من “الخاطبة” إلى الذكاء الاصطناعي والزواج “كامل الأوصاف”/ سوسن جميل حسن
1 مارس 2024
استخدم “تشادان” برنامج الذكاء الاصطناعي ChatGpt للتحدث إلى 5000 امرأة على تطبيق Tinder، والتقى أخيرًا بالزوجة “التفصيل” “كارينا”.
لم أكن أهتم بينما أتصفح فيسبوك بالإعلان الذي يظهر أمامي ويخاطبني باسمي: سوسن، هل ترغبين في تجربة المواعدة والبحث عن أشخاص يشبهونك؟ فأتجاوز الإعلان وأتابع تفقد أحوال معشر فيسبوك. عرفت لاحقًا أنه تطبيق أطلق في عام 2012 بنسخته الأولى فحقق بعد عامين فقط مليار “سحبة” في اليوم الواحد، والسحبة هي تحريك الصورة إلى اليمين لوضع الإعجاب على صورة المشترك، وإلى اليسار لتجاوزها إلى صورة مشترك آخر، هكذا وبكل بساطة. وكان قد حصل في عام 2013 على جائزة، وتربع على قمة أفضل 25 تطبيقًا اجتماعيًا لناحية عدد المستخدمين… فكم يحتاج البشر إلى التعارف بعضهم إلى بعض بعد هذه السنوات العجاف من الاغتراب عن حياة باتت، على رحابة العالم، أضيق من قبر؟
بالعودة إلى “ألكسندر تشادان” وزواجه الميمون بـ”كارينا فيالشاكاييفا”، فإن الحكاية بدأت منذ عام 2021، بعد خروجه من علاقة قديمة بدأ تشادان يبحث في تطبيق تيندر، بنسخته الأولى، عن صديقة في موسكو، وراح ينفق الساعات في السحب إلى اليمين لوضع الـ “لايكات”، وإرسال الرسائل، ومن ثم ضرب المواعيد التي لم توصله إلى أي مكان، ومرة جعل البرنامج إحدى النساء تذهب إلى النزهة في غابة كبيرة ولم يكن أحد ينتظرها، وأخرى أرسل تشادان إلى موعد كان التطبيق قد وعد المرأة التي ستذهب هي الأخرى بأن تشادان سيحضر لها في الموعد الزهور والشوكولا، لكن تشادان ذهب خالي اليدين، وهكذا كانت أخطاء التطبيق بنسخته الثانية “محبطة”. قرر التطبيق اعتماد برنامج GPT2 ليكون مساعدًا له في المواعدة الخاصة. تحدث هذا البرنامج إلى 5239 امرأة على تيندر، وحدد له مواعيد مع أكثر من 100 امرأة، ليصل في النهاية إلى واحدة أصبحت زوجته. بدا البرنامج مثله، وفهم اهتماماته، وكان في إمكانه جدولة مواعيد شخصية من خلال تقويم غوغل الخاص به. عمل تشادان على تدريب برنامجه على إرسال الإعجابات إلى النساء اللاتي يتوافقن مع تفضيلاته، فقام مثلًا بتصفية الملفات الشخصية التي تحتوي على الكحول وعلامات الأبراج في السير الذاتية لصاحباتها، وغير ذلك مما لا تهوى نفس تشادان. وهذا كله مرتبط بما ننثر فوق صفحات حساباتنا في المواقع الاجتماعية من معلومات عنا، قصدنا أم لم نقصد، سعداء بهذا العالم الافتراضي، ومساحة الحرية الممنوحة لنا فتجعلنا منفلتين من أنفسنا بلا حدود، وأسرى خوارزمياته التي لا نعرف عنها شيئًا في الوقت نفسه، ليقوم التطبيق بتجميع قاعدة البيانات هذه عنا، فكم نحن مكشوفون!
قام تشادان بتحديث برنامجه للمرة الأخيرة ليصبح معلم المواعدة الشخصي الخاص به، ثم مع مرور الوقت بدأ ينسحب بالتدريج مع المرأة، ليفسح المجال أمام تشادان ليكون الشخص الرئيسي الذي يتحدث، وذلك بعد أن فهم كل تفضيلات تشادان وأوجه قصوره في المواعدة، مما ساعده في أن يكون شريكًا أفضل. يقول تشادان: في مرحلة ما كتب لي البرنامج توصية بأنه ربما حان الوقت لعرض الأمر على كارينا، يعني التقدم إليها من أجل الزواج. وقالت كارينا إنها كانت تتحدث إلى برنامج الذكاء الصناعي هذا خلال الأشهر القليلة من العلاقة.
وبعد مواعيد شخصية متعددة معها، أوقف تشادان البرنامج، وتوقف عن التحدث مع النساء. بدأت العلاقة خارج الإنترنت، وانتقل الزوجان ليعيشا معًا بعد فترة وجيزة (عام 2023)، وهما اليوم زوجان يعيشان في بيت واحد.
الخاطبة
لدى كل شعوب الأرض تقاليد في الخطبة والزواج، وفي بلداننا العربية أيضًا، وكانت هناك مهنة اجتماعية لها مكانتها الحيوية في النسيج الاجتماعي هي “الخاطبة”، بل تسمى في بعض المناطق السورية “الخطّابة”، كصيغة مبالغة تزيد من أهميتها. كان هذا حتى بضعة عقود خلت، وربما ما زالت موجودة في بعض المناطق، أو الأحياء القديمة من المدن السورية.
هذه المهنة موجودة في المدن، وليست شائعة كثيرًا في الأرياف، كون الحياة الريفية تختلف عن حياة المدن لناحية العلاقات والاختلاط الذي يفرضه العمل في الأرض والزراعة وجني المحاصيل. أما في المدن، فالنظام الاجتماعي والأعراف كانت لا ترحب بالاختلاط، وكانت الفتيات محجوبات عن الشباب، عدا نمط اللباس الذي كان سائدًا ويفرض على المرأة تغطية وجهها بملاءة سميكة، وارتداء الثياب الفضفاضة الطويلة، مما يجعل المرأة بالكامل كيانًا “مستورًا” وغير مرئي. لذلك كان لا بد من وجود الخاطبة التي تعرف كل البيوت، وكل بيت كم صبية مرشحة للزواج فيه، وإذا فاتها أحد البيوت فتذهب وتستقصي عنه وتدخله بصفتها هذه، من دون حرج، أو مواربة، فمهنتها “شرعية” بحسب العرف الاجتماعي، ولها أجر مقابل ما تقوم به.
تذهب الخاطبة إلى البيت المقصود، وتقوم بأساليبها وفنونها في التواصل بجمع “قاعدة بيانات” عن الفتاة تأخذها إلى بيت الشاب، تصف لهم جمالها ورقتها وأنوثتها ومهاراتها المتنوعة في الحياة المنزلية، وتكون قد كونت صورة متكاملة عن بيت الفتاة، عائلتها، أحوال العائلة… إلخ، زيادة عما كانت تعرفه مسبقًا، ثم تنقل ما جمعت إلى بيت الشاب، فترتسم صورة الفتاة الحلم وفق عيني الخاطبة. وفي كثير من الأحيان كانت “الداية” هي من يقوم بهذا الدور، والداية هي مهنة اجتماعية أيضًا يمكن عدّها الصورة الأولى للقابلة القانونية التي تقوم بتوليد النساء.
لم تعد هذه المهنة موجودة إلّا في نطاق ضيق، تطورت الحياة والمجتمعات، ودخلت المرأة سوق العمل وصارت حاضرة في ميادين متنوعة، لكن يمكن القول إن حزمة لا بأس بها من تقاليد الخطبة والتعارف بين الخطيبين ما زالت موجودة، إما بالاستدلال، أو عن طريق الأقارب والمعارف.
من المجلات إلى شبكة الإنترنت ومواقع التواصل في صيغها الأولى
في فترة من الفترات اتخذت دور وسيط في هذا المجال المجلات، فقد كان بعض منها يخصص صفحات للتعارف وتبادل المراسلات بين القراء، وصارت المجلة تلعب دور الخاطبة، أذكر أن إحدى مدرساتي في بداية المرحلة الثانوية، في منتصف سبعينيات القرن الماضي، تزوجت بهذه الطريقة وسافرت إلى دولة أوروبية، كانت مدرّسة ماهرة وفي غاية الرقة والإنسانية، وكانت تهتم بشكل خاص بالطالبات الضعيفات في مادتها، وكنا نحبها، لم تكن جميلة كأنثى، لكنها في غاية الرقة واللطافة، اختفت فجأة، وتركت فراغًا وحزنًا عليها، لنعرف بعد أيام قليلة أنها غادرت إلى حيث ينتظرها الزوج السعيد الذي تعرفت إليه عن طريق إحدى المجلات، في إحدى الدول الأوروبية.
تغيرت الأمور بسرعة كبيرة بعد أن صارت شبكة الإنترنت متاحة وأخذت خدماتها وتطبيقاتها تتزايد وتتنوع بسرعة لافتة، ودائمًا ما كان التعارف بين الجنسين حاضرًا ليكون من أول أهداف المنصات والتطبيقات المبتكرة، وكثيرًا ما تمت حالات خطبة وزواج من خلالها، إلى أن صرنا اليوم في عالم يصنعه لنا الذكاء الاصطناعي الذي ابتكرته مخيلة البشر وجنوحهم الدائم نحو الاستكشاف والاكتشاف، وتغيير الشرط الإنساني للبشرية.
تغيرت مفاهيم كثيرة عن الكون والإنسان في القرنين الماضيين، وازدادت وتيرة التغيير مع التقدم العلمي والتكنولوجي، إلى أن وصلنا اليوم إلى مرحلة الذكاء الصناعي المندفع في اتجاهنا بسرعة مخيفة، لا نملك معها وقتًا للتفكير وتأمل واقعنا والتخطيط لمستقبلنا، ونحن ما زلنا نحبو في اتجاه عالم يتحكم فيه ويصنع واقعه ذكاء اصطناعي قوي وعام، ما زلنا في كوكب الذكاء الاصطناعي الضعيف والمحدود.
إن معظم أهداف ما بعد الإنسانية تحت تأثير علم الذكاء الاصطناعي وإلهامه، فهذا كله من صنيعة العقل وخياله الابتكاري قبل كل شيء، العقل الذي يعيد تشكيل العواطف والمشاعر والأهواء.
كيف ستكون العلاقة بين تشادان هذا وكارينا تلك؟ أي شغف سيكون بينهما بعد أن قام برنامج الذكاء الصناعي بتعرية كل منهما أمام الآخر، تعريته شكلًا ومضمونًا، فلم يعد بينهما ما يشبع فضول الاكتشاف وحلاوة الغموض؟
في عالمنا اليوم، ونحن نجتاز عتبة الدخول إلى ما بعد الإنسانية، كيف ستكون عواطفنا ومشاعرنا؟ عالم باتت له مفرداته وأدواته الخاصة التي تحيلنا إلى كائنات “سبرانية”، لها عقول لا تهدأ، عقول جامحة نحو مستقبل لم تعد قادرة على ابتكاره بخيال حرّ، بل تفبركه خوارزميات لا تكف عن التشكل في علاقات تعيد صياغة عالمنا الذي نعرف، فتدفعنا إلى مزيد من الاغتراب، بعد أن أوشكنا على أن تكون عقولنا عبارة عن جهاز معالج للبيانات، تشغّله الحوسبة.
بين “جالاتيا” بجماليون الشاعر “أوفيد” وكارينا التي انتقاها برنامج تشات جي بي تي، مساحة مليئة بالفقدان، من دون أن يدري الإنسان حجم خساراته. لقد وضع بجماليون من روحه أبهى ما فيها وهو يصنع تمثاله، خياله، إحساسه بالجمال، توقه المكنون إلى الحب، فنه، مهارته، هل كان فعلًا يطلب الكمال في عالم “ناقص” كما رآه وكوّن فكرة بغيضة عن المرأة جعلته يمقت النساء؟ أم إنه كان يمنح الحياة معنى وهو يشكّل نموذجًا يجسّد أحلامه وتوقه وشغفه بالجمال كقيمة عليا للحياة؟
بين “الخاطبة” والذكاء الاصطناعي بئر ترمى فيه مكونات من النفس البشرية، تلك التي وقفت منذ وعى الإنسان نفسه إلى اليوم خلف إبداعاته في الفنون كلها، الخيال والشغف. فأي شعر سيكون في هذا العالم الرقمي؟ كيف سيتغزل شاب بفتاة كان دليله إليها برنامج رقمي؟ بينما فيما مضى كانت رنة خلخال فتاة عابرة لا يظهر منها أكثر من عينيها وكعبيها تلهب خيال شاب وتضرم مشاعره وتوقظ ملكاته في الشعر أو الموسيقى أو الرسم أو النحت أو الغناء. كيف كانت النساء في مواسم الحج أو العمرة يلهبن خيال شاعر مثل عمر بن أبي ربيعة، وهن بلباس الإحرام، فكتب روائع شعر الغزل؟
إذا كان “ما بعد الإنسانية” يمثل مشروعًا علميًّا جديدًا، يسعى لتطوير مجال قدرات الإنسان البيولوجية والعقلية والنفسية وتوسيعها بالاستعانة بتقنيات حديثة والإفادة من كل العلوم البيولوجية والرقمية والذكاء الاصطناعي، فماذا عن مشاعرنا وعواطفنا؟ ماذا عن الحب بكل أشكاله؟ ماذا عن الشعر والموسيقى والفنون كلها التي كان الحب شاغلها الأكبر منذ اكتشفها الإنسان مواهب وحاجات روحية وعبّر بواسطتها عن كل ما يختلج في نفسه البلا حدود؟
وهل نملك، أخيرًا، وسيلة دفاعية نقف بواسطتها في وجه هذا الطوفان المندفع بهذه الغزارة الجبارة فلا يمهلنا حتى نعود إلى ذواتنا ونستكشف بواطنها وماذا حلّ بها ونحن ننجرف مع تيارات العالم الجديد، العالم الافتراضي الذي بات واقعنا الحتمي؟ أم إن إطلاق الأحكام لا يجدي نفعًا الآن، بل علينا التريث حتى نعيش التجربة وفق ما صنعناه فإذا به يصنعنا؟ إننا في عرف دعاة ما بعد الإنسانية “رجعيون”، لأن من ينتقد مثالهم الأعلى للإنسان الخارق هو بمثابة المحافظ البيولوجي، أي شخص رجعي يرفض تغيير قوانين الحياة والطبيعة، في الوقت الذي تسمح فيه (أو سوف تسمح) التكنولوجيا بذلك.
وهل سيبقى الحب حبًّا؟ أم إن الأشياء وكل ما ينتمي إلى عالم الأمس ستموت معه أسماءُه لتولد أسماء جديدة، فلا يعود الحب حبًّا، ولا الزواج زواجًا ولا الأسرة أسرة، وتهيم الخاطبة على وجهها في عالم لم يعد لديها فيه “خبزة”؟
ضفة ثالثة