صناديقنا أيضاً “صرلا عمر” يا أصالة!/ باسكال صوما
10.02.2024
مؤلم أن نعتاد مشاهد الرحيل فتُصبح جزءاً طبيعياً من السيناريو، إلى حد فقداننا الشعور بالمبالاة أو الغضب. لقد هاجر كثيرون، ومات كثيرون، وما عدنا نستطيع البكاء أكثر أو الانتفاض مرة أخرى.
“بخزانتي صندوق/ صرلو عمر عندي/ جوّاتو في كمشة صور/ وزرار وحكايات/ لإفتحو من جديد/ بدّي وما بدّي”، يوجعني صوت أصالة الخارج من حنجرة تبدو عليها علامات الحزن، إنه أصوات كثيرين ممن سلبتهم الحروب والظروف الاقتصادية بيوتهم، حياتهم، يومياتهم، وتَركت لهم صناديق يخشون فتحها، مركونة في أدراجهم، منسيّة خوفاً من أن تحرق حرارتها أصابعهم المُبعدة عن أحبائها.
في كل هذا الشتات والتهجير من لبنان إلى سوريا، وصولاً إلى غزة، في كل تفاصيل الموت والأمل والخيبة في رحلات القوارب غير الشرعية، ومحاولات النجاة والبحث عن حياة أخرى، “عالبال يا ضحكة أبي/ ترقصني وتقلّي إلعبي/ عالبال يا أول صبي/ جبلي غزل البنات/ والله يا إمي اشتقت/ تغنّيلا لَتغفى البنت”.
الله يا أصالة ما أكبر هذا الوجع! الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2023، سجّل لبنان هجرة وسفر 23,621 شخصاً، مقابل 7,096 شخصاً في الفترة ذاتها من العام 2022، أي بارتفاع مقداره 16,525 شخصاً، بنسبة 232.8 في المئة. لقد انتظرت دوري لأشهر من أجل الحصول على جواز سفر، إلى هذه الدرجة جميعنا يتحضّر للرحيل.
وهذا الارتفاع الكبير مؤشّر إلى مدى تردّي الأوضاع في لبنان وسعي اللّبنانيّين إلى السفر والهجرة هرباً من هذا الواقع، والمشهد يزداد حزناً في جنوب لبنان، حيث تجاوزت أعداد النازحين الـ100 ألف شخص بسبب صولات الحرب “الصغيرة” المستمرة بين “حزب الله” وإسرائيل.
وفي غزة، يبدو مشهد التهجير أكثر خطورة، بحيث وصلت أعداد النازحين إلى حوالى مليون و200 ألف إنسان، جزء كبير منهم ينتظر أمام معبر رفح النهاية أو الأمل أو الموت. وفي سوريا، التي بدأت فيها الحرب عام 2011، يستمر مشهد اللجوء والتشرّد والشتات، وهي مأساة طاولت ملايين السوريين، وكثر منهم وصلت بهم الحال إلى حد رمي أنفسهم في مراكب الموت في عمق البحر، لعلّ حياةً ما تبدأ من هناك.
هؤلاء كلهم ليسوا أرقاماً، هؤلاء هم بشر لهم ذكريات وصناديق تشبه صندوق أصالة، خبأوا فيها جراحهم وآمالهم ووجوه أهاليهم ومفاتيح بيوتهم لعلهم يعودون إليها ذات مرة. مؤلم أن نعتاد مشاهد الرحيل فتُصبح جزءاً طبيعياً من السيناريو، إلى حد فقداننا الشعور بالمبالاة أو الغضب. لقد هاجر كثيرون، ومات كثيرون، وما عدنا نستطيع البكاء أكثر أو الانتفاض مرة أخرى.
في صالون التجميل صباح اليوم، التقيت سيدة لا أعرفها، فهمت من الحديث الدائر أنها عادت لتوّها من رحلة إلى أوروبا. ظننت أنها كثيرة التفاخر، إلى أن سألتها إحداهنّ عن ابنها الأصغر، غصّ صوتها وخرج ببطء: “رايح عند إخواتو”. فهمنا لاحقاً أن ابنها البكر في لوكسمبورغ، وابنها الثاني يعيش في بلجيكا وابنتها في فرنسا، وهذا الصغير ذاهب إلى ألمانيا ليتابع دروسه. الصغير لن يذهب عند أي من إخوته في الحقيقة، لكنه ذاهب إلى المنفى ذاته والغربة ذاتها التي تعتبرها الأم مكاناً واحداً، غرفة واحدة، تمتدّ إلى بلدان كثيرة. فكّرت بنصف عائلتي التي أصبحت خارج البلاد، كل واحد في وطن آخر، في هموم بعيدة وصناديق مقفلة وحزينة.
كان هذا يوم عطلة أحاول إقناع نفسي به، لكنني عدت بكثير من الحزن والحنين، خرجت أغنية أصالة من راديو السيارة: “يا بيتنا وين ما كنت/ مشتاقة للعتبات”… قتلتني الأغنية وانتهت.
درج