«سيريافوبيا»: هل ستتغيّر دلالة «النزوح» في القاموس العربي؟/ محمد سامي الكيال
8 – فبراير – 2024
ظهرت مفردة SyriaPhobia في الفترة الأخيرة، ضمن التداول اللغوي في عدد من الدول الأوروبية، وصارت لها صفحة بالإنكليزية على «أوربن ديكشنري» Urban Dictionary، وهو قاموس افتراضي مفتوح للألفاظ المتداولة في الفضاء الثقافي الحضري المعاصر، حتى لو لم تدخل بعد في القاموس الرسمي، ويكتسب طابعاً إشكالياً كبيراً، لمحاولته تدوين اللغة، بشكل أكثر مرونة وحركية مما تتيحه الأطر المؤسساتية القائمة، التي يتضمّن فعلها بالضرورة نوعاً من المستبقات المعرفية والقيميّة، وبالتالي مرتبط بأيديولوجيا رسمية، تحدد اللفظ الصحيح والمقبول.
معنى المفردة، كما أوردها القاموس، في آخر تحديث لها عام 2019، نوع من القلق الجماعي، الذي طوّره جيل الألفية في سوريا، من قضاء بقية عمره داخل البلد؛ وكوابيس مزعجة ومخيفة، يراها من خرجوا منه، تتعلّق بعودتهم إلى الأراضي السورية. ومن الواضح أن هذا المعنى صيغ ببراعة من قبل محرر، أو مستخدم سوري لموقع القاموس، بهدف شرح حالة شعورية عامة بين أبناء بلده لـ«الآخر» أو «العالم» ما يجعل المفردة قابلة للدخول في القواميس الرسمية الأوروبية، لأنها تساعد على وصف ظواهر في مجالات متعددة، مثل السياسة والهجرة والاندماج والعلاج النفسي، إلا أن اللافت عدم وجود أي محاولة باللغة العربية لصياغة مفردة، بدلالة معجمية مختزلة ومنضبطة، للتعامل مع تلك الحالة، التي تمسّ تجربة مشتركة بين كثير من السوريين، وغيرهم من الناطقين بالعربية.
وبغض النظر عن أي انتقاد ممكن لصياغة المفردة، خاصة استخدام لاحقة «فوبيا» (هل الخوف من البقاء في سوريا، أو العودة إليها، رُهاب، أي رعب غير مبرر؟) فهي تحاول تحديد ظاهرة متعلّقة بالحركة، بمعناها المادي والنفسي أساساً، أي الهجرة والانتقال والعودة، بالارتباط برفض أو نفور من المكان الأصلي، الذي خرج منه البشر، ما يجعلها مختلفة نوعياً عن مفردات أخرى، سادت في التداول العربي، مثل «غربة» أو «منفى» التي ارتبطت دائماً بنوع من محاولة «استعادة» المكان، سواء بشكل مادي أو رمزي. لا أحد في «السيريافوبيا» يريد الاستعادة، وتبدو المشكلة أكبر من مجرّد خوف من طرف معيّن أو ممارسات محددة، وإنما اضطراب عميق تجاه فضاء سياسي وثقافي كامل.
توسيع دلالة المفردة بهذا الشكل، قد يجعلها تتجاوز الحالة السورية، وقابلة للتعميم على تجربة أفراد وجماعات متعددة في دول كثيرة في المنطقة. فما ذاك الفضاء الذي يشعرنا بكل ذلك الرعب، وبضرورة «الخروج» الدائم منه؟ وهل «السيريافوبيا» مجرّد اضطراب نفسي، مُعطّل للحيويّة والتفكير العقلاني؟
اللاجئ والبدوي
استخدم القاموس السياسي العربي المعاصر بوفرة أوصاف «النازحين» و«اللاجئين» و«المُهجّرين» للتعبير عن موجات الفرار الجماعي، التي عرفتها المنطقة، نتيجة الحروب والاحتلال والصراعات العرقية والطائفية، وهو استخدام لا يمكن وصفه بالمحايد، لأنه يقوم على تثبيت هوية رسمية، ذات أبعاد قانونية وسياسية، تُغرّب الكتل البشرية الفارّة عن مستقرّها الجديد، وتُعيد ربطها بمكانها «الأصلي» بما ينتج عن ذلك من تشريعات ووثائق وأشكال من التنظيم البيروقراطي. يصبح النزوح هنا تعريفاً للذاتية الجماعية للبشر؛ أما الموطن الأصلي فأقرب لفردوس مفقود، تُرسم معالمه بكل ثقل الأيديولوجيا الرسمية.
ومع أنه لا مفرّ قانونياً من منح هوية وتعريف خاص للفارّين، إلا أن البناء السياسي والثقافي، القائم عليهما، واستحالة «التوطين» والتجنيس في أغلب الدول العربية، قيّدت دائماً حيوية الكتل البشرية المتحرّكة، ومكّنت من استغلالها سياسياً وأيديولوجياً بسهولة. في حالة اللاجئين الفلسطينيين مثلاً، وجد البشر الفارّون أنفسهم أمام خيارين: إما أن يتحوّلوا لـ»فدائيين» أو يبقوا «مجرّد» لاجئين. وقد اختار كثير منهم الخيار الأول، ما حوّلهم إلى رمز عربي، ومنحهم كثيراً من الكرامة، التي يخسرها المرء عادةً نتيجة النزوح؛ إلا أنه، في الوقت نفسه، جعلهم ميداناً تتقاطع فيه كل السلطات والأيديولوجيات ومحاولات الاستغلال العربية.
في أيامنا بات تثبيت دلالة التحرّكات الجماعية، وإنشاء جماعات بشرية، وفق الهوى السياسي والأيديولوجي للدول المُستقبِلة للفارّين، شديد الصعوبة؛ واضمحلّت إمكانيته في الحالة العربية بالتحديد، مع اضمحلال منظومة دول ما بعد الاستقلال والتحرر الوطني. قدّمت الحالة السورية نموذجاً مستجداً للتحرّك الجماعي، برز بشدة على الصعيد العالمي في العقد الماضي، وهو «تسرّب» البشر، بشكل يبدو منظّماً ولا مركزياً في الوقت نفسه، وبتقنيات وأساليب غير مألوفة، إلى أمكنة متعددة، منتجين بذلك تركيبات جديدة، حيوية وثقافية وسياسية واجتماعية. حاولت دول عديدة بالتأكيد استغلال هذا التدفّق الحيوي للبشر، والاستفادة منه، وإنتاج هوياته، إلا أن موجات النزوح الجماعي لم تكن مجرّد طرف سلبي أو مفعول به، وإنما استطاعت «التلاعب» بالتحديدات والحدود، والنمو بشكل غير مقولب، أو مُتحكّم به بشكل كامل.
يبدو هذا النمط من الانتقال الجماعي أقرب للبداوة منه إلى التهجير القسري، إذ يتعامل البدوي مع الأرض والفضاءات والسياقات الاجتماعية والثقافية، بشكل أكثر مرونة من المستقر والحضري، وهو لا يحمل معه ثقافة ثابتة، بقدر ما يبني تركيبات مبتكرة مع العلامات الثقافية التي يصادفها في ترحاله، أي أنه لا يمتلك مخططاً جاهزاً، بقدر ما يُبدي أشكالاً جديدة من التأقلم، تبدو منبتّة عن سياقاتها وأصولها؛ من الممكن أن «يبكي على الأطلال» إلا أن إعادة إعمارها لا تشغله كثيراً، والأهم أنه ليس محدوداً بخيار اللاجئ، المضطر للحفاظ على هوية محددة؛ أو الفدائي، الذي عليه أن يبذل جهداً عنيفاً للعودة إلى الأصل.
ليس هذا النوع من البداوة حكراً على الحالة السورية، بل بات سمة لكثير من حركات انتقال الجماعات البشرية المعاصرة، ويمكن رصد نظائر له بين كثير من الشعوب العربية، التي بدأت تتحرّك هرباً من فضاءات استقرارها، بعد أن ضربها «الجفاف» بكل معانيه. يمكن لمفردة «سيريافوبيا» أن تشير بشكل أوضح إلى عقلية كل أولئك البدو: ليسوا مجرّد هاربين مغلوبين على أمرهم، بل متمردين، ربما بشكل غير واعٍ، على العالم السياسي والأيديولوجي الذي أنتجهم، والذي لا يستطيعون التحكّم في رعبهم منه، حتى لو ظلوا خاضعين لأحكامه، ومرددين لعباراته.
التفكير بالهلوسة
لا يبدو من المستغرب على الإطلاق أن تثير الفضاءات العربية المعاصرة كثيراً من الرعب. نتحدث عن دول تعاني من إفقار شامل، وانهيار لكل سياسة اجتماعية، إضافة لديكتاتورية سياسية ضارية، وحروب أو بوادر حروب أهلية. وعلى البشر أن يبقوا ملتزمين بهويات صائبة من منظور الأيديولوجيا السائدة، وأن يحترموا الرموز الدينية والوطنية، والأداء الجندري والجنساني السليم، وكذلك الصمود في وجه العدو الأجنبي، في مجتمعات لا تحقق أدنى إشباع للحاجات الأساسية، وقد يٌقتل أو يُضطهد أفرادها على الهوية، وتواجه نساؤها انتهاكا شاملاً ومقونناً، في الحيزين العام والخاص. كل هذا التشتت بين الهوية، والحيوية المنتهكة، والألم الحياتي غير المحتمل، يؤدي لاضطرابات شديدة، قد تنتج أنماطاً غير مألوفة من الهلاوس.
يصعب على الأفراد بالتأكيد صياغة أفكار وقيم وطروحات نقيضة لما ألفوه في بلدانهم، كما لا يستطيعون تفكيك وتجاوز «الحس السليم» المبني أيديولوجياً في عمق ذاتياتهم، ولذلك فقد يتحمّسون لظواهر وأحداث، تكرّس اضطهادهم؛ ويكررون ما يظنون أنه الصواب الأوحد، إلا أن ذلك التكرار ليس مجرد استنساخ شفّاف لمقولات عالمهم، بل يتخلله كثير من «الانحرافات» ويمكن قراءة استيهامات غير معيارية بين سطوره، ولهذا فربما يجب الإصغاء جيداً لهلوسة أبناء منطقتنا في هذه الآونة، إذ يمكن أن يساعد فهمها وتحليلها على تبصّر خطوط ممكنة للانفلات من الشرط المرعب.
ضد التوطين
كان الاهتمام بـ«علم البداوة» Nomadology، بوصفه مصطلحاً فلسفياً، صيحة في الفكر الغربي قبل عقود قليلة، بتأثير من فلسفة جيل دولوز وفيلكس غوتاري، وربما باتت إعادة التفكير بالمصطلح، وتوسيعه، ضرورة ملحة اليوم. رأى كثير من المفكرين، المرتبطين بالتقليد الدولوزي، أن «نزع توطين» البشر، وتحويلهم إلى بدو، بالمعنى الفلسفي، من خصائص الرأسمالية المعاصرة، التي تُسيّل كل بنية وثقافة ومكان مستقر، وترغم البشر على الترحال و«المرونة». يتبع ذلك عملية «إعادة توطين» وإنتاج ذاتية جديدة للمترحّلين، عبر علامات جديدة، مثل الفردانية، واستهلاك الرموز الثقافية والهوياتية المُسلّعة.
في حالة «السيريافوبيا» المعمّمة عربياً، يمكن رصد مبادرات عديدة لإعادة التوطين، عبر سلسلة من المؤسسات الثقافية، والمنظمات غير الحكومية، التي تدفع عديداً من الفارين والمترحّلين إلى تقديم خطاب عن الذات، يتناسب مع التصنيفات والتحديدات المقبولة، لدى الجهات المموّلة لتلك المؤسسات والمنظمات، إلا أن هذا الخطاب يبقى سطحياً، وغير مقنع، ربما حتى بالنسبة لمردديه، ولا يستطيع أن يحدد ويقيّد، بشكل شامل، الحركية المادية والثقافية للكتل البشرية الفارّة، ولذلك فإن الهلوسة العربية ستبقى طاغية، وهي ليست حلاً بالتأكيد، بل هي معطى تدميري وتأسيسي في الوقت نفسه، ومنطلق لتكوّن ظواهر جديدة، لا يمكن تحديدها وتقييمها حالياً. وربما كان التصالح مع حضور هذا المعطى، والعمل ضمنه، أفضل ما يمكن فعله.
كاتب سوري
القدس العربي