منذر بدر حلوم: أسوأ الأمور أن تُقرأ أعمالك سياسيًا
منذر مصري
13 ديسمبر 2023
يحمل منذر بدر حلوم شهادة دكتوراه في العلوم البيولوجية– بطرسبورغ، 1990. عمل أستاذًا في كلية الزراعة، جامعة تشرين- اللاذقية حتى مغادرته سورية، خريف 2011. صدرت له العديد من التراجم لأعمال أدبية روسية منها: (يوم واحد من حياة إيفان دينيسوفيتش) الكسندر سولجينيتسن- 1999، و(القادم من الجحيم) فارلام شالاموف- 2001. ما أنبأ بولادة مترجم سوري عارف بالجانب الآخر للأدب الروسي، كما كتب مقالات شائكة في الشأن السوري الثقافي والسياسي. وكان أحد موقعي بيان الـ99 مثقفًا- 2000. والمنسق الأول لحركة (معًا) من أجل سورية حرة وديمقراطية- 2011. إلّا أنه قبل وخلال وبعد كل ذلك روائي ذو خمس روايات، أربع منها من العيار الثقيل، طبعت جميعها خارج سورية، تتميز ليس فقط بفرادة أسلوبية ظاهرة بل بإلحاح شديد على وضع الحالة السورية تحت أشد المناظير المقرّبة حدّة وقسوة:
1- سقط الأزرق من السماء-2009.
2- أولاد سكيبة- خروج الأقدام الحافية-2009.
3- كأنّ شيئًا لا يحدث-2011.
4- لا تقتل ريتا-2018.
5- قمصان ذكريا- دار ميسلون-2023.
وجدت أنه من الهام ذكر كل هذه التفاصيل نتيجة لإحساس، ستعلمون من أين جاءني بعد قراءة المقابلة، أن منذر بدر حلوم، رغم كل هذا، كاتب مجهول! ما اضطرني لاختيار بعض نقاط العلّام في تجربته الحياتية والأدبية ليحدّثنا عنها بعظمة لسانه في هذا الحوار:
(*) السوريون الذين غادروا سورية لأسباب شتّى، لجأوا إلى تركيا وألمانيا والسويد و… أنت لجأت إلى روسيا! تحيا في موسكو عاصمة البلد الذي عاضد النظام الذي اضطرك للهجرة، كما تقول. أي إشكال في هذا؟
لم أهاجر ولم ألجأ! بقيت في روسيا بعد فصلي من الجامعة، وصدور أمر اعتقالي. والمضحك أنهم ألغوا اسمي من موقع الجامعة الرسمي كليًا، وكأني لم أكن يومًا معيدًا وأستاذًا مساعدًا وحتى طالبًا! وبظنهم يلغون حياتي. قرأت مرة أن الشامان يفعلون ذلك! أحيا في موسكو، تمامًا كما أنت تحيا في سورية، مع الناس وليس السلطات. ولولا ذاك لما تجاوزت زيارتي لأقربائي في روسيا أسبوعين، فإذ بها تمتد إلى ثلاث عشرة سنة. الإشكال هو أن هناك بشرًا يقبلون بمبدأ أن يمتلك أحد ما مفتاح الوطن، ويمتلك الحق في أن يفتح بوابته لمن يشاء ويغلقها في وجه من يشاء. يبدو أنني وأمثالي سنطالب بحق العودة، أسوة بأخوتنا الفلسطينيين، فنكون سوريي 2011، كما هم عرب 1948. هل تراني قلت شيئًا خطيرًا؟ “لا أبدًا أبدًا أبدًا. فضفض يا صديقي ولا يهمك، أنا من يحيا في موسكو على مسافة آلاف الكيلومترات!”.
(*) تعمل في قناة روسيا اليوم. ومن معدّي الاخبار العربية فيها. هل هذا إشكال بالنسبة لك؟
عملي، إعداد خلاصة ما تكتبه الصحافة الروسية، تحت باب (أخبار الصحافة). إلّا أن الإشكال هو محنة العمل في الصحافة نفسها. لا أنسى رسالة هيمنغواي لقسطنطين سيمونوف عن لعنة العمل صحافيًا بالنسبة للكاتب والشاعر. ليس من النبالة أن أذمّ مصدر لقمتي، وقد سبق أن عملت صحافيًّا في غير مكان. الأهم ألّا يخون الإنسان ضميره وإنسانيته حتى في سبيل لقمته. يبدو هذا الكلام مضحكًا للإنسان المحروم من أبسط أسباب الحياة، وليس فقط من لقمة الخبز، كحال ملايين السوريين اليوم. ويصعب ألّا أتذكر هنا قصة فارلام شالاموف: (حصّة خبز). فيا له من بطل جبّار وربما نبيّ من يختار الموت جوعًا على سرقة رغيف أخيه!
(*) (قمصان زكريا) ثاني أعمالك الروائية في المنفى، وكلاهما يمتحان من الوضع السياسي والاجتماعي في سورية، الأول (لا تقتل ريتا)، سوري يعود بعد 2011 إلى روسيا حيث أمضى سنوات دراسته الجامعية. لكنه يبقى على تواصل يومي مع سوريا بواسطة الرسائل الهاتفية التي تصله من حبيبته. لكنك تعود بـ (قمصان زكريا) إلى سورية كليا، وكأنك لم تغادرها قط. ما الذي يجعل القضية السورية همّك الوحيد؟
أنت نفسك قلتها “القضية السورية”. لكنها همّي الأكبر وليس الوحيد. فقضيتي هي الإنسان، الشروط اللازمة ليبقى إنسانًا، كيلا يرتد إلى حيوانيته. هذا واجب الدولة، واجب الثقافة، أفرادًا ومؤسسات. هل البحث عن أكسجين خيار لمن يُحرم من الهواء؟ هل الدفاع عن حرية التعبير ومبدأ أن الإنسان صار إنسانًا بفضل الحرية… خيار؟
(*) قلت، لديك ثلاث نسخ من (قمصان زكريا) ولا يوجد من تقدم إحداها له في موسكو وروسيا كلها! وفي الوقت نفسه لا تقوم بزيارة من حين لآخر لسورية، ولا تسافر إلى أي بلد عربي أو أجنبي للمشاركة في مهرجان أو ندوة أدبية! أي عزلة ثقافية، إن لم أقل وجودية، تحياها هناك؟
يوجد في روسيا ربما مائة ألف عربي، بينهم آلاف السوريين، وليس لأني لا أعرف أحدًا أو لا أصادق أحدًا، إنما لأننا جميعًا من أمة “اقرأ”! ثم، هل يعقل أن تسألني عن زيارة سورية من حين لآخر، وكأنني أملك حرية الدخول إلى وطني والخروج منه متى أشاء! أما الندوات والمهرجانات فكيف أشارك فيها ولم أدع يومًا إلى أي منها في أي بلد عربي أو أجنبي. أرباب الثقافة والقائمون على المنابر الثقافية يمارسون الاستبداد والإلغاء على طريقتهم. في كل مؤسسة ثقافية دكتاتور صغير يتجمّل بالفكر والثقافة، وربما “انتبه إلى ربما” سلامي إلى روحك يا عادل محمود، مستشارون صغار، و(أصدقاء) نافذون يتلذذون بسلطة الإبعاد. لكنها، بالنهاية، عزلة مفيدة! كتبت صفحات من رواية بعنوان: (تمارين على العزلة). ثم أرجأت الفكرة. لم أشبع عزلة بعد! في عزلتي فقدت كثيرين، لكنني وجدت نفسي، نقيتها، غربلتها، غسلتها. أنا اليوم في أجمل حالات سلامي الداخلي، وفي أخصب أيام الحبر. أعمل لأنهي مسودة روايتي الجديدة قبل نهاية العام الجاري. وبالتوازي، أشخبط بالألوان. وبينما أشخبط، تتفاعل في ذهني شخصيات روايتي. لوحاتي وجه آخر لرواياتي، وقد أعرضها يومًا في إحدى غاليريات موسكو أو بطرسبورغ. الحركة التشكيلية في كلتا المدينتين غنية جدًا. لدى روسيا قوة ناعمة هائلة، لكن الإعلام يركز على الدبابات والصواريخ والطائرات، وليس الرواية والشعر والمسرح والسينما والفن التشكيلي والرقص والغناء! للأسف.
(*) هناك دائمًا تقييم ايجابي لرواياتك، فلا شيء ينقص فيها. إن من ناحية الأسلوب أو ناحية المضامين! ولكن ليس بالزخم المطلوب لتحقيق المكانة التي تستحقها في عالم الرواية. ترى ما السبب؟
ذكرني سؤالك بما قلته لفلاديمير سيدوروف، محرر الترجمة الروسية لروايتي (لا تقتل ريتا)، حين سألني عن الترويج للرواية: “لا أستطيع أن أبول مثل مايكل كين في فيلم (بيست سيلر) على كتابي أمام جمع يشربون البيرة في بار، ثم أسكب عليه الويسكي وأحرقه في متجر كتب!” وليس لدي ناشر شاطر يروج لكتبي؛ ولا أملك شبكة علاقات عامة تحوّل منذر حلوم إلى ماركة مسجلة، ولا أنتمي إلى عشيرة ثقافية! أرى أن الكتاب، طالما مؤلفه على قيد الحياة، يعيش حياة مؤلفه! أحبّ الناس، ولكنني لست مستعدًا لإرضاء أحد لأجل مصلحة. ولا أرى ضرورة لإبداء الأسف هنا.
(*) بين روايتك الأولى (سقط الأزرق من السماء-2009) والخامسة (قمصان زكريا-2023) أربع عشرة سنة. ما التغيير الجوهري في كتابتك؟
الشيب يا صديقي جعلني أشبه أبي أكثر، وكان أبيضَ الشعر تمامًا حين كتب لي، ربما في 1987: “أغنانا الله عن الحاجة للظالمين يا بني”. كنت لا أزال أدرس في ضيعة القياصرة. وهناك تغيير جوهري آخر هو أن ضميري بات يوجعني أكثر وعينيّ تتسعان دهشة أكثر. ما أعلمه أنني أشتغل على لغتي كل يوم، وعلى النسيج الروائي كي يبقى جميلًا ومتماسكًا وموحيًا. لعلك تذكر ما كتبه المثقف الاستثنائي غازي أبو عقل عن (كأن شيئا لا يحدث) حين شبهها بجدارية (فريسكو). ما زلت أحاول رسم جدارية حياتي. كل رواية، كل لوحة، جزء من الكل.
(*) كيف كان صدى الروايتين اللتين أصدرتهما وأنت في المنفى، مقارنة برواياتك الثلاث الصادرة قبل مغادرتك؟ هل تابعت العزلة عملها وعزلت نتاجك نفسه؟
إذا سمعت صدى، أخبرني عنه! قراءة الأدب تحتاج تدريبًا كما قراءة الفن. ليس كل من يستطيع قراءة: “أكلَ الولدُ التفاحةَ” في كتاب القراءة، يتقن قراءة العمل الأدبي. يبذل الكاتب جهودًا هائلة مقارنة بالمجهود الذي يبذله القارئ لفهم العمل، وليحكم عليه على طريقة الحكم السوفياتي: “لم أقرأ الكتاب، لكنه ضار، تافه”. وللأسف، ليس هناك حركة نقد أدبي عربية يُهتدى بها. هناك نقاد فرادى يُشكرون على جهودهم، هناك إضاءات، ومطالعات، ومراجعات، تلخّص العمل، ولكنها ليست نقدًا. أشكر بالتأكيد من كتب عن رواياتي، بتفهم وحسن نية! أسوأ الأمور أن تُقرأ أعمالك سياسيًا، وأن يُتناول مضمونها بمعزل عن بنيتها الفنية. ما قيمة كتابة تدّعي النقد ولا تنظر كيف بُني العمل، وكيف يجعل قارئه أكثر إحساسًا بالعدالة والإنسانية والجمال، وأكثر استعدادًا لمناصرة المظلومين، وأكثر ترفعًا عن الانتماءات الضيقة، وأشد قدرة على أن يكون إنسانًا وليس ابن عشيرة أو طائفة؟ ما قيمة كتابة (نقدية) لا تكشف شبكة الرموز التي تنتصر للجمال منقذ العالم.
أما صدى القراء الذي أكثر ما يعنيني، فلا يصلني منه شيء، ليس لأن جبال وطني بعيدة ولا يصلني الصدى حين يرتد عن صخورها. الوطن، تراب وصخور وزيتون وطيون، يا منذر، وليس فقط قصائد وروايات! وأيضًا لا يصلني الصدى لأني هجرت وسائط التواصل الاجتماعي منذ سنوات. فلا طاقة لي باحتمال ما فيها من ركام، ولا وقت لغربلة الثمين من الرخيص.
(*) كيف ترى مستقبلك كروائي عربي في المنفى الموسكوفي. هل أنت مجبر أن تحيا حتى آخر رمق في موسكو الجليدية؟
لا مستقبل لكاتب يعيش بعيدًا عن نبض ناسه. بتّ أعاني رهاب قول (شعبي). فـ “بيوم ما فيه ضو، هاجمني أحدهم وأخرسني: نحن لسنا شعبك. انتبه!”. مجبر، نعم، رغم كرهي كلمة (نعم) التي تردد في وطني كشعار. مجبر، طالما مفتاح الوطن بيد أحد، كائنًا من يكون هذا الأحد. ثم، لا تنس أنني أحمل الجنسية الروسية منذ ثلاثين عامًا، وأنا بالمعنى الثقافي روسيّ، بالتأكيد أقلّ مما أنا سوري، وهذا يسعدني، بوصف الثقافة نمط حياة. باق، طالما هم باقون. واضح من أعني بالواو والنون؟ الذين يجعلون الناس يرحلون ويغيبون. من يقرأ (قمصان زكريا) يعرف كيف يغيبون.