في عدم قابلية الليرة السورية للتزوير/ عمر قدور
السبت 2024/02/24
أكّد تقرير استقصائي نشره موقع “درج” ما كان متداولاً بين السوريين لجهة لجوء الأسد إلى طباعة العملة السورية بكميات ضخمة في روسيا، وقد كانت تُطبع قبل الثورة في النمسا، وكان مسؤولو السلطة يفاخرون بطباعتها في أفضل المطابع العالمية المختصة، ما يجعلها تتمتع بمزايا أمنية عالية يصعب تزويرها. وقد يبدو للوهلة الأولى مثيراً للسخرية والضحك ما نقله التقرير عن المصرف المركزي من أن الأوراق النقدية من فئة 5000 ليرة، المطبوعة في روسيا عام 2019، يصعب تزويرها أو تزييفها، ويسهل كشف ذلك إذا حدث.
ومن المعلوم أن البضائع الروسية كافة لا تحظى تقليدياً بسمعة طيبة بين السوريين، خاصة بالمقارنة مع نظيرتها الغربية. وكان نشطاء وإعلاميون سوريون معارضون قد أثاروا ضجة عندما وضعت فئة الألفي ليرة في التداول، ثم عندما وضعت فئة الخمسة آلاف، عبر ترويج ادّعاءات تجعل هذه الفئات كأنها مزورة، بسبب طباعتها في روسيا، وبزعم انعدام التغطية لها في احتياطي البنك المركزي. ومع أن الجانب التقني المتعلق بالمزايا الأمنية متروك بطبيعة الحال للمتخصصين، يمكن الجزم بأن أوراق العملة المطبوعة في روسيا أقلّ قابلية للتزوير من نظيرتها المطبوعة في أوروبا.
لم يكن واضحاً بما فيه الكفاية التقريرُ المنشور في “درج” قبل ثلاثة أيام، تحت عنوان “أسرار قبرص: آلة الطباعة السرّية للعملة السورية”. فهو قد يوحي بأن عملية طبع العملة في روسيا، بدءاً من عام 2012، مرّت بشراكات في قبرص لأن الأسد كان يلتفّ بهذه الطريقة على العقوبات الغربية التي فُرضت عليه بعد الثورة. في حين أن الالتفاف على هذا النحو هو من أجل الحليف الروسي، وكي لا تخضع الشركة الروسية الحكومية التي تولّت الطباعة للعقوبات الغربية؛ يُذكر أن روسيا لم تكن وقتها خاضعة للعقوبات الغربية التي ستُفرض عليها بدءاً من عام 2014 بعد احتلالها شبه جزيرة القرم.
أيضاً لم يدقّق واضعو التقرير جيداً في تفاصيل أخرى، إذ ورد فيه مثلاً أن الموازنة العامة السورية بلغت في عام 2012 ما يعادل 27 مليار دولار، واصفاً إياها بأنها الأكبر في تاريخ البلاد. وبالعودة إلى أرقام الموازنة المذكورة يتبين أن واضعي التقرير احتسبوا سعر الصرف بما يعادل خمسين ليرة للدولار الواحد، وهذا غير صحيح في ذلك العام، وبما أن العام نفسه شهد طباعة العملة في روسيا بهدف إنفاقها فهذا يُمعن في تخفيض قيمة الليرة، وقد حدث ذلك حقاً في العام المذكور الذي راح فيه الأسد يفقد العائد الأكبر من موارده النفطية. يُضاف إلى ما سبق أن أرقام الموازنة تقديرية، وربما لم يُنفق منها فعلياً إلا القليل الاضطراري.
دائماً، في سياق الحديث المعارض عن العملة السورية، تظهر المغالطات غلّابة على الحقائق، ومنها ذلك الحديث عن تغطية طباعة العملة الذي تعود صلاحيته إلى أكثر من نصف قرن. ففي عام 1971 تخلّت الولايات المتحدة عن الذهب باعتباره غطاءً لطباعة الدولار، ما أنهى عملياً فكرة ربط احتياطي الذهب بالعملات، لتبقى شأناً سيادياً يتعلق بقوة اقتصاد كل بلد؛ هذا يعني تالياً أن طباعة العملة هي شأن سيادي.
ولعل تخلّي الولايات المتحدة عن التغطية بالذهب كان خبراً ساراً لحافظ الأسد في مستهل حكمه، فذلك يسَّرَ له ولوريثه طباعة ما يريدان من العملة بلا ضوابط. مع ذلك يصحّ القول أن التضخم وانخفاض قيمة الليرة كان حتى نهاية السبعينات عادياً جداً، ويعكس نشاطاً اقتصادياً متنامياً، ومسنوداً بالمساعدات الخليجية التي تدفقت بعد حرب تشرين 1973، ليبقى سعر الصرف لسنوات مستقراً حول أربع ليرات مقابل الدولار.
في الثمانينات بدأ التدهور الكبير في قيمة الليرة، ما يعني عملياً زيادة الاعتماد على تمويل عجز الموازنة العامة بالتضخم. ومن المعلوم أن التضخم يمسّ الشرائح الأدنى اقتصادياً ويكون على حسابها، بما فيها ملايين موظّفي القطاع العام الذي أصبحت كل زيادة في أجورهم تعني نقصاً في قيمتها. مع ضرورة الانتباه إلى أن التضخم لا يحتسب فقط بقيمة الليرة بالنسبة للعملات الأجنبية، وإنما يُحتسب أولاً بالنسبة إلى القيمة الشرائية لليرة، وبقاء سعر صرف الليرة شبه ثابت في التسعينات والعقد التالي لا يعكس ارتفاع نسب التضخم المرافق في جزء منه لارتفاع معدل النمو آنذاك.
كل زيادات الأجور التي أعلن عنها الأسد الأب والابن منذ الثمانينات هي بمثابة انتقاص من قيمتها الحقيقة لصالح القيمة الاسمية، رغم التأكيد في العديد من المرات على أن الزيادة لن تنتقص من قيمة الدخل عبر ارتفاع الأسعار. ومن المفروغ منه أن تدنّي قيمة العملة المحلية واحد من الأعراض المتكررة في البلدان التي تشهد “اضطرابات” سياسية أو أمنية، فقيمة الليرة اللبنانية مثلاً كانت قبل الحرب الأهلية أعلى من نظيرتها السورية، ثم شهدت تدهوراً شديداً قبل التدهور الأخير الحالي. لكن الآثار المعيشية لتدهور الليرة اللبنانية، رغم قسوتها، ليست على شاكلة آثار تدهور الليرة على أحوال السوريين، فالعبرة هنا في إمساك السلطة كلياً بالاقتصاد، وباعتمادها سعر الصرف كواحد من آليات الاحتكار والتحكم، ما يجعلها في موقع المسؤولية المباشرة عن الإفقار، حتى إذا لم نأخذ في الحسبان الآثار المدمرة اقتصادياً لقراراتها العسكرية والسياسية ضد السوريين.
استخدام هذه السلطة الليرة كسلاح اقتصادي وكوسيلة إفقار هو أفضل ضمانة أمنية منعت وتمنع تزوير العملة السورية، إذ ليست مشروعاً مجزياً المغامرة بتزييف عملة تتناقص قيمتها بسرعة، والأجدى هي المغامرة بتزوير عملات مستقرة. ونذكّر هنا بواحد من الاتهامات الأمريكية القديمة لسلطة الأسد، وهو إشرافها على عمليات تزوير واسعة للدولار في لبنان، جنباً إلى جنب مع زراعة وتصنيع المخدرات، أيام وصايتها على لبنان. وبالطبع لم يكن من شأن واشنطن أو غيرها الحديث عن أكبر عملية تزييف مماثلة تقوم بها سلطة الأسد، وهي تزييف العملة السورية، ونترك للكاتب التركي عزيز نيسين شرح الفكرة الأخيرة.
في قصة له عن أشهر مزيّف للنقود في البلاد، يتحدث عزيز نيسين عن القبض عليه، وإيداعه السجن حيث احتفى السجناء بالحدث لأنه يبشّر بانتعاش اقتصادي للسجناء والسجانين، بما أن الوافد سينفق من أمواله الوفيرة. إلا أن الأخير انزوى على نفسه بعكس مرات سجنه السابقة، وارتاب مدير السجن في أمره، فضغط عليه حتى قرر إفشاء ما حدث له: وملخّصه غير الحرفي أن المزيِّف كان مثلاً يكلّفه تزييف فئة العشر ليرات ليرة واحد فيربح تسعاً، ومع التضخم صار تزييف المئة ليرة يكلّفه خمسين، وبعدها صار تزييف الألف ليرة يكلفه تسعمائة، ليبدأ بالخسارة مع تزييف الخمسة آلاف الذي صار يكلّفه ستة آلاف، ولأنه لا يستطيع التوقف عن مهنته استمر بالخسارة وفقدان الثروة التي حصّلها سابقاً. أخيراً، حسب ما يقول المزيِّف، أدرك مع إفلاسه أنه كان ينافس مزيِّفاً لا قِبل له بمجاراته، هو الدولة.
تجيب قصة نيسين عن عدم قابلية الليرة السورية للتزوير، وقد يكون من المقارنات الدالّة على واقع الليرة، أكثر من سعر الصرف، المقارنة بين قيمة أدنى فئة منها وكلفة طباعتها الآن.
المدن