أربع محددات لإحياء الحل الوطني في سوريا/ العقيد عبد الجبار عكيدي
2023.12.10
انطلقت شرارة الثورة السورية في آذار 2011 كتعبير جمعي سوري عن رفض واقع الاستبداد والحكم القسري القائم على العنف والتفرّد في السلطة من جانب منظومة حكم أحادي لا ترى في حيازة السلطة سوى امتياز للحاكم وحاشيته. وقد جاءت انتفاضة الشعب السوري متماهيةً مع ثورات الربيع العربي التي جسّدت تحوّلا تاريخياً في حياة شعوب المنطقة، وإذا كان من الصحيح أن مجمل الدوافع الكامنة وراء ثورات الربيع العربي تكاد تكون متماثلة من الناحية السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فإن ما هو صحيح أيضاً أن الثورة السورية كان لها خصوصيتها التي جعلت مسارها مختلفاً عما هو عليه الحال في تونس ومصر على سبيل المثال، ومن هنا يمكن التأكيد على أن مسار الثورة في سوريا كان شديد التعقيد، بفعل عدة عوامل، أهمها مرتبط بتكوين السلطة وماهيتها.
ولعله من الضروري في هذا السياق التأكيد دوماً على أن الحقبة الأسدية من عمر الدولة السورية (منذ عام 1970 وحتى الوقت الراهن) قد اختزلت مفهوم الدولة بشخص الحاكم، وأسست لنشوء بنية أمنية صلبة تتكون من أجهزة المخابرات والجيش من خلال ربطها جميعاً بشبكة الولاء الطائفي الذي يتأسس عليه ما هو أمني وسياسي لاحقاً، وهكذا وجد الشعب السوري نفسه في مواجهة استبداد مُركَّب (طائفي سياسي)، وبحوزته كامل مقدرات الدولة التي جعلتها السلطة في خدمة السطوة الأمنية وحماية نظام الحكم بالدرجة الأولى.
لقد انقضت اثنتا عشرة سنة من عمر الثورة حافلة بصراع دموي عنيف أتاح التدخّل لأطراف إقليمية ودولية عديدة، وكان نتيجة هذا التدخل التقسيم الذي تشهده الجغرافية السورية ممثلا بسلطات أمر واقع أربع، ولم تكن جميعها تلبي تطلعات السوريين أو تمثل مشروعهم الذي ضحوا من أجله، الأمر الذي جعل الواقع المعيشي السوري على العموم شديد البؤس، يعاني فيه المواطن شتى أشكال الهوان والفاقة.
جميع الحلول المقترحة ذات المرجعية الأممية بقيت حبراً على ورق، بسبب تعنّت نظام الأسد وعدم امتثاله لأي حل أممي وإصراره على الحلول الأمنية
صدر قرار جنيف1، وهو أول قرار أممي يقرّ بحل سياسي للقضية السوري ويمنح السوريين حرية التغيير من خلال هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات، تليها كتابة دستور جديد لسوريا ثم انتخابات تحت إشراف أممي، ثم تتالت القرارات الأممية التي تؤكّد على مرجعية جنيف، واهم تلك القرارات 2118 لعام 2013، و2254 لعام 2015. ولكن جميع الحلول المقترحة ذات المرجعية الأممية بقيت حبراً على ورق، بسبب تعنّت نظام الأسد وعدم امتثاله لأي حل أممي وإصراره على الحلول الأمنية، وقد ساعده على تعنّته بل زاده صلفاً هو الموقف الروسي الداعم لنظام الأسد في مجلس الأمن والذي كان يعمل بإصرار على تعطيل أي قرار أممي ينحو باتجاه إرغام نظام الأسد للامتثال للإرادة الدولية.
لم تكن المقاربات الدولية لحل سياسي في سوريا بعيدة عما يجري، ففي موازاة المراوغة التي يبديها نظام الأسد حيال المسارات السياسية الأممية، سعى الروس إلى تغيير موازين القوى على الأرض من خلال تدخلهم العسكري المباشر الداعم لنظام دمشق، وقد انعكس تغيير موازين القوى على الواقع الميداني على المسارات التفاوضية، إذ استطاعت روسيا الالتفاف على قرار جنيف وكذلك على القرار 2254، من خلال إفراغهما من محتواهما الجوهري، واختزال القضية السورية بتشكيل لجنة دستورية ما تزال معدومة الأثر والمُنتج حتى الوقت الراهن.
لا شك بأن المآلات الراهنة للقضية السورية تؤكّد على أن جذر المشكلة السورية يتجسّد بوجود نظام الأسد على رأس السلطة، فضلاً عن كون حاكم دمشق هو من قام بقتل أكثر من مليون سوري، كما تسبب بهجرة ونزوح نصف الشعب السوري، وها هو الآن يحاول الإجهاز على ما تبقى من السوريين من خلال سياسة التجويع والإمعان في الفساد موازاة مع استمرار آلة البطش والقمع على رؤوس السوريين.
إن استمرار الحالة المأسوية – سياسياً واقتصاديا ومعيشياً – على عموم السوريين لا بدّ أن يؤدي إلى بركان سينفجر عاجلاً أم آجلاً، ولعل المظاهرات التي تشهدها مدينتا السويداء ودرعا وعموم المدن والبلدات السورية ما هي إلا علائم تنذر باقتراب الانفجار الكبير.
في ضوء الواقع الذي يشهد مزيدا من الانقسامات في المواقف الدولية تجاه القضية السورية، نتيجة تضارب المصالح، وكذلك في ضوء فشل المسارات السياسية في الوصول إلى حل عادل للقضية السورية، إضافة إلى استمرار قوات نظام الأسد – مدعومة من روسيا وإيران – في اضطهاد السوريين والإمعان في ترويعهم، فإننا نرى أن أي مقاربة جدّية للقضية السورية لا بدّ أن تتضمّن النقاط التالية:
أولاً – إعادة النظر في الكيانات الرسمية للمعارضة السورية – السياسية والعسكرية – والبدء بتشكيل أطر قيادية جديدة للثورة تنبثق من إرادة السوريين وتجسّد تطلعاتهم وتعبر عن إرادتهم وليست مفروضة عليهم من الخارج، وهذه العملية توجب مؤتمراً أو لقاءً وطنيا واسعاً يجمع العديد من القوى والفعاليات والشخصيات السورية، للتدارس والتباحث في إنتاج قيادة سورية انطلاقاً من المصلحة الوطنية وبعيداً عن أي إملاء خارجي.
إعادة النظر في جميع المسارات السياسية السابقة، بهدف تصحيحها من خلال التمسّك بجوهر العملية السياسية، ونعني (هيئة الحكم الانتقالي) التي هي بمنزلة المفتاح الفعلي لأي عملية سياسية
ثانياً – إعادة النظر في جميع أشكال الأطر العسكرية والمدنية في المناطق المحررة وإعادة حوكمتها وفقاً لمعايير مهنية وعلمية وبإشراف نخبة من الخبراء – عسكريين ومدنيين وأصحاب كفاءات علمية وسياسية – بهدف الوصول إلى نموذج في الحكم يتماهى مع ما تطرحه ثورة السوريين من قيم الحرية والكرامة والعدالة.
ثالثا – إعادة النظر في جميع المسارات السياسية السابقة، بهدف تصحيحها من خلال التمسّك بجوهر العملية السياسية، ونعني (هيئة الحكم الانتقالي) التي هي بمنزلة المفتاح الفعلي لأي عملية سياسية، أضف إلى ذلك التمسّك بتنفيذ البنود الإنسانية التي تضمنها القرار 2254، والتي لا تخضع للتفاوض ومن المفترض أن تكون ملزمة التنفيذ، ونعني بها (11 – 12 – 13 – 14) والتي تؤكد على الإفراج عن المعتقلين والمغيبين قسرياً وفك الحصار عن جميع المدن والبلدات وإيصال المساعدات إلى مستحقيها.
رابعا – العمل بكل الوسائل والإمكانيات لدعم الحراك السلمي للسوريين في الداخل السوري، وحشد جميع أشكال التأييد والمساعدة لأي حراك وطني في الداخل السوري يسعى للتحرر من نظام الإبادة الأسدي.
إن التزام السوريين بجميع القرارات الأممية وتأييد القوى الوطنية السورية للحلول السلمية حفاظاً على الدم السوري، ورغبةً في إعطاء الأولوية دائما لما هو أكثر أمناً وسلاماً للسوريين، إن هذا النزوع، لا يغيّر من قناعة السوريين بالعقم الضارب في بنية نظام الأسد واستعصائه عن الاستجابة لأي عملية سلمية، وأمام إصراره على نهج القتل والاستئصال، كان لا بدّ على السوريين أن يناضلوا على أكثر من مسار، وبالقوة والإصرار ذاته، بدءّا من الحراك الشعبي ومروراً بكل أشكال المقاومة، ووصولاً إلى المواجهات الحقوقية أمام المحاكم الدولية وكذلك التفاوض عبر الإشراف الأممي.