باتريك موديانو: الكاتب في عزلته الأثيرة
ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي
غالبًا ما نلمس في المشهد الثقافي الغربي وجود عناصر صراعيّة ثقافيّة – خفية أو معلنة – بين الفضاءين الأنكلوسكسوني والفرانكوفوني، وفي الوقت ذاته تخفت حدّة هذا الصراع الثقافيّ على نحو ملحوظ متى ما دخلنا عتبة الفضاء الجرماني (الألماني)، ثم تتلاشى تقريبًا في الفضاءات الأميركيّة اللاتينيّة والأفريقيّة والآسيويّة الّتي لا ترزح – في معظم البلدان المنضوية إلى هذه الفضاءات – تحت عبء تاريخها الكولونيالي وحاضرها التكنولوجيّ الّذي يفرض عليها سياقات ثقافيّة صراعيّة- مع ملاحظة خصوصيّة التجربتين اليابانية والصينيّة. واستنادًا إلى هذه الرؤية يمكننا أن نقيس مدى احتفاء الصحافة الفرانكوفونية بفرسان الأدب الفرنسي بخاصة، وإشادتها بهم حتى لتكاد تنصب أحدهم بطلًا قوميًا- كما حصل لدى فوز الروائي باتريك موديانو قبل سنوات بنوبل الأدب، بعد أن نأت عنه الصحافة ذاتها زمنًا طويلًا، فقد عُرف عن موديانو سلوكه المتحفّظ وخجله البيّن وانزواؤه عن الأضواء وابتعاده عن إظهار أيّة نزعات وطنيّة فرانكوفونيّة ضيّقة وميله إلى حياة الهدوء والعزلة والتناغم مع عالمه الداخليّ وهو ما توحي به أعماله التي تتمحور على موضوعات: الذاكرة والنسيان والهويّة والشعور بالذنب، كما تعدّ مدينة باريس أحد العناصر القصصيّة البارزة في أعماله، حدّ أن رأى فيها النقّاد شريكًا إبداعيًّا حاضرا في أعمال موديانو الّتي تتأسّس في مجملها على قاعدة سيريّة ذاتيّة واضحة.
فيما يلي ترجمة لموضوع عن الروائي باتريك موديانو نشر في موقع: (The Local: France’s News in English*) الإلكترونيّ تحت عنوان (عشرة أشياء ينبغي أن تعرفها عن موديانو)، ويمكننا ملاحظة أنّ المعلومات الواردة في النص المترجم تُلقي أضواءً كاشفة على جوانب محددة من شخصيّة موديانو وعالمه الأدبي وبخاصّة أن قلة من القراء كانوا سمعوا به قبل فوزه بالجائزة العالمية بسبب ندرة ترجماته إلى العربية واللغات العالمية الأخرى. [المترجمة]
مُنِحت جائزة نوبل في الآداب لعام 2014 إلى الكاتب الفرنسيّ باتريك موديانو، وكان مُتوقّعًا أن يكون التساؤل الأوّل الّذي راود الكثيرين في شتّى أصقاع الأرض: “من عساهُ يكون باتريك مونديانو هذا؟!!”. دعونا نذكّر هنا بعشرة أمورٍ ينبغي معرفتها حول هذا الكاتب الّذي انضمّ إلى قافلة الروائيين النوبليّين في 2014:
1. شخصيّة محتفى بها في فرنسا:
قد لا يكون موديانو معروفًا على نطاقٍ واسع في العالم الناطق بالإنكليزيّة؛ لكنّه ذائع الصيت في فرنسا حيث يعتبر أحد أكثر الكتّاب المحتفى بهم هناك. كانت لحظة تتويج موديانو الأولى- الّتي مهدت له السبيل بإتّجاه نوبل لاحقًا- لدى حصوله عام 1978 على جائزة الغونكور الأدبيّة المرموقة عن عمله المسمّى (شخص مفقود Missing Person)، كما فاز بجائزة الأدب الوطنيّ الكبرى عام 1996، وبالجائزة الكبرى للأكاديميّة الفرنسيّة عن روايته (طُرُقاتٌ دائريّة Ring Roads).
2. الاحتلال النازيّ هو المُحفّز الأساس لأعماله:
موديانو، والمولود مع خاتمة الحرب العالميّة الثانية عام 1945، لا ينفكّ عن تأكيد القول أنّ الاحتلال النازيّ لبلاده كان “التربة الّتي نشأ فيها وتغّذّى على عناصرها”، وفي معرض تقريظها لأعماله الّتي مُنِحَ عنها جائزة نوبل قالت الأكاديميّة السويديّة إنّها “أرادت أن تحتفي بفنّ الذاكرة الّذي يميّز أعمال موديانو ويدفعه لإقتناص حيوات أناسٍ عاديّين وتدوينها في حقبة الاحتلال النازيّ الذي دام منذ 1940 حتّى 1944”. إنّ إحياء موديانو للعوالم الباريسيّة خلال الحرب العالميّة الثانية – أثناء حقبة الاحتلال النازيّ- وانغماسه الرقيق في أصغر التفاصيل وأكثرها دقّة: أسماء على قصاصات ورق، كافيهات، محطّات المترو والحوادث الحقيقيّة بكلّ تفاصيلها الصغيرة… كلّ هذا منحه الأهليّة الكاملة للفوز بلقب (المُنقّب الأمهر في الحفريّات الأدبيّة).
3. ليس روائيًّا فحسب:
يحتفظ موديانو في جعبته بالكثير من المواهب والإمكانيّات، وليست صفته الروائيّة سوى إحداها فحسب. أسهم موديانو في كتابة سيناريو الفيلم السينمائيّ (Lacombe Lucien) الذي أخرجه المخرج الفرنسيّ لوي مال Louis Malle عام 1974 مستندًا إلى تجاربه الشخصيّة، ويحكي الفيلم عن تعاون بعض الفرنسيّين مع قوّات الاحتلال النازيّ. كتب موديانو أيضًا العديد من الكتب في أدب الأطفال كما ذكّرتنا صحيفة الغارديان البريطانيّة أنّ قواعد بيانات الأفلام العالميّة تخبرنا بأنّ موديانو ليس كاتب سيناريو سينمائيّ وتلفزيونيّ فحسب بل هو ممثّلٌ أيضًا!!؛ فقد ظهر مع النجمة الفرنسيّة كاترين دونوف عام 1997 في فلم المخرج راؤول رويز (جينيالوجيات جريمة Genealogies of a Crime) ولعب فيه دور شخصيّة تدعى (بوب Bob).
“أعمال موديانو جميعها واقعة في قعر فخّ نشأته الباردة غير السعيدة والتي تفتقد البهجة بشكل مأساويّ – كما يعبر هو عنها-، ومن هنا ينشأ الاعتقاد بأنّ أعماله هي بمثابة رسالة عتاب طويلة موجهة إلى والديه!!”
4. مصطلح فرنسيّ صار ينسَبُ إليه:
لطالما صرّح موديانو بافتتانه وولعه بكلّ ما هو غامض، وكتب يقول في كتاب سيرته الذاتية (شجرة العائلة Pedigree) عام 2005: “كلّما صارت الأشياء أكثر غرابةً وغموضًا، باتت أكثر قدرة على إمتاعي إلى الحدّ الّذي أحاول فيه إضفاء سمةٍ من الغموض على كلّ ما لا يمتلك شيئًا منه”، وصار من المتعارف عليه اليوم أنّ مصطلح (موديانوي Modianesque) بات مفردة فرنسيّة خالصةً تشير إلى كلّ موقفٍ أو شخصيّة تتّسم بقدر من الغموض والغرابة.
5. شخصيّة خجولة لا تحبّ الأضواء:
يُعرفُ عن موديانو الّذي يقيم في باريس الصاخبة تهرّبهُ من الإعلام، وقلّما يمكننا العثور على حوارات صحافيّة له. كتب أحد محرّري (فرنسا اليوم France Today) بعد أن حصل والتقى موديانو: “لن تلتقي بشخصٍ مثل موديانو في واحدة من حفلات الكوكتيل الباريسيّة التي يعشقها محرّرو الصحف، أو في البرامج الحواريّة العامّة. حوارات موديانو قليلة للغاية ولكنّ كلماته ثمينة إلى أبعد الحدود”. وصف أحد النقّاد موديانو مرّة بأنّه شخصيّة مجبولة من خجلٍ وصراحة!!.
6. خلفيّة عائليّة معقّدة:
وُلِد موديانو في 30 تموز/ يوليو 1945 مع إسدال الستارة الختاميّة على مشاهد الحرب العالميّة الثانية، ونشأ في إحدى الضواحي الباريسيّة في كنف عائلة كان لخلفيّتها الإشكاليّة المعقّدة أثرٌ بالغ في هوس موديانو طيلة حياته بذلك الجانب المظلم من تاريخ عائلته: كان والده، ألبرتو موديانو، يهوديًّا إيطاليًّا لديه صِلات مع الغستابو النازيّ؛ لذا لم يتوجّب عليه وضع النجمة الصفراء الّتي كانت تميّز اليهود عن غيرهم، وفي الوقت ذاته كانت للاب صلاتٌ مع عصابات الجريمة المنظّمة!!. بينما كانت والدته لويزا كولبين ممثلة فلمنكية معروفة.
7. نشأة غير سعيدة:
أعمال موديانو جميعها واقعة في قعر فخّ نشأته الباردة غير السعيدة والتي تفتقد البهجة بشكل مأساويّ – كما يعبر هو عنها -، ومن هنا ينشأ الاعتقاد بأنّ أعماله هي بمثابة رسالة عتاب طويلة موجهة إلى والديه!! وصف الكاتب فيها والدته بأنّها كانت باردة القلب حدّ أنّ كلبها من نوع تشو – تشو قفز من النافذة بقصد الإنتحار!!. قضى موديانو وقتاّ طويلًا من طفولته في المدارس الداخليّة وهو الإبن الأكبر للعائلة فقد توفي شقيقه (رودي Rudy) عام 1957 عندما كان موديانو لا يزال صبيا صغيرا، وعندما بلغ السابعة عشرة قطع كلّ صلاته مع والده الذي توفّي بعد ذلك بخمسة عشر عامًا، وقد خصّص موديانو العديد من كتبه لاحقًا للحديث عن والده.
8. ليس من المتحمّسين كثيرًا للكتابة:
في واحدةٍ من حواراته القليلة في لوفيغارو الباريسيّة صرّح موديانو “إنّ الكتابة عبءٌ أكثر من كونها متعةٌ بالنسبة إليّ”، ثمّ أضاف “لوقتٍ طويل كان لديّ حلمٌ يراودني على الدوام: أن أرى نفسي يومًا غير مضطرّ للكتابة وأن أكون حرًّا. أنا لستُ حرًّا اليوم ولا زلت أؤدّي عملًا أظنّ انّني لن أرى له نهاية في يوم ما”، ثمّ مضى واصفًا متاعبه عندما بدأ الكتابة للمرّة الأولى في حياته “عندما أعود اليوم لمعاينة مخطوطاتي القديمة التي كتبتها أوّل عهدي بالكتابة أصعقُ لرؤية ما تضمّه تلك المخطوطات من فقر وإيحاء بضيق النفس وهو بالضبط ما كنت أُعانيه آنذاك: كنتُ أختنق” ؛ لكنّ موديانو مضى بعزم وثبات في حرفته الكتابيّة وكوفئ على عزيمته. يقارن موديانو الكتابة مع قيادة السيارة في الضباب “حيث لا تدري أين أنت ذاهبٌ و كلّ ما تعرفه هو أنّ عليك أن تمضي و حسب”.
9. نشر أعماله منذ أن كان في الثانية والعشرين:
نشر موديانو حوالي ثلاثين عملًا هي في أغلبها روايات قصيرة، وسبق له نشر أوّل أعماله عندما كان في الثانية والعشرين في وقتٍ كان فيه نظراؤه يجاهدون في كتابة محض مقالات بسيطة تتطلّبها فروضهم الجامعيّة. ينسِّبُ موديانو هذا الإمتياز الذي جعله يختلف عن الآخرين إلى الكاتب الفرنسيّ (Raymond Queneau) الّذي كان صديقًا لوالدته وهو مَنْ قدّم موديانو إلى دار نشر (غاليمار) الفرنسيّة الّتي نشرت أوّل أعماله.
10. رفضَ ترشيح الأكاديميّة الفرنسيّة لتثبيت إسمه في سجلّ الخالدين:
الأكاديميّة الفرنسيّة العتيدة ذات التقاليد التأريخيّة الصارمة، والّتي تعدّ الملاك القيّم على الثقافة واللغة الفرنسيّتين كانت قد اقترحت ضمّ إسم موديانو إلى لائحتها المشهورة لمن تصفهم بِـ (الخالدون The Immortals )؛ لكنّ موديانو رفض ترشيحها بعد معرفته حجم الشهرة والأضواء التي ستأتيه جرّاء هذا الترشيح وهو الأمر الّذي لم يكن ليرتاح معه أبدًا.
*نُشِر الموضوع بتاريخ 10 ديسمبر/ كانون الأول 2014.
رابط النص:
https://www.thelocal.fr/20141210/ten-things-to-know-about-patrick-modiano
ضفة ثالثة