ليتني أكتبُ شعراً/ نجوى بركات
20 فبراير 2024
أحياناً أقول: ليتني كنتُ أكتب شعراً حينما أتفكّر في الجهد الجسدي والنفسي والزمني الذي تتطلّبه كتابة الروايات، مع العلم أنّ الأغلبية قد توقّفت منذ زمن عن كتابة الملاحم والروايات الطويلة، وأن متوسّط عدد الصفحات اليوم هو بحدود 250 – 350 صفحة، للعمل الواحد. بالطبع، ثمّة أعمال تشذّ عن القاعدة، وأخرى تُطبَع في أجزاء، إنما يجب أن نعترف أنّ كثرا منّا باتوا يتوجّسون عند رؤية عملٍ تفوق صفحاته متوسّط العدد المعتاد، وقد تجعلنا سماكتُه الكبيرة نتردّد في اقتنائه، أو في قراءته حتى، مؤجّلين ذلك باستمرارٍ إلى وقتٍ لاحق، لا نلبثُ أن نعيا في القبض عليه.
والحال، لم يعد طول العمل الروائي دليلاً على أهمّيته أو ثرائه، إذ قد يكون على العكس دليل إسهابٍ في غير مكانه، وثرثرةً من دون ضوابط، وإنشاءً يسبّب للقارئ غثيانا يعمد إلى تفاديه بالقيام بقفزات كبيرة من صفحة إلى أخرى، خاصة عندما يكون الترهّل في النصّ عاقبة غياب تام لأي عملية تحرير أدبي تقتطع ما يجب اقتطاعه، وتشذّب ما ينبغي تشذيبه، هذا مع إنّ بعض المؤسّسات (الرسمية مثالا، أو المانحة جوائز)، لا تني تقيّم أهمية الكتاب بالنظر إلى سماكته، لا إلى محتواه، كما لو كانت تروز إوزةً يُفضّل أن تكون ممتلئة لحما ودُهنا يفيض عنها عند الطهو أو الشواء.
هذا ليس اتّهاما عشوائيا، فثمّة كتبٌ هامةٌ وضخمةٌ بمئات الصفحات، من بينها “رجل بلا صفات” لروبيرت موزيل، أو “اسم الوردة” لأمبرتو إيكو، أو “اسمي أحمر” لأورهان باموك، أو “مائة عام من العزلة” لماركيز أو عوليس لجيمس جويس… فيها نتقدّم على مهلٍ وبمتعة من يخطو في قارّة يكتشف تضاريسها شيئا فشيئا، ويخشى أن يحثّ الخطى فيفوته أمرٌ أو تغيب عنه تفاصيل، لذا تراه متفحّصا بأناة سرعة تقدّمه، ومحطّات استراحته أو توقّفه، مسترجعا بعض المعاني وعائدا حتى بالقراءة إلى الخلف. أجل، في مثل تلك الأعمال القيّمة الضخمة، نصرف وقتاً لا نعتبره ضائعا ونُقيم بين الأسطر الكثيرة دونما تململ، نتعلّق بأبطال نحبّهم دونما حساب، ونتعلّم ونُسائل ونحاور أنفسنا، ثم حين نردّ الغلاف، نُبقي الكتاب فترة في أحضاننا، وربما عزّينا أنفسنا بوعد إعادة القراءة.
أنا، من تعبي، أحيانا أقول: ليتني كنتُ أكتب شعراً، تهرّباً من ثقل السرد الفضفاض، ثم أفطن إلى رعونتي، وسذاجة فكرة تصوّر الشعر صفحات معدودة، كمّاً محدوداً من الكلمات والسطور. وإذ تحضُرني جمل ضوئية، يتركّز فيها عالم، كون، مجرّات، وأقيس بالحرف وزن الجوهريّ والمستتر، البهيّ والمتكتّم، الغامض والجليّ، التركيز والتكثيف في أبهى حلله، أردّد فعلاً: ليتني كنتُ أكتب الشعر، لأقول ما نجح في قوله شاعرٌ مثل بسّام حجّار حين كتب: “لفرط ما أحذف النهارات لم يبق منـّي إلا كائنُ الأرق، شبيهي، الذي يحسب أن الوقت يمضي إذا مشيتُه مراراً من الباب إلى النافذة، من الشرفة إلى النافذة، من النافذة إلى النافذة، ولا أدرك جدواه. لفرط ما أحاول نسيان الوقت أقع في خطأ الانتظار، وأعلم أنّ من هو مثلي لا ينتظر شيئاً ولا يرغب في شيء، لأن الاشياء قاطبة تُقيم في نهاراتٍ أحذفها لكيلا يبقى منّي إلا رميم الأرق، شبيهي، الذي ما عرفتُ سواه”…
كلّما هدّني التعب فكّرتُ في بسّام حجّار (توفي في 17 فبراير/ شباط). مات في الرابعة والخمسين إثر إصابته بالسرطان، ولم يكن موتُه مفاجئا أو صاعقا إذ بدا أنه، ومنذ التقاه إثر وفاة شقيقته دلال، وهو يستعدّ له. ودائما ما أراه راكبا الباص، فتختلط صورتُه في ذهني بصورة البرتغالي بيسّوا. وأعترف أن لا شبه دقيقاً بينهما، إلا أن الاثنين كانا من كائنات العزلة بامتياز. لا يسعيان إلى شيء، لا يحترفان الظهور أو الكلام، ووحدَها الكتابة هي ما أعانتهما على تحمّل غربتهما، وقت عبورهما على هذه الأرض.
العربي الجديد