجهة المحتجّين من أهالي المحتجزين الإسرائيليين في غزّة، والذين تؤدّي حرب حكومة نتنياهو على غزّة إلى قتل بعضهم بفعل غارات الجيش الإسرائيلي الوحشية الذي لا يهتم قادته بحياة هؤلاء.
قبل اكتمال تسليح المليشيا التي يعتزم بن غفير تشكيلها، وقع حادثٌ أطلق فيه الجيش النار على مستوطنٍ مسلّح عن طريق الخطأ في القدس وأرداه قتيلاً، بعد الاشتباه بأنه من عناصر حماس، بداية الشهر الماضي (ديسمبر/ كانون الأول). وفي ظل هذا الانقسام، يمكننا توقُّع تكرار هذا الحادث مراراً بعد استلام أنصار بن غفير الأسلحة التي ينتظرونها، وحينها قد نشهد توتّراً سيزداد مع استمرار الحرب على غزّة، ومن الممكن أن يتطوّر هذا التوتر إلى اشتباكاتٍ قد تتطوّر بدورها إلى حربٍ أهلية، تتوفر الأرضية منذ تأسيس هذا الكيان لاندلاعها. وفي هذا الوقت، يتبادر إلى الذهن السؤال عما إذا كان الفلسطينيون أو العرب جاهزين لتداعيات سيناريو كهذا. قد يكون من وضع خطّة عملية طوفان الأقصى، ونفذها بتلك الحرفية، ويواجه الإسرائيليين في غزّة بصلابة، جاهزاً، أما ما عداه من الفلسطينيين والعرب فقد لا يكونون.
——————————-
في التداعيات السورية لحرب غزّة/ سميرة المسالمة
01 يناير 2024
تعيد الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين في قطاع غزّة ترتيب أوراق المنطقة، وهي رغم محاولة حصارها في بقعتها الجغرافية الصغيرة التي اختارتها إسرائيل لنفسها، فإنها عمّمت نتائجها على كل ما حولها، بدءاً من خيارات الفصائل الفلسطينية وحواضنها الشعبية، إلى السلطة الفلسطينية، وسيناريوهات اليوم التالي بعد الحرب، وصولاً إلى دول الجوار، وتصدير أزمات وتداعيات الحرب إليها، إلى الدول التي تعيش، بين حين وآخر، على وقْع التهديدات الإسرائيلية، وقصفها مواقع حيوية داخل حدودها، وتوعّدها بدمار قد يشابه ما يحدُث في غزّة، إلى تنحية أي دور عربي في القضية الفلسطينية، وتعرية شعارات الأنظمة في الدفاع عن حقّ الشعب الفلسطيني في إقامة دولته على أرضه.
ويأتي في هذا السياق لبنان على وجه الخصوص، كإحدى الوجهات الرئيسية لإسرائيل في توسيع خيارات الحرب، حيث تحمّله مسؤولية قرار حزب الله، من دون بقية من ساسته، في فتح جبهته ضدّها، ما يمنحها الغطاء الذي تأمله لممارسة عدوانها المبيّت ضده، والمواجهة المعلنة معه، تحت الحجج نفسها التي اتخذتها في حربها الهمجية على غزّة، وهي اجتثاث خطر حركة حماس فلسطينياً، وبالتوازي، إبعاد خطر إرهاب حزب الله في لبنان عن حدودها الشمالية، وهو ما قد يلجأ إليه رئيس وزراء إسرائيل، نتنياهو، كإحدى وسائل التمديد الاجباري لحكومته، واستعادة شعبيته في المجال الإسرائيلي.
وفيما يخصّ وضع سورية المتأزّم أساساً، والتي يمارس عليها التهديد الإسرائيلي شبه الدائم، عبر القصف المتتالي لمنشآتها الحيوية، ومنها مطاراتها، التي لا تكاد تعمل لتخرج عن الخدمة، فإن أسباب توسع الحرب إليها متوفّرة بحكم الوجود الإيراني فيها، والتزام كل طرفٍ في الصراع غير المباشر بإبادة الآخر، واستخدام الساحة السورية حلبة صراع، من دون أن يقرب أي طرفٍ منهما من حافّة الحرب أو ينفيها، وهذا، في الآن ذاته، ينفي أيضاً، عن واقع سورية حالتي السلم والحرب مع إسرائيل، كما هو واقع حال النظام السوري مع جبهات معارضيه، الموزّعة بين حربه على المعارضة المدنية من جهة، أو حربه على الفصائل المسلحة باختلاف تبعياتها ومرجعياتها من جهة مقابلة.
صحيحٌ أن النظام السوري “الحاكم” ليس هو المستهدف الرئيس في أي عدوان إسرائيلي على سورية، لكن ذلك لا يمنع من أن السوريين هم من يتحمّلون تبعات ذلك الاستهداف، وهذا التبجح الإسرائيلي غير المدان دولياً، (بحكم الرعاية الأميركية والتعاطف الغربي مع طموحات أو تبريرات إسرائيل العدوانية)، ما يحاصر حياة الشعب السوري المعيشية، ويزيد من معاناتهم، ويضعهم بين فكّي كمّاشة، أحدها، الحرب الداخلية التي يشنّها النظام على المناطق الخارجة عن سيطرته، والتي تمثل منافذ اقتصادية لبعض مناطق النظام، والآخر، الحرب التي تشنّها إسرائيل على المنشآت الحيوية التي تستخدمها إيران لمصالحها الإقليمية، التي لم تدخل حرب غزّة الحالية في حيّز حسابات الدعم الإيراني للقضية الفلسطينية، والذي يتناسب وادّعاء قيادتها محور المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي فلسطين.
تأكيد إسرائيل في كل اعتداء على سورية أنها تستهدف الوجود الإيراني ونشاطاته هو تحييد معلن لأي عداء إسرائيلي مع النظام السوري، ما يعني إخراج النظام من العلاقة الثلاثية التي جمعته مع إيران وحزب الله، في إطار ما يسمّى محور المقاومة والممانعة، ووضعه في مستوى آخر يمكن وصفه، على أحسن الظن، بالحيادي تجاهها، ما يعني أن الأسد خرج من حسابات إسرائيل جهةً حليفة لإيران، كما خرجت إسرائيل من حساباته عدواً محتملاً، أي إن ما يهدّد النظام السوري هو الداخل المشتعل، وليس الكابوس الإسرائيلي الذي لا يمكن أن يراهن على صداقته، في ظل الخوف الذي “يتوهّمه” من كل من ليس إسرائيلياً بالفطرة، أو بالدعم، أو تجنّباً لتهمة عداء السامية، وإنكار الهولوكوست، ما يجعل من توسّع إسرائيل عبر مراحل، تنتقل من “حماس” إلى حزب الله، ومن ثم إلى مواقع دعمهما المادّية والجغرافية، أمراً ليس ببعيد إن بقي الحال على هذا الحال!
ربما لا يفيد كثيراً البحث عن موقع سورية في حلف الممانعة ذاك، الذي لم ينقذ حتى اليوم فلسطينياً واحداً، لكن ذلك الحديث عن النظام السوري لا يغطّي على الحقيقة، التي أثبتتها التجربة، بعيداً عن الشعارات، والتي تقول إن هذا النظام لا يعتبر نفسه معنياً بالصراع ضد إسرائيل، إذ إنه تجاوز ادّعاء كهذا منذ زمن، ولم يعد يعنيه، منذ أصبح معارضوه هم أعداؤه فقط، حتى لو احتسبه بعضهم، جغرافياً، ضمن حلف المقاومة والممانعة، وهو أصلاً حلف شكلي، كما كشفت حرب إسرائيل في غزّة. وبالمثل، لا تعتبر إسرائيل النظام السوري مصدر تهديد لها، ولا في أي شكل، فهي تضرب فيه منذ عشرة أعوام من دون أن تهدّد (هي) بإضعافه، أو يغير (هو) من موقعه الحيادي!
وإذا كان الرئيس السوري، بشّار الأسد، قد أخذ أمانه “دولياً ” في كل السنوات الماضية من وضعه “الحيادي” تجاه إسرائيل، وصمته على ما يحدُث في غزّة منذ نحو ثلاثة أشهر، فإن أمانه “سورياً” لن يستتبّ له بعد على الرغم من الدعمين، الإيراني والروسي، له، فما أن تهدأ زاوية أو حي أو مدينة، حتى تعلن أخرى ثورتها، وهو ما قد يكون الأسد أدركه ويسعى إليه عبر “إصلاحاتٍ” تبدأ من حمله المعول ضد حزبه الحاكم ليُثبت أنه قابلٌ للتطويع، على الرغم من الصدأ الذي اعتلى كرسيّه، إلى تنفيذ كامل المطالب الأميركية المنقولة له عبر الوسطاء العرب.
—————————
حراسة “الازدهار” الأميركي في الشرق الأوسط/ رانيا مصطفى
31 ديسمبر 2023
أعلنت الولايات المتحدة، على لسان وزير دفاعها، لويد أوستن، إنشاء تحالف “حارس الازدهار” لحماية الملاحة في البحر الأحمر من هجمات أنصار الله (الحوثيين) التي استهدفت حركة الملاحة في البحر الأحمر من إسرائيل وإليها، فضلاً عن استهدافها ميناء إيلات بالمسيّرات والصواريخ الباليستية. وجاء الإعلان ضمن استراتيجية أميركية للحفاظ على مصالحها وإعادة ترسيخ نفوذها في الشرق الأوسط، مع شعورها بتراخي هذا النفوذ أمام تصاعد اهتمام الصين وروسيا، العسكري والاقتصادي في أفريقيا والعالم العربي من جهة، وتراجع هيبتها بسبب الفشل العسكري الإسرائيلي في حسم المعركة في غزّة، وما سينتج من ذلك من صعوبة تنفيذ الممر الاقتصادي الهندي إلى أوروبا عبر ثلاث دول عربية وإسرائيل. ربما كان القصد بـ”الازدهار” الذي سيحرُسه التحالف الجديد، المصالح والنفوذ الأميركيين، والذي يتلاقى مع المصالح الأوروبية، في استقرار الدولة الصهيونية وإنشاء الممرات البرّية وحماية الممرّات البحرية، خصوصاً للحؤول دون ارتفاع أسعار النفط عالمياً، بسبب كلف النقل الإضافية.
جاءت الاستجابة الأوروبية للانضمام إلى التحالف دون المستوى المطلوب من واشنطن، حيث نأت فرنسا وإيطاليا وإسبانيا بنفسها عنه، واكتفت دول أخرى بتقديم أعداد قليلة من الضباط والآليات العسكرية. لم تعد تلك الدول تثق بالولايات المتحدة، بسبب أدائها في الحرب الروسية الأوكرانية، وتضرّر تلك الدول من إطالة أمد الحرب، وأن واشنطن وتفرّدها بقيادة حلف الناتو هي التي سبّبت اندلاع تلك الحرب؛ وأيضاً بسبب رفضها إيقاف النار في غزّة في مجلس الأمن، وتبنّي الرواية الإسرائيلية، وبشكل فظّ يُحرج حكومات تلك الدول التي تشهد شوارعها مظاهرات مندّدة بالعدوان الإسرائيلي.
لم تعلن الدول العربية، عدا البحرين، استجابتها للطلب الأميركي الانضمام إلى التحالف، وهذا يشكل ضربة كبيرة لطبيعة العلاقة بين واشنطن وحلفائها العرب، بسبب فقدان الثقة أيضاً، ولأن هذه العملية تبدو كأنها حماية لتجارة الكيان الصهيوني، وهذه الدول تحاول الاحتفاظ بموقف الاعتدال من إسرائيل، في ظل عجز الأخيرة عن حسم المعركة في غزّة. وربما كان “حارس الازدهار” الاسم المحيّر الذي اختارته واشنطن على عجل لتحالفها الجديد، يشير أيضاً إلى المشاريع التنموية لولي العهد السعودي محمد بن سلمان، بقصد إغراء الرياض بعودة الأميركيين إلى سياسة حماية أمنها من هجمات متوقّعة من جانب الحوثي، وأن تشارك بدورها في دفع تكلفة هذا التحالف؛ وهو الأمر الذي جاء متأخّراً جداً بالنسبة إلى المملكة، فليس من مصلحتها استفزاز جماعة أنصار الله، في توقيتٍ باتت فيه مهتمة وراعية للمصالحة اليمنية – اليمنية وللتهدئة مع الحوثيين، بعد التواصل الذي بينها وبين إيران بوساطة صينية. الإمارات أيضاً، رغم أنها تختلف مع السعودية بشأن الموقف من جماعة أنصار الله، لكنها لم تسارع إلى الانضمام إلى “حارس الازدهار”، حتى لا تستفز الجماعة، وضمن سياق معاقبة أميركا على تخليها عن حماية أمن المنطقة، وعدم تقديم السلاح الهجومي لمواجهة الحوثيين. ومصر التي تجني قرابة عشرة مليارات دولار سنوياً من قناة السويس، ستتأثر بتحويل الطريق التجاري البحري إلى رأس الرجاء الصالح، إذا استمرّت اعتداءات الحوثي على حركة الملاحة في البحر الأحمر. ومع ذلك، فضلت التروّي، ولم تعلن انضمامها إلى التحالف المذكور، الذي يبدو كأنه دعم لاستقرار إسرائيل.
على الأرجح، ليست إيران وراء التصعيد الحوثي أخيراً في البحر الأحمر، كما لم تكن وراء عملية طوفان الأقصى، لكنها مستفيدة مما يجري؛ فهي لا تريد التصعيد، لكونها في مرحلة مفاوضات مع الولايات المتحدة للإفراج عن بعض أموالها المحتجزة في البنوك بسبب العقوبات الغربية عليها؛ وبالتالي، هجمات الحوثي على حركة الملاحة في البحر الأحمر، وكذلك الرد الأميركي بتشكيل تحالف عسكري، لا يأتيان ضمن الصراع الأميركي الإيراني في المنطقة. بالنسبة إلى جماعة أنصار الله، الذين يربطون تعطيل حركة الملاحة البحرية من إيلات وإليها بإيقاف العدوان على غزّة، هم يريدون كذلك تثبيت سلطتهم في العاصمة صنعاء، وقد يقدّمون تنازلاتٍ لواشنطن مقابل الاعتراف بهم. قد يوجّه التحالف الجديد، الذي تقوده الولايات المتحدة في البحر الأحمر، ضربات محدودة إلى جماعة الحوثيين، من باب إظهار قوة الردع الأميركية، غير أن واشنطن لا ترغب في التورّط في حرب قابلة للتوسّع في المنطقة، وهي بدورها لجمت رغبات نتنياهو في توسيع دائرة النار، وأبقت الحرب محصورة في غزّة.
لا تعترف الولايات المتحدة بتراجع هيبتها على مستوى العالم. بدأ ذلك مع انشغالها ببناء أسطولها البحري في الباسيفيك، لمواجهة خطر الصين الاقتصادي، من دون التخلّي عن دورها المتحكّم بمنطقة الشرق الأوسط، عبر تأجيج الصراعات الأهلية، وإبقاء هذه الصراعات محصورة في دول المنطقة، من دون انفلاتها إلى حروبٍ شاملة؛ فمنذ عهد الرئيس السابق، باراك أوباما، بدأت بالانسحاب من الحروب التي أشعلتها في الشرق، في أفغانستان والعراق، وتركت عن قصد، الأولى لحركة طالبان المتشدّدة، والثانية للنفوذ الإيراني، وتركت سورية لروسيا ولتوسع نفوذ إيران، مع بقاء نظام دمشق في أضعف حالاته، واضطرّت إلى الدخول في تحالف دولي لقتال تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في العراق وسورية، من أجل إبقاء قدرتها على التحكّم في المنطقة. واستفزّت روسيا بتوسيع حلف الناتو بالقرب من حدود الأخيرة، وتبنّت دعم الأوكرانيين، من دون القدرة على الحسم. وفي اليمن، لم تكمل حملتها ضد الحوثيين في 2018، بل مكّنتهم من السيطرة على مناطق استراتيجية، وتخلّت عن التزاماتها بحماية أمن حلفائها في الخليج، وهي تدعم العدوان الإسرائيلي الهمجي على غزّة وتتبنّاه، ودعمت توسيع المستوطنات في الضفة الغربية والانتهاكات في الأقصى، الأمر الذي يخالف أية مقولة حول دعمها ازدهار المنطقة.
بإعلان أوستن تحالفاً متواضعاً في البحر الأحمر، المؤلف من 20 دولة، ثمانٍ منها لم تُعلَن، من الواضح أن الهيبة الأميركية تتراجع في الشرق الأوسط والعالم، وحلفاء أميركا العرب والأوروبيون لا يثقون بها، بسبب دورها في تأجيج الصراعات الداخلية في العالم؛ وما زالت تفرض قراراتها على العالم، رغم عزلتها، مستندة إلى امتلاكها أكبر قوّة عسكرية في العالم، تفضّل عدم تشتيتها في حروب الشرق الأوسط، وتوفيرها لمواجهةٍ مستقبليةٍ محتملة مع الصين.
——————————-
معارك استنزاف في الشرق الأوسط/ فاطمة ياسين
31 ديسمبر 2023
لم تكفّ إسرائيل عن ضرب مطار دمشق الدولي، وهو نقطة الوصل الجوية بين إيران والمنطقة. ترغب إسرائيل في هذا بقطع الشريان الذي يمكن أن يُستعمل لتأمين وصول أسلحة وذخائر إلى حزب الله والمجموعات العسكرية المشابهة له والموجودة في سورية. كانت الضربات على المطار تتم بوتائر واضحة، فما أن تنتهي ورشات العمل من ترميم ما تحطّم في المطار حتى تعود الطائرات أو الصواريخ الإسرائيلية للهجوم عليه، ولا تغادر قبل أن تتأكّد أنه أصبح خارج الخدمة. طوّرت إسرائيل عملها اللوجستي النشط في إيقاف “الكوريدور” الجوي بين طهران ودمشق، باستهدافها الكادر البشري الذي يدير العملية، واستطاعت أن تصيب رضي موسوي، الرجل الذي يهندس هذه الرحلات، ويؤمّن دخولها وحركتها ضمن الأراضي السورية. ولم تخفِ إيران مصابها في مقتل جنرالها العسكري في سورية، فقد أقامت له صلاة جنازة حضرها الآلاف، وتوعّد فيها القادة الإيرانيون بالانتقام للرجل. قد يبدو الحدث كسرا لروتين التراشق الإيراني الإسرائيلي بتوسيع إسرائيل دائرة أهدافها لتشمل قادة مهمين. ورغم عدم إعلان إسرائيل مسؤوليتها عن العملية، إلا أن التعهد الإيراني يمكن أن يجعل المنطقة تستعد لجولة مختلفة في الحرب الدائرة بالفعل، بعد أن أدخلت إسرائيل تعديلات “مستفزّة” على قائمة أهدافها.
حافظ كل من الطرف الإسرائيلي والطرف الإيراني، بواسطة أذرعه التي يسيطر عليها في سورية ولبنان واليمن، على تصاعد مدروس، وبدا الرئيس الأميركي حريصا على عدم التوسعة، فلم يجعل النشاط المعادي للتجمّعات العسكرية الأميركية في العراق الجبهات تشتعل خارج غزّة، ومارست كل الأطراف بإرادتها نوعا من إدارة صامتة للصراع تبقيه على ذات النار الهادئة، ومن دون أن تنقله إلى مراحل المواجهة الشاملة، ولم يتسبّب دخول الحوثيين إلى المشهد باعتراض السفن التي تبحر قبالة سواحل اليمن في البحر الأحمر في توسع المعركة لتصبح حربا كبرى. وظلّ التوتر يشكل نقاطا ساخنة، قال نتنياهو إنها ست، في الضفة الغربية وقطاع غزّة وسورية ولبنان والعراق واليمن. وقد تبدو الحرب واسعة بالفعل، بوجودها في هذه المناطق، ولكنها في الحقيقة حرائق تندلع وتخبو بينما تبقى الحرب بتقاليدها المعروفة مقتصرة على غزّة، حيث تشارك وحدات قصف بعيد، برّي وبحري وجوي، وتدخل المدرّعات وينتشر المشاة بعد تمشيط ناري، فيما تقتصر الحالة في الجبهات الأخرى على تراشق محدود في الزمان والمكان يمكن استيعابه، كما يمكن استيعاب مقتل رضي موسوي نفسه.
تتوسّع الحرب حاليا في غزّة من الشمال إلى الوسط والجنوب، وأصبح القطاع كله في حالة حربٍ شاملة، وجزء كبير من الجيش الإسرائيلي منهمكٌ في الحرب المباشرة أو المساندة. ورغم ذلك، يهدد الوزير الإسرائيلي غالانت بتوسيع الحرب على الجبهة اللبنانية لمواجهة حزب الله، ويردّد نتنياهو التهديد نفسه. لدى الجيش الإسرائيلي الخبرة الكافية على الجبهة اللبنانية، وكان قد خاض حربا عام 2006 ضد الحزب، وانتهى بانتصار دبلوماسي وصدور قرار من مجلس الأمن يجبر حزب الله على التراجع إلى ما وراء نهر الليطاني، ولكن القرار لم ينفّذ، وبعد شهر من تلك الحرب، وجدت الأطراف لنفسها في النهاية مخرجا، كان الجميع سعداء به. اختلفت الظروف والمعطيات الآن، فإسرائيل مطعونة في كبريائها الأمني، وتعرف أن غريمتها هي “حماس”، وتطبق عليها أقصى ما تستطيع من قوّة، لكنها أيضا تؤدّي ما عليها في بقية الجبهات، أما إشعال حربٍ جديدةٍ على حدود لبنان تزامنا مع ما يحصل في غزّة فيمكن أن ينهك الجميع، ولدى الولايات المتحدة حرب أخرى في أوروبا الشرقية ما زالت مشتعلة. لذلك ترغب بإبقاء المعارك محصورة في غزّة، وهي تدرك، وإسرائيل أيضا تدرك، أن قتل رضي موسوي خطوة إجرائية ضمن خطّة الاستنزاف البطيء التي تجري بالتوازي مع حرب غزّة، ولكن هذا لا يكفي للبدء بفتح جبهة أخرى.
———————————
اللغة لا تسعف غزّة/ راتب شعبو
29 ديسمبر 2023
سنّ الشاعر الألماني برتولد بريخت سنّة “كلامية” بالقول: “لن يقولوا كان ذلك في أزمنة مظلمة، سيقولون لماذا صمت الشعراء؟”. كلام الشعراء، إذن، فعلٌ يرفع التكليف عن المتكلّم حين تكون الأزمنة مظلمة، كما هو الحال اليوم في غزّة. وسبقه المتنبّي في قبول الكلام بديلاً عن الفعل “فليسعد النطق إن لم تسعف الحال”، على أنه جعل النُّطق أدنى مرتبةً من الفعل “الحال”.
جرياً على هذا المبدأ، ما كتب وقيل عن غزّة منذ 7 أكتوبر يملأ مجلدات، ولكن كل ما قيل وكتب، على مدى 80 يوماً (عند كتابة هذا المقال) من الغزو الإسرائيلي الوحشي غزّة، لم يُسعد ولم يُسعف ولم يخفّف من ظلمة هذا الزمن. لم تفلح هذه المجلدات في إدخال المواد الإغاثية اللازمة لأهل غزّة الذين يتعرّضون في حصارهم إلى شتّى صنوف الأسلحة الإسرائيلية، فضلاً عن الجوع والبرد وفتك الأمراض، ولم تفلح في منع تزايد أعداد القتلى والمصابين. في المقابل، ربما حقق شلال اللغة المتدفّق هذا القليل أو الكثير من الرضى عن النفس للمساهمين فيه. هكذا يكون لمن كتب أو قال شيئاً عن غزّة، ما يعتبرها “مساهمته” في المعركة، فسيقول لنفسه، ثم سيقول لك إنه لم يسكت.
إذا غابت اللغة سوف نخسر الشعر وسحر البيان، وقد نخسر دفء تعابير الحبّ والمودّة والتعابير المواسية، حين لا تنفع غير المواساة، وحين لا يمكن لفعلٍ أن يُغني عن القول، أو حين يكون القول هو “الفعل”. غير أن اللغة، من جهةٍ أخرى، تمتصّ طاقتنا وترميها في فراغ لا يمتلئ، ولا سيما حين نكون أمام تحدّ عسير يحبطنا عن الفعل، ويميل بنا إلى “النطق”. حين نعجز، فإننا ننفعل ونصرخ ونشتم ونتحدّى ونتوعّد، ثم نهدأ. أي أن اللغة تمتصّ طاقتنا في اللحظة التي نحتاج فيها إلى أقصى طاقةٍ ممكنة. ولكن لولا الصراخ وصنوف التعابير اللغوية ماذا كان يمكن أن نفعل حين ننفعل؟ أو كيف نتصرّف حيال التحدّيات الصعبة، حين تختفي اللغة، ربما كنا سنّتجه إلى الفعل، إلى معالجة التحدّي بيدنا وليس بلساننا.
يقال إن أحد الحكماء أجاب عن سؤال: ما هو سر النجاح؟ بالقول إن ثلاثة أرباع السر هو الصمت، والربع الباقي هو قلّة الكلام. قد يدلّ هذا القول على ضرورة أن يكون الفعل أكثر من الكلام، ولكن هناك من يجد سبيلاً نفعياً في فهم هذا القول، يقوم على الصمت لإخفاء الانحياز والتقليل من احتمال زلّات اللسان، وسط صراعات القوى، بحيث لا تخسر مع من يخسر، بل تربح مع من يربح. وقد كان آخر الزعماء السوفييت (غورباتشوف) من هذه المدرسة النفعية التي مكنته من أن يصبح الأمين العام للحزب الشيوعي السوفييتي الذي كان يشهد صراعاً بين ميليْن، محافظ وتحرّري، فقد كان كل معسكر يحسب أن غورباتشوف في صفوفه، وحين رشّحه التيار المحافظ، قبله الجميع، وبلغ غايته بفضل هذه “الحكمة”.
لو افترضنا أن الإنسان لا يملك اللغة، أو أن اللغة اختفت، كيف تظهر المواقف حينها وكيف نقيسها؟ وكيف كان للإنسان أن يقدم نفسه للآخرين، وأن يتصرف في مواجهة المظالم والمحن والأهوال؟ كيف تكون الحياة حين لا يستطيع الإنسان أن يعبر عن نفسه سوى في الفعل والحركة؟ سوف تغيب تلقائيا حينها عبارة الحكيم اليوناني “تكلّم حتى أراك”، وعبارة الحكيم العربي “الناس صناديقُ مغلقةٌ مفاتيحُها الكلام”، ويصبح السلوك والفعل هو ما يجعلك ترى الشخص وتُدرك ما في داخل صندوقه.
في غياب اللغة، سوف تختفي البضاعة التي تملأ الأسواق، بما فيها هذه البضاعة التي تقرأونها الآن هنا، أقصد البضاعة المصنوعة من اللغة. لن تكون هناك تصريحات تنم عن التضامن مع محاصرين يتعرّضون للجوع والقتل، ولا تصريحات تنم عن الرغبة في الانتقام والاستعداد لإبادة العدو، ولن يكون هناك كلام لشدّ الأزر ولا كلام لتثبيط الهمم، ولن ينشغل الناس في التفريق بين الصدق والكذب، فلن تكون هناك لغة تنوب عن الواقع في التعبير عن نفسه.
في غياب اللغة، لن يقع الناس في حبائل الكلام. سوف تختفي تلقائياً أشكال سوء الفهم، وتنتهي المزاودات، ولن يبقى مجال لاستنطاق القول وتحميله ما لا يحمل من استنتاجاتٍ تضعه في خانة رديئة أو في خانة صالحة. عندئذٍ، سوف نخسر موهبتنا الفذّة في الاعتقاد أننا فعلنا الشيء إذا تحدّثنا عنه. وسوف نخسر موهبتنا في المباهاة والضجيج والادّعاء. لم يكن من فراغ قول أحد الكتّاب العرب في هجاء أبناء جلدته، إن “العربي يرفض الصعود إلى الشمس وامتلاكها إن كان عليه أن يفعل ذلك بصمت، وإنه ليفضّل أن يصرخ ويباهي أنه صعد إلى القمر وامتلكه، على أن يصعد ويمتلكه بالفعل”.
للغة سحرها، وكنتُ دائماً ممن يشعرون أن في رواية المحن الشخصية ما يعوّض إلى حد ما عن المحنة نفسها. وفي هذا ما يجعل لغمامة المحنة السوداء بطانة فضّية، إذ إن المحنة التي تنجو منها تمنحك ما يُروى، وكثيراً ما كنّا نردد في تلك البئر العميقة التي تسمّى “سجن تدمر”، بحثاً عن خيط أبيض في ذلك النسيج العاتم: لقد بات لدينا، إذا نجوْنا، ما نرويه لأولادنا. لولا اللغة لما كان مثل هذا التعويض البائس ممكناً. وكذلك لولا اللغة لما انتعشت قلوبنا، ونحن وراء تلك الجدران التي ثابرت على امتصاص أعمارنا، بكلمة تصل إلينا من الخارج تحمل بعض الودّ الذي يروي القلب ويسنده، أو تحمل، في كل حال، بعض الاعتراف بوجودنا.
بعد المضي قليلاً في هذه الطريق التي تستغني عن اللغة، مدفوعاً برغبة الانتقام من لغة لا تُجدي شيئاً ولا تطعم جائعاً وترتدّ عن جدار الوحشية حين ترتطم به كما يرتد البالون المنفوخ بالهواء، من دون أن تترك أثراً. أجدني أقفل عائداً، وقد رأيت أن المشكلة ليست في اللغة. لا أريد للغة أن تختفي، أريدها أن تشتعل في تضافر وتضامن مع الفعل، وأن تتنحى للفعل كي يتقدّم، لا أن تنوب عنه. ولعل الآية القرآنية التي تتحسّس هذه المشكلة بصياغة محكمة “كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون” تعفي من البحث عن التعبير الذي يشرح العلاقة اللازمة بين القول والفعل.
———————————-
غزّة تخلط الأوراق/ بشير البكر
29 ديسمبر 2023
انهيار السياسة الإسرائيلية تجاه القضية الفلسطينية، وسقوط نهج تصفيتها، هي النتيجه الأولى لهجوم 7 أكتوبر على مستوطنات غلاف غزّة. والمعنى المباشر لذلك فشل المسار الذي جرى العمل به منذ اغتيال رئيس وزراء إسرائيل الأسبق إسحق رابين عام 1995، لأنه حاول أن يخطو خطوة باتجاه السلام. ومنذ جولة المفاوضات بين الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات ورئيس وزراء إسرائيل الأسبق إيهود باراك، في كامب ديفيد، في يوليو/ تموز 2000، لم تجر مفاوضات سلام فعلية بين إسرائيل والفلسطينيين. وساد الاعتقاد، بعد ذلك، أن في وسع إسرائيل تهميش المسألة الفلسطينية، من دون أن تتحمّل أي كلفة، رغم أن الانتفاضة الثانية التي حصلت في سبتمبر/ أيلول من العام نفسه كانت أكثر عنفا من الأولى، التي سبقتها عام 1987. والسمة البارزة للسياسة الإسرائيلية خلال العقدين الماضيين هي الاتجاه بقوّة نحو ضمّ الأراضي الفلسطينية والاستيطان، وهذا هو جوهر اتفاق حكومة بنيامين نتنياهو الحالية، التي تشكلت قبل نحو عام، بشراكة حزب الليكود بقيادة نتنياهو، مع حزبي القوة اليهودية والصهيونية الدينية. وهذه ليست فقط الحكومة الأكثر يمينية وتطرّفا في تاريخ إسرائيل، بل هي انعكاس فعلي للمشهد السياسي، حيث واصل معظم الناخبين اليهود التعبير عن جنوحهم نحو اليمين في الاستطلاعات. وقبل خمسة أيام من هجمات 7 أكتوبر، أجرى مركز “إيه كورد” لبحوث علم النفس الاجتماعي التابع للجامعة العبرية استطلاعاً، وجد أن ثلثي اليهود الإسرائيليين أعلنوا تأييدهم اليمين. إما “يمين متشدّد” أو “يمين معتدل”، في مقابل 10% مؤيدين لما يعرف بـ”اليسار”.
من المبكّر الجزم بالآثار السياسية لحرب إسرائيل على غزّة، والإخفاق الكبير على المستويين الأمني والعسكري، لكن أغلبية التقديرات ترى أنها سوف تُحدث تغييرا مهما، وهذا ما جرى العمل به في عدد من حروب إسرائيل السابقة، منذ حرب عام 1973، حيث استقالت رئيسة الوزراء غولدا مائير من منصبها في نهاية الحرب، وتخلت عن مقعدها في الكنيست، ولم تشغل المنصب مرة أخرى. ومن غير المستبعد أن ينتهي نتنياهو إلى المصير نفسه، غير أن ذلك لن يترجم نفسه تلقائيا لجهة الحل السياسي للقضية الفلسطينية، لأن المشهد السياسي الإسرائيلي لا يقدّم شخصية سياسية ذات مواصفات مختلفة جذريا عن رئيس الوزراء الحالي. وحتى زعيم حزب الوحدة الوطنية الذي ينتمي إلى يمين الوسط بيني غانتس لا يوجد في خطابه ما يشير إلى أنه يختلف بصورة كبيرة، أو يمكن أن يبتعد عن النهج الحالي الذي يتّبعه اليمين تجاه الحل.
ومهما يكن، لن يرحل الفلسطينيون عن بلادهم، وسيواجهون المخطّطات. وتشكّل المقاومة في قطاع غزّة والضفة الغربية دليلا على مدى التصميم. ورغم الخسائر الكبيرة في الأرواح والمادّيات، فإن الشعب الفلسطيني لن يتراجع عنها كخيار، من أجل إفشال مشاريع الاستيطان والتهويد والتهجير، وانتزاع حقّه في الاستقلال. وما يحصل في غزّة يضع العالم أمام حقيقة مهمة، وهي أن الحق الفلسطيني وراءه مطالب، لن يتنازل عنه، وأن لاسترجاع هذا الحقّ ثمنا كبيرا من الطرفين. ومن الطرف الآخر، لن تدفع إسرائيل وحدها الكلفة الباهظة، بل سيتحمّل ذلك كل الذين يدعمونها في الولايات المتحدة وأوروبا. وهذا هو مغزى نصيحة الرئيس الأميركي جو بايدن، “على إسرائيل أن تكون حذرة لأن الرأي العام العالمي بأسره يمكن أن يتغيّر بين عشية وضحاها”. وجاء ذلك بعد ثاني تصويت في الجمعية العامة العامة للأمم المتحدة، ارتفع فيه عدد الدول المؤيدة لقرار وقف إطلاق النار من 123 إلى 153، ولم تقف إلى جانب إسرائيل سوى ست دول.
——————————
حسم الجدل حول “وحدة الساحات”/ مروان قبلان
27 ديسمبر 2023
أعاد اغتيال إسرائيل قائد إسناد الحرس الثوري الإيراني في سورية، رضي موسوي، أول من أمس الاثنين، إحياء الجدل الذي بدأ مع انطلاق عملية طوفان الأقصى، في 7 أكتوبر، بشأن إمكانية اتساع نطاق المواجهة خارج حدود قطاع غزّة، وانضمام إيران وحزب الله إليها. المدهش أن هذا الجدل يعود بعد مرور نحو ثلاثة أشهر على انطلاق العدوان الإسرائيلي، وسقوط ما يزيد عن 20 ألف شهيد فلسطيني، ونحو 60 ألف جريح، وتدمير 70% من القطاع، وتشريد 85% من سكّانه. وربما حان الوقت لغلق باب النقاش مرّة واحدة، وبشكل نهائي، في إمكانية دخول حزب الله، دع جانبًا إيران، حربًا ضد إسرائيل من أجل أي شيء خاص بفلسطين. حتى نفعل ذلك، ينبغي أن تتجاوز تقييماتنا، أولًا، التطورات العابرة، من قبيل إطلاق صاروخ هنا أو مقتل شخص هناك، بغض النظر عن موقعه ومكانته، والتركيز، بدلًا من ذلك، على الأساسيات التي تحكم حسابات إيران وحزب الله في المنطقة، وهي لم تتغيّر منذ أنشأت الأولى الثاني عام 1982.
أول هذه الأساسيات أن حزب الله لم ينشأ من أجل تحرير فلسطين، ولا من أجل استعادة الأقصى، بل من أجل الدفاع عن نظام الجمهورية في إيران، ومصالحه الإقليمية. والواقع أن تجربة العقود الأربعة الماضية تبيّن أن حزب الله لم تكن لديه يومًا مهمة كبرى سوى ردع أي محاولة إسرائيلية، أو أميركية، لمهاجمة إيران، أو الدفاع عن مشروعها الإقليمي، كما فعل في سورية والعراق على امتداد العقد الماضي. بناء عليه، يعدّ الحفاظ على حزب الله قوّة ردع، أو أداة انتقام ضد إسرائيل، في حال جرى استهداف برنامج إيران النووي أو الصاروخي، أو مهاجمة النظام الإيراني نفسه، أولوية قصوى بالنسبة إلى إيران، التي لا تملك، في الواقع، وسائل غير ذلك لردع إسرائيل عن مهاجمتها. تدرك إيران أن لدى إسرائيل والولايات المتحدة، كما توضح عمليات إطلاق الصواريخ والمسيّرات من اليمن، القدرة على إسقاط صواريخها في الجو نتيجة بُعد المسافة مع إسرائيل، في حين أن كل التقديرات تقول بحتمية فشل أي نظام دفاعي، بما في ذلك نظام القبّة الحديدية، في اعتراض ما لا يقل عن 10% من صواريخ حزب الله على إسرائيل بسبب قرب المسافة. من هنا، يصبح الحفاظ على قدرات حزب الله الردعية أمرا حيويا يتصل ببقاء النظام الإيراني، ولا يمكن من ثم التضحية به لأي سببٍ آخر، مهما بدا مهمًا.
لقد مثّلت حرب غزّة اختبارا فعليا لمقولة “وحدة الساحات” التي صيغت بعد حرب غزّة عام 2021، ومفادها بأن أي استهداف لأحد أعضاء “محور المقاومة” يؤدّي تلقائيا إلى تفعيل بقية الساحات لدعمه. ليس أن غزّة تُركت وحدها في مواجهة العدوان الإسرائيلي بعد 7 أكتوبر، بل بدا وكأن عملية طوفان الأقصى أضرّت بمصالح إيران، وأفسدت عليها فرصة مهمة لرفع العقوبات الأميركية. لقد جاءت العملية بعد أسبوعين فقط من موافقة المرشد على عقد مفاوضات مباشرة مع واشنطن لأول مرّة منذ عام 2018، حيث كان مقرّرا أن يلتقي مسؤول الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي الأميركي، بريت ماكغورك، كبير المفاوضين الإيرانيين، محمد باقري كني، في عُمان لمناقشة سبل إحياء الاتفاق النووي. وتوحي بعض التعليقات الإيرانية، فوق ذلك، أن حركة حماس سعت إلى توريط إيران وحزب الله في مواجهة مع إسرائيل والولايات المتحدة. بناء عليه، بدلا من توفير الدعم الكامل، كما تفترض تفاهمات “وحدة الساحات”، ذهبت إيران باتجاه الضغط على “حماس” لتلبية بعض شروط وقف القتال (إطلاق المحتجزين). مع نهاية الحرب على غزّة، سوف تتأكد إيران أن أيا من حلفائها لن يأخذ قراراتٍ مستقلة بمعزل عنها، لأن هذا يشكّل تهديدا لمنظومة الردع التي أنشأتها لحماية نفسها. لن يكون هذا الأمر سهلًا، خصوصا مع “حماس” التي تقوم عقيدتها، عكس حزب الله وبقية المليشيات الإيرانية، على هدف تحرير الأرض وإنهاء الاحتلال، وليس حماية حكّام طهران، أو مشروعهم الإقليمي، وهذا ما يضع فلسطين تحديدا خارج إطار “وحدة الساحات”.
——————————–
معركة المفاهيم والدلالات في مواجهة العدوان على غزّة/ حيّان جابر
27 نوفمبر 2023
يشنّ الاحتلال الصهيوني عدوانًا مكثفًا ومتصاعدًا على كامل شعب فلسطين الأصلي وأرضه منذ السابع من الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول)، في سياق عدوانه واعتدائه المستمرّ منذ عام 1948، إذ يطاول قطاع غزّة اليوم القسم الأكبر من جرائم الاحتلال وإرهابه، في جرائم موصوفة لا يمكن دحضها، من تطهيرٍ عرقيٍ وعقابٍ جماعيٍ وتهجيرٍ قسريٍ مستمرٍ وممنهجٍ، أفضى ويفضي إلى قتل آلاف الأطفال وآلاف النساء والرجال من المدنيين، منهم أطباء ومسعفون وصحافيون وموظفو الوكالات الدولية؛ خصوصًا وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا)، إذ أسفر إرهاب الاحتلال الحالي عن قتله قرابة 11 ألف مدني فلسطيني منذ 7 أكتوبر، قرابة نصفهم من الأطفال.
لم يقتصر عدوان الاحتلال الراهن على جرائمه الموصوفة هذه، بل امتدّت إلى معركة الرواية التي حاول من خلالها إدانة المقاومة الفلسطينية، وحقّ الفلسطينيين في مواجهة الاحتلال، عبر وصمها بالإرهاب، وهو ما فشل فيه إلى حدٍ كبيرٍ، رغم الدعم الأميركي والبريطاني الرسميين المطلقين، وهو ما قد تتكشّف نتائجه في المستقبل القريب، إذ تصاعد الدعم الشعبي العالمي لفلسطين وقضيّتها، ولحقوق شعبها الأصلي تسارعًا لم يكن في حسبان الاحتلال وداعميه، رغم التقيدات والإدانات الدولية، ورغم محاولة تجريم دعم القضية الفلسطينية والحقوق الفلسطينية.
ويخوض الاحتلال وداعموه معركةً أخرى لا تقلّ أهمّيةً وخطورةً عن المعركتين السابقتين، وهي معركة المفاهيم والدلالات، في محاولةٍ منهم لتقويض ركائز القضية الفلسطينية، والحدّ من تداعيات هزيمة الاحتلال المتسارعة أخيرا. وحرب المفاهيم والدلالات واسعةٌ وممتدةٌ ومتفرعةٌ إلى فروعٍ عديدةٍ، سوف تتناول المطالعة بعض فروعها.
المدني والأعزل والعسكري
أدّت عملية طوفان الأقصى إلى أسر مستوطنين وجنود إسرائيليين، وهو ما سوّقه الاحتلال أنّه اختطافٌ، ونجح إلى حدٍّ بعيدٍ في وصفهم بالرهائن. بدايةً، علينا التمييز بين الأعزل والمدني، فالأعزل هو أيّ شخصٍ لا يحمل سلاحًا في مكانٍ وزمانٍ محدّدين، وهو ما ينطبق على قسمٍ من الأسرى المستوطنين، في حين أنّ المدني، وفق تعريف المصطلحات السياسية، هو كلّ شخصٍ لا ينتمي بصفةٍ دائمةٍ أو مؤقتةٍ إلى هيئةٍ عسكريةٍ، كما عرّفه القانون الإنساني الدولي عام 1977، وفق تعديله لاتّفاقية جنيف الثالثة عام 1949، “هو أي فردٍ ليس عضوًا في إحدى المجموعات التالية: القوات المسلحة النظامية…، المليشيات أو فرق المتطوّعين التي تشكّل جزءًا من هذه القوات المسلّحة…، المجموعات ووحدات المنظمة…”. ويظهر هذا الاقتباس المختصر أنّ أيّ جزءٍ يرفد القوات المسلحة بعناصر مقاتلةٍ دائمةٍ أو غير دائمةٍ لا يعدّ مدنيًا، وهو ما ينطبق على عناصر جيش الاحتياط الصهيوني. وعليه، يتطلّب توصيف المدني في حالة الاحتلال الصهيوني الذي يستند إلى مبدأ جيش الشعب، أو الجيش الشعبي، تدقيقا كثيرا، فجيش الاحتلال، وفق ما هو وارد على صفحته الإلكترونية الرسمية، هو “الشعب يبني الجيش والجيش يبني الشعب”، ثم يضيف بما يخصّ جيش الاحتياط “يشكل جنود الاحتياط، الذين يتم تجنيدهم بموجب القانون، جل قوّة جيش الدفاع”. وعليه، فجيش الاحتياط، بجميع منتسبيه، جزءٌ من جيش الاحتلال، وهو ما ينفي عنهم صفة المدنية، من دون أن ينفي صفة الأعزل في حالة عدم استخدامهم للسلاح في لحظةٍ ومكانٍ محددين.
وجديرٌ بالذكر أنّ الاحتلال يتبع نظام التجنيد الإجباري لكلّ ذكرٍ وأنثى؛ باستثناء العرب يزيد عمره (وعمرها) عن 18 عامًا، 24 شهرًا للإناث، و32 شهرًا للذكور. كما يفرض الاحتلال على كلّ ذكرٍ أنهى مدة تجنيده الإلزامي المشاركة في تدريباتٍ خاصّةٍ سنويةٍ يجريها جيش الاحتلال في الوحدة أو الكتيبة التي شارك فيها حتى يبلغ 50 عامًا، وتكون الخدمة مدفوعة الأجر من الدولة وفق راتب عمله. وعليه، كلّ ذكرٍ لم يبلغ الـ 50 عاما هو من جنود جيش الاحتلال غير الدائمين.
بناء عليه، ينحصر وصف المدني هنا في الأطفال الأصغر من عمر التجنيد الإلزامي، أي الذين لم يبلغوا الثامنة عشرة، وفي الإناث ممّن أنهينا خدمتهن الإلزامية، ومن الذكور ممن تجاوزوا الخمسين، باستثناء حالات تُعفى من الخدمة الإلزامية ومن خدمة الاحتياط.
على الطرف الآخر؛ نجد في ما يتعلق بالأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال قصورًا في عرض الحقائق المتعلقة بهم، التي استعرضت بعضًا منها فرانشيسكا ألبانيز، مقرّرة الأمم المتّحدة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأراضي المحتلة منذ 1967، في تقريرها الذي قدّمته أمام مجلس حقوق الإنسان في 10/7/2023، الذي نصّ على “تعرّض الفلسطينيين للاحتجاز الطويل بسبب التعبير عن آرائهم، والتجمّع، وإلقاء الخطب السياسية غير المصرّح بها، أو حتّى مجرّد محاولة القيام بذلك. وفي نهاية المطاف، يُحرمون من وضعهم مدنّيين محميين. وغالباً ما يُفترض أنّ الفلسطينيين مذنبون من دون أدلةٍ، ويُقبض عليهم من دون أوامر توقيف، ويُحتجزون من دون توجيه تهم أو محاكمة ويعاملون بوحشية في الحجز الإسرائيلي”. كما أضافت أن السجن الجماعي الذي يتعرّض له الفلسطينيون “يخدم غرض قمع المعارضة السلمية للاحتلال، وحماية الجيش الإسرائيلي والمستوطنين. وفي نهاية المطاف، تسهيل التعدّي الاستيطاني الاستعماري”. ثم تقول إن القوة القائمة بالاحتلال تصوّر الفلسطينيين على أنهم تهديدٌ جماعيٌ “لتجرّدهم من صفتهم المدنية”. وعليه، معظم؛ إن لم نقل جميع، الأسرى الفلسطينيين داخل سجون الاحتلال، بل وخارجها، مدنيون، يعمل الاحتلال على أخذهم رهائن وأسرى، لمنعهم من مجابهة احتلاله وممارساته الإجرامية المستمرّة بحقّ شعب فلسطين وأرضها.
بناءً عليه؛ الواضح أنّ الاحتلال هو القوّة المعتدية على المدنيين الفلسطينيين تاريخيًا، عبر اختطافهم وإيداعهم في سجونه العديدة، أو عبر تطبيق نظام المعازل والحصار اللاإنساني بحقّ التجمّعات الفلسطينية في القدس والضفّة الغربية وقطاع غزّة، وهي جريمةٌ مستمرةٌ منذ بداية الاحتلال. لذا على أيّ مطالب تدعو إلى إطلاق سراح المدنيين والعزل أن تشمل إلزام الاحتلال إنهاء سجنه الفلسطينيين داخل المدن والبلدات الفلسطينية، بما يشمل قطاع غزّة، إلى جانب تحرير آلاف الأسرى الفلسطينيين المحتجزين داخل سجونه وزنازينه الرسمية وغير الرسمية.
كما أوضح الناطق باسم كتائب عز الدين القسام؛ أبو عبيدة، في كلمته في 16/10/2023، عن الملابسات التي أدّت إلى اعتقال بعض الأشخاص من حملة جنسياتٍ أخرى، والمتمثلة في صعوبة التدقيق في هوياتهم في أثناء احتجازهم في 7 أكتوبر، نظرًا إلى طبيعة العملية العسكرية وحيثياتها. كما أعلن عن عزم الحركة إطلاق سراحهم في أول فرصةٍ ممكنةٍ، إذ إنّ عدوان الاحتلال هو العائق الذي يؤخّر إطلاق سراحهم، إذ وصفهم أبو عبيدة بالمحتجزين أو الضيوف، في إشارةٍ إلى طبيعة تعامل كتائب القسام معهم إلى حين إطلاق سراحهم. وهنا أيضًا لا بدّ من التمييز بين المحتجَز والأسير، وعدم الانسياق خلف محاولات الاحتلال طمس الفروق بين المحتجَزين والأسرى من جنوده ومستوطنيه العزّل منهم والمسلحين.
الحصار والإبادة عبر التجويع
فرض الاحتلال الصهيوني حصارًا غير إنساني مستمرًا على قطاع غزّة منذ نحو 17 عامًا، ثم انتقل الاحتلال من حصاره هذا إلى جريمةٍ إضافيةٍ، إبادة سكان فلسطين الأصليين المقيمين داخل القطاع بطرقٍ مباشرةٍ سريعةٍ؛ عبر القصف المنهجي والمستمرّ والمستعر، وغير مباشرةٍ، عبر قطع الماء والكهرباء والغذاء والمستلزمات الطبية والوقود، وهي جريمةٌ ممنهجةٌ إضافيةٌ تضاف إلى جريمة الحصار، إذ يعني منع الحاجات الرئيسية من دخول قطاع غزّة، وبكل وضوحٍ، عزم الاحتلال على قتل كلّ المقيمين في قطاع غزّة؛ ممن لم تقتلهم قنابله، ببطءٍ شديدٍ عبر تجويعهم.
هنا تجدر الإشارة إلى أنّ إرغام المجتمع الدولي الاحتلال على السماح لبضع قوافل إنسانيةٍ بدخول قطاع غزّة يوميًا منذ 21/10/2023، لا يعدّ تراجعًا عن جريمة الاحتلال في إبادة المقيمين في القطاع عبر تجويعهم، وإفقادهم أدنى مستلزمات الحفاظ على حياتهم، بل تندرج في سياق إطالة مدّة تعذيب المقيمين في قطاع غزّة، وإطالة معاناتهم، فمجمل تلك المساعدات ليست سوى فتات لن يحدث فرقًا لميلوني شخص يقيمون في القطاع، كما وصفها المفوض العامّ لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطين (أونروا)، فيليب لازاريني.
ويتعمّد الاحتلال تعطيل حركة إدخال المساعدات؛ الشحيحة أصلاً، إلى قطاع غزّة عبر إلزامه المركبات التي تنقلها بنقل حمولاتها من معبر رفح إلى معبر العوجا، حيث يتحفّظ الاحتلال عليها لمددٍ مختلفةٍ، تصل في أحيانٍ كثيرةٍ إلى أكثر من 24 ساعة، بذريعة تفتيشها، ومن ثم يعيدها إلى معبر رفح بغرض إدخالها إلى القطاع المحاصر. بذلك يؤخّر الاحتلال دخول المساعدات، وهو ما تكشفه الفروق الشاسعة بين أرقام قوافل المساعدات التي عبرت معبر رفح، وأعداد المساعدات التي استملتها الجهات المعنيّة داخل قطاع غزّة.
ثانيها؛ يتحكّم الاحتلال في نوعية المساعدات المقدمة لقطاع غزّة، بما يخدم جريمته الموصوفة دوليًا بالعقاب الجماعي والإبادة الجماعية والقتل الممنهج والبطيء، عبر منعه إدخال شتّى المواد الغذائية والطبية والمياه الصالحة للشرب والوقود. إذ يتحكّم الاحتلال بنوعية المساعدات وكمّيتها عبر تهديده الدائم بقصف أي قافلة لا يُشرف على محتوياتها، إذ يطبق إشرافه هذا وفق آليتين منفصلتين ومتكاملتين: الأولى، التنسيق مع المنظمّات الدولية والطرف المصري بشأن كلّ قافلة من قوافل المساعدات. وثانيها، عبر جنوده وموظّفيه الذين يفتشون كلّ قافلةٍ بعد وصولها إلى المعبر التي يتحكم به، قبل دخولها إلى قطاع غزّة المحاصر، حيث يعيثون فسادًا بها، ويصادرون ما يشاؤون منها، بعيدًا عن الرقابة الدولية والإعلامية، إذ لم تصدر الجهات الدولية المشرفة على عملية إدخال المساعدات تقارير تُثبت استلام قطاع غزّة كامل حمولة قوافل المساعدات التي خرجت من معبر رفح بعد تفتيش الاحتلال لها.
مسؤولية الاحتلال الكاملة
يحاول الاحتلال التنصّل من مسؤوليته الكاملة عن قطاع غزّة تحت ذريعة فك الارتباط الأحادي الجانب مع قطاع غزّة عام 2005، لكن هناك فرقا كبيرا بين فك الارتباط وإنهاء الاحتلال، إذ لم يعن فكّ الارتباط إنهاء الاحتلال بتاتًا، نظرًا إلى تحكم الاحتلال بكامل تفاصيل قطاع غزّة الحياتية، من حركة السلع والبشر، ومن التحكّم بحدود القطاع بما فيها البحرية، وصولاً إلى انتهاكات الاحتلال المتكرّرة داخل القطاع، وأهمّها فرضه منطقةً عازلةً على مسافة 1500 مترٍ من السياج الفاصل بين القطاع والمناطق التي يسيطر عليها الاحتلال، إذ تشكّل المنطقة العازلة 15% من مجمل مساحة القطاع، و35% من مجمل مساحة أراضي القطاع الزراعية.
إلى جانب ذلك، يتحكّم الاحتلال بمجمل بنية القطاع الخدمية من قطاع الكهرباء والاتصالات والمياه، إلى جانب تحكّمه بالمنظومة المالية، عبر التحكّم بحركة الأموال من القطاع وإليه. ويفنّد ذلك كله مزاعم الاحتلال بعدم احتلاله القطاع، وبالتالي، يفنّد مزاعمه وتنصّله من مسؤوليته الكاملة عنه، التي ردّدها معظم قادة الاحتلال العسكريين والسياسيين في الأيّام الأخيرة. كما تجدُر الإشارة إلى أن كلّ المنظمات الدولية والأممية بما فيها هيئات الأمم المتّحدة ومجلس الأمن تعتبر قطاع غزّة جزءًا من الأراضي الفلسطينية المحتلة، ويعتبر الاحتلال القوة القائمة بالاحتلال حتّى في قطاع غزّة، ويحمّله كامل المسؤولية عن أوضاع القطاع وسكانه تمامًا، كما يتحمل في سائر الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهو ما يرد دوريًا في جميع البيانات الصادرة عن مفوض الأمم المتّحدة السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك، بشأن الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومنها تقريره المقدّم في الدورة الـ 52 لمجلس حقوق الإنسان، الذي دان الاحتلال لانتهاكاته المتعدّدة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومنها سياسات العقاب الجماعي، وفي مقدّمها الحصار اللاإنساني لقطاع غزّة.
من هنا؛ يعتقد الكاتب أنّ هناك ضرورة للتأكيد على مسؤولية الاحتلال الكاملة عن ظروف القطاع وأحوال قاطنيه، وبالتالي مسؤوليته عن تأمين احتياجات القطاع وقاطنيه من الغذاء والماء والوقود والمستلزمات الطبية بجميع حيثياتها. وهذا لا يتناقض مع قدرة مصر على إفشال جرائم الاحتلال، عبر رفض التعاون معه وفتح معبر رفح من دون العودة إلى الاحتلال.
فتح معبر رفح من دون التنسيق مع الاحتلال فعلٌ مقاومٌ، فالاحتلال لا يملك قانونيًا أيّ سيادةٍ على الأراضي المحتلة، لكن عليه التزامات عدة على اعتبارها سلطة قائمة بالاحتلال، وهو ما يشمل حركة المعابر، بما فيها معبر رفح. وبالتالي، وفي خضم حرصنا على كسر الحصار اللاإنساني لقطاع غزّة ولمجمل الأراضي الفلسطينية الأخرى، يجب ألا ننساق خلف مزاعم الاحتلال، ونساهم في تنصّله من مسؤولياته الكاملة بوصفها سلطة قائمة بالاحتلال على مجمل الأراضي الفلسطينية، وفي مقدمتها قطاع غزّة المحاصر منذ 17 عامًا. وعليه وفي سياق الضغط الشعبي والسياسي على النظام في مصر، علينا أن نحذر من الانسياق خلف خطاب الاحتلال الساعي إلى التملص من مسؤولياته سلطةً قائمة بالاحتلال. من هنا، نعتبر كسر مصر الحصار اللاإنساني الذي يفرضه الاحتلال في قطاع غزّة واجبا أخلاقيا وإنسانيا أولاً، وهو فعلٌ مقاومٌ تحرريٌ ثانيًا.
من هنا، وكون كسر الحصار فعلا إنسانيا وأخلاقيا ومقاوما وتحرريا، يعتقد الكاتب أن علينا الضغط المتواصل من أجل فرضه، وعلى دول الإقليم والعالم المساهمة في كسره، عبر الدعوة إلى تشكيل قوافل مساعدات إنسانية أممية تشارك فيها معظم دول الإقليم؛ يفضل جميعها، والعالم تحت إشرافٍ أمميٍ ودوليٍ لمحتوياتها، وتحت أعين الوسائل الإعلامية الإقليمية والعالمية وتغطياتها، من لحظة عبورها معبر رفح إلى حين وصولها إلى مجمل قطاع غزّة، بما فيها المناطق الشمالية منه، يقودها متطوّعون من كل العالم، وهو أمرٌ قابلٌ للتحقيق إن امتلك النظام الإقليم والدولي الإرادة الكاملة لتنفيذه، خصوصًا الدول التي تدين إرهاب الاحتلال وجرائمه المتواصلة، خصوصًا الحالية، وفي مقدمها جرائمه في قطاع غزّة، من الصين وصولاً إلى بوليفيا وكولومبيا وتشيلي، ومرورًا بتركيا وإيران ومعظم دول المنطقة العربية.
أولويّة استعادة الحقوق الفلسطينية
كثرت الدعوات الدولية لعقد مؤتمرٍ لحلّ القضية الفلسطينية في أعقاب عملية “طوفان الأقصى”، دعواتٌ كثيرةٌ أميركيةٌ وفرنسيةٌ وتركيةٌ وعربيةٌ وفلسطينيةٌ، انساق معظمها خلف الدعاية الأميركية المضللة والمتشعبة، التي تشمل جوانب كثيرةٍ منها إعادة العمل على تهميش الحقوق الفلسطينية لصالح الدعوة المتكررة لحلٍ مستحيلٍ غير قابلٍ للتحقيق وغير عادلٍ، يتمثّل في الترويج المتكرر لما يسمّى “حلّ الدولتين”.
ينطلق بعض هذه الدعوات من نيات صادقةٍ تجاه فلسطين وقضيتها وشعبها، لكنها دعواتٌ متسرعةٌ دفعها إجرام الاحتلال اللامحدود إلى التمسّك بخيطٍ رفيعٍ من الأمل الذي قد ينهي، أو يحد من هذه الجرائم، لكنها غفلت؛ بمعظمها، عن حيثيات القضية الفلسطينية وتفاصيلها، كما غفلت عن المعطيات والحقائق الميدانية، التي أكدت معظم التقارير الدولية مسؤولية الاحتلال عن تقويض حلّ الدولتين وشبه استحالة تطبيقه.
لكن وبعيدًا عن ممارسات الاحتلال التي تقوض وقوضت حلّ الدولتين، علينا الالتفات إلى الحقوق الفلسطينية بدلًا من الانغماس في طبيعة الحل، فالأولويّة لاستعادة كامل الحقوق الفلسطينية: حقّ العودة، وحقّ تقرير المصير، وحقّ التحرّر من الاحتلال الصهيوني الإحلالي والكولونيالي، والحقّ في التحرّر من نظام الفصل العنصري الصهيوني، والحقّ في فكّ الحصار وإنهاؤه كليًا ونهائيًا، والحقّ في إقامة الدولة الفلسطينية. هذه هي الأولويّات، بغض النظر عن اسم الحل، وطبيعته، والذي لن يحققه حلّ الدولتين.
من هنا، يجب التركيز على استعادة الحقوق الفلسطينية، بدلاً من اللهاث خلف سرابٍ أميركيٍ وصهيونيٍ تحت عنوانٍ خادعٍ اسمُه حلّ الدولتين. الصادم هنا أن هناك بعض الأصوات الدولية والفلسطينية التي بذلت جهودًا كبيرةً في السنوات الأخيرة من أجل فضح جرائم الاحتلال، ومن أجل التمسك بأولويّة استعادة جميع الحقوق الفلسطينية، ومن أجل فضح زيف حلّ الدولتين، والكشف عن استحالة تطبيقه ميدانيًا، بفعل ممارسات الاحتلال وجرائمه اليومية في أرض فلسطين، انساق قسمٌ منها في الآونة الأخيرة خلف الدعوة الأميركية لعقد مؤتمرٍ دولي لتطبيق حل الدولتين، على اعتباره الحلّ الوحيد للقضية الفلسطينية!
خاتمة
تعتبر معركة المفاهيم والدلالات من المعارك المهمة في فضح الرواية الصهيونية وفي التأكيد على الرواية الفلسطينية التاريخية، وعلى الحقوق الفلسطينية، كما تمثل الحجر الأساس في تعزيز الحركة العالمية الداعمة والمتضامنة مع شعب فلسطين وقضيته، وفي تعزيز المقاطعة الأكاديمية والاقتصادية، وفي فضح الاحتلال ومحاصرته دوليًا.
——————————
واشنطن… لحظة فارقة/ علي العبدالله
27 ديسمبر 2023
تواجه الإدارة الأميركية لحظة فارقة آيتها فقدانها، ورئيسها، رأس مالهما السياسي على خلفية تبنّيهما الرواية الإسرائيلية عن عملية طوفان الأقصى التي نفذتها كتاب الشهيد عز الدين القسام، التابعة لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، يوم 7 أكتوبر في غلاف غزّة، ودعمهما العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة وحمايتهما هجوم القوات الإسرائيلية الوحشي، الذي استهدف البشر والحجر في حرب إبادة جماعية موصوفة، بتبريره بذريعة “حقّ الدفاع عن النفس”، وبرفض دعوات وقف إطلاق النار، استخدمت حقّ النقض (الفيتو) مرّتين في مجلس الأمن، وعرقلت عملية تصويت ثالثة ما لم تفرض صيغتها على القرار، بحيث لا يتضمّن وقف إطلاق النار ويستبعد بندا يجعل الأمم المتحدة مسؤولة عن مراقبة تدفّق المساعدات الإنسانية من دون الإشارة صراحة إلى دور إسرائيل في فحص البضائع، ويدين حركة حماس بسبب الهجوم على المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزّة. وهو ما حصل بصدور قرار باهت ركّز على تهيئة الظروف للإسراع في إدخال المساعدات من دون ذكر لوقف العدوان.
لقد وضعت الإدارة الأميركية الولايات المتحدة في موقفٍ حرج للغاية جعلها معزولة عن التيار العالمي الساعي إلى وقف إطلاق النار ووضع القضية الفلسطينية على طريق الحل العادل والشامل، وتراجع نفوذها كما عكسته التصويتات المتتالية في مجلس الأمن، حيث وقفت وحيدة ضد مشاريع قرارات وفي الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث وقفت ضمن أقلية متراجعة. وهذا مسّ هالتها العالمية، مانحا خصومها، روسيا والصين وإيران، فرصة التشهير بها وبمعاييرها السياسية والأخلاقية المزدوجة.
لم تفلح مواقف الإدارة الدبلوماسية والإعلامية بخصوص حماية المدنيين وإدخال مساعداتٍ أكثر لهم في التخفيف من مأزقها، كون ما تقوله دبلوماسيا وإعلاميا تمحوه بتصرّفها الميداني: جسر جوي لنقل الأسلحة والذخائر، 230 رحلة شحن جوي للذخيرة والأسلحة التي يستخدم بعضها لأول مرة، أرسلت أكثر من خمسة آلاف قنبلة من نوع “مارك 84″، وهي من القنابل التي يزيد وزنُها على 900 كيلوغرام، وصواريخ للقبّة الحديدية، فضلاً عن 20 شحنة بحرية، وفتح مخازن الجيش الأميركي في إسرائيل أمام جيش الأخيرة، قال محلّلون إنّ الدولارات بدأت تختفي من ميزانية بعض الأقسام في وزارة الدفاع بسبب دعم الحرب الإسرائيلية في غزّة ومواجهة التهديدات المتوقّعة في المنطقة، إضافة إلى حاملات الطائرات والبوارج والسفن الحربية والغوّاصات التي أرسلت إلى شرق المتوسط والبحر الأحمر والخليج العربي، والدعم المالي 14.300 مليار دولار، والتنسيق السياسي والعسكري الذي عكسه الجسر الجوي السياسي بزيارات أركان الإدارة لإسرائيل، من الرئيس بايدن إلى وزير الخارجية أنتوني بلينكن (خمس مرّات)، ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان (ثلاث مرّات)، ووزير الدفاع لويد أوستن (مرّتين)، ورئيس أركان الجيش، الجنرال تشارلز براون، ورئيس وكالة الاستخبارات وليام بيرنز، الذين وضعوا على الطاولة الخطط الحربية والخرائط الميدانية ودفتر اليوميات. هذا بالإضافة إلى عشرات المكالمات الهاتفية الطويلة. لقد تدخّلت الإدارة في التخطيط للعدوان، وشاركت في إدارته وحددت هدفه وربطت وقفه بـ: استسلام “حماس” وتسليم المقاتلين الذين نفذوا عملية طوفان الأقصى، وفق وزير خارجيتها، بلينكن، فغدت طرفا في الإبادة الجماعية القائمة.
أثار موقف الإدارة المنحاز للعدوان الإسرائيلي ودعمه من دون قيدٍ أو شرط ردود فعل داخلية وإقليمية ودولية، حيث أرسل عشرات الموظفين في وزارة الخارجية رسائل للرئيس ووزير خارجيته يحثونه على إعادة النظر في مواقف الإدارة من العدوان الإسرائيلي، ويطالبونهما بالعمل على وقفه. كما أرسل مشرّعون من النواب والشيوخ الديمقراطيين رسائل يطالبون الإدارة بالتدقيق في استخدام إسرائيل الأسلحة والذخائر الأميركية؛ كذلك فعل عشرات الموظفين في وزارة الداخلية. وقد بدأ خبراء قانونيون مستقلون في فحص ما إذا كانت الولايات المتحدة تنتهك قوانينها الخاصّة، وكذلك معاهدات الأمم المتحدة، عندما تنقل إلى إسرائيل القنابل التي استخدمتها في المناطق المدنية.
هذا، وشهد الحزب الديمقراطي انقساما عميقا في الرأي بين التيار التقدمي والشبابي، الذي رفض موقف الإدارة المنحاز لإسرائيل، وأركان الإدارة، الذين انحازوا لإسرائيل، وتبنّوا السير في العدوان حتى تحقيق هدفه. وقد زاد حرج الإدارة خروج تظاهرات حاشدة في مدن رئيسة في الولايات المتحدة، تطالب بوقف الحرب، نظّمها وشارك فيها يهود أميركيون، وتقديم مركز الحقوق الدستورية شكوى قانونية ضد بايدن وبلينكن وأوستن في محكمة مقاطعة كاليفورنيا، تتّهمهم بالتواطؤ في الجرائم التي ترتكبها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني في غزّة، وتراجع شعبية الرئيس في استطلاعات الرأي، وهو على أبواب حملة انتخابية صعبة. وقد عكست تصويتات مجلس الأمن والجمعية العامة تفكّك الإجماع الغربي المؤيد لإسرائيل، بتصويت دول أوروبية على الضد من الموقف الأميركي، لصالح مشاريع قرارات وقف إطلاق النار، وامتناع بعضها عن التصويت، كان للصور المروّعة عن الدمار واستهداف المدنيين والبنى الصحية والتعليمية والخدمية دورا هاما في تحريك الشارع الغربي وضغطه على حكوماته للعمل على وقف العدوان، وتبنّى الاتحاد الدولي لحقوق الإنسان قرارًا يعتبر تصرّفات إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني إبادة جماعية. وبروز دول الجنوب العالمي في الجمعية العامة وتصويتها لصالح وقف الحرب وحلّ القضية الفلسطينية حلا عادلا، زاده وزنا وقوف الصين وروسيا مع وقف العدوان.
لم تتوقّف الإدارة الأميركية عن دعم العدوان واستمراره وتذخيره وتغطيته سياسيا وإعلاميا، وقالت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) إنها زادت شحناتها من القنابل الصغيرة التي تزعم أنها قنابل أكثر ملاءمة لبيئة المدن الحضرية مثل غزّة، بل لجأت إلى تكتيك دبلوماسي بالحديث عن اليوم التالي للحرب، وتقديم اقتراحات وتصورات قائمة على تحقيق هدف إسرائيل سحق “حماس” وإنهاء دورها السياسي في القطاع، والبحث عن بديل يتحمّل تركة مثقلة بالمآسي والدمار. بدأت بالحديث عن رفضها احتلال إسرائيل قطاع غزّة أو اقتطاع أجزاء منه أو إقامة منطقة عازلة على أراضيه أو تهجير سكّانه ومطالبة إسرائيل بتغيير شكل هجومها من الاجتياح البرّي الواسع إلى عملياتٍ نوعيةٍ ومركّزة، وصف الرئيس الأميركي القصف الإسرائيليّ بالعشوائيّ، في محاولة للنأي بالنفس عن خطط حكومة إسرائيل، لكن من دون أن تضغط لوقف القتل والتدمير وترك فضاءٍ مناسبٍ لبقاء السكان وعيشهم، وعادت إلى الحديث عن حلّ الدولتين الذي ساهمت في قتله وتشييع رفاته، وسعت إلى ترميم الجسور التي تآكلت بينها وبين الدول العربية والإسلامية ودول الجنوب العالمي عبر الحديث عن حماية المدنيين وإدخال المساعدات، فالحديث السياسي والدبلوماسي في واد والسلوك العملي، دعم العدوان والتمسّك بأهدافه، في واد آخر. وهو ما لم ينجح في استدراج مواقف وعروض إقليمية أو دولية متفهّمة أو متفاعلة مع اقتراحاتها لليوم التالي، وقد تجلّى الفتور في عودة بلينكن من جولاته خالي الوفاض، واستقبال السعودية والإمارات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والاتفاق معه على سياسة نفطية هدفها رفع الأسعار، وتعزيز العلاقات مع الصين، ورفض دول عربية، مصر والسعودية والإمارات، وغربية، فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، الاشتراك في تحالف “حارس الازدهار”، الذي أعلنته الإدارة لحماية الملاحة الدولية في باب المندب والبحر الأحمر من هجمات الحوثيين.
يكمن مأزق الإدارة الأميركية ونقطة ضعفها في اجتماع عوامل شديدة الحساسية والدقّة تقيد حركتها وقدرتها على تسويق وجهة نظرها وفرضها بشأن اليوم التالي، أولها من الحليف اللدود، نتنياهو، الذي يتمسّك بشروطه لإنهاء الحرب، والتي يعتبرها قارب نجاة له من الإقالة والمحاسبة، ورفضه إشراك السلطة الفلسطينية في أي حل مستقبلي للوضع في القطاع، وعدم قدرة بايدن على الضغط عليه في ضوء اقتراب الحملة الانتخابية الرئاسية، وحاجته لحشد المؤيدين وعدم استفزاز الحزب الجمهوري، الذي حرّك دعوى في الكونغرس لإقالته، وعرقل تمرير رزمة مساعدات لإسرائيل وأوكرانيا. وثانيها، عدم وجود استجابة عربية أو دولية لتصوّرها لليوم التالي بتحمّل مسؤولية إدارة قطاع غزّة. وثالثها، رفض السلطة الوطنية الفلسطينية لعب دور أمني في القطاع ما لم يكن جزءا من حلّ شامل، ورابعها وجود قوى دولية وإقليمية لها مصالح خاصة تتعارض مع المصالح الأميركية وتمتلك قدراتٍ لتحدّي الهيمنة الأميركية، وفرض بعض شروطها أو عرقلة التوجّه الأميركي. وخامسها، وجود قوى وأذرع إيرانية في عدة دول في الإقليم أخذت على عاتقها استفزاز القوات الأميركية بقصفها بالصواريخ والمسيرات الانتحارية، تعرّضت القواعد الأميركية منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة أكثر من 120 هجوما، لدفعها إلى الخروج من الإقليم أو الانخراط في حربٍ لا تريدها، والمناوشات بين حزب الله والقوات الإسرائيلية التي تهدد بانفجار مواجهة شاملة. وقد جاء حرج موقفها ودقّته من اعتبارها هدف عملية طوفان الأقصى ضرب خططها في الإقليم وخدمة خصومها، ما جعلها ترى في “حماس” تهديدا للأمن القومي الأميركي، ودفعها إلى تأييد العدوان الإسرائيلي وأهدافه، وهي في ذروة مواجهة مع تحدّيات دولية ومنافسات جيوسياسية وجيوستراتيجية مع روسيا والصين وإمكانية استثمارهما التحوّل الذي فرضه العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة، بدءا بتحوّل تركيز الإعلام العالمي عن ما يجري في أوكرانيا، وأن ما تفعله إسرائيل في القطاع فاق كثيراً ما قام به الجيش الروسي في أوكرانيا، وارتياح موسكو لتحويل كمّيات هائلة من الذخائر والأسلحة إلى إسرائيل، بدلاً من توجيهها إلى أوكرانيا، وعجز بايدن عن تمرير حزمة مساعداتٍ ماليةٍ في الكونغرس، بقيمة مائة وستة مليارات دولار، منها نحو 64 ملياراً للحرب في أوكرانيا، واضطرارها للجوء إلى الصين، والاستعانة بها لإقناع إيران بلجم الحوثيين، ووقف تهديد الملاحة الدولية.
———————————–
تكريس التعفّن في سورية/ عمار ديوب
24 ديسمبر 2023
صارت عملية طوفان الأقصى بمثابة حدثٍ تاريخيٍّ، يُحدّد من قبله وما بعده. كانت النظرية السائدة في محور المقاومة هي وحدة الساحات، وفُعِلت نشاطاتها بشكلٍ يشكّك بتماسكها عبر مناوشاتٍ، كما على الحدود في لبنان، وإطلاق بعض الصواريخ في اليمن، ومحاولة احتجاز السفن طالما غزّة محاصرة وتُقصف، وهذا مهم، وإلى ضرباتٍ صاروخية محدودة في العراق على القواعد العسكرية الأميركية، ولكن المفاجأة كانت الساحة السورية، فهنا بالكاد سمعنا عن صواريخ أُطلقت باتجاه دولة الاحتلال من بلدات درعا أو القنيطرة وبعضها ضد القواعد العسكرية الأميركية من شرق سورية، ولم تتأخر تلك الدولة بقصف مواقع تلك الصواريخ، والاستمرار بإخراج مطاري دمشق وحلب عن الخدمة برسالةٍ واضحة ودقيقة، لن نسمح لإيران باستخدامهما، وأنّ أيَّ تورطٍ بالحرب ستكون نهايته إسقاط النظام، وهدّدته بذلك.
يعلم النظام اليقظ للغاية لوضعه الهشّ أنَّ تماسك وحدته مرتبط بالتبعية لإيران أولاً ولروسيا ثانياً، وليست لديه أيّة مصادر للتماسك وللشرعية من السوريين، لا سيما أن “حاضنته” من العلويين بصفة خاصة أصبحت تفضّل الصمت أو الهجرة، كما بقية السوريين، وأوضاعها الاقتصادية والاجتماعية لا تسمح بأكثر من ذلك. النظام هذا لم يستفد من مبادرة العرب للاتجاه نحو التصالح معهم ومع المجتمع، والحفاظ عليه، كما لم يستفد من الضغط الروسي للتقارب مع تركيا؛ إن سياسته محدّدة بالعودة إلى حكم سورية كما قبل 2011، وتدعم ذلك إيران، التي استفادت من سماح أميركا لها بالتمدّد إلى المنطقة العربية بعد غزو العراق 2003، وحتى بعد الثورة السورية 2011، ومحاولة فرض سيطرة كاملة على سورية، كما في العراق ولبنان واليمن.
النظام المتعفّن هذا متعفنٌ لأنّه غير قادرٍ على إحداث أيّ تغييرٍ في الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي، أو استعادة أيّة منطقة تَفرض الدول المتدخلة سيطرتها عليها، “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، الفصائل، هيئة تحرير الشام، وإن فَعَلَ فبموافقة تلك الدول، والآن خرجت السويداء من يده، ولا تزال درعا غير مستقرّة، وفي الأيام الأخيرة فرض حصاراً وللمرّة العاشرة على بلدة جاسم، والمقصد هنا أنه لا يمتلك أيّة سياسة أو إمكانية للنهوض بأيّة منطقة في سورية؛ ونوضح أكثر، فلو قرّرت الاحتلالات الانسحاب من سورية، وفُتحت صنابير المال للنهوض، فلن يتحقّق النهوض؛ فبنتيه محكومة بالفساد والنهب والقمع، وهذه أصبحت بمثابة قانون يُسيره. وبالتالي، لا بد من تغييره لتنهض سورية؛ هذه الحقيقة، أصبحت ممسوكة بيد الدول المتدخلة بالشأن السوري، ولهذا نجده صَمت عن العدوان على غزّة، إذ إن أيّ تهديدٍ جديٍّ، ومن أية دولة، كفيل بإنهائه سريعاً، وتظلُّ المشكلة أن تغييره أصبح قضية إقليمية ودولية.
أصدر الرئيس السوري، أخيراً، مرسوماً يتضمّن تشكيل الأمانة العامة لرئاسة الجمهورية، وكالعادة اختلف المعارضون في تفسيرها، إيجاباً، حيث رأوا أن التغيير بدأ منها، وسلباً، حيث رأوا أنّها لا تقدّم ولا تؤخّر، والأخير هو صحيح؛ فهو من جملة المراسيم التي أصدرتها الرئاسة السورية منذ عام 2000، أي لصالح تعزيز موقع الرئاسة؛ فمن رَفض المبادرات المصمّمة لإنقاذه بالمعنى الدقيق، العربية والروسية، وحتى سوتشي، واللجنة الدستورية، لن يُصدر مرسوماً لتفكيك سلطته. وفي حال تمَّ ذلك، سيكون عبر وجود أجنبي في القصر الجمهوري نفسه، وسوى ذلك من الأوهام، التي لطالما غرّدنا بها، نحن السوريين، جماعات وأفراداً. وبالتالي، لا يستحق هذا المرسوم أية قراءة إيجابية، كأن يقال إن أوامر الصرف أصبحت بيد الأمين العام للأمانة العامة، وتمَّ إبعاد المستشارين أو أهمية إلغاء منصب وزير شؤون رئاسة الجمهورية منصور عزام، وسواه.
أيضاً، وكعادة الجماعات المتنفذة في “قسد”، ونقصد قيادات حزب الاتحاد الديموقراطي، بإطلاق البرامج والنشاطات الجديدة، فقد أطلقوا عقداً اجتماعياً جديداً، وغيّروا تسميات المناطق والبلدات واسم الإدارة الذاتية، وباتجاهٍ ظاهريٍّ، يزيد من “ديموقراطية الشعوب والمكوّنات”، بينما يبتغون مزيداً من السيطرة على شمال سورية وشرقها، وبما يقترب من حالة “الاستقلال والانفصال”، كاستخدام مصطلحات الكونفدرالية، والفدرالية، نافين أية أشكال من التقارب بين سكان تلك المناطق وبقية المحافظات السورية، ومؤكّدين، في وثيقتهم الجديدة، أنّها شعوب ومكوّنات. وغير ذلك، أتت خطوتهم تلك، بدون النقاش مع أحزاب المجلس الوطني الكردي، ومن جماعة حزبية، وهي خطوة غير قانونية بالتأكيد، كما كل مؤسّسات الإدارة باعتبارها قوة مؤقتة، ونتاج استعصاءات الوضع العام في سورية، وأنَّ أيَّ تغييرٍ في شكل الحكم، أو علاقة المركز بالأطراف، يجب أن تخضع للاستفتاء الشعبي في كل المدن السورية، لا أن يكون خياراً خاصاً بهذه المدنية أو تلك، وغاب عن تلك الوثيقة المصطلح المتفق عليه تقريباً في وثائق المعارضة، وهو تطبيق اللامركزية الإدارية، والتي تُتيح هامشاً أكبر للأطراف ومراقبة دقيقة من المركز، وأن ذلك يستلزم بالضرورة الانتقال الديموقراطي. ولهذا، تُكرِّس قيادة حزب التجمّع الديموقراطي، الكردي، الابتعاد بين السوريين على أساس قومي أولاً، وتفرض، في الوقت ذاته، تحكّماً “قانونياً” على بعض ثروات البلاد مستفيدة من وجود النفط والغاز والأراضي الزراعية الخصبة في محافظات تلك المنطقة، ثانياً. إن ممارسات هذا الحزب ونشاطاته مرفوضة من الأغلبية السورية، ومن النظام كذلك.
تبدو سورية متجهة نحو مزيد من التعفن، وتظلُّ الانتفاضة في السويداء الوحيدة التي ترفض سياق التعفّن هذا، وهناك بعض الحركات والنشاطات في المناطق الخارجة عن سلطة النظام والرافضة للسلطات القائمة خارجها، والمتعلقة بالاحتجاجات الشعبية لمسائل مطلبية أو لرفض الخطف أو القتل أو نصرة لغزّة وفلسطين أو تضامناً مع السويداء. رغم ذلك، يُلحظ بعض التراجع بالخطاب الاقتصادي والاجتماعي في السويداء لصالح الخطاب السياسي، وتكريس نشاطاتٍ مناطقية أكثر فأكثر، كتشكيل قوى أمنية أو عسكرية جديدة، وتراجع أعداد المتظاهرين في أيام الجمع، وهذا غير مرتبط بقسوة الشتاء.
أذعن النظام لرسائل دولة الاحتلال فصمت، ولم ينفتح اتجاه محاولات احتوائه عبر مسار أستانة ومناطق خفض التصعيد في 2018، ولا تجاه المبادرات الإقليمية، فأضاع الفرص، ولأنّه لا يمتلك أيّ خياراتٍ خارج سياق المزيد من التعفّن، فإنّه في أضعف حالاته، ولكن الشعب أيضاً في أسوأ الأحوال، وبالتالي، تغرق سورية أكثر فأكثر في الأزمات واليأس والإحباط و”المراسيم والعقود”، وفي مختلف أشكال الانقسام، الراهنة، والتي يمكن أن تنفجر بشكلٍ أسوأ في حال زوال النظام من دون مخططٍ دقيق للانتقال الديموقراطي ومن دون إشرافٍ دوليٍّ، وهذا ما يخيف السوريين كثيراً، وربما هذا ما أعاق انضمامهم إلى انتفاضة السويداء، وأصبحت نجمة وحيدة في سماء سورية وأرضها.
————————-
في اليوم العالمي للتضامن… كرامة الشعوب تأنف بالشفقة/ سوسن جميل حسن
23 ديسمبر 2023
عندما نطّلع على جدول الأمم المتحدة بالنسبة إلى الأيام الدولية التي حمّلتها أهدافًا وعناوين عريضة تهتم بقضايا مشتركة ومهمة بالنسبة إلى الإنسانية، فإننا نتوقّع أن في المستقبل وعودًا مُبشّرة بعالم وردي للبشرية كلها، لكن الواقع يقدّم كل يوم دلائل وبراهين على أن العالم نادرًا ما كان في حالة هدوء وسلام، فتاريخ البشرية حافلٌ بالحروب، بل إن فترات السلام في هذا التاريخ لا تشكّل قيمة تُذكر قياسًا بآلاف السنين من الحروب.
ومن المفاهيم والقيم الإنسانية التي رصدت لها منظمة الأمم المتحدة يومًا عالميًّا للتضامن، باعتباره أحد القيم الأساسية والعالمية التي ينبغي أن تقوم عليها العلاقات بين الشعوب في القرن الحادي والعشرين. وتقرّر، في هذا الصدد، أن تعلن 20 كانون الأول/ ديسمبر من كل عام يوما دوليًا للتضامن الإنساني، هدفه العريض القضاء على الفقر باعتبار ذلك حتمية أخلاقية واجتماعية وسياسية واقتصادية للبشرية. بل وأنشأت، تحقيقًا لهذا الهدف، صندوق التضامن العالمي بوصفه صندوقًا استئمانيًا تابعًا لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، يستهدف بشكل أساسي القطاعات الأكثر فقرًا في العالم، لكونهم يعانون في ظل سيطرة العولمة، ويستحقّون المساعدة، وتعلن المنظمة أنها تستند إلى روح التضامن هذه في “تحقيق التعاون الدولي لحل المشكلات الدولية ذات الطابع الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي أو الإنساني”، واصفة التضامن بأنه الأساس الذي ينبغي أن تقوم عليها العلاقات بين الشعوب.
تعد الأمم المتحدة منظمّة دولية لكنها غير ملزمة، خصوصا في زمن الحروب، ولقد شاهدنا وسمعنا وقرأنا آراء الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس ونداءاته، بشأن الحرب الإسرائيلية على غزّة، واستخدامه المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة، الموقعة عام 1945 في سان فرانسيسكو، التي تنصّ على أنه يجوز للأمين العام للأمم المتحدة “أن يلفت انتباه مجلس الأمن إلى أي مسألة يرى أنها يمكن أن تعرّض السلم والأمن الدوليين للخطر”. وتتيح المادة للأمين العام مجالاً للعمل على المستوى السياسي للقيام بالدبلوماسية الوقائية. لكن ما النتيجة التي انعكست آثارها على واقع الشعب الفلسطيني في غزّة؟
يدحض الواقع كل التصريحات التي يطلقها زعيم من هنا وآخر من هناك، رئيس من هنا وغيره من مكان آخر، ففي الواقع أن الحرب الإسرائيلية تزداد شراسة وعنجهية، على الرغم من كل التصدّعات الموجودة في الحكومة والأزمات التي تزداد في المجتمع، فإسرائيل التي تعلن أن أهداف الحرب هي تحرير المخطوفين والقضاء على حركة حماس، لديها هدف مضمر أساسي، تاريخها يؤكّد هذا، وحربها على غزّة تعزّز هذا التأكيد، فهي تضغط على سكان غزّة من أجل تهجيرهم من أرضهم، وهي تقوم بحربها على المدنيين، بما يمكن وصفه التطهير، مع مباركة القوى العظمى، خصوصا أميركا وأوروبا وحلفاءهما، وليست التصريحات الخجولة، أو المواربة التي يطلقها بعضهم من هذه القوى، إلّا تبييض صفحاتهم، أو مداراة لازدواجيتهم أمام شعوبهم، فالشعوب كان لديها رأي آخر بالنسبة إلى الحرب على غزّة، وبالنسبة إلى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الذي لم يكن مبنيًّا بالنسبة لغالبية شعوب تلك الدول إلّا على السردية الإسرائيلية من قبل، حتى لو كان جانبٌ مهم من المظاهرات الشعبية رفضًا للحرب في غزّة قائمًا على الثقافة التي تجذّرت في وجدانهم بشأن الحقوق الإنسانية وقيم العدل والمساواة، لكنها، في النهاية، قيم إيجابية تجعل الشعوب المنتهكة حقوقها في دائرة الضوء، وتطالب أصحاب القرار بأن يكون لهم موقف إنساني يناصر ويعزّز هذه القيم ويحميها.
أمام هذا الواقع ما الذي تغير؟ هل يكفي أن يبقى العالم ناشطًا في ساحة الإعلام والتصريحات، بينما شعب يًباد؟ لا بل إن العالم الغربي مصرّ على دعمه إسرائيل، وجديد تأكيد هذا الدعم على لسان وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، في زيارته إسرائيل التي ترى في أي دعوة إلى “ضبط نفسها”، وليس إلى إيقاف الحرب، عداءً لها، كما قال سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة جلعاد إردان، عبر منصة إكس، إن غوتيريش “بلغ مستوى جديدا من التدني الأخلاقي” لاستخدامه المادة 99، وأضاف أن الأمين العام قرّر “تفعيل هذه المادة بشكل نادر فقط عندما يسمح له بالضغط على إسرائيل”، وعدّ خطوة غوتيريس “دليلًا إضافيًا على الانحراف الأخلاقي للأمين العام وانحيازه ضد إسرائيل”، ودعاه إلى تقديم استقالته.
إذا ما بقي العالم القوي، والغرب تحديدًا، يمارس هذا الاستعلاء على شعوب العالم الفقيرة، لن يكون هناك جدوى من التضامن، التضامن يقتضي التكافؤ، يقتضي أن تكون الأطراف تجتمع على هدفٍ واحد، أو مجموعة أهداف، أن تكون الأخطار التي تهدّدها واحدة، وإلّا على ماذا تتضامن؟ لا تختلف هذه الطروحات كثيرًا عن مبدأ “الشفقة”، وهذا ما تأنفه الشعوب لأنها لديها جميعها كرامة إنسانية، ولديها أهم ما يميّز الفرد الإنساني: العمل، وهي قادرة على العمل وإنتاج حياتها، بل حتى الشفقة بالنسبة إلى قادة النظام العالمي ليست واردة، وإن قدّموا بعض المساعدات للدول الغارقة شعوبها في المشكلات الحياتية والانهيارات والحروب، فهذا من أجل ضمان مصالحها، ضمان وجود أسواق لمنتجاتها، والسيطرة على الموارد التي تحتاجها الصناعة البشرية في الوقت الحالي.
تزداد الفجوة اتساعًا بين شعوب العالم، العالم القوي والعالم الضعيف، وهذه الطرائق التي يتعاطى بها قادة العالم المسيطر لا تقدّم أساسًا يبنى عليه من أجل بشرية أكثر استقرارًا وأمنًا وسلامًا، وما تشهره الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية ليس أكثر من شعارات برّاقة من الصعب تطبيقها على أرض الواقع، ما دامت هناك قوى عظمى مسيطرة وتصادر القرارات الشرعية أو تشلّها، ولقد رأينا هشاشة التضامن قبل اليوم في أزمة كورونا، فكيف يمكن الوثوق بقرارات الأمم المتحدة، بل كيف يمكن الاعتماد عليها في نصرة الشعوب، ومنها الشعب الفلسطيني الذي يُباد في غزّة، وفي الضفة الغربية أيضًا، أليس أساس التضامن، كما تشهره المنظمة الدولية، الاعتراف أولًا بحقّ كل شعب في الحياة وتقرير مصيره؟ وإلّا على ماذا تبنى هذه الفكرة؟
كيف يمكن الوثوق في هذه القرارات، وواقع الدول العربية يقدّم البراهين على ما وصلت إليه شعوبها خلال العقود الماضية، والفقر والأزمات التي تعيشها، وفقدانها ما بقي لديها من مقوّمات الدول القادرة على البقاء؟ التضامن مفعّل بين أعضاء الكتل أو الأحلاف المتصارعة في العالم فحسب، تضامن يدعمها في سياساتها وحروبها من أجل السيطرة، بينما العالم الباقي ليس أكثر من وقود، وكل الأيام العالمية التي تسعى إلى إحياء مفاهيم ترمي إلى خير البشرية، لا تستطيع انتشال الشعوب الفقيرة من فقرها، ولا تأمين مقوّمات الحياة في العصر، عصر العولمة، لها، ما لم تتغيّر سياسات قادة العالم القوي وأدواتهم في الهيمنة على البشرية مجتمعة، وتقرّ حقوق الشعوب، وتوقف الحروب والعدوان والاحتلالات.
——————————–
أنفاق حماس وغزّة السفلى/ بشير البكر
22 ديسمبر 2023
تباهت إسرائيل باكتشاف أول نفق في قطاع غزّة يوم الأحد الماضي. وعرضت الأمر على جمهورها، والرأي العام، ووسائل الإعلام، بوصفه انتصارا مهمّا، حقّقته بعد مرور 70 يوما على الحرب. ولكنه في حقيقة الأمر مكسبٌ متواضع، لا يغطّي العجز عن عدم تحقيق إنجاز عسكري كبير، ولا يقرّب، بأي حال، تحقيق الهدفين المباشرين للحرب: تحرير الرهائن والقضاء على حركة حماس. ويعكس الزهو بهذا الاكتشاف وجها آخر من الإخفاق، الذي يندرج في سياق فشل التعامل مع هجمات 7 أكتوبر، استخباراتيا وعسكريا. وهناك عدة أسباب لوضع الإنجاز في مقام الفضيحة، وبدلا من أن تتباهى به العسكرتارية الإسرائيلية، عليها أن تخجل منه. أولها أن النفق يقع على حدود قطاع غزّة مباشرة، وهذا اختراقٌ أمنيٌّ كبير حقّقته “حماس”، وهو يسجّل لها، أنها استطاعت أن تقوم بعمل من هذا النوع بأدواتٍ بسيطة. ونجحت في البناء الذي استمرّ عدة أعوام، ولم تكتشف الاستخبارات الإسرائيلية الأمر. والسبب الثاني أن 70 يوما من الحرب لم تمكّن إسرائيل من اكتشاف نفق، حرثت الأرض التي يقع تحتها، رغم وجود وحدة عسكرية إسرائيلية تدعى السامور، أو ابن عرس، متخصّصة في الحرب تحت الأرض، وتتدرّب على الأنفاق الوهمية في إسرائيل. أما السبب الثالث فهو يظهر عدم قدرة الأسلحة المستخدمة في تدمير الأنفاق، وفشل أجهزة التصوير عالية الدقّة والاستشعار التي تعمل عن بُعد، في النفاذ إلى أعماق الأرض، واكتشاف الأنفاق.
يضيء النفق على أحد أسرار هذه الحرب، وما طوّرته المقاومة الفلسطينية، من أسلحة وأنفاق، من أجل خوض المعارك مع العدو. وهو عيّنة من سلسلة من الأنفاق، تصل في طولها، حسب تصريحات قادة من حركة حماس، إلى 500 كلم. وما يثير القلق في إسرائيل هو الأنفاق البحرية. ومن غير المستبعد أن تكون مناطق حدودية أخرى، تضمّ أنفاقا مماثلة، سواء في قطاع غزّة أو على الحدود مع لبنان. وسبق لإسرائيل أن تحدّثت، في عدّة مناسبات، عن حفر حزب الله أنفاقا تصل إلى بعض مستوطنات الشمال. وزار الجنرال الأميركي، جوزيف فوتيل، القائد السابق للقيادة المركزية الأميركية المسؤولة عن الشرق الأوسط، أحد أنفاق حزب الله على الحدود الجنوبية للبنان، وقال إنه “فوجئ بمستوى الجهد المبذول في إنجاز هذه الأشياء”. وأشار إلى أنها لم تكن هذه مجرّد ثقوب في الأرض، بل كانت بنية معمارية متكاملة، وقد جرى “ربطها بغرف، وتم بناؤها بطريقة تتحمّل الضربات على السطح”.
لجأت حركة حماس إلى بناء الأنفاق، أو ما باتت تُعرف بغزّة السفلى، من باب تطوير أسلحة الضرورة، وسبق لها أن استخدمت الأنفاق من أجل كسر الحصار المضروب على قطاع غزّة، من الجانبين، المصري والإسرائيلي. ويشكّل هذا الإنجاز شهادة تقدير لهذا الجيل من المقاومة، الذي يبتكر، في صورة مستمرّة، وسائل ذاتية من أجل مواصلة الكفاح، وإبطال مفعول تفوّق العدو والأسلحة التي يستخدمها، من آخر طراز في الطيران الحربي، والطائرات بدون طيّار، والقذائف الذكية، ووسائل التدمير الكبيرة. وأحد أسرار هذه الحرب التي لم يتم كشفها أن المقاومة تقاتل منذ 70 يوما من دون وجود أجهزة اتصالات وكهرباء ومواد تموينية وطبّية وإمدادات بالذخائر والأسلحة من الخارج. ورغم الانتشار الكبير للجيش الإسرائيلي على مساحة قطاع غزّة الصغيرة، لا تزال المقاومة قادرة على قصف المدن الإسرائيلية بالصواريخ. وهذا يعني أنها استعدّت على كل هذه الأصعدة، ووفّرت بنية بديلة متكاملة، تمكّنها من مواصلة القتال فترة طويلة، ضمن معادلة جديدة، باتت تسمّى الحرب الجوفية.
—————————–
ارتباك أميركي/ رانيا مصطفى
21 ديسمبر 2023
منذ عملية 7 أكتوبر/ تشرين الأول، تدعم إدارة الرئيس الأميركي بايدن، بل وتتبنّى الحرب التي تشنّها إسرائيل على قطاع غزّة بهدف القضاء على الجناح العسكري لحركة حماس، وتعتبر هذه الحرب دفاعاً عن مصالحها في المنطقة، وهي الممرّ الاقتصادي المقترح إنشاؤه من الهند إلى أوروبا عبر الإمارات والسعودية والأردن وإسرائيل، واستكمال عمليات التطبيع مع الكيان الصهيوني، وتريد تحقيق انتصارٍ للجيش الإسرائيلي لتأكيد تفوّقه في المنطقة، باعتباره أداة لتحقيق مصالحها، ومعبّراً عن تفوّقها العسكري بوصفها دولة عظمى. لكن الولايات المتحدة بوصفها على رأس المنظومة الرأسمالية العالمية، اعتادت تمرير أجنداتها عبر خطاب بارانويا سياسي يصوّر الأمة محاصرة ومهدّدة، من “إرهاب حماس” مثلاً؛ ففي مقالته في “الواشنطن بوست” قبل شهر بعنوان “الولايات المتحدة لن تتراجع أمام تحدّي بوتين وحماس”، يقول بايدن إن الرئيس الروسي بوتين وحركة حماس يقاتلان لطمس “ديمقراطية الجيران”، وانهيار الاستقرار الإقليمي، وأن أميركا تقود العالم في الدفاع عن تلك الديمقراطية من أجل أمنها القومي، ومن أجل “الخير لكل العالم”. هناك متغيّرات جديدة باتت تهدّد بنسف مصداقية خطاب بايدن مع إطالة أمد الحرب الإسرائيلية الوحشية على المدنيين في غزّة، خصوصا أن وسائل الإعلام الغربية لم تعد تتحدّث عن إرهاب “حماس”، بل عن المجازر الإسرائيلية في قطاع غزّة. ما دفع بايدن ومسؤولين أميركيين إلى الطلب من نتنياهو وضع جدول زمني للعمليات العسكرية، وتخفيض مستوى العنف إلى الحدّ الأدنى.
تتلخّص هذه المتغيرات، أولاً، في تصاعد الأصوات، داخل الإدارة الأميركية، الداعية إلى وقف الحرب؛ فبعد استقالة المسؤول السابق في وزارة الخارجية جوش بول، في أكتوبر/ تشرين الأول، بسبب طريقة تعامل بايدن مع الصراع بين “حماس” وإسرائيل، هناك بيانات ورسائل تطالب بوقف الحرب على غزّة يرفعها موظفون في وزارة الأمن الداخلي. وقد نظّم الأسبوع الماضي عشرات من موظّفي إدارة بايدن وقفة احتجاجية أمام البيت الأبيض، داعين بايدن إلى دعم وقف إطلاق النار. وثانياً، هناك التظاهرات الكونية المتزايدة اتساعاً يوماً بعد يوم، وفي كل أنحاء العالم، والتي تدعم حقوق الفلسطينيين، وينضمّ إليها لفيفٌ واسعٌ من اليساريين والحركات النسوية والبيئية والحركات السوداء في الولايات المتحدة وجنوب أفريقيا وغيرها. ويتصاعد النشاط الطلابي في الجامعات لدعم القضية الفلسطينية، وتقودُه حركات طلابية قوية ازدادت اتّساعاً في السنوات الأخيرة، ولها فروع في كل الجامعات الأميركية، مثل حركة “طلاب لأجل العدالة في فلسطين”، والتي تعمل على مقاطعة الاستثمارات في الجامعة للشركات الداعمة لإسرائيل، فيما تسبّب الصمت عن نشاطها في استجواب ثلاث رئيسات لجامعات أميركية مرموقة في الكونغرس. وقد أحدث هذا جدلاً داخل الجامعات بشأن حقّ الطلاب في حرّية التعبير من جهة، أو أن معاداة الصهيونية تساوي معاداة السامية، حسب تشريعات الكونغرس. عدا عن حرمان الطلاب المؤيدين للفلسطينيين من العمل، وحرمان الجامعات من التمويل بسبب السماح للطلاب بتنظيم التظاهرات. كل هذه البلبلة في الجامعات، وأمام وحشية القصف الإسرائيلي لقطاع غزّة ومشاهد قتل الأطفال وتدمير البنى التحتية، أعادت النقاش بشأن القضية الفلسطينية، خصوصا أن هذه الحركات التي كانت في التسعينيات تؤيد حلّ الدولتين باتت اليوم تطرح فكرة الدولة الديمقراطية الواحدة على كامل فلسطين، “من النهر إلى البحر”.
ثالثاً، أظهر الفيتو الأميركي ضد مشروع قدّمته الإمارات يدعو إلى وقف فوري للحرب في غزّة عزلة الولايات المتحدة في العالم، فحتى حليفتها بريطانيا فضّلت الامتناع عن التصويت، وهذا يُحرج إدارة بايدن، ويُظهرها في موقف غير إنساني وفاضح، ومخالفٍ لخطابها السياسي والإعلامي. هذا يصبّ في مصلحة الصين الصاعدة بقوة باتجاه عالم متعدّد الأقطاب، وفي مصلحة روسيا الراغبة في صرف الأنظار عن حربها في أوكرانيا باتجاه غزّة، والسعيدة بتعرية كذب الخطاب الأميركي أمام العالم، والأهم أن إيران مستفيدة جداً، بعدما أفرجت واشنطن عن جزء من أموالها المحتجزة في عُمان، مقابل ضبط نشاط حزب الله في جنوب لبنان ضد إسرائيل، ليبقى دون مستوى التصعيد.
كل ما سبق يظهر واشنطن في حالة ضعف أمام حلفائها العرب أيضاً، فمصر والأردن متوتّرتان بشأن المخطّطات الإسرائيلية حول تفريغ قطاع غزّة باتجاه معبر رفح، أو حول الطرح القديم المتجدّد بالتهجير من الضفة الغربية وإقامة دولة للفلسطينيين في الأردن. وهذا يدفع القاهرة وعمّان إلى إعادة النظر في العلاقة مع إسرائيل، وبالفعل جمّدت الأردن المفاوضات بشأن مشروعات تبادل المياه المحلّاة والطاقة الشمسية مع الكيان الإسرائيلي، وهي بصدد إعادة النظر في علاقتها به. في حين جرى نسف مداولات التطبيع السعودي مع إسرائيل، وسيخسر بايدن هذا الإنجاز الذي كان يعوّل عليه لدخول الانتخابات الرئاسية المقبلة. وفي المجمل، قد يشكّل الضعف الأميركي فرصة أمام حلفاء واشنطن العرب لرفع سقف شروطهم ومطالبهم في العلاقة مع الأميركان، ولصالح الحصول على بعض الاستقلالية في القرار، خصوصا مع تقوية العلاقات مع روسيا والصين.
مهلة الأسابيع من البيت الأبيض لإسرائيل لإنجاز مهمّتها في القضاء على “حماس” ستنتهي، ولا يبدو المشهد أن حكومة نتنياهو قادرةٌ على تحقيق الانتصارات الملموسة في غزّة، فيما يزيد مرور الوقت مع استمرار المجازر الإسرائيلية من ارتباك واشنطن في غزّة، لأنه يفتح نقاش القضية الفلسطينية على نطاقاتٍ أوسع، ويعرّي زيف الديمقراطية الغربية وشعارات حقوق الإنسان والخير الذي تقول إدارة بايدن، والإدارات التي سبقته، بأنهم ينشرونها في أنحاء العالم.
——————————
كيف أثّرت حرب غزّة في المشهد السوري؟/ مروان قبلان
20 ديسمبر 2023
مع دخول الحرب الإسرائيلية على غزّة شهرها الثالث، تستمرّ مراكز البحث والتفكير في المنطقة والعالم في محاولات الإحاطة بتداعيات هذه الحرب وتأثيراتها الإقليمية والدولية. ومن بين القضايا التي تستأثر باهتمام كبير حاليا انعكاسات تلك الحرب على الساحة السورية، بما يشمل المواقف منها، والوضع الميداني على الأرض، وتأثر علاقة مختلف الأطراف الفاعلة على الساحة السورية بها. سياسيا، ورغم تعاطف السوريين، باختلاف مواقفهم السياسية، مع قطاع غزّة، لوحظ أن النظام والمعارضة، على السواء، يتجنّبان تسجيل مواقف واضحة من الحرب. إذ امتنع النظام، خلاف بعض التصريحات التقليدية المساندة للقضية الفلسطينية، عن توفير أي دعم لحركة حماس، رغم المصالحة التي جمعت الطرفين في أثناء زيارة وفد “حماس” إلى دمشق في أكتوبر/ تشرين الأول 2022، نتيجة وساطة من حزب الله وإيران، علمًا أن جزءًا كبيرًا من تسليح “حماس” كان يأتي قبل عام 2011 من سورية. ويعود ذلك على الأرجح إلى عدم قدرة النظام على تجاوز محطّة 2012 عندما قرّرت حماس مساندة المعارضة السورية، بما في ذلك وضع خبراتها في مجال تطوير الأسلحة محلية الصنع وحفر الأنفاق في خدمتها. أما مؤسّسات المعارضة فقد تجنّبت، هي الأخرى، الحديث عن غزّة ما أمكن، خشية أن يؤدّي اتخاذ أي موقف بشأنها إلى تعقيد علاقاتها مع الحلفاء الغربيين، وفي مقدّمتهم الولايات المتحدة.
على مستوى العمليات العسكرية، ورغم أنه يصعب الحديث عن تغييراتٍ تؤثّر في الوضع الميداني على الأرض، لوحظ منذ 7 أكتوبر تصاعدٌ كبيرٌ في أعمال العنف في مختلف المناطق. تضاعف، مثلا، عدد الهجمات التي تشنّها المليشيات الموالية لإيران على القواعد الأميركية في شمال سورية وشرقها نحو 10 مرّات منذ انتهاء العمل بالهدنة التي تم تكريسها في اتفاق تبادل الرهائن بين واشنطن وطهران في سبتمبر/ أيلول الماضي، وسمح بالإفراج عن ستة مليارات دولار من الأموال الإيرانية المجمّدة في كوريا الجنوبية. في المقابل، ازداد عدد الهجمات الأميركية وحجمها ضد المليشيات الإيرانية في شرق سورية. وفيما تداولت تقارير أخبارا عن نقل مليشيات تابعة لإيران من شرق سورية إلى جنوبها، عزّز الأميركيون وجودهم العسكري في قواعدهم شمال البلاد وشرقها. ورغم أن إسرائيل تستمر منذ عام 2013 في استهداف الأراضي السورية، لوحظت زيادة في وتيرة هجماتها خلال الأسابيع الأخيرة، بما في ذلك ضرب مطاري دمشق وحلب أكثر من مرّة وإبقاؤهما خارج الخدمة فترات طويلة. وقد حصل ذلك بالتوازي مع تزايد الهجمات المنطلقة من الأراضي السورية باتجاه الجولان المحتلّ خصوصا. لوحظ أيضا أنه، وفيما تتركّز الأنظار على ما يجري في غزّة، ازدادت الهجمات التي يشنّها النظام على مناطق المعارضة في الشمال، كما ازدادت وتيرة الهجمات التي تشنّها تركيا ضد “قوات سوريا الديمقراطية”، مستهدفة قياداتها على وجه الخصوص. مع ذلك، ورغم ارتفاع وتيرة العنف، في كل المناطق، ومن مختلف الأطراف، إلا أن الجميع ظل يلتزم الحذر خشية خروج الأمور عن السيطرة، والدفع باتجاه مواجهة شاملة. ورغم أن تقارير عديدة تفيد بوجود ضغوط إيرانية على النظام باتجاه انخراط أكبر في المعارك مع إسرائيل، أقلّه بمستوى ما يحصل في جنوب لبنان، إلا أن النظام السوري يقاوم هذه الضغوط خشية انتقام إسرائيلي كبير. والواقع أن النظام يحاول على ما يبدو تحقيق نوع من التوازن بين ضغوط إيران نحو دعم “حماس” وتجنّب رد فعل أميركي وإسرائيلي عنيف على ذلك، وسعيه إلى الحفاظ على حالة من الاستقرار الداخلي النسبي، وسط أزمة اقتصادية خانقة، تزداد معها الحاجة إلى مزيد من الدعم الاقتصادي الإيراني.
وفيما تختبر الحرب الإسرائيلية على غزّة قدرة النظام على ضبط حدوده الجنوبية، والسيطرة على المناطق التي يحكمها، حيث تنطلق منها صواريخ باتجاه إسرائيل، إنما ليس بالكثافة المتوقّعة أيضا، تختبر حرب غزّة كذلك التفاهمات الإسرائيلية – الروسية التي جرى التوصل إليها في سبتمبر/ أيلول 2015 وصمدت خلال حرب أوكرانيا. إذ تشير تقديرات إلى توقف التنسيق بين الطرفين في سورية نتيجة الموقف الروسي الناقد للحرب الإسرائيلية على غزّة، والمطالبة بوقفها.
——————————-
خطوات الأسد “الإصلاحية” خلال الحرب على غزّة/ سميرة المسالمة
18 ديسمبر 2023
فشلت محاولات المجتمع الدولي في إلزام النظام السوري بتنفيذ بنود بناء الثقة، للوصول إلى تسوية ممكنة بين الأطراف السورية المتصارعة (النظام وشرائح المعارضة على مستوياتها المختلفة والمتخالفة)، التي نصت عليها قرارات الأمم المتحدة منذ بيان جنيف (2012)، حتى قرار مجلس الأمن 2254 في 2015، الذي وضع فصلاً منفصلاً تحت عنوان بنود بناء الثقة. وبالمثل، باءت الجهود العربية بالفشل، أيضاً، في تنفيذ مشروع خطوة مقابل خطوة الذي اقترحته عمّان عام 2021، ولم تستطع تحقيق أي تقدّم على مستوى الحلّ السياسي. فالنظام، على الرغم من قناعته بأنه لم يعد المتحكّم الوحيد بسورية، إلا أنه، بوجود داعميه الدوليين (روسيا وإيران)، لا يزال قادراً على المناورة وتقزيم حصّة الشركاء المحليين من المعارضة (المفترضين)، لحساب توسيع الشراكة الخارجية وتنويعها من الروسي والإيراني والأميركي والعربي.
وبعيداً عن تناول ما يفعله النظام السوري داخلياً من وجهة نظر المعارضة، أنها “بروباغندا” أو عملية إلهاء للداخل السوري، في ظل الصمت الرسمي عما يحدُث من إبادة للفلسطينيين في غزّة، فإن ما يحدث في سورية من عملية تغيير، رغم بطء حركتها، إلا أنها توجه رسائل مركزة إلى الداخل والخارج، ومنها أن عملية الإصلاح المطلوبة دولياً تأخذ مساراتها الفعلية، وهذه المسارات، بغموضها، تحرّك شهية الراغبين في التقاطها (إيجابياً) كالدول العربية المنفتحة عليه، التي تبحث عمّا يبرّر انفتاحها، وهي حتما بإرادة الداعمين له، كذلك يمكن استخدامها (سلبياً) بتأكيد قصورها، وعدم كفايتها، والمطالبة بتوسيعها، أو تسريعها. وحتى هذه السلبية يحتاجها النظام السوري لفتح آفاق جديدة للتفاوض على أسس جديدة، ووفق حصصٍ غير متساوية مع معارضته التي يسمّيها “خارجية”.
وحيث إن النظام يدرك أنه في ظل المتغيرات الجديدة، ليس فقط سورياً، وإنما عالمياً، فإن قواعد ممارسة السياسة الأحادية أو الانفرادية، التي انتهجها منذ ما يقرب من ستة عقود (ولاية الأب حافظ الأسد والابن بشّار) لم تعد قابلة للحياة، ما يفرض عليه التغيير والاندماج مع متطلبات الإرادة الدولية، التي تدحرجت نزولاً من الحديث منذ 12 عاماً عن عدم شرعية الرئيس، وأن أيامه باتت معدودة، إلى الإقرار بعدم الرغبة في إسقاطه مقابل شروط، منها تغيير سلوكه، وفضّ ارتباطه بإيران، والتزام تسوية سياسية يكون هو أحد طرفيها الفاعلين وفقاً للقرار 2254، وصولاً إلى القبول أو الصمت عن عمليات التطبيع العربي معه، ما يعني أنه استثمر فعلياً في طول أمد حربه لجهة تغيير “المزاج” الدولي تجاهه، بدرجاتٍ باتت مقبولة منه، وهذا ما يستدعي منه خطواتٍ عملية تنهي حالة المخاصمة الدولية معه (كما حال الدول العربية)، وتمهّد لتسوية على الطريقة الأسدية، وعلى مبدأ “ما لا يُدرك كله فلا يترك جله”.
وفق ما تقدّم، يمكن قراءة ما يحدُث في سورية أنه يعتبرها خطوات أولية في عملية بناء الثقة باتجاهين: أولهما مع مجتمعه المتجانس من جهة، الذي يعاني من الفساد والبيروقراطية وسوء المعيشة، والبطالة، وتداخل صلاحيات الوزارات مع الأجهزة الأمنية وتولي الفاسدين وغير المؤهلين للمناصب واحتكار ذوي القربي والوساطات للفعاليات الحيوية وغيرها، والإجراءات رغم بساطتها ومحدوديتها في تحسين شروط الإنتاج المحلي والإصلاح الإداري، إلا أنه يريدها بمثابة المؤشّر على قدرته على إحداث التغيير ذاتياً، الذي ستلحقه خطواتٌ إضافية تتمثل بتحقيق اللامركزية الإدارية وإصلاح العمل البرلماني وتوزيع صلاحيات الرئيس بما يتناسب والطرح الأميركي عن الحل السياسي في سورية، وبما لا يتعارض مع بقاء الأسد الطرف الأساسي في الحكم.
والاتجاه الثاني وجهته إلى الغرب والعرب، وبما يتناسب ومنطقه في الاستثمار “حتى في الخراب”، أو ما يمكن تسميته اقتناص فرصة للنجاة من طوق الحصار المفروض عليه من الغرب، والمحاصرة به أيضاً الدول العربية الراغبة في انتشاله من زنزانة العزلة، وعجزها عن ذلك بسبب العقوبات، وقانون قيصر، حيث تتعدّى انعكاساتهما من النظام إلى من يمدّ له طوق النجاة، لتكون أول علامات تغيير السلوك خارجياً التزامه التحذيرات الأميركية من الدخول على خطّ الحرب الإسرائيلية على غزّة، إعلامياً أو عسكرياً، والتزامه الصمت السياسي والإعلامي من جهة، وتكميم أفواه السوريين من جهة مقابلة، وذلك بمنع التظاهر الشعبي، والتفاعل مع القضية الفلسطينية التي تعدّ من أولويات السوريين، بغضّ النظر عن انتماءاتهم السياسية المحلية، مع النظام أو ضده، أو حتى من فئة الصامتين تجاه الثورة السورية التي انطلقت عام 2011، ولا تزال مفاعيلها تتمدد.
مدّ الأسد بسلوكه الجديد تجاه القضية الفلسطينية يده للولايات المتحدة والغرب الداعم لإسرائيل (سواء كان ادّعاؤه أنه طرف في محور المقاومة صادقاً أو كاذباً) ما يجعله ينتظر مكافأة مُجزية، مقابل تحييده لاعباً في الصراع الإسرائيلي – العربي، الذي اختصره اليوم كما غيرُه من العرب بالصراع الإسرائيلي مع حركة حماس، لتبرير الانكفاء عن ممارسة أي دور ضاغط على المجتمع الدولي، والاكتفاء بمبادراتٍ لم تأخذها إسرائيل على محمل الدخول العربي على خط الصراع معها، بل استهانت بها واعتبرتها مجرّد “بروباغندا” تتساوى مع ما كان قائماً منذ نهاية حرب تشرين (1973).
وفي وقتٍ يأخذ فيه النظام السوري خطوة إلى الأمام لاستثمار قرار عودته إلى جامعة الدول العربية (مايو/ أيار 2023)، ومن خلال اندماجه مع الفعاليات العربية المتنوّعة، وحضور وفوده اجتماعاتها في كل الدول العربية، وبعض الدول الأوروبية، ينحسر حضور المعارضة السورية، ويتقلص دعمها من دولة بعد أخرى، حتى تكاد تبدو كأنها غير موجودة.
وبموضوعية شديدة، كما أنه لا يمكن تحميل كيانات المعارضة “وحدها” أسباب تضعضع مكانتها وشرعيتها التي قاربت أن توازي النظام بتمثيل الدولة السورية بين عامي 2012-2018، غير أنه أيضاً لا يمكن تجاهل تراخيها في صناعة رؤية واحدة تحقق طموح كل السوريين، وانجرارها وراء تمثل مواقف الدول الداعمة لها على حساب المشروع الوطني السوري الجامع لمختلف القوميات السورية من عرب وكرد وشركس وأرمن وتركمان، الأمر الذي استفاد منه النظام في محاججة المجتمع الدولي لهدر فرص التسوية المتاحة، وفق مفاوضات جنيف عشر سنوات خلت، استطاع خلالها تشتيت الدعم العربي والغربي للمعارضة، ومطالب الثورة المحقّة في بناء منظومة حكم ديمقراطي لا طائفي.
لقد استطاع النظام السوري تحويل مجريات الكارثة السورية إلى حدثٍ مكرّر يومياً، ملّت منه الأنظمة الغربية والعربية، وتعاملت معه كمسلسل مملّ، تارة تتفاعل مع ضحاياه ببعد سياسي، وتارة ببعد إنساني، وتارة تتجاهله بفعل أحداث جديدة وحروب مستجدّة، وكوارث حديثة، قد لا يكون آخرها الحرب الوحشية الإسرائيلية على غزّة، لكنها حتماً ستكون هذه الحرب هي التي تضع محدّدات جديدة لشرق أوسط جديد، قد يكون النظام السوري أحد أبرز معالمه، أو هو الصورة التي ترغبها إسرائيل للأنظمة العربية، لا حرّيات، لا تنمية، لا سيادة، وربما لا حدود آمنة.
———————————-
لا شرق أوسط جديداً على جثث الغزّيين/ غازي دحمان
16 ديسمبر 2023
رغم الوزن الدولي الكبير للولايات المتحدة، وحجم تأثيرها الهائل على التفاعلات العالمية، وهذا اكتسبته من حجم قوتها العسكرية والسياسية والاقتصادية، وانخراط دبلوماسيّتها، المدعومة بمراكز بحثية عريقة، في كل القضايا العالمية، الساخنة والباردة، فإنها غالباً ما كانت تقع فريسة سهلة لإسرائيل، والتي، في الغالب، وهنا المفارقة، كانت تصدُر عن سياساتٍ غير عقلانية، مشبعة بالأساطير حيناً والرغائبية أحياناً كثيرة.
التبشير الأميركي بـ”الشرق الأوسط الجديد”، أكثر من مرّة، كان أحد أشكال خضوع العقل السياسي الأميركي للتأثيرات الإسرائيلية، والتي ثبت، على الدوام، أنها ليست سوى أوهام عملت نخب الحكم الإسرائيلية على بثها، لقناعتها بأن صناعة مثل هذا التحوّل، إن تحقّق بالفعل، سيكون مجهوداً في سياق أميركي يهدف إلى ترتيب العالم ضمن أنساقٍ يسهل التحكّم بها وإدارتها وجعلها تعمل في إطار المصالح الأميركية بعيدة المدى، وتحت هذا العنوان تستطيع إسرائيل استجلاب كل أشكال الدعم في حروبها على خصومها في المنطقة.
الحرب على غزّة خير مثال على القدرة الإسرائيلية في التلاعب بالعقلية الأمنية والسياسة الأميركية، وقد تكون هذه الحرب انطوت على متغيّر جديد تمثل في مبادرة المقاومة الفلسطينية مهاجمة إسرائيل وتكبيدها خسائر كبيرة، منحت القيادة الإسرائيلية فرصة تشكيل رواية عن تعرّضها لمخاطر وجودية، وبالتالي، دفع الغرب، وفي مقدمه الولايات المتحدة، إلى تحييد العقلانية والحسابات الأمنية والاستراتيجية، وترك إسرائيل، مع تقديم الدعم المطلق لها، لإعادة تشكيل المشهد في غزّة، وفي مجمل فلسطين، ليس بهدف إعادته الى ما قبل 7 أكتوبر، أي إزالة آثار الأحداث التي حصلت، بل صناعة مشهد مختلف كلياً عمّا كان عليه طوال العقود الماضية، بما يتضمّنه من إزالة غزّة عن الوجود، وترحيل الغزّيين، وخنق الضفة الغربية، وهذا جوهر فكرة “الشرق الأوسط الجديد” الذي بشّر به رئيس حكومة إسرائيل، نتنياهو، في بداية الحرب على غزّة.
طوال هذه المرحلة، تمثّل دور الولايات المتحدة بتقديم كل ما يدعم هذه الفكرة وتحويلها إلى مشروع واقعي، بل انحصرت فعاليتها في قبول دور لها في هذا المشروع، تمثل بالآتي: استنفار قواتها في المنطقة، وتحريك أساطيلها، وتجميع أصولها العسكرية، للضغط على قوى المنطقة، حتى لا يجري التشويش على إسرائيل المنهمكة في إنجاز مشروعها. تقديم الدعم اللوجستي والعملياتي اللازم لتنفيذ الهدف، من خلال جسور جوية وبحرية لدعم الجيش الإسرائيلي بكل أنواع الأسلحة، حتى التي كانت غير مخصّصة سوى للجيوش الأميركية في أوقات الطوارئ. الضغط على الدول العربية والإسلامية، من خلال جولات وزير الخارجية أنتوني بلينكن التي لم يكن لها سوى هدف تسكين الموقف الرسمي العربي، وإظهار أن واشنطن تبحث مع دول المنطقة عن مخارج للحرب الدائرة، وبالتالي التأثير بالرأي العام العربي الثائر. منع صدور قرارات عن مجلس الأمن تدين إسرائيل، أو تطالبها بوقف إطلاق النار. ولم تكن إسرائيل لتتأثر بذلك، لكن الأميركي أراد توفير المناخ الملائم لإسرائيل إلى أبعد الحدود.
كانت واشنطن، في ذلك كله، تدير الأزمة، بوصفها جناحاً سياسياً وعسكرياً لإسرائيل، متخلّية عن مركزها العالمي وأدوارها في النظام الدولي، وكانت تفعل ذلك، على أمل أن تستطيع إسرائيل بالفعل صناعة الشرق الأوسط الجديد وفرضه على المنطقة، وهذا يلامس رغبة أميركية لم تتحقق، أو كانت ستكلّف واشنطن أثماناً مقابلة لا تريد دفعها، وسبق أن خاضت واشنطن مفاوضاتٍ مكثّفة ومرهقة مع دول المنطقة، بهدف ترتيب الأوضاع في الشرق الأوسط في موازاة صعود الصين وعودة روسيا إلى المنطقة، لكن المساعي الأميركية قوبلت من غالبية دول المنطقة بمطالب مقابلة، لم تستطع إدارة بايدن حتى استساغتها، فكانت الحرب الإسرائيلية بمثابة فرصة لواشنطن لتحقيق ما عجزت عنه بالدبلوماسية، عبر فرض مشهدٍ جديدٍ بواسطة إسرائيل.
ولكن حسابات البيدر يبدو أنها لم تتوافق مع حسابات الحقل، بفضل صمود المقاومة الفلسطينية، وتضحيات الشعب في غزّة، فبعد أكثر من شهرين، اكتشفت إدارة بايدن أن إسرائيل لن تستطيع تحقيق تغيّرات استراتيجية نوعية في المنطقة، وأن فرصة الشرق الأوسط، حسب المقاسات الأميركية، ضاعت مرّة أخرى، بل ثمّة شرق أوسط قد يتشكل فيما لو استمرّ الجنون الإسرائيلي سيكبّد الولايات المتحدة خسائر مهولة قد لا تقلّ عن خسارتها في جولتها السابقة لصناعة الشرق الأوسط الجديد، انطلاقاً من العراق وأفغانستان.
وفي التقدير الأميركي، والذي أعلنت عنه إدارة بايدن صراحة، أن ثمّة محدّدات لا يمكن لقوة إسرائيل ولا أميركا تجاوزها، حتى لو تحطّمت هياكل غزّة جميعها، وتحوّل القطاع إلى أنقاض، والدليل أن الغزيين الذين يصرخون من شدّة الألم يصرّون أكثر على البقاء في أرضهم، كما أن إيمانهم بالتحرير ما زال محافظاً على صلابته، وبالتالي، فإن محاولة إسرائيل، ومن ورائها واشنطن، اختبار الفلسطينيين والعرب، بعد عقد من الويلات والكوارث، فشل فشلاً ذريعاً، كما أن الشرق الأوسط الجديد ليس مجرّد وقائع ولا أطر وهياكل، بل هو بالدرجة الأولى أيديولوجيا، وقد ثبت أنها ما زالت محتفظة بقوامها، وخصوصاً لجهة الإصرار على المقاومة، ورفض الخضوع لمشاريع برّانية.
—————————-
مونولوغات فلسطينية/ رشا عمران
16 ديسمبر 2023
حضرتُ، قبل أيام، فاعلية للتضامن مع غزّة، أقيمت بطلب من مسرح عشتار في فلسطين الذي وجّه دعوة إلى كل مسارح العالم ومسرحييه للمشاركة الجماعية في دعم غزّة، والوقوف معها ضد الجرائم التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي، في محاولة لتكريم هذا الشعب الصامد، وتكريم آلاف الضحايا الذين قضوا نتيجة جرائم الاحتلال. والمشاركة هي قراءة مونولوغات كتبها بعض سكان غزّة قبل ما يزيد عن العشر سنوات، في أثناء العدوان الإسرائيلي على غزّة في عام 2012. استشهد بعض أصحاب النصوص، وآخرون فقدت أخبارهم، وثمّة من على قيد الحياة في قطاع غزّة، ومن استطاعوا اللجوء إلى أوروبا. شارك في الفاعلية ممثلون مصريون، ومنهم نجوم لهم جمهور واسع، (سيد رجب، سلوى محمد علي، محمد حاتم، أحمد مالك، يسرى اللوزي، والسورية ناندا محمد والأردنية راكين سعد)، برفقة عازف الكمان محمد سامي الذي قدّم معزوفات صولو من التراث الموسيقي الفلسطيني. وتضمّن الإعلان عن الفعالية تأكيدا أن ريعها بالكامل مخصّص لغزّة، ما جعل حضورا كثيرين يدفعون أضعاف ثمن تذكرة الدخول.
أقيمت الفعالية في المسرح الكبير في سينما راديو في وسط القاهرة، كان عدد الجمهور يزيد بكثير عن مساحة المسرح، جمهور من مختلف الأعمار والطبقات كان لافتا فيه حضور عدد لا يستهان به من الأوروبيين المقيمين في القاهرة، والذين كان معظمهم يضع الكوفية الفلسطينية حول عنقه. كانت الفعالية مؤثّرة فعلا، فالنصوص تبدو كما لو أنها كتبت للتوّ، في هذه الحرب لا قبل عشر سنوات، إذ لا شيء اختلف تقريبا، الحصار نفسه، والطريقة نفسها في الصمود، وفي التعامل مع الموت أو انتظاره. الفرق فقط أن الحرب هذه الأيام تحمل هدف الإبادة الحقيقية، بحيث قلة فقط ممن يعيشون هناك يتمكّنون من كتابة يومياتهم، بسبب الانقطاع المتكرّر للاتصالات والنور وفقدان كل مسبّبات العيش واستمرار الحياة.
لم يكن مفاجئا الحضور الكثيف في الفعالية هذه، فلمعظم المشاركين فيها جمهور واسع في مصر، وهذا ذكاء يحسب للمنظّمين (فرقة المعبد المسرحية التي أسّسها المخرج أحمد العطار، وبالتعاون مع شركة الإسماعيلية التي تدير مسرح راديو وعدة منشآت ثقافية في وسط القاهرة)، مثلما هو موقف يُحسب للمشاركين في التضامن مع غزّة في الوقت الذي يخاف فيه فنانون عرب كثيرون من التعبير عن مواقفهم، خشية تخلّي شركات الإنتاج عنهم (معظمها مملوك لرأس مال تطبيعي). ولم يكن مفاجئا التفاعل الذي حدث داخل المسرح مع نصوصٍ قرأها المشاركون، ذلك أن الحدث الفلسطيني يطغى علي مجريات الحياة فعليا لدى شرائح كثيرة من المصريين الذين لم تتمكّن منهم عقود التطبيع الدبلوماسي بين مصر وإسرائيل، ولم تستطع تغيير وجدانهم الجمعي تجاه القضية.
يحاول كثيرون هنا في مصر إيجاد طرق للتضامن أو الدعم أو تقديم أي فعلٍ يمكنه أن يخفّف، ولو القليل من الإحساس بالعجز الذي نعيشه جميعنا، نحن العرب، المشغولون والمعنيون بالقضية الفلسطينية، رغم كل ما مر بنا وببلداننا من كوارث يمكن معها نسيان أية قضية أخرى. يجمع المصريون التبرّعات وينخرطون في تجمّعات تهدف إلي تقديم كل أنواع المساندة، يستقبلون الفلسطينيين الذين تمكّنوا من العبور إلى العريش ومنها إلى أنحاء مصر في بيوتهم، يتواصلون مع أطبّاء وممرّضين في المستشفيات التي تستقبل الجرحى والمصابين لمعرفة احتياجاتهم وتأمينها، يقدّمون الدعم المادي للطلاب الفلسطينيين الدارسين في مصر ممن فقدوا أي مصدر للدخل، يذهبون مع قافلات المساعدات إلى العريش تستمر ساعات طويلة للوصول والعودة، فقط ليخففوا من شعور العجز وقلة الحيلة تجاه ما يحدُث. ومشهد الكوفيّة الفلسطينية في شوارع القاهرة بات من المشاهد المألوفة جدا حاليا، مثل مشهد الأعلام الفلسطينية المرفوعة علي شرفات ومحلات تجارية كثيرة، وعلى سيارات خاصة كثيرة في الشوارع، مثل الدعاء (أضعف الإيمان) لغزّة وأهلها الذي يردّده الجميع.
لا يستطيع الساسة ولا السياسة ولا كل معاهدات السلام تغيير وجدان جمعي تحتفظ ذاكرته بتفاصيل تاريخ طويل دفعت فيه هذه الشعوب من لحم قلوبها في سبيل قضية هي الأساس الذي بني عليه الحاضر البائس الذي تعيشه بلداننا. سوف تبقى هذه الشعوب تردّد المونولوغ الفلسطيني، حتى تتحقّق العدالة مهما طال الزمن.
———————————
عن غزّة و”الأخلاق” الحديثة/ راتب شعبو
15 ديسمبر 2023
مع الغزو الإسرائيلي الوحشي لغزّة الذي دخل شهره الثالث، سيطر طيفٌ من الوعي الغربي المتفهم والقابل لصنوف التجاوزات الإسرائيلية الخطيرة التي تنتهك مبادئ قانونية وأخلاقية، يفترض أنها أساسيّة في المجال الثقافي الغربي. في خلفية هذا الوعي، يكمن نوع من الفوقية الثقافية التي تلامس العنصرية، حين تمنح، لمن تعتبرهم شركاء في الثقافة، الحقّ بالجريمة ضد أبناء الثقافات الأخرى، وتستنكر، إلى حدود قصوى، جرائم هؤلاء الأخيرين ضد الأولين على أنها همجيّة وشنيعة. لا نتكلّم هنا عن المواقف السياسية للحكومات أو الأحزاب، بل عن الوعي العام الذي يظهر في كلام غير السياسيين، وطريقة استيعابهم المجزرة الإسرائيلية في غزّة.
خلال المقابلة الشهيرة للمذيع البريطاني بيرس مورغان مع الإعلامي المصري باسم يوسف، قبل حوالي شهرين، شارك كاتب السيناريو الأميركي جيرمن بورينغ، وهو الرئيس التنفيذي لموقع صحيفة ديلي واير المحافظة، بمداخلة نموذجية عن هذا الوعي، مرّت من دون انتباه، نظراً إلى انشغال الناس بكلام يوسف وطريقته الساخرة غير التقليدية في شرح الموقف الفلسطيني ومفارقات الصراع الدائر. والحقّ أن محتوى مداخلة بورينغ، رغم أنها لم تتجاوز خمس دقائق، يعبّر عن تيار دارج من الوعي الذي يشكل هجوماً “مدنياً” موازياً على غزّة وأشباه غزّة في كل مكان من العالم. ذلك لأنه يتّجه إلى تسويغ الجريمة الإسرائيلية على غزّة، وكل جريمة مشابهة، ليس فقط بإنكار كونها جريمة، بل وبجعلها في انسجام مع المنطق والأخلاق.
يبدأ الرجل في الرد على السؤال الساخر المرّ الذي طرحه يوسف عن عدد الفلسطينيين الذين يتوجب قتلهم كي ينتهي هذا الهجوم الإسرائيلي، فيجيب بأن العدد غير محدود إلا “بقدر ما يتطلّبه الأمر”. لا يحدّد بورينغ هذا “الأمر”، وليس هذا تقصيرا منه، فالقادة الإسرائيليون أنفسهم لم يحدّدوا بوضوح “أمرهم” سوى بالكلام عن اقتلاع حركة حماس والخلاص من التهديد على مستوطنات غلاف غزّة. ولا يستوقف الرجل سؤال بسيط مثل: ماذا لو كان “الأمر” هو اقتلاع شعبٍ من أرضه لكي تنتهي إسرائيل من التهديد الذي يشكّله وجود هذا الشعب؟ فلا أهمية لمثل هذا السؤال لديه.
يكمل الرجل منطقه في الإجابة عن سؤال المذيع بشأن الرد المتناسب، فيقول “لا أحد يريد ردّاً متناسباً” مع ما قامت به حركة حماس في 7 أكتوبر، “ولا يمكن لأي شخص أخلاقي أن يدعو إلى ردّ متناسب. الغرض من الحرب أن تهزم عدوك”. هكذا يصبح من يتكلّم عن الرد المتناسب شخصاً بعيداً عن الأخلاق (ليس أقلّ من ذلك)، لأن في كلامه هذا ما يمنع “هزيمة العدو”، وهي، بحسب هذا المنطق، غاية تبرّر كل وسيلة. ولكن، في الصراع العياني الجاري في فلسطين، من الذي لا يعلم ماذا تعني هزيمة العدو في المقياس الإسرائيلي؟
بديهي أن من يرفض مبدأ التناسب في الردّ هم الأقوياء الذين يستخدمون قوّتهم ليس لحماية أنفسهم، بل لسلب حقوق الآخرين، واستخدام القوة “غير المتناسبة” من أجل “هزيمة العدو” أو محوه وإلغاء وجوده. يكاد الأمر يكون واضحاً بذاته، ولكن ما يضيفه بورينغ اعتبار الردّ غير المتناسب فعلاً أخلاقياً، ما يعني أن التضامن مع الضعيف المسلوبة حقوقه في صراعه مع القوي الغاصب لا ينضوي تحت خانة الخطأ والصحّ، أو تحت خانة المواقف السياسية ذات المردود السلبي أو الإيجابي، بل هو فعلٌ غير أخلاقي. سحق الضعيف مسلوب الحقّ إذا ما تجرّأ يوماً على “إهانة” القوي الغاصب، يجب النظر إليه، وفق هذا المنطق، أنه فعلٌ أخلاقي.
يمضي بورينغ خطوة إضافية في المحاجة التي تسعى إلى جعل الأقوياء يحتكرون الأخلاق أيضاً، فيقول “الطريقة الوحيدة لتبرير الحرب أخلاقياً هي الفوز بها”. لا ينطوي هذا القول فقط على دمج الحروب كلها في خانةٍ واحدة، فيكون الاعتداء كالدّفاع عن النفس، بل يعني أيضاً أن القويّ يمتلك التبرير الأخلاقي في جيبه، بقدر ما يضمن الفوز.
ثم يتابع بورينغ منتقداً من يقول إن الحرب التي تقتل عدداً أقلّ من الناس أكثر أخلاقية من التي تقتل عدداً أكبر، ومعتبراً أن هذا ليس سوى ضرب من النفاق. ينتمي الرجل من حيث الجنسية إلى أميركا أقوى بلد، ويدافع عن إسرائيل أقوى بلد في منطقتها، فلا عجب أن يكون معبّراً في منطقه عن الأقوياء الذين لا يبالون بحقوق الضعفاء أو حياتهم. ومعلومٌ لكل من يتنفّس هواء على هذا الكوكب أن هذا المنطق، وإن كان يستُره، في غالب الأحيان، كلام سياسي موارب، ساري المفعول في الواقع الدولي إلى حدّ كبير، وأن الظلم ملحُ الأرض، ولا يبقى للمظلومين غير الأخلاق ينادون بها وتمنحهم شيئا من التفوّق المعنوي. ولكن بورينغ يلاحق الضعفاء حتى هذا الميدان، فالأخلاق هي في صفّ من يفوز في الحرب، بصرف النظر عن أي اعتبار آخر. وبالنسبة له، الكلام عن تكافؤ أخلاقي بين من يقتل المدنيين بسلاح فردي ومن يقتلهم بالقصف مجرّد هراء. مرّة أخرى، توضع الأخلاق في صفّ من يمتلك القوة والتفوق التقني الذي يسمح للقاتل بالقتل من دون أن ينظر في عين الضحية أو أن يراها، حتى لو كان ضحاياه أكثر وتدميره أوسع بما لا يُقاس.
قد يقال إن بورينغ ليس رجل سياسة كي يؤخذ كلامُه بهذه الجدّية، ولكن هذه الحقيقة، أي كونه كاتب سيناريو ومديرا تنفيذيا وليس رجل سياسة، هي ما تعطي لكلامه معنىً هاماً، ذلك أنه يعبّر عن وعي عام يتشكل ويُعمل عليه ليكون “عمقاً استراتيجياً” لأهل سياسة القوة. والحقيقة أنه يُعمل على تشكيل هذا التيار من الوعي العام وترسيخه عبر الوسائل الناعمة مثل ألعاب الفيديو والمسلسلات والأفلام الحديثة التي تعزّز، في معظمها، حبّ القوة وتكوين مقبولية نفسية وأخلاقية لصالح الطرف القوي على حساب مبادئ أخلاقية إنسانية مستقرّة. وليس العرض التسويقي الأخير لشركة الملابس “زارا” الذي يتضمّن صور عرض أزياء وسط خراب وجثث بالأكفان البيضاء، يحاكي الحال الراهن في غزّة، سوى جزءٍ من مسار التطبيع النفسي والأخلاقي مع قتل الضعفاء على يد الأقوياء الذين إذا غضبوا لا ينسجم انتقامهم الرهيب مع “الأخلاق” الحديثة فقط، بل يصنعها أيضاً.
———————————
صورة إسرائيل/ بشير البكر
15 ديسمبر 2023
صور المواطنين الفلسطينيين في غزّة، الذين جرّدتهم إسرائيل من بعض ملابسهم، تحوّلت ضدها. وخلال أقل من 48 ساعة، تعهّد الناطق باسم الجيش الإسرائيلي بأن هذا الأمر لن يتكرّر. ولا يعني رد الفعل السريع كرم أخلاق، بل إن نشر الصور في وسائل الإعلام تفاعل بطريقةٍ أضرت بإسرائيل من زوايا مختلفة، وعلى نحو خاصٍّ ما ولّدته من ردود فعل، استنكرت التصرّف غير الأخلاقي، من جيش يقدم نفسه على أنه مهني، ويحترم قوانين الحرب. وحسب ألف باء حقوق الإنسان، لا يجوز، تحت أي ظرف، تعرية شخصٍ معتقل، وتصويره، وتوزيع صورته على وسائل الإعلام، ووسائل التواصل من أجل نشرها، فالعمل يعدّ اعتداءً على كرامة شخص أعزل في الاعتقال، عسكريا كان أو مدنيا. ويبدو أن إسرائيل أدركت، بسرعة، أن ما كانت ترمي إليه من العملية، قد ارتدّ عليها، فبدلا من أن يقلّل ذلك من كرامة المعتقلين في عيون الناس، أظهر صورة أحد وجوهها البشعة في هذه الحرب، وخصوصا أن التفسير الذي قدّمه الناطق الرسمي ظهر على درجةٍ كبيرةٍ من التهافت، “عمدنا إلى تجريد المعتقلين من ملابسهم في شمال قطاع غزّة لنتأكّد من أنهم غير مفخّخين”. ولو أن تبريره يمتلك ذرّة مصداقية لما تعمّد الجيش تصوير المعتقلين، وتعميم صورهم. كان بوسعه أن يتحقّق من وجود المتفجّرات من عدمه، بطرقٍ أخرى، لا تعرض المعتقلين للتصوير أو التشهير. ومن الواضح أن الهدف المباشر من نشر الصور رفع معنويات الجبهة الداخلية الإسرائيلية بعد مرور شهرين على الحرب، لم يزوّدها الجيش الإسرائيلي بصورة انتصار عسكري واحد، بل على العكس. ولذلك جرى تصوير المعتقلين من أجل تنفيس بعض التوتر الداخلي. والهدف غير المباشر توجيه رسالةٍ إلى أهل غزّة. تريد إسرائيل أن تبلغ الذين أصرّوا على البقاء في منازلهم، ورفضوا التهجير، بأن ما ينتظرهم لا يقلّ سوءا عما تعرّض له المعتقلون الذين جرى تصويرهم. وهي تدرك أن هؤلاء مدنيّون، لا صلة لهم بالمقاومة، وإلا لما كانت وجدتهم في منازلهم، بل في ميادين المعارك.
تسير إسرائيل من خطأ إلى خطأ أكبر. وباعتبار أن مشاعر الانتقام ما تزال تحكُم سلوكها، فهي لا تحسب ردود أفعالها جيدا، وهذا لا يعني أن العالم لا يراها، أو أنه يقرّ تصرّفاتها. وسواء كانت ساعة الحساب على الأخطاء قريبة أو بعيدة، واردة أو غير واردة، فإنها لن تسقط، ستبقى مسجّلة، كأمثلة غير مسبوقة على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. ومن المؤكّد أن الرأي العام العالمي لن ينسى ما قامت به من أفعال، ومنها ما هو خارج ميدان المعارك، ومن ذلك الحملات على مستوى العالم، تحت غطاء “معاداة السامية”، التي تحوّلت إلى محاكم تفتيش جديدة، وسياسات ابتزاز، وتدخّل سافر في شؤون الدول والمنظمات الدولية ووسائل الإعلام، وقادت بذلك إلى توليد أجواء كراهية وحروب، أدّت إلى فقدان كثيرين أعمالهم في وسائل الإعلام وميادين الفن والثقافة والتعليم. كما أشعلت موجة حادّة من العنصرية ضد العرب والمسلمين، من خلال وسائل إعلام موالية لها، وبإسناد من أحزاب اليمين العنصري، ذات الفكر النازي، المعادية لليهود والمؤيدة لإسرائيل. ولن يتأخّر الوقت حتى تظهر الآثار السلبية على استقرار البلدان التي تساهلت حيال “الإسلاموفوبيا”، وتغاضت عن حملات الاستثمار في العنصرية ضد المهاجرين العرب والمسلمين، تحت غطاء حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها. وتكبّد الاقتصاد العالمي خسائر كبيرة بسبب الحرب على غزّة، وهذه ليست المرّة الأولى التي يتحمّل فيها العالم تسديد فواتير حروب إسرائيل، التي تتصرّف على أنها فوق القانون الإنساني، ولا تكترث بحقوق الشعب الفلسطيني. ومع ذلك، تريد من العالم أن يتضامن معها على أنها ضحية.
———————————
حرب غزّة وخيارات العرب الاستراتيجية/ برهان غليون
14 ديسمبر 2023
أولا، أبعاد الحرب الاسرائيلية الراهنة في غزة وفلسطين:
يخطئ أكثر قادة العرب، حكومات ومثقفين وسياسيين، إذا اعتقدوا أن الحرب التي تخوضها إسرائيل، ومن ورائها الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون، هي بالدرجة الأولى حرب على حركة حماس، حتى لو كانت “حماس” هي التي تسبّبت في اندلاعها. ويخطئ أكثر من يراهن على الحرب الإسرائيلية للقضاء على حركات الإسلام السياسي، وتحرير البلدان العربية أو بلدان الشرق الاوسط منها، ومن مغامراتها، لصالح تعزيز فرص ولادة أنظمة سياسية علمانية أو شبه علمانية وديمقراطية أو تعددية. هدف الحرب، بالعكس تماما، قطع الطريق على مثل هذه الولادة للنظم الوطنية والديمقراطية والعلمانية التي لا يمكن أن تتخلق وتتشكّل من دون حدٍّ أدنى من السلام والاستقرار والسيادة واحترام حقوق الإنسان والاعتبار لمصالح الشعوب العربية، وفي مقدّمها إطلاق عجلة التنمية الحضارية، الاقتصادية والسياسية والأخلاقية. وليس هناك عامل ساهم في تقويض هذه التنمية الإنسانية واستنزاف الجهود الفكرية والبشرية والمادية لهذه الشعوب أكثر من الحروب المستمرّة منذ أكثر من قرن لتفريغ المنطقة من قوتها ووزنها وتعزيز بؤرة الاستيطان اليهودي.
وقد تحوّل هذا الاستيطان وتأمين وجوده وتوسيع قاعدة انتشاره وتمكينه من فرض إرادته على الدول العربية المجاورة إلى ثقب أسود يبتلع جميع جهود العرب الفكرية والبشرية والمادية لقرن كامل، وحكم عليها بالتراجع والتخلّف والتقهقر في جميع الميادين، بمقدار ما جعل من إخضاع شعوبها لهذه الأجندة جوهر أجندة السياسة العالمية، والغربية خصوصا، في الشرق الأوسط. وهذا ما استدعى حرمان شعوبها من سيادتها وعدم التردّد في التدخّل في شؤونها الداخلية ودعم النظم الديكتاتورية العسكرية والأمنية وحمايتها والتغطية على انتهاكاتها مهما كانت خطيرة للحقوق المدنية والسياسية.
من هنا، لا تنفصل معركة واشنطن/ تل أبيب لإخضاع الفلسطينيين وحرب التطهير العرقي التي تعتمدها في فلسطين عن معركة الدفاع عن النظم الاستبدادية التي كانت تُراهن عليها لضمان التطبيع مع إسرائيل وتصفية القضية الفلسطينية وإقامة تحالفٍ يضمن أن يبقى الشرق الأوسط منطقة نفوذ غربية، فأحد أهم دوافع التطبيع تثبيت أسس النظم الاستبدادية التي زعزعتها الثورات العربية في العقد الماضي، والتي تدرك الآن أنه لا أمل لها في البقاء بعد إفلاسها الوطني وفشلها، حتى في الردّ على الحاجات الأساسية لمجتمعاتها، في مجال الحرّيات والحقوق المدنية، وحتى في مجال تأمين الخبز والماء والكهرباء، إلا بالرهان على الحماية الغربية والأميركية بشكل خاص. هكذا لم تعد هناك خلافاتٌ بين هذه النظم ونظام الفصل العنصري في فلسطين، ولا اختلافات تذكر بين ممارسات نظام الاحتلال الإسرائيلي إزاء الفلسطينيين وممارسات نظم عربية عديدة تجاه شعوبها. هنا أيضا تقدّم إسرائيل في حربها على شعب غزّة نموذجا يُقتدى به في استخدام تجويع الشعوب وتعطيشها وحرمانها من أي خدمات إنسانية سلاحا لإخضاعها وفرض الإذعان عليها.
وتخطئ هذه القيادات العربية إذا اعتقدت أن حرب غزّة لا تتعلق إلا بفلسطين، حتى لو كانت قضية فلسطين، أرضا وشعبا، في قلبها. إنها في جوهرها حربٌ إقليميةٌ للحفاظ على السيطرة الأميركية على الشرق الأوسط، وما يتمتع به من ميزات استراتيجية في مواجهة أي منافسات داخلية عربية أو إقليمية تركية وإيرانية. وفي مقدمة مهام هذه الحرب للحفاظ على السيطرة الغربية إعادة صدقية الردع الإسرائيلي الذي تراهن عليه كقوة رئيسة إقليمية تهدد الدول الإقليمية الطامحة في توسيع هامش مبادرتها وتأمين الأنظمة التابعة وحمايتها ضد الاضطرابات الداخلية أو الخارجية، بما في ذلك ردع العرب عن التفكير خارج الصندوق الذي وضعتهم فيه هذه السياسة ذاتها. لكن هدفها أيضا، في ما وراء ذلك، مواجهة محاولات الدول الكبرى الصاعدة الطامحة في تغيير النظام الدولي المتمحور حول الغرب ومصالحه وإقامة نظام جديد يعيد توزيع أوراق السيطرة ومناطق النفوذ في العالم، وفي ما يتعلق بالقرار الدولي. وهذا يعني أن لهذه الحرب بعدا عالميا يتمثل في تأكيد واشنطن سيطرتها على مناطق نفوذها وعدم التخلّي عن احتكار صياغة أجندة السياسة العالمية بما يخدم أهدافها ومصالحها الاستراتيجية. وهي تنظر إلى أي طرف يخالف قراراتها أو لا يتقيد بها ولا يتصرّف على أساسها أنه متمرّد عليها ومصدر تهديد للأمن والسلام الدوليين، وبالتالي عرضة للعقوبات التي ترتئيها. ولا تخفي أن قرارها هو القانون، اتفق مع القانون الدولي أو خالفه. وهي لا تعير أي اعتبار لهذا الأخير عندما يتعلّق الأمرُ بما تسمّيها مصالحها أو مصالح حلفائها.
غزّة هي اليوم بؤرة الصدام ومسرح العمليات لإعادة الاعتبار لهذه القوة الأميركية المركزية والمتمسّكة بالسيطرة والأحادية القطبية، بمقدار ما أنّ ردع إسرائيل العرب ومحو الأثر السلبي لطوفان الأقصى على صدقية هذا الردع هو الشرط الضروري لإجبار العرب على الاستمرار في الالتحاق بالغرب، وبواشنطن بالذات، ومنعهم من التفكير في توسيع هامش مبادرتهم الاستراتيجية بإقامة علاقات إيجابية ومستقلة مع القوى الدولية الصاعدة، كالصين وروسيا اللتين تعتقد واشنطن أنها في حرب تاريخية حقيقية معهما لمنازعتها على احتكار حقّ صياغة الأجندة السياسية الدولية، وسعيهما إلى تكوين تحالف دولي واسع ضد سيطرتها الأحادية.
ثانيا، في اختلاف الاستجابات العربية والدولية
أدركت قطاعاتٌ واسعةٌ من الرأي العام في الغرب دوافع هذه السياسة الأميركية الغربية الرامية إلى تحميلها ثمن حروب السيطرة الاستعمارية الجديدة النيوكولونيالية، ليس على الصعيد المادي وشروط المعيشة اليومية فحسب، وإنما أكثر من ذلك على حساب حقوق شعوبها المدنية وحرّياتها وتوريطها في حروبٍ عنصريةٍ وإبادية، سوف تتحمّل مسؤوليّتها الأخلاقية والسياسية، وحتى الاقتصادية، عقودا طويلة مقبلة. من هنا، ما يحصل في الغرب ردّا على سياسة دعم الاستيطان والاحتلال والإرهاب والتطهير العرقي لا يعبّر عن انقلاب سياسي وأيديولوجي عميق لدى الشعوب الغربية على السردية الملفقة التي سوّدتها دولها حول المسألة الإسرائيلية والفلسطينية فقط، وإنما هو أكثر من ذلك ثورة ضمير ضد تجاوز كل حدود أخلاقية وإنسانية في إدارة هذه الحرب الاستعمارية التي تجاوزت نموذج الحرب الصليبية التي شنّها جورج بوش الابن على العراق إلى نموذج حروب الإبادة العنصرية. إنه يعكس ردّة الوعي الغربي على الخديعة التاريخية والسياسية التي روّجتها الدعاية والإعلام الاستعماريان في أنه لا حلّ للمسألة الفلسطينية، وبالتالي لا مهرب من دعم إسرائيل حتى النهاية، وتمويل حرب الإبادة الفلسطينية، فبدت الحرب الإسرائيلية والتواطؤ الغربي معها تحدّيا سافرا للمبادئ السياسية والأخلاقية التي يقوم عليها الولاء للدولة والنظام والأخلاقيات العمومية، بالرغم من غياب وشائج القربى الثقافية أو السياسية مع البلاد العربية والشعب الفلسطيني.
فبمقدار ما تشكّل صحوة الضمير هذه أحد مظاهر انحسار هيمنة منظومة الاستعمار الجديد، تبرز أيضا تفجّر تناقضات منظومة السيطرة الدولية القائمة، وتعمل على إعادة تشكيل الوعي السياسي الشعبي، وعودة الصراع إلى محوره الداخلي الرئيسي، بعد سيطرة طويلة للتيارات اليمينية والعنصرية ورهانها على تفجير الحروب الخارجية للتغطية على التناقضات الاجتماعية. وهذا يعني انتقال الأزمة الأيديولوجية إلى داخل هذه البلدان المركزية، مهما كانت النتيجة العسكرية النهائية لهذه الحرب القائمة في غزّة. وعلى هذه اليقظة التي فجّرتها حرب الإبادة في غزّة في بلدان المركز الغربي، نستطيع أن نراهن، وينبغي أن نراهن في المستقبل، لتوسيع دائرة التحالفات العابرة للحدود، وتعزيز التضامن بين القوى الديمقراطية في الشمال والجنوب العالميين في سبيل فضح أساليب التفكير العنصري المتنامي، والصراع ضد سياسات القهر وسلب الإرادة والسيادة، وبلورة اقتراحات لسياسات عولمية جديدة تقطع مع الروح والمنطق الاستعماريين. وفي سبيل فتح آفاق جديدة أمام حركات التحرّر الاجتماعية والديمقراطية الملجومة من تحالف الإمبريالية والاستبداد في معظم مناطق العالم، والدفع نحو تغيير أولويات السياسة العالمية.
في المنطقة العربية، حيث تسود أقوى أشكال التحالف بين مشاريع السيطرة الإمبريالية ونظم الاستبداد، بين الريع النفطي وتجارة السلاح والاستثمار في الجيوش والمليشيات، وضع الانفجار الكبير في فلسطين، وفي غزّة بشكل خاص، الحكومات أمام خياراتٍ صعبة، فقد قوّض مشروعها الاستراتيجي للتطبيع مع إسرائيل، ومن ورائها مع الغرب، لتأمين نظمها ضد الثورات الشعبية وحمايتها من التهديدات الخارجية، والإيرانية بشكلٍ خاص، من دون أن يفتح أمامها أفقا آخر لبلورة خياراتٍ جديدةٍ لمواجهة المخاطر والتهديدات الخارجية، فتركها في الفراغ الاستراتيجي، غير قادرةٍ على مسايرة الانتفاضة الفلسطينية، ولا على الوقوف ضدها وتعميق قطيعتها مع شعوبها المتضامنة تلقائيا معها. فلا يقلّ التغاضي عن حرب التطهير الإسرائيلية خطرا عليها عن القبول بالسير وراء مشاريع المقاومة الفلسطينية المسلحة الحاملة لمخاطر أيديولوجية وسياسية واستراتيجية معا. لذلك، كان موقفها الانتظار وفتح نوافذ على محيطها الإسلامي لتخفيف عبئي تحدّي الغرب بدعم المقاومة والمطالب الفلسطينية من جهة ومخاطر وقوفها في وجه شعوبها المتضامنة مع المقاومة من جهة ثانية، فهي تسير على حبل مشدود تحبس أنفاسها وتزن كل خطوة بمعيار الذهب، حتى لا تتجاوز حدود هامش مبادرتها المعدومة تقريبا.
لكن الأنظمة لم تكن وحدَها الفاقدة للمبادرة، فبمقدار ما وضعت الحرب في غزّة الأنظمة في مأزق انعدام الخيارات الاستراتيجية في حربٍ ستقرّر مصير الشرق الأوسط ما بعدها، وضعت الشعوب العربية أمام تحدٍّ كبير لم تستطع نخبها أيضا أن ترتقي إلى مستوى الرد الأدنى عليه. لذلك، كان الصمت والتردّد والمتابعة السلبية السمات الكبرى لسلوك الكتلة الكبيرة من الجمهور المنزوع الأهلية السياسية والمحاصر أيديولوجيا وسياسيا وأمنيا، والفاقد أي قيادة سياسية وفكرية. هكذا، بعكس ما حدا بالجمهور الغربي إلى التظاهر الحماسي بعد اكتشافه الخديعة وراء تسويق أنظمته إسرائيل بوصفها الحامية قيم الغرب والمدنيّة والإنسانية في الشرق الأوسط والعالم العربي المتوحش، لم تبرز الاحتجاجات أو تظاهرات التضامن العربية إلا متأخّرة، وكانت أقلّ قوة بكثير مما حصل في البلدان الغربية. لكن ذلك لا يعني غياب التعاطف أو ضعفه مع مقاتلي الفصائل الفلسطينية.
كان ضعف التظاهرات الشعبية العربية بالمقارنة مع مظاهرات واحتجاجات جمهور إسبانيا وإيطاليا وأيرلندا وبريطانيا والولايات المتحدة وغيرها من الدول الأجنبية نابعا من فقدان جمهورها الثقة ليس بالأنظمة التي تحكمه فحسب، وإنما أيضا بالفصائل والمليشيات وحتى القوى السياسية المعارضة أيضا التي شارك كثير منها في معاناته، وكان بالتالي أحد مظاهر استسلامه وتسليمه بأن إسرائيل والحكومات العربية حسمت الموقف لصالحها، ولا يستطيع أن يغير شيئا من الأوضاع البائسة، بما فيها التسليم بسياسة الاستيطان الإسرائيلي أمرا واقعا.
بل إن قسما من النخب العربية في الحكم والمعارضة قد وصل إلى اعتقاد راسخ بأن التحرّر من القضية الفلسطينية ومتعلقاتها من النضال والتركيز على العداء للصهيونية ومواجهة الغرب، وبالتالي، التسليم بالأمر الواقع وإعطاء إسرائيل ما تريد، شرط ضروري للتحرّر السياسي والاجتماعي في المجتمعات العربية، حتى لو كان على حساب الشعب الفلسطيني “الذي عجز عن توحيد صفوفه والتفاهم في ما بين فئاته” للضغط على إسرائيل والغرب للحصول على بعض حقوقه. باختصار، أصبحت فلسطين، في نظر القسم الأكبر من النخب الحاكمة والمعارضة العربية، عبئا لا يُحتمل في سبيل تحقيق التطلعات التحرّرية السياسية والأيديولوجية المحلية أو القطرية. فهي تغذّي، في نظرهم، الإسلاموية والتثبت على الهوية والاعتقاد بالقطيعة بين الغرب والعرب والمسلمين. وبالتالي، تحرمهم من الاندماج بالحضارة والمدنية. والقبول بوجودها كما هي أقل ضررا للعرب من مقاومتها أو الوقوف في وجه مشاريعها التوسّعية.
ثالثا، فصل بطولي من فصول تصفية الاستعمار وعودة التاريخ إلى مساره
في المقابل، تعرّضت إسرائيل لضربةٍ تاريخية، ما فرض على جمهورها والعديد من القوى الدولية التي تقف وراءها وتستخدمها كسيف مسلط لحرمان الدول العربية، وفي مقدّمها مصر، من استعادة دورها الإقليمي، وتجميع الأقطار العربية من حولها أو إقامة تحالف إقليمي فاعل، يعزّز فرصها جميعا في التنمية الاقتصادية والإنسانية، ويزيد ثقة شعوب هذه الأقطار بدولها واستثمارها فيها، لتعظيم فرص تقدّمها وضمان مستقبل أجيالها القادمة. فقد زعزعت هذه الضربة الأسس التي قامت عليها إسرائيل، والتقدم الكبير الذي حققته في العقود الماضية. ونخطئ إن اعتقدنا أن هذه القوة وهذا التقدم الاستثنائيين ناجمان عن الحمية القومية أو التمسك بالعقيدة الدينية. ما جذب ويجذب المهاجرين اليهود إلى فلسطين هو، بالدرجة الأولى، الامتيازات الاستثنائية التي يقدّمها كل نظام استعماري لجمهوره، لقاء تجنيدهم في الحرب الدائمة ضد الشعوب التي انتزعوا منها أملاكها المنقولة وغير المنقولة وتوجيهها نحو المستوطنين الجدد الذين يجدون أنفسهم، وقد تحولوا إلى أسياد وإقطاعيين جدد بمجرّد ولائهم للدولة الجديدة، وحصولهم على جنسيتها، بعد أن كانوا مشرّدين وفقراء في بلدانهم الأصلية. لكن ليس السطو على أملاك السكان الأصليين واستملاكها بالمجان منهم هو الذي يفسّر حجم هذه الامتيازات، وإنما الاستثمار الكبير الذي يضعه في الاحتلال التكتل الغربي الذي جعل من إسرائيل منذ البداية الحارس “الإقليمي” أو المحلي لمصالحه في المنطقة، لقاء عمله على استراتيجيته وتنفيذ خططه والتكفّل بردع شعوبها وحكوماتها ونخبها. وهو استثمار استراتيجي محض، لا علاقة له بما يُشاع عن تبرئة ذمة الغرب من المحرقة التي ارتُكبت بحقّ اليهود في أوروبا، ولا إشفاق قادته على ضحايا النازية.
من هنا، يبرز عمق الأزمة التي وضع فيه “طوفان الأقصى” إسرائيل وهدّد مستقبلها، فإذا فقدت إسرائيل دورها قوة ردع للحكومات والشعوب العربية وعصا غليظة يمكن توظيفها لضرب أي محاولة جدّية للتحرّر من هيمنتها أو القضاء على أي حالم بسياسة مستقلة تضع مصالح شعبه وأمته في المقدّمة أمام المصالح الاستعمارية، لم تعد للغرب مصلحة في الدفاع عن تفوّقها وسيطرتها والاستثمار العسكري والسياسي الهائل فيها. وإذا ضعُفت مساعدات الغرب العينية واللامنظورة، المالية والعسكرية والدبلوماسية والأيديولوجية والإعلامية، وخفت عوائد الاحتلال الاستراتيجية، لم يعد هناك ما يشجّع يهود الغرب والعالم على الالتحاق بها، وتحمّل عبء الحروب التي تستدعيها وظيفتها لقاء مزايا قليلة أو معدومة. وفي هذه الحالة، لم تعد لمشروع الاستيطان الصهيوني، أي لإسرائيل، جاذبية تذكر.
لذلك، من الصحيح أن إسرائيل تخوض اليوم معركة وجودها بمقدار ما تسعى من خلالها إلى إعادة تأكيد قدرتها الاستثنائية العسكرية والاستراتيجية على خدمة مموّليها من الدول الغربية. وكي تبرهن على ذلك، عليها أن تمحو عار الهزيمة التي تكبّدها جيشها وأمنها في 7 أكتوبر/ تشرين الأول، وأن تستردّ ردعيتها وتعيد جاهزيتها لإرهاب الدول والشعوب العربية وانتزاع خضوعها وإذلالها. وهذا هو التحدّي الأبرز التي تواجهه اليوم، والذي يجعلها تعتقد أنها أمام معادلة لا يمكن التراجع عنها، فإما وجودها، وهو يستدعي إنهاء الشعب الفلسطيني وقضيته التي تورّق عيشها وتنهي وظيفتها، أو وجود الشعب الفلسطيني الذي لا يعني انتزاعه دولة فلسطينية إلى جانبها إلا القضاء على دورها الجيوستراتيجي الذي بنت عليه سيطرتها وثروتها المادّية والرمزية وتفوّقها، أي أسطورتها الفعلية.
ما هو الموقف الذي يستجيب لمصالح الحكومات العربية في هذه المواجهة؟ لن يكون بالتأكيد النأي بالنفس عن المواجهة، واعتبار الأمر يتعلّق بالفصائل أو بغزّة أو بفلسطين والسعي إلى التوسّط لانهائها. ينبغي أن يكون بالعكس الاستفادة من أزمة نظام الفصل العنصري الإسرائيلي، ومن ورائه أزمة السيطرة الغربية، والأميركية خصوصا، وتوظيفها من أجل توسيع دائرة مبادرتهم وهامش استقلال قرارهم وضمان مستقبل أفضل لدولهم ومجتمعاتهم.
هذا يعني أن يعملوا معا وبشكل منهجي، حتى لا تكون إسرائيل الرابحة في نهاية المطاف، وأن يتحقّق للفلسطينيين الجزء الأهم من الاعتراف بهم شعبا ومجتمعا سياسيا ودولة مستقلة وسيدة إلى جانب الدول الإقليمية الأخرى، فربح فلسطين هذه المعركة السياسية الكبرى لا يعني زوال إسرائيل، وهو ليس الهدف المنشود لهم الآن، وإنما تحجيمها وقلع أنيابها وتحويلها إلى دولة طبيعية خاضعة، مثل جميع دول المنطقة، لقانون واحد، هو القانون الدولي المطبّق من الأمم المتحدة وبقية القواعد والأعراف الدولية. وهو ما يقدّم لهذه الحكومات فرصة إعادة بناء علاقاتها مع إسرائيل وغيرها من للدول الإقليمية على أساس المواثيق الدولية السائدة والقائمة على مبدأ الندّية، أي المساواة المبدئية وتبادل المصالح، لا على الإكراه والإجبار بالقوة من طرف والإذعان من طرف آخر. وهذا ما سوف يشجّع المنقطة بأكملها على الخروج من همجيتها التي ارتبطت بشكل أساسي بحروب إسرائيل وتقويضها جميع الأعراف الدولية، والعمل بمنطق القوة والغزو في الداخل والخارج، ويحفّزها على الدخول تحت سقف القانون.
لا يتطلّب تبنّي هذا الخيار والسير فيه الانتصار العسكري النهائي للفصائل الفلسطينية على القوة الإسرائيلية المدجّجة بالسلاح الحديث، والمدعومة بشكل لا سابق له بالترسانة العسكرية الأطلسية الأميركية والأوروبية، فهذا مستحيل. إنه يستدعي فقط عدم التفريط بالإنجاز الفلسطيني الاستراتيجي والسياسي والإعلامي الذي صغر إسرائيل مهما حدث بعد ذلك، وحجّمها وفضح كذبها وخداعها للعالم، وعبأ قطاعات واسعة من الرأي العام العالمي، بما في ذلك، بل خصوصا، في الولايات المتحدة وأوروبا ضد ما أصبح واضحا أن إسرائيل، التي اعتادت مع الغرب على ترديد أنها الديمقراطية الوحيدة في المنقطة، لتبرير الدعم المطلق واللامشروط لها، ليست سوى دولة فصل عنصري، وقوّة همجية لا تتقيّد بأي معايير دولية أو قيم إنسانية. ويمكن للعرب، بالبناء على ذلك، أن يفرضوا على الأميركيين الذين من المفروض أن يعترفوا بأنه لم يعد بمقدورهم حماية مصالحهم في المنطقة بالقوة الإسرائيلية التي “نفّستها” الفصائل الفلسطينية، ولا بد لهم من بناء علاقاتهم مع الدول العربية على أسس أكثر احتراما لاستقلال الأخيرة ومصالحها وحقها في أن تردّ بشكل إيجابي أكثر على تطلعات شعوبها.
نجاح الحكومات العربية في التوصل إلى فرض مثل هذه العلاقة الأكثر استقلالية مع الولايات المتحدة والغرب لن يمكّنها من فرض احترامها على الآخرين فحسب، وإنما من الانفتاح على شعوبها وتوفير الأموال المستثمرة في سباق السلاح وفي الحروب وإعادة إعمار البلدان المدمّرة هنا وهناك، لتحسين شروط معيشة شعوبها وتأهيلها، وهو ما يقلّل من مخاطر الثورات والانتفاضات، ويفتح باب التحوّل الديمقراطي التدريجي، بمقدار ما يغيّر المناخ العام العدواني السائد اليوم في العلاقات بين الدول وداخلها بين الحكومات أو النخب الحاكمة الخائفة والشعوب المكلومة أو المنكوبة أو كليهما.
والخلاصة أن ما شهدناه منذ شهرين ولا نزال نشهده من نجاح فئة قليلة من مقاتلي الفصائل من زحزحة اللوائح التكتونية الساكنة، وتغيير موازين القوى، فصل جديد ملحمي من مسيرة تصفية الاستعمار الطويلة والعنيدة، وإحدى معاركها الكبرى والاستثنائية، تشبه معركة الجزائر العاصمة (1957) التي دقّت جرس الانسحاب الاستعماري الفرنسي. وللأسف، لن يكون الفصل الأخير. فلا تزال هناك شعوب وجماعات عديدة تعيش تحت الاحتلال، وتتعرّض للتمييز والاضطهاد والتمييز العنصري، لكنه يظل تأكيدا مُلهما لحتمية عودة التاريخ إلى سياقه الطبيعي، أعني التحرّر الإنساني والاتجاه نحو العدالة والمساواة، بالرغم من جميع العقبات، لكنه يبقى قبل ذلك تتويجا لروح التضحية الاستثنائية والبطولة الإنسانية والإيمان بالقضية ورفض الاستسلام لقدر القوة والظلم. وأول من ينبغي أن يستلهم درسَه السوريون القابعون تحت وطأة الديكتاتورية الوحشية التي هي المنتج المسخ لتواطؤ السيطرة الإسرائيلية الاستعمارية والاستبداد البغيض.
——————————–
لماذا يجب أن تكون الصين وروسيا ممتنّتين لنا؟/ مروان قبلان
13 ديسمبر 2023
على مدى أكثر من عقدين، والعالم الإسلامي (قوى وتيارات وحكومات فيه) يقدّم من حيث لا يقصد، وأحيانًا من حيث لا يدري، خدماتٍ جليلة لكل من الصين وروسيا، ويتلقّى حتى ضربات موجعة نيابة عنهما. في مطلع العام 2001، عندما بدأت الولايات المتحدة، مع وصول إدارة جورج بوش الابن إلى الحكم، تتنبّه إلى مخاطر صعود الصين، وتنظر إليها باعتبارها التحدّي الاستراتيجي الأكبر الذي يواجهها في القرن الحادي والعشرين، متجاهلةً طروحات “الخطر الإسلامي” التي كان يرفعها أصدقاء إسرائيل في واشنطن، وقعت هجمات 11 سبتمبر (2001)، وتغيّرت على الأثر كل توجّهات الولايات المتحدة العالمية، لتصبّ جام غضبها على العالم العربي – الإسلامي، وتطلق سلسلة حروب فيه استمرّت عقدين، بدأت بغزو أفغانستان في أكتوبر/ تشرين الأول 2001، وانتهت بالانسحاب منها في أغسطس/ آب، وبينهما خاضت الولايات المتحدة في دماء العالم العربي – الإسلامي تحت مسمّى “الحرب على الإرهاب”. خلال هذين العقدين، استفادت الصين بشدّة من انصراف الولايات المتحدة عنها لبناء قوة اقتصادية وعسكرية جعلتها اليوم تتبوأ المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة. ويتوقع كثيرون أن تتجاوزها في مرحلة ما خلال القرن الجاري. عندما استيقظت الولايات المتحدة على التقدّم الذي حققته الصين في غفلة منها، في عهد أوباما، الذي قرّر الانسحاب من العالم الإسلامي مطلقًا استراتيجية التمحور حول آسيا (Pivot to Asia) لمحاصرة الصين، برز تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، واستولى على مساحات واسعة من العراق والشام، وأعاد الولايات المتحدة إلى حروب العالم الإسلامي تحت مسمّى أضيق، وهو “الحرب على داعش” (2014 – 2019).
استفادت روسيا أيضا كثيرا من تورّط أميركا في العالم الإسلامي، وجنت مكاسب كبيرة بين غزو العراق (2003) وانطلاق الحرب على “داعش” (2014). وتمثّل أحد أبرز مظاهر الاستفادة الروسية في ارتفاع أسعار النفط، نتيجة تعطّل صناعة النفط العراقية، بسبب الحصار والغزو من جهة، والعقوبات المشدّدة التي فرضتها الولايات المتحدة على إيران، لدفعها إلى التفاوض على برنامجها النووي، من جهة ثانية، خصوصا بعد صدور قرار مجلس الأمن 1929 لعام 2010، والذي صوّتت روسيا الى جانبه، لفرض عقوباتٍ غير مسبوقة على إيران. وقد جنت روسيا مئات مليارات الدولارات خلال عقد من ارتفاع أسعار النفط، ما ساعدها على تسديد فاتورة ديونها الكبيرة حينئذ، وإعادة بناء مكانتها في سوق الطاقة العالمي، وإطلاق برنامج لتحديث قواتها المسلحة التي انهارت قدراتها خلال التسعينات، على ما دلّت عليه حرب الشيشان الأولى (1993-1996). كما استغلت روسيا كذلك انشغال الولايات المتحدة عنها لتغزو جورجيا عام 2008، وتضمّ شبه جزيرة القرم عام 2014، وتتدخّل عسكريا في سورية عام 2015.
في عام 2021 جاءت إدارة بايدن الى السلطة، واهتمامها منصبٌّ على الخروج من العالم الإسلامي، واستعادة التركيز على الصين، وبدرجة أقلّ روسيا. وبالفعل، قرّرت واشنطن الانسحاب من أفغانستان، حتى لو كان الثمن عودة هذه الأخيرة إلى مربّع عام 2001 (عودة حركة طالبان إلى السلطة). كما دخلت في مفاوضات مع إيران، لاستعادة العمل باتفاق 2015 النووي على أمل تحقيق استقرار نسبي في منطقة الخليج والشرق الأوسط، يسمح لها بنقل كل اهتماماتها إلى منطقة الإندوباسيفيك. وعندما ارتكبت موسكو أول أخطائها، بعد وصول بايدن الى الحكم، بغزوها أوكرانيا، استغلّت واشنطن ذلك، لإلحاق هزيمة استراتيجية بها وتدفيعها فاتورة عقدين من عدم المحاسبة. وفيما كانت واشنطن تنقل تركيزها مطمئنةً من الشرق الأوسط إلى شرق آسيا، معتقدة بإمكانية دمج إسرائيل في المنطقة العربية عبر ما تسمّى “الاتفاقات الابراهيمية” التي تقوم على التطبيع بين العرب وإسرائيل، بمعزل عن حل القضية الفلسطينية، وقعت أحداث 7 أكتوبر.
جاءت أحداث غزّة بمثابة مفاجأة سارّة غير متوقعة لموسكو وبكين، وكانت كل منهما تئنّ تحت وطأة الضغوط الأميركية، لتعطّل كل خطط بايدن للخروج من الشرق الأوسط (حيث يجب أن تبقى أميركا عالقة). حوّلت واشنطن الذخائر التي كانت في طريقها من أوكرانيا إلى إسرائيل، لتسقط على غزّة بدلا من الجزء الروسي في أوكرانيا، فيما اتّجهت حاملات الطائرات الأميركية من بحر الصين، لتتمركز في الخليج وشرق المتوسط. ولو أنفقت روسيا والصين الدهر بعد هذا في شكرنا فلن توفينا شيئًا من حقّنا.
——————————-
واشنطن الخصم والحكم/ علي العبدالله
13 ديسمبر 2023
لم يكن استخدام الإدارة الأميركية حقّ النقض (الفيتو) في مجلس الأمن ضد مشروع قرار قدّمته الإمارات يدعو لوقف إطلاق النار فورا في قطاع غزّة مفاجئا، في ضوء اعتبارها عملية طوفان الأقصى، التي نفذتها كتائب عز الدين القسّام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، يوم 7 أكتوبر، استهدفت سعيها إلى صياغة نظام إقليمي جديد، وخصوصا دمج إسرائيل فيه، يتّسق مع مصالحها، كما استهدفت مصلحة استراتيجية لها بعرقلة تنفيذ مشروع ممرّ المتوسّط مع الهند والسعودية والإمارات ودول في الاتحاد الأوروبي، وأن نتائج عملية الطوفان ستصبّ في صالح خصومها، إيران وروسيا والصين بالضرورة، ما جعل الحدّ من مفاعيلها مصلحة أميركية عليا، وجعل تبنّي الرواية الإسرائيلية التي اعتبرت عملية الطوفان تهديدا وجوديا، مصلحة وطنية والتحرّك لحماية الدولة – الثكنة التي رعتها ودعمتها ماليا وصناعيا وعلميا وعسكريا، كي تستطيع القيام بالدور المطلوبة منها في خدمة المصالح الجيوسياسية والجيواستراتيجية الأميركية في منطقةٍ شديدة الأهمية.
لم تكتفِ الإدارة الأميركية بعرقلة صدور قرار من مجلس الأمن، يدعو إلى وقف إطلاق النار، بل ووضعت شرطا تعجيزيا لهذا الوقف، وهو استسلام حركة حماس، كما أعلن وزير خارجيّتها، أنتوني بلينكن، ودعمته بتزويد الجيش الإسرائيلي بـ 45 ألف قذيفة دبّابات، كي يواصل تدميره الوحشي قطاع غزّة، وإبادة الشعب الفلسطيني، للضغط على “حماس” عبر تحميلها مسؤولية أخلاقية لموت الضحايا الفلسطينيين. شرط يعني نهاية الحركة، ومسح مفاعيل عملية الطوفان، وردع أي جهةٍ تفكّر في مهاجمة إسرائيل مستقبلا.
لم يتطابق حساب القرايا مع حساب السرايا، حيث لم ينجح الجيش الإسرائيلي في دفع “حماس” إلى الصراخ، فالأخيرة التفّت على الفخ على لسان عضو مكتبها السياسي، رئيس مكتب العلاقات الدولية والخارجية، موسى أبو مرزوق، بقوله “النازحون واللاجئون مسؤولية أونروا والأمم المتحدة”. وزاد في تعقيد موقف الإدارة وحرجه خروج تظاهرات عارمة في جميع أرجاء العالم، بما في ذلك في مدن وجامعات أميركية كبيرة، تطالب بوقف إطلاق النار، تحت تأثير الصور القاسية التي تصل من قطاع غزّة لجثث ممزّقة وأطفال تغطّي وجوههم وأجسادهم الدماء ونيران تلتهم البيوت والأجساد العالقة تحتها، من جهة، والانطباع الإيجابي لصورة “حماس” وكتائب القسّام الذي خلفته عمليات تبادل الأسرى والمختطفين، حيث الطمأنينة ظاهرة على الأسرى والمختطفين الإسرائيليين وتبادل الابتسامات والمودّة مع الخاطفين، على الضدّ مما أظهرته صور الإفراج عن السجناء الفلسطينيين الذين تعرّضوا للضرب والإهانة ومنع الأهل والمستقبلين من إظهار البهجة والسرور وتوزيع الحلويات. وفي مؤتمره الصحافي يوم 27/11 الماضي تباهى القيادي في حركة حماس، أسامة حمدان، بالمعاملة الإنسانية التي عاملت بها كتائب القسّام الأسرى والمختطفين من دون أن يلتفت إلى الوجه الآخر للصورة، وهو وجود مختطفين رضّع وعجائز من ذوي الاحتياجات وأطفال ونساء مرضى، ما يشير إلى عوار في السلوك الحمساوي، وحصول تباين في الرأي داخل الحزب الديمقراطي بشأن الدعم الأميركي غير المحدود أو المشروط لإسرائيل بين التيار التقدمي والشبابي من جهة وأركان الإدارة من جهة ثانية، بما في ذلك داخل الكونغرس، حيث طالبت مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ، في رسالة وجّهتها إلى الرئيس، الإدارة ببذل المزيد من الجهود لحماية المدنيين في قطاع غزّة وبضمان عدم استخدام الأسلحة التي تُرسل إلى إسرائيل بطريقةٍ تنتهك القانون الدولي. ما دفع الإدارة إلى الإعلان عن رأيها بما يقوم به الجيش الإسرائيلين وما تعلنه قيادته عن سير العدوان وأهدافه، كاشفة عن تباين في الموقف، رافضة احتلال قطاع غزّة وتهجير سكّانه وإنقاص مساحته، بإقامة منطقة عازلة، وضغطت من أجل العودة إلى المفاوضات بشأن الأسرى والمختطفين، ودعت إلى وضع قطاع غزّة، تحت إدارة سلطة وطنية فلسطينية معزّزة، في محاولة لكسر عزلتها الدولية. ولكن من دون التخلّي عن موقفها من وقف إطلاق النار أو “سحق حماس”. هذا بالإضافة إلى تركيزها على ضرورة وضع تصوّر متفق عليه لليوم التالي للحربن وضرورة العودة إلى حلّ الدولتين.
لا يعني وجود خلافاتٍ في الرأي بين الإدارة الأميركية وحكومة إسرائيل وجود فرصة لتغيير السياسة الأميركية من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فلإسرائيل موقع هام في الحسابات الجيوسياسية والجيوستراتيجية الأميركية، ضبط الوضع في الإقليم وحماية المصالح الأميركية، وكل ما يقدّم لها من مساعداتٍ ماليةٍ وعلميةٍ وعسكريةٍ يعتبر ثمنا بخسا مقابل المهام التي تقوم بها في خدمة المصالح الأميركية، في عام 1991 وقع خلاف بين إدارة الرئيس الأميركي، جورج بوش، ورئيس حكومة إسرائيل آنذاك، إسحق شامير، فهدّد بوش بتجميد ضمانات القروض التي تقدّمها الولايات والمتحدة لإسرائيل، فردّ وزير الدفاع حينذاك، إرئيل شارون، “ما تدفعه الولايات المتحدة لإسرائيل مبلغ تافه، 3.8 مليارات دولار سنويا، فلو أنها صرفت على قاعدة أميركية في الخارج فيها عدد يوازي القوات الإسرائيلية لصرفت 83 مليار دولار سنويا”.
لذا كان لافتا ما طلبه حمدان في مؤتمره الصحافي من الرئيس الأميركي، جوزيف بايدن، بأخذ “قرار حاسم بإجبار إسرائيل على وقف عدوانها ضد شعبنا وعلى قطاع غزة ومباشرة وقف تزويد الكيان الصهيوني بأي نوع من الأسلحة والذخائر والعتاد الذي يقتل به شعبنا كل يوم”، و”إعادة النظر في علاقة الولايات المتحدة مع الكيان الصهيوني ووقف اعتباره حليفا استراتيجيا، فلا يأتي من وراء هذا الكيان إلا الدمار والخراب، وأدعوه إلى إعادة صياغة علاقات الولايات المتحدة مع أبناء المنطقة الحقيقيين والتوقف عن ربطها بالطارئين على هذه المنطقة، هذه العلاقات يجب أن تكون على أساس احترام حقوق أبناء المنطقة ومصالحهم، ثقافتهم وتاريخهم، فهذا هو الذي يحقق الاستقرار والأمن والسلام في المنطقة”. فدور الولايات المتحدة في إقامة دولة إسرائيل على أرض فلسطين ليس هامشيا أو طارئا، فقد بدأ مبكّرا مع الصهيونية المسيحية، قبل نشوء الحركة الصهيونية اليهودية التي تبنّت فكرة قيام دولة إسرائيل، باعتبارها ترتيبا إلهيا، ودعت إلى إقامتها ودعمها.
كان الرئيس الأميركي، جون أدامز، قد دعا عام 1818 إلى “إعادة” اليهود إلى فلسطين، وإقامة حكومة يهودية مستقلة، وتبنّى الرئيس الأميركي، توماس وودرو ويلسون، وعد بلفور، بعد أن أضاف كلمة قومي إلى النصّ الأصلي للوعد، ليعني قيام كيان سياسي، دولة، وليس مجرّد مكان للعيش، حيث كانت الصيغة التي عرضها عليه وزير خارجية المملكة المتحدة، آرثر جيمس بلفور، تقول بإقامة وطن لليهود في فلسطين، وقيادة جنرال أميركي برتبة عميد عمليات العصابات الصهيونية، الهاغانا وشتيرن والبالماخ، في حرب الـ 48، وسياستها الثابتة إزاء الصراع العربي الإسرائيلي القائمة على تمكين إسرائيل، وضمان تفوّقها العسكري على الدول العربية مجتمعة، ودعمها اقتصاديا بجعالة سنوية ثابتة تفوق الثلاثة مليارات دولار، قدّمت لها منذ قيامها عام 1948 ما بين 130 و278 مليار دولار، وقرارها حسم قيمة تبرّعات الشركات والأفراد الأميركيين للمؤسّسات الإسرائيلية غير الربحية من الضرائب السنوية المستحقة عليهم، بالإضافة إلى حمايتها سياسيا باستخدام حقّ النقض (الفيتو) في مجلس الأمن، استخدمته 45 مرّة لمنع إدانتها ومعاقبتها. وكان موقفها في كل الحروب العربية الإسرائيلية إلى جانب إسرائيل، بذريعة “حقّ الدفاع عن النفس” لدولة صغيرة محاطة بأعداء يفوقونها عددا بمئات المرّات؛ وتعويضها ما تخسره في هذه الحروب من أسلحة وذخائر، وجديدها أخيرا الـ 14.3 مليار دولار لتغطية احتياجاتها الاقتصادية والعسكرية في عدوانها الحالي.
لكن هذا لا يعني عدم حصول تباين مصالح في لحظة سياسية معينة، سبق وتباينت المصالح مرّات ومرّات، أخيرا على الاتفاق النووي الإيراني، وحصول ضغوط دبلوماسية أو اقتصادية أو عسكرية أميركية على إسرائيل، وإسرائيلية على أميركا، لكن عمق الترابط والتطابق يجعلها تباينات عابرة لا يُبنى عليها، ولا تفتح على تغيير استراتيجي أميركي. وهي حاليا متباينة إلى حد التناقض، فمصلحة الرئيس الأميركي توقّف الحرب في أسرع وقت، نهاية العام الجاري حسب محلّلين، خدمة لبرنامجه السياسي المرتبط بالانتخابات الرئاسية التي باتت على الأبواب، بينما مصلحة رئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو، وحكومة اليمين المتطرّفة استمرار الحرب وتمدّدها لأن توقفها يعني فتح صندوق باندورا، ما يرجّح التصادم والضغط الأميركي على نتنياهو، لأن ساعة بايدن السياسية تتطلّب ذلك، والأميركيين لا يفكرون إلا بمصالحهم، حتى ولو قاد تحقيقها إلى دمار كبير. كانت وزيرة الخارجية الأميركية، مادلين أولبرايت، قد علقت على ضحايا العراق من المدنيين والأطفال الذين فاق عددهم النصف مليون ضحية بالقول: “ذلك خيار صعب جدا. ولكن نعتقد أن الثمن مستحقّ”.
———————————-
عجز النظام العربي الرسمي وتحدّيات غزّة/ عبد الباسط سيدا
12 ديسمبر 2023
بات الضعف العربي الرسمي واقعاً مفضوحاً مكشوفاً أمام الجميع. وجامعة الدول العربية في واقعها الراهن أعجزُ من أن تقدّم المبادرات، وتعمل على تنفيذها لمعالجة المشكلات المزمنة ضمن الدول العربية نفسها، ناهيك عن التي بينها وبين دول الجوار، وهي مشكلات تسبّبت في شل الدول (سورية، لبنان، العراق، تونس، ليبيا، السودان)، وأدّت إلى تخريب الاجتماع، وتدمير العمران، وتبديد الثروات والموارد البشرية. يؤكّد ذلك ما حدث ويحدُث في غزّة منذ أكثر من شهرين نتيجة الحرب الإسرائيلية على المدنيين، وأغلبهم من الأطفال والنساء والشيوخ والمرضى، تحت شعار الانتقام من غزّة وأهلها ردّاً على عملية طوفان الأقصى التي نفّذتها حركتا حماس والجهاد الإسلامي؛ وهو شعارٌ يجسّد عقلية متغطرسة تمارس العقاب الجماعي بحقّ الأبرياء، وتهدّد كل منتقد للانتهاكات ومطالب باحترام حقوق الإنسان، بمختلف الصفات القدحية، حتى أن الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، نفسه لم يسلم شخصياً من تهديدات مسؤولي (وممثلي) الحكومة الإسرائيلية التي تعدّ من أكثر الحكومات يمينية وتشدداً في تاريخ إسرائيل، وهي تهديدات وصلت إلى حد المطالبة بإقالة الرجل. فالدول العربية بصورة عامة، ما عدا دول مجلس التعاون الخليجي، وتلك التي فيها مؤسّسات أمنية وعسكرية موحّدة متماسكة ومنسجمة مع القيادة السياسية، إلى جانب علاقاتها المقبولة نسبياً مع شعوبها، تعاني من أزماتٍ بنيويةٍ ووجوديةٍ تهدّد الوحدة الاجتماعية والجغرافية للدول المأزومة، خصوصا في أجواء مساعي دول إقليمية، وأخرى مؤثرة على المستوى العالمي لاستغلال الظروف والتمدّد والتغلغل إلى مفاصل الدول المعنية؛ والتحكّم بقراراتها وتوجيهها نحو المسارات التي تنسجم مع حساباتها ومصالحها، سواء التكتيكية الراهنة منها أو الاستراتيجية بعيدة المدى. ويُشار هنا، على سبيل المثال، إلى سورية ولبنان والعراق واليمن والسودان وليبيا.
تعاني هذه الدول من انقسامات داخلية بيْنية مفتوحة علنية، أو كامنة مضمَرة قد تتعرّض للانفجار في أي لحظة، إذا ما توافقت التوجّهات الداخلية مع الحسابات الإقليمية والدولية، وتبلورت معالم استقطابٍ حادّ بين القوى المجتمعية التي جعلتها عقودٌ من سياسات الاستبداد والفساد، وقطع الطريق على إمكانية ظهور بديل وطني مقبول، يمتلك الأهلية والمصداقية لطمأنة سائر المكوّنات المجتمعية الوطنية، مصفوفة ضمن خانات عمودية تتحكّم فيها قوى مفروضة بناء على حسابات إقليمية أو دولية، ولا تمتلك الأهليّة والمصداقية لطمأنة المكوّنات المجتمعية الوطنية الأخرى، عبر احترام خصوصيّاتها وحقوقها، وضمان دورها المستقلبي الإيجابي الفاعل على صعيد المشاركة العادلة في الإدارة والثروة، والحرص على مستقبل الأجيال المقبلة. فالأنظمة الجمهورية العسكرية العربية لم تتمكّن من بناء مؤسّسات مستقرّة حتى على صعيدي الجيش والأجهزة الأمنية؛ وإنما اعتمدت مبدأ الولاء المطلق للحاكم، وكانت خاضعة باستمرار لتقلبات مزاج الأخير، وتحالفاته وارتباطاته الإقليمية والخارجية. وبطبيعة الحال، كان هذا الحاكم شبه المؤلّه يتعاون مع زمرةٍ محدودة العدد، قابلة للتعديل والتحكّم عبر التهميش أو التغييب إبعاداً أو اغتيالاً؛ لذلك انهارت هذه الأنظمة مع رحيل الحاكم الأبدي أو ترحيله، أو حتى قتله، لتعيش الدولة مرحلة فوضى عارمة، يسود فيها الفساد والتدخلات الأجنبية، إلى جانب الصراعات الداخلية، وانتظار كل طرفٍ اللحظة التي يعتقد أنها مناسبة حاسمة للانقضاض على الخصم المنافس المتربّص.
وجدير بالذكر هنا أن الأنظمة المعنيّة اعتمدت سياسة شعبوية تمثلت في الالتحاف بشعارات قومية اشتراكية كبرى، مثل: تحرير فلسطين وعربستان ولواء إسكندرونة…، وتوحيد الوطن العربي، وربط النضال القومي مع الطبقي. كما سوّقت نفسها باسم ثوراتٍ مزعومةٍ كانت في حقيقتها انقلاباتٍ ومؤامراتٍ على الرفاق والشركاء، وهي انقلاباتٌ أثبتت الوقائع الملموسة لاحقاً أنها كانت كارثية على حاضر شعوب الدول التي عاشتها ومستقبلها، فقد دمّرت تلك الأنظمة المجتمع الأهلي التقليدي في الدول المستحدثة التي كُلفت بإدارتها، واستخدمت كل أساليب البطش والقوة لإجبار الناس على التقيد بالأوامر، بغية تحاشي الاتهامات والعقوبات الكبرى.
وجديرٌ بالذكر هنا أن هذا المجتمع (الأهلي) كان قد تشكّل على مدى عقود، تمكّنت خلالها نخبه من الحصول على ثقة الناس واحترامهم بفضل المؤهّلات والمواقف التي أثبتت قدرة تلك النخب على القيام بمهمة الوسيط القادر على تخفيف الصدمات بين الشعوب والسلطات، بل وتجسير الهوة بينهما، وتدوير زوايا الاختلاف، والبحث عن الحلول الممكنة. وذلك بقصد منع انفجار الصراعات، والعمل على فتح الآفاق أمام التفاهمات التي تكرّس التوازن والاستقرار على الصعيدين، الاجتماعي والسياسي. وما دفع الأمور نحو مزيدٍ من التأزّم في الدول المعنيّة هنا انسداد الأبواب أمام تشكّل مجتمع مدني مستقلٍّ فعليٍّ بالمقاييس المعاصرة، لا مجرّد واجهات تزيينية للأنظمة المعنية، فقد كان في مقدور هذا المجتمع ملء الفراغ الذي حدث نتيجة تدمير المجتمع الأهلي التقليدي.
وامتد التخريب في الأنظمة المعنيّة ليشمل الجانب السياسي أيضاً؛ إذ جرى منع الأحزاب؛ أو إخضاعها لحملات استهدفت تقسيمها وتدجينها، وجعلها مجرّد استطالات شحمية لوضعية الفساد والإفساد؛ حتى فقدت المصداقية، ولم تعد قادرة على فرض نفسها البديل الممكن. بل اللافت أن هذه الأنظمة، ومعارضاتها، ركّزت على الشعارات الكبرى التي كان الغرض منها قطع الطريق على المطالبات الشعبية بضرورة التركيز على الأوضاع والحاجات الداخلية، بل منعها، وتوصيف أصحابها بمختلف السمات القدْحية، وتوزّعت تلك الشعارات المرفوعة، سواء من الأنظمة أو من المعارضات بين توجهين أساسيين: الأول القوموي الذي كان يقدّم نفسه بنكهة اشتراكية منسجمة مع الموضة التي كانت. واتّخذ الثاني من الإسلاموية الموشّاة قوموياً أيديولوجية له.
وغالباً ما كانت المبالغات التي كرّست التطرّف في طروحات الطرفين المتصارعين (الحكومات والمعارضات) وسلوكياتهما، وهو التطرّف الذي لم يساعد في معالجة القضايا الداخلية بموجب مشاريع وطنية كان من شأنها التركيز على الأوضاع الداخلية أولاً، وطمأنة سائر القوى المجتمعية والسياسية، عوضاً عن زرع بذور الشك والتوجّس بينها، وسد المنافذ أمام الثقة الوطنية المتبادلة، إذا صحّ التعبير. هذا في حين أن الأوضاع في الدول الخليجية تميّزت بصورة عامة بالاستقرار، وغياب الصراعات الدموية العنيفة على السلطة، مقارنة، على سبيل المثال، بما كان عليه الحال في سورية والعراق واليمن والسودان وليبيا والجزائر، وهي الدول التي تشاركت في ما بينها بالأيديولوجية القومية الاشتراكية. وذلك في الفترة التي امتدت ما بين ستينيّات القرن المنصرم وتسعينيّاته.
وفي هذا المجال، هناك تفسير نمطي يقدّم عادة لتفسير وضعية الاستقرار الخليجي مقارنة مع الأوضاع التي كانت، وما زالت، سائدة في دول الأنظمة الجمهورية العسكرية، أن الإمكانات والثروات المادية الكبيرة هي التي حالت، وتحول، دون الانفجارات الداخلية، فلدى هذه الدول القدرة على تأمين المطالب الأساسية لمواطنيها، خصوصا في ميادين التعليم والعمل والصحة والخدمات الاجتماعية، والبنية التحتية، ومكّنها ذلك كله من التمتّع بالاستقرار المستدام.
قد يبدو هذا التفسير مقبولا لأول وهلة، ولكننا إذا أخذنا بالاعتبار على سبيل المثال واقع نماذج ليبيا والعراق والجزائر، وحتى مصر، سنلاحظ أن ثروات هذه الدول لا تقلّ عن ثروات دول الخليج؛ غير أن المشكلة تتمثل في عدم الاستخدام الرشيد لها، كما تتشخّص في حالات الفساد الكبرى التي تلتهم، بأرقامها الفلكية، الإمكانات الوطنية لصالح أفراد محدّدين، ومجموعات محدّدة من التسلّط على الحكم والثورة بالتعاون مع القوى المتحكّمة عالميا على المستويين، السياسي والاقتصادي. هذا في حين أن قطاعات واسعة من شعوب هذه الدول تعاني من الفاقة والحرمان، وتفتقر إلى أبسط الخدمات الحياتية كالكهرباء والماء النظيف، والرعاية الصحية، والمواصلات العامة، هذا ناهيك عن تفاقم المشكلات البيئية والاجتماعية بكل أسمائها وتدريجاتها في الدول المعنية.
وهنا نرى ضرورة البحث عن تفسيرات أخرى خارج نطاق التفسير الخاص بفائض الثروة، رغم أهمية دور هذا العامل في تحقيق الاستقرار عبر تأمين الاحتياجات الراهنة، والاستعداد للتحديات المستقبلية. ومن التفسيرات التي تحتاج إلى مزيد من الدراسة والتعمق، يُشار هنا إلى طابع الاعتدال الذي تتميّز به المجتمعات الخليجية، ونعني بذلك الاعتدال القومي والديني-المذهبي البعيد عن الشعارات الاستفزازية التي غالباً ما تعتمد التخوين والتكفير سلاحاً لتهديد الخصوم، وشلّ قدراتهم في ميدان التأثير على الأوضاع الداخلية. وليس هذا الاعتدال سمة فطرية أو وراثية مغروسة لدى المواطنين في هذا المجتمع دون ذاك، وإنما هو حصيلة عملية تراكمية كان من بين أهدافها الأساسية المحافظة على التماسك المجتمعي، بالإنسجام مع الأعراف والقواعد والعقائد المتوافقة مع الهوية المجتمعية الوطنية، القابلة للارتقاء إلى مستوى تحدّيات العصر والتكيّف الإيجابي مع نتائجها. وهنا ربما يكون من المناسب العودة ثانية إلى أهمية المجتمع الأهلي الذي ما زال فاعلاً في الدول المعنيّة، ويساهم بنشاط في عملية منع حدوث الصدامات الجماعية العنيفة التدميرية داخل المجتمعات نفسها، وبين هذه الأخيرة والأنظمة السياسية التي تقود الدول المعنيّة.
وبالنسبة إلى الأنظمة التي تستمد استقرارها المفروض بالقوة من سطوة الدولة العمقية وقدرتها على التحكّم والتوجيه، فهو أمر يحتاج مساحة أوسع، ووقتا أطول لإجراء بحثٍ مستفيض، يقوم على المقارنة الواعية بين مختلف النماذج؛ لذلك نرى أنه سيكون من الأفضل إرجاء هذا الأمر إلى مناسبة أخرى.
—————————–
كم عزيزة قطرة الدم في غزّة/ سوسن جميل حسن
12 ديسمبر 2023
في الحروب تُحصد الأرواح وتُهدر الدماء، في وقتٍ تكون فيه كل قطرة دم ضرورية، إذ إن غالبية الإصابات، إن لم تكن كلها، جسيمة ينجم عنها نزوف وخسارة كبيرة من الدماء، وقد يكون تعويض الدم الفصل بين حياة المصاب أو موته.
للدم مكانة عليا في حياة الشعوب، قيمية وثقافية، ومنها شعوبنا العربية، فرابطة الدم من الروابط القوية بين الأفراد والعائلات والقبائل والشعوب (الدم ما بصير مَيّة)، على الرغم من أن منطق الحال والأحوال، والتطوّر العلمي، خصوصا باكتشاف الخريطة الجينية، وتاريخ البشرية الطويل الحافل بالغزو والحروب والتنقل والتزاوج والاحتلال والاستيطان، وغيرها، جعل الدم يختلط عبر الزمن، ولم تعد هناك مجموعاتٌ بشريةٌ نقية السلالة إلّا في ما ندر. ومع ذلك تبقى لرابطة الدم سطوتها وقوتها، وبسبب مكانة الدم في الوعي الجمعي، لا يخلو حديثٌ منه، تبنى عليها أمثال شعبية، يُحمّل صفات الناس وطباعهم، ويصنفون في شخصيات، فهناك خفيف الدم، وثقيله، وهناك من دمُه بارد ودمُه حامٍ، وهناك الشخص السمج، أي أن دمه لزج أو “سميك”، وهناك من يوصف بأنه “بلا دم”، أو دمه فاسد، وهناك من يقال عنه إن دمه أزرق، وغيرها من صفاتٍ تؤطر بها شخصيات البشر، وتوكل إلى الدم بصمتها.
ولا يخلو الأمر من ربط الدم بالقيم الجمالية أيضًا، يقال في جمال الفتاة “خدودُها حمرا متل الدم”. أما لناحية الخجل والحياء فيقال “احمرّ من الخجل”، أو عن قليل الحياء “ما بوجهه دم”، أو لمن استبدّت به نوبة غضب أو هلع “نشف دمه”. بل ارتبط بمفهوم الشرف، شرف القبيلة بشكل عام، بمفهومه الواسع كما جاء في بيت الشعر “لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى، حتى يراق على جوانبه الدم”، وهو دليل العفّة والعذرية لدى الفتاة عند شعوبٍ عديدة. بل للدم مكانة تاريخية تمتد إلى غابر الأزمان، ففي أسطورة الخلق البابلية خلق الإنسان من تراب ودم، وهو يسفح في محارب الآلهة، وتتفنّن الشعوب في تشكيل رمزيته واختراع الطقوس المتعلقة بهذه الرمزية، وطقس الأضحية من أقدم الطقوس وأكثرها شيوعًا لدى البشرية، وفي ثقافتنا يحتلّ الدم مكانة متعددة المستويات، حتى في الأدب والشعر جرى ذكره كحامل تيمة ما، أو عنوان لقصة أو رواية.
الدم الذي شكّل أسطورته تاريخيًّا يسفح ويسفك على تراب غزّة، وكل نقطة دم غالية معنويًا وماديًّا، فالدم، بتعريف بسيط، سائل يجري في عروق الجسم، يقدّر حجمُه بخمسة ليترات، يتكوّن من عناصر رئيسية، البلازما وكريات الدم الحمراء وكريات الدم البيضاء والصفيحات الدموية. أما البلازما، التي تحمل كل عناصر الدم، فتتكوّن من ماء وأملاح وبروتينات مهمة في الجسم، يشكل الألبومين العنصر الرئيس فيها، وهو ما يمنع السوائل من التسرّب خارج الأوعية الدموية إلى الأنسجة، كما أنه يحمل بعض الهرمونات التي تفرزها الغدد لتساعد الأجهزة في القيام بعملها، كما توجد بروتينات أخرى تشكّل الأجسام المضادّة، كالغلوبولينات المناعية، تواجه الميكروبات والفيروسات والفطريات والخلايا السرطانية وغيرها، في تعزيز القوة الدفاعية والجهاز المناعي في الجسم، عدا البروتينات التي تشكّل أهم لبنات عملية تخثر الدم، والضرورية لوقف النزيف.
هذه ببساطةٍ لمحةٌ عن الدم ومكانته الحيوية، وانطلاقٍا من تعدّد عناصره، وتعدّد وظائفها الحيوية، وأهمية الكتلة الدموية عند الشخص السليم، فقد تطوّرت الصناعات الدموية كثيرًا، منذ إنشاء أول بنك دم بعد الحرب العالمية الأولى، في أوائل ثلاثينيات القرن الماضي، بعد تجارب كثيرة قبل ذلك التاريخ، جرت في محاولة لنقل الدم، كانت بدايتها النقل مباشرة من دم المتبرّع إلى جسد المصاب، ثم محاولات تبريده وحفظه، ثم تجريب مانعات التخثر، وغيرها من تجارب كثيرة كانت تراكم خبرات في هذا المجال، إلى أن وصلنا إلى بنوك الدم والصناعات الدموية.
اليوم تعد بنوك الدم أحد أهم أركان المنظومة الصحية، في حالتي السلم والحرب، ففيها تتم عملية جمع الدم وحفظه في ظروف آمنة تضمن عدم فساده، بعد أن تكون عيّنات الدم قد خضعت لتحاليل محدّدة للتأكد من الفصيلة وعامل الريزوس وخلوّه من العوامل المعدية، ويوضع في ثلاجات بدرجة حرارة 4 مئوية. والطلب على الدم دائم في الحياة العادية للبشر، بعيدًا عن الحروب والنكبات، ما دامت المستشفيات تعمل وتؤدّي المنظومات الصحية دورها في علاج المرضى وحماية الحياة، وقد شاع في سورية منذ عقود أن يكون هناك شرط التبرّع بالدم عند التقدّم إلى وظيفة، أو التخرّج من الجامعة، أو الحصول على شهادة السواقة، وغيرها، وكان معظم الأفراد يلجأون في الغالب إلى الحصول على إعفاء من هذا الشرط بطريقة أو بأخرى كلها تعتمد على الفساد والرشوة، على الرغم من أن المتبرّع كان يحظى بـ”علبة بسكويت”. ولا بد من الإشارة إلى تناقضات أفراد شعوبنا، إذ عندما يتطلب الأمر تبرّعًا بسبب إنساني يهرع الناس تلقائيًّا إلى البنوك من أجل التبرّع.
كلّ ما قيل أعلاه عن الدم وقيمته ورمزيته والأساطير حوله لا يساوي شيئًا أمام قطرة دم لطفل من غزّة تُهدر، أو قطرة أخرى يحتاجها طفل، لا يساوي شيئًا أمام جريح يحتاج فقط إلى تعويض دمه المفقود لإنقاذ حياته، لا يساوي شيئًا أمام نزيف امرأة تعسرت ولادتها، أمام وليد ينزف لعدم حصوله على جرعة فيتامين K، ولا وجود لدم يعوض نزيفه.
أمام هذا الواقع الهمجي والحرب الوحشية التي تشنّها إسرائيل منذ شهرين على غزّة، وأرقام الضحايا الذي يفوق التصوّر، وقصف المستشفيات واستهداف المنظومة الصحية، وقطع الوقود، وتعثر وصول سيارات الإسعاف، وغياب الكهرباء ما يعطل البرادات، كيف لضمير فيه ومضة من الحياة ألّا يسأل ماذا عن الدم الذي يُسفك بحقد ويُسفح بغزارة تمتصّه الأرض ويغور بين ركام البيوت المدمّرة، بينما عدد الجرحى يفوق الوصف، ويفوق قدرة الإمكانات الصحية على تدبير الأمر، بينما الدم يهدر برخصٍ وحقد؟ كيف يتدبّر أطباء غزّة المنهكون أمر الجرحى، وهم بأمس الحاجة إلى تعويض دمهم النازف؟ مؤكّد أن الباقين في الحياة لا يبخلون بدمائهم من أجل جرحاهم، لكن ما السبيل إلى استغلال هذا الكرم النبيل بينما تعاني المستشفيات والمنظومة الصحية من فقدان المواد الطبّية والمخبرية؟ كيف تجرى التحاليل على عيّنات الدم إذا توفرت، وكيف تحفظ؟ وكيف يتم استثمارها في صوْن الحياة في ظل هذا التوحش الذي لم تشهده البشرية، وأمام أعين العالم كله؟
تعدّ بنوك الدم، أو يجب أن تعدّ، من أهم المرافق الصحية في مناطق النزاع. على الجهات المسؤولة والقوى الفاعلة والمجتمع الدولي دعمها وصيانتها وحمايتها وتأمين مستلزماتها، لأنها، ببساطة، شريان صحّي حيوي، بقدر ما هو الدم نسغ الحياة في الجسم، وضروري لوظائف الأعضاء والأجهزة..
إذا طالت الحرب أكثر، وطال معها الحصار والجوع، ربما يُصاب معظم الباقين في الحياة بفقر الدم، ومشكلات نقص عناصر الدم، وأهمها البروتينات، وليس هناك بنوك دم ولا صناعات دموية لعلاج الحالات المرضية المحتملة.
تأخُذنا مشاهد القصف والدمار والضحايا والهاربين من الموت، وتستبدّ بنا المشاعر. وفي الوقت نفسه، هناك تفاصيل كثيرة يمكن تصنيفها بأنها جرائم مستترة، مجرّد التفكير بها يجعل المرء ينقم على هذا العالم المصاب بعمى البصيرة، وتهتك الضمير.
—————————
العجز والتواطؤ العربي والدولي على غزّة/ بشير البكر
08 ديسمبر 2023
الحرب على غزّة أمام مزيج من حالة عجز وتواطؤ عربي ودولي. وفي كل يومٍ يمرّ، تتّضح الصورة أكثر، وخصوصا في العالم العربي. ومع أن جامعة الدول العربية عقدت قمّة عربية إسلامية في الرياض، وشكلت وفودا زارت الصين ودولا أخرى، إلا أن صوتها كان خافتا، وخطابها استجدائيا، ومهادنا. حتى اللحظة، لا نتيجة أمام عدوانٍ يجتاح أرضا عربية، تمدّه الولايات المتحدة، كل يوم، بأحدث الأسلحة التي تقتل المدنيين، وتهدم البنى التحتية والبيوت. وليس في وسع أحد أن يفسّر سبب هذا النأي بالنفس، عن جرائم الحرب التي تفتكُ بشعبٍ شقيق، سوى بلوغ جامعة الدول العربية وضعا مُزريا. وباتت دولها غير قادرة على اعتماد موقفٍ واحد، يحمي أهل غزّة من الإبادة، من خلال ممارسة ضغط على الحليفة الكبرى أميركا. وما يهمّ أكثر أن المواقف العربية تجاه غزّة هي نتيجة سلسلة من الانهيارات والتراجعات والهزائم الداخلية، والحسابات المحلية الضيقة. وعلى هذا، سوف تؤسّس لما ينتظر العالم العربي، ليس على مستوى سقوط التضامن فقط، بل فقدان القرار المستقل. وعلى الصعيد الشعبي، ليس الحال بأفضل مما هو عليه رسميا. وهو في أقصى ما وصل إليه، لم يبلغ سقف التضامن في بعض المدن الأوروبية. ويبدأ العجز الشعبي من أقرب نقطة إلى غزّة وهي مصر، ويتدحرج من بلد عربي إلى آخر، نزولا وصعودا، حتى يصل إلى حالة الصفر في بلد مثل الجزائر، الذي لم تخرج فيه مظاهرة تضامن واحدة، بسبب المنع الحكومي، بينما يلعلع الخطاب الرسمي، إن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة.
منع المظاهرات التضامنية مع غزّة في الجزائر مبرّره المباشر الخوف من عودة الحراك الذي يطالب برحيل النظام، غير أن بعض الدول العربية صريحة في منع التضامن مع غزّة، ومتواطئة مع إسرائيل، بل لم تعد القضية الفلسطينية تعنيها من قريب أو بعيد، ومنها ما يهمّها التطبيع، وإقامة علاقات جيدة مع إسرائيل تصل حتى التحالف. ولذا ليست مستعدة أن تُغضبها، وتطلب منها أن تتوقّف عن قتل المدنيين وتهجيرهم من أرضهم. وتقف هذه الدول متفرّجة، بانتظار أن تُنجز إسرائيل مهمّة استباحة قطاع غزّة، والقضاء على حركة حماس، وكل ما يمثل مقاومة مسلحة. وبذلك تصبح حرّة في تنفيذ مشروع ضم الضفة الغربية من دون عقبات. وسيمتدّ هذا المشروع إلى تقرير مستقبل المنطقة. وأول الغيث، سيكون على العرب أن يتحمّلوا فاتورة هذه الحرب بالمعنيين المباشر وغير المباشر، ومن ذلك أن يتقبلوا، بالقوّة، إسرائيل طرفا أساسيا في الشرق الأوسط.
لا يتعلق العجز بالعرب فقط، بل بالدول التي لم تتوقّف عن المزايدات الكلامية، مثل إيران، التي رفعت شعار “وحدة الساحات” لنصرة غزّة، في حين أنها لم تقدّم حتى الحد الأدنى مما يترتب عليها. ومع تهافت هذه الأطروحة، تكشّف للرأي العام أن إيران تستخدم العرب دروعا بشرية في نزاعاتها مع إسرائيل والولايات المتحدة، وفي كل مواجهةٍ، تكون شريكة في الربح وخارجة من الخسارة. ومن العجز إلى انعدام الوزن، والتواطؤ، تتبدّل المواقف من الصين إلى روسيا، وبعض بلدان أوروبا. وتبيّن أن بكين وموسكو أصبحتا خارج معادلة التأثير في الشأن الفلسطيني، وغير مهتمّتين بمواجهة الولايات المتحدة خارج حدود مصالحهما المباشرة. وفي صدد روسيا، بدأت نتائج حربها على أوكرانيا تظهر بوضوح، لجهة تهميش الدور وعدم الفاعلية وغياب الوزن والتأثير. ولذا لم يصدُر عنها أي موقف يُعتدّ به، أو يمكن البناء عليه. وتفوّقت عليها دولٌ أصغر، مثل النرويج وإسبانيا، ميّزت نفسها عن بقية دول أوروبا، الشريكة، مثل ألمانيا وبريطانيا، والعاجزة كفرنسا.
————————
============================
المدن
—————-
غزة تعيد الحرارة لجهاز الراديو/ بشير البكر
الإثنين 2024/01/08
عاد جهاز الراديو إلى الخدمة في غزة بقوة، بعدما صار خارج التداول على مستوى العالم. وأصبح في الآونة الأخيرة المصدر الوحيد للأخبار في القطاع، نظرا لتعذر استخدام التلفزيون والهاتف المحمول، بسبب قطع اسرائيل للكهرباء والاتصالات. وتجاوز دوره الإخباري، إلى تقديم خدمات إضافية، حيث يساعد الناس على رسم خريطة طريق لتحركاتهم وأماكن اللجوء التي يقصدونها، من خلال تحديد مواقع القتال والمعارك والقصف. وتحولت محطات إذاعية إلى مصادر رئيسية للمعلومات، مثل راديو تلفزيون العربي، بي بي سي، والجزيرة، بالاضافة الى الاذاعات الناطقة بالعبرية، التي تنقل الأخبار من اسرائيل.
لم يهزم التلفزيون الراديو بصورة كلية، رغم أن مكانته تراجعت نحو دراماتيكي في العقد الأخير، حتى أن هيئة البث البريطانية العريقة “بي بي سي” قررت قبل عام اغلاق المحطة العربية، التي بدأت البث بالعربية العام 1938، وشكلت المصدر الوحيد الموثوق للأخبار لاجيال عربية عديدة، ومدرسة للخبر الصحافي، لم تتمكن وسيلة إعلام اخرى من منافستها. وبررت المؤسسة قرارها بأن 5 في المئة فقط من إجمالي الجمهور يستخدمون الإذاعة فقط، وحسب الأرقام الرسمية “ما يقرب من 40 مليون شخص في الأسبوع، يلجأون إلى بي بي سي عربي لمعرفة الأخبار”.
تقدم أرقام متابعي راديو بي بي سي العربي قبل توقف البث العربي دليلا قاطعاً على أن المسألة لا تتعلق بعزوف الجمهور عن الراديو، كما هو شائع. ذلك أن 40 مليون مستمع عربي لأخبار المحطة اسبوعيا ليس بالقليل، ما يعني أن المستمعين لم يتحولوا كليا إلى الوسائل الأخرى للبحث عن الاخبار، وبالتالي فإن سبب توقف البث العربي يعود الى قرار المؤسسة التحول إلى الخدمات الرقمية، وهو يتعلق فقط بالكلفة الأقل من الناحية المادية، وتلبية فئة جديدة من المستمعين، تبحث عن محتوى يختلف عن الأخبار بصيغتها التقليدية.
كأن التاريخ الفلسطيني يعيد نفسه اليوم في غزة. وينفض عن الراديو الغبار، ويعيد الحرارة إليه، بعدما وضعته أغلبية الناس على الرف. وفي زمن بعيد نسبياً، وخلال أعوام لجوء وشتات وبدايات مقاومة الشعب الفلسطيني، شكل الراديو وسيلة اتصال وتواصل ونقل رسائل عادية، وشيفرات عسكرية وخطابات سياسية. وأكثر الفترات التي لعب فيها الراديو دوراً اساسيا، كانت حرب 1967 التي هجرت اعداداً كبيرة من سكان الضفة الغربية نحو الاردن وبلدان عربية أخرى، ونظراً لعدم وجود وسائل اتصال ميسرة مادياً وتقنياً في تلك الأيام، تحول الراديو إلى الوسيلة الأكثر شعبية لتوصيل رسائل المهجرين إلى ذويهم.
وخصصت اذاعات في الاردن وسوريا والعراق ومصر برامج خاصة، وساعات بث لنقل رسائل الفلسطينيين الى بعضهم البعض. وكانت اعداد كبيرة من الفلسطينيين تجلس خلال ساعة البث لتنصت إلى الرسائل، التي تأتي من بعيد حاملة أخبار المفقودين الذي صاروا خلف الحدود. ويتردّد عبر الأثير، انا فلان الفلاني من القرية الفلانية قضاء القدس في الضفة الغربية، أهدي سلامي إلى أمي خديجة ووالدي محمد في الاردن وأختي فاطمة في السعودية وأخي سعيد في سوريا، واقول له انتبه لدراستك لأنها رأسمالك اليوم. واخبر أهلي أن عمي صالح بخير وصل هو وعائلته إلى مدينة درعا واستقروا هناك، أما خالتي بدرية وزوجها ابو قدري وابنهم قدري وصلو العراق، وأبو قدري التحق بتعليم اللغة الانكليزية في مدارس الحبانية.
تصل الرسالة إلى كل افراد العائلة، ومن لم يسمعها مباشرة يجد من ينقلها إليه. يخبره أنه سمع عبر اذاعة صوت فلسطين رسالة من قريبهم فلان، وهو يهدي سلامه للجميع. ولا يتأخر الرد حتى يرسل الأب أو أحد الاشقاء رسالة جوابية، تنقل تفاصيل لجوء العائلة إلى هذا البلد أو ذاك، مع شروحات وافية عن الصحة والعمل والهواجس بشأن البيت والأرض وحتى الحيوانات التي تركوها خلفهم.
استمر هذا الوضع لسنوات، وصارت منظمة التحرير الفلسطينية تولي اهتماماً كبيراً للاذاعة، ولذلك حصلت على ساعات بث خاصة بفلسطين من بعض الاذاعات العربية، مثل صوت العرب واذاعة دمشق وبغداد وعمان، كما تمكنت من الحصول على موجات بث خاصة، وأقامت إذاعات في بعض الدول العربية، وكانت البداية من اذاعة درعا في جنوب سوريا، والتي تحوّلت إلى وسيلة تعبئة سياسية لمواجهة آثار النكسة، ومنها تخرج جيل من الاعلاميين الفلسطينيين، الذين تولوا لاحقا تأسيس الاعلام الفلسطيني الموحد في بيروت بعد خروج الثورة الفلسطينية من الاردن العام 1970، ومنها خرجت اذاعة فلسطين في لبنان التي أشرف عليها الاعلامي الفلسطيني نبيل عمر حتى خروج منظمة التحرير من لبنان بسبب الاجتياح الاسرائيلي العام 1982.
لعبت هذه الاذاعة دوراً مركزياً في ربط أوصال الشتات الفلسطيني، وإيصال الخطاب السياسي الرسمي لمنظمة التحرير الفلسطينية إلى شتى بقاع العالم، واستفادت من تسهيلات قدمتها حكومات عربية لإنشاء اذاعات خاصة بفلسطين من دمشق، الجزائر، وبغداد. واستمرّت في لعب هذا الدور بعد خروج منظمة التحرير من لبنان وخلال الانتفاضة الأولى 1987، وحتى هيمنة المحطات الفضائية والمواقع الالكترونية.
————————–
غزة لا تحتاج لتفاهة خلافاتنا/ سلام الكواكبي
الأحد 2024/01/07
مع دخول العدوان الإسرائيلي الهمجي على المدنيين، في فلسطين عمومًا وفي غزة خصوصًا، شهره الرابع، وفي وقت ساد خلاله، وما زال، صمت المؤسسة الرسمية العربية مع احتجاجات “خجولة” في الشارع العربي يمكن أن تُحال أسبابها إلى آلة القمع الرسمية على الرغم من هشاشة هذه الحجة، وفي مرحلة صار الفضاء الافتراضي مجالاً واسعًا للتعبير عن التضامن مع قضية الحق والإنسانية والتوعية والتنبيه لمآلات المقتلة الصهيونية، وفي أتون همجية إعلامية غربية موازية لآلة القتل الإسرائيلية ومتفهمة لها ومدافعة عنها، تزداد حدّة الخلافات بين من المفروض أن يكونوا من “اهل الصبي” أو من جاورهم، أي بين المؤيدين المبدئيين للحق الفلسطيني المشروع بالمناداة بالتخلص من الاستعمار الاستيطاني المفروض منذ 1948 على أنفاسه.
تتفاقم هذه الخلافات منطلقة بداية من مجرد استنتاجات متباعدة لتفاصيل في المشهد الوطني الفلسطيني / العربي، مرورًا بتخندقات عقائدية ودينية ومذهبية، وصولاً إلى مرحلة يصير فيها متاحًا ممارسة التخوين والتكفير للآخر المختلف.
نادرون هم من يُدينون ما قامت به حماس يوم السابع من تشرين الأول الماضي، ليس عن قناعة بنجاعة هذا العمل، وإنما عن تفهّم لمنبته ومنطق تطوره وتحليل نتائجه. كما أن الجواب الذي نواجه دائمًا من خلاله الغرب الذي يسأل أولاً عن ضرورة إدانة حماس لقتلها مدنيين وخطفها مدنيين، هذا الجواب الذي يُشدّد على أن القضية الفلسطينية لم تبدأ في السابع من تشرين الأول وأنها تعود الى عقود سابقة، صار اليوم لزامًا علينا أن ننشر الوعي حوله وحول حمولته المفاهيمية لدى بعض من اترابنا العرب الذين يبحثون عن حجة لإدانة ما قامت به هذه المنظمة التي ترسّخ مفهوم “الإسلام السياسي” في كل خطواتها.
عمومًا، يمكن أن نكون متفقين على تقييم إيجابي قدر الممكن لمواقف المشاركين افتراضيًا في الحديث عما يجري يوميًا من دماء ومن حيوات على أرض قطاع غزة، على اعتبار أن الأغلبية متفقة على التضامن مع أصحاب الحقوق المنتهكة والإدانة لأصحاب الحساب المفتوح في ممارسة القتل والتدمير من قبل المجتمع الدولي “الحرّ والحضاري”. ويُلقي هذا الإجماع النسبي على عاتق الفاعلين والمؤثرين دورًا مهمًّا في توسيع دائرة التضامن لكي يُصيب بعدواه المجتمع الافتراضي الأوسع. وهذا يحتاج علميًا وعمليًا، إلى ترك الخلافات التفصيلية جانبًا والبحث عن المشتركات في التعابير وفي الاستخلاص، مع نأيٍ بالنفس عن تأجيج خلافات حقيقية أو وهمية، تُجهض كل الجهود وتقدم هدية ثمينة للعدو المترصّد في كل زمان ومكان.
على كافة الأصعدة، تتميّز مجموعات بشرية تتشارك في المصائب وفي الآمال، بحدٍّ أدنى من التوافقات. هذه التوافقات تغطي عمومًا المفاصل الأساسية من قضاياهم، مع الاعتراف بحرية كل طرف من الأطراف بتمايزه في بعض التفاصيل، على أهميتها، من دون أن يودي هذا التمايز إلى زرع الشقاق وتفجير المسار. وفي الحالة الراهنة يتمحور التمايز، والذي سرعان ما تحوّل إلى اختلاف وخلاف، ترجمته عبارات خارجة عن النمط التعاضدي المنشود، حول الدور الإيراني وتوابعه في الملف المتفجّر غزّاويًّا. فمن المنطقي ألا يُلام من يقاوم احتلالاً وحشيًا تعاضده أنظمة عربية مطبّعة بأن يسعى للحصول على الدعم من حيث أتى. خصوصًا أن ما يغلب على عقيدة هذا “المقاوم” هو البعد الديني الذي يلتقي نسبيًا مع داعمه الوحيد في طهران. ومن المفيد الإشارة إلى أنه كان ليمتدح سواه إن أقدم على دعمه رغم استحالة ترجمة هذا الظن إلى واقع في ظل الخذلان الرسمي العربي المستدام. فلنسميها واقعية سياسية رغم الاقتناع بأن لها اساسات نظرية ومبدئية نتجاوزها للحفاظ على الحد الأدنى من التوافق.
في الطرف المقابل، هناك من يعتبر، عن حق ودراية وتجربة، بأن الدور الذي لعبته وتلعبه إيران سياسيًا على الأقل، وبعيدًا عن أي بعد ديني أو مذهبي يحلو للمتطرفين من كافة الأطراف التبحّر به، يجمع ضده عدد كبير من الآراء خصوصًا عندما شاركت في الحرب ضد السوريين من مختلف الطوائف والمذاهب. وأن دعمها الفعلي للمقاومة الإسلامية لا يجبّ البعد السلبي الدامغ لدورها في العراق وفي سوريا ولبنان وسواها من بلدان الوطن العربي المبعثرة سياسيًا. هذا التحليل، على صوابيته، لا يمنع الرأي الموضوعي من أن يُسجّل دورها الوحيد والمنفرد في دعم المقاومة الإسلامية. بالمقابل، هو يسمح بالتساؤل المشروع إن كان هذا الدعم سيكون متاحًا لو كانت هذه المقاومة لا ترتدي لبوس الدين؟
بالمحصلة، لا يمكن نكران الحق في الإيمان بدورٍ إيرانيٍ فعال في دعم حماس لمن رغب في ذلك بعيدًا عن تشويهه بالكلام وبالصفات، كما لا يمكن لمن يعتبر من هذه المجموعة أن يمنع الآخرين من إدانة محاولة إيران شراء براءة ما من دم السوريين والعراقيين واليمنيين واللبنانيين لمجرد قيامها اليوم بلعب هذا الدور. الجميع على حق وغزة تحتضر وأنتم لاهثون لإعلاء وجهة نظركم اللافظة للآخر المختلف عنكم. كم ساعدت خلافاتنا على جنس الملائكة في تمييع قضايانا وصولاً لخسرانها؟ هل الوقت والدم متاحان بكثافة لكي نستثمر طاقاتنا في خلافات، على أهميتها، تبقى تافهة مقابل الألم الفلسطيني القائم؟
—————————-
الغزاويون بين البحر والمعبر/ صبا مدور
الأحد 2024/01/07
ليس من بين خيارات المستقبل في الشرق الأوسط، خيار العودة إلى اوضاع ما قبل السابع من أكتوبر 2013، فتلك مرحلة صارت من الماضي، ونحن اليوم في سياق تشكيل واقع جديد، ما زالت ملامحه تعتمد على نتائج الميدان، في غزة، وما بعد غزة.
واذا كانت وقائع المعارك قد أعادت بناء مخيال القوة والقدرة في المنطقة، فإن ما يوازيه أهمية هو قضية سكان غزة المهجرين من ديارهم إلى جنوب القطاع بسبب العمليات العسكرية وتدمير مناطقهم، فواقع هؤلاء، بل ومستقبل جميع سكان القطاع، هو في واقع الامر حجر زاوية مهم في تقرير شكل التسويات المقبلة، وكذلك طبيعة ما سينتج عن هذه الحرب.
قضية غزة وتهجير أهلها، وعودة الاستيطان إليها بدأت تصبح منذ الان جزءا من حملات الاستقطاب السياسي والانتخابي في اسرائيل، ولا يمكن اعتبار تصريحات وزير الأمن الاسرائيلي ايتمار بن غفير أو وزير المال بتسلئيل سموتريتش مجرد رأي شخصي خارج السياق، أو حتى نمطا من المزايدات الانتخابية، ذلك أن تصريحات الوزيرين اليمينيين تزامنت مع ما نشرته قناة 12 الاسرائيلية حول زيارة رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير إسرائيل وتكليفه هناك بالإشراف على الوساطة مع دول غربية لفتح أراضيهم أمام الهجرة (الطوعية) لسكان غزة الذين يبلغون نحو مليونين و400 ألف نسمة.
ورغم أن بلير نفى ما جاء في تقرير القناة الإسرائيلية، إلا أن طرح الموضوع بهذا الشكل المتكرر والمتزامن، هي بالونات اختبار واضحة المعالم تستهدف قياس ردات الفعل المحتملة من قبل مختلف الأطراف، قبل الشروع العملي بمشروع التهجير الذي سيقدم على أنه (لجوء انساني طوعي) سمحت به بعض الدول لغرض انقاذ سكان غزة من أوضاعهم الانسانية الصعبة، وليس عرض ممر وحيد للخروج الآمن يقود إلى خارج غزة، سيرتبط باستمرار التدمير، والحياة القاسية والظروف غير الانسانية التي تجبر النازحين على القبول بحل اللجوء (المؤقت) الذي يتحول لاحقا إلى دائم.
مثل هذا السيناريو، يبدو ممكنا كنتيجة تحسم أمر غزة بكاملها، وليس فقط ما تعتبره إسرائيل تهديدا من حركة حماس، وهذا الهدف، لا يتعلق فقط بهذه الحرب، أو بما حصل يوم السابع من أكتوبر، بل يعود إلى ما أبعد من ذلك، حيث ظلت غزة تمثل مشكلة أمنية وديمغرافية ضخمة، دفعت رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق اسحق رابين إلى القول في عام 1992 إنه “يتمنى أن يصحو ذات يوم ليجد غزة وقد ابتلعها البحر”.
هذا التحدي الذي تمثله غزة هو الذي أجبر ارئيل شارون على سحب قواته منها عام 2005 وتصفية المستوطنات هناك، وهو الذي جعل القطاع يخضع لحصار طويل وقاس منذ ذلك الحين في سبيل السيطرة عليه، حتى جاءت حكومة نتنياهو اليمينية الحالية لتطرح خيارها الراديكالي المتمثل بالتهجير، وربما بمساعدة من بعض الدول في المنطقة وخارجها.
ولكن هل يبدو هذا الخيار ممكنا، أو واقعيا، لا سيما مع رفض معلن من جانب الولايات المتحدة؟ هنا لا بد من مراجعة المراحل التي مرت بها الحرب، والأهداف العامة التي طرحت خلالها، وتطورت حتى وصلت إلى مرحلة طرح خيار التهجير كحل (نهائي) للأمن من وجهة نظر وزراء اليمين الإسرائيلي، لكن الأهم من ذلك، هو نمط الحرب المستمرة منذ ثلاثة أشهر، الذي أدى لتدمير جوهري وشامل لشتى مناطق القطاع، حتى اقترب عدد النازحين من مساكنهم من مليوني شخص، أي الغالبية العظمى من سكان القطاع.
وجود هذا العدد الهائل من السكان بلا مأوى، في بقعة محدودة من الأرض، ومن غير امدادات إغاثية كافية، وسط المخاوف من انتشار الأمراض والأوبئة، حسب التصريحات الأممية، كل ذلك، يمكن أن يجعل حياة النازحين غير ممكنة عمليا على وفق الحدود الدنيا للعيش الآدمي خلال فترة قصيرة، وحينها سيقدم فتح طريق الهجرة إلى دول أخرى، على أنه حل (إنساني مؤقت) الى حين انتهاء القتال واعادة الإعمار، وهو ما سيكون بمثابة واقع يحقق هدف التهجير لأكبر عدد ممكن من السكان، وربما تغلق بعدها طرق العودة.
—————–
الصهيونية كما يريدها بايدن/ بشير البكر
الإثنين 2024/01/01
يشدد الرئيس الأميركي جو بايدن، بين حين وآخر، على أنه صهيوني. ولكثرة ما كرر هذه الاعتراف، فإنه صار يوحي بأن له بعداً آخر، غير الذي يصل منه في معناه المباشر. ولكن مهما تعددت التأويلات، فإن البعد الأساسي للمسألة ليس روحيا، وإنما سياسي صرف، كون الصهيونية حركة سياسية، تقوم على فكر أيديولوجي، لم تغير أهدافها منذ أن نشأت في أوروبا، في أواخر القرن التاسع عشر، وعلى رأسها الهجرة إلى فلسطين، وإنشاء وطن قومي لليهود.
ومن دون شك، يدرك الرئيس الأميركي أن الصهيونية ليست حركة طوباوية حالمة، بل إيديولوجيا استعمارية. وحينما يتحدث، هو على وعي بأن أهداف الصهاينة، التي وضعها أساسها النمساوي تيودور هرتزل، تقوم على الاستيلاء على أكبر مساحة ممكنة من أرض فلسطين التاريخية، ولكن بأقل عدد ممكن من أهلها الفلسطينيين. وهذا ليس اتهاما، بل حقيقة، ناقشها، باستفاضة، أكثر من كاتب اسرائيلي، يبقى أكثرهم موضوعية المؤرخ الإسرائيلي آيلان بابيه، الذي قال، إن قادة الصهاينة في القرن العشرين، كانوا على دراية تامة، بأن تطبيق المشروع الصهيوني، سيؤدي حتماً إلى عملية تطهير عرقي وتهجير قسري للسكان الأصليين الفلسطينيين.
الوعي بالصهيونية عالمي منذ زمن طويل. وجرى تصنيف الحركة على أنها تعمل وفق آلية عمل الاستعمار نفسها. ومنذ عام 1948 صدرت قرارات دولية كثيرة عن عمليات التطهير العرقي، التي ارتكبها الصهاينة ضد السكان الأصليين الفلسطينيين، وبناء المستوطنات الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية المحتلة. وجرى تقديم أدلة ثابتة وواضحة على ممارسات الصهيونية الاستعمارية. وفي السياق تم التمييز، بين معاداة السامية، وما تعنيه من ممارسات ضد اليهود، وهي موجودة منذ قرون، وبين معاداة الصهيونية بشكل عام، بوصفها حركة سياسية استيطانية عنصرية.
الصهيونية ليست حكراً على اليهود فقط، ولا تشترط أن يكون الصهيوني يهودي المولد، وفي وسع من أراد اعتناق الإيديولوجيا، أن يقوم بذلك، كما هو الأمر مع بقية الإيديولوجيات الأخرى، مثل النازية والشيوعية. ومن البديهي ألا تحظى الصهيونية بتأييد تام لدى اليهود، فهناك من يتبناها أو يتعاطف مع المبادئ الأساسية المؤسسة لها، والمرتبطة بضرورة وجود دولة يهودية في ما يعرف الآن بإسرائيل، وهناك من يعارضها لأسباب دينية، أو سياسية. ومع مرور الوقت دخلت مفردة الصهيونية ميدان الاستخدام، ولكنها تحولت لدى البعض الى هجوم مبطن على الاسرائيليين، الذين يردون على ذلك بالخلط بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية، من أجل تجنب الانتقادات.
قاتلت اسرائيل، ومعها الولايات المتحدة، من أجل إلغاء التصنيف الذي وضعته الامم المتحدة للصهيونية، بوصفها شكلا من أشكال العنصرية، حسب قرار صدر عن الجمعية العامة عام 1975 تحت رقم 3379، والذي نص على مساواة الصهيونية بالعنصرية. واعتبر القرار أن الصهيونية هي شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري، وطالب جميع دول العالم بمقاومة الأيديولوجية الصهيونية، التي “تشكل خطرًا على الأمن والسلم العالميين”.
ونجحت الولايات المتحدة عام 1991 بإلغاء القرار، من خلال تقديم نص قصير إلى الجمعية العامة، “تقرر الجمعية العامة إلغاء الحكم الوارد في قرارها رقم 3379”. ووقفت إلى جانبه 111 دولة، بينما عارضت القرار 25 دولة. واستغلت الولايات المتحدة النظام العالمي الجديد لكي تقول، إن الصهيونية ليست عنصرية، وأنها لا تمارس التميز العنصري، وتخلّت الأمم المتحدة عن قناعاتها وقراراتها ومبادئها والنتائج التي توصلت إليها لجان التحقيق الدولية، ولجنة ممارسة الشعب الفلسطيني للحقوق الثابتة غير القابلة للتصرف، بمنتهى البساطة، استجابة لهيمنة القطب الواحد على النظام العالمي الجديد، وعلى الأمم المتحدة بجميع هيئاتها وخاصة الجمعية العامة ومجلس الأمن الدولي.
لا تنفصل اعترافات بايدن عن “الاستراتيجية الوطنية لمكافحة معاداة السامية”، التي أطلقتها ادارته في أيار الماضي. وتتضمن أكثر من 100 إجراء جديد لزيادة الوعي بمعاداة السامية خاصة في حرم الجامعات، وعبر الإنترنت لـ”حماية المجتمعات اليهودية”، وعكس تطبيع هذه الكراهية، وبناء التضامن بين المجتمعات الدينية في الولايات المتحدة. ورغم أن سفير إسرائيل في واشنطن مايكل هيرتسوغ، تبنى الاستراتيجية، ووصفها بأنها “خطوة أولى مهمة في الكفاح الطويل ضد هذه الكراهية السامة”، إلا ان وسائل الإعلام القريبة من رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو انتقدتها، وتوقفت عند نقطتين. الأولى هي “عندما يتم تمييز إسرائيل بسبب الكراهية المعادية لليهود، فهذه معاداة السامية”، والثانية “العداء الشديد” تجاه اليهود المؤيدين لإسرائيل يعتبر معاديًا للسامية فقط، عندما يتم استفزاز العنف”، واعتبرت أن هذا الموقف غير كاف، ومشروط، وكان يجب أن يكون بلا حدود.
وبالنظر إلى ما ورد في “الاستراتيجية”، قدم بايدن بعد السابع من اكتوبر تنازلات امام نتنياهو، بعد أن أعلن في آذار الماضي أنه “لن يتلقى دعوة لزيارة واشنطن على المدى القريب”. وثمة من يرى بين الخبراء في سياسة الادارة، مثلما هو “اتفاق ابراهام” محاولة من إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب للالتفاف على التطبيع، يمكن لتصريحات بايدن أن تذهب نحو تطبيع الصهيونية كمفهوم ومضمون، وتنبيه الرأي العام إلى أن العداء لها، هو بمثابة العداء للسامية واليهود، واخراجها من سياق الصراع مع اسرائيل.
—————————-
النفاق الألماني لإسرائيل لا ينافسه أحد./ بشير البكر
الإثنين 2023/12/25
النفاق الألماني لإسرائيل لا ينافسه أحد. ومن يعتقد أن المانيا تتصرف كصديق للدولة العبرية، ومن منطلق الحرص على أمنها، واهم. وكل من لا يصدق هذه الفرضية، عليه اجراء مقارنة بسيطة، بين ردود أفعال الحكومة الألمانية، حيال هجمات السابع من أكتوبر، وبين حتى أقرب أصدقاء اسرائيل، الولايات المتحدة. هناك فارق شاسع يكبر مع الوقت. ورغم الدعم غير المحدود لإسرائيل من طرف أميركا وبريطانيا ودول أخرى، فإنه لم تصل واحدة منها في المبالغة، حد تغيير بعض القوانين الداخلية، من أجل إظهار مقدار تأييد اسرائيل.
ستبقى مضرباً للمثل صورة رئيس الحكومة الألمانية أولاف شولتس، والوفد الحكومي المرافق له، وهم منبطحون على أرض مطار تل أبيب في الثامن عشر من اكتوبر الماضي، عندما دوت صافرات الإنذار لحظة نزولهم من الطائرة. وبدلا من أن تخلق تلك الصورة انطباعاً بحجم الخطر، شكلت مادة للسخرية والتهكم من المستشار الذي يقود دولة، لا يليق بها أن تضع نفسها في موقف كاريكتيري مضحك، خاصة أن جانب التمثيل فيها واضح، ولكن الاخراج غير متقن، تنقصه المهنية.
سبق المستشار الألماني، وأعضاء حكومته، العالم كله في زيارة اسرائيل. زايد هو ووزراؤه على أقرب أصدقاء تل أبيب. وأخذته المبالغة في التضامن حد الريبة في صدق المشاعر وعمقها، وصدورها عن إحساس فعلي بالواجب، الذي تمليه اللحظة. ومن كثرة ما غمر به اسرائيل من مشاعر جياشة، أثار اسئلة الاستغراب، لا الإعجاب والتقدير. واللافت هنا هو، أن تل أبيب لم تبد حرارة مماثلة، وهي تستقبل الهجوم الألماني عليها. بل تصرفت ببرود، من يفصل بين تسديد الديون، وبين العاطفة الخالصة، المجردة من الغايات.
لم يطل الوقت حتى يتضح، بأن الموقف الألماني الرسمي هو قرار وسياسة دولة، ملزم لكل المؤسسات والمواطنين، بما في ذلك اولئك الذين يعملون في مؤسسات دولية خارجة عن سلطة الدولة الالمانية، مثل رئيسة المفوضية الأوروبية، اورسولا فون ديرلاين، التي جاءت زيارتها وتصريحاتها ومواقفها المؤيدة لإسرائيل، على غير موجة موقف الاتحاد الأوروبي، الذي مثله مسؤول السياسة الخارجية للاتحاد جوزيب بوريل، من خلال الالتزام بالاعتدال في تصريحاته.
وانسحب موقف الدولة الالمانية على كل من هو مقيم على أراضيها، وهذا ما يفسر الاجراءات العنيفة ضد المظاهرات التضامنية مع غزة، والحملات التي تعرض لها فلسطينيون، من بينهم حملة الجنسية الألمانية، وهو ما لم يحدث في أي مكان آخر في العالم. وحتى الاحتفاء بالطبخ والتطريز الفلسطينيين، بات ممنوعا في المانيا. والمفارقة أن المجموعات اليهودية الداعمة للسلام صارت هي السند للناشطين الفلسطينيين، خصوصا جمعية “الصوت اليهودي لأجل سلام عادل في الشرق الأوسط”، و”الاتحاد اليهودي لمعاداة الفاشية”.
في سياق التدهور السريع، جاء الخطاب الذي نشره روبرت هابيك، نائب المستشار الألماني، وعممته الحكومة الألمانية على نطاق واسع، وفيه تهديد واضح بالمحاكمة وبالترحيل، لكل من “يعادي إسرائيل” من المسلمين واليساريين. وعليه صار الرأي العام يتوقع مفاجآت أخرى، منها التي تتعلق بتعديل قانون الحصول على الجنسية الألمانية، ليتضمن الزام الشخص المتقدم بحق إسرائيل في الوجود، واعتبار أن أمن تل أبيب مصلحة عليا لألمانيا. وبات على طالبي الجنسية من الأجانب، أن يؤكدوا كتابياً أنهم يعترفون بحق إسرائيل في الوجود، وأن يدينوا أي جهود موجهة ضدها. كما أنه عند دراسة الطلب، سيجري التأكد من عدم وجود دليل على مواقف معادية للسامية، ورفض التجنيس إذا ما قام الأجنبي بأمور ضد النظام الأساسي، وعدم تسليم شهادة التجنيس إذا ما رفض الإقرار بقبول الشروط، وأن يدون ذلك في ملفه.
هل يكفي النفاق وحده لتفسير الموقف؟ ثمة من رأى أبعد من ذلك، ومن بين هؤلاء الفيلسوفة الأميركية (اليهودية) جوديت بتلر، التي تعرضت إلى انتقادات شديدة في المانيا. ووصفت بأنها “يهودية معادية للصهيونية. أرجعت ذلك في حوار لها مع صحيفة “دي تسايت” إلى أنه “عبر الدعم غير المشروط لإسرائيل، يريد عديد من الألمان إثبات أنهم ليسوا من معادي السامية. ولهذا يهاجمون كل شخص يطالب بالعدالة لفلسطين”.
يبحث البعض عن اسباب ومبررات في العقل الباطني الألماني، ولكن الواقع لا يحتمل ذلك، ولا يكفي التكفير عن جريمة المانيا النازية وحده، من أجل تفسير مواقف الحكومة الالمانية. هناك ما يتجاوز كل الحدود إلى نوع من النفاق، الذي لا وصف له. لم توقع المانيا في منتصف كانون الأول البيان الذي يدين عنف المستوطنين في الضفة الغربية. وحدها انفردت بهذا الموقف الغريب من بين كل دول أوروبا. وحده المستشار الألماني، من بين كل قادة العالم، الذي انتقد السلطة الفلسطينية والرئيس الفلسطيني محمود عباس، ووصف صمتهما بـ”المخزي”.
هل يعني ذلك تسديد دين قديم لإسرائيل؟ واذا صح ذلك، فهل هذا يعني أن مواقف المانيا منذ الحرب العالمية الثانية لم تبلغ المستوى المطلوب، لجهة تسديد التعويضات المترتبة على المحرقة النازية؟ على العموم ليس هناك مواقف شبيهة، من طرف حكومات المانية سابقة، تجاه محطات سابقة في الصراع العربي الاسرائيلي. ما هو واضح هو أن الحكومة التي يقودها اشتراكي تريد تثبيت مسألة مهمة وهي، أن المانيا تتحمل مسؤولية خاصة تجاه اسرائيل، كأنها خائفة أن ينسى الألمان الجريمة ارتكبها أسلافهم. وهي تدأب على أن تتحمل الأجيال الحالية أيضا، نفس القدر من المسؤولية.
————————–
الحرب على لبنان كما لو أنها حدثت/ عمر قدور
الثلاثاء 2023/12/19
الحرب الإسرائيلية على لبنان غير مستبعدة، رغم وجود نسبة ساحقة من الذين لا يتمنونها، وفي مقدمهم الحزب الذي يريد الحفاظ على حدّ مضبوط من التصعيد. إسرائيل تريد استثمار صدمة هجوم حماس، على الأقل بإزاحة مقاتلي الحزب إلى شمال الليطاني بحيث لا يكونون قادرين على شن هجوم مفاجئ شبيه بما فعلته حماس. على هذه الخلفية يُفهم إعلان وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن عن توجهه إلى إسرائيل والبحرين وقطر، وتأكيده على “التزامات الولايات المتحدة بتعزيز الأمن والاستقرار الإقليميين”.
زيارة أوستن هي الثانية له منذ السابع من أكتوبر، وقد سبقه بزيارة إسرائيل مؤخراً مستشار الأمن القومي جيك سوليفان الذي “حسب ما رشح من أخبار” لم يحقق هدفَي زيارته، فلم يحصل عل موافقة الحكومة الإسرائيلية على إيقاف حملتها العسكرية الكبرى على غزة، والانتقال إلى ضربات موضعية محسوبة بدءاً من الشهر المقبل. كذلك لم يحصل سوليفان على تعهد إسرائيلي بضبط قواعد الاشتباك مع حزب الله، بل توعّدت التصريحات الإسرائيلية مؤخراً بالرد على عمليات الحزب بخمسة أضعافها، وصولاً إلى التقارير عن وضع الجيش سيناريوهات الحرب البرية على لبنان.
بين زيارتَي المسؤولَيْن الأمريكيين، ذهبت وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا للقاء المسؤولين الإسرائيليين، قبل لقاء المسؤولين اللبنانيين، وطالبت كولونا من تل أبيب بهدنة فورية في غزة وبخفض التصعيد على الحدود اللبنانية. قد يبدو المطلبان للوهلة الأولى متلازمين، والفكرة الشائعة هي أن وقف الحرب على غزة سيؤدي تلقائياً إلى وقف الهجمات المتبادلة بين مقاتلي حزب الله وإسرائيل، ووقف هجمات الميليشيات الإيرانية الأخرى على قواعد أمريكية في سوريا والعراق أو على سفن في البحر الأحمر. إلا أن وجهة النظر الإسرائيلية مختلفة تماماً في النقاش حول ما بات يُعرف بـ”اليوم التالي على الحرب”، وواحد من الفوارق التي يعلنها الإسرائيليون أنهم لن يتراجعوا عن حربهم في غزة حتى تحقيق الأهداف المعلنة، بينما يفضّلون تحقيق مطلبهم في لبنان سلماً مع الاحتفاظ بالخيار العسكري إذا تعذّر السلمي، من دون ربط الأخير بإنهاء الحرب على غزة، بل إن فرص الحرب على لبنان في “اليوم التالي” أكبر مما هي عليه حالياً.
الحرب التي يهدد بها الإسرائيليون اللبنانيين شبيهة بالحرب الحالية على غزة؛ لقد عبّروا عن ذلك صراحة، وبما يتضمن اعترافاً بأنهم في غزة يرتكبون الفظائع ضد البشر والحجر. ولئن كانت الحرب على غزة وقعت تحت تأثير صدمة هجوم حماس المفاجئ للجميع، فالحرب على لبنان “إن وقعت” ستكون خالية من عنصر المفاجأة، ويمكن التفكير فيها كما لو أنها حدثت، مع التأكيد على أن المعنيين بتبعاتها على لبنان لا يشتهون وقوعها.
ثمة فكرة شائعة عن أن القوى الدولية المؤثرة ستمنع إسرائيل من شن حرب على لبنان، وأن الأخير يحظى برعاية لا يلقاها الشعب الفلسطيني المستباح. أنصار هذه الفكرة لا يلحظون الاتفاق الداخلي الإسرائيلي الحالي على عدم العودة إلى ما قبل 7 أكتوبر، وإذا كان رفع شعار اجتثاث حماس له بُعد معنوي بعد عملية طوفان الأقصى فإن خطر حزب الله يُنظر إليه كتهديد أكبر لا يُعرف متى يحين استخدامه، ويُخشى من ترك المبادرة له.
الذرائع متوفرة جداً لإشعال الحرب في الظروف الراهنة، وإدارة بايدن تدخل سنة انتخابات الرئاسة وهي أضعف من اتخاذ مواقف غير معهودة أمريكياً إزاء إسرائيل. وبخلاف الفكرة الشائعة عن الدم الفلسطيني المستباح، يمكن القول بوجود تضامن واسع مع الفلسطينيين لدى العديد من الأوساط التي لن تتحرك للتضامن مع اللبنانيين، ومن ضمنها اليهود الذين رفضوا العدوان على غزة، و الذين دفعت مظاهراتهم في الولايات المتحدة إدارة بايدن لقليل من التراجع عن موقفها الداعم بالمطلق للعدوان.
صحيح أن القانون لا يتحكم بالسياسات الدولية، لكن لا يغيب عن العالم أن غزة تحت الاحتلال، ما يرتّب على إسرائيل مسؤوليات بموجب القانون الدولي. في حين تستند إسرائيل في الجبهة اللبنانية إلى قرارات مجلس الأمن وإلى استعدادها المعلن منذ سنوات طويلة للانسحاب إلى الحدود الدولية مقابل تسلم الجيش اللبناني مهمة ضبط المناطق الحدودية. المطلب الأخير لطالما رفعه لبنانيون يرفضون “اختطاف” الحزب قرارَ الحرب والسلم، لكن اعتراضاتهم قد لا تنفع مع مشاركتهم الحزب في البرلمان وفي الحكومة، وهي الذريعة التي ستستخدمها إسرائيل لتبرير سياسة العقاب الجماعي الوحشي، بعدما استخدمت المنطق ذاته لتسويغ الحرب على فلسطينيي غزة.
الأمر بالنسبة لإسرائيل أبعد من تلبية مخاوف ما يزيد عن ثمانين ألف إسرائيلي غادروا مساكنهم القريبة من الحدود مع لبنان، وهم يخشون من العودة مع بقاء قوات الحزب على بعد كيلومترات قليلة منهم. الأمر يتعلق أيضاً بألا يكون للحزب قرار الحرب بمستوى التصعيد الذي يناسبه، ومن ثم قرار السلم على التوقيت الذي يخرج فيه كأنه انتصر.
بخلاف الأهداف المعلنة لحربها على غزة، تضع إسرائيل في الجبهة اللبنانية هدفاً يستند إلى قرار مجلس الأمن 1701، وتحقيقه سلماً ممكن إذا وافق الحزب الذي يستطيع تغطية تراجعه بالقول أنه يفعل ذلك لحماية لبنان من مصير غزة، وهذا ما سيرحّب به خصومه اللبنانيون قبل غيرهم. إلا أن موافقة الحزب على هذا المبدأ تعني حرفياً أن ترسانته ومقاتليه غير قادرين على حماية لبنان من مصير غزة، وسيبدأ تالياً السؤال المشروع عن جدواهما وعن الخطابات التي كانت تتوعد إسرائيل بالدمار خلال وقت قصير أو خلال دقائق، وقد يتساءل جزء من جمهور الحزب نفسه عن جدوى ومبررات تضحيات مقاتليه الذي قيل أنهم قُتلوا على طريق القدس.
يجوز القول أن تنفيذ قرار مجلس الأمن المذكور، وتجريد حزب الله من قرار الحرب والسلم، يعني تجريده من أهم أسلحته التي ترهب خصومه في الداخل. يفهم الحزب ذلك جيداً، حتى إذا بدا احتفاظه بأسلحته شمال الليطاني بمثابة استقواء إضافي على الداخل. لذا لن يكون من التشاؤم النظر إلى احتمال نشوب الحرب كاحتمال قائم بقوة، كاحتمال مكروه لدى الجميع باستثناء أولئك الذين يستطيعون منع نشوبها.
—————————-
يجب تغيير الشعب الفلسطيني/ بشير البكر
الإثنين 2023/12/18
من بين الحلول العبقرية التي تجود بها الولايات المتحدة بين حين وآخر، تغيير القيادة الفلسطينية. كان هذا الحل، دائماً، على الطاولة، كلما وجدت اسرائيل في مأزق، بسبب الدلال الأميركي الفائق، الخارج عن كل الحدود. وبدلاً من أن تذهب واشنطن نحو أصل المشكلة، وهو الاحتلال، تقوم بمحاولة التفافية من أجل تضييع الموضوع الأساسي. وفي كل مرة يكون الهدف إغراق العالم في تفاصيل لا تؤدي إلى نتيجة، من أجل منح اسرائيل الوقت الكافي لاستكمال مشاريع انهاء حل الدولتين، من طريق التوسع في استيطان الأراضي الفلسطينية، وقتل كل امكانية لقيام دولة فلسطينية مستقلة.
ظلّت واشنطن ترفض الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية، رغم أن العالم كله اعترف بها. وكانت تتحجج بعدم وجود شريك فلسطيني، يعترف بإسرائيل. وحين حان الوقت واعترفت المنظمة وتم توقيع اوسلو، وبدأت المفاوضات الجديّة، صارت ترى الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات غير صالح لصنع السلام. وعندما رفض أن يوقع على اتفاق الحل النهائي وفق شروط اسرائيل، طرح الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن ضرورة تغيير ابو عمار، بعدما رفض رئيس الوزراء في حينه ارئيل شارون الحوار معه. ولم يجد بوش حلاً، سوى استبدال عرفات بمحمود عباس “ابو مازن”، وهذا ما حصل.
وبدلاً من تمكين عباس، ماطلت معه واشنطن وتل ابيب قرابة عشرين عاماً، وحالت دون تمكينه من بناء سلطة فلسطينية محترمة من الشعب الفلسطيني. ورفضت اسرائيل تطبيق اتفاق اوسلو، وبالتدريج افرغته من محتواه. ومع مرور الوقت وزحف الاستيطان، تحوّل ابو مازن إلى رئيس سلطة رمزية، لديها وظيفة واحدة هي، التنسيق الأمني مع اسرائيل. وقد قبل ذلك على مضض، واستراحت تل ابيب إلى هذا الوضع، الذي سمح لها بأن تواصل مشاريعها، وتنتقل نحو المزيد من الاستيطان، والتهويد، والاعتداءات المفتوحة ضد الفلسطينيين.
اليوم ترى واشنطن، أن المَخرج لما بعد السابع من أكتوبر هو تغيير القيادة الفلسطينية، بعدما رفض نتنياهو أن تدير السلطة الفلسطينية قطاع غزة. واكتشفت الإدارة الأميركية أن عباس رجل كبير في السن، ويجب أن يرتاح، وأن الجهاز الذي يعمل معه غارق في الفساد. ومن أجل التمهيد لحل الدولتين، يجب اختيار قيادة فلسطينية جديدة تعترف بها اسرائيل، وترضى عنها الولايات المتحدة. وستكون مهمة هذه السلطة قيادة مرحلة انتقالية قبل مفاوضات الدولتين، والتي ستكون مفتوحة، وربما تصبح دائمة على غرار سلطة محمود عباس التي تنتهي مهلتها حسب اتفاق أوسلو العام 1999، لكنها مدّدت لنفسها، لتصبح سلطة أمر واقع تعيش وفق قانون الضرورة، بما يتماشى مع أمن اسرائيل.
ورغم أن السلطة مشلولة سياسياً، ويقتصر دورها على تصريف الأعمال، منذ زمن طويل، فإنه كلما تسلّم رئيس حكومة اسرائيلية جديدة، يضع شروطاً إضافية عليها. والهدف هو، أن تبقى مكبّلة، وممنوعة من ممارسة دور يجعلها محترمة في عيون شعبها. وسواء بقيت أم رحلت، أو تغيرت، فإن ذلك لن يغير شيئاً من واقع الحال، لأنها ليست هي التي تعطّل الحلول، أو تواجه الاحتلال، وتقود المقاومة. ولو فوضوها اليوم بصلاحيات ما فوق استثنائية، فإنها لن تتمكن من ممارستها إلا في حدود ضيقة لها، رسمها الاحتلال على أرض الواقع.
مَن يمتلك الكلمة على الأرض هو مَن يواجه الاحتلال. والشرعية الوحيدة بالنسبة للشعب الفلسطيني هي الطرف الذي يقاوم الاحتلال، وليست مستمدة من اتفاقات مع اسرائيل، ولا هي منحة من الولايات المتحدة. ورغم أن الشعب الفلسطيني شبه أعزل، فإنه ثابت على أهدافه منذ النكبة، كما أنه لم يبخل، ولا مرة، في تقديم التضحيات من أجل تحقيقها. وعلى الدوام، سقفه السياسي أعلى من سقف قيادته السياسية. وهذا ما كان يردده عرفات في كل منعطف، ويتصرف على أساسه، والمرة الوحيدة التي تجاوز هذه القاعدة، كان توقيعه على اتفاق أوسلو، لكنه توقف ولم يكمل، حين اكتشف كذب واشنطن وتل أبيب، وعاد ليقود المقاومة، وانتهى شهيداً مسموماً.
ومِن الملاحظات المهمة، أن التضحيات الكبيرة، التي قدمها الشعب الفلسطيني، لم توهن عزيمته. وكلما ظهر جيل، بدا أكثر تصميماً من الذي سبقه على نيل الحقوق. وهذا واضح منذ الانتفاضة الأولى العام 1987، التي جددت مفهوم المواجهة مع اسرائيل، ونقلتها إلى مستوى متقدّم، وهو الصراع وجهاً لوجه مع المحتل، وهذا ما يترجمه جيل جديد في الضفة الغربية وغزة.
حينما تكون القيادة منبثقة عن الشعب، ربما تتأثر القضية، من جراء استبدالها، لكن عندما يكون الشعب هو البوصلة، فإن المسألة تبدو عبثية، ومثيرة للسخرية. وهذا أمر تدركه أميركا واسرائيل وتيار التطبيع العربي، لكنهم يتنكرون له، ويراهنون على تسويات وقتية من أجل كسب الوقت، تقود إلى تمييع الواقع، الذي لا يتغير بالقوة، وإنما بالعدالة والاعتراف بالحقوق.
————————–
ألن تنتهي هذه الحرب “المملّة”؟/ عمر قدور
الثلاثاء 2023/12/12
اكتفت وكالة “سانا” بخبر الإضراب الذي عمّ الضفة الغربية يوم أمس، ولم تذكر استجابة الأردن ولبنان “على سبيل المثال” لدعوة الإضراب العالمي تضامناً مع الفلسطينيين. بالطبع تتجنب وكالة سانا ذِكرَ ما يدعو إلى التساؤل عن عدم مشاركة مناطق سيطرة الأسد في الإضراب، رغم أن حالها في هذا كحال معظم البلدان العربية، بما فيها تلك التي شهدت في أول أيام العدوان الإسرائيلي مظاهرات تندد به، ثم انتهت فورة التضامن بعدما تم الاكتفاء بالتعبير عنه لمرة واحدة. الحديث هو عن شهرين وبضع أيام لا غير، سرعان ما أصبح فيها خبر المجازر معتاداً.
لا جديد استثنائياً في الحرب الإسرائيلية على غزة، وغالبية التكهنات تشير إلى أن تحقيق الهدف الإسرائيلي المعلن يقتضي شهوراً وربما سنة، إذا استمر الوضع على هذه الوتيرة. قد يتخلل المعارك حدث غير اعتيادي “يحتفي” به الإعلام، كأن تنجح إسرائيل في استهداف شخصية قيادية من كوادر حماس، وقد يغطّي مثل هذا الحدث ليومين أو ثلاثة على أرقام صارت مألوفة ورتيبة، من نوع وصول عدد القتلى الفلسطينيين الآن إلى ما يُقارب عشرين ألفاً وعدد المصابين إلى خمسين ألف.
هناك مثال قريب على ضحايا القتل الذي يصبح مألوفاً، فالسوريون جرّبوا بقسوة أن يلفت مقتل المئات منهم مع بداية الثورة انتباهَ العالم، ثم راح التفاعل مع مأساتهم ينحسر بعدما قتل الأسد عشرات الألوف. أخيراً، توّج ذلك باستخدامه السلاح الكيماوي، وعندما أفلت من العقاب تراجعت الضحية السورية في سلّم الأخبار، وتراجع الاهتمام السياسي بها؛ صارت قضيتهم مملة، وحتى هم أنفسهم مع توالي الزمن لم ينجوا من الإحساس بالملل من أحوالهم. الفلسطينيون اختبروا ذلك أيضاً بالعديد من المواجهات السابقة، وهذه إشارة قد تُستخدم لتعزيز القناعة بعدم وجود ما هو جديد، فالضحية مألوفة والقاتل كذلك!
تنفع، في سياق المقارنات، ملاحظةُ الانحسار شبه التام للمظاهرات في البلدان العربية للمطالبة بإنهاء الحرب، بينما تواصلت على سبيل المثال المظاهرات في مدن أمريكية وإنكليزية وفرنسية. وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، حيث التفاعل أسهل، انحسرت إلى حد كبيرة موجة التفاعل العربية الأولى مع الحدث، وانحسر معها الجدال بين مناصرين لحماس والذين ينحون عليها باللائمة لتسبب هجومها بالانتقام اللاحق، ويبدو أن طرفي الجدال لم يعد لديهما جديد للقول، أو لم يطوِّرا جديداً في انتظار أن ترجّح آلة الحرب واحداً من الرأيين. ولعل معرفة حدود الحرب أفقدتها ميزة الترقّب من جمهور المتابعين، خاصة مع استقرار قواعد اللعبة بين حزب الله وإسرائيل.
لا تهدف المقارنة السابقة مع المظاهرات في المدن الغربية إلى توبيخ العرب بوصفهم أصحاب قضية، فالقضية بالمعنى الموروث انتهت مع انقضاء المدّ القومي العروبي. ثمة مبررات أخرى لاهتمام أبناء المنطقة، فمنهم لاعتبارات جغرافية على تماس مباشر أو شبه مباشر مع الحرب، وسيناريوهات تهجير الفلسطينيين تمسّ بلدانهم فوق كونها جريمة كبرى على مختلف الأصعدة، وحتى البلدان العربية الأبعد ليست خارج تأثيرات للحرب على المنطقة ككل. الاعتبار الأهم هو الإنساني، وهو ليس منّةً من أحد على الفلسطينيين، لأن التضامن الإنساني يعبّر عن مصالح أصحابه وعن تطلّعهم إلى العيش في عالم أكثر عدالة وأقل عنفاً.
على صعيد متصل، يبقى من المستغرب ذلك الدأب على لوم الغرب أو العالم على تدنّي الحساسية الإنسانية، بينما لا يبادر الذين يشتكون من ذلك إلى البرهنة على حساسية أعلى بدءاً من التضامن مع الأقرب. الفكرة القديمة الراسخة هي أن شعوب المنطقة خوفاً من حكامها لا تنزل إلى الشوارع لتعبّر عن آرائها، وهذه الفكرة تحتمل الصواب من جانب، لكنها من جانب آخر تبرر غياب تقاليد التضامن الإنساني وغياب تقاليد التعبير عن الرأي في عموم المنطقة. ولا يندر أن يُقابَل الانتقاد الأخير بالسؤال عن الجدوى، والمتضمن أن شعوب المنطقة لا وزن ولا فعالية لها بخلاف شعوب الغرب التي يأخذ حكامه رأيها في الحسبان.
هكذا يحضر سؤال الجدوى من الفعل قبل الشروع فيه، يحضر كمانع للفعل، أيّ فعل كان. أما الذين ما زالوا ينزلون للتظاهر في مدن الغرب، تضامناً مع الفلسطينيين، فهم أناس يعيشون حيواتهم الطبيعية، ومن ضمنها إحساسهم الاعتيادي بالواجب الإنساني. وعندما يواصل الواحد منهم التظاهرَ دفاعاً عن قناعاته فهو لا يفعل ذلك ظهراً أو عصراً وينتظر مردود فعله مساءً، أي أنه لا يربط على هذا النحو المباشر بين انتصاره لقناعاته والجدوى من فعل ذلك. وهناك بين المتظاهرين من هم ضد حماس، ويرون هجومها في السابع من أكتوبر إرهابياً، ولا تمنعهم قناعتهم هذه عن التضامن مع أهالي غزة. أي أن عنصر الانسجام يدعم فعاليتهم، فلا يستخدمون السياسي غطاء للتقاعس عن الإنساني.
ليس مطلوباً من شعوب المنطقة التفرَّغ للتضامن مع غزة، ولا التفرّغ للندب والنواح على وسائل التواصل الاجتماعي. المشكلة هي في تعاطي نسبة كبرى مع المجزرة بوصفها حدثاً اعتيادياً، ثم في التعاطي معها بوصفها حدثاً مملاً. يمكن تأويل المستوى الأول منهما بقلّة الحساسية إزاء الضحايا في غزة، وهي تصدر عن ضحايا من نوع آخر يملؤون المنطقة، لكن هذا التأويل ينتهي بقبولهم موقع الضحية واعتيادهم عليه، وإن أوحى ظاهرياً بانغلاقهم على همومهم في بلدانهم. أما في المستوى الثاني فيأتي التململ من الانعدام التام للفعالية، مع الترويج للعجز عن الفعل، ومع عدم احترام الفعالية بمعناها الصغير، البسيط والتراكمي، لتكون ترجمة سؤال الجدوى: إما أفعالٌ بنتائج ملموسة سريعاً أو لا فعل.
هي مفاضلة مُصاغة أصلاً لترجِّح الإجابة عليها عدم فعل شيء، ومن هذه الجهة “جهة المتفرجين” تبدو الحرب مملة ولا شيء يحدث فيها. هو شعور مختلف حتى عن الإحساس مؤقتاً بالشلل بسبب وحشية الحرب ووطأتها الشديدة، فإحساس الملل هنا نابع من انعدام فعالية أصحابه، من التقاعس الواعي مع مطالبة الآخرين باجتراح ما هو غير معتاد. وقد لا يكون جديداً أن من لا يفعلون شيئاً، ولا يؤمنون بجدوى الأفعال “الصغيرة” للآخرين، هم أفضل من يتململ من الضجر.
————————–
خمسة اتجاهات عسكرية لحرب غزة/ عبدالناصر العايد
الأربعاء 2023/10/25
تساهم عوامل متباينة ومعقدة في تكوين المشهد العام في غزة، ولا يمكن فصل العسكري عن السياسي والإعلامي والإنساني، ولا حتى إغفال الرأي العام العالمي عند التفكير في ما يحدث، وما يمكن أن يحدث. في هذا المقال، محاولة للبحث في الاحتمالات العسكرية للصراع بشكل مستقل نسبياً عن العوامل الأخرى، وسأسمّي ذلك بالاتجاهات التي اعتقد أن العسكريين يخلصون إلى تصورها عند التفكير في مستقبل حرب غزة.
أولاً- الاتجاه البسيط:
أعني به تدميراً انتقائياً وغير ممنهج من طرف إسرائيل، لقدرات “حماس” وللمجتمع الغزاوي، باستخدام مختلف أنواع الطيران والقصف المدفعي والصاروخي في ظروف حصار خانق. ويركز على ضرب قدرات “حماس” البشرية أينما وكيفما ظهرت، ويتعامل بديناميكية مع المعطيات ونتائج العمليات الجارية من دون أي قيود، مثل الامتثال لخطة مركزية أو وجود قوات صديقة في مسرح العمليات أو هجمات دفاعية مضادة أو مفاجآت خطيرة، وهو يحيد عالم الأنفاق ويجعلها عديمة الفائدة. لكن هذه الخطة تقتضي وقتاً طويلاً جداً، وقد تتداعى في أثناء ذلك الجوانب السياسية للعملية، فتفقدها الفعالية. أما من الناحية الاستراتيجية، فتنطبق عليها قاعدة حروب الاستنزاف والإنهاك، وهي أن الصراع قد يهمد لكنه لا يلبث أن يتفجر ما أن يلتقط الطرف الآخر أنفاسه.
ثانياً- الاجتياح:
يوصف الاجتياح عادة بأنه “برّي”، لافتراض وجود اشتباك شامل على الأرض بين الجيش الإسرائيلي و”كتائب القسام” وغيرها من الفصائل، لكن هذا ليس الواقع في الحرب الحديثة. وبالنظر لتجارب الصراع ضد تنظيم “داعش” في سوريا والعراق، فإن الاجتياح جوّي بالدرجة الأولى، يليه الإمساك بالأرض الخالية من الخصم بالقوات البرية. ويمكن أن يقتصر الأمر على شق ممرّين إلى ثلاثة من الشرق إلى البحر، وتدمير البنية التنظيمية لحماس فوق الأرض، ومحاولة الوصول إلى شبكة الأنفاق وتدميرها أو إغراقها بالمياه. وتقديرياً، يمكن لإسرائيل إنجاز المهمة في مدة زمنية لا تتجاوز الثلاثة أشهر، لكن اتخاذ قرار السير في هذا الاتجاه مقيد بشدة بسبب الخسائر البشرية بين المدنيين، وما يمكن أن تثيره من ردود أفعال خطيرة في الضفة الغربية ولبنان وفي كامل إقليم الشرق الأوسط. علاوة على إنهاء التعاطف الغربي مع إسرائيل، وعكس اتجاه الرأي العام حولها على نطاق واسع.
ثالثاً- استعادة 6 أكتوبر
يقوم هذا الاحتمال على فرضية انخراط “حزب الله” في العمليات العسكرية على الجبهة الشمالية لإسرائيل، ومحاولة القيام باجتياح بري تحت غطاء حملة صاروخية مكثفة بهدف التفاوض المشترك بين “حماس” و”حزب الله” من جهة، وإسرائيل من جهة ثانية. ومع أن القوات الأميركية وصلت إلى شرق المتوسط للحؤول دون حدوث ذلك، إلا أن احتماليته تبقى عالية، سواء بقرار من الحزب أو من إسرائيل التي يمكن أن تشنّ حرباً على هذه الجبهة بمجرد أن تتمكن من خياطة جرح غزة، مستعيدة الطريقة التي تعاملت بها مع الجبهتين المصرية والسورية في الحرب التي بدأت في 6 أكتوبر 1973، عندما ركزت قواها على الجبهة الجنوبية ثم انتقلت إلى الشمالية.
رابعاً- الصراع الإقليمي
في حال تفجر الوضع في جنوب لبنان، وما لم تُظهر واشنطن الحزم الكافي، فإن المليشيات المرتبطة بإيران ستهاجم قواتها ومصالحها وحلفاءها في كامل الإقليم. وقد تتفجر حروب ثانوية في مناطق أخرى، وسيكون من الصعب السيطرة على الصراع وتشعباته لتعدد الفاعلين والفرقاء وكثرة الصراعات الكامنة، ومن نتائجه شبه المؤكدة تحول إيران إلى طرف مشارك بشكل رسمي، فيما ستشارك روسيا على نحو غير مباشر.
خامساً-حرب نووية
إذا نشبت حرب في الإقليم، سيكون هدفها تحجيم قوة إيران، لكن الأخيرة لديها أوراق قوة كثيرة ستطرحها دفاعاً عن موقعها. وهي قد تخلق بذلك ظروفاً مؤاتية لاستخدام إسرائيل أسلحتها النووية ضد منشآت إيران النووية وترسانتها العسكرية. وقد يتكشف الصراع عن امتلاك إيران أيضاً ذخائر نووية أو أسلحة تدمير شامل، وربما تستخدمها.
وبالعودة إلى المشهد العام ومعطياته، خصوصاً موقف الولايات المتحدة ورئيسها بايدن الذي يبدو أنه يبذل قصارى جهده لإبقاء الحريق محصوراً في غزة، والسيطرة على رغبة نتنياهو في التصعيد الأقصى، فإن الاتجاه الأول وأجزاء من الثاني، أي الاجتياح البرّي المحدود، هو الأقرب إلى الوقوع. لكن هذا لا يعني استبعاد الاحتمالات الثلاثة الأخرى، لأن بقاءها على قيد الممكن هو ما سيرسم حدود التسوية السياسية التي قد تصوغ مخرج الأزمة الحالية.
—————————-
============================
درج
—————————-
ملاحظات ودّية من ابن ثورة مهزومة لابن قضيّة مزمنة/ ملاذ الزعبي
07.01.2024
بوجود تقاطعات لافتة للنظر مع مواقف حامية تبدر عن فلسطينيين وفلسطينيات أو مناصرين لهم في ظل ما يتعرض له أهل غزة من قصف وقتل وتجويع وظروف لا إنسانية قاهرة، كانت هذه الهوامش العابرة، على أمل الاستفادة مما سبق والتأثير في ما سيلي.
قبل نحو ثلاثة عشر عاماً، اندلعت الثورة السورية كأحد أبرز الأحداث التي شهدها البلد منذ قيامه قبل ما يقرب من قرن كامل. هول الحدث وفظاعته، ومستويات وحشيته غير المسبوقة لغالبيتنا الغالبة، وآماله وأحلامه وطموحاته، وكثرة اللاعبين الإقليميين والدوليين الساعين الى التدخل فيه بشكل أو بآخر، جميعها قادتنا كسوريين، بمن فيهم كاتب هذه السطور ربما، إلى ارتكاب أخطاء متفاوتة.
هذه الأخطاء قد لا تكون سبباً في هزيمة الثورة، التي يصرّ البعض على “استمراريتها” خلال الاحتفاء السنوي بها (وهذا التأكيد على الاستمرارية خطأ إضافي بتقديري)، إلا أنها، أي هذه الأخطاء، ساهمت في تعميق خسائرنا.
وبوجود تقاطعات لافتة للنظر مع مواقف حامية تبدر عن فلسطينيين وفلسطينيات أو مناصرين لهم في ظل ما يتعرض له أهل غزة من قصف وقتل وتجويع وظروف لا إنسانية قاهرة، كانت هذه الهوامش العابرة، على أمل الاستفادة مما سبق والتأثير في ما سيلي:
قد يخوض معك البعضُ المعركةَ لأهداف مغايرة تماماً لأهدافك. حريتُك ليست هدفاً لجميع “المقاتلين”.
ليس كل ما يقوله الخصم كذب وبروباغندا، وليس كل ما يقوله فريقك حقيقياً وصادقاً.
مقتل شخص واحد هو حدث مهول بما يكفي، لا تبالغ في الأرقام أو تزوّر أي حقيقة لاستمالة التعاطف.
ليس كل الحلفاء حلفاء.
لا توسّع دائرة أعدائك. وسّع دائرة حلفائك.
من يقف على الحياد بين الجلّاد والضحية ليس جلّاداً، حاول أن تستميله تجاهك بدلاً من دفعه صوب الجلّاد.
بعض الضحايا ينتظرون الفرصة للتحول إلى جلّادين.
العالم مركّب ومعقّد، تجنّب الثنائيات السهلة والساذجة.
خاطبي العالم دائماً، حتى لو قابلك بصمم جزئي.
محمد صلاح ليس جزءاً من المعركة.
أن تجد لنفسك حلفاء خارج الحدود شيء، وأن تتحول الى ورقة في معارك الآخرين شيء آخر تماماً.
لا تتستّر على أخطاء فريقك، على العكس، بادر إلى نبشها وفضحها وتعريتها.
بإمكانك الحديث عن أكثر من قضية ملحّة في الوقت نفسه.
دع صوتك يعلو على صوت المعركة.
يجوز لقاعد أن يفتي لمجاهد.
امتنعي عن مسرحة الدمار والفظائع.
لا تجعل مشهد الدماء جزءاً من العادي والمألوف واليومي، إحفظ كرامة الموتى.
قصيدة “لا تصالح” لأمل دنقل لا تصلح لأن تكون برنامجاً سياسياً.
وسّع من مكاسبك قدر الإمكان، وقلّل من خسائرك قدر الإمكان، معادلة كل شيء أو لا شيء ستنتهي بك إلى اللاشيء على الأرجح.
مجتمعك متنوع ومتعدد ومتباين كأي مجتمع في العالم، لا تعتقدي أن جميع من يقف إلى جانبك يتطابق معك.
انحياز إعلام جهة ما، لا يبرّر انعدام مهنيتك.
لا تصدق من يقول لك إن عملاً ما ارتكبه عدوك (اغتيال، مجزرة، اقتحام، اعتقال.. الخ) هو دليل على عجز العدو وفشله.
المحلل العسكري أو السياسي الذي يُسمعك ما تريد أن تسمع لا يصلح حتى لأن يكون منجّماً.
مارسي النقد الذاتي دائماً، حوّليه إلى فريضة.
الخصومات السياسية ليست لا نهائية وأزلية.
لا تتح مجالاً للمتسلّقين على قضيتك تحت أي ذريعة.
النجاح الفردي قد يتّسق مع القضية العامة، لكن حذار من “الناجحين” على حساب، وبالضد من، الشأن العام.
لن تبلغ أهدافك النهائية فوراً، ضع التدرّج في حسبانك.
الاعتراف بالهزيمة شرط شارط لتجاوزها.
أولويات الآخرين لا تتطابق مع أولوياتك بالضرورة.
العدميّة ليست حلّاً ولا خياراً.
الشعبوية تقتل.
الإنشاء والشعر ينتميان الى عالم الأدب وليس الى الصحافة.
إعمل على تكريس الشفافية والديمقراطية في مؤسساتك، وإلّا فإن هزيمتك ستصبح مضاعفة.
صورتك مهمة أمام العالم، لا تصدق من يقول لك عكس ذلك.
لا تقاطعي حدثاً (سياسياً، ثقافياً، فنياً، رياضياً.. الخ) كرد فعل. احرصي على وجود صوتك في كل المنابر الممكنة.
الشجاعة ليست المعيار الأهم.
تشبّث بالمصداقية.
طوّر لغتك وخطابك، جزء من المشكلة أن تكرر الإحالات والاقتباسات والاستشهادات ذاتها في معركتك التاسعة أو العاشرة.
إبحث في جذور ما حصل ويحصل، على أمل فهم المسارات المستقبلية والعمل على تغييرها.
شدّة معاناتك لا تهوّن من معاناة غيرك.
لست الضحية الوحيدة في هذا العالم.
الصمت فضيلة أحياناً.
تفاعل مع هذه الملاحظات عبر تصحيحها وتعديلها وإيضاح ما استجدّ عليها. أرسل لي ملاحظاتك كي أستفيد منها.
—————————-
=======================
==================
المجلة
————————–
حفلة جنون مشرقية/ عالية منصور
07 يناير 2024
إذن نفذت إسرائيل تهديداتها ولاحقت قادة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في الخارج. اغتيل صالح محمد سليمان خصيب، المعروف بالعاروري، نسبة إلى قريته عارورة الواقعة شمال غربي مدينة رام الله، بعد استهداف مكتب الحركة في الضاحية الجنوبية في بيروت، بواسطة صواريخ موجهة أطلقتها طائرة حربية وليس عبر طائرة مسيرة، كما أكد مصدر أمني.
العاروري هو نائب رئيس حركة “حماس” وقائد الحركة في الضفة الغربية، شارك في تأسيس “كتائب القسام” في الضفة الغربية، واعتقل في سجون الاحتلال لأكثر من عقد، ثم قضت المحكمة العليا الإسرائيلية بإبعاده عن الأراضي الفلسطينية، انتقل إلى سوريا، وغادرها خلال الثورة منتقلا إلى تركيا وقطر، ليحط الرحال في الضاحية الجنوبية في بيروت.
بعد أيام من انتخابه نائبا لرئيس الحركة عام 2017، زار طهران والتقى بعدها أمين عام “حزب الله” حسن نصرالله، ما اعتبر تأكيدا على علاقته الوثيقة بإيران.
بعيد اغتياله بساعات، خرج نصرالله بكلمة أكد فيها أن “جريمة اغتيال العاروري خطيرة ولن تبقى دون رد أو عقاب”. لكنه في الوقت نفسه قال: “حتى الآن، نحن نحسب حسابا للمصالح اللبنانية، لكن إذا شُنت الحرب على لبنان فإن مقتضى المصالح اللبنانية الوطنية أن نذهب بالحرب إلى الأخير”.
أي إنه اعتبر أن خرق إسرائيل لقواعد الاشتباك مجددا واغتيال العاروري في عقر دار “حزب الله” ليس إعلان حرب على لبنان، قد يكون التقط رسالة بنيامين نتنياهو التي نقلها عنه مستشاره بعيد الاغتيال بساعات حين صرح بـ”أن الهجوم لم يستهدف الحكومة اللبنانية ولا حزب الله”.
ورغم وضوح موقف “حزب الله” ومن أمامه إيران بعدم رغبتهما في توسيع نطاق الحرب، وأن أكثر ما يمكن أن يفعلاه هو عمليات عسكرية دقيقة ومحسوبة النتائج، إن كان على الحدود بين لبنان والأراضي الفلسطينية المحتلة أو في البحر الأحمر، إلا أنه لا يمكن تجاهل خطورة ما يحصل؛ فالمنطقة تحبس أنفاسها منذ 3 أشهر، ويزيد.
مما قاله نصرالله أيضا أن فصائل محور الممانعة في المنطقة تتخذ قراراتها بنفسها، مؤكدا أن طهران لم تطلب من الحوثيين فتحَ جبهة في البحر الأحمر، ولا من “حزب الله” فتح جبهة في جنوب لبنان.
لا أعلم إن كان نصرالله يتوقع أن يصدق أحد هذا الادعاء، رغم أنه يصر منذ خطابه الأول بعد عملية طوفان الأقصى على تبرئة إيران من العملية، فإيران “لا تمارس أي وصاية على الفصائل بالمنطقة أو قادتها”، كما قال في خطابه الأول في نوفمبر/تشرين الثاني.
ولكن وللتذكير أيضا، ففي شهر مايو/أيار قال نصرالله نفسه في خطابه حينها إن “العنوان الحقيقي لرد الفعل المقاوم في غزة هو غرفة العمليات المشتركة لفصائل المقاومة”. فما الذي حل بغرفة العمليات تلك؟ يبدو أن كلام مايو/أيار محاه أكتوبر/تشرين الأول، وكلام أكتوبر ستمحوه مصلحة إيران إن اقتضت.
وحتى هذه اللحظة لا مصلحة لإيران في توسيع رقعة الحرب، فقد فهمت رسالة الولايات المتحدة الأولى، أن توسيع رقعة الحرب يعني حربا شاملة تصل نيرانها إلى الداخل الإيراني، حرب مباشرة بين أميركا وطهران، واليوم وبعد أن أعلنت البحرية الأميركية مغادرة حاملة الطائرات “فورد” المتوسط بعد أشهر من التمركز لحماية إسرائيل، فقد جاءت الرسالة واضحة إلى إسرائيل، بايدن لا يرغب في الحرب أيضا، هذه المرة الرسالة لنتنياهو، فما هي إلا ساعات على اغتيال العاروري حتى أعلنت الولايات المتحدة أن إسرائيل هي من قامت بالاغتيال، رغم أنها سبق وأدرجت العاروري على القائمة الأميركية “للإرهابيين الدوليين” المصنفين تصنيفا خاصا (SDGT) منذ عام 2015 ورصدت جائزة مالية تصل إلى 5 ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات تؤدي إلى مكانه، إلا أنها سارعت للتنصل من أي مسؤولية عن العملية أو علم بها، وقد صرح المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي بالقول: “لا نؤمن بأن الهجوم العسكري سيقضي على فكر حماس، ونتقبل فكرة أن حماس ستظل موجودة”.
الوحيد الذي يبدو أنه مصرّ على توسيع رقعة الحرب هو رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو الذي أجلت الحرب معاركه الداخلية وأهمها معركته من أجل “قانون الحد من المعقولية”، أتته ضربة جديدة حيث أرجأت المحكمة العليا الإسرائيلية تأجيل تطبيق تعديل على “قانون أساس: الحكومة” الذي يهدف إلى منع عزل رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، فهل يحدث ما ليس في الحسبان ويضطر حسن نصرالله إلى أن يجاريه.
المنطقة تحبس أنفاسها وتحديدا لبنان على وقع جنون يضرب أصحاب القرار، من نتنياهو إلى خامنئي وما بينهما، ولكن الكارثة الحقيقية أن هؤلاء هم أصحاب القرار، وأنهم لا يختطفون المنطقة وأمنها واستقرارها فحسب، بل يصادرون مستقبل شعوبها، ويجعلون من شعوب المشرق العربي مجرد رهائن تحت وطأة الخوف والقلق والشعور الدائم بفقدان الأمان، فضلا عن العوز الدائم الذي بات وكأنه متلازمة مشرقية فمن لم يمت في الحروب العبثية، فليمت قهرا ومرضا وجوعا، أو ليمت في البحار، أو برصاص حرس الحدود وهو يحاول الهرب من أوطان تحولت لمجرد سجن كبير سجانه مجرم وحرسه ثلة من المجانين.
—————————-
التهجير من غزة يحصل… “طوعاً”/ إبراهيم حميدي
04 يناير 2024
إذا كان المقصود بـ”التهجير”، هو قيام عشرات أو مئات الآلاف بالعبور من قطاع غزة إلى سيناء المصرية بين ليلة وضحاها، فإن هذا لم يحصل إلى الآن. لكن إذا كان المقصود به بدء نزوح مئات آلاف “الغزيين” داخل القطاع وهجرة آلاف منهم “طوعا” إلى الخارج مع ديمومة الغارات والدمار والمعاناة، فإن هذا حاصل ويحصل.
معروف أن لدى حكومة بنيامين نتنياهو خطة لتهجير أكثر عدد ممكن من الفلسطينيين من قطاع غزة والضفة الغربية. بعض أعضائها سماها “حرب الاستقلال الثانية”. ومعروف أن هناك وعيا فلسطينيا بضرورة عدم تكرار “نكبة” 1948 أو لجوء ما بعد “نكسة” يونيو/حزيران 1967.
أيضا، معروف أن مصر وضعت “خطا أحمر” بعدم الاستعداد لقبول فلسطينيين في سيناء، ولمّحت بإمكانية انتشار التطرف بعدما انتهت للتو من القضاء على “داعش”، ولوحت باستخدام القوة لمنع فرض سيناريو التهجير لأنه “تهديد للأمن القومي”، وبالفعل رفضت إلى الآن إغراءات وضغوطات أميركية وغربية عليها لقبول ذلك. (والأردن اتخذ الموقف نفسه إزاء الضفة).
يُضاف إلى ذلك أن الأمم المتحدة ممثلة في “الوكالة الدولية لغوث وتشغيل اللاجئين” (أونروا)، رفضت علنا الدخول أو المشاركة في تطبيق أي خطة لتهجير الفلسطينيين خارج القطاع أو داخله، كي لا تتهم بأنها تشارك في “سيناريو نكبة جديدة”.
تحت هذه العناوين والمبادئ، تجري في الواقع “هندسة اجتماعية” في غزة وخارجها، تدل على أن التهجير حاصل ويحصل. وهنا بعض المعطيات:
– نزح نحو 1.9 مليون شخص من أصل 2.3 مليون نسمة من شمال القطاع إلى جنوبه، وهناك تقديرات بأن نحو 300 ألف شخص لا يزالون في الشمال، وهو رقم مبالغ فيه أو أنه يتقلص بفعل الغارات الإسرائيلية وغياب عوامل الحياة في الشمال، وانتقال ثقل عمل المؤسسات الأممية إلى الجنوب.
– أمام رفضها أي إجراءات لقبول فلسطينيين في سيناء، أقامت مصر مخيما في منطقة المواصي قرب رفح. بدأ بـ200 خيمة، وهناك خطط لتوسيعه بحيث يضم نحو 20 ألفا، مع خطط إضافية لتوسيعه أو إقامة مخيمات أخرى قرب حدود مصر. اللافت أن بعض المؤسسات الغربية التي اكتسبت خبرة وعلاقات بإقامة مخيمات شمالي سوريا وقرب حدود تركيا، بدأت العمل على حدود غزة.
– بدأ كثير من “الغزيين” في التواصل مع أقاربهم في الخارج للحصول على تأشيرات للهجرة والانتقال إلى العيش في دول غربية. بعض الدول الغربية، بينها كندا، سهلت الحصول على تأشيرات و”لم الشمل” بين الأقارب في غزة.
– تشير تقديرات أولية إلى احتمال انتقال وهجرة نحو 200 ألف في هذه الأيام. وفي حال استمرت الحرب أو تأخر الإعمار، سيتصاعد الرقم تحت عناوين “لمّ الشمل”، كما حصل في حروب أخرى.
– تخطط إسرائيل لإقامة “منطقة عازلة” شمالي غزة. وستكون هذه المنطقة خالية من السكان. كما أنها تنوي فرض إجراءات لاختيار من يحق لهم العودة إلى الشمال. يضاف إلى ذلك، أن مركز ثقل عمل المؤسسات الأممية وخصوصا “الأونروا”، سيكون في الجنوب وليس الشمال. كل هذا يشير إلى أن احتمال عودة “الغزيين” إلى الشمال، سيكون- لأسباب كثيرة- أمرا صعبا.
– بين 70 و80 في المئة من مناطق الشمال دمرت. وسيكون هذا سببا إضافيا في تعقيد عودة “الغزيين” وعبور نهر/ وادي غزة بالاتجاه المعاكس.
– سيلعب المانحون دورا محوريا في المرحلة المقبلة. ومن خلال السيطرة على اتجاهات التمويل، ستفرض هذه الدول والأطراف أجندتها في القطاع عبر تحديد أولويات التمويل جغرافيا أو الاغاثة مع تحويل المخيمات المؤقتة إلى مناطق إقامات دائمة. في منطقتنا، المؤقت سيتحول دائما.
– إلى الآن، يبدو أن تركيز المؤسسات الأممية هو في جنوب القطاع ووسطه، ما يعني مأسسة وجود “الغزيين” هناك مع مرور الوقت. هنا، سيكون مهما متابعة دور المبعوث الاميركي ديفيد ساترفيلد والاممية سيرغد كاخ… والمبعوث توني بلير.
تقول إسرائيل إنها ستواصل العمليات العسكرية لبضعة أسابيع، ثم تنتقل إلى المرحلة الثانية. “حماس” تقول إنها ستقاتل إلى حين إفشال خطط نتنياهو وأن خطط “اليوم التالي” من دون الحركة هي “سراب”. وكانت السلطة تقول إنها ضد العودة إلى قطاع غزة على “دبابة إسرائيلية”، ثم تقول إنها مستعدة لعودة مع ربط القطاع والضفة بسياق “حل الدولتين”، غير الموجود جديا على الأجندة الدولية. هناك سيناريوهات عدة لـ”اليوم التالي”، وهناك انقسام غربي وعربي حول سيناريوهات المستقبل.
أمام غياب الأمل وتضارب الآجندات والانقسامات وتفاقم المعاناة الإنسانية ومشاهد القتل، يقول “غزيون” عاديون: نريد أن نغادر. سيكون هذا عاملا أساسيا في تحديد مستقبل التهجير والهجرة، مع إدراك التمسك السياسي بـرفض “نكبة ثانية”.
——————————-
العالم في مخاض… انتخابات ونزاعات/ إبراهيم حميدي
04 يناير 2024
العالم في مخاض. مؤلم بحروبه ونزاعاته. مفتوح باحتمالاته ومآلاته. الأرقام تقول ذلك. في عام 2023، وقع 183 نزاعا، أعلى رقم منذ أكثر من ربع قرن. في عام 2024، هناك 40 انتخابا، تجرى في دول تشكل نحو نصف سكان العالم.
اخترنا أن نصدر عددا خاصا لـ”المجلة” بداية 2024، باللغة الإنكليزية إلى جانب العربية، للحديث عن هذه النزاعات والانتخابات التي تفتح الباب لصراعات وصفقات.
لا شك أن هذه الحروب وتلك الانتخابات فيها جوانب جيوسياسية وتساهم مع عوامل أخرى، في تشكيل نظام عالمي جديد. حروب صغيرة تسيطر فيها 459 جماعة مسلحة على 195 مليون إنسان، بينها عصابات تتنافس على المخدرات. وحروب كبرى مثل أوكرانيا. ونزاعات مجمدة كما هو الحال في سوريا وملايين من النازحين واللاجئين. أو حروب ساخنة في قطاع غزة. و”حرب الجنرالين” في السودان.
2024 هي سنة الانتخابات، حيث سيقترع 40 في المئة من سكان الأرض المسيطرين على 40 في المئة من الناتج المحلي الكوني. نتائج بعض تلك الانتخابات محسومة، كما هو الحال مع الرئيس فلاديمير بوتين الذي يبدأ ولاية خامسة في مارس/آذار المقبل ليبقى في الكرملين أكثر من ربع قرن.
صحيح أن باكستان وبنغلاديش على موعد مع الاقتراع على مرمى حجر من “طالبان” الأفغانية، و”الحزب الشيوعي” الصيني المتجدد بقرار الرئيس شي جين بينغ في 2023، لكن الأنظار تتجه في الربيع إلى الهند أكبر دولة ديمقراطية في العالم، حيث يطمح رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي في ولاية ثالثة. لا بد أن خسارته ستترك تداعيات استراتيجية، ما قد يضر بمحاولات واشنطن جذب الهند بوصفها ثقلا موازيا لبكين، حيث السؤال: ماذا لو فاز الحزب المؤيد للاستقلال في تايوان مرة أخرى؟ كيف سيتصرف شي جين بينغ مع قرب احتمال خروج الرئيس جو بايدن وعودة دونالد ترمب؟
قد يكون صحيحا ما أطلق على الانتخابات الأميركية في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، على أنها “انتخابات العالم”؛ حيث ستجرى على الأرجح بين رجلين عجوزين ورئيسين: حالي وسابق. كما ستأتي وسط انقسام غير مسبوق في البلاد، وفي خضم انتظار ولهفة خصمين تاريخيين، الصين وروسيا، لنتائجها الحاسمة إلى حد بعيد لمستقبل العلاقات الثنائية والنظام الدولي والنموذج الديمقراطي.
لن يكون الرئيس الصيني سعيدا بعودة ترمب، على عكس بوتين الذي يراهن على عودته لتغيير المعادلات العسكرية في أوكرانيا. لذلك، ليس مفاجئا أن يكون الرئيس فولوديمير زيلنسكي، الذي قد يخوض هو نفسه انتخابات رئاسية في مارس/آذار المقبل بعد انتهاء سنوات ولايته الخمس، من بين أكثر المتلهفين لـنتائج “المكاسرة” بين بايدن وترمب.
أيضا، هناك انتخابات في أريع دول أوروبية “صغيرة” (النمسا وبلجيكا وكرواتيا وفنلندا) وهي مهمة بدرجات مختلفة لقياس مدى شعبية “الشعبوية” والأحزاب المتطرفة والخوف من المهاجرين واستمرار التمسك بالقيم الديمقراطية على عكس رهانات شي وبوتين، في الترويج لنماذج سلطوية، بعد اختبارات المجر وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا. ومع أن المملكة المتحدة، شهدت عدة رؤساء حكومة وغابت ملكتها بعد عقود مستقرة، فإن الانتخابات ستجرى على الأرجح في 2024، وهي اختبار جديد لفعالية الديمقراطية.
مصدر الاهتمام بانتخابات المكسيك في يونيو/حزيران، ليس لأن المنافسة بين سيدتين، بل بسبب حصولها وسط هبات يمينية أو عودة يسارية في أميركا اللاتينية وتهديدات فنزويلا ضد غويانا وتأهب البرازيل. لكن الاهتمام في جنوب أفريقيا، أسبابه محلية وقارية. احتمال أن يخسر الحزب الذي قاده الراحل نيلسون مانديلا لأول مرة منذ ثلاثة عقود. إجراء الانتخابات بحد ذاته، مهم في أفريقيا؛ فهي قارة تعاني من عدم استقرار في ليبيا، وحرب في السودان، ومسرح تنافس أميركي- روسي- صيني. ومقابل 13 انقلابا في 23 سنة، بينها سبعة انقلابات منذ 2020، تجرى انتخابات في 2024 في تسع دول أفريقية بينها الجزائر وتونس وجنوب السودان.
لعل أوضح تداخل بين البندقية والصندوق في تل أبيب وكييف. وأمام تراجع الدعم الغربي وزيادة التفاؤل الروسي، تتجه معركة أوكرانيا إلى الجمود لتنضم هذه البلاد المشتعلة إلى قائمة الأزمات المجمدة باتفاق غربي- روسي أو بحكم الأمر الواقع.
أما في إسرائيل، فرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو متهم برغبته في إطالة حرب غزة لـ”الإفلات من العقاب”. لكن دخول الحرب في عمق سنة 2024 دون نتائج، سيزيد الضغط للتخلص عبر صناديق الاقتراع من حكومة يمينية فشلت في منع هجمات “7 أكتوبر” وتدحرج كرة النار على “قواعد الإشتباك” في الاقليم وهبوب العواصف والمسيرات على خطوط الإمداد في البحار المدججة.
في هذا العدد أيضا، وثائق سورية جديدة عن “صراع الأسدين” الرئيس حافظ وشقيقه الأصغر رفعت، قبل أربعين سنة، ومراجعات ثقافية وعلمية وصحية لعام 2023… واستشرافات لعام 2024.
—————————
“رسائل” إيران… و”الورقة الفلسطينية”/ إبراهيم حميدي
25 ديسمبر 2023
بات الآن، هناك مستويان للحرب وتبادل الرسائل: في غزة بين إسرائيل و”حماس”، وفي الإقليم بين أميركا وإيران. وقد بدأت إيران في الفترة الأخيرة توسيع وتصعيد دائرة تهديداتها واستهدافاتها. الجديد، هو استهداف ناقلات وشاحنات في باب المندب وقرب شواطئ الهند ومحاولة تهريب أسلحة بعضها ثقيل من سوريا إلى الأردن، ومحاولة ضرب أهداف قريبة من حدود مصر.
لا بد من وضع التطورات الأخيرة في سياق الحرب الدموية المستمرة في قطاع غزة منذ أسابيع. المعلومات تفيد بأن إيران كانت على اطلاع بالقرار الذي اتخذته القيادة العسكرية والسياسية لـ”حماس” في شهر رمضان الماضي، للقيام بتحرك مكثف، سياسي وإعلامي وشعبي وعسكري، لوقف مسار التطبيع العربي- الإسرائيلي وإعادة الملف الفلسطيني إلى الواجهة. لكن المعلومات تفيد أيضا بأن المرشد الإيراني علي خامنئي والأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله فوجئا بـ”الهجوم المباغت” الذي قامت به “حماس” في 7 أكتوبر/تشرين الأول، بل إنهما عاتبا قيادة الحركة لأنها لم تنسق مسبقا معهما حول التوقيت ضمن ما يعرف بـ”وحدة الساحات”.
بعد “مفاجأة أكتوبر”، حاولت إيران تدارك موقفها بحسابات حذرة ودقيقة بعد قيام أميركا بتقديم الدعم العسكري والدبلوماسي والسياسي لإسرائيل لـ”استعادة الردع”، و”شن حرب وجودية” ضد “حماس” في قطاع غزة. وحشدت واشنطن مدمرات وحاملتي طائرات في البحر المتوسط والخليج، ووجهت تحذيرا إلى طهران: “أي حرب شاملة يشنها حزب الله على إسرائيل، سترد أميركا بقصف إيران”.
وعندما وضعت إيران أمام خيارين: “خسارة الوجه أم الأذرع”، اختارت القيام بمجموعة من العمليات العسكرية لـ”حفظ ماء الوجه” في مسارح عربية مختلفة، العراق وسوريا ولبنان، من دون دفع أميركا وإسرائيل للقيام بعمليات “قطع الأذرع”. هذا النهج ترجم، بتبادل قصف محسوب بين “حزب الله” وإسرائيل في جنوب لبنان وعشرات الاستهدافات من تنظيمات موالية لإيران، على مواقع أميركا في العراق وسوريا ومحاولة طائرات مسيرة من “الحوثيين” ضرب أهداف إسرائيلية.
بعد أكثر من شهرين وتفاقم المعاناة الإنسانية في غزة ومقتل أكثر من 20 ألف مدني وبدء ظهور شقوق في الموقف الغربي وداخل إسرائيل وتصاعد الضغوط على إيران من حلفائها وتمسك نتنياهو بـ”أهدافه” رغم بطء تحقيقها، انتقلت إيران إلى المرحلة الجديدة، بتطورين:
الأول، محاولة ميليشياتها استهداف الأمن القومي الأردني عبر قيام مهربين بمحاولة تمرير أسلحة وذخائر من سوريا إلى الأردن، ومحاولة استهداف “الحوثيين” لحدود مصر قرب غزة. مصر والأردن في توازن دقيق بسبب تداعيات حرب غزة والأوضاع الاقتصادية ويتعرضان لضغوطات إسرائيلية وغربية هائلة ويقاومان خطر التهجير الذي تلوح به الحكومة اليمينية في تل أبيب، ولا شك أن “الرسائل الإيرانية” لا يمكن أن يخطئ المرء في قراءة معناها.
الثاني، تكثيف الاستهدافات في باب المندب وتوسيعها لتعطيل ممر أساسي للتجارة في العالم يصل تأثيره إلى ملايين المستهلكين، بل امتد التهديد ليصل إلى شواطئ الهند. إنها “رسالة” ضد التحالف الذي أعلنت أميركا عنه لضمان حرية الملاحة في البحر الأحمر وضم نحو 20 دولة، و”رسالة” إلى نيودلهي التي لم تنضم حتى الآن إلى هذا الحلف، والتي كانت قد أطلقت في قمة العشرين بنيودلهي “الممر الاقتصادي” من الهند إلى أوروبا عبر الشرق الأوسط وإسرائيل.
بالصورة الأوسع، تريد طهران تعطيل جهود أميركا لإقامة ترتيبات أمنية في الإقليم وخفض السقف الذي حدده رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بـ”القضاء على حماس”، و”تفكيك بنيتها” في قطاع غزة. لماذا؟ لأن تحقيق هذا الهدف يعني خسارة استراتيجية كبرى لإيران ومشروعها، إذ تفقد بموجبه المكون السنّي في “محور الممانعة” الذي ينتمي إلى المكون الآخر، وتخسر الإطلالة الأساسية على ملف الصراع العربي- الإسرائيلي والقضية الفلسطينية.
عليه، فإن غزة محشورة بين هدف نتنياهو بـ”القضاء على حماس” وتمسك إيران بعدم خسارة “الورقة الفلسطينية”، والإقليم بين فكي جهود أميركا، المقبلة على انتخابات مفصلية، لبناء هيكلية أمنية، واستعراض طهران لأوراقها الإقليمية.
—————————
لقطات من جحيم الشرق العربي/ عالية منصور
24 ديسمبر 2023
بينما ينشغل الجميع بالحرب الهمجية التي تشنها إسرائيل على الفلسطينيين في قطاع غزة، ترتفع وتيرة الهجمة على الأردن الذي بات يقع بين كفي كماشة أطماع إيران وإسرائيل في أرضه، وإن اختلفت هذه الأطماع وغاياتها.
منذ بادر الملك الأردني عبدالله الثاني إلى الانفتاح على النظام السوري ظنا منه أن هذا الانفتاح وإعادة العلاقات مع الرئيس بشار الأسد قد تخفف من الهجمة الإيرانية عبر ميليشياتها في سوريا وبالشراكة مع نظام الأسد على الأردن وأمنه واستقراره، جاءت النتيجة معاكسة؛ ارتفعت وتيرة تهريب المخدرات من سوريا إلى الأردن كما ترافقت عمليات التهريب مع تهريب أسلحة وذخائر ومتفجرات، فباتت القوات الأردنية على الحدود بين سوريا والأردن في حالة استنفار تام ومستمر، وبات الجيش الأردني في حالة حرب مع مجهول معلوم. حرب لا تلقى الاهتمام الكافي، ويتجاهل البعض خطرها الاستراتيجي، لا على الأردن فحسب، بل على دول المنطقة التي سقطت وتسقط واحدة تلو الأخرى، في فلك الاحتلال الإيراني، المقنع تارة والصريح لدرجة الوقاحة تارة أخرى.
سنوات والجميع يدرك الخطر الإيراني على دول المنطقة، ومع ذلك لم يتم التصدي لهذا الخطر كما يجب، بل ترك يتمدد، لم يضع أحد استراتيجية موحدة بالحد الأدنى لمواجهة هيمنة إيران على الدول العربية، فباتت الدول تسقط تباعا تحت النفوذ الفارسي، وصار المسؤولون الإيرانيون يتباهون بسيطرتهم على العواصم العربية واحدة تلو الأخرى.
لم يبدأ مشروع الاحتلال الإيراني مع سقوط بغداد، ولا بدأ مع الاجتياح الإسرائيلي لبيروت وتأسيس “حزب الله”، بل كان جزءا أساسيا وحجر أساس من سياسة إيران منذ لحظة سيطرة نظام الولي الفقيه على السلطة في طهران. سموا المشروع يومها “تصدير الثورة” ولم يقصدوا سوى تصدير نفوذهم.
في سوريا التي باتت مستعمرة إيرانية، ظن البعض أن التدخل العسكري الروسي ضد الثورة السورية سيحد من هيمنة إيران، وها هي النتيجة أمام أعين الجميع، وها هي المناطق التي وعد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين دولا عربية وغير عربية بأنها ستكون خالية من أي نفوذ للميليشيات الإيرانية، تصبح نقطة انطلاق لحرب إيران المقنعة على استقرار الأردن وغير الأردن، ويصبح الأمن القومي لدول عدة تحت رحمة ميليشيات إيران بالشراكة مع نظام الأسد.
لا يمكن النظر إلى الوضع السياسي دون النظر إلى الخريطة الجغرافية، فبينما تشن الميليشيات الإيرانية هجماتها العدوانية على الأردن، ها هي ميليشيات الحوثي تهدد الملاحة العالمية في البحر الأحمر وتشن هجماتها، ودائما باسم القضية الفلسطينية، وفلسطين منهم براء.
قبيل عملية “طوفان الأقصى” وإعلان إسرائيل حربها الهمجية على الفلسطينيين، ألقى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو كلمة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الـ78، حول آفاق وآثار التطبيع والسلام مع الدول العربية، ودوره في تغيير الشرق الأوسط، وحمل خريطة ابتلع فيها نتنياهو فلسطين بالكامل. لا وجود لدولة فلسطينية في خريطة نتنياهو.
ولكي يتمكن نتنياهو من ابتلاع فلسطين لا بد من تهجير الفلسطينيين، لن يتمكن من قتلهم جميعا، لم تتمكن إيران والأسد من قتل جميع السوريين، فهجّرا أكثر من نصف الشعب السوري، وحق العودة للفلسطينيين الذين اقتلعوا من أرضهم منذ 75 عاما ترفضه إسرائيل، كما يرفض بشار الأسد حق عودة السوريين الذين اقتلعهم مع إيران وميليشياتها من أرضهم منذ 12 عاما.
يقف الأردن ومعه مصر وباقي الدول العربية في وجه تهجير الفلسطينيين، وتنشغل الولايات المتحدة الأميركية بضمان أمن حليفها الإسرائيلي، إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن التي رفعت الحوثيين من قوائم الإرهاب لحظة وصول بايدن إلى البيت الأبيض يوم كان الحوثي يشن هجماته الإرهابية على السعودية، تسعى اليوم إلى تشكيل تحالف دولي للتصدّي للهجمات التي يشنّها الحوثيون على سفن مرتبطة بإسرائيل في البحر الأحمر.
الأردن ليس نهاية الأطماع الإيرانية في بلاد العرب، ومصر ليست بعيدة عن هذه الأطماع… كحائكي السجاد الإيراني يعمل ساسة إيران، ولا يجب أن ننسى خلية “سامي شهاب” التي كشفت في مصر قبل سنوات.
أطماع إسرائيل معروفة للجميع، وأطماع إيران أخطر، إيران تستغل الدين لتتغلغل داخل المجتمعات ولتقوم بتوظيف الشباب لصالح مشروعها باسم الطائفة مرة وباسم فلسطين مرات، والطائفة وفلسطين براء من أطماع طهران.
حجر الأساس الأول في التصدي لمشروع إيران التوسعي يجب أن يكون بإقامة دولة فلسطينية، لا لسحب ذريعة فلسطين من إيران وميليشياتها فحسب، بل لأن الحق يقتضي إقامة دولة فلسطين.
ووضع استراتيجية عربية واضحة وصريحة للتصدي لهذا الاحتلال المقنع، “حماية الأمن العربي الجماعي” هو ما نص عليه إعلان الرياض 2007، وهو ما يجب تفعيله، خصوصا بين الدول المستهدفة من العدوين، وإلا سنستمر في التساقط كأحجار الدومينو.
—————————-
إغراق أنفاق غزة والآثار البيئية الجسيمة المحتملة/ حايد حايد
20 ديسمبر 2023
تتمتع إسرائيل بتفوق عسكري ساحق، ولكنها مع ذلك تجد صعوبة هائلة في تطوير استراتيجية فعالة للتعامل مع شبكة الأنفاق المعقدة والواسعة تحت قطاع غزة، التي تعيق بشكل كبير فعالية القدرات العسكرية الإسرائيلية المتقدمة، وتؤمن لـ”حماس” والمقاتلين الآخرين غطاء وقائيا ومزايا تكتيكية.
وبعد دراسة معمقة لجملة من السبل لمواجهة هذا التحدي، استقر رأي الجيش الإسرائيلي مؤخرا على إطلاق برنامج تجريبي يتضمن ضخ مياه البحر في نظام الأنفاق تحت الأرض. وتهدف هذه الاستراتيجية العسكرية غير التقليدية إلى تفكيك شبكة “حماس” السرية المعقدة، وإجبار نشطاء الحركة على الظهور على السطح.
وبينما لا يمكن تأكيد فعالية هذا النهج غير التقليدي ونتائجه العسكرية، فقد أثار مخاوف جدية بشأن التداعيات البيئية المحتملة على المدى الطويل. ومن بين هذه المخاوف تلك المتعلقة باحتمال تلوث المياه الجوفية في غزة، وتلوث التربة بسبب إدخال مياه البحر والمواد الخطرة من الأنفاق، ناهيك عن خطر التأثير المحتمل لهذا الخيار على البنى التحتية الهشة بالفعل داخل هذه الجيوب.
وقد تم حفر شبكة أنفاق غزة في الأصل أوائل الثمانينات لتجاوز الحدود بين مصر ورفح، وكانت في البداية بمثابة طريق للتجارة غير المشروعة وتهريب الأسلحة، قبل أن تتوسع أغراضها مع مرور الوقت، لتشمل الوظائف الدفاعية والهجومية.
وعلى المستوى الدفاعي، تستخدم الأنفاق في المقام الأول لتخزين الأسلحة والإمدادات اللوجستية (الوقود والماء والغذاء)، وإنشاء مقرات القيادة والسيطرة. وفي المقابل، تتضمن الوظيفة الهجومية شبكة معقدة من الأنفاق تمتد إلى داخل إسرائيل، مما يتيح القيام بأعمال هجومية على نطاق صغير واختطاف الرهائن.
منذ سيطرتها على غزة عام 2006، أدركت “حماس” قدرة شبكة الأنفاق على توفير الملاذ الآمن والمزايا التكتيكية ضد القدرات العسكرية الإسرائيلية المتفوقة، وقد شجع هذا الفهم الحركة على تطوير هذه الأنفاق بشكل مكثف.
وقد مكّن الحجر الرملي الناعم الطبيعي الموجود أسفل غزة “حماس” من الحفر بشكل أعمق– يتجاوز الآن 20 مترا (65 قدما) مقارنة بالأنفاق الأصلية التي كانت في حدود 10 أمتار فقط (32 قدما)– مما يزيد من صعوبة استهداف هذه الممرات وتدميرها. بالإضافة إلى ذلك، عززت “حماس” هذه الأنفاق بالخرسانة مما يعزز مقاومتها.
وبحلول عام 2021، امتدت الشبكة إلى أكثر من 500 كيلومتر (310 أميال)، ما يوفر لـ”حماس” ملجا آمنا بعيدا عن متناول القدرات العسكرية الإسرائيلية الهائلة. ومنذ بدء الهجوم البري في غزة، ادعى الجيش الإسرائيلي أنه اكتشف أكثر من 800 فتحة وصول إلى شبكة الأنفاق وقام بتدمير أو إغلاق أكثر من 500 منها. ولكن على الرغم من هذه الجهود، تظل شبكة الأنفاق نفسها شديدة الخطورة بحيث يتعذر على إسرائيل تطهيرها، مما يجعل منها عالما سفليا تحت سيطرة “حماس”.
وفي سياق خطتها الجديدة لتحييد الأنفاق، أكملت إسرائيل تجميع مضخات كبيرة لمياه البحر على بعد حوالي ميل شمال مخيم الشاطئ للاجئين، منتصف الشهر الماضي تقريبا، يستطيع كل منها سحب المياه من البحر المتوسط، ونقل آلاف الأمتار المكعبة من المياه في الساعة إلى الأنفاق، مما قد يؤدي إلى إغراقها في غضون أسابيع.
وفي الأسبوع الماضي، أكدت مصادر مختلفة أن عملية غمر الأنفاق قد بدأت بالفعل، وإن كانت بشكل تجريبي محدود. وبينما اعتبر المسؤولون العسكريون الإسرائيليون أن التجربة الأولى كانت ناجحة، أكد مسؤولو “حماس” أن الأنفاق مصممة لتحمل الفيضانات، من بين تهديدات أخرى. وفوق ذلك، شرح الخبراء كيف أن الأنفاق ليست كلها على المستوى نفسه، ما يشير إلى أنه في حين أن بعض الأقسام قد تغمرها مياه البحر، إلا أنها قد لا تؤثر على الشبكة بأكملها بشكل موحد.
وبغض النظر عن فعالية هذه الطريقة، فقد حذر خبراء البيئة من التلوث المحتمل لإمدادات المياه المدمرة بالفعل في غزة والإضرار بمحاصيلها. ومن المحتمل جدًا أن تتسرب مياه البحر إلى التربة من الأنفاق، خاصة في المناطق التي تضررت فيها الأنفاق سابقًا.
ويمتد الخطر إلى ما هو أبعد من تسرب المياه شديدة الملوحة إلى الأرض، فعلى طول ساحل غزة، تتلوث مياه البحر بمياه الصرف الصحي غير المعالجة التي يتم تصريفها باستمرار في البحر من نظام الصرف الصحي المختل في القطاع. كما أن مياه البحر ستغسل جميع المواد السامة الموجودة في الأنفاق، سواء أدخلتها إسرائيل أو خزنتها “حماس”، إلى التربة والمياه الجوفية. وهذا من شأنه أن يؤدي إلى تفاقم تلوث المياه الجوفية، التي تدهورت بالفعل بسبب الحصار والحروب.
—————————–
====================
مواقع سورية
———————–
تلفزيون سوريا
———————-
في خسارات الرهان على الأصدقاء/ منير الربيع
2023.12.08
تنقسم الجماعات الاجتماعية في القضايا السياسية أو المشاريع الثورية والنضالية إلى مجموعات متعددة. بعضها يبقى مناصراً للضعيف والمنكّل به والمهزوم والذي يتعرض دوماً للفوقية والاستقواء. وبعضها الآخر يذهب إلى مناصرة المنتصر أو الرابح أو الفاجر القادر على تقديم قوالب خطابية أو سياسية تبرز انتصار روايته المعنوية ورمزيتها. وبعض ثالث يفضل الانزواء والانتظار لتنجلي الصورة فيبني موقفه. أما البعض الرابع فهو من المحتكمين إلى هوامش الفراغ الذي يعيشه ويعانيه فتطفو لديه كل خفّة على شكل حقد تجاه كل المسحوقين. وهذه العناصر الأربعة أكثر من اختبرها السوريون والفلسطينيون.
في ميادين متعددة، وجد السوريون والفلسطينيون من يناصرهم لأحقية وعدالة قضاياهم. كما وجدوا من يستثمر قضاياهم من القوى الكبرى أو المؤثرة في إطار استخدامهم لمشاريع متعددة. وهم دوماً قد وجدوا من يناصر المنتصر عليهم كما حال مناصري النظام السوري الذي انتصر على شعبه، ومناصري إيران الذين يؤيدونها في مواجهة خصومها من دون مناصرة جدية أو حقيقية أو فعلية للقضية الفلسطينية أو حتى لحركة حماس. كما أن الشعبين السوري والفلسطيني اختبرا من تطفو لديه أحقاد التاريخ والنزعات الفوقية في مجانبة مناصرة قضاياهما والتعاطي معهما بعنصرية. وللمفارقة إن جانباً من هذا النموذج مورس تجاه الشعبين في لبنان، وهذا ما يبقى ثابتاً في الممارسة الإسرائيلية العنصرية تجاه القضية الفلسطينية أولاً والعرب ثانياً.
شاء القدر أن نكون في صفوف مناصرة الشعبين السوري والفلسطيني على مظلوميتهما وسحقهما بتآمر الأمم، خصوصاً عندما كان يتم وسم الشعب السوري الثائر بأنه إرهابي وينتمي إلى تنظيمات متطرفة كداعش أو النصرة. في حين كان الآخرون يعملون على التنكيل بهذا الشعب وتهجيره. في حين كّنا نحن نقول إن ممارسة العنف والاقتلاع والتهجير والقتل وبعدها التعاطي بعنصرية مع اللاجئين سيؤدي إلى إنتاج آلاف المقهورين بفعل التنكيل وهؤلاء سيكون خيارهم العنف أو التطرف. هذه المعادلة تتكرر اليوم مع الشعب الفلسطيني المقهور والمسحوق والمهجر من منازله في غزة. ومن كان يعترض على توصيفنا لوضع الشعب السوري، يستند إلى القراءة نفسها في توصيف واقع الشعب الفلسطيني.
مع بدايات الثورة السورية، واتساع رقعتها نشأ ما يسمى “أصدقاء الشعب السوري”. وهو الذي لم ينل من الصداقة أي دعم أو إسناد أو دفاع عن حقه بالوجود على قيد الحياة والاستمرار على أرضه وفي منزله، تخلى الأصدقاء والذين كان يقصد بهم الدول الداعمة للثورة السورية في مواجهة النظام. فشلت رهانات الشعب على من ناصره بقوة، وما بقي له سوى أحلام ضائعة وأصدقاء متعاطفين وعاجزين. الواقع نفسه يتكرر في قطاع غزة ومع الشعب الفلسطيني ككل. فقد خسر الشعب حلفاءه وأصدقاءه أمام آلة القتل الإسرائيلية، المستمرة في عمليات التجزير والتهجير. وكأن حماس تركت وحيدة، بلا أصدقاء ولا حلفاء، بعضهم يحملها مسؤولية ما جرى، وبعضهم الآخر يستند إلى أنها لم تنسق معه ولم تضعه في الأجواء. فيما الصحيح أن جميع الحلفاء يريدون تجنّب أن يلقوا المصير نفسه أو الدخول والانخراط في حرب ستكون آثارها سلبية عليهم، وهو ما ينطبق على جبهات مساندة أو حلفاء إقليميين، كما هو الحال بالنسبة إلى إيران التي تبرأت مما قامت به حماس، فسقط مبدأ وحدة الجبهات، وترك الفلسطينيون إلى مصيرهم.
سقط مبدأ وحدة الجبهات بمعناه الفعلي، وانتقل الفلسطينيون إلى حالة من تجزئة الجبهات، ففي أعقاب الهدنة التي سرت في غزة، استمرت العمليات الإسرائيلية في الضفة الغربية، وهذه التجزئة الأولية، وصولاً إلى تجزئة قطاع غزة شماله عن جنوبه وشرقه عن غربه. أما قوى المحور فلكل منها حساباتها، والتي كانت أخيراً في تصريح الخامنئي بأنه من غير الصحيح أن لدى إيران مشروعاً لرمي اليهود في البحر، وبالتالي التراجع عن مقولة إزالة إسرائيل بـسبع دقائق ونصف. إنها معادلة الصراع الأزلي، بين من يناصر قضية دعماً لها، ومن يناصرها كسباً لموقف وسعياً وراء ما هو أبعد.
—————————
تحرير فلسطين من الإثم الألماني ومعاداة السامية/ فراس سعد
2024.01.08
أيام من العدوان الإسرائيلي على غزة ومقتل مئات الفلسطينيين نصفهم أطفال اعتصمت مجموعة من الشباب الألماني والفلسطيني والعربي أمام مركز حكومي وسط العاصمة الألمانية برلين ورددوا هتافات تطالب الحكومة الألمانية بإنصاف الشعب الفلسطيني واتخاذ موقف عادل بدل الانحياز المستمر لإسرائيل، الأمر الذي كان يشجع الأخيرة دوما على ارتكاب مزيد من جرائم الحرب بحق المدنيين الفلسطينيين.
من بين تلك الهتافات التي رددها الشباب المعتصمون: “حرروا فلسطين من الإثم الألماني” وهو هتاف يكشف معضلة تاريخية ما تزال تنهش ضمير الألمان وتؤجج مشاعرهم ألا وهي المحرقة وجرائم الحرب النازية بحق اليهود الألمان والبولونيبن والغجر (وكذلك المغاربة) والقصد من الهتاف أن فلسطين لا ذنب لها لتدفع ثمن ما ارتكبه الألمان النازيون قبل ثمانين عاما كلما كان على المانيا أن تتخذ موقفاً تجاه أحداث فلسطين، فإذ بها -أي ألمانيا- وعلى خلفية المحرقة تقف مع إسرائيل ظالمة أو مظلومة.. فلم يحدث أن وقفت ألمانيا مع الحق الفلسطيني إلا في حال وقفت معه كل من أميركا وأوروبا.
وفي سياق الاستنفار الدبلوماسي الغربي إثر السابع من أكتوبر وبعد زيارة وزير الخارجية الأميركي إلى تل ابيب سارع المستشار الألماني إلى زيارتها بعد يومين من زيارة وزيرة خارجيته إليها وبدا المستشار برفقة نتنياهو كما لو أنه بحسب البعض يقوم بمراسم حج مقدس بوجهه الشاحب مطأطىء الرأس.. وهو مشهد ليس بالغريب عن السياسيين الأوروبيين وخصوصا الألمان منهم الذين يقادون إلى إسرائيل قسراً باعتبارهم حاملي وزر آبائهم وأجدادهم الألمان وَرثَة إثم النازية التي قتلت يهود ألمانيا وبولونيا، وزراً يجعل كل ألماني نموذجي متشرباً للإثم ومنقاداً لدفع الثمن عن طيب خاطر علّه بذلك يخفف اللعنات عن أرواح أجداده النازيين، كما يقادون إليها تبعا لمصالح مشتركة، فالسياسة الألمانية صممت بطريقة لا تتعارض أبدا مع مصالح إسرائيل أو مع مصالح الطبقة المالية الحاكمة لألمانيا، بل يمكن في بعض الحالات أو عند الطلب أن تخدم مصالح الجهتين.. حتى لو كان ذلك على حساب مصالح ألمانيا..
فكل ألماني يولد في ألمانيا ويتعلم في مدارسها سينتقل إليه هذا الشعور بالإثم ويشعر بالعار من كونه ألمانياً، فالمناهج المدرسية والجامعية ووسائل الإعلام والكتب والمجلات كلها تريد من الألماني أن يطأطىء رأسه كلما سمع كلمة يهودي أو إسرائيلي. لكن لا تفعل تلك المناهج ووسائل الإعلام الألمانية الأمر عينه تجاه مجموعة عرقية في ناميبيا .. ارتكب الألمان سنة 1905 مجزرة بحقها استمرت لسنوات انتهت إلى إبادة ستين بالمئة من تلك المجموعة .
“العداء للسامية” يستخدم للاعتداء على الفلسطينيين
كل كلمة أو عبارة يُشتم منها موقف معادٍ لإسرائيل أو حتى للصهيونية تدخل نطاق العداء السلمية.. هذه التهمة التي صار طيفها واسعا في السنوات الأخيرة .
الأنكى من ذلك يستخدم مصطلح العداء للسامية في التغطية على ارتكاب مجازر متوالية ضد الفلسطينيين وفي منع انتقاد ما ترتكبه إسرائيل بحق الفلسطينيين .
ولو افترضنا أن متضامنا مع فلسطين يعيش في ألمانيا وفرنسا أوقف شخصا في الشارع وطلب منه تصفح بعض الصور عن أطفال فلسطين الذين قتلهم القصف الإسرائيلي أو الشرطة الإسرائيلية فهو سيعتبر بحسب الإعلام الألماني معادياً للسامية.. بل إنك لمجرد رفع علم فلسطين أو عرض صور في الشارع عن فلسطين والأطفال الفلسطينيين الضحايا ستكون معاديا للسامية، وهو أمر يعد في فرنسا اتهاماً أخطر بكثير من الاعتداء على علمانية الدولة..
ما هي السامية ؟!! ومن يعتدي عليها؟
كنت كتبت قبل سنوات في المحاججة مع من يستخدمون مصطلح السامية لتبرير كل جرائم إسرائيل ولتبرير كل دفاع عنها بإجراء بسيط وهو أن يثبتوا أن الإسرائيليين هم ساميون.. كيف ذلك وهذه البدعة تستند إلى خرافات من القرون الوسطى ليس لها أي دليل أو قرائن من التاريخ أو علم الآثار أو الواقع.
فخرافة السامي والآري والحامي تنتمي إلى الماضي وليس لها أي مكان في الدوائر العلمية الرصينة في أميركا على الأقل .. ولو أردنا التثبت من عرقية إنسان ما في هذا الزمن لما تطلب الأمر أكثر من شكة دبوس في إصبع وإرسال عينة من دمه إلى مختبر في الولايات المتحدة لإجراء فحص DNA، يمكن القول بل الجزم بناء على ملايين الفحوصات السابقة تبين أن عرب المشرق على سبيل المثال يعودون إلى سلالات مشتركة وهذا ما يمكن قوله بالضبط عن اليهود العرب.. أما بالنسبة للإسرائيليين الاشكناز فلن تختلف أصولهم عن أصول أي أوروبي.
المهم في هذه المسألة أن ما يسمى “سام وحام” وسواهما من شخصيات الكتاب المقدس ليس لهم أي اعتبار ووجود في هذه المسألة العلمية الدقيقة.. ما يؤكد أن فكرة السامية والآرية ليست سوى بدعة استعمارية اخترعها “علماء”-هم في حقيقتهم مثقفون دينيون أو متعصبون قوميون معظمهم ألمان – مستمدة من التوراة تحديدا، لتبرير تصنيف الناس وتفرقتهم وإثبات أن قوما أو جماعة عرقية “تتفوق” على أقوام وجماعات بالعرق أو اللون أو اللغة.. وهو محض افتراء.. فالتفوق ليست مسألة جماعية، بل هي مسألة فردية، يحققه إنسان ما بعمله وبإنجازه وليس بانتمائه الديني أو القبلي أو القومي.
———————————–
حرب الإبادة في غزّة، وانبعاث جيل جديد في الغرب/ طالب الدغيم
2023.12.08
“جو بايدن خائف، يُحاصَر أينما ذهب، لن يستريح.. لن يجد السلام. نَعده بألا سلام لصانعي الإبادة الجماعية”، بهذه العبارات حاصر مجموعة من الشّبان الأميركيين فندقاً ينزل به الرئيس الأميركي جو بايدن في مدينة دِنفر عاصمة ولاية كولورادو الأميركية منذ يومين. ورفع سكان أحد الأحياء الكبيرة في مدينة ليستر البريطانية الأعلام الفلسطينية تضامناً مع غزّة، واحتل طلاب في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا أحد المباني المهمة يوماً كاملاً، بعد أن وَجهت لهم إدارة المعهد رسالة بأن تظاهرهم لصالح فلسطين “تخريبي” و”فوضوي”، وتنوعت أشكال الرفض والاحتجاج الشبابي الغربي، رداً على مشاهد الموت الجماعي التي تظهر من فلسطين.
في الأيام الأولى التي أعقبت حدث 7 تشرين الأول/ أكتوبر “طوفان الأقصى”، طغت الرواية الإسرائيلية في الإعلام الغربي، بأن ما حصل “اعتداء إرهابي مرعب ضد مدنييها”، ولكن مع بدء العدوان الإسرائيلي على غزّة، والمسمى بـ”السكاكين الحديدية”، ودموية الرد ضد المدنيين العُزّل من الأطفال والنساء والعجائز، وتدمير المستشفيات، ومراكز إيواء النازحين، وضرب قوافل الإغاثة الإنسانية، ووصف الناس هناك بــ “الحيوانات البشرية”، بدأ يتشكل الاتجاه الأوسع في الرأي العام في الغرب، وانقلبت الموازين على المستوى الجماهيري، حتى تلاشت سرديات المحتلين وحُلفائهم، وبدأت تفقِد زخمها، وخاصة في أوساط الشباب الغربي.
الجيل الجديد في الغرب يبحث عن المعنى
في كتابه “مرآة الغرب المنكسرة” اعتبر الدكتور حسن أوريد، بأن الغرب تحولت فيه القيم إلى سلعة، وعلى هذا المنوال، وفي الآونة الأخيرة، ظهرت كــتابات نقدية غربية، استنطقت الحال كما في كتاب “ما بعد الإنسان The Posthuman” للكتابة الأسترالية الإيطالية روزي بريدوتي، والتي أثارت الجدل بعد نقاشاتها حول دور النخبة السياسية الغربية في الترويج للنظريات الرأسمالية التي وصفتها بـ”المتوحشة”، كنظرية ما بعد الحداثة، وما بعد الاستعمار، حتى ضيّعت قيمة الإنسان، ومكانته، وصار الشعار في الغرب: “أنا أتسوق، إذن أنا موجود”.
ولكن، مع تعاظم الأزمات الأخلاقية والاقتصادية المعيشية، وحالة التأزم السياسي في بعض دول الغرب، ظهرت بعض المبادرات الشبابية تبحث عن القيمة، وعن الأخلاق التاريخية، وعن مركزية الإنسان، وبُناه الاجتماعية، وروابطه الإنسانية، ونماذجه السلوكية، وأخذ الشباب الغربيون بكل أطيافهم وألوانهم، يخرجون عن صمتهم في حملات إعلامية ووقفات احتجاجية، وجاءت جرائم الإبادة المروعة في غزّة، لتحرك شباب الغرب ضد النخب واللوبيات، بعد أن كانوا لا يزالون مقتنعين، ولو جزئياً، بالرواية الإعلامية التي تخص إسرائيل في بلدانهم.
كشفت المظاهرات الضخمة التي شهدتها مدن غربية، مؤخرًا لأجل فلسطين، من واشنطن ونيويورك ولوس أنجلوس وبوسطن الأميركية، وصولاً إلى تورنتو الكندية، ولندن البريطانية، وبرلين الألمانية، وأمستردام الهولندية، وفي اسكتلندا وأوسلو ومدريد وسيدني وملبورن وروما عن حالة التحول في الرأي العام الشبابي تجاه الثقة بالنخب السياسية الغربية. وهكذا، بدأ يتشكل الزحف المعاند لهيمنة البروبوغندا الإعلامية انتصاراً للشعب الفلسطيني، وحين قوبل الحراك الشبابي ذاك باعتقال بعض منظمي الاحتجاجات كما في الولايات المتحدة الأميركية، وحظر بعض المظاهرات كما في فرنسا وألمانيا وبريطانيا وإيطاليا، في تناقض فاضح مع القيم الدستورية الغربية، زادت حدة الاحتجاجات الشبابية، ولم يعد الهدف الانتصار لقضية فلسطين فقط، وإنما خرجوا بالآلاف باحثين عن القيمة، وباحثين عن الغرب، وعن مكانة الأخلاق والإنسان فيه، بعد ما رأوا كيف تغيرت تلك المعايير والمبادئ الإنسانية بين ليلة وضحاها.
انتكاسة الإعلام الغربي “التقليدي” في نظر الجيل الجديد
أسهم انحياز قنوات ومراكز إعلامية بارزة مثل CNN الأميركية، وBBC البريطانية، وفرانس 24 الفرنسية، بالإضافة لمراكز وصحف إعلامية، ومؤسسات أكاديمية وثقافية أميركية وأوروبية، لصالح الهجمات الإسرائيلية، في انكفاءٍ أوسع عنها كمصادر موثوقة للأخبار في نظر شباب الغرب، وأظهرت استطلاعات للرأي في بريطانيا، بعد عشرة أيام من بدء الحرب الإسرائيلية على غزّة، بأن نسبة تعاطف الشباب الجامعي مع الفلسطينيين يزيد عن أربعة أضعاف الشباب المتعاطفين مع إسرائيل.
وعوضت شرائح واسعة من الشباب الغربي مصادر معلوماتها، من وسائل الإعلام البديلة، والميديا النشطة، كبديل عن وسائل الإعلام التقليدية، التي دخلت في مأزق أخلاقي بشكل علني، وفشلت في تحقيق توازن في التغطية، حيث بدا أنها تحاول ترسيخ الرواية الإسرائيلية في وعي الجمهور الغربي، فمثلاً، تم تثبيت خبر “مقتل 1400 إسرائيلي في 7 أكتوبر” لمدة تزيد عن ثلاثة أسابيع من الحدث في الشريط الإخباري لقناة BBC البريطانية، في الوقت الذي تجاوزت فيه أعداد القتلى من المدنيين الفلسطينيين 10 آلاف قتيل، واستخدمت بي بي سي على حسابها في منصة إكس، وصف “موت فلسطينيين” و”مقتل إسرائيليين”؛ الأمر الذي أثار موجة انتقادات واتهامات، بتعمُّد القناة صناعة رواية منحازة لصالح إسرائيل.
وانتشر فيديو لقناة CNN، يَظهر فيه المخرج، وهو يُوجّه مراسلة الأخبار والمصور عبر الهاتف، بأن يَتظاهرا بأنهما تعرّضا لصواريخ “القسام” عندما يقول للمراسلة: “تلفتي حولك بطريقة تبدين فيها أنك مذعورة”، وهو التضليل الإعلامي نفسه الذي تبناه الرئيس الأميركي بايدن في أول أيام الحرب بقوله: “حماس تقطع رؤوس الأطفال”، واعتذر بعد فترة.
اهتزاز الثقة الشبابية في النخب.. هل بدأ تفكيك اللوبيات في الغرب؟
يشير الباحث الأميركي البارز، جون سميث، إلى أن هناك اعتقادًا شائعًا بين بعض النقاد حول أن الديمقراطية الغربية، قد تحولت إلى أداة للطبقة السياسية والاقتصادية الحاكمة. يقول سميث: “على الرغم من الأفكار الجميلة حول تمثيل الشعب والحكم الشامل، إلا أن هناك مستويات عالية من الفساد والتحيز في هذه النظم، تجعل بعض الناس يشككون في فعالية الديمقراطية”.
بدأ الشباب في الغرب، يفتش عن أسباب الانحياز السياسي والاقتصادي والإعلامي الرسمي، وراء الرواية المضللة التي تبثها إسرائيل، وحين بحثنا في الأمر، وجدنا أن أكثر الكلمات المفتاحية التي يبحث عنها في الغرب على محرك البحث غوغل “لوبي”، و”فساد”، و”توحش”، و”الحرية”، ومنها بحث بشكل واسع عن دور منظمة إيباك اليهودية الأميركية في صناعة القرار السياسي والعسكري والإعلامي الأميركي.
وإيباك التي تأسست في ستينات القرن الماضي، وعملت على تكثيف جهودها في الولايات المتحدة الأميركية لدعم إسرائيل، وبالرغم من أن نسبة اليهود في أميركا لا تتعدى 3 ٪ من الشعب الأميركي، غير أن دراسات وإحصائيات لنفوذهم تتحدث عن أن أكثر من 20% من أساتذة الجامعات الكبرى في أميركا هم من اليهود، وحوالي 60% من كُتاب ومنتجي أقوى الأفلام والمسلسلات الأميركية هم من اليهود، ناهيك عن الصحف والمجلات والقنوات الفضائية، وكبرى شركات النفط والسلاح والغذاء، حسب توثيق دراسات ليهود معروفين أمثال الكاتبين سيمور ليبست، وإيرل راب في كتابهما “اليهود والحال الأميركي الجديد”. كما تُصرح إيباك على موقعها الرسمي على الإنترنت أن مقابلاتها مع أعضاء الكونغرس الأميركي تتجاوز 2000 مقابلة سنويًا، تُقدّم من خلالها تقارير ودراسات استراتيجية عن الشرق الأوسط والعالم، ومدى إمكانية الاستفادة من الفرص المتاحة في كل منطقة لصالح الولايات المتحدة وإسرائيل، والتي تثمر بحوالي 100 تشريع وقانون في الكونغرس والبيت الأبيض لصالح إسرائيل سنويًا. ورغم معرفة الشعب الغاضب في أميركا، لقوة ونفوذ اللوبي اليهودي في مفاصل الحياة الاقتصادية والسياسية والأكاديمية، ولكنه خرج عن صمته في تحدٍ واضح عبّر عنه نشطاء وفنانون ورجال أعمال وجامعيون ومحامون في مناسبات كثيرة.
تداعيات حَراك الجيل الغربي الجديد، وإمكانية التأثير
المواقف الشبابية الغربية الصارمة، وانخراط شرائح مجتمعية واسعة، وفي طليعتهم غاضبون من الجالية اليهودية في حركات تضامنية، دخلوا قاعات الكونغرس الأميركي للتنديد بالإبادة الجماعية في غزّة، ومقاطعة حملة تبرعات بولاية بوسطن للجيش الإسرائيلي، عكست تقدمًا جوهريًّا في حوار القيم، ورفض سياسة النخبة الغربية، وأدت بشكل أو بآخر، لتغير بعض المواقف الغربية، ففرنسا التي زار رئيسها ماكرون إسرائيل متضامنًا، وأرسل حاملة طائراته الهليوكبتر “ديكسمو” إلى شواطئ فلسطين داعمًا لردها، صوّتت إلى جانب إسبانيا لاحقًا بنعم على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي طالب بوقف إطلاق النار، ويُصرح بتعاون وثيق مع قطر لتجديد هدنة إنسانية أطول من الأولى، وتحولات الموقف الفرنسي جاء نتيجة التعاطف الشعبي الفرنسي الذي تصاعد لصالح الشعب الفلسطيني بنسبة لا تقل عن 47 ٪ بما يفوق نسبة المتعاطفين مع إسرائيل. وقاد الاحتجاج الشعبي في إسبانيا وبلجيكا، رئيسا وزراء الدولتين لعقد مؤتمر صحفي أمام معبر رفح، مطالبين بوقف الإبادة، وإدخال المساعدات الإنسانية. وأعلن رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو عن رفضه لاستهداف المدنيين، وقدم التعازي للعائلات الفلسطينية الكندية في البيوت والمساجد. وتمت إقالة وزيرة الداخلية البريطانية سويلا برافرمان من منصبها من قبل رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك، بعد الإدلاء بتعليقات مثيرة حول ليونة تعامل الشرطة اللندنية مع المسيرات المؤيدة للفلسطينيين في لندن، ووصفت تلك المسيرات بأنها “مسيرات كراهية”. وفي المقابل، أعلنت دول إسبانيا والدنمارك والنرويج وأستراليا وبلجيكا وجنوب أفريقيا والبرازيل، بأنها ستعترف بدولة فلسطينية مستقلة، كحل ينهي هذه المأساة الإنسانية في فلسطين.
أحدثت حرب غزة هزات حقيقية لدى الجيل الجديد في الغرب، وضربت سمعة الدول الغربية “الديمقراطية” نتيجة انحيازها إلى إسرائيل؛ الأمر الذي ألهب النقاش لدى الرأي العام الغربي والعالمي فيما يتعلق بالمعيار المزدوج الذي اعتمدته الحكومات الغربية، وميزت فيه بين الغزو الروسي على أوكرانيا، والإبادة الجماعية التي تمارسها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني، وهذا الاختلال، يُنبئ بربيع شبابي غربي في رحلة البحث عن المعنى، وإضعاف هيمنة النخبة الرأسمالية، واللوبيات الطاغية التي خلقت الأزمات السياسية والمالية والصحية في العالم.
————————
سوريو فلسطين.. لحمي على الحيطان لحمك/ عبدالله الموسى
2024.01.08
نكأت حرب غزة جراح السوريين فالمتشابهات تحولت لمتطابقات في عدالة المطلب وعناد الحق أمام القوة وعدد المقابر الجماعية وصمت القريب وفجارة البعيد وضيق الزمكان.
وفي الجنازة قرر قليلون التسابق والتفاضل ونقلوا العيون إلى ساحة جدال صفرية، ثم انحدرت الجدالات إلى الناقص السالب فصارت دون المنطق، وعبث المصابون باضطراب ثنائي القطب السياسي في الجدالات فشعبوها أكثر حتى استحالت لاقتتالات على أفضلية الحق ونصوعه. ما سبق يمثل نسبة لا تذكر، تجد من سعة الوقت قدرة على “التأكيس”، في حين تتناثر الحروف من قلوب الملايين عاجزة عن تشكيل مفردة واحدة تصف الجريمة الإسرائيلية في غزة وفلسطين، فلكل جثمان فلسطيني نسخة سورية تماثلها في ملامح الوجه البارد وعمق الجراح وتمزقاتها وتسريحة الشعر ومصفوفة الجَدّولة. تماثلها في اللباس واللغة ونبرة صراخ المحيطين الممزوجة بالألم والتحدي.
ويتسمّر سوريو فلسطين أمام الشاشات منتظرين بشارة من شرائط العواجل المستعجلة الحمر بلون ساقية الدم في ممر المستشفى، ويتنهد سوريو فلسطين مع كل قذيفة أخطأت الميركافا، ويكبرون مع كل واحدة أصابت، ويستنشقون دفعة كبيرة من الهواء مع كل طفل أخرجه المنقذون من تحت الركام، ويكزون على أصابعهم مع كل خذلان أمام المذبحة.
هذه التوأمة في البدايات والمصائر والتعقيدات والسياقات المشابهة لنبض القلوب صعوداً ونزولاً، تمزج الشعبين مزجاً كاملاً يقسّيه ضغط الجريمة وهول المذبحة وطرقات الصواريخ.
وجزء كبير من هذا الانتماء السوري لفلسطين والترقب للنهاية، هو تخوف من انتكاسة أخرى للحق، وتلهّف لانتصار آخر يحفّز الثوار وينشد للحرية ويذكّر من غَلَبهم اليأس أن الأيادي المضرجة دقت الباب مجدداً، وأن قوانين الفيزياء ستهزم، وأن الألوان المزركشة غابت عن تاريخ عدونا الأسود. هذا الترقب والتخوف هو ما استفز السوريين لمتابعة الموجة الثانية من الربيع العربي قبل خمس سنوات.
منذ أن قاتل السوريون بالأظافر ومنذ أن حلّق أطفال الأمس الناجون من المذابح السابقة فوق الجدار وتفجرت ينابيع الطوفان؛ أعادوا تعريف الشجاعة لا بأنها تجاوز للخوف بل بأنها تلاعب واستهزاء به، فقللوا من هيبة الموت، ورسموا بالغضب الواثق خريطة جديدة لكل العالم.
الانتقام البهلواني الإسرائيلي والأسدي أمام التصفيق الغربي والشرقي، محاولة لإيصاد بوابات التاريخ الذي كتبوه، ومحاولة للحفاظ على قوانين الفيزياء التي ترسخ وجودهم، القوانين التي برهن المناضلون بطلانها وأثبتوا عكسها، بأن الحق أثقل من القوة وأن الشمعة أكثر استطاعة من الشمس وأن صاحب الأرض لا تزحزه العاصفة بل يفقأ عينها، وأن عينه تفقأ المخرز، وأن الجثامين لن تصبح نفطاً بل بذرة.
هذا الخرق للفيزياء يتجسد في الـ “سوبر موم” عندما تدرك الأم أنها بدافع القهر والفطرة قادرة على رفع سيارة عن طفلها.
وهنالك بين أزقة وملاعب الطفولة تنسل أنت من جوف البناء المهدم، ببندقية وقاذف، تمسك الدنيا ألا تقع بكتف الأخمص وإصبع الزناد، تنده للموت، ويتشوه وجهك بالشظايا فيردم جراحك العرق والدم والتراب ويكسو وجهك البارود بلون فولاذي.
بمخزن وحشوة تقاتل وأنت تعلم أن ثقل الحرب تحمله أجساد الأطفال الضعيفة بين الجدران الهشة، ويتشعب دماغك في صراعين، أولهما سهل وهو صراع عدوك، وثانيهما قاتل مختبئ في قعر وعيك يتلاعب بمفاهيم الضمير والمسؤولية عما حدث، وأن المدينة المسحوقة خلفك هي نتاج شجاعتك أمام عدو أقوى منك، وأن قوانين الفيزياء يكتبها القوي كما يفعل بالتاريخ، وأن عدوك القذر لن يعاقبك بنفسك بل بأهلك.
هنا تذكر أن الرواية تميل تجاه العدالة تحت وطأة عنادك وتصلب ثأرك، ويهرب عدوك من أروقة التاريخ يشتم الأقلام الجديدة التي تخط بالكفاح حقيقة الفيزياء، ويختم الشهداء الظرف بالدم كي لا يتلاعب به أحد.
تذكر أن أولئك الذين يجرؤون على المقاومة يرثون الأرض، وأن شرارة تلهب بحراً، وأن نفخة تدب النار في جمرة، وأن همسات الحق أكثر دوياً من انفجار الصاروخ.
هذه تذكرة من سوري مرّ بما تمر به، ومرّ هو بما مر به السابقون منك، وأن منكم الدم ومنا دمنا وأن لحمك على الحيطان لحمي، وأن الشهداء ما كانوا يوماً النهاية.. هم البداية الضرورية المتجددة لجولات الصراع بين الحق والقوة.
———————————
حرب غزة.. على مفترق طرق التجارة العالمية/ منير الربيع
2024.01.05
ثلاثة مستويات للحرب على قطاع غزة. جميعها ترتكز على أهداف بعيدة المدى ولها سياقاتها بما يُرسم للمنطقة في مسار إعادة رسم الخرائط. المستوى الأول للحرب، له البعد المباشر الانتقامي والتدميري والتهجيري في سياق سعي إسرائيل لاستعادة معنوياتها وهيبتها التي كسرت في عملية طوفان الأقصى. وهو ما تمارسه منذ أكثر من ثلاثة أشهر من دون تحقيق أهداف عسكرية واضحة وفق ما أعلنت عنه، لكنها تواصل عمليات التهجير والقتل. المستوى الثاني، يتصل بالقضية الفلسطينية ككل من قطاع غزة إلى الضفة الغربية، والتي تريد إسرائيل إنهاءها برفض كل الحلول المقترحة والقضاء على صيغة حل الدولتين، ولذلك فإن الحرب التي تخوضها في القطاع، لها ما يقابلها في الضفة الغربية من دون إغفال السعي إلى التهجير وزيادة الاستيطان. أما المستوى الثالث فذا بعد إقليمي دولي يتصل بجغرافيا خطوط الملاحة والتجارة وبصراعات إقليمية ودولية.
يبقى المستوى الثالث هو الذي يمكنه تفسير كثير مما يحصل سواء بما يتعلق بمسار الحرب، أو بتضارب المصالح الإقليمية والدولية. أول ما أبرزته تلك الحرب هو العودة الأميركية بإصرار إلى منطقة الشرق الأوسط، مدمرات وبوارج وإثبات حضور عسكري قوي داعم لإسرائيل. يأتي ذلك بعد كثير من المؤشرات حول الانسحاب الأميركي للتفرغ للاهتمام بمواجهة الصين وتمددها. لكن واشنطن اكتشفت أن الصين لديها سياسة شرق أوسطية وتأخذ هذه المنطقة ضمن سلة الحزام والطريق، والذي تريد أميركا قطع الطريق عليها.
في مقابل هذه المبادرة الصينية، عملت أميركا على الإعلان عن مشروع طريق الهند، والذي يصل آسيا بأوروبا مروراً بالخليج وتحديداً السعودية والإمارات وصولاً إلى حيفا ومن هناك إلى أوروبا. جاء تشييد الصين لمبادرة الحزام والطريق بعد سعيها لتكريس اتفاق سعودي إيراني ما أبرز السياسة الصينية الشرق أوسطية. وبعدها جاءت زيارة رئيس النظام السوري بشار الأسد إلى بكين والتي شهدت توقيع اتفاقيات تضم سوريا إلى الحزام والطريق. بعد هذه الزيارة، وتحديداً قبل يومين من عملية طوفان الأقصى، حصل أكبر تفجير في الكلية الحربية في حمص، وفي قراءته إشارة واضحة إلى أن طريق الحرير الصيني غير آمن وخصوصاً في سوريا. في 7 تشرين الأول، حصلت عملية طوفان الأقصى، والتي يمكن قراءتها أيضاً في سياق انعدام الأمن والاستقرار على طريق الهند أوروبا والتي تشكل فيها إسرائيل درة تاج هذا المشروع.
ما يمكن أن يوضح أبعاد هذا الصراع بين الطرق والمشاريع الدولية، هو دخول الحوثيين على خطّ المواجهة في البحر الأحمر، من خلال استهداف طرق التجارة العالمية ما يؤثر على الملاحة البحرية، وقد ركز الحوثيون على استهداف سفن تجارية لا سفن عسكرية. ما يثبت أكثر أن الصراع يتصل بممرات وطرق التجارة العالمية. وهي معركة جديدة تفتحها إيران في سياق السعي للوصول إلى تكريس دورها على البحر الأحمر، وربطه بالبحر المتوسط من الناحية السياسية والأمنية، خصوصاً بعد تهديد مسؤولين إيرانيين بقدرتهم على إغلاق مضيق جبل طارق، وبالتالي تصبح طهران مؤثرة على ثلاثة مضائق، جبل طارق، باب المندب، وهرمز.
عملياً، أصبحت المنطقة على مشارف إما تسوية كبرى يتم الوصول إليها في الفترة المقبلة أو حرب كبرى بعد سنة أو أكثر، ما هو مطروح في سياقات التفاوض على التسوية الكبرى، فكل ما يرتبط بالنفوذ الإيراني، والاعتراف به أميركياً ودولياً في المنطقة من العراق إلى سوريا، فلبنان وفلسطين واليمن. إلى جانب السعي لمعالجة الوضع الفلسطيني وكيفية حل القضية وتركيب هذا الحلّ وإعادة تشكيل السلطة الفلسطينية وموقع حركتي حماس والجهاد الإسلامي، ومنح الفلسطينيين لحقوقهم. بالإضافة إلى معالجة وضع سوريا والعراق والوجود الأميركي فيهما، أما لبنان فسيكون ضمناً وملحقاً. المستجد بعد عملية طوفان الأقصى هو الوضع في اليمن، والذي يسير وفق مسارين، مسار التفاوض الحوثي السعودي الذي لم يتعطل بفعل كل التطورات وهو يرتبط بالعلاقة الإيرانية السعودية وسط حرص الطرفين على عدم التصعيد أو تخريب المسار. أما المسار الثاني فهو دخول الحوثيين على خط تعطيل الملاحة في البحر الأحمر، وكيفية ترتيبها ربطاً بوقف إطلاق النار في غزة.
لم تؤثر عمليات الحوثيين على مسار العمليات العسكرية في غزة، لكن تأثيرها كان له بعد استراتيجي على الملاحة وعلى حماية النظام الدولي. في حين سارع الأميركيون إلى الإعلان عن إنشاء تحالف لحماية هذه الملاحة في البحر الأحمر علماً أن تشكيل التحالف قد فشل. هنا لا بد من التذكير أن هناك تحالفاً قائماً منذ العام 2002، وهو التحالف البحري الذي يضم 32 دولة بما فيها كل دول الخليج لحماية الملاحة في المحيط الهندي والبحر الأحمر، ولكن لم يتم تفعيله من قبل الأميركيين الذين ذهبوا إلى الإعلان عن تحالف جديد، مع علم مسبق لديهم أن هذا التحالف سيفشل وقد فشل إثر رفض دول خليجية عديدة المشاركة فيه، ما سيدفع الأميركيين لاستخدام الفشل للضغط على إسرائيل لتقديم تنازلات والقبول بالتسويات المقترحة والذهاب إلى وقف إطلاق نار وإطلاق المسار السياسي.
يأتي فشل التحالف بالتزامن مع إعلان الأميركيين سحب مدمرتهم البحرية جيرالد فورد من شرق البحر المتوسط، فيما عملت إيران على إرسال مدمرة بحرية إلى البحر الأحمر. هدف إيران هو منع التصعيد، وتلافي أي ضربة أميركية على الحوثيين وهي من شأنها في حال حصلت أن تؤدي إلى إشعال جبهات كثيرة ولن يكون في صالح الإيرانيين، وهي لن تكون قادرة على تحمّل تبعاتها.
———————————
جريمة الإبادة الجماعية في غزة/ رضوان زيادة
2024.01.03
في أول قضية ترفع تحت ميثاق الحماية من جريمة الإبادة الجماعية رفعت جنوب إفريقيا دعوى قضائية ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، متهمة إياها بارتكاب جرائم إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في غزة بعد ما يقرب من ثلاثة أشهر من القصف الإسرائيلي المتواصل الذي أسفر عن مقتل أكثر من 22 ألف شخص، وتسبب في دمار واسع النطاق في القطاع المحاصر..
وفي طلب قدمته إلى المحكمة، وصفت جنوب إفريقيا تصرفات إسرائيل في غزة بأنها “ذات طابع إبادة جماعية لأنها تهدف إلى تدمير جزء كبير من المجموعة الوطنية والعنصرية والإثنية الفلسطينية”.
من المهم جداً قراءة تفاصيل الوثيقة – الطلب المقدم من قبل جنوب إفريقيا المؤلف من 84 صفحة حيث جاء في الطلب أن “الأفعال المعنية تشمل قتل الفلسطينيين في غزة، وإلحاق أذى جسدي وعقلي خطير بهم، وفرض ظروف معيشية تهدف إلى تدميرهم جسديًا”.
محكمة العدل الدولية، والتي تسمى أيضًا المحكمة العالمية، هي محكمة مدنية تابعة للأمم المتحدة تفصل في النزاعات بين الدول. وهي تختلف عن المحكمة الجنائية الدولية، التي تحاكم الأفراد بتهمة ارتكاب جرائم حرب. وباعتبارهما عضوين في الأمم المتحدة، فإن جنوب إفريقيا وإسرائيل ملزمتان بالمحكمة.
قارن رئيس جنوب إفريقيا سيريل رامافوسا سياسات إسرائيل في غزة والضفة الغربية المحتلة بنظام الفصل العنصري السابق في بلاده، والذي فرضه حكم الأقلية البيضاء الذي انتهى عام 1994.
وقالت جنوب إفريقيا إن سلوك إسرائيل، خاصة منذ بدء الحرب في 7 أكتوبر/تشرين الأول، ينتهك اتفاقية الأمم المتحدة بشأن الإبادة الجماعية، ودعت إلى عقد جلسة استماع عاجلة. ويطلب الطلب أيضًا من المحكمة أن تشير إلى تدابير مؤقتة “للحماية من أي ضرر إضافي جسيم وغير قابل للإصلاح لحقوق الشعب الفلسطيني” بموجب الاتفاقية.
تسمح المادة التاسعة من اتفاقية الإبادة الجماعية لأي دولة طرف في الاتفاقية برفع قضية ضد دولة أخرى إلى محكمة العدل الدولية، حتى لو لم يكن لها أي صلة مباشرة بالنزاع المعني. وفي العام الماضي، قضت المحكمة بأن غامبيا يمكنها رفع دعوى إبادة جماعية ضد ميانمار. وحكمت المحكمة أيضًا في قضية بين كرواتيا وصربيا بأن حرمان شعب من الغذاء والمأوى والرعاية الطبية وغيرها من وسائل العيش يشكل أعمال إبادة جماعية.
“من المفترض أن تكون نية الإبادة الجماعية هي العنصر الأكثر صعوبة في إثباتها، لكن الإسرائيليين المسؤولين عن متابعة هذا الصراع قد أدلوا بعدد كبير من التصريحات التي تثبت بسهولة النية المطلوبة لتدمير السكان الفلسطينيين في غزة كليًا أو جزئيًا”.
على سبيل المثال، أشار وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت إلى الفلسطينيين في غزة على أنهم “حيوانات بشرية”، وإلى التصريح اللاحق للواء الجيش الإسرائيلي غسان عليان الذي قال فيه: “يجب معاملة الحيوانات البشرية على هذا النحو. لن يكون هناك كهرباء ولا ماء في غزة، ولن يكون هناك سوى الدمار. لقد أرادت الجحيم، سوف تحصل على الجحيم”.
يجب أن نضيف هنا أن المحكمة الجنائية الدولية بدأت بالفعل بالتحقيق في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية محتملة ارتكبتها حماس وإسرائيل. وبينما تستطيع المحكمة الجنائية الدولية محاكمة الأفراد، فإن محكمة العدل الدولية هي ساحة للفصل في النزاعات بين الدول.
يجب أن نشرح هنا كيف تطور مفهوم “الإبادة الجماعية” الذي صكه رافائيل ليمكين وهو أحد الناجين من المحرقة التي ارتكبها النازيون بحق اليهود في أوروبا وكان قد فقد تسعة وأربعين فردًا من عائلته في الإبادة الجماعية النازية. لقد صاغ هذا المصطلح، وقام بصياغة الاتفاقية الخاصة بالإبادة الجماعية، وقام بحملة من أجل اعتمادها.
ومع ذلك، فإن انشغال ليمكين بالتدمير المتعمد لمجموعة من الناس قد سبق الهولوكوست. فقد درس القتل الجماعي للأرمن في عام 1915 على يد العثمانيين عندما كان طالباً شاباً، وكان غاضباً من حقيقة أن قتل شخص واحد كان جريمة يعاقب عليها القانون، في حين أن قتل عشرات الآلاف على يد الدولة ظل دون عقاب.
بحلول عشرينيات القرن العشرين، كان ليمكين يقوم بصياغة المفاهيم والقوانين التي تم توضيحها في كتابه الأكثر شهرة، حكم المحور في أوروبا المحتلة (1944). تكشف مخطوطاته غير المنشورة أنه رأى الاستعمار جزءًا لا يتجزأ من تاريخ الإبادة الجماعية العالمي.
غطت هذه المخطوطات مجموعة واسعة جداً من الحالات التي كانت فيها القوى الاستعمارية الأوروبية مسؤولة عن القتل الجماعي، بدءًا من الغزو الإسباني للأميركتين في القرن السادس عشر ومذبحة السكان الأصليين في أستراليا ونيوزيلندا وحتى المذبحة الألمانية للهيريرو في ناميبيا. قبل بضعة عقود. كما اعتبر “تدمير الأمة الأوكرانية” بمثابة “المثال الكلاسيكي للإبادة الجماعية السوفييتية”، وأشار بشكل عابر إلى “إبادة” المجموعات العرقية الأخرى، بما في ذلك تتار القرم.
وهكذا، على الرغم من تجربة ليمكين الشخصية مع المحرقة والقسوة التي لا توصف التي انطوت عليها، إلا أنها لم تكن حالة الإبادة الجماعية الوحيدة في ذهنه عندما قام بصياغة اتفاقية الإبادة الجماعية. وكان العنصر المشترك في جميع الحالات هو افتراض التفوق العنصري من جانب مرتكبي الجرائم وتجريد الضحايا من إنسانيتهم.
ومع ذلك، قد تكون أهداف الجناة مختلفة – بدءًا من الاستيلاء على أراضي الضحايا إلى فرض فهمهم لـ “النقاء العرقي” – وتتنوع الأساليب على نطاق واسع. وينعكس هذا التركيز الواسع في نص اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها.
وهكذا تقوم جنوب إفريقيا الدولة ذات التاريخ الطويل في جريمة الفصل العنصري برفع دعوى ضد إسرائيل التي تدعي أنها ولدت كضحية الإبادة الجماعية لليهود في أوروبا.
———————————-
تناقُض إيران مع إسرائيل.. هل يجعلها نصيرًا؟/ د. أسامة عثمان
2024.01.02
لا يمكن تجاهُل إيران، فهي دولةٌ فاعلة، إقليميًّا، لها مشروعٌ، وله أدواتُه، وحلفاؤه، من حزب الله، في لبنان، والحوثيِّين، في اليمن، وتتمتع بنفوذ واسع في العراق، وسوريا، وتربطها بحركات المقاومة في فلسطين روابط صمدت أمام أزمات، واختبارات لم تكن هيِّنة، كما، رأينا استمرارية العلاقة بينها، وبين حركة المقاومة الإسلامية، حماس، كبرى حركات المقاومة، في فلسطين، حين توتَّرت علاقة الأخيرة بنظام بشار الأسد، على خلفية ثورة الشعب السوري، ضدَّه، ولم تكن تلك المفارقة جانبية في حسابات طهران؛ لأنها اقتضت تعزيز القوى الهادفة إلى التخلُّص من نظام حليف، (مع غير قليل من التحفُّظ في استحقاق تلك العلاقة درجةَ التحالف المتكافئ) بالغ الأهمية؛ من الناحية الاستراتيجية لإيران، لكن قادة إيران آثَروا التغاضي، في الظاهر، على الأقل، أو تفهُّم تلك الانزياحة الحمساوية، بذلك الاصطفاف المُحرِج؛ ما يشي ببراغماتية، حاكِمة، تستند إلى إدراك أهمية الاحتفاظ بعلاقة مستمرة مع حركة حماس، ومع فلسطين.
وحتى حلفاؤها الأكثر رسوخًا، من حزب الله إلى الحوثيين، أُرِيد لهم الحفاظُ على صلةٍ مع قضية فلسطين، مع أن الهدف من إنشاء كلٍّ منهما لم يكن فلسطين، إذ صُلْب انهماكهما، الجِدِّي، في المنطقة العربية، ليكونا جسرين للنفوذ الإيراني، وأوراق مساومة لها، وقت الحاجة.
والسؤال: هل معاداة دولة الاحتلال، (هذا إن صحّ أن توصف العلاقة بالعداء المبدئي)، يُعَدُّ سببًا كافيًا لأفضليةٍ ما تمنحها الشعوبُ العربية والإسلامية، لإيران؟ هل مجرّد العداء، أو التناقض، يُكسِب إيران أفضلية وجاذبية؟
الموضوع له بعد عاطفي واستراتيجي؛ إذ تحت هول الإرهاب الصهيوني الاحتلالي المزمن، عبْر أجيال العرب والمسلمين، ومساسها الدائم بالمقدَّسات في فلسطين، وكرامة العرب، والمسلمين، وتهديدها الأمن القومي العربي برمّته، كلُّ ذلك يدفع إلى البحث عن أيّ نصير، لمواجهته، ولا سيّما مع هذا التخاذُل العربي الرسمي، الذي لا يتزعزع.
وقبلًا، كان الاحتفاء بالاتحاد السوفيتي، والتعويل عليه، سببًا للتغاضي عن أيديولوجيته (وحتى علاقاته بدولة الاحتلال) التي لم تكن مقبولة على سائر المراهنين عليه؛ إذ اقتصر الولاء المبدئي على الأحزاب الشيوعية والاشتراكية.
ولو أتينا هذه المسألة من الآخِر: لو أن المستبعَد، أو التمنيّات، تحققت، وأقدمت إيران على انخراط مباشر في الصراع، ضد إسرائيل، هل من مكاسب مضمونة لنا، وباقية؟ وهل يمكن القفز عن حقيقة أن تلك المكاسب المظنونة ستكون إيرانية، أولًا، وأخيرًا، وليست هدية مجانيَّة للشعب الفلسطيني، والشعوب العربية والإسلامية؟
هذا في ظل العقيدة السياسية الإيرانية المعلَنة عن طبيعة دولة إيران، ومنطلقاتها، وحدود مصالحها الحيوية؛ أنها إيرانية، فقط؛ لتنتقل فلسطين، (على فرَض تحقُّق ذلك) من احتلال أجنبي، همجي، إلى الخضوع تحت سلطةِ دولةٍ مغايِرة، وأجنبية، أيضًا، وهذا التغايُر ليس من النوع السطحي، أو الثانوي، أو العابر، ولا يقتصر على وجه واحد، ديني، مذهبيّ، طائفي، مُسيَّس، ولكنه تغايُر قومي، فارسي، طامع، واستحواذي.
هنا ندخل في المفاضلة بين احتلالين، أو نوعين من الاستلاب والتغلُّب، وبعيدًا عن التنظير، إلى الواقع الماثل، في البلاد التي دخلتها إيران، عبْر حلفائها، أو بنفسها، كما في العراق، وفي سوريا، وفي لبنان، وفي اليمن، ما حال تلك البلاد، أوطانًا، وشعوبًا، ومقدَّرات؟
ولنأخذ مثالًا طازَجًا على الفجاجة الإيرانية، والانتهازية غير الذكيَّة، حين حاولت استثمار المعركة العظيمة الدائرة في غزة، والبالغة الحساسية، لحماس وفلسطين، وحاجة حماس إلى تعظيم التضامُن العالمي والإسلامي والعربي والفلسطيني، هنا جاء المتحدِّث باسم الحرس الثوري، رمضان شريف، وادَّعى أنَّ عملية طوفان الأقصى كانت ثأرًا لمقتل، قائد الحرس الثوري، قاسم سليماني!
ولِقياس الغائب على الشاهد، نستذكر مساعي هذا الاستحواذ في سوريا، في غير موقع، ومطامع إيران في ثروات البلد، وتسابُقها وروسيا عليها، كما، مثلا، لا حصرًا، عام 2018، عندما تقاتلا؛ من أجل السيطرة على احتياطيات الفوسفات في البلاد، إلى جانب نشاط إيران الواسع والملحوظ في شراء العقارات (ولا سيما في دمشق العاصمة؛ حيث الطابع السيادي الأبرز، وَفق المفترَض، سياديًّا، وطبوغرافيًّا، للدولة، وللناس) وتملُّك الأراضي الزراعية، هذا فضلًا عن جهودها المنظَّمة في نشر التشيُّع؛ أداةً من أدوات السيطرة الاجتماعية على السوريين، كلُّ ذلك، يقع باستغلال مستفِزٍّ لضعف الدولة والنظام، وأثمانًا تراها مستحقة؛ مقابل المساهمة في حماية بقاء بشار الأسد، ثم تُوِّجت الهيمنة الإيرانية، أخيرًا، في شهر مايو/ أيار، من العام الجاري، بمذكِّرة تفاهُم للتعاون الاستراتيجي الشامل، طويل الأمد، تشمل النفط والسِّكَك الحديدية، والزراعة، ومجالات أخرى، وقَّعها الأسد مع الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، أثناء زيارة الأخير لدمشق. هذه المذكِّرة المرجَّح أنْ تزيد هيمنة إيران، وتعزِّز التبعية السورية لها، وَفْق المستشار الاقتصادي السوري، أسامة قاضي؛ كونها ستُدرَج ضمن الديون المدرَجة على سوريا، باسم خطوط الائتمان.
وكذا ظهر الاستحواذ الإيراني، جليَّا، في العراق، كما مثلًا، بالطمَع في مياهه التي هو في أمسِّ الحاجة إليها، إذ سبق أن اعتبر مسؤولون عراقيون تصرُّفات طهران، حين قطعت بالكامل المياه عن نهر ديالى مخالفةً للأعراف والمواثيق الدولية، وأهمُّها اتفاقية عام 1975، وحذَّر مسؤولون عراقيون، حينها، من أنَّ استمرار انقطاع الواردات المائية عن العراق، ربما يؤدِّي إلى هجرة قسرية من مناطق جنوبيِّ العراق، لا سيما ضمن مناطق الأهوار المهدَّدة بالجفاف، هذا فضلًا عن تغوُّلها على الدولة والنظام الحاكم في بغداد.
ثم كانت الاحتجاجات العراقية الواسعة في جنوبي العراق، سبتمبر/ أيلول، 2018 أوضح علامة على الظلم الذي أحسَّ به عراقيون، حين حُرِمُوا حتى ماء الشرب، فضلًا عن الخبز والكهرباء، وأحسُّوا عِيانًا، إيران قوةً أجنبية مهيمنة أقرب إلى الاحتلال، ترعى حكومةً عراقية ينهشها الفساد؛ بالكاد تقوى على حلولٍ ترقيعية، فردَّدوا، غاضبين، شعاراتٍ تطالب بطرْد إيران من العراق، ولم يكونوا، بالتأكيد، مدفوعين بدافع طائفي، لأنهم كانوا من الشيعة.
ولا ننسى أن كلّ ذلك النفوذ والتغلغل الإيراني في مفاصل الدولة العراقية إنما جاء ثمرةً للتعاون الإيراني مع أميركا، حين أسقطت نظام صدام حسين، واحتلَّت العراق، 2003.
أما في لبنان فقط ابتلع حزبُ الله الذي كشف على نحو أوضح ولاءَه الخالص، والمقدَّم لإيران، ابتلع هذا الحزبُ المدعومُ والمضخَّم، إيرانيًّا، الدولةَ اللبنانية، واستحوذ على أهمِّ القرارات، وكان يوم 7 أيار، من عام 2008، وما رافقه من عمليات قتْلٍ وحرْقِ وخطْف، ارتكبها حزب الله، ومَنْ حالفه، علامةً فارقةً، ودالَّة على أسلوبه، في فرْض ما يريد، مِن مصالح، بالقوة، في تجاوُز واضح لأيّ دورٍ للدولة، أو للأساليب السِّلْمية والمدنية.
هذا، ولا تقتصر الأدوات الإيرانية في السيطرة والاستلحاق على الاقتصادية والاجتماعية والسياسية منها، إذ تحضر الأداة الدموية بقوَّة، كما ظهر جليًّا في كلٍّ من العراق، ودعمها المليشيات الطائفية الإجرامية، وفي سوريا، ومشاركتها، عبْر تواجدها العسكري المباشر في سفك دم السوريين، وتهجيرهم، وكذلك عبْر ما يعانيه اللبنانيون من ترهيب حزب الله، وعبْر عن دعمها العسكري الحوثيين في اليمن.
إن إيران تستخدم حلفاء لها، وتُحَكِّمهم في الدول والبلاد، ليس كطرف سياسيٍّ يتنافس، ولكن بقوة السلاح، والتفوق التعسُّفي الفوقي، تحت شعارات متعالية عن الشرف والوطنية والمقاومة… دولةٌ كهذه تقيس سياساتها بمقياس المكاسب والأرباح، تتقدَّم على مصالح جامعة، مصيرية، أمام تهديدات أجنبية، كدولة الاحتلال، وأميركا، ليس مِن شأنها أن تُقدِم على أفعال عظيمة، عند الضرورة، وهي تُحْجِم وقت ما تمس الحاجة إليها، وقت الحسم، كما تُحيِّد نفسها، الآن، وقت الإبادة التي يتعرَّض لها أهل غزة، وحتى لو استهداف المسجد الأقصى والقدس، في يوم القدس العالمي!
———————————
الحوثيون الرقم الجديد في معادلة الشرق الأوسط/ فراس رضوان أوغلو
2023.12.29
نجح الحوثيون في فرض معادلتهم السياسية خارج صندوق اليمن السياسي المحلي، وباتوا جزءاً من معادلة أكبر تشمل المنطقة برمتها، فموقعهم الاستراتيجي أولاً، وما يجري في غزة ثانياً استغله واستفاد منه الحوثيون بطريقة ذكية، وسواءً قبلنا أم لم نقبل فقد باتوا رقماً صعباً لا يمكن تجاوزه في تلك الحدود الواسعة الممتدة من تركيا شمالاً حتى اليمن جنوباً.
الحوثيون اليوم لم يعودا يتكلمون في قضايا يمنية محلية فقط بل باتوا يوجهون رسائل لدول في الإقليم وللعالم بأسره، وهذا يعد تطوراً لافتاً لهم بل نجاحاً على الصعيد الإعلامي، فاليوم باتت شركات النقل البحرية الكبرى تخشى المرور من مضيق باب المندب، وبات الجميع يستمع لأي تصريح يخرج من تلك الجماعة لأن الأمر أصبح متعلقاً بجزء كبير من حركة الملاحة العالمية التي بكل تأكيد لها تأثير مباشر على أوضاع التجارة العالمية، وما أدلى به الناطق الرسمي باسم جماعة الحوثي محمد عبد السلام بأن عملياتهم في البحر الأحمر لها تأثير اقتصادي كبير على إسرائيل، وأن الهدف من هذه العمليات هو فك الحصار عن غزة، ووقف العدوان عليها، وأن العمليات موجهة ضد السفن المتجهة من وإلى إسرائيل أو التي تملكها تل أبيب لا يمكن اعتباره إلا انتقال لعمل عسكري وسياسي فاعل في المنطقة كلها، وأن تصريحاً مثل هذا لجماعة كانت قضيتها في أقصى حد إثبات نفسها على الأرض اليمينة يعد تحولاً كبيراً في النهج الخطابي لها، ما يدل على تغير في الفكر الاستراتيجي ملامس لإحساس الشعور العربي الغاضب لما يحصل من قتل ودمار وتهجير في غزة، وأن ما يقومون به نوع من أنواع البطولات التي تثبت التآخي العربي والإسلامي في القضية الفلسطينية حتى أن الناطق باسم كتائب القسام أبا عبيدة قد شكرهم في إحدى خطاباته المتلفزة.
الكل يعلم أن الحوثيين جزء من استراتيجية الاحتواء التي تقوم بها إيران لزيادة مناطق نفوذها حتى تتطوق المنطقة برمتها (من العراق ولبنان واليمن وسوريا) إضافة إلى وجودها الجغرافي المهم بحد ذاته المطل على منطقة الخليج أو بحر العرب وحتى المحيط الهندي، وبذلك تستطيع إيران أن تدير الصراع مع الغرب مستخدمةً التهديد المباشر لإسرائيل أو ضرب المصالح الغربية في دول المشرق العربي، وسواء كان الحوثيون بيدقاً بيد إيران أم لا بات رقمهم في اليمن وفي المنطقة من الأرقام الصعبة، وهذا ما جعل إسرائيل تطالب بإيجاد تحالف دولي لحماية السفن المارة في البحر الأحمر، وهو دليل على التأثير السلبي الواقع عليها من أعمال الحوثيين ضد السفن المارة لإسرائيل، وأيضاً ما وراء الأكمة أن إسرائيل لا بد أن تكون جزءاً من هذا التحالف وهذا يعني أنه نوعٌ من أنواع السيطرة غير المباشرة على البحر الأحمر وتغيير معادلة الصراع مع الإيرانيين.
وبقراءة ثانية مغايرة يمكن عد ما قام به الحوثيون خدمة جلية للغرب، بإيجاد ذريعة قانونية لوجود بوارجهم الحربية في المنطقة، وتكثيفها وتحميل فاتورة حماية السفن التجارية لدول المنطقة، علاوة على رسائل التهديد المباشر وغير المباشر لتلك الدول، وبدلاً من أن يكون البحر الأحمر وقناة السويس مناطق آمنة من أجل زيادة الملاحة البحرية وما تجلب من نمو وأرباح وحتى استثمارات، تحولت إلى منطقة غير مستقرة وأن الكثير من شركات الملاحة والسفن ربما تغير وجهتها نحو أماكن أخرى، ولكن في كلتا الحالتين يمكننا القول إن الحوثيين نجحوا في خلق معادلة جديدة في المنطقة، ووضع رقمهم على طاولة السياسة العالمية سواء بالتوافق والاتفاق أو بالمعادة والخلاف وليكونوا رقماً سياساً صعباً وطويل الأمد في الحسابات السياسة للمنطقة.
—————————-
الرهان الأميركي على إسرائيل/ رضوان زيادة
2023.12.27
تستمر إدارة بايدن في دعم الهجمات الوحشية الإسرائيلية على قطاع غزة، ما زالت مستمرة في حماية إسرائيل من أية إدانة في مجلس الأمن، وما زالت إدارة بايدن تراهن على نجاح إسرائيل في مهمتها المستحيلة في القضاء على حماس مهما كانت التكلفة على المدنيين ومهما ازداد النقد السياسي والأخلاقي على إدارة بايدن في الداخل الأميركي.
بدأت الأصوات تتزايد بفشل إسرائيل في تحقيق مهمتها وكيف ستجر إدارة بايدن معها إلى الفشل، لأنها وضعت أهدافا مستحيلة التحقق على الأرض ولأن المقاومة الفلسطينية المسلحة نجحت في تحقيق صمود أسطوري لا مثيل له في التاريخ ضد الهجمات الوحشية الإسرائيلية وهو صمود عسكري وسياسي في فن التفاوض حيث أوصلت الرسالة بشكل واضح أنه لا يمكن تحرير الرهائن إلا بالتفاوض وأن الوقت الوحيد الذي مكن الرهائن من الخروج من جحيم غزة هو المفاوضات التي أظهرت أنها الطريقة الوحيدة للتعامل مع حماس ومطالبها.
منذ وصول إدارة بايدن إلى البيت الأبيض وهي تتجاهل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وتركز على التطبيع بين السعودية وإسرائيل حيث تمت تنحية كل شيء آخر جانبا. وبقيت المناصب الدبلوماسية الرئيسية شاغرة: وعندما سئل أحد الدبلوماسيين الأميركيين أن يصف سياسة بلاده في سوريا. هز كتفيه وضحك. وقال إن وظيفته هي إبقاء الشرق الأوسط بعيدا عن مكتب بايدن، مرددا الكلمات التي سمعتها مرارا وتكرارا من المسؤولين الأميركيين منذ عام 2021.
وكان هذا هو المفهوم الأميركي المعيب. حيث اعتقدت إدارة بايدن أن توسيع اتفاقيات إبراهيم والتوصل إلى هدنة مع إيران سيسمح لها بفك الارتباط عن الشرق الأوسط. لكن الصراع الذي حاولت أميركا تجاهله دفع الشرق الأوسط الآن إلى حافة حرب أوسع نطاقا. ولم يتم العثور على التحالف الأمني العربي الإسرائيلي الجديد في أي مكان: فمعظم الدول العربية أضعف من أن تلعب دورا في الأزمة، الأمر الذي يجعل أميركا تعجل بعودة قواتها إلى المنطقة التي تريد المغادرة منها حيث أرسلت البارجات الحربية في محاولة لحماية إسرائيل وعدم السماح بتحويل الحرب في غزة إلى حرب إقليمية.
كان التركيز الرئيسي لسياسة بايدن هو التطبيع العربي الإسرائيلي، وهي الفكرة التي ورثها عن إدارة دونالد ترامب. وقد أمضى فريقه ساعات طويلة في التحدث مع المسؤولين السعوديين والإسرائيليين حول صفقة ثلاثية من شأنها أن تجعل السعوديين يعترفون بإسرائيل وينضمون إلى اتفاقيات إبراهيم.
وحاول عدد قليل من المؤيدين القول بأن الاتفاقيات يمكن أن تساعد الفلسطينيين من خلال منح الدول العربية نفوذا أكبر على عملية صنع القرار الإسرائيلية. كان ذلك مجرد تفكير بالتمني. وكانت الحجة الأكثر منطقية للصفقة هي أن التطبيع من شأنه أن يساعد في ترسيخ بنية أمنية جديدة في المنطقة.
أول دولتين اعترفتا بإسرائيل في عام 2020، الإمارات العربية المتحدة والبحرين. وكانت أميركا تأمل أن يؤدي هذا الشعور بالتهديد المتبادل بينهما وبين إيران إلى تعزيز التحالف العسكري والأمني. فإذا تمكنت الدول العربية وإسرائيل من دمج دفاعاتها الصاروخية، على سبيل المثال، فإنها تستطيع حماية المنطقة من إيران ووكلائها من دون الاضطرار إلى الاعتماد على المساعدة الأميركية. وربما يمكنهم في يوم من الأيام أن يذهبوا إلى أبعد من ذلك ويشكلوا “الناتو العربي”.
تبدد ذلك كله وظهرت إدارة بايدن اليوم عاجزة كليا عن كبح إسرائيل وإعادة الاستقرار إلى المنطقة التي تبدو على حافة الانفجارة مرة أخرى.
—————————
من غزة إلى البحر الأحمر.. الخطر على الخليج/ منير الربيع
2023.12.22
أهي الحرب على العرب؟ أم بتوضيح أكثر فظاظة هي الحرب على “السنة”؟ أصبح السؤال ضرورياً في ضوء النظر إلى كل المسارات التي تسلكها الحرب على قطاع غزة وتداعياتها. وهي حرب تتداخل فيها عوامل كثيرة، بعضها يمنحها طابع الصراع بين الشرق والغرب، وبعضها الآخر يصورها بأنها صراع بين العالم المتحضر والعالم الثالث، لا تسقط من الحسابات الصراعات على المعابر والممرات وخطوط الأنابيب والتجارة، لكنها في النتيجة أيضاً، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وديمغرافياً، إنها حرب على السنّة، وهم أصحاب الأكثرية، أو كما يُطلق عليهم، أصحاب العدد والمدد. فالعدد هو الحجم الديمغرافي الكبير لهم، والمدد باعتبارهم أصحاب الثروات.
لا تنحصر الحرب على قطاع غزة في تلك المساحة الجغرافية فقط، وليس الهدف وحده هو إنهاء القضية الفلسطينية، وإبقاء اسرائيل كدولة متقدمة للاستعمار في المنطقة مقابل سحق حقوق الشعب الفلسطيني. إنه ذات مديات أبعد من ذلك بكثير، وكأنه محكوم على هذه المنطقة أن تستمر بالتعايش مع القلاقل والصراعات المتوالية، فتبقى دوامة التاريخ فيها تدور حول الصراعات القومية، العرقية، الدينية، الطائفية، والسياسية بأبعادها الإقليمية والدولية. في سبعينيات القرن الفائت، كان لوزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر معادلة واضحة تتحدث عن ضرورة الاستمرار في إشغال العرب بصراعاتهم وإبقائهم ضعفاء، وانعدام قدرتهم على الاستثمار بثرواتهم في سبيل الرخاء. ما تزال تلك المعادلة سارية إلى اليوم، وتجددت منذ اجتياح العراق، وما تزال في طور التجدد عند كل محطة ومفصل.
بالقدر الذي اهتم فيه كيسنجر بالعلاقة مع مصر وإيصالها إلى معاهدة السلام، وإخراجها من معادلة الصراع العربي الإسرائيلي ما أسهم في إضعاف موقفها أو تغييبه، كان الرجل منسجماً إلى حدود بعيدة مع “حافظ الأسد” إذ التقت المصالح في محطات كثيرة، بينها سطوة النظام السوري على لبنان. وفقاً لهذين النموذجين لدى كيسنجر، تظهر العلاقة الجيدة لواشنطن مع دولة عربية كبرى ومركزية وأساسية كمصر ولكن بشرط أن تكون ضعيفة وتسير وفق العباءة الأميركية بدون أي مشروع عربي أوسع من حدودها. كما تظهر العلاقة الجيدة مع النظام السوري بوصفه نظاماً أقلوياً التقت مصالحه مراراً مع واشنطن وتل أبيب ضد العرب الآخرين، وما تزال المصالح تتقاطع حتى الآن وخصوصاً في خضم الحرب على قطاع غزة، والتي لا يبرز فيها أي تصريح أو دور أو صورة لبشار الأسد.
هذه هي المعادلة بكل بساطة. ويمكن الاستدلال بما هو أبعد من ذلك. كل الموبقات التي اقترفتها إيران في المنطقة وضد المصالح الأميركية والدولية، لم تسارع واشنطن ولا حلفاؤها للذهاب إلى بناء تحالف دولي مشابه للتحالفات الدولية التي نسجت في سبيل خوض الحروب ضد السنة، سواءً كانوا معتدلين أو متشددين، ومعروف منبع منشأ التشدد كالقاعدة وغيرها، والتي كانت ذريعة لتنفيذ مشاريع تهدف إلى تهجير “مدن السنّة” أو إسقاطها وإضعاف دولها. سارعت واشنطن إلى خوض حرب الخليج الثانية ضد صدام حسين، بعدما كانت قد سارعت إلى مساندة إيران ضد العراق في أكثر من محطة ومفصل. كما سارعت إلى اجتياح أفغانستان وبعده العراق، وصولاً إلى توفير كل مقومات النجاح لثورات الربيع العربي في تونس، ومصر، قبل العودة إلى الثورات المضادة، في حين استنكفت واشنطن أي دور لدعم الثورة السورية وإسقاط نظام بشار الأسد.
مارست القوى المنضوية في التحالف الإيراني أكثر العمليات التخريبية في المنطقة والإقليم، لم تسارع واشنطن إلى بناء أي تحالف لمجابهتها، حتى عندما هددت طهران أو حلفاؤها “ممرات النفط” أو الشركات المنتجة له، فلم تتحرك، وأبقت على اليمن وسيطرة الحوثيين فيه خاصرة رخوة هدفها النيل من الأمن القومي العربي والخليجي، بموازاة الاستمرار في الإمعان بضرب القضية الفلسطينية ومنع الشعب الفلسطيني من تحقيق مطالبه، بإضعاف السلطة الفلسطينية واستهداف حركة حماس وكل حركات المقاومة.
فتحت الولايات المتحدة الأميركية الباب أمام إسرائيل لتنفيذ أشنع مخطط تهجيري وتغيير جغرافي وديمغرافي في قطاع غزة، فيما الخشية الأكبر يجدر أن تبقى قائمة على الضفة الغربية. كما غضت النظر على أكبر عملية تجير ديمغرافي شهدتها سوريا على مدى أكثر من عشر سنوات. ضمن هذه المجالات، حسابات كثيرة، تجارية، نفطية، وغيرها. فلا يمكن إغفال الصراع القائم على غزة اليوم والمرتبط بضرب القضية الفلسطينية، عن “غاز غزة” وهو المشروع الذي يريد الإسرائيليون السيطرة عليه في بحر القطاع، بعد عرقلة مستدامة لأي عملية تنقيب أو استثمار لصالح الفلسطينيين. ذلك أيضاً لا ينفصل عن الطموحات المتصلة بإحياء خطوط تجارية جديدة تتصل بطريق الهند في مواجهة طريق الحرير الصيني “الحزام والطريق”.
قبل سنوات أعلن الإسرائيليون عن عزمهم إنشاء قناة مائية جديدة هي قناة بن غوريون، غايتها ضرب “قناة السويس” وبالتالي تهديد الأمن القومي والاقتصادي المصري. والذي يصر الإسرائيليون على تهديده أيضاً باقتراح تهجير فلسطينيي القطاع إلى الأراضي المصرية. في خضم هذا الصراع، تبرز تحركات الحوثيين في البحر الأحمر ومضيق باب المندب، باستهداف السفن، وعرقلة سلامة الملاحة البحرية، ما يدفع شركات الشحن إلى البحث عن مسالك أو معابر أخرى. لا تضر العمليات الحوثية بإسرائيل ولا تؤثر على مسار العمليات في قطاع غزة، إنما ستدفع دولاً كثيرة إلى البحث عن ممرات أخرى، وبالتالي ضرب قناة السويس. وهو ما سيدفع الإسرائيليين إلى تعزيز السعي لإنشاء قناة بن غوريون.
إثر العمليات الحوثية، تسارع الولايات المتحدة الأميركية إلى الإعلان عن إنشاء تحالف ضد الحوثيين، بعدما عملت على منع السعودية من تحقيق نتائج استراتيجية في اليمن ضدهم، وتأخرت عن المساعدة في الرد على استهدافاتهم للرياض أو لأرامكو. تأتي الخطوة الأميركية في الإعلان عن التحالف، بعد الوصول إلى اتفاق سعودي إيراني برعاية صينية، وكأن واشنطن تريد تخريب هذا الاتفاق من خلال إعادة إشعال الجبهات في اليمن، أو خلق التوتر فيه واستدراج السعودية إليه، فلا يبقى الاستقرار متوفراً، ما سيهدد كل الطموحات السعودية الاقتصادية والسياسية والاستثمارية. في حين يتحول الحوثيون إلى قوة لها سطوتها في البحر الأحمر، ما يدعو إيران إلى القول إنها لا تهدد أمن اسرائيل فقط بل أمن البحر الأحمر والملاحة البحرية، ولا بد من التفاوض معها وجعلها عنصراً مقرراً.
وكما هو الحال بالنسبة إلى أمن الخليج انطلاقاً من البحر الحمر، وأمن مصر بالنظر إلى الخطر على قناة السويس أو الخطر من تهجير الفلسطينيين إليها، فلا بد من النظر إلى وضعية الأردن المهدد بتهجير فلسطينيي الضفة الغربية، كما هو مهدد من النظام السوري بتجارة المخدرات وانعدام الاستقرار على الحدود، من دون إغفال الطموحات الإيرانية في تسجيل اختراقات على الساحة الأردنية، وبذلك يصبح الخليج حيث “المدد” مهدداً ومطوقاً بشكل كامل.
—————————-
غزة بعيون سورية/ عدنان علي
2023.12.22
لا يتوقف الجدل في الأوساط السورية على ضفتي المعارضة والنظام حيال ما يجري في قطاع غزة من عدوان إسرائيلي، منذ هجوم حركة حماس على مناطق غلاف غزة في 7 أكتوبر تشرين الأول الماضي.
لا أحد يختلف على التعاطف مع الشعب الفلسطيني المكلوم في غزة، وعلى الوقوف ضد العدوان الإسرائيلي الوحشي على القطاع، لكن الالتباس مصدره الموقف من حركة حماس والذي يتخلله الكثير من الإسقاطات الجاهزة، في كلتا الضفتين الموالين للنظام والمعارضين، على حد سواء.
في جانب المعارضة، يرى كثير من الجمهور، وخاصة ممن يصنفون كمثقفين أو ناشطين، أن حركة حماس، ومعها بطبيعة الحال “الجهاد الإسلامي”، إنما هما مجرد ذراع لإيران تستخدمها لتحقيق أجندتها الخاصة في المنطقة تحت يافطة دعم القضية الفلسطينية.
ويستشهد هؤلاء بأن بعض قادة حماس يوجهون الشكر باستمرار لإيران وحزب الله والنظام السوري (رغم أنني لم أسمع أحد في حماس شكر النظام السوري خلال الحرب الحالية، وهو لم يفعل شيئا يستحق عليه الشكر على أية حال)، لكن هذا يرد ضمن الديباجة التي يرددها البعض، في معرض انتقاده لحركة حماس. وبطبيعة الحال، لا يمكن تقييم موقف طرف ما، لمجرد أن أحد مسؤوليه قدم الشكر لهذه الجهة أو تلك. وبعض بيانات حماس تشكر مصر مثلا، برغم المواقف المتخاذلة لقيادتها حيال ما يجري في غزة، وهذا يفهم في سياق البروتوكول الدبلوماسي، وما تقتضيه ظروف المواجهة الصعبة، والسياسة البراغماتية الرامية إلى محاولة تقليل الخصوم وتعظيم جبهة الأصدقاء.
وإذا تحرينا في عمق العلاقة بين حماس، وما يسمى بمحور “المقاومة” الذي تقوده إيران، ويضم إضافة للنظام السوري طيفا من المنظمات ذات الصبغة الطائفية في لبنان والعراق واليمن، فإن حماس هي العضو “السني” الوحيد في هذا الحلف، والذي دخلته في ظروف مختلفة عن الفرز الذي جرى بعد الثورة السورية عام 2011. وقبل هذا التاريخ، لم يكن أحد في سوريا، أو هم قلة، من كان لديهم مشكلة في التحالف مع إيران ومحورها، والذي نشأ وترعرع مستفيدا من الفراغ السياسي الذي تركه الغياب العربي “السني” عن ساحة القضية الفلسطينية، حيث لم تجد حماس، وأي فصيل يريد محاربة إسرائيل غطاء عربيا، إلا من جانب الأطراف المنضوية ضمن هذا المحور، بغض النظر عن الأهداف المضمرة لكل منها لتوظيف القضية الفلسطينية التي تحظى بتعاطف شعبي عربي، ضمن أجندته الخاصة.
وبعد الثورة السورية، حاول النظام السوري استقطاب حماس، وكل الفصائل الفلسطينية للوقوف معه ضد الثورة، بدعوى أن ما يجري هو مؤامرة خارجية تستهدف سوريا ودورها الداعم للقضية الفلسطينية، لكن قيادة حماس لم تتجاوب مع هذا الطرح، واختارت في النهاية الخروج من دمشق، لتتوزع بين قطر ولبنان وتركيا وأماكن أخرى.
وفي السنوات الأخيرة، حاولت إيران وحزب الله، إعادة التقارب بين حماس ونظام الأسد، وتجاوب بعض قادة حماس مع هذه المساعي وأرسلوا وفدا قابل رئيس النظام، لكن العلاقة ظلت باردة بين الجانبين، وقبل أسابيع قليلة من عملية “طوفان الأقصى” شن بشار الأسد هجوما على حماس ووصفها بالخائنة والإخونجية .. الخ.
وبطبيعة الحال، فإن معظم الجمهور الموالي للنظام يتساوق مع هذه النظرة باعتبار حماس خذلت النظام، برغم احتضانها له لسنوات، فضلا عن حساسية النظام وجمهوره، إزاء تنظيم الإخوان المسلمين، واعتبارهم حماس مجرد امتداد فلسطيني للتنظيم.
وبالنسبة لهذه النقطة، لها حضورها أيضا لدى جزء من جمهور المعارضة، أو على الأقل مثقفيها ممن يتوجسون من “الإسلام السياسي”، خصوصا مع التقييم السلبي عموما لأداء الفصائل الإسلامية ضمن الثورة السورية.
غير أن ما ينبغي لفت الانتباه إليه، وهو ما يغفل عنه كثير من السوريين في مقاربتهم للموضوع الفلسطيني، هو مجموعة من النقاط المهمة:
أولا: الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، والعربي الإسرائيلي عموما، قديم وممتد لأكثر من 75 عاما، ولا يرتبط تاليا بالثورة في سوريا ضد نظام بشار الأسد، ولا بموقف إيران من القضية الفلسطينية وتطوراتها، ودعمها لطرف فلسطيني معين، في مرحلة معينة.
ثانيا: منذ أن تولى الفلسطينيون زمام قضيتهم، وانطلقت ثورتهم المسلحة ضد الاحتلال في اليوم الأخير من عام 1964، حيث كانت أول عملية فدائية، مرت القضية الفلسطينية بعدة مراحل، بدءا من حرية الكفاح المسلح النسبية على الأراضي السورية والأردنية قبل عام 1970، بقيادة منظمة “فتح” كبرى حركات المقاومة الفلسطينية حينذاك، ومن ثم انتقال التنظيمات الفلسطينية إلى لبنان، بعد صدامات أيلول الأسود مع ملك الأردن، تزامنا مع وصول حافظ الأسد إلى السلطة في سوريا، واستمرت هذه الفترة حتى الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982. وحتى هذه الفترة، وخلال الثمانينات، كان نظام حافظ الأسد، يحاول احتكار “الورقة الفلسطينية” دون منازعة من إيران، ولم يبرز دور لإيران في المسألة الفلسطينية، إلا بعد العام 2000 مع وصول بشار الأسد إلى السلطة الذي حاول استعادة الورقة الفلسطينية من بوابة الفصائل الإسلامية المتشكلة آنذاك والتي بدأت تزيح “فتح” والفصائل اليسارية عن الواجهة، بينما انشغلت الأخيرة بعد دخول قيادتها إلى رام الله بفعل اتفاق أوسلو، بالعمل السياسي أو ركزت على أشكال أخرى للكفاح مثل الانتفاضات الشعبية بعيدا نسبيا عن العمل المسلح.
ثالثا: في تلك الفترة، أي بعد عام ألفين، من لم يكن ثمة مشكلة في دعم إيران للفصائل الإسلامية الفلسطينية، وتحديدا حماس والجهاد الإسلامي، في إطار التحالف القائم بين طهران ونظام بشار الأسد وحزب الله. ومع اندلاع الثورة السورية عام 2011، والافتراق الذي حصل آنذاك بين حماس والنظام في دمشق، والابتعاد العربي عن دعم أي شكل من الكفاح ضد إسرائيل، خاصة المسلح منه، ناهيك عن كون هذا الكفاح باتت تتصدره فصائل محسوبة على الإسلام السياسي، العدو الأول للأنظمة العربية، لما يختمره من بدائل محتملة عن تلك الأنظمة كما حصل في مصر وتونس، إضافة إلى فلسطين نفسها حيث تغلبت حماس على “فتح” في كل انتخابات خاضتها، كان “الحضن الإيراني” جاهزا لتلقف هذه الفصائل، تحت شعارات دعم القضية الفلسطينية المهجورة من الأنظمة العربية.
وقد حاولت قيادة حماس السير على خيط رفيع يفصل بين حاجتها لتلقي الدعم المالي والعسكري والسياسي “من أي جهة كانت” من جهة، وعدم الارتماء بشكل كامل في حضن إيران، والخضوع لأجندتها الإقليمية، من جهة أخرى، من خلال حصر كفاحها في الإطار الفلسطيني، وتوجيه بندقيتها حصرا ضد إسرائيل، ولم يسجل انخراط الحركة في أي نشاط مسلح ليس موجها ضد إسرائيل، كما حصل مع حزب الله مثلا الذي انخرط بقوة في الصراع السوري الداخلي.
بطبيعة الحال، تدرك حماس أن لإيران مخططات في المنطقة للهيمنة والتمدد باستخدام أذرع طائفية في سوريا والعراق واليمن ولبنان وغيرها، وأن التحالف معها يشكل إدانة أخلاقية للحركة، نظرا لتورط إيران في سفك الدم السوري والعراقي، لكن الظروف الصعبة التي وجدت نفسها فيها، لجهة عزلها، عربيا، بل انخراط بعض العرب في التآمر عليها مع إسرائيل، دفعتها إلى محاولة تقنين علاقاتها مع إيران بالحد الأدنى، والاعتماد على نفسها قدر المستطاع، وهي معادلة قد تكون وفقت فيها حينا، ولم توفق أحياناً أخرى. وقد كشفت حرب غزة الحالية، أن إيران إنما تتاجر بالقضية الفلسطينية، وتحجم عن التدخل الفعلي نصرة لهذه القضية، مع الاكتفاء بإدارة منضبطة لبعض المناوشات عبر أذرعها في المنطقة، على أمل ألا تخسر “الورقة الفلسطينية” التي تستعيد هذه الأيام زخمها الشعبي العربي والعالمي، وهو ما قد يدفع القوى الفلسطينية التي راهنت على إيران، إلى مراجعة موقفها بعد الحرب.
—————————-
هل تغير موقف إدارة الرئيس بايدن من الحرب على غزة قرار تكتيكي أم استراتيجي؟/ رضوان زيادة
2023.12.20
تركز كثير من وسائل الإعلام على هذا التغير بوصفه تغيّرا واضحا في موقف الإدارة لكن أعتقد أن هذا التغيير مجرد تغيير تكتيكي ولمواجهة عزلة الولايات المتحدة على مستوى العالم، بعد استخدام حق النقض الفيتو في مواجهة مطالبة دولية بوقف دائم لوقف النار، وهو ما أعطى إسرائيل مزيدا من الوقت للقيام بكثير من العمليات العسكرية غير المحدودة ضد المدنيين في غزة مما أسفر عن 19 ألف قتيل إلى اليوم.
لقد تغيرت لهجة إدارة بايدن في الأيام الأخيرة عندما يتعلق الأمر برد إسرائيل في غزة، حيث لم تستطع إسرائيل بعد أكثر من شهرين من تحقيق أهدافها العسكرية في غزة من حيث تحرير الرهائن أو منع إطلاق الصواريخ من غزة.
لقد كان الموقف الأميركي وهو ضرورة وجود هدف عسكري واضح وقابل للتحقيق في القضاء على حماس وهو ما لم تستطع إسرائيل تحقيقه إلى اليوم، مع هذا العدد الكبير من الضحايا إلى إضافة تعقيد إلى الوضع الحساس بالفعل، وقد حذر المسؤولون الأميركيون القادة الإسرائيليين من تكرار نفس الأخطاء التي ارتكبتها الولايات المتحدة بعد 11 سبتمبر.
كما وصف المسؤولون الأميركيون مؤخرًا مستقبل غزة بأنه “متروك للتحديد”. وقد حذر الرئيس بايدن بالفعل من أن الاحتلال الإسرائيلي لغزة، التي تسيطر عليها حماس، سيكون “خطأً كبيراً” بينما قالت إسرائيل بدورها إنها لا تخطط للسيطرة على “الحياة في غزة” لكنها لم تشر إلى من سيفعل ذلك.
لقد أدت الأزمة بكل تعقيداتها إلى إغراق إدارة بايدن في مستنقع دبلوماسي وإنساني بسبب رغبتها في دعم إسرائيل بشكل لا لبس فيه في الدفاع عن نفسها مع البقاء مدركة للأزمة الإنسانية الأليمة – كل ذلك في ظل محاولة منع احتمال اندلاع صراع أكبر في الشرق الأوسط.
تواجه الولايات المتحدة اليوم عزلة دولية بسبب دعمها المتصاعد لإسرائيل على المستوى السياسي والأمني والعسكري، ولذلك تصاعدت الدعوات لوقف إطلاق النار من المجتمع الدولي، خاصة أن أميركا حاولت بناء موقف دولي ضد حرب بوتين في أوكرانيا، إذ يبدو أن هذا الموقف الدولي تبدد كليا وأصبحت المقاربة الأميركية في أوكرانيا وكأنها تنهار أمام الموقف الأميركي في غزة.
لكن بنفس الوقت بقي الموقف الأميركي مرددا نفس الموقف الإسرائيلي فيما يتعلق بالقضاء على حماس كليا، وحتى عدم المطالبة بوقف القصف الجوي الإسرائيلي لقطاع غزة بالرغم من العدد الأكبر من الضحايا المدنيين من الأطفال والنساء.
حذرت الولايات المتحدة أكثر من مرة أنها تشعر بالقلق إزاء افتقار إسرائيل إلى نهاية عسكرية، وأن خطة هجومها البري المستمرة من أسابيع لم تفعل سوى زيادة عدد المدنيين وهذا ما أشار إليه وزير الدفاع الأميركي بأن هذه العملية العسكرية ربما تقود إلى “هزيمة استراتيجية” بسبب هذا العدد الكبير من الضحايا المدنيين.
وأعتقد أن الموقف الأوضح في الضغط على إدارة بايدن أتى من السناتور ساندرز عندما أرسل رسالة إلى بايدن طالبه فيها بسحب دعمه لإسرائيل.
ففي رسالة أُرسلت إلى الرئيس بايدن يوم الثلاثاء، حث السيناتور بيرني ساندرز (الجمهوري عن ولاية فيرمونت) الرئيس على إجراء تغييرين حاسمين في السياسة في نهجه تجاه إسرائيل وغزة. أولاً، أن يسحب الرئيس دعمه لمبلغ 10.1 مليارات دولار للأسلحة الهجومية لحكومة نتنياهو اليمينية الواردة في حزمة المساعدات الخارجية المقترحة المطلوبة من الكونغرس. وثانياً، أن يدعم الرئيس قرار الأمم المتحدة الأخير الذي يطالب بوقف فوري لإطلاق النار لأسباب إنسانية، والإفراج غير المشروط عن جميع الرهائن، وإتاحة الوصول الكامل للمساعدات الإنسانية – وهو القرار الذي اعترضت عليه الولايات المتحدة.
وكرر ساندرز وجهة نظره بأن لإسرائيل الحق المطلق في الدفاع عن نفسها ضد الهجوم الإرهابي الذي شنته حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول، لكن سياستها العسكرية الحالية غير أخلاقية على الإطلاق، وكتب ساندرز. “إن السبب العادل للحرب لا يبرر الفظائع التي ترتكب في إدارة تلك الحرب. من حق إسرائيل أن تخوض حرباً ضد حماس. وليس من حقها خوض حرب ضد الرجال والنساء والأطفال الأبرياء في غزة.. الحملة العسكرية الإسرائيلية ستظل في الأذهان من بين أحلك الفصول في تاريخنا الحديث”.
وتابع ساندرز: “إن النهج العسكري الحالي الذي تتبعه حكومة نتنياهو غير أخلاقي، وينتهك القانون الدولي، ويجب على الولايات المتحدة إنهاء تواطؤنا في تلك الأعمال. لذلك، أطلب منكم إجراء تغييرين حاسمين في السياسة: أولاً، في حين أنه من المناسب دعم الأنظمة الدفاعية التي ستحمي المدنيين الإسرائيليين من الهجمات الصاروخية القادمة، سيكون من غير المسؤول تقديم مبلغ إضافي قدره 10.1 مليارات دولار من المساعدات العسكرية بخلاف هذه المساعدات. الأنظمة الدفاعية على النحو الوارد في حزمة المساعدات الخارجية التكميلية المقترحة. ومن شأن هذه الأموال أن تسمح بمواصلة القصف العشوائي الواسع النطاق الذي تقوم به حكومة نتنياهو. ولذلك، أطلب منكم سحب دعمكم لهذا الجزء من التمويل المطلوب من الكونغرس. ثانياً، أطلب منكم دعم الجهود التي تبذلها الأمم المتحدة لإنهاء إراقة الدماء، مثل القرار الأخير، الذي استخدمت الولايات المتحدة حق النقض ضده، والذي كان سيطالب بوقف فوري لإطلاق النار لأسباب إنسانية، والإفراج غير المشروط عن جميع الرهائن، وإتاحة الوصول الكامل للمساعدات الإنسانية.”
يبقى السؤال هل ستغير إدارة بايدن موقفها السياسي أم تبقى تعطي عبارات غير ذات معنى عن حماية المدنيين بينما تمنح إسرائيل مساعدات عسكرية لا حدود لها في حربها الوحشية ضد غزة؟
—————————-
هل يُراهن نتنياهو على عودة ترامب؟/ محمود علوش
2023.12.19
لأن فكرة أن إسرائيل قادرة على القضاء على حركة حماس وتحقيق نصر حاسم وواضح في حربها على قطاع غزة غير واقعية تماماً إن لم تكن غير مُمكنة على الإطلاق، فأن أحد الأسئلة الأساسية التي تتبادر إلى الأذهان تدور حول ما يسعى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لتحقيقه في غزة. من المعلوم أن نتنياهو وضع ثلاثة أهداف رئيسية للحرب وهي القضاء على حركة حماس واستعادة الأسرى الإسرائيليين المحتجزين لدى الفصائل الفلسطينية ومنع أن تُشكل غزة مرّة أخرى تهديداً لإسرائيل. لا يعني وضع هذه الأهداف أنها قابلة للتحقيق، لكن نتنياهو لا يملك خياراً سوى وضع سقف عال للأهداف والمضي قدماً في الحرب حتى النهاية على أمل أن يُحقق نصراً ما يُساعده في إظهار القدرة العسكرية لإسرائيل على معاقبة أعدائها والتهرب من المصير السياسي القاتم الذي ينتظره في الداخل. وللوصول إلى هذه النتيجة، يعمل نتنياهو على ثلاث مسارات أساسية: مواصلة الحرب لأطول فترة مُمكنة، وضمان أن تبقى الولايات المتحدة إلى جانب إسرائيل في الحرب لأطول فترة مُمكنة، والرهان على أن تؤدي الانتخابات الرئاسية المقبلة إلى عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
نظرياً، بمقدور نتنياهو مواصلة الحرب لأطول فترة مُمكنة لأنّه قبل أي شيء، لا يستطيع أن يُنهي هذه الحرب من دون أن يُحقق بعض الأهداف الواضحة على الأقل. لكنّ التوقعات شيء والواقع شيء آخر. إن كل يوم يمضي على الحرب من دون أن تتمكن إسرائيل من إنهاء إدارة حركة حماس لقطاع غزة واستعادة الأسرى، يعني أن نتنياهو يعمل على تعميق مأزقه في غزة بشكل أكبر. فمن جانب، تتعاظم الخسائر الإسرائيلية العسكرية والاقتصادية في الحرب بشكل لا يُمكن لحكومة نتنياهو أن تحتويه لفترة طويلة. ومن جانب آخر، تبدو قدرة إسرائيل على احتواء الغضب الدولي المتنامي من الحرب لفترة طويلة محل شكوك كبيرة وإن بدت الولايات المتحدة مُصممة على منح الغطاء السياسي والعسكري الكامل لها لمواصلة الحرب حتى تحقيق أهدافها. في غضون ذلك، فإن التداعيات الإقليمية لهذه الحرب، وإن كانت إسرائيل قادرة حتى الآن على احتوائها، مثل الهجمات التي يشنها حزب الله بشكل شبه يومي في الجبهة الشمالية أو الهجمات التي يشنها الحوثيون على السفن الإسرائيلية في البحر الأحمر، قد تتحول إلى مُعضلة لا تقل خطورة على إسرائيل من معضلة غزة كلما استمرت هذه الحرب لفترة أطول. وفي الجبهة الداخلية، فإن الارتدادات الأمنية والاقتصادية للحرب، تعمل مع مرور الوقت على تشكيل رأي عام داخلي مُشكك على نحو متزايد بقدرة نتنياهو على إدارة فعالية للحرب لفترة طويلة.
حتى في الوقت الذي يُريد فيه نتنياهو إبقاء التركيز الإسرائيلي الداخلي منصباً بشكل أساسي على تحقيق أهداف الحرب، ويسعى للحفاظ على الدعم الأميركي له لتحقيق هذه الأهداف قبل أي شيء، فإن الأسئلة المتزايدة حول اليوم التالي لانتهاء الحرب ومستقبل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، تصنع مُشكلة أخرى لنتنياهو. فمن جانب، يُقاوم نتنياهو بشدة المساعي الأميركية والإقليمية لأن يكون للسلطة الفلسطينية دور رئيسي في إدارة غزة بعد الحرب. ومن جانب آخر، فإن تصاعد الزخم الدولي نحو إطلاق عملية سلام جديدة بين الفلسطينيين والإسرائيليين بعد الحرب تؤدي إلى تحقيق حل الدولتين، يزيد من رغبة نتنياهو في إطالة أمد الحرب لفترة أطول، ليس فقط من أجل محاولة تحقيق نصر في غزة، بل أيضاً من أجل إفشال أي جُهد دولي لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. مع أن إدارة الرئيس جو بايدن، أظهرت دعماً غير محدود لإسرائيل في هذه الحرب، إلا أنها تتصدر الخطاب الدولي الجديد بشأن حل الدولتين. لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت الإدارة الأميركية ترهن في محادثاتها مع المسؤولين الإسرائيليين مواصلة دعم الحرب بقبول تل أبيب بالدخول في عملية سلام تؤدي إلى حل الدولتين، لكنّ الدفع الأميركي بهذا الاتجاه، يُقلق نتنياهو وشركاءه المتطرفين الذين يرفضون قيام أي دولة للفلسطينيين.
في ضوء ذلك، فإن رهان نتنياهو على تحول أميركي بعد الانتخابات الرئاسية المقبلة، قد يُساعده في مواجهة الضغط العالمي الجديد لتحقيق حل الدولتين خصوصاً إذا ما أدت الانتخابات إلى إعادة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. في ولاية ترامب الرئاسية، روجت واشنطن لمشروع “صفقة القرن” الذي يقوم على تحقيق دولة للفلسطينيين بدون أن تكون القدس الشرقية عاصمة لها. كما اعترف ترامب بالسيادة الإسرائيلية على القدس المُحتلة، ما جعل فكرة قيام دولتين مع تقاسم القدس كعاصمة لكليهما غير مُمكنة. إن عودة محتملة لترامب إلى البيت الأبيض، قد تؤدي إلى إعادة الزخم الأميركي لتحقيق مشروع “صفقة القرن” وليس لحل عادل وشامل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي على أساس تقسيم القدس كعاصمتين لإسرائيل وفلسطين. علاوة على ذلك، فإن إسرائيل تعتقد أن الدعم الأميركي لها سيكون أكبر بكثير مما هو عليه الآن في حال عودة ترامب للبيت الأبيض لأن الأخير تعهد بوقف الدعم العسكري لأوكرانيا.
لا يزال على الانتخابات الرئاسية الأميركية ما يقرب من عام، وهي فترة انتظار طويلة بالنسبة لنتنياهو الذي سيتعين عليه لإنجاح رهانه على عودة ترامب إلى السلطة مواصلة الحرب على غزة لعام على الأقل ومحاولة فرض واقع جديد في قطاع غزة خلال هذه الفترة دون الحاجة إلى الاستجابة للضغوط الدولية بإطلاق مسار سياسي جديد مع الفلسطينيين لتحقيق حل الدولتين. ويبدو رهان نتنياهو على عودة ترامب مشابها إلى حد كبير لرهان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على تحول في السياسة الأميركية يُنهي الدعم الغربي المفتوح لأوكرانيا. عملياً، استطاع بوتين إطالة أمد الحرب على أوكرانيا لنحو عامين من دون أن يتعرّض للهزيمة، والستاتيكو العسكري القائم في الصراع الروسي الأوكراني حالياً يبدو ملائماً لموسكو للحفاظ عليه حتى الانتخابات الرئاسية الأميركية. لكنّ الوضع أكثر تعقيداً على نتنياهو في هذا الرهان مقارنة ببوتين لاعتبارات عديدة على رأسها أنه بحاجة لتجنب تكريس الجمود في الستاتيكو العسكري القائم حالياً في غزة لفترة طويلة لأنّه يخدم حركة حماس بقدر أكبر من إسرائيل.
———————-
النظام السوري والحرب على غزة.. بيئة مناسبة للمساومات وعقد الصفقات/ مصطفى إبراهيم المصطفى
2023.12.19
زحف القوات الأميركية نحو منطقة الشرق الأوسط بالتزامن مع حرب غزة ظلالا من الشك حول مقولة العزوف الأميركي عن الانخراط في حروب جديدة، وأصبح البعض يعتقد أن الحرب قادمة لا محالة، لكن أميركا المرتبكة – كما أسماها أستاذ العلاقات الدولية الأميركي “جون ميرشايمر” – ما لبثت أن كشفت عن ضعفها وترددها، فرغم أنها أعلنت سلفا أن قواتها الذاهبة إلى منطقة الشرق الأوسط مهمتها الردع، إلا أنها ما لبثت أن مزجت التهديد بالاستجداء والمساومة، وهنا بيت القصيد.
عندما تكون النتائج مضمونة فالنظام السوري مستعد للمساومة على كل شيء، ولكن المساومة ليست متاحة في أي وقت، أما اليوم فقد خلقت حرب غزة بيئة خصبة لما يمكن أن نسميه بدبلوماسية المساومة، ورغم أن الأخبار التي تتحدث عن عقد صفقات أو مساومات تخص الملف السوري لم ترشح بعد؛ إلا أن الموقف الذي اتخذه النظام السوري من حرب غزة، والذي اتسم بالسكون أو النأي بالنفس يشير لاستعداده لعقد الصفقات، أو للدعوة لذلك كحد أدنى.
من ناحية ثانية؛ يمكن لمن يراقب سلوك النظام في الآونة الأخيرة أن يلاحظ بعض الإجراءات والتصريحات التي تثير الشك والريبة، كالحديث عن نية بتغيير شكل الجيش وطبيعته مثلا، وهو ما لا يمكن تفسيره إلا في إطار المغازلة لجهة ما تنتظر بعض الإجراءات المندرجة تحت مسمى “إصلاحات”. ومؤخرا؛ قام النظام السوري بتعيين أيمن سوسان سفيرا له في المملكة العربية السعودية، بعد 11 عاما من قطع العلاقات بين البلدين، وهي الخطوة التي كانت متعثرة حتى الأمس القريب.
بعد ذلك، باتجاه معاكس، وبشكل مفاجئ، تفرض كل من الولايات المتحدة وبريطانيا حزمة من العقوبات شملت أفرادا في حكومة النظام السوري بينهم وزراء وضباط كبار في الجيش. وهذه الخطوة يمكن أن تفسر باتجاهين؛ فهي إما تعني أن النظام السوري خارج إطار كل مساومة، وأنه غير مؤهل لأي محاولة تدوير أو تعويم. وإما هي ممارسة نوع من الضغوط لكي يصبح النظام السوري أكثر مرونة فيما يعرضه أو فيما يعرض عليه في معمعة الصفقات والمساومات.
مع افتراض أن السياق هو سياق مساومة، لا بد من التأكيد أن كل من يعرف طبيعة النظام السوري يعلم أنه مستعد للمساومة والتضحية حتى بعلاقته بروسيا وإيران إن كان الثمن بقائه في الحكم؛ شرط أن تكون النتائج مضمونة. وبغض النظر عن استعداد النظام للغدر بأقرب المقربين في سبيل البقاء في السلطة؛ يعد تقويض النفوذ الروسي والإيراني في سوريا أمنية حقيقية بالنسبة له، فقد أصبح أسيرا عند هاتين الدولتين (الحليفتين) بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، لكن هذا الأمر يبدو أنه أقرب إلى المستحيل، وذلك لغياب القوة القادرة على تنفيذه.
المشكلة أن المساومة – إن وجدت – سوف تكون حول الميليشيات الإيرانية المتواجدة في سوريا، فالمطلب الدولي من النظام السوري المتمثل بفك ارتباطه بإيران، وهو مطلب قديم متجدد، ولعله كان في يوم من الأيام المطلب الوحيد مقابل إخراج النظام من مأزقه، لكن هذا المطلب إن كان سابقا في متناول اليد لم يعد اليوم كذلك، فإيران التي تغلغلت في كافة مؤسسات السلطة، وبعد أن أصبحت تسيطر على مساحات شاسعة من الأرض السورية عبر ميليشياتها؛ باتت هي الجهة القادرة على المساومة على وجود النظام، بينما هو فقد أي مقدرة على ذلك.
إذن، قد يكون النظام السوري عاجزا وغير مؤهل لعقد صفقات، وأغلب الظن أن هذا الأمر أصبح معروفا من قبل الجميع، فهل هذا يكفي لأن يكون عامل اطمئنان؟ الجواب: لا؛ لأن المفاوض البديل هو إيران، وإيران إذ تعتبر النظام السوري أحد أهم حلفائها، أو أتباعها؛ لن تتوانى لحظة عن حشر مصير النظام السوري في أية مساومة، فهي كانت ومازالت مصممة على فك عزلته وإعادة تعويمه من جديد. ولكن، هل تستطيع إيران أن تفرض كل ما تريد؟ هذا سؤال تصعب الإجابة عليه، إذ تفترض معرفة دقيقة بحجم قوتها وبحجم معاناتها، والأمر ذاته ينطبق على الطرف الآخر.
في الواقع؛ كرست حرب غزة بيئة عدم اليقين التي تميز العلاقات الدولية وجعلتها أكثر ضبابية، من هنا لا يُلام المحللون السياسيون إن اضطربت أقوالهم وأخطأت تقديراتهم، ففي أثناء الحروب والأزمات يكثر التضليل وتنشط حملات الحرب النفسية، وبهذا تصبح معظم الأخبار والتصريحات غير دقيقة المدلول، فقد يكون ما يجري من مفاوضات، أو ما يجري من حراك دبلوماسي مجرد استهلاك للوقت على اعتبار أن الرغبة الأميركية تتمثل بمحاصرة الحرب في غزة دون السماح لها بالتوسع.
لم تخلق حرب غزة بيئة مناسبة لعقد الصفقات والمساومات وحسب، وإنما خلقت الأجواء المناسبة لمثل هذا النوع من الدبلوماسية أيضا، فالصفقات والمساومات غالبا ما تحدث خلف الأبواب المغلقة بعيدا عن الأضواء، وهذا ما تكفلت به هذه الحرب من خلال احتكارها للتغطية الإعلامية. من هنا؛ فمراقبة الساحة، وإعداد العدة لإفشال محاولات الالتفاف على القرارات الدولية يجب ألا يغيب عن جدول أعمال المشتغلين بالشأن الثوري، فاحتمال اغتيال هذه القرارات في ظل العتمة الإعلامية، وفي ظل بيئة المساومات هو احتمال وارد.
—————–
قرار أميركا بضرب إيران في سوريا والعراق/ شيروان إبراهيم
2023.12.18
ليست بسنوات بعيدة حينما أصدر الرئيس الأميركي دونالد ترامب شخصياً قرار اغتيال أحد أهم أعمدة الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني في العراق رفقة أبي مهدي المهندس الذي كان أحد أهم المقربين العراقيين من نظام إيران، وحينذاك فسرت تحليلات عديدة عملية الاغتيال هذه على أنها رد على هجمات المتظاهرين ضد السفارة الأميركية في بغداد! علماً أن الاعتداءات التي طالت محيط السفارة وقتذاك كانت من متظاهرين مدنيين، وهنا طُرح تساؤل مهم من قبل مراقبين ومختصين، مفاده، لماذا تنفذ مجموعات مسلحة عراقية محسوبة على إيران هجمات وتحرشات بالقواعد الأميركية في العراق قبل وبعد حادثة الاعتداء على السفارة، ولا يحصل رد فعل عسكري بهذا المستوى ضد اعتداءات تلك المجاميع؟
قبل الإجابة عن التساؤل السابق، لا بد لنا من الإشارة إلى أن ترامب كان الأكثر صرامة ومباشرية مع إيران فيما يخص بعض المسائل مقارنة مع غيره من الرؤساء، لذا فإن الرد الأميركي ممكن في حال عودة ترامب لكرسي الرئاسة في انتخابات نوفمبر 2024، فبناء على سياساته السابقة ووعوده الحالية في الدعاية الانتخابية، قد تشهد الفترة الأولى من وصوله لقيادة البيت الأبيض إصدار قرارات وإجراءات عسكرية ضد مصالح إيرانية في العراق وكذلك في سوريا أيضاً، لكن وبما أنه بقي قرابة سنة من حسم السباق الرئاسي للبيت الأبيض، ثمة سؤال يتردد كثيراً في الآونة الأخيرة مفاده لماذا الآن بالذات تحتفظ أميركا بحق الرد؟ ومن ماذا تخشى حتى تؤجل الرد الصارم؟ وكيف انتقلت عدوى تصريحات “الاحتفاظ بحق الرد” التي ابتكرها نظام الأسد في سوريا إلى البنتاغون؟
إن الإجابة عن التساؤلات السابقة تحتوي احتمالات عدة، جميعها تشير إلى تأجيل الضربة الأميركية لا إلغائها، ويمكننا اختصارها إلى أربعة أسباب أو معوقات رئيسية أمام تنفيذها، أولها أن الولايات المتحدة وكما جرت العادة لا تفضل الدخول في عدة جبهات بآن واحد لأسباب تخص مؤسستها العسكرية وحساباتها حيال موازين القوى لديها، وأولوياتها الحالية تتركز في الحرب الإسرائيلية على غزة وحساسية هذه الحرب على وضع الجنوب اللبناني الحدودي مع إسرائيل، بالإضافة إلى دعمها لأوكرانيا ضد الهجوم الروسي، ناهيك عن الملف السوري، فضلاً عن مساعيها في الوساطة وتقوية بوادر التطبيع السعودي الإسرائيلي، لذا فإن التفكير بأي ضربة ضد المصالح الإيرانية أو أي حرب في بقعة أخرى، يستوجب حسم أو حلحلة بعض الملفات المذكورة آنفاً والتي تشارك أميركا فيها بقوة.
أما السبب الثاني، فيُحتمل أن أروقة القرار الأميركية لا تنظر بعين الرعب والريبة لهجمات المجاميع التابعة لإيران، على اعتبار أن الاعتداءات ما زالت في إطار التحرش العسكري الذي يؤدي إلى بعض الإصابات في صفوف الجنود الأميركان دون خسارات كبرى ولا مقتل أي أحد منهم، وهذه إشارة قوية إلى فرضية واحتمالية تفيد بأن إيران تتحرش عسكرياً لكن بدون الضغط أكثر على الزناد! وهدفها التأثير على بعض الملفات في المنطقة، بالإضافة إلى توجيه خطابات تعبئة شعبوية مستمرة إلى الداخل الإيراني وأنصار الأطراف المقربة منها في دول المنطقة بأنها لا تهاب القوات الأميركية، ويقابل ذلك تفهم الجانب الأميركي بأن الهجمات لا تعدو حدود التحرشات هنا وهناك، وكأنه بمثابة (شبه تفاهم عن بعد) بينهما، من دون التوقيع والاتفاق الرسمي عليه.
أما ثالث الأسباب، فيكمن في استمرارية القصف والاستهداف الإسرائيلي ضد القواعد الإيرانية داخل سوريا بشكل مباشر ومستمر منذ سنوات، ويمكن اعتبار هذه العمليات وكأنها تُنفذ نيابة عن القوات الأميركية التي لديها أقوى العلاقات مع الجانب الإسرائيلي، بما معناه، أن الردود الأميركية تكون أحياناً من خلال المقاتلات الإسرائيلية، وأن الجانب الإيراني يتفهم نوعية الضربات وكذلك الغايات والأهداف التي من ورائها، وهنا لا داعي لتحريك الجيوش ودوائر القرار الأميركية، لطالما حليفتها الأولى في المنطقة ليست مقصرة في توجيه الضربات العسكرية ضد مصالح ومجموعات إيرانية.
إضافة إلى ما سبق، ثمة سبب رابع تشير إليه تقارير عدة لكن ما زال بحاجة إلى تأكيدات، وهو عدم خوض القوات الأميركية لهجمات عنيفة ضد مصالح إيران وحلفائها في العراق وسوريا، على أمل إمكانية استثمار تأثيرها على الأطراف الفلسطينية واللبنانية التي تهدد أمن إسرائيل لا سيما في الوقت الحالي، لكن تأكيد هذه الفرضية من عدمها غير واضح الآن لحين انتهاء وحسم الحرب الحالية في غزة، وأن النتائج المتمخضة عنها فيما بعد هي التي ستكون كفيلة بتوضيح مدى ومستوى دور إيران في بدء أو إيقاف أو التأثير على هجمات تلك الأطراف على إسرائيل، في وقت تحاول فيه إيران بشتى الوسائل إظهار نفسها الوحيدة القادرة على التأثير على مجريات الحرب مع إسرائيل، وذلك في رسالة لها تطالب بإرضائها حيال بعض الملفات في المنطقة.
ختاماً، لا بد من الإشارة إلى أن الجانب الأميركي لن يقف مكتوف الأيدي أمام الهجمات الإيرانية ضد قواعده، على الأقل تفادياً لأي انتقادات داخلية مستقبلية من داخل أورقة المؤسسات التشريعية أو حتى الإعلامية لا سيما في ظل بدء الدعاية الانتخابية للسباق الرئاسي، لذا فإن الضربة العسكرية الموجعة ضد بعض القواعد والأطراف المحسوبة على إيران ليست ملغاة، بقدر ما أنها مؤجلة، لكن يحين الوقت المناسب بعد انتهاء أو حسم بعض الحروب الأخرى التي تشارك الولايات المتحدة فيها بقوة، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
————————–
الحرب على غزة وازدواجية المعايير/ رضوان زيادة
2023.12.14
يمكن القول إن الحرب الوحشية الإسرائيلية على غزة دفنت كليا الموقف “الغربي” من القانون الدولي وحجته في مقارعة الهجوم الروسي على أوكرانيا، وضرورة دعم أوكرانيا بهدف حماية القانون الدولي.
فهذه الحجة على صدقيتها أصيبت بمقتل في غزة، حيث يرى العالم المعايير المزدوجة ظاهرة بشكل واضح وصريح. فالمقارنة بين صرخات الغرب ضد الاحتلال غير القانوني للأراضي والأذى الذي ألحقته روسيا بالمدنيين في أوكرانيا، والحجج التي استخدمها الغرب بشأن تصرفات إسرائيل، أثارت في البلدان غير الغربية شعوراً واسع النطاق بالنفاق من جانب الدول الغربية.
وبطبيعة الحال، فإن الموقف الغربي ليس متجانسا، وكذلك موقف الجنوب العالمي – وهو التعريف الذي يجمع مجموعة غير متجانسة من الدول غير الغربية النامية – كما أن الصراعين ليسا متماثلين. ولكن هناك الكثير من العناصر الواقعية التي تدفع هذا الشعور بالازدواجية الغربية في بقية أنحاء العالم.
إن الموقف الغربي ليس ثابتا ولا أحاديا. على مدار الأسابيع، ومع تسبب الحرب الإسرائيلية على غزة بإلحاق أضرار جسيمة بالمدنيين في غزة وتدمير لكل المنشآت الحيوية من مستشفيات ومدارس وبنى تحتية، غيّر الغربيون لهجتهم وموقفهم. وسمحت الولايات المتحدة، الداعم الكبير لإسرائيل، بتمرير قرار للأمم المتحدة يدعو إلى هدنة دون إدانة هجوم حماس، وهناك دول – مثل إسبانيا وبلجيكا وإيرلندا – أعربت عن انتقادات واضحة لحكومة بنيامين نتنياهو. كما أدلى الممثل الأعلى للشؤون الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، بتصريحات واضحة.
ولكن بالنسبة لكثيرين فإن التحول من جانب البلدان الرئيسية ــ مثل الولايات المتحدة، وألمانيا، والمملكة المتحدة، وإيطاليا ــ يأتي متأخرا للغاية وغير كاف. ومن الصعب جدًا محو صور أخرى، مثل صورة رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين وهي تسافر إلى إسرائيل وتعرب عن دعمها غير المشروط عندما كان القصف وحشيًا بالفعل، ولا تبدي أي اهتمام بالاجتماع مع السلطة الوطنية الفلسطينية.
هناك تصور بمعايير مزدوجة فيما يتعلق بغزة الآن، ولكن أيضًا تصور عام، قبل اندلاع أعمال العنف الحالية، فيما يتعلق بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني ككل. وصحيح أن لكل صراع له خصائصه الخاصة. ولكن من وجهة نظر القانون الدولي هناك أوجه تشابه واضحة [بين أوكرانيا وغزة]، ليس فقط فيما يتعلق بمتطلبات تقليل الضرر الذي يلحق بالمدنيين، ولكن أيضًا في عدم جواز الاستيلاء على الأراضي بالقوة.
وتختلف الصراعات في أوكرانيا وغزة، بين أسباب أخرى، لأن روسيا لم تتعرض للهجوم بينما كانت إسرائيل ترد على هجوم حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، والتي أسفرت عن مقتل 1200 من مواطنيها. لكن على أية حال، فإن القانون الدولي يطالب بالتمييز بين الأهداف العسكرية والمدنية. العقاب الجماعي جريمة. إن حجم الدمار الناجم عن القصف الإسرائيلي والحصار العشوائي الذي قطع المياه والكهرباء والغذاء والإمدادات الطبية، مع استثناءات قليلة فقط، يرسم صورة يعتقد العديد من الخبراء أنها إجرامية. هناك أيضًا الكثير من العناصر التي تجعل الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين غير قانوني.
لقد أعطت الحرب في غزة مادة جديدة للمعايير الغربية المزدوجة، لكن ذلك لم يبدأ بهذه الأزمة حيث لعبت حرب العراق دورا سابقا في ذلك.
إن تصور المعايير المزدوجة في أزمة غزة يشكل انتكاسة خطيرة للقانون الدولي ويجعل من الصعب تصور قانون يحكم الجميع مع استثناء إسرائيل دوما من أن ينطبق عليها هذا القانون، وهو ما يفرض على الدول الغربية التفكير مجددا قبل المحاضرة عن القانون الدولي للدول العربية والنامية في المستقبل.
—————————
لو أن “هيرسي” في غزَّة/ مالك داغستاني
2023.12.14
حين نُشرت “هيروشيما” بعد عام من الكارثة، وهي المقالة الصحفية الأشهر في القرن العشرين، في صحيفة نيويوركر، وقرأها الأميركيون، كان الشعور الأولي لدى الرأي العام الأميركي، أن حكومتهم وعبر التعمية التي مارستها على الحقائق والوقائع، إنما جعلت الشعب الأميركي يبدو وكأنه شعب غبي وبلا أخلاق، عندما هلل قبل عام لرمي القنبلتين النوويتين على هيروشيما وناغازاكي في اليابان، مما دعا الأخيرة للاستسلام غير المشروط، ومعها انتهت الحرب العالمية الثانية.
يوم 31 آب/أغسطس 1946، أفردت نيويوركر للمقالة، المكتوبة بقرابة واحد وثلاثين ألف كلمة، عدداً كاملاً لم تنشر به شيئاً سواها، وكانت تلك سابقة لم يعرفها عالم الصحافة من قبل. من جهة أخرى اعتُبر المقال كفاتحة لما سيُدعى “الصحافة الجديدة، حيث استخدم الكاتب جون هيرسي السرد الروائي لتقديم تحقيق صحفي واقعي، بطريقة جذابة ومثيرة، على ما في مادته من مأساوية تقدم الكارثة بطريقة فريدة”.
لم يتضمن مقال هيرسي أية رسائل أيديولوجية أو سياسية مباشرة، لكنه كان بكليّته وكأنه بيان إدانة لاستخدام الولايات المتحدة للسلاح النووي. كل ما فعله هيرسي أنه قابل وتابع يوميات ستة أشخاص عايشوا لحظة الانفجار في هيروشيما، ونقل ما حدث لهم، وما رأوه وعاينوه من موت ودمار وإصابات، وحرائق اجتاحت المدينة المنكوبة. عام 1999، بعد ست سنوات من وفاة هيرسي، صنّفت لجنة تابعة لقسم الصحافة في جامعة نيويورك “هيروشيما” كأفضل عمل للصحافة الأميركية في القرن العشرين.
خلال ثلاثة أسابيع التقى جون هيرسي مع ستة ناجين من هيروشيما وهم: كاهن يسوعي ألماني، خياطة أرملة، طبيبان، امرأة عشرينية تعمل في أحد مصانع المدينة، وكاهن ياباني كاثوليكي. ونقل بأسلوبه ما رووه له عن لحظة التفجير وما تلاها. لينسف من خلال مادته كل البروباغندا التي حاولت الحكومة الأميركية ترويجها خلال عام كامل. وليقلب إلى حدٍّ كبير الرأي العام الأميركي والعالمي أيضاً، لجهة الموقف من استخدام السلاح النووي.
لم يفعل الرجل سوى أنه صاغ بأسلوبه المميز ما سمعه من وقائع ومشاهدات، من أصحاب الحكاية. لم يذهب كثيراً إلى الإحصاءات إلا عندما كان ذلك ضروياً، لكنه بقي أميناً لعنف الحكاية، وللمأساة التي حلّت بالمدينة المدمرة، وكأنه روائي استسلم لتتحكم به شخصيات روايته بدلاً من أن يحركها هو ويصنع مصيرها بنفسه.
حاول صناع القرار الأميركي بعد رمي القنبلتين النوويتين على هيروشيما وناغازاكي، الحديث عن الأمر وكأنه ما جلب السلام للعالم وأجبر اليابان على الاستسلام، علماً أن اليابان كانت قابلة للاستسلام بدونهما، لكن بشروط أقل إذلالاً. تحدثت الحكومة عنهما وكأنهما قنبلتان كغيرهما لكنهما أقوى تفجيراً، بما يقدمهما كسبق أميركي على صعيد التسلح بمواجهة الأعداء. ولم تسمح لأحد أن يتحدث عن الإبادة البشرية لعشرات الآلاف من المدنيين من الرجال والنساء والأطفال خلال لحظات.
كان الخلاص من العدو الياباني الذي هاجم ميناء بيرل هاربر، وقتل المئات من الأميركيين وأغرق السفن والمدمرات، هو الطاغي كتبرير لضرورة كسر الجيش الياباني المعتدي والخلاص من قدراته، ولم يكن من مكان للحديث عن الضحايا الأبرياء في المدينتين. فجاء جون هيرسي وأظهر الوجه الآخر لذاك الانتصار الأميركي، وروى لمواطنيه أن حياة أناس من لحم ودم قد دمرت، بصفتهم بشرا لهم حكايتهم التي تتناقض مع الرواية الرسمية الأميركية، التي شوهت صورة اليابانيين خلال الحرب، وكانت تتناولهم كمخلوقات أدنى من البشر، وذهب البعض لوصفهم بالقرود الصفر.
خلال عام 1985، زار جون هيرسي هيروشيما ثانيةً، ومن هناك كتب مادة بعنوان ذكرى ما حدث في هيروشيما جاء فيها “إن ما أبقى العالم آمناً من القنبلة النووية منذ عام 1945 حتى الآن لم يكن الردع، بمعنى الخوف من أسلحة معينة، بقدر ما كانت الذاكرة”. وهو ما يؤسس للقول بأن الرواية الصحيحة لأحداث التاريخ هي ما تجعل الشعوب، وبدرجةٍ أقل الحكومات، تستفيد من دروس الماضي.
أعتقد أنكم ما زلتم تنتظرون مني أن أتحدث عن غزّة التي تم ذكرها في العنوان. الحقيقة أني لن أفعل، فعندما دونت عنوان مادتي كان كل ما يخطر ببالي، ماذ لو كان هناك هيرسي آخر في غزة، يروي القصة الحقيقية لما يجري في المدينة، على لسان أبنائها ممن يعايشون الموت والدمار في كل لحظة، بينما تتابع وسائل الإعلام العالمية ما يجري من زاويتها، لتقول أن ما يحدث هو محاولة كسر والخلاص من “حماس” ومن قاموا بالاعتداء على المدنيين يوم السابع من أكتوبر، كما في الحالة الأميركية عن الاعتداء على “بيرل هاربر”، كمبرر للإبادة.
بالمقارنة مع ما كتبه هيرسي عن هيروشيما، سنجد أن لا قيمة حقيقية لكل الأرقام التي تتطاير على الشاشات وفي مواقع الإنترنت والتي غالباً ما يشكك العالم بها، ولا للصياغات الإخبارية المتعاطفة مع المدنيين في غزّة، ما لم تُرو الرواية بتفاصيلها على لسان الذين ما زالوا على قيد الحياة، من الناجين من المحرقة. عندما يأتي هيرسي ما، ويكتب أو يصور من غزة ستصل الحكاية الحقيقية للعالم.
على الأغلب أنه من المستحيل أن نخبر العالم عما يترسخ اليوم في أذهان الأطفال في غزّة وهم يعايشون كل دقيقة ما يجري حولهم، ما لم نسمع منهم حكايتهم بصبرٍ واهتمام. يختم هيرسي مقالته بنقل موضوع تعبير كتبه ابن بطلة قصته الأرملة ناكامورا وقدمه لمعلمه في المدرسة. بكلمات بسيطة ولكن تحفر في العمق صاغ توشي، وهو ابن عشر سنوات، ولخص قصته، وربما قصة مدينته من خلال سطور قليلة.
“في اليوم السابق للقنبلة، ذهبت للسباحة. في الصباح كنت آكل الفول السوداني. رأيت ضوءاً قوياً، وبعده وجدتني أطير إلى مكان نوم أختي الصغيرة. عندما تم إنقاذنا من تحت الأنقاض، لم أستطع الرؤية إلا لمسافة قليلة. بدأت أنا وأمي بحزم أمتعتنا. كان الجيران يتجولون محروقي الجلد وينزفون. طلبت مني هاتايا سان أن أهرب معها. قلت لها إنني أريد أن أنتظر أمي. ذهبنا إلى الحديقة، هناك جاءت زوبعة. في الليل احترق خزان غاز، ورأيت انعكاس الحريق في النهر. بقينا في الحديقة ليلة واحدة. في اليوم التالي ذهبت إلى جسر تايكو والتقيت بصديقتيَّ كيكوكي وموراكامي. كانتا تبحثان عن والدتيهما. لكن والدة كيكوكي أصيبت، ووالدة موراكامي ماتت للأسف”.
——————————-
ما بين 1973 وحرب غزة.. نقاط ضعف العلاقة التحالفية الأميركية – الإسرائيلية/ إياد الجعفري
2023.12.11
في أثناء إعداد هذا المقال، ظهيرة السبت، كان يمكن رصد أكثر من تقرير وتصريح في وسائل إعلام عربية وعالمية، يشير إلى العزلة الدبلوماسية التي أخذت تحيط بالولايات المتحدة الأميركية، والتي تتزايد يوماً تلو الآخر على الصعيد العالمي، وذلك من جراء الدعم الأميركي اللامحدود، علناً، لإسرائيل. وخاصةً، بعد استخدام واشنطن لحق النقض (الفيتو) ضد مشروع قرار يدعو إلى “وقف فوري لإطلاق النار لدواع إنسانية” في قطاع غزة.
ولو كُتب لوزير الخارجية الأميركي السابق، هنري كيسنجر، أن يحيا حتى الساعة، لكان استذكر موقفاً مشابهاً عاشته العلاقة التحالفية بين إسرائيل والولايات المتحدة، خلال حرب تشرين الأول/أكتوبر عام 1973، حينما تزايدت مخاوف كيسنجر، من أن تبقى الولايات المتحدة وحيدة مع إسرائيل ومعزولة في الأمم المتحدة. وصولاً إلى الخشية من خسارة العلاقة الوطيدة مع الحلفاء في أوروبا واليابان.
في تصويت الجمعة على قرار وقف إطلاق النار، مثال صارخ على تكرار هذه المشهدية في العلاقة الإسرائيلية الأميركية. فمن أصل 97 دولة انضمت إلى مشروع وقف إطلاق النار، وصوتت بشكل رمزي إلى جانب أعضاء مجلس الأمن الثلاثة عشر، الذين أيدوا وقفاً عاجلاً للحرب، كانت الولايات المتحدة الدولة الوحيدة التي رفضت المشروع، وأجهضته، باستخدام (الفيتو).
وتعكس الكلفة السياسية الباهظة التي تدفعها واشنطن دعماً لإسرائيل، نفوذ اللوبي اليهودي داخل دوائر صنع القرار والمؤسسات والنخبة الأميركية. لكن ذلك هو المكشوف من العلاقة التحالفية الوطيدة بين الطرفين. فالمخفي الذي سُرّب كثيرٌ عنه إعلامياً يؤشر إلى التناقضات ومشكلات الثقة التي تتفاقم في أزمات مماثلة، بصورة تجعل الدفاع عن مصالح إسرائيل داخل أروقة صنع القرار بواشنطن مهمة ليست بالهينة.
ويضيء هنري كيسنجر، في الجزء الثاني من مذكراته، على لمحات مباشرة وصريحة لهذه التناقضات في المصالح، ومشكلات الثقة في التواصل بين واشنطن وتل أبيب، في أحلك الظروف، خلال حرب 1973. ورغم الفروق الكبيرة بين تلك الحرب والحرب الإسرائيلية الجارية الآن ضد الفلسطينيين في غزة، إلا أن نقاط الضعف في العلاقة التحالفية بين واشنطن وتل أبيب بقيت ذاتها.
وفي حين تنظر واشنطن إلى دعم إسرائيل وضمان أمنها، بوصفه تعبيراً عن استمرارية نفوذها في المنطقة نظراً لكون إسرائيل أبرز حلفائها فيها، تتناقض مصالح الطرفين في كثيرٍ من القضايا. ويرجع هذا التناقض أساساً إلى ضيق أفق صانع القرار في تل أبيب، وانحساره ضمن هوامش ضيقة مرتبطة بالسياسة الداخلية المعقّدة. خاصة في أوقات الأزمات والصدمات، كما حدث بعيد عبور المصريين لقناة السويس في 6 تشرين الأول/أكتوبر 1973، وكما حدث بعيد عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023.
ويمر كيسنجر في مذكراته على أكثر من تناقض ميّز المصالح الأميركية – الإسرائيلية، بعيد اندلاع حرب 1973. من أبرزها خشية واشنطن من خسارة العلاقات الوطيدة التي أسستها مع دول عربية تصفها بـ”المعتدلة”، والخشية من عودة النفوذ السوفييتي إلى المنطقة بفعل الحرب. وهي تناقضات تكررت في الحرب الجارية، إذ تخشى واشنطن من أثر الحرب على علاقاتها مع حكومات وشعوب في المنطقة. ناهيك عن خشيتها من مكاسب سياسية يمكن أن يحصدها الروس والصينيون، من جراء ذلك. وكانت إسرائيل قد أظهرت ضيق أفق حيال مخاوف واشنطن تلك، عام 1973. وها هي تكرر ذلك، اليوم أيضاً.
وفي مثال مشروع قرار وقف إطلاق النار في مجلس الأمن الدولي الذي بذلت واشنطن من أجل عرقلته كلفة سياسية باهظة، يوم أمس الجمعة، يذكر هنري كيسنجر عام 1973، امتعاضه الشديد من اضطرار بلاده لدفع كلفة مماثلة، كُرمى لرغبة إسرائيل في استمرار الحرب حينما تمكنت من محاصرة الجيش المصري الثالث، غربي قناة السويس. وبعد استعراض الدعم الأميركي اللامحدود الذي ساعد إسرائيل على استيعاب صدمة عبور القناة، والهجمة العربية الأولى، لتعكس المشهد، وتتحول الحرب لصالحها، يقول كيسنجر في مذكراته: “أما الآن فلسنا على استعداد لتدمير علاقاتنا مع أوروبا واليابان ونتحمل خطر حظر بترولي، متجاوزين الأعراف الدولية، وغير عابئين بإرادة السوفييت، وإثارة آخر أصدقاء لنا من العرب، ونحن نؤجل إلى ما لا نهاية وقف إطلاق النار”.
يومئذ تعرضت إسرائيل لضغوط أميركية لتعجيل عملياتها العسكرية، ووقف إطلاق النار. واليوم، يُشاع إعلامياً، وعلى نطاق واسع، أن ضغوطاً مماثلة تتم ممارستها أميركياً على تل أبيب. ورغم نفي واشنطن الرسمي لما تم تداوله عن مهلة أميركية لإسرائيل حتى نهاية الشهر الجاري، فإن تجربة العام 1973، تؤشر إلى أن ما نقلته وسائل إعلام دولية بهذا الخصوص، على الأرجح، دقيق.
نقاط الضعف في العلاقة التحالفية بين واشنطن وتل أبيب لا تقف عند تناقضات المصالح، بل تمتد إلى مشكلات الثقة بين مسؤولي الطرفين. ويسهب كيسنجر في مذكراته، بالإشارة إلى مشكلات الثقة تلك. ومنها، تشكيكه في صحة ما كان يقوله له المسؤولون الإسرائيليون، وصولاً إلى اتهامه لـ غولدا مائير، رئيسة وزراء إسرائيل عام 1973، بأنها غشّته، باستخدام عبارات محددة خلال مراسلاتها مع المسؤولين الأميركيين. كذلك اتهم كيسنجر صنّاع القرار بإسرائيل، يومذاك، بالعناد وضيق الأفق في النظر للمستقبل، وبالمماطلة في الإجابة عن أسئلته واقتراحاته في منعطفات حرجة خلال أيام الحرب.
وفي حين لا يتوافر بين أيدينا، في الوقت الراهن، ما يكفي من دلائل على مشكلات ثقة مشابهة، تدور الآن، بين صنّاع القرار في إسرائيل ونظرائهم في واشنطن، إلا أن شروحات كيسنجر وتشخيصه لخلفيات هذه المشكلات، متمثلةً بخصائص السياسة الداخلية الإسرائيلية التي لم تتبدل منذ خمسين سنة، تجعلنا نظن أن المشهد ذاته، يتكرر الآن، كما كان عام 1973. وعلى الأرجح، فإن أنتوني بلينكن، اليهودي الأبوين، يواجه المعضلات ذاتها التي واجهها سلفه، كيسنجر الذي قال في مذكراته: إنه في الأيام الأخيرة من الحرب أمضى أوقاتاً طويلة في إقناع زملائه (داخل الإدارة الأميركية) بعدم التخلي عن إسرائيل علناً. قبل أن يشير بعبارة عميقة: “إسرائيل لا تُعاقب على أعمالها أبداً، بل على تعاليها وعزلتها”.
أما التشخيض الذي قدّمه كيسنجر لأسباب ضيق أفق صانع القرار الإسرائيلي، فيرجع بصورة أساسية إلى البيئة السياسية الداخلية المعقّدة، وإلى الاعتبارات الانتخابية، ومصالح الموظفين الكبار، وخشيتهم على مستقبلهم السياسي. إلى جانب اعتبارات سيكولوجية، يبدو أنها لصيقة بالشخصية الإسرائيلية. وفي هذا يقول كيسنجر عما حدث عام 1973: “إن الحكومة الإسرائيلية منهمكة جداً، بما لديها من اختلاجات سياسية داخلية تعاني منها، ولا تستطيع رؤية هذا الواقع، ولم تكن غايتها سوى الثأر، وإعادة سمعة عدم الانهزام التي أفقدتها إياها هذه الحرب”.
المشهدية آنفة التفصيل تتكرر اليوم بصورة تقترب من حد التطابق. فاعتبارات صنّاع القرار الإسرائيليين، الشخصية، من جراء مسؤوليتهم أمام “شعبهم” عن الفشل في منع حصول صدمة طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول 2023، إلى جانب رغبتهم في الثأر واستعادة الهيبة المهدورة، هي أسباب هذا الإيغال في دماء المدنيين الفلسطينيين. وهي اعتبارات لا تخدم أية أهداف استراتيجية حقيقية. وها هي الحرب تتقدم في شهرها الثالث، دون أن تتمكن إسرائيل من تحقيق أية أهداف، من تلك التي أعلنت عنها بداية الحرب.
لذلك فإن الشائعات عن مهلة وضغوط أميركية، تبدو حقيقية. وكما أن إسرائيل توقفت في نهاية حرب 1973، بضغط أميركي مباشر، وفق مذكرات كيسنجر، وبعد عناد مطوّل، فإنها ستتوقف الآن، بضغط أميركي أيضاً. وستبقى نقاط الضعف في العلاقة التحالفية بين الطرفين، مدخلاً مناسباً لأطراف ثالثة، للتأثير، إن أحسنت استعمال الوسائل المناسبة.
وكما كانت خاتمة حرب 1973 مفتاحاً لدبلوماسية أميركية نشطة لتحقيق سلامٍ يفرض على إسرائيل تنازلات نوعية مؤلمة عن أراضٍ محتلة في مصر، من المرجح أن تشهد خاتمة حرب 2023، سعياً أميركياً جدياً، لإعادة التفاوض حول حل الدولتين، مجدداً. وهو السيناريو الذي سيكون مؤلماً للغاية، إسرائيلياً.
——————————–
ماذا بعد غزة ودمشق والخرطوم وكرمان والضاحية؟/ سمير التقي*
– 7 كانون الثاني 2023 ( النهار العربي )
في العقد الأخير من القرن الماضي، وفي جلسة حوار إقليمي برعاية أوروبية، ناقش خبراء استراتيجيون ومؤرخون من إيران وتركيا وإسرائيل (بعدما أكّدوا انّهم مستقلون ولا يمثلون دولهم)، وتوافقوا في الرأي على “أنّ العرب غير جديرين ببناء الدول، وأنّهم يعيشون كقبائل، ولم يكونوا أمماً ولا شعوباً”. فلا يمكن ضبطهم إلاّ تحت سلطة دولة مركزية إقليمية راسخة أخرى. كان هناك عرب في الجلسة، وكنت أنا منهم. قدّمنا حججنا المضادة، لكن العبرة أنّ الجلسة كانت كاشفة لعقل “الشركاء الإقليميين”. بعدئذ، صار هاجسي تلمّس مخاطر هذا السيناريو على الإقليم.
إثر انهيار الإمبراطورية العثمانية، وتداعي اللاهوتية كمصدر لشرعية الدولة في الشرق الأوسط، جَهُدت المشاريع الشعبوية البديلة في ابتداع شرعيات ارتدادية، تطمح للرجوع نحو الامبراطوريات التليدة، العربية منها او الإسلامية أو الأممية البروليتارية، او الأممية السورية، وغيرها كثير… علها تعوّض غياب شرعيتها، بالعظمة الموعودة.
لكن أياً منها لم يضع في أولوياته تعزيز وحدة الدولة القائمة على قاعدة وطنية تعددية جامعة. بل حاولت الغوغاء خنق مشروع الدولة الوطنية بأسوار من العصبيات الانتقامية والرسالات الخالدة الهائجة. والآن وبعد ما يزيد عن قرن من انهيار الخلافة العثمانية، لا تزال الدولة الوطنية في الإقليم تواجه هذا الغوغاء الراديكالي المتفشي، الذي يدفع بعض دول الإقليم نحو الانحلال التام.
لكن، ما الذي يدفعني لمثل هذا الكلام النظري، الذي صار بديهياً ومكرّراً من دون شك؟.
يقول هنري كيسنجر: “أحد أكبر التحدّيات في السياسة الدولية، هو القدرة على التعرف على بذور الخطر الاستراتيجي، قبل أن تنبت إلى أزمات كاملة”.
نعم، إنني أزعم أنّ إقليمنا المتخبّط، يقترب من لحظة فاصلة تعجّ بمخاطر وجودية لن تستثني أحداً.
كان يمكن لربيع 2011 أن يتجاوز استعصاء شرعية الدولة الوطنية، لكن قوى القديم تضافرت في إجهاضه قسراً، وقتلاً واحتواءً وإفساداً. وما تلا هذا الربيع، لم يكن بيادر الصيف ولا كانت حصاداً مثمراً، بل كان إمعاناً في الغرق في مستنقع التفكّك.
بل انني أزعم أنّه حتى عوامل الضبط الخارجية قد انهارت، وأصبحنا على شفا لحظة تُنذر بتداعي مجمل النظام الإقليمي. فإثر نهاية الحرب الباردة ورغم انهيار اتفاقات يالطا، سمحت التوافقات الدولية والإقليمية في العقد الأول والثاني من هذا القرن، بنشوء وهم بالاستقرار النسبي في الإقليم.
لكن سرعان ما انقشع هذا الوهم. فبعد غزو أوكرانيا، انهارت توافقات تقسيم العمل في الشرق الأوسط بين روسيا وأميركا؛ ثم تلاها انهيار الثقة في عقود التواطؤ بين الولايات المتحدة وإسرائيل من جهة وبين إيران من جهة أخرى. فلقد تبين بطلان المراهنة على أمن واستقرار مديد في الإقليم بناءً على صفقات يعقدها في الظل رجال استخبارات هذه الدول. وهذه العملية التي انطلقت منذ “إيران غيت”، لم تعد تضمن لا تقسيم النفوذ ولا ضبط المخاطر. وبذلك انهار وانهار التفويض الموكل لروسيا ولإيران.
بانهيار التوافقات وانفلات ضوابط الصراع، تشتعل كل الجبهات، تحضيراً لخريطة جديدة. خريطة تعيد رسم الخنادق والتحالفات. وإذ تنهار منظومة العولمة، وتتداعى مقومات النظام الإقليمي، يتسابق اللاعبون الدوليون والإقليميون لحجز موقعهم على حواف هذا الثقب الأسود.
لنتأمل مشهد منطقتنا اليوم. من غزة إلى القدس وبغداد إلى صنعاء إلى الضاحية إلى دمشق والخرطوم وكرمان، يصعد الجنس ذاته من الغوغاء. فبثورة او من دون ثورة، بسلاح أو بغير سلاح، بصراعات داخلية أو بعدوان خارجي، بفعل قوى إقليمية او دولية، يدكّ هذا الرعاع أعمدة الدولة الوطنية تحت ضربات الراديكاليات العقائدية. بل يهدّد بشكل فادح باقي الدول التي تمكنت حتى الآن من تحصين نفسها من حمى العصبيات والراديكاليات.
إنّهم رعاع القرن الحادي والعشرين، سواءً تمثلوا بعصابات المستوطنين اليهود في الضفة الغربية، أو جحافل المشاريع الإسلاموية أو القومية المتناحرة. إنّهم يقتاتون جميعاً على جسد الدولة الوطنية، ليعيدوا إقليمنا “أقواماً وقبائل” كما سبق أن حصل في تاريخنا (وكما قال الخبراء الإقليميون)… لنمضي نياماً نحو عصور جديدة من الانحطاط، فلا دول، بل دويلات للميليشيات، ولا تاريخ بل فوضى، ولا ثقافة بل تقهقر نحو ابتذال وعامية أمراء حرب.
قد لا تتفلّت حرب شاملة في الإقليم، إذ لا شهية للكبار بما تبقّى منه. بل ينبئ النمط الدارج للصراع، بنزاعات محلية مزمنة، لا تقلّ خراباً ونخراً في عظم الشرق الأوسط. لا يسعى أي منها لتأسيس دولة مدنية بحق، بل ينادي كل منها بحصة من جيفة دول دمّروها بأيديهم. انّهم مجرد بيادق في فوضى الساحات، وفي الصراع المحموم على تقاسم ما تبقّى من الإقليم.
فمع كل قطرة دم تُسفك لا يتعزز الوعي بالدولة المدنية للأمة، بل يتعزز التعصّب والانتقام، ويسري العفن حتى نخاع ما تبقّى من سياسة. التحالفات وقتية وطارئة، والخطط غرائزية وثورية طفولية. والكل ضدّ الكل. فلا هي مؤامرة ولا قومة غضب ولا رسالة خالدة ولا امبراطورية دينية ولا من يحزنون.
من شيم التاريخ أنّه كلما كان التحوّل أعمق، كان المخاض وحشياً ومضنياً! فبعد إجهاض الثورة الفرنسية، بقيت أوروبا تغلي وظلت الثورات تذبح، إلى ان استتبت شرعية الدولة الامّة، لا على وعود هتلر وموسوليني الإجرامية، ولا أوهام الإمبراطورية الدموية للشيوعية السوفياتية، بل استتبت الدولة الأمة التمثيلية بتوافق المكونات وتصالح الهويات، لتبدأ طريقها الوعرة نحو الديموقراطية.
في طريقها نحو تأسيس شرعية الدولة الوطنية، تتخذ دول شرقنا الأوسطي ذات المسار العسير. ستبقى تغلي وتفور في موجات متتالية من الاحتجاج المسيّس. ولن ينجو منها الاّ تلك الدول التي ستستبق سرطان الراديكاليات، بتعزيز تنوعها وسلمها الأهلي، لعلّها تتجنّب السقوط في هذا الثقب الأسود.
وحين تستعصي ظاهرة على القمع، وتستمر في قرع باب التاريخ، فلأنّ وراءَها قوى لا تُرد! فإما أن تفلح المنطقة في الخروج من مأزق الراديكاليات، لتؤسس وطنها التعددي الجامع، أو أنّ ثمة سيناريو آخر!.
انّه السيناريو الذي لخّصه الخبراء من “شركائنا الإقليميين”. فطغيان الميليشيات العقائدية، وتهديدها الوجودي لمشروع الدولة، بلغ حداً يهدّد مجرد وجود الدولة الوطنية، ليضعنا من جديد تحت وصاية هؤلاء الشركاء الإقليميين.
ولنا أن نختار!
*كاتب وباحث سوري.
———————–
=====================