كيف السبيل للتعافي من كلّ هذا الاحتلال في سورية؟/ أيمن الشوفي
27 فبراير 2024
يقرع وزير خارجية إيران حسين أمير عبد اللهيان باب بيروت قبل دمشق، إنْ زار المنطقة، يفعل ذلك دوماً وبمواظبة سياسية تحرص طهران من خلالها على إنشاء هذا الترتيب الأبجدي لدبلوماسيّتها، فلبنان على الأقل ليس منطقة نفوذٍ كاملة لإيران، مثلما هي سورية بالنسبة إليها، عدا عن أنّ طبيعة التوازنات الطائفية في لبنان تحول دون وقوعه تحت كاهل احتلال أو نفوذ دوليّ بعينه، أما في سورية “السعيدة”، والتي تعيش منذ عقدٍ مباهجَ استباحاتٍ عدّة، فإن حصّة النفوذ الإيراني تقارب درجة الاحتلال المباشر إن جرت مقارنتها مع باقي حصص النفوذ الدولية في بلد يديره نظامٌ سياسيٌّ استبداديّ ومهترئ.
لكن، وعلى الرغم من التفاوت اللفظي لدى إجراء ترجمةٍ آمنة لمفهوم الدبلوماسية الإيرانية في تعاملها وفهمها الملفّيْن السوري واللبناني، فإن وزير خارجية إيران يستطيع أن يمتلك، وبعيداً عن ذنوب تلك الترجمة من الجرأة السياسية حدّاً يسمحُ له بالتصريح بأنّ “أمن لبنان من أمن إيران”، وتلك مجاهرةٌ فصيحة لا تقتصد في المعنى، وإنما تختبئ خلف وقاحة سياسيّة مسيّجة بعناية، ربما يكون أساسها إفساحٌ أميركيّ واسع الطيف لارتكاب مزيدٍ من خطايا توغّل النفوذ الإيراني في المنطقة، سواء في اليمن أو العراق أو سورية أو لبنان، وتجتهد إيران كثيراً في فهم مقرّرات المنهج الدراسي الأميركي الجديد في منطقتنا، والقائم في جانبه النظري على سياسة “الاحتواء” بدلاً من الابتلاء بالتصعيد العسكري، وهذا يعكّر كثيراً ملامح نتنياهو، الباحث، من وراء تصفية الخصومة المحيطة بكيان بلاده، عن مزيدٍ من توسيع حدود دولته، وإن اقتضى الأمر لا ضير من تسميم الموجودات المحاذية للكيان برمّتها، وهذا اشتقاقٌ “تلمودي” وافر المعنى، يستحوذ على عقل اليمين الدينيّ المتطرف في دولة الكيان الحالم بنهريْن ونجمة.
لكن، وفي دمشق، يكون عبد اللهيان أكثر استرخاءً وأكثر تمتّعاً بالسلطة والنفوذ مقارنةً بما يكون عليه حاله في بيروت، ويكون بمقدوره أيضاً أن يركل بخفّةِ المجازِ فمَ وزير خارجية النظام السوري فيصل المقداد، ويجعله يُخرِجُ كلاماً من قبيل أن سورية على استعدادٍ لخوض مزيدٍ من الحروب ضد إسرائيل في الوقت الذي تراهُ مناسباً. مجدّداً يتحدّث المقداد بلسان إيران، ويحضر مع كبار شخصياتٍ في النظام السوري، من بينهم رئيس الحكومة، ووزير الدفاع، والأمين القطريّ المساعد لحزب البعث الحاكم، حفلاً أقامته السفارة الإيرانية بدمشق، أخيراً، بمناسبة الذكرى السنوية لانتصار “الثورة الإسلامية” ضد حكم الشاه، وذلك يوم 11 فبراير/ شباط من العام 1979.
كذلك بمقدور بشّار الأسد إهدار مزيد من بقايا “دولة البعث” التي ورث إدارتها عن أبيه، ولعله فعل ذلك مرّاتٍ عديدة، كان جديدُها أخيراً حين أصدر قانوناً خاصّاً بإحداث وحوكمة وإدارة الشركات المساهمة العمومية، والشركات المشتركة. وليس مصادفةً صدور هذا القانون عقب انتهاء زيارة عبد اللهيان دمشق. وسيكون القانون، على أي حال، أشبه بتنازل إضافي عن مُلكياتٍ عامّة جاء على هيئة تشريع، ويمكن الركون إليه في أثناء تحليل المدى الذي بلغه الجانب الإيراني في استباحة دولة بشّار الأسد، وتمكين مقوّمات تلك الاستباحة بصورةٍ قانونيّة، إذ بات بمقدور إيران السيطرة على ما تشاء من شركاتٍ عامة، بعدما شرعن القانون الجديد إمكانية طرح شركات القطاع العام للاستثمار الخاص، أي خصخصتها. ومن المستبعد أن يكون بمقدور أحد منافسة إيران على تلك الهيمنة المرتقبة، بما تحوزُه من سيطرة واسعة على القرار الحكومي لدى النظام السوري من خلال رئيس الحكومة الذي يُعدّ الذراع التنفيذي الأهم لمصالح إيران داخل منظومة الأسد الحاكمة، كما أنّ الأمر سيبدو، في غايته القصوى، أشبه بتحصيل مزيدٍ من الديون الإيرانية العالقة بذمّة رأس النظام السوري، لكن إيران ومن الناحية الاقتصادية لن تحصد الكثير من المنفعة الاستثمارية من استيلائها على شركاتٍ حكومية هَرِمَة ومكبّلة بالخسائر، ما يعني إيران هو الاستملاك في جوهره، أن تمتلك المزيد من الأصول في سورية، وأن تُمعنَ أكثر باحتلالها هذا البلد الذي يرقدُ فوقه زعيمٌ “سيكوباتي” عنيدٌ ومكروه من الجميع.
لا تجدُ إيران حرجاً من المجاهرة الفاضحة بأنها صاحبةُ سيادة داخل الجغرافيا السورية المريضة والمهزومة، إلى درجة أنها لم تأبه، وكذلك فعلت السلطات السورية حين تسرّبت إلى الإعلام أخبارٌ تفيد بأن إيران حوّلت أطفالاً في دير الزور السورية إلى فئران تجارب للموادّ المخدّرة التي تصنّعها في تلك المحافظة السورية سيئة الحظّ والطالع، وقد صرّح مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان رامي عبد الرحمن، يوم 10 فبراير/ شباط الحالي، عن حدوث مثل تلك الانتهاكات القذرة من الإيرانيين بحقّ أطفالٍ ذوي ظروفٍ صعبة، وقد جرى توثيق بعض أسماء أولئك الأطفال الذين فارقوا الحياة تحت ظروفٍ قاسيةٍ تتساوى في دناءتها مع حفلات الإبادة التي يمارسها نظام بشّار الأسد منذ العام 2011 بحقّ معارضين سياسيين له. وفي هذا استيرادٌ لمفهوم المحنة بتجلّيها الدلالي البديهيّ، وعلى السوريين أن ينحازوا إلى فهم هذا الجانب المظلم من مصيرهم المعتقل داخل مزاج دوليّ متواطئ ومستبدّ. وربما بالَغَ القدر باضطهادهم بعدما بلغ عدد اللاجئين منهم نحو ستّة ملايين لاجئ، وهذه تغريبةٌ ابتكرها عقل طاغية دمشق، ومن يعاونونه على تدبيجِ هذه السرديّة الباكية، والتي لا تجد من يقارعها في المعنى إلا سرديّة قطاع غزّة، حين ابتكر عقل الكيان الإسرائيلي كل المراوغات التي تحمل معنى التهجير والإبادة بصورها الأكثر إهانة للذات الإنسانيّة، وما نجم عنها من استشهاد أكثر من 28 ألف فلسطينيّ، وإصابة أكثر من 68 ألفاً آخرين منذ بداية حصار القطاع في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وهذا ما يفهمه السوريون أكثر من سواهم، حين يلمسون هذه الحكاية من جوانبها الأكثر إيلاماً وعناداً، كونهم ورثةُ احتلالٍ محلّيّ من نظام إبادة شبيه بالنظام الإسرائيلي، أو يكاد يتفوّق عليه، إلى درجة أنّ إقرار مجلس النواب الأميركي قانوناً جديداً لمكافحة التطبيع مع نظام بشّار الأسد لم يلقَ أيّ بهجة من السوريين، بالرغم من ابتسامة النائب الجمهوري فرينش هيل، العميقة والمؤكّدة، والتي رافقت صدور ذاك القانون، وهذا مردّهُ خيبة أمل السوريين بجديّة الإدارة الأميركية في التخلص من بشّار الأسد ونظامه منذ العام 2013، وما تلا ذاك التاريخ من صدور قوانين أخرى لتكبيل بشار الأسد والتضييق عليه، من دون إسقاطه، وأشهرها كان قانون قيصر الصادر عام 2019، ثم قانون كبتاغون الأسد الصادر في مطلع العام الماضي، من دون أن يؤثرا على بقاء بشّار الأسد زعيماً للنظام السوري، حتى أنّ الخبر الذي تناول أخيراً تصفية ماهر الأسد شقيق الرئيس السوري، بواسطة طائرة مسيّرة إسرائيلية استهدفته في أحد أماكن وجوده في ريف دمشق، لم يعد قادراً، هو الآخر، على استمالة آمال السوريين بالخلاص من تلك الصيغة السياسية التي تحكمهم باستهزاء، فهم على أيّ حال ما زالوا أسرى لدى هذا النظام، وملامحهم التي شاخت قبل أوانها دليلٌ دامغٌ على ذلك.
العربي الجديد