في العنف وإدانته: حوار مع جوديث بتلر/ حسام الدين درويش
كنت أنوي الكتابة عن منظومة حقوق الإنسان، وعن سوء استخدامها الأيديولوجي، سواء من قبل المنظومات السياسية في “الغرب” أو “الشرق”. فالغرب الذي يزعم أنّه يعمل على نشر منظومة حقوق الإنسان ومراقبة مدى التزام الآخرين بها، بحيث يشدّد عليها، في سياساته الخارجية، حيناً، ويتناساها أو يهملها أو يغتصبها أحياناً. ويفعل “الشرق” الأمر ذاته، في سياساته الداخلية خصوصاً، حيث لا يُكتفى بقمع الحقوق السياسية للناس، بل يحصل التمادي والحدّ من الكثير من حقوقهم الاجتماعية والاقتصادية أيضاً.
كنت أنوي الكتابة عن توهم وإيهام كثيرين أنّ هذا الانقسام، المزعوم أو الفعلي، بين “غربٍ” و”شرقٍ”، أو بين “شمال” و”جنوب”، هو انقسامٌ ثقافيٌّ أو دينيٌّ بالدرجة الأولى، وليس انقساماً سياسيّاً واقتصاديّاً، كما أرى مع كثيرين.
كنت أنوي الكتابة عن التبنّي المتزايد بين “الشرقيين” للنظرة “الاستغرابية” ردّاً على اعتقادهم المحق جزئيّاً بأنّ ممارسات الغرب تجاه ما يحصل في فلسطين وإسرائيل تعبّر، عمليّاً على الأقل، عن نظرةٍ استشراقيةٍ دونيةٍ وعنصريةٍ.
كنت أنوي عرض كلّ ذلك ونقده، لكنّني عدلت عن ذلك أو أجلته، بعد قراءتي لمقال نشرته جوديث بتلر قبل أربعة أيامٍ تقريباً (14 أكتوبر/ تشرين الأوّل). فهذا المقال يتضمّن تفكيكاً عمليّاً للخطابين المذكورين، (الاستشراقي والاستغرابي)، على حدٍّ سواء، وردّاً على كلّ المزاعم الثقافوية القائلة بالتفوّق الأخلاقي لشعبٍ على أساس جيناته الثقافية واعتقاداته الدينية. قد لا يغني هذا المثال العملي عن التناول النظري للمسألة، لكنّني رأيت أنه مناسبٌ جدّاً لأن يكون جزءاً أوليّاً أو تمهيديّاً له.
بتلر فيلسوفة وأستاذة أكاديمية (يهودية أميركية) مختصة أو منشغلة بالفلسفة السياسية والدراسات الجندرية خصوصاً، ولها حضور قوي أو بارز في المجال العام خارج المجال الأكاديمي، عندما يتعلّق الأمر بالاحتلال والعنف والتمييز العنصري ومعاداة السامية، إلخ خصوصاً. وقد تجلّى ذلك، على سبيل المثال والخصوص، في نقدها الشديد للسياسات والممارسات الأميركية والإسرائيلية تجاه القضية الفلسطينية. ويمكن القول إنّ مقالها الأخير يتضمّن نقداً لتلك السياسات والممارسات وردّاً على الكثير من مزاعمها الإعلامية والسياسية التي سادت في الخطابات والوسائل الإعلامية (الغربية).
إضافةً إلى العنوان الرئيس للنص “بوصلة الحداد”، ثمّة عنوانٌ فرعيٌّ “جوديث بتلر تكتب عن العنف وإدانة العنف”.
ويعرف المتابع للمنابر الإعلامية “الغربية”، أنّ السؤال “هل تدين هجمات حماس في 7 أكتوبر؟”، كان السؤال الأوّل أو الرئيس الذي كانت توجهه تلك المنابر في لقاءاتها حول تلك الهجمات. واستمرت في التركيز على ذلك السؤال، حتى بعد أن أعلنت إسرائيل نيّتها التعامل مع الفلسطينيين بوصفهم “حيوانات بشرية” وتجاوز (معظم) الخطوط الحمر المتعلّقة بالقانون الدولي والإنساني، وبدأت فعليّاً بقتل المئات والآلاف منهم. ونص بتلر يتضمن تفكيراً بذلك السؤال وإجابةً عنه أيضاً، والمضي إلى ما وراء تلك الإجابة أيضاً.
فالتفكير التفكيكي في ذلك السؤال يتضمّن بحثاً في علاقة فهم مختلف أبعاد ما جرى وتاريخيته وتوضيح سياقاته بمسألة إدانة هجمات حماس. أمّا إجابة بتلر عن ذلك السؤال، فهي الإدانة الواضحة والكاملة والقاطعة وغير المواربة على الإطلاق. لكن بتلر لا تكتفي بتلك الإدانة، بل تشدّد على ضرورة “توسيع العدسة إلى ما هو أبعد من اللحظة الحالية المروعة، دون إنكار رعبها، وفي الوقت نفسه رفض السماح لهذا الرعب بتمثيل كلّ الرعب الذي يجب تمثيله ومعرفته ومعارضته”.
وهكذا، ينوس نص بتلر بين الإدانة المطلقة لهجمات حماس والتعبير القوي عن كامل تعاطفها مع الضحايا، من جهةٍ، وتوضيح السياقات التي حدثت فيها تلك الهجمات أو سبقتها، وإظهار معاناة الفلسطينيين الهائلة في ظلّ الاحتلال والاستيطان الاستعماري الإسرائيلي، من جهةٍ أخرى.
وفي إطار إدانتها لهجمات حماس، ترفض بتلر نفي المسؤولية عن حماس وتحميل إسرائيل كلّ المسؤولية كما فعلت لجنة التضامن مع فلسطين بجامعة هارفارد. فهي تؤكد وجود فاعلية واستقلال ذاتي عند الفلسطينيين. وتشير إلى أنّ نشوء حماس وتعاظم حضورها قد حصلا بالارتباط مع فشل عملية أوسلو السلمية وحالة “الموت البطيء والمفاجئ” التي تصف الوجود المعيشي لكثير من الفلسطينيين الذين يعيشون تحت الاحتلال، سواء أكان ذلك المراقبة المستمرة والتهديد بالاعتقال الإداري دون اتباع الإجراءات القانونية الواجبة، أو الحصار المشدّد الذي يحرم سكان غزة الدواء والغذاء والماء.
فإلى جانب الإدانة الأخلاقية لعنف حماس (وفقاً لبتلر) ينبغي إدانة العنف الإسرائيلي: عنف القصف بلا هوادة، وقتل الناس من كلّ الأعمار في منازلهم وفي الشوارع، والتعذيب في سجونهم، وأساليب التجويع في غزة ومصادرة المنازل؛ عنف الفصل العنصري والحكم الاستعماري وانعدام الجنسية؛ عنف الاستيلاء المنهجي على الأراضي والغارات الجوية الروتينية، والاعتقالات التعسفية، ونقاط التفتيش العسكرية، والفصل الأسري القسري والقتل المستهدف؛ عنف المراقبة المستمرة والتهديد بالاعتقال الإداري دون اتباع الإجراءات القانونية الواجبة، أو الحصار المشدّد الذي يحرم سكان غزة الدواء والغذاء والماء؛ عنف الجيش والشرطة الذي يشبع حياة الفلسطينيين في المنطقة، ويحرمهم حقوقهم في الحداد، ومعرفة غضبهم وتضامنهم والتعبير عنه، وإيجاد طريقهم نحو مستقبل من الحرية.
وتنتقد بتلر وسائل الإعلام المعاصرة، لأنّها، في معظمها، لا تقدّم تفاصيل عن تلك الفظائع التي عاشها ويعيشها الشعب الفلسطيني منذ عقود، من تفجيرات وهجمات عشوائية واعتقالات وقتل. وترى أنّ الاستجابة الأخلاقية الضيّقة لأهوال 7 أكتوبر، وإيلاءها أهمية (أخلاقية) أكبر من تلك التي تحظى بها الأهوال التي عاشها الفلسطينيون خلال السبعين سنة الماضية، تهدّد بحجب فهم المظالم الجذرية التي يعاني منها الفلسطينيون المهجرون و/ أو القاطنون تحت الاحتلال، وتمنع اتخاذ موقفٍ مناسبٍ من الكارثة الإنسانية والخسائر في الأرواح التي تحدث في هذه اللحظة في غزة.
بناء رؤية أخلاقية، انطلاقاً من توسيع الأفق وتعميق الفهم وشمول الإدانة المنصفة لكلّ ما ينبغي إدانته بعيداً عن ترف اليأس وضيق التحيّزات وأحادية المواقف وترف اليأس. وللوصول إلى بناء هذه الرؤية، فضلاً عن تعزيز حضورها وتحقيق مضامينها، هو ما ترى بتلر ضرورته وضرورة “أن نكون أحراراً في تسمية ووصف ومعارضة جميع أشكال العنف، بما في ذلك عنف الدولة الإسرائيلية بجميع أشكاله، والقيام بذلك دون خوف من الرقابة أو التجريم أو الاتهام الخبيث بمعاداة السامية”. وتشير بتلر إلى الحظر الموجود في ألمانيا على تناول عدد من تلك المسائل بحرية.
وتتضمن الرؤية الأخلاقية التي تتحدّث عنها بتلر رفضاً كاملاً لعمليات المفاضلة العنصرية بين الضحايا التي تقوم بها بعض الجهات الغربية والإسرائيلية. وترى ضرورة التخلّص من تلك العنصرية الموجودة لا في الخطابات “السطحية” الإعلامية والسياسية فحسب، بل وفي البنية العميقة للدول والمؤسسات والخطابات أيضاً، بما يسمح بامتلاك نموذج بوصلة الحداد المساواتية العادلة، بوصفه “نموذجاً يعترف بالمساواة في حزن الأرواح، ويثير الغضب من أنّ هذه الأرواح لم يكن ينبغي أن تُفقد، وأنّ الموتى يستحقون المزيد من الحياة والاعتراف المتساوي بحياتهم”. وهذا يتطلّب المعرفة والفهم لما حصل ويحصل للفلسطينيين الذين سقط آلاف المدنيين منهم ضحايا لعنف المستوطنين والقوات الإسرائيلية.
وفي إعلانها لرغبتها في السلم ورفضها المبدئي للعنف عموماً، تشير بتلر إلى أنّ ذلك السلام لا يتضمن تطبيع العلاقات مع بنية الظلم الاستعماري القائمة، بل يتطلب حصول الفلسطينيين على حرياتهم وحقوقهم. وباختصار، تربط بتلر تحقّق السلام وتعايش الفلسطينيين والإسرائيليين بحريةٍ وسلامٍ بتحقّق العدالة، وترى أنّ ذلك هو السبيل الوحيد للوصول إلى ذلك الغرض. فـ”النضال من أجل المساواة والعدالة الحقيقية في المنطقة، هو النوع الذي من شأنه أن يجبر جماعات مثل حماس على الاختفاء، وإنهاء الاحتلال، وازدهار أشكال جديدة من الحرية السياسية والعدالة. ومن دون المساواة والعدالة، ودون وضع حد لعنف الدولة الذي تمارسه دولة إسرائيل، التي تأسّست على العنف، لا يمكن تصوّر أي مستقبل، ولا مستقبل للسلام الحقيقي”.