“والله بنيّة”… عن إثبات العذريّة أمام الجموع في الرقّة/ مناهل السهوي
04.03.2024
لم تكن فتاة واحدة بل اثنتين، أختين، لا معلومات عن سبب ضربهن بوحشية سوى كلمتين مقتضبتين “بداعي الشرف”، وهما كلمتان كافيتان لكل من أراد المشاركة في مهرجان الضرب، فأن يسأل أحدهم: لماذا تضربونهن؟ يكفي أن ترد الجموع: “بداعي الشرف” ليمدّ يده بعدها.
صرخت الفتاة “والله بنية” بينما يحيط بها جمع يريد غسل العار. اعتقدتْ فتاة الرقة أنها بتأكيد عذريتها ستنجو من وحشية الحشود، ولا نتكلم هنا عن عائلة أو أخ، بل عن رجال لا صلة تجمعهم بالفتاة لكنهم يمارسون “الحد” و”الرجم” بحقها، إنها الصورة الأبلغ لنظام الذكورة والقبيلة في العصر الحديث.
كسوريين وسوريات، نتذكر عشرات حوادث قتل النساء وتعنيفهن، يعرف كل واحد منا حادثتين على الأقل. أتذكر في مراهقتي، حادثة تحطيم رأس فتاة في ساحة عامة في مدينتي، وحادثة أخرى لقتل امرأة حامل هي وجنينها في القرية المجاورة، وثالثة لتعنيف أحد أقاربنا زوجته بشكل صارخ، إذاً هذه الحادثة ليست جديدة إنما هي مجرد حلقة جديدة.
في فيديو فتاة الرقة، شاهدنا فتاة تُمرّغ بالوحل وتُضرب بوحشية، وينضم غرباء وأطفال لضربها بالعصي، في بلدة تل السمن في مدينة الرقة شمال شرقي سوريا.
“والله بنية”، “ما لمسني حدا”، “بعدني بنت”، جميعها مفردات سورية تشير إلى حفاظ الفتاة على “شرفها” و”عذريتها”. تختلف اللهجات بين الرقة والساحل ودمشق والسويداء، لكن الجوهر واحد والتهمة واحدة، وإن أثبتت الفتاة “طهارتها” سُمحَ لها بالحياة، وفي أحيانٍ أخرى تُقتل الفتاة حتى لو ثبتت “براءتها المجتمعية”.
كرجل لا تحتاج الى الكثير لتمارس سلطة على أي فتاة من حولك، يكفي أن تكون رجلاً حتى تمتلك الحق في أشياء كثيرة، ابتداءً من التحرش وصولاً إلى القتل والضرب، وحتى دعوة الأطفال الذكور للمشاركة في مهرجان الوحشية، وما الرادع، القانون؟ ما هو شكل القانون في بلد مثل سوريا، لا يزال الناس يحاولون فيه الحصول على الحد الأدنى من الحياة، بلد مقسّم والقانون فيه هو عشرات القوانين التي لا تفكر بالنساء غالباً.
الفيديو الذي انتشر مثل النار بالهشيم هو عينة من حوادث مشابهة، لم تمتلك فتياتها ونساؤها فرصة أن يشاهدهن العالم وهن يُضربن، ويتحولن إلى مادة إعلامية من جهة وإلى موضوع يمارس من خلاله بعض الرجال مفهوهم عن السلطة من جهة أخرى. للمفارقة، هم يمارسون هذه السلطة في بلد محكوم بسلطة ديكتاتورية تشبه إلى حد كبير سلطة الرجال في الفيديو.
لم تكن فتاة واحدة بل اثنتين، أختين، لا معلومات عن سبب ضربهن بوحشية سوى كلمتين مقتضبتين “بداعي الشرف”، وهما كلمتان كافيتان لكل من أراد المشاركة في مهرجان الضرب، فأن يسأل أحدهم: لماذا تضربونهن؟ يكفي أن ترد الجموع: “بداعي الشرف” ليمدّ يده بعدها.
أكثر ما يثير الانتباه في المشهد الوحشي، هو مشاركة الأطفال بضرب الفتاة، أطفال لم يتجاوزوا الـ 12 عاماً يحملون عصا ويضربون بكل قوتهم كأن لهم ثأراً مع كل نساء العالم، هكذا يَشبّ بعض الأطفال على الثأر من النساء لأنهن نساء فقط، وهكذا سنستمر في الدوران داخل دائرة مفرغة من العنف والذكورية.
أثناء عملية التعذيب، كان الرجال يشجعون بعضهم على مزيد من الضرب الوحشي، فسمعنا عبارة “أضربْ حيل”، يعني أضرب بقوة، فلا يكفي أي شكل من أشكال الضرب بل القوي الشديد منه الذي قد يودي بحياة الفتاة، وهو مسموح، لأن الرجل الآخر قال “اضرب حيل”، ولأن الضرب هو “بداعي الشرف”.
تزامنت الحادثة مع موت الناشطة النسوية هبة حاج عارف في إدلب، والتي وُجدت مشنوقة في منزلها. هبة عضوة في المجلس المحلي لبلدة بزاعة سابقاً، لكنّ أصواتاً قالت إن هبة قُتلت ولم تنتحر، إذ سبقت الحادثة تهديدات بالقتل لهبة على خلفية عملها السياسي والنسوي، حتى تترك منصبها في المجلس المحلّي للبلدة.
بين هبة وفتاة الرقة لا فارق كبير، إذ يجمع تهمتَي العمل السياسي و”الشرف” رابطٌ قوي وقديم، فالانخراط في مجالات تُعتبر حكراً على الرجال يشكّل خروجاً عن العرف والمعتاد، وكأن النساء السياسيات يكسرن مفهوم “الشرف” بطريقة ما، “الشرف” الذي يعني هنا التعدي على ما وضعه الرجال من حدود حول النساء عبر التاريخ، منذ كان يتم وأد البنات حتى رجمهنّ وقتلهنّ وضربهنّ بالعصي أمام الكاميرات.
لفتتني بعض الأصوات التي قالت: “هذه هي مناطقكم المحررة؟”، بمعنى أن المناطق الواقعة تحت سيطرة المعارضة السورية محرّرة ويجب ألّا تموت النساء فيها. وفي هذا قراءة ضيّقة للواقع السياسي، وكأن الثورة أحدثت تحسينات في واقع السوريات، فجميعنا يعلم أن ذلك غير صحيح وما زال الخناق ضيقاً على رقابنا. الفارق، أنه أضيق في بعض الأماكن من غيرها، وأن ضرب فتاة أمام العامة مسموح في منطقة وفي منطقة أخرى ممنوع، إذ تُضرب النساء داخل المنازل وبصمت، بطريقة شبيهة بما رأيناه في الفيديو.
من المفارقات في حادثة تل السمن، هي أن هناك مخيماً قريباً يحمل الاسم ذاته، ويقطنه حوالى 6630 نازحاً، ويوجد في مدينة الرقة ككل أكثر من 103 آلاف نازح موزعين على ثلاثة مخيمات تعاني من شح المساعدات. وعلى رغم هذه الظروف المأساوية، يبقى “شرف” النساء أولوية تتقدّم على الجوع والتشرد والخوف والقمع، وهي الدائرة المفرغة التي ندور فيها دوماً.
حادثة تل السمن مثال متكامل عن آثار الحروب المباشرة على النساء، فبالإضافة إلى أن غالبية قاطني المخيم هم من العجائز والنساء، تُضرب شقيقتان بشكل وحشيّ بالقرب منه.
اعتقلت لاحقاً قوى الأمن الداخلي “الأسايش” التابعة للإدارة الذاتية، ثلاثة متّهمين بالاعتداء على الشقيقتين، اللتين تم نقلهما إلى دور حماية المرأة التابعة لمنسقية المرأة التابعة للإدارة الذاتية.
تساهم الحروب في تعميق العنف تجاه النساء واتساعه، لكنها ليست السبب الرئيسي، فتعنيف النساء أبعد من السياسة أو الأديان، إذ له جذور عميقة في بداية التاريخ البشري، حين رغب البشر في تنظيم أنفسهم مع صعود عصر الزراعة واندثار العصر الحجري، فأدركوا أن السيطرة على الحياة الجنسية للنساء تعني المزيد من الأطفال، أي المزيد من اليد العاملة، بالإضافة الى مبادلة النساء مع القبائل الأخرى لإحلال السلام. ولاحقاً، ساهمت الأديان والسياسة في تدنّي موقع النساء الى الحدود الدنيا.
لكن الإشكالية تكمن في أن النساء ما زلن يعامَلن كما لو أننا خرجنا من العصر الحجري للتو، على رغم أن الفكر والأدوات لا تشبه العصر الحجري بشيء إلا بأمر واحد، وهي كيفية معاملة النساء.
يحتاج تغيير الواقع الى تغيير البنى الفكرية والثقافية وحتى الرموز في المجتمعات، لكن ذلك ومع صعوبته يغدو شبه مستحيل في بلاد غارقة في الحروب والتقسيمات والانهيار الاقتصادي. والى حين التمكّن من تحسين وضع النساء، سنسمع الكثير من الفتيات يصرخن “والله بنيّة”.
درج