عن سيرورة تشكيل أسطورة الغرب/ عمر كوش
7 مارس 2024
انتشرت في الأوساط الثقافية والفكرية الأوروبية سرديات عديدة حول نشأة الغرب، وتكوينه، وقيمه، ومبادئه، وأسلوب حياته، وذهب بعضها إلى أسطرته والحديث عن أفضلياته ومعجزاته، وصدرت في معظمها عن تمظهرات تمركز غربي على الذات، تجسدت في صور عديدة، انطلقت أساسًا من رؤية للعالم مركزها الرجل الغربي، الأبيض، المتحضر، صاحب الرؤية العالمية، الصالحة لكل زمان ومكان. ويأتي كتاب “ما الغرب؟” للفرنسي فيليب نيمو (الصادر حديثًا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وترجمة مراد دياني)، كي يقدم بدوره سردية عن الجذور التاريخية والدينية والفكرية المشكلة للغرب، حيث تبدو سرديته جديدة في الشكل والإخراج، لكنها قديمة في المضمون والأفكار، هدفها اجتراح تصور لمفهوم شامل للغرب، ولجماعته الأهلية، التي تفترض أنها مهددة في وجودها! وباتت في حاجة إلى أمثال نيمو، كي يسرد تاريخ تطور الغرب، ويقدم من خلالها تعريفًا له، استعدادًا للدفاع عن وجوده المهدد!
يقرر نيمو أن الغرب هو كيان حضاري أو ثقافي موحد، حيث لا داعي للتمييز بين المفهومين، وأن عوامل الوحدة بين مكوناته أعمق من الانقسامات الجيوسياسية، وذلك على الرغم من أنه يراه موزعًا على امتداد جغرافيا مترامية الأطراف والجهات، تمتد من أميركا الشمالية لتصل أوروبا الغربية بشكل أساسي، ويضيف إليها أستراليا ونيوزيلاندا والأقاليم والمستعمرات البريطانية والفرنسية والجزر البرتغالية والإسبانية وسواها. ثم يُجري ربطًا قسريًا بين الأحداث السياسية، والأطروحات الفلسفية، والاكتشافات الجغرافية، والحركات الدينية، والابتكارات العلمية والتكنولوجية، بغية إظهار جملة العوامل التي أثرت في الثقافة الغربية وشكلتها على مرّ التاريخ، لذلك يعود إلى المساهمات الأساسية للعلوم والفلسفة اليونانية، والقانون الروماني، والفكر المسيحي، والثورات الديمقراطية الحديثة، كي يستعرض سبل توثيق التعاون الجيوسياسي بين المجتمعات الغربية.
يريد نيمو السير على خطوات أو دروب كل من فيخته، الذي كتب رسالة إلى الأمة الألمانية في عام 1808، وجوليان بندا الذي وجه في عام 1933 رسالة إلى “الأمة الأوروبية”، لذلك اعتبر أن الواجب يحتم عليه توجيه “رسالة إلى الأمة الغربية”، بالنظر إلى تماثل الأوضاع والظروف التي دعت فيخته إلى توجيه رسالته إلى أمته الألمانية، عندما كان نابليون يهدد ألمانيا في وجودها، وظروف أوروبا عندما وجه بندا رسالته حين باتت “الحرب الأهلية الأوروبية”، التي اندلعت عام 1914، تهدد وجود أمته الأوروبية، وبالتالي من واجب نيمو توجيه رسالة مماثلة إلى ما يعتبره أمّته الغربية، التي بات وجودها مهددًا أيضًا بالأزمات الجيوسياسية مع بداية القرن الحادي والعشرين، ويحددها في التوسع الأوروبي في الشرق والجنوب، والإرهاب وانشار أسلحة الدمار الشامل والعولمة الاقتصادية، إضافة إلى موجات الهجرة التي وصلت عتبة حرجة، وأصبح معها الإدماج الثقافي للمهاجرين إشكاليًا، وينذر بمجتمعات متعددة ثقافيًا، وبالتالي تدفع كل هذه الأزمات والمشاكل إلى تبيان حقيقة الغرب كي يستعد للمواجهة.
واضح تمامًا النفس اليميني، المتمركز على ذات غربية متخيلة، والمتوجس أو الكاره للآخر في أطروحات نيمو، والذي يضع صاحبه نفسه في خانة الباحث عن أمة غربية خالصة ومميزة، لذلك يحاول اصطناع مسار تاريخي متواصل لها، يضرب في العمق التاريخي الإغريقي وصولًا إلى الغرب الأوروبي والأطلسي، حيث يرى أن التشكل الحيوي للغرب مرّ بمراحل خمس، يبدأ أولها من “المعجزة الإغريقية”، التي تمثلت في ابتداع الإغريق المدينة، والحرية في ظل القانون، إضافة إلى العلم والمدرسة. وشكل ذلك حدثًا تاريخيًا ولدت منه فكرة المجتمع الحر الذي يحكمه القانون والعقل والتعليم. ثم تجسدت المرحلة الثانية في القانون في العالم الروماني، عندما شكّل مجموعة مجردة من القواعد المعنية بضمان الملكية الخاصة لأفراد المجتمع. وصار الأفراد الخاضعون للقانون أكثر من مجرد أعضاء في مجموعة قَبَلية، لأنهم أصبحوا أفرادًا، وفاعلين أخلاقيين مستقلين، وبالتالي، تشكلت الذات الفردية غير القابلة للاختزال، وبوصفها منبع الذات الغربية اللاحقة. أما المرحلة الثالثة فيجدها نيمو في الأخلاقية الأخروية في اليهودية والمسيحية التي دشنت علاقة جديدة مع الزمن، وقدمت أخلاقيات الرحمة، لكنه يحصر المسيحية الغربية في الكاثوليكية، مُخرِجًا كافة الدول ومجتمعات الدول الأرثوذكسية (روسيا والبلقان) من مسيحيته الغربية، لأنها لم “تشهد الثورة البابوية” التي يعدها المرحلة الرابعة في تشكيل الغرب، وتأسست على يد البابا غريغوريوس السابع، في أواخر القرن الحادي عشر، وأعادت بموجبها المستوى الروحي إلى مكانته الأولى، قبل المستوى الزمني، وحرّمت كل صور الفساد التي استشرت في حينه. أما المرحلة الأخيرة فهي تعزيز الديمقراطية الليبرالية، التي وجدت صورتها في الديمقراطيات التمثيلية والليبرالية الاقتصادية، حيث يجنح نيمو نحو اعتبار أن “التفكير في الآليات الأساسية لاقتصاد السوق بدأ في الغرب منذ الثورة البابوية”، كي يدعي أن “اقتصاد السوق أخلاقي”.
لا تصمد سردية نيمو عن الغرب ومعجزاته الخمس أمام تاريخ الحضارات، كونها تعتمد على المتخيل، والمبالغة، والتغول في إنكار المسار الحضاري الذي عرفته بلاد ما بين النهرين، خاصة السومريين والبابليين، إضافة إلى الحضارة المصرية وحضارات شعوب الشرق الأقصى، التي سبقت الإغريق في تطورها وفي كشوفاتها العلمية، ولم تكن المدينة من إبداع الإغريق وحدهم، دون إنكار دورهم فيها وفي وضعهم الأسس الأولى لقيام الفلسفات والعلوم العلمية والنظرية. كما أن الإسهام الروماني وسواه كان كونيًا وليس غربيًا خالصًا كما يدعي نيمو، فضلًا عن أن الديانتين، اليهودية والمسيحية، لا تستويان في إرساء “أخلاقية الحب أو الرحمة اليهودية المسيحية التي منحتنا أول حركة تأرجح لدينامية التقدم التاريخي”، لأن اليهودية يتسم خطابها بالدعوة إلى العنف والعداء السافر تجاه الآخرين، حيث تحث التوراة على القتل في مواضع كثيرة فيها، بعكس روح التسامح المسيحية التي حملها الإنجيل. ولعل الرحمة اليهودية المسيحية التي يتحدث عنها نيمو لم تمنع الاستعمار وجرائمه التي ارتكبها بحق شعوب كثيرة، وبينها جرائم إبادة جماعية وتطهير عرقي، فهل ارتكبت دول الاستعمار الأوروبي، التي يعتبرها جزءًا أساسيًا من الغرب، تلك الجرائم من أجل تبشير الشعوب التي استعمرتها بالقيم الروحانية؟ فضلًا عن الحروب الصليبية التي شنّت باسم المسيحية. والأنكى من ذلك يتهرب نيمو من اعتبار الفاشية والنازية كظاهرتين ميزتا تاريخ الغرب في القرن العشرين، ويعتبرهما حالتين عرضيتين، في حين أن ممارساتهما أودت بحياة ملايين البشر. ولم تكن النازية حالة عرضية في الفكر الغربي المتمركز على الذات، إذ وصل هتلر كتتويج لهذا الفكر، ولم يأت بانقلاب عسكري، إنما عبر الانتخابات، كما أن دول الغرب الإمبريالي أدخلت العالم في أتون حربين عالميتين، أزهقت أرواح عشرات الملايين من البشر، فضلًا عن أن الولايات المتحدة التي تعتبر زعيمة دول الغرب الذي يتحدث عنه ألقت قنبلتين ذريتين على السكان المدنيين في هيروشيما وناغازاكي (اليابان)، وقامت فيها محاكم التفتيش بملاحقة الآلاف في معتقداتهم السياسية، والقائمة تطول لجرائم ارتكبت، وخيضت تحت يافطات عديدة، وادعت الدفاع عن قيم الغرب. أما عندما يأتي نيمو على ذكر الإسلام فيرى أنه عرف بعض “الأشكال السياسية للعَلمانية والديمقراطية” في العقود الأخيرة “بسبب هيمنة الغرب”، لكنه يرى بوجود قطيعة “حقيقية بين الثقافة الإسلامية والثقافة الغربية”، وذلك كي يعتبر أن “الهجرة الجماعية للجاليات المسلمة غير المتكيّفة في البلدان الغربية”، باتت تطرح “مشكلة بليغة”. ثم يتحدث نيمو بشكل مغمغم عن عدم استطاعة “أي مجتمع بشري الاستغناء عن ممارسته، إلا إذا قَبِل وضعية من الدونية البنيوية الدائمة مقارنة بالمجتمعات التي اعتمدته”، ولا يرى في ذلك أي مركزية إثنية بفضل عملية التشكل الحيوي الثقافي.
الغرب في سردية نيمو كيان متخيل، وليس كيانًا موحدًا، ولم يكن كذلك في أي وقت كذلك، والأمر نفسه ينسحب على الشرق، خاصة وأن القيم الإنسانية يتقاسمها الجميع، وأسهمت فيها كل ثقافات وحضارات العالم، وبالتالي فإن القيم الحديثة كونية الطابع، وقد أسهم الفكر الأوروبي بأفكار الثورة الفرنسية، والديمقراطية، والحرية الفردية، وسواها. وهي تعود على الإنسان في كل مكان، ولا تنحصر في بيئة جغرافية معينة. كما أن التاريخ لا يسير دومًا إلى الأمام وفق خط مستقيم، ذلك أن التطور التاريخي ليس تسلسلًا خطيًّا باتجاه وحيد لا يتغير، وكذلك فإن الليبرالية لها أوجه عديدة، على المستوى الفكري والاقتصادي والاجتماعي والسياسي وغيره، وتتجسد في مرحلتها الراهنة في صور متوحشة، تقدس الكسب السريع والمضاربة والأموال الساخنة، فلم تعد تجسد على المستوى الاقتصادي مبدأ السوق كما تجلى في القرنين التاسع عشر والعشرين، فقد اختلفت صورها في الألفية الثالثة، ولم تعد تعبر عن شكل التنسيق الاقتصادي الأرقى في التاريخ، بالنظر إلى تواتر الأزمات المالية والاقتصادية التي تسببها للعالم، وباتت تعمل على تركيز الأموال بأيدي قلة قليلة، أضحت تشكل عصابة من الأباطرة المتوحشين، الذين يسعون إلى نهب الجميع وإفقار كل فئات البشر.
عنوان الكتاب: ما الغرب؟ المؤلف: فيليب نيمو المترجم: مراد دياني
ضفة ثالثة